فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد10%

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 568

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 248191 / تحميل: 11106
الحجم الحجم الحجم
فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وأقول :

إن أراد بملاحظة الغاية كونها داعية للفعل ، فهو مذهبنا(١) ، ولا يقوله الأشاعرة.

وإن أراد بها مجرّد إدراك الغاية من دون أن تكون باعثة على الفعل ، فهو مذهب الأشاعرة(٢) ، ويلزمه العبث وسائر المحالات ، ويجوز بمقتضاه أن يعذّب الله سبحانه أعظم المطيعين ، ويثيب أعظم العاصين ؛ لأنّه لا غاية له تبعثه إلى الفعل ، بل يفعل مجّانا بلا غرض ، بل يجوز أن لا تكون أفعاله متقنة ، وإن اتّفق إتقانها في ما وقع ، وأمّا في ما لم يقع بعد ـ كالثواب والعقاب ـ فمن الجائز أن لا يكون متقنا ؛ لفرض عدم الغرض له تعالى ، ولأنّه لا يقبح منه شيء ، ولا يجب عليه شيء!

فما زعمه من عدم تحرير الفريقين لمحلّ النزاع حقيق بالسخرية! أتراه يخفى على جماهير العلماء ويظهر لهذا الخصم وحده؟! وهل يخفى على أحد أنّ النزاع في الغرض والعلّة الغائيّة ، وأنّ الإمامية والمعتزلة لم يروا بالقول بالغرض بأسا ونقصا ، بخلاف الأشاعرة؟! وهذا الخصم ما زال ينسب لقومه القول بالغاية ، فإن أراد بها الغاية الباعثة على الفعل ، فهي خلاف مذهبهم بالضرورة.

__________________

(١) تجريد الاعتقاد : ١٩٨ ، كشف المراد : ٣٣١ ، تلخيص المحصّل : ٣٤٣ ـ ٣٤٤.

(٢) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٥٠ ، المواقف : ٣٣١ ـ ٣٣٢ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٢ ـ ٢٠٦.

٦١

وإن أراد بها الأمر المترتّب اتّفاقا ، كقوله تعالى :( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) (١) ، غاية الأمر : أنّ الله تعالى عالم بهذا الأمر المترتّب ، فهو حقيقة مذهبهم ، وعليه ترد الإشكالات ، ولا ينفع معه التسويلات والتنصّلات.

وأمّا ما ذكره من قولهم بالحكمة والمصلحة ، فهو وإن قالوا به ظاهرا ، لكن لا بنحو اللزوم كقولهم بالإتقان ؛ لأنّ اللزوم لا يجتمع مع نفي الغرض ونفي الحسن والقبح العقليّين ونفي وجوب شيء عليه تعالى.

وأمّا قوله : « ولولاه لم يكن للفاعل المختار أن يفعل ذلك الفعل »

فإن أراد به أنّه لا يفعله لكونه عبثا ، فهو صحيح ، والله سبحانه أحقّ به.

وإن أراد أنّه لا يفعله لعدم قدرته عليه كما زعمه سابقا ، فهو باطل ـ كما عرفت ـ ، ومنه يعلم ما في قوله : « فهذا الفاعل بالاختيار يحتاج في صدور الفعل عنه ».

وقد بيّنّا أنّ هذا الاحتياج لإخراج الفعل عن العبث لا لنقص في القدرة ، فيكون كمالا للفعل ، ودليلا على كمال ذات الفاعل ، لا كاحتياج الذات إلى صفاتها الزائدة الموجب لنقص الذات في نفسها(٢) ؛ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

* * *

__________________

(١) سورة القصص ٢٨ : ٨.

(٢) انظر ج ٢ / ١٦٩ وما بعدها من هذا الكتاب.

٦٢

إنّه تعالى يريد الطاعات ويكره المعاصي

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ(١) :

المطلب الخامس

في أنّه تعالى يريد الطاعات ويكره المعاصي

هذا هو مذهب الإمامية ، قالوا : إنّ الله تعالى أراد الطاعات سواء وقعت أم لا ، ولا يريد المعاصي سواء وقعت أم لا ، [ وكره المعاصي سواء وقعت أم لا ] ، ولم يكره الطاعات سواء وقعت أم لا(٢) .

وخالفت الأشاعرة مقتضى العقل والنقل في ذلك ، فذهبوا إلى أنّ الله تعالى يريد كلّ ما يقع في الوجود ، سواء كان طاعة أم لا ، وسواء أمر به أم نهى عنه(٣) [ وكره كلّ ما لم يقع ، سواء كان طاعة أو لا ، وسواء أمر به أو نهى عنه ] ، فجعلوا كلّ المعاصي الواقعة في الوجود من الشرك والظلم والجور والعدوان وأنواع الشرور مرادة لله تعالى ، وأنّه تعالى راض بها!

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩٤.

(٢) أوائل المقالات : ٥٧ ـ ٥٨ ، شرح جمل العلم والعمل : ٨٧ ، المنقذ من التقليد ١ / ١٧٩ ، تجريد الاعتقاد : ١٩٩.

(٣) الإبانة في أصول الديانة : ١٢٦ ـ ١٢٧ ، تمهيد الأوائل : ٣١٧ ، الاقتصاد في الاعتقاد ـ للغزّالي ـ : ١٠٢ ، الملل والنحل ١ / ٨٣ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٣ ، المواقف : ٣٢٠ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٧٤ ، شرح المواقف ٨ / ١٧٣.

٦٣

وبعضهم قال : إنّه محبّ لها ، وكلّ الطاعات التي لم تصدر عن الكفّار مكروهة لله تعالى غير مريد لها ، وإنّه تعالى أمر بما لا يريد ونهى عمّا لا يكره ، وإنّ الكافر فعل في كفره ما هو مراد لله تعالى وترك ما كره الله تعالى من الإيمان والطاعة منه(١) .

وهذا القول يلزم منه محالات ، منها : نسبة القبيح إلى الله تعالى ؛ لأنّ إرادة القبيح قبيحة ، وقد بيّنّا أنّه تعالى منزّه عن فعل القبائح كلّها(٢) .

* * *

__________________

(١) انظر : الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٣ ـ ٣٤٥ ، شرح المواقف ٨ / ١٧٣ وقال : « منهم ـ أي الأشاعرة ـ من جوّز أن يقال : الله مريد للكفر والفسق والمعصية » وذكر في ص ١٧٤ أنّ خالق الشيء بلا إكراه مريد له بالضرورة ، وفيه أيضا : أنّ عدم إيمان الكافر مراد لله فلاحظ!

(٢) راجع كلام العلّامة الحلّي1 في ج ٢ / ٣٣٤ المبحث الحادي عشر من هذا الكتاب.

٦٤

وقال الفضل (١) :

قد سبق أنّ مذهب الأشاعرة : إنّ الله تعالى مريد لجميع الكائنات غير مريد لما لا يكون ، فكلّ كائن مراد وما ليس بكائن ليس بمراد ، واتّفقوا على جواز إسناد الكلّ إليه تعالى جملة ، واختلفوا في التفصيل كما هو مذكور في موضعه(٢) .

ومذهب المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية : إنّه تعالى مريد لجميع أفعاله ، أمّا أفعال العباد فهو مريد للمأمور به منها كاره للمعاصي والكفر(٣) .

ودليل الأشاعرة : إنّه خالق للأشياء كلّها ، وخالق الشيء بلا إكراه مريد له بالضرورة(٤) .

وأمّا ما استدلّ به هذا الرجل في عدم جواز إرادة الله تعالى للشرك والمعاصي ، فهو من استدلالات المعتزلة.

والجواب : إنّ الشرك مراد لله تعالى ، بمعنى : إنّه أمر قدّره الله تعالى في الأزل للكافر ، لا أنّه رضي به وأمر المشرك به ، وهذا من باب التباس

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٤٨.

(٢) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٣ ، المواقف : ٣٢٠ ، شرح المواقف ٨ / ١٧٣ و ١٧٤.

(٣) تقدّم في الصفحة ٦٣ ه‍ ٢ ، وراجع المصارد التالية التي تذكر آراء المعتزلة : شرح الأصول الخمسة : ٤٥٦ ـ ٤٥٧ ، الملل والنحل ١ / ٣٩ ، شرح المواقف ٨ / ١٧٣.

(٤) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٤٣ ، المواقف : ٣٢٠ ، شرح المواقف ٨ / ١٧٤.

٦٥

الرضا بالإرادة.

وأمّا كون الطاعات التي لم تصدر من الكافر مكروهة لله تعالى

فإن أراد بالكراهة عدم تعلّق الإرادة به ، فصحيح ؛ لأنّه لو أراد لوجد

وإن أراد عدم الرضا به ، فهو باطل ؛ لأنّه لم يحصل في الوجود حتّى يتعلّق به الرضا أو عدمه.

وأمّا أنّه تعالى أمر بما لا يريد ونهى عمّا لا يكره ، فإنّه تعالى أمر الكفّار بالإسلام ولم يرد إسلامهم ، بمعنى عدم تقدير إسلامهم ، وهذا لا يعدّ من السفه ، ولا محذور فيه ، وإنّما يكون سفها لو كان الغرض من الأمر منحصرا في إيقاع المأمور به ، ولكن هذا الانحصار ممنوع ؛ لأنّه ربّما كان لإتمام الحجّة عليهم فلا يعدّ سفها.

وأمّا ما ذكره من لزوم نسبة القبيح إلى الله تعالى ؛ لأنّ إرادة القبيح قبيحة

فجوابه : إنّ الإرادة بمعنى التقدير ، وتقدير خلق القبيح في نظام العالم ليس بقبيح من الفاعل المختار ، إذ لا قبيح بالنسبة إليه.

على أنّ هذا مبنيّ على القبح العقلي وهو غير مسلّم عندنا ، ومع هذا فإنّه مشترك الإلزام ؛ لأنّ خلق الخنزير الذي هو القبيح يكون قبيحا ، والله تعالى خلقه بالاتّفاق منّا ومنكم.

* * *

٦٦

وأقول :

لا يخفى أنّ الأمور الممكنة إنّما يفعلها القادر المختار أو يتركها بإرادة منه ؛ لأنّ الممكن لا يترجّح أحد طرفيه إلّا بمرجّح ، وهو الإرادة ، فيكون العدم على طبع الوجود مقدورا ومستندا إلى الإرادة.

ولذا أسند الله تعالى العدم المسبوق بالوجود إلى إرادته حيث يقول :

( وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ) (١) الآية ، فإنّ إهلاك القرية عبارة عن إماتة أهلها بسبب العذاب ، والموت عدم الحياة.

ولا ريب أنّ الإرادة تتوقّف على أمور :

منها : تصوّر المراد

ومنها : الرضا به ، سواء كان وجودا أو عدما ، وسواء كان حكما أم غيره ، فإنّ من يريد شيئا لا بدّ أن يرضى به بالضرورة.

ومنها : الرضا بمتعلّق المراد على وجه التعيّن له أو الترجيح له أو التساوي كما في متعلّق التكاليف ، فإنّ الحاكم إذا كلّف بنحو الوجوب لا بدّ أن يرضى بوجود الواجب على وجه التعيّن له بحيث يكون كارها لنقيضه ، ومثله الحرمة بالنسبة إلى الرضا بالترك والكراهة لنقيضه.

وإذا كلّف بنحو الندب ، لزم أن يرضى بالوجود على وجه الرجحان ، ومثله الكراهة بالنسبة إلى الرضا بالترك.

وإذا حكم على وجه الإباحة ، لزم أن يرضى بالوجود والعدم بنحو

__________________

(١) سورة الإسراء ١٧ : ١٦.

٦٧

التساوي.

نعم ، إذا كان التكليف امتحانيا لم تتوقّف إرادته إلّا على الرضا بأصل التكليف ، لا بمتعلّقه.

فإذا عرفت هذا فنقول : لمّا كانت أفعال العباد عند الإمامية غير مخلوقة لله تعالى ، لم تكن له إلّا إرادة تشريعية ، أي إرادة للأحكام ، فلم يكن له تعالى رضا بما يريده العباد ويفعلونه من المعاصي ، ولا كراهة لما يتركونه من الطاعات.

بخلافه على مختار الأشاعرة من أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، فإنّه يلزم أن يكون الله سبحانه مريدا للمعاصي الواقعة راضيا بها ، ولعدم الطاعات المتروكة كارها لها ؛ لأنّ فعله للمعاصي يتوقّف على إرادتها المتوقّفة على الرضا بها ، وتركه للطاعات يتوقّف على إرادة الترك المتوقّفة على الرضا به وكراهته الفعل ، كما سبق(١) .

ويلزم أن يكون الله تعالى آمرا بما يريد عدمه ويكرهه ولا يرضى به ، وهو الذي لم يخلقه من الطاعات ، وناهيا عمّا أراده ورضي به ، وهو الذي خلقه من المعاصي ، بل يلزم اجتماع الضدّين : الرضا والكراهة في ما أمر به وتركه ؛ لأنّ أمره دليل الرضا وتركه دليل الكراهة.

وكذا يجتمعان في ما نهى عنه وفعله ؛ لأنّ نهيه مستلزم للكراهة ، وفعله مستلزم للرضا.

وهذا الذي قلناه لا يبتني على أنّ تكون الإرادة بمعنى الرضا كما تخيّله الخصم ، بل هو مبنيّ على توقّف الإرادة على الرضا ـ كما بيّنّاه ـ ،

__________________

(١) راجع ردّ الشيخ المظفّر1 في مبحث « استلزام الأمر للإرادة والنهي للكراهة » في ج ٢ / ٣٧٣ من هذا الكتاب.

٦٨

فلا معنى لقوله : « الشرك مراد لله تعالى ، بمعنى أنّه أمر قدّره الله في الأزل ، لا أنّه رضي به وأمر المشرك به ، وهذا من باب التباس الرضا بالإرادة ».

على أنّ تفسير الإرادة بالتقدير ، خطأ ؛ لأنّ الإرادة صفة ذاتية والتقدير فعل ، ولو سلّم فقد عرفت أنّ التقدير موقوف على الإرادة(١) ، وهي موقوفة على الرضا.

ومن الفضول قوله في ما سمعت : « وأمر المشرك به »

فإنّ المصنّف لم يدّع أنّه يلزم مذهبهم أمر المشرك به حتّى ينفيه ، ولا هو متوهّم من كلام المصنّف.

وأمّا إنكاره لعدم الرضا بترك الطاعات ، بحجّة أنّها لم تحصل في الوجود حتّى يتعلّق بها الرضا أو عدمه ، فخطأ ؛ لأنّ الرضا وعدمه إنّما يتعلّقان بالشيء من حيث هو ، لا بما هو موجود ، كيف؟! وهما سابقان على الإرادة السابقة على الوجود.

وأمّا إنكاره للسفه في الأمر بالإسلام الذي لم يقدّره ، فمكابرة ظاهرة.

وقوله : « إنّما يكون سفها لو كان الغرض من الأمر منحصرا في إيقاع المأمور به »

باطل ؛ لأنّ إتمام الحجّة إنّما يكون على القادر المتمكّن ، لا على العاجز ، فيكون امتحانه سفها آخر ، تعالى الله عنه علوّا كبيرا ، وسيأتي قريبا زيادة إشكال عليه فانتظر.

وأمّا قوله : « وتقدير خلق القبيح في نظام العالم ليس بقبيح »

__________________

(١) راجع ردّ الشيخ المظفّر1 في مبحث « استلزام الأمر للإرادة والنهي للكراهة » في ج ٢ / ٣٧٣ من هذا الكتاب.

٦٩

فمكابرة أخرى كما مرّ(١) ، إذ لا وجه لعدم قبح القبيح منه سبحانه ، وهو أولى من يتنزّه عن فعل القبيح.

وأمّا ما زعمه من الاشتراك في الإلزام ، فقد عرفت جوابه(٢) .

* * *

__________________

(١) راجع ردّ الشيخ المظفّر1 في مبحث « إنّه تعالى لا يفعل القبيح » ، الصفحة ٩ من هذا الجزء.

(٢) راجع الصفحة ٢٥ من هذا الجزء.

٧٠

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ(١) :

ومنها : كون العاصي مطيعا بعصيانه ، حيث أوجد مراد الله تعالى وفعل وفق مراده.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩٥.

٧١

وقال الفضل(١) :

جوابه : إنّ المطيع من أطاع الأمر ، والأمر غير الإرادة ، فالمريد هو المقدّر للأشياء ومرجّح وجوداتها ، فإذا وقع الخلق على وفق إرادته فلا يقال : إنّ الخلق أطاعوه.

نعم ، إذا أمرهم بشيء فأطاعوه يكونون مطيعين.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٥٢.

٧٢

وأقول :

غير خفيّ أنّ الطاعة منوطة بموافقة الإرادة ، والعصيان بمخالفتها ، لا بموافقة لفظ الأمر ومخالفته

ولذا لو علمت إرادة المولى لشيء ولم يأمر به لمانع وجب إتيانه

ولو علم عدم إرادته مع أمره صورة لم يجب فعله

وإنّما قالوا : الطاعة موافقة الأمر ؛ لأنّه دليل الإرادة ولا تعرف بدونه غالبا ، وحينئذ فيلزم ما ذكره المصنّف من كون العاصي مطيعا بعصيانه لموافقته للإرادة التكوينية ، بل هو موافق للأمر التكويني فيكون مطيعا ألبتّة.

قال عزّ من قائل :( فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) (١)

وقال تعالى :( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (٢) .

* * *

__________________

(١) سورة فصّلت ٤١ : ١١.

(٢) سورة يس ٣٦ : ٨٢.

٧٣

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

ومنها : كونه تعالى يأمر بما يكره ؛ لأنّه أمر الكافر بالإيمان وكرهه منه حيث لم يوجد وينهى عمّا يريد ، لأنّه نهاه عن الكفر وأراده منه.

وكلّ من فعل هذا من أشخاص البشر ينسبه كلّ عاقل إلى السفه والحمق ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

فكيف يجوز للعاقل أن ينسب إلى ربّه تعالى ما يتبرّأ هو منه ويتنزّه عنه؟!

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩٥.

٧٤

وقال الفضل(١) :

قد سبق المنع من أنّ الأمر بخلاف ما يريده يعدّ سفها(٢) ، وإنّما يكون كذلك لو كان الغرض من الأمر منحصرا في إيقاع المأمور به ، وليس كذلك ؛ لأنّ الممتحن لعبده هل يطيعه أم لا؟ قد يأمره ولا يريد منه الفعل.

أمّا أنّ الصادر منه أمر حقيقة ؛ فلأنّه إذا أتى العبد بالفعل يقال : امتثل أمر سيّده.

وأمّا أنّه لا يريد الفعل منه ؛ فلأنّه يحصل مقصوده وهو الامتحان ، أطاع أو عصى ، فلا سفه بالأمر بما لا يريده الآمر.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٥٢.

(٢) راجع ردّ الفضل في مبحث « استلزام الأمر للإرادة والنهي للكراهة » في ج ٢ / ٣٧٢ ، وانظر الصفحتين ٦٥ ـ ٦٦ من هذا الجزء.

٧٥

وأقول :

لا يخفى أنّ السفه يحصل بطلب الفعل والأمر به حقيقة مع كراهته في الواقع ، وبالنهي عنه حقيقة مع إرادته واقعا ، كما هو الحاصل في الشرعيّات ، ضرورة مطلوبية مثل الإيمان وعدم الكفر حقيقة.

ولا محلّ لاحتمال أن يكون الطلب لمثل ذلك صوريا لغرض الامتحان أو غيره ، على أنّ الامتحان للعاجز سفه آخر.

ثمّ إنّ كلامه دالّ على ثبوت الغرض لله تعالى ، وهو باطل على قولهم : « إنّ أفعاله تعالى لا تعللّ بالأغراض »(١) !

* * *

__________________

(١) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٥٠ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٩٦ ، المواقف : ٣٣١ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٢.

٧٦

قال المصنّف ـ طيّب الله رمسه ـ(١) :

ومنها : مخالفة النصوص القرآنية الشاهدة بأنّه تعالى يكره المعاصي ويريد الطاعات ، كقوله تعالى :( وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ) (٢)

( كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ) (٣)

( فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ) (٤)

( وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ ) (٥)

إلى غير ذلك من الآيات

فترى لأيّ غرض يخالفون هؤلاء القرآن العزيز وما دلّ العقل عليه؟!

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩٥.

(٢) سورة غافر ٤٠ : ٣١.

(٣) سورة الإسراء ١٧ : ٣٨.

(٤) سورة الزمر ٣٩ : ٧.

(٥) سورة البقرة ٢ : ٢٠٥.

٧٧

وقال الفضل(١) :

قد يستعمل لفظ الإرادة ويراد به الرضا والاستحسان ، ويقابله الكراهة بمعنى السخط وعدم الرضا ، فقوله تعالى :( وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ) (٢) ، أريد من الإرادة الرضا ، فسلب الرضا بالظلم عن ذاته المقدّسة ، وهذا عين المذهب.

وأمّا الإرادة بمعنى التقدير والترجيح ، أو مبدأ الترجيح ، فلا تقابلها الكراهة ، وهو معنى آخر.

وسائر النصوص محمولة على الإرادة بمعنى الرضا.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٥٤.

(٢) سورة غافر ٤٠ : ٣١.

٧٨

وأقول :

لمّا كان من مذهبه : أنّ الله سبحانه هو الخالق للظلم الواقع في الكون ، المريد له(١) ، وكان ذلك خلافا صريحا للآية الأولى ، التجأ إلى حمل الإرادة فيها على الرضا ، وهو لو سلّم لا ينفعه ؛ لتوقّف الإرادة على الرضا ؛ لأنّه من مقدّماتها ، فإذا نفت الآية رضاه تعالى بالظلم ـ كما زعم ـ استلزم نفي إرادته له ، وهو خلاف مذهبه.

وليت شعري إذا لم يرض سبحانه بالظلم والكفر وكان السيّئ عنده مكروها ولا يحبّ الفساد ، فكيف أرادها وخلقها وهو العالم المختار؟!

وإذا كان يرضى الشكر ، فما المانع له عن إرادته وخلقه وهو المتصرّف فيه كما زعموا؟!

وأمّا قوله : « وسائر النصوص محمولة على الإرادة بمعنى الرضا »

فكلام صادر من غير تروّ ، إذ ليس في بقيّة الآيات التي ذكرها المصنّفرحمه‌الله ما يشتمل على لفظ الإرادة ، ولا يعوزه الجواب إذا كان مبنيا على المغالطة.

* * *

__________________

(١) راجع الصفحة ٦٣ من هذا الجزء.

٧٩

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ(١) :

ومنها : مخالفة المحسوس وهو : استناد أفعال العباد إلى تحقّق الداعي وانتفاء الصوارف ؛ لأنّ الطاعات حسنة والمعاصي قبيحة.

وإنّ الحسن جهة دعاء والقبح جهة صرف ، فيثبت لله تعالى في الطاعة دعوى الداعي إليها وانتفاء الصارف عنها.

وفي القبيح ثبوت الصارف وانتفاء الداعي ؛ لأنّه ليس داعي الحاجة لاستغنائه تعالى ، ولا داعي الحكمة لمنافاتها إيّاها ، ولا داعي الجهل لإحاطة علمه به.

فحينئذ يتحقّق ثبوت الداعي إلى الطاعات ، وثبوت الصارف في المعاصي ، فثبت إرادته للأوّل وكراهته للثاني.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٩٦.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

فالذي كان يستند ويعتمد على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يتمسّك به كيف تطيب نفسه أو يرضى ضميره أن يعترف بالقيادة الإسلامية لأفراد ليسوا في تلك المرتبة وتلك الدرجة.

تتعجّب السيدة فاطمةعليها‌السلام ويتعجّب معها عقلاء العالم وأصحاب الضمائر الحيّة والنفوس المعتدلة والقلوب السليمة من تلك الانتخابات المخالفة لجميع المقاييس والنواميس والموازين.

(وبأية عروة تمسّكوا) لقد ثبت عند المسلمين كلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنكم لن تضلوا ما إن تمسّكتم بهما) ومعنى الحديث أنّ الرسول أمر المسلمين أن يتمسّكوا بالقرآن والعترة معاً، ولكن هؤلاء بأيّة عروة تمسّكوا وتعلّقوا واعتصموا.

(وعلى أيّة ذرّيّة أقدموا واحتنكوا؟) أيعلم هؤلاء مَن هي فاطمة الزهراء؟ أيعلم هؤلاء ما منزلة هذه الذرّية الطاهرة الشريفة الذين هم أشرف أُسرة على وجه الأرض؟

أيعلم هؤلاء ما صنعوا اتجاه أهل البيت؟

الذين أمرهم الله بمودّتهم بقوله:( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) .

الذين فرض الله طاعتهم على كل مسلم بقوله:( أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) ؟!

الذين مَثَلهم كمثل سفينة نوح، مَن ركبها نجى، ومَن تخلّف عنها هوى وغوى وهلك؟!

الذين مَن أحبّهم فقد أحبّ الله، ومَن آذاهم فقد آذى الله، ومَن

٤٦١

أبغضهم فقد أبغض الله؟!

فو الله الذي لا إله إلاّ هو إنّهم آذوا ذرّيّة رسول الله وعترته وأهل بيته، وظلموهم وأغضبوهم واعتدوا عليهم، وهتكوا حرمتهم، وجرّئوا الناس على إيذائهم.

بأيّ دين؟!

وبأيّة شريعة؟!

وبأي مجوّز شرعي صنعوا ذلك الصنيع اتجاه آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

أنا لا أدري، ولعلّ القوم ينحتون الأعذار التي تبيح لهم هتك تلك الحرمات، وإهدار تلك الكرامات.

( لَبِئْسَ الْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ) .

إقتبست السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام هذه الجملة من قوله تعالى( يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ) (١) أي إنّ الذي اختاروه للولاية بئس المولى وبئس العشير، والعشير هو الصديق الذي ينتخب للمعاشرة.

( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ) هذه الجملة من قوله تعالى في سورة الكهف ٥٠:( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ) (٢) .

(استبدلوا - والله - الذنابا بالقوادم والعجز بالكاهل).

إنّ من جملة العلوم التي لها الصدارة على بقيّة العلوم هو علم الاجتماع، وهو علم يبحث عن تقدّم الأُمم أو تأخّرها، وأسباب ضعفها أو

____________________

(١) الحج: ١٣.

(٢) الكهف: ٥٠.

٤٦٢

قوّتها، وصلاحها وفسادها، ونتائج الصلاح ومضاعفات الفساد.

ومن الوسائل التي كان لها التأثير في توعية المجتمع نحو الخير والشر، ونحو الصلاح أو الفساد، وتقرير مصير الشعوب: هو جهاز الدولة وجهاز الدين، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (طائفتان من أُمّتي إذا صلحتا صلح الناس، وإذا فسدتا فسد الناس: العلماء والأُمراء) وفي ذلك اليوم كان جهاز الدولة وجهاز الدين واحداً، فالخليفة يُعتبر رئيس الدولة ورئيس الدين، ويدير دفّة الحكم على الصعيدين: الدولي والديني.

وإنّنا نجد الشعوب المتحضّرة، المثقّفة المتقدّمة إنّما وصلوا إلى القمّة وحازوا التقدّم في كافّة المجالات بسبب الأُسرة الحاكمة التي مهّدت لهم السبل، وهيّأت لهم الوسائل وزوّدتهم بالتعليمات، وشجّعتهم على العمل.

وهكذا نجد الشعوب المتأخّرة والمتفسّخة التي استولى عليهم الجهل والفقر والمرض والذل والهوان والخلاعة والمجون هم ضحايا إهمال الحكّام وأصحاب القيادة، وقد قيل: (الناس على دين ملوكهم).

وهنا تنتقل السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام إلى حديثها عن علم الاجتماع، فتقول:

(استبدلوا - والله - الذنابا بالقوادم)

إنّ التشبيه في الكلام له تأثير عجيب في النفس، وتقريب المعنى إلى الذهن بصورة واضحة.

لقد شبّهت السيدة فاطمةعليها‌السلام الأمّة الإسلامية بالطائر، وشبهت القائد أو القيادة بأجنحة الطائر؛ لأنّ الطائر لا يستطيع أن يطير إلاّ بجناحيه، والجناح مركّب من عشر ريشات كبار، ويُقال لها (القوادم) وتحت تلك الريشات الكبار عشر ريشات صغار يقال لها (الخوافي) وعلى موضع

٤٦٣

ذنب الطائر ريشات يقال لها: (الذنابا).

فالقوادم هي قوام الطيران، ولا يمكن الطيران بغير القوادم، لأنّها بمنزلة المحرّكات القويّة في جناح الطائرة التي بإمكانها أن تقلع الطائرة وترتفع بها عن الأرض وتسير في الفضاء.

فالطائر إذا قطعت قوادمه لا يستطيع الطيران بالخوافي وهي الريشات الصغار، ولا بالذنابا، لأنّ الذنابا لا تستطيع حمل جسد الطائر وإقلاعه عن الأرض لعجز الذنابا وضعفها.

(والعجز بالكاهل) العجز - بفتح العين وضم الجيم -: من كل شيء مؤخّره، ومن الإنسان ما بين الوركين، والكاهل ما بين الكتفين، والكاهل أقوى موضع في البدن لحمل الأثقال، وبالعكس: العجز لا يليق ولا يستطيع حمل الأثقال.

والمقصود من هذين المثالين أو التشبيهين هو: أنّ القوم سلّموا الأمور العظيمة، والمناصب الخطيرة وهي القيادة إلى مَن لا يليق بها، ولا يستطيع القيام بأُمورها لعدم توفّر الإمكانيات فيه، وعجزه عمّا يتطلّبه الأمر من العلم والعقل والتدبير، وذلك بعد أن سلبوا تلك الإمكانيات من أصحابها الأكفّاء ذوي اللياقة والخبرة والبصيرة.

إنّهم باعوا عليّاًعليه‌السلام يوم الغدير بأمر من الله تعالى ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله وباختيار منهما، ولكنّهم نكثوا عهدهم، ونقضوا ببيعتهم، وبايعوا غيره الذي لا يُقاس بعليّعليه‌السلام علماً وشرفاً وفضلاً وسابقة وغير ذلك من المرجِّحات.

(فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً)

إنّ الزهراءعليها‌السلام تدعو على هؤلاء بالذلّ والهوان، وهو

٤٦٤

إرغام أنوفهم، وهم الذين يظنّون أنّهم مهتدون في أعمالهم، ومصلحون في تصرّفاتهم.

والحال:( أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ ) وهل يشعر المنحرف أنّه منحرف وشاذ؟ بل بالعكس، يتصوّر أنّه هو المهتدي المعتدل المستقيم، وأنّه على الحق وأنّ غيره على الباطل، ولا يؤثّر فيه المنطق ولا ينفع فيه الدليل والبرهان.

وهاتان الجملتان مقتبستان من قوله تعالى:

( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) (١)

ومن قوله تعالى:( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ) (٢) .

ثم أدمجت آية أُخرى في كلامها بالمناسبة فقالت:

ويحهم!( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (٣) .

هذه الآية الشريفة تشير إلى بحث الهداية، والمقارنة بين الذي يهدي إلى الحق، ويرشد الناس إلى الطريق وبين الذي لا يهتدي ولا يعرف الطريق إلاَّ أن يُهدى أي يهديه غيره، أيهم أحق بالإتّباع؟ وأيّهما يستحق أن يكون قائداً للأمّة؟

وهنا تقصد فاطمة الزهراءعليها‌السلام من هذه المقارنة أنّ عليّاً هو الرجل الكامل علماً وفضلاً وعقلاً، ومواهباً، فهو أولى بالقيادة، وأحرى بالاتباع من أفراد ليسوا في المستوى المطلوب في

____________________

(١) الكهف: ١٠٤.

(٢) البقرة: ١١، ١٢.

(٣) يونس: ٣٥.

٤٦٥

العلم والعقل والتدبير وما شابه ذلك من لوازم القيادة.

والتاريخ يثبت كلا الجانبين: جانب الكمال في عليّ، وجانب النقص في غيره.

(أما لعمري! لقد لقحتْ) إنّ الميكروبات التي تتكوّن في البدن، وتنتج أمراضاً صعبة العلاج إنّما تبدأ من الجرثومة التي تدخل في الدم، وهناك تتلاقح، وبمرور الزمان تنتشر الميكروبات في الدم، وتؤثّر على الكريّات البيض والحمر، وهناك الويلات، وهناك، الملاريا والكوليرا، وهناك السرطان، وهناك المرض الذي يعمّ البدن ويشمل الجسد كلّه.

تقول السيدة فاطمة الزهراء: (أما لعمري! لقد لقحت) لقحت جرثومة الفتنة في الأمّة الإسلامية، والفتنة في طريقها إلى التوسّع والانتشار.

(فنظرة ريثما تنتج) أي انتظروا حتى تنتشر الميكروبات في هيكل المجتمع الإسلامي، فبعد أن كانت القيادة الصالحة اللائقة تقود المسلمين، وإذا بقيادة معاكسة ومغايرة لها تماماً تزاحمها وتحل محلّها.

وبعد أن كانت الأحكام الإسلامية الطرية المعتدلة تسود المجتمع الإسلامي وإذا بأحكام منبعثة عن الهوى وعن آراء شخصيّة متطرّفة تقوم مقام تلك الأحكام.

وهكذا تتبدّل المفاهيم، وتتغيّر المقاييس.

(ثمّ احتلبوا ملأ القعب دماً عبيطاً).

إنّ الناقة إذا ولدت يُحلب منها اللبن، ولكنّ الفتنة إذا لقحت وأنتجت يحلب منها الدم لا اللبن، أي تتكوّن المجازر والمذابح، فبعد أن كان الدين الإسلامي دين الأمن والحياة والسلام في الواقع، وإذا به ينقلب مفهومه لدى هؤلاء فيصبح دين الإبادة والهلاك، والدمار والفناء.

انظر إلى التاريخ الإسلامي الذي شوّهه هؤلاء

٤٦٦

تجد أنهاراً من الدماء التي جرت من أجساد المسلمين.

وتجد التلال التي تكوّنت من جثثهم.

فمثلاً: ذكر المؤرّخون أنّ عثمان بن عفان قام بأعمال منافية للقرآن والسنّة، فعاتبه المسلمون على ذلك، ولكنّه لم يرتدع بل استعمل العنف والقوّة معهم ضرباً وسبّاً وتبعيداً وتهديداً.

وأخيراً أثارت أعماله في المسلمين هياجاً عامّاً، وكانت عائشة تهيّج الناس ضدّه وتقول: اقتلوا نعثلاً فقد كفر، اقتلوا نعثلاً قتله الله. ونعثل اسم يهودي كانت عائشة تشبّه عثمان به. وهكذا طلحة وابن العاص.

وأخيراً قتلوا عثمان.

وإذا بالذين كانوا يحرّضون الناس ضدّه خرجوا يطلبون بدمه، وقد قُتل عثمان في المدينة، وذهب هؤلاء إلى البصرة يطلبون بدمه، وبين المدينة والبصرة أكثر من ألف كيلو متر، فأجّجوا نيران الحرب هناك، فقتل في حرب البصرة خمسة وعشرون ألف إنسان!.

ثم نهض معاوية زاعماً أنّه يطلب بدم عثمان، فقامت الحرب في منطقة سورية بالقرب من مدينة حلب يقال لها (صِفّين) وهدأ القتال وعلى الأرض تسعون ألف قتيل!.

ثم حدثت واقعة النهروان فقتل فيها أربعة آلاف إنسان.

ثم خرج بسر بن أرطاة من الشام وقصد المدينة ومكّة واليمن وفي طريقه كان يقتل الناس، حتى قتل من شيعة علي في اليمن وغيره ثلاثين ألف قتيل!.

خذ القلم بيدك واحسب مجموع القتلى:

٢٥٠٠٠ + ٩٠٠٠٠ + ٤٠٠٠ + ٣٠٠٠٠ = ١٤٩٠٠٠

هؤلاء القتلى، ولا تسأل عن الجرحى، ولا تسأل عن أرامل هؤلاء،

٤٦٧

وأيتامهم، ومضاعفات تلك المآسي، ولا تسأل عن الدموع الجارية، والعيون الباكية، والقلوب الملتهبة، والآهات والأحزان التي جعلت تلك الحياة جحيماً على ذلك المجتمع بكافّة جوانبه ونواحيه، كل ذلك في خلال أربع سنوات!!

وهل انتهت المأساة هنا؟

لا، بل هناك مآسي ومجازر ومذابح تقشعرّ منها الجلود، وسوف نذكر بعضها في هذا الكتاب.

نعم، لا تزال السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام تخبر عن الفجائع والفظائع التي هي في طريق الأمّة الإسلامية، وكامنة لها بالمرصاد.

ليس هذا التنبّؤ إخباراً عن الغيب، بل إخبار عن نتائج الأعمال ومضاعفاتها، فالطبيب الحاذق إذا نظر إلى إنسان لا يراعي أُصول الصحّة في مأكله ومشربه وتنفسّه ويستعمل الأشياء الضارّة، فإنّ الطبيب يخبره بمصيره المظلم، والأمراض الفتّاكة التي تقضي على حياته من جرّاء تلك الأعمال المنافية لأُصول الصحّة العامّة.

وكذلك السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام تنظر إلى ذلك المجتمع وسوء اختيار الأمّة للقيادة غير الصالحة، فتنكشف لها العواقب السيّئة التي يؤول إليها أمر الأمّة الإسلامية ببركات تلك القيادة!!.

تقول: (ثمّ احتلبوا ملء القعب دماً عبيطاً) وفي نسخة: (طلاع القعب) أي القدح الكبير الضخم الذي يتفايض بالدم حتى يسيل منه، والمقصود كثرة الدماء التي تُراق.

(وذعافاً ممقراً مبيداً) أي احتلبوا الدم، واحتلبوا السمّ المرّ المهلك، والمقصود منها: النتائج السيئة التي عمَّ شؤمها الإسلام والمسلمين من الويلات والمصائب التي انصبّت على المسلمين.

٤٦٨

(هنالك يخسر المبطلون) أي عند ذلك يظهر خسران المبطلين.

(ويعرف التالون غبَّ ما أسَّسه الأوّلون) يعرف الآخرون عاقبة الأعمال التي أسّسها الأوّلون.

(ثمّ طيبوا عن دنياكم أنفساً) يُقال: طب نفساً: أي أسكن واهدأ عن القلق وهذا كما يُقال للظالم: قرَّت عينك، أو بشراك، وأمثالها من الكلمات التي يُراد بها العكس في الكلام لا الحقيقة.

(واطمأنّوا للفتنة جاشاً) أي فلتسكن للفتنة قلوبكم، وهذا أيضاً يُراد به العكس، فإنّ القلب لا يسكن للفتنة وإنّما يسكن للأمان والسلامة.

(وأبشروا بسيف صارم وسطوة معتدٍ غاشم) هذه الكلمة على غرار قوله تعالى:( فَبـَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) وهذه الكلمة أو الجملة أيضاً على العكس.

(وهرج شامل) وفي نسخة: (وهرج دائم شامل) الهرج: الفتنة والفوضى واختلال الأمور.

(واستبداد من الظالمين) الاستبداد: الدكتاتورية، والعمل على خلاف المقاييس والموازين، لا تحت أي نظام أو قانون أو شريعة أو دين.

(يَدَع فيئكم زهيداً وجمعكم حصيداً) أي ذلك الاستبداد أو المقصود من ذلك جميع ما تقدّم من قولها: سيف صارم وسطوة معتد غاشم وهرج واستبداد ومجموع هذه الأشياء يدع فيئكم زهيداً أي يجعل الغنائم والخراج وحقوقكم المالية زهيداً قليلاً (وجمعكم حصيداً) وفي نسخة: (وزرعكم حصيداً) أي محصوداً، والمقصود أنّ السلطة التي تحكم عليكم يتصرّفون في غنائمكم حسب مشتهياتهم ويجرّونها إلى أنفسهم فلا ترون منها إلاّ القليل، ويحصدون جمعكم أي جماعتكم بسيوفهم.

٤٦٩

وكلها إخبارات بالمستقبل المظلم الذي كان بالمرصاد للمسلمين، والمآسي والكوارث التي تنزل بهم، والويلات التي تنصبّ عليهم!.

ولقد تحقّق كل هذا، وهذا كلّه، لقد ابتلي المسلمون بفجائع ومذابح ومآسي لا يستطيع أحد أن يتصوّرها، فو الله إنّهم سوّدوا تاريخ الإسلام، وشوّهوا سمعة هذا الدين، وإليك بعض تلك الحوادث شاهداً على ما نقول:

لقد ذكرنا - فيما مضى - بعض المجازر التي قام بها أصحاب الجمل ومعاوية والخوارج وبعض عملاء معاوية، والآن استمع إلى غيرها:

لو أردنا أن نذكر - هنا - ما جرى على الأمّة الإسلامية من الظلم والجور والضغط والكبت والعنف والقسوة، والاستبداد بالأموال وإراقة الدماء البريئة على أيدي حكّام الجور لطال بنا الكلام جداً جداً، فإنّ التحدّث عن هذه المصائب والفجائع يحتاج إلى موسوعة وموسوعة.

ولكنّنا رعاية لأسلوب الكتاب وبمناسبة التحدّث عمّا أخبرت به السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام من الويلات التي كانت بالمرصاد على طريق المسلمين، الذين اختاروا تلك القيادة التي ما أنزل الله بها من سلطان، ونبذوا وراءهم ولاية آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وسلبوهم القدرة والإمكانية.

نختار من بين المئات من الفجائع التي انصبّت على أهل المدينة فجيعة واحدة تقشعرّ منها الجلود، وتشمئزّ منها النفوس.

وقبل أن أذكر الواقعة لا بأس بذكر مقدّمة تمهيدية كي تظهر نتائج تغيير القيادة الإسلامية عن مجراها وأُسُسها:

من الصحيح أن نقول: إنّ حكّام الجور الذين جلسوا على كراسي الحكم، وقبضوا بأيديهم أزمّة الأمور، واستولوا على رقاب البشر عن طريق السيف، قد رفضوا العمل بالإسلام الذي جاء به محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٤٧٠

فكانت تصرّفاتهم لا تتفق مع القرآن الكريم، ولا السنّة النبوية، ولا منطق العقل ولا قانون الإنسانية، ولا نظام العدل، ولا تعاليم الإسلام.

بل كانوا يحكمون على أموال الناس ودمائهم حسب رغباتهم الشخصية وشهواتهم النفسية، وإجابة للحرص والجشع، وإطاعة لأهوائهم.

فالناس لا كرامة لهم ولا قيمة لحياتهم عند هؤلاء، وليس المهم عند أولئك الحكّام أن يعيش الناس برخاء ورفاه أو يموتوا جوعاً وفقراً وإنّما المهم المحافظة على عرش الحاكم وإبقاء جبروته وإشباع شهواته ورغباته وترفه وبذخه، ولو كان مستلزماً لإراقة دماء الشعب المسلم البريء المسكين، وما قيمة المسلم وما حرمة الإسلام أمام أهواء الحاكم الدكتاتوري الظالم السفّاك الذي لو كان يؤمن بالله واليوم الآخر لكان سلوكه على خلاف تلك الأعمال المناقضة للدين الإسلامي.

ولعلّك - أيها القارئ - تتصوّر وتظن أنّ في كلامي هذا شيئاً من المبالغة والإسراف، ولكنّك لو اطلعت على تاريخ الأمويين والعبّاسيين والمجازر والمذابح الجماعية التي قاموا بها لصدّقت كلامي، بل واعتبرت كلامي هذا أقلّ من القليل عن الواقع الذي مرّت به الأمّة الإسلامية عبر القرون!.

إنّهم جعلوا الحياة جحيماً وعذاباً أليماً على المجتمع الإسلامي الذي كان يعيش تحت سياطهم وسيوفهم!.

وهاك مثالاً واحداً على بعض ما نقول:

وَاقِعَةُ الحرّة

بعث يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة، وكان أحد جبابرة العرب

٤٧١

وشياطينهم بعثه إلى المدينة ومعه ثلاثون ألف رجل(١) ، وأوصى يزيدُ بن معاوية مسلم بن عقبة فقال: إذا ظهرتَ على أهل المدينة فأبحْها ثلاثاً، وكل ما فيها من مال أو دابّة أو سلاح أو طعام فهو للجند.

خرج الجيش نحو مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وخرج أهل المدينة لمقابلة الجيش خارج المدينة، والتقى العسكران خارج البلدة في منطقة يقال لها: (الحَرّة) وهناك وقعت الحرب، وقُتل من أهل المدينة المئات من أبناء المهاجرين والأنصار وغيرهم من أهل المدينة، وانهزم الباقون متجهين نحو المدينة، وكان جيش الشام يطاردهم حتى وصلوا المدينة ولاذ المسلمون بالحرم النبوي فجعل جيش الشام يقتل أهل المدينة عند قبر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى ساوى الدم قبر رسول الله!!.

وبعد ذلك نادى المنادي في جيش الشام بأمر قائدهم مسلم بن عقبة: هذه المدينة قد أبحتُها لكم!!.

فما تظن بالجيش الفاتح الذي تُعطى له الحرية الكاملة، وتُرفع عنه كل مسؤولية؟؟

فعمد الجيش إلى نهب الأموال وهتك الأعراض، وافتضّوا أكثر من ثلاثمائة عذراء، ووُلد في تلك السنة ألف مولود لم يُعرف لهم أب.

وأستأذن القارئ لأقول له: حتى أنّ الرجل منهم كان يزني بالمرأة المسلمة في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) .

وكان أفراد الجيش يدخلون بيوت أهل المدينة وينهبون كل ما وجدوا فيها، وهجم أفراد منهم على دار أبي سعيد الخدري الذي كان من مشاهير أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان شيخاً كبيراً

____________________

(١) الإمامة والسياسة ج ٢ ص ٧.

(٢) كتاب تتمّة المنتهى للقمّي.

٤٧٢

قد كفّ بصره، فوجدوه جالساً على التراب؛ لأنّ طائفة من الجيش كانت قد نهبت داره قبل ذاك، ولمّا فتّش الأفراد داره ولم يجدوا شيئاً ما أحبّوا أن يخرجوا من داره بلا فائدة فعمدوا إلى الشيخ الأعمى المسكين ونتفوا لحيته وشعر حاجبيه وهو يصرح ويقول لهم: أنا أبو سعيد الخدري!! أنا صاحب رسول الله.

ولكنّهم لم يعبأوا بهذه الأسماء، ووجدوا في بيته عدداً من الحمام فذبحوها وطرحوها في البئر وخرجوا من داره.

ودخل أحدهم دار امرأة قد نُهب كلّ ما فيها، فوجد الرجل تلك المرأة جالسة على الأرض وفي حجرها طفلها يرتضع، فمدّ الرجل يده وأخذ برجل الطفل وجذبه من حجر أمه والثدي في فمه وضرب برأس الطفل فسال دماغه على الأرض وأُمّه تنظر إليه.

ثم جمع مسلم بن عقبة أهل المدينة وأخذ منهم الإقرار والاعتراف بأنّهم عبيد مملوكون ليزيد بن معاوية.

وبعد ذلك خرج الجيش من المدينة تاركاً وراءه الجثث وآلاف اليتامى والأرامل، طعامهم البكاء وشرابهم الدموع، وفراشهم التراب، ومتاعهم الآلام والآهات والذعر والعويل.

وخرج الجيش نحو مكّة ليحرقوا الكعبة ويقتلوا الناس في المسجد الحرام لأجل القضاء على عبد الله بن الزبير المتحصّن في المسجد الحرام الذي مَن دخله كان آمناً.

ولا تسأل عن الفجائع التي انصبّت على أهل المدينة، فجيعة بعد فجيعة ومصيبة تلو الأخرى.

وأمّا ما قام به الحجّاج بن يوسف الثقفي في العراق فإنّه يشيب الطفل وهو في المهد، ويورث الدهشة والذعر في القارئ الذي يقرأ تلك

٤٧٣

الإضبارة السوداء الشوهاء، وتستولي عليه حالة التهوّع والتقيّؤ.

حتى قال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل أمّة بخبيثها وجئنا بالحجّاج لغلبناهم.

وقال عاصم: ما بقيتْ لله (عزّ وجلّ) حُرمة إلاّ وقد ارتكبها الحجاج!

تَطبيق الخَبَر مَعَ الوَاقِع

هذه نماذج قليلة وضئيلة بالنسبة لما جرى وحدث، وبعد استعراض تلك الفجائع التي يملّ الإنسان الحياة حين قراءتها، عند ذلك تتضح لنا صحّة ما أنذرت به السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام الجماعة التي استبدلت تلك القيادة بقيادة آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ويظهر لنا صدق كلامها حين المطابقة والمقارنة بين كلامها: (وأبشروا بسيف صارم، وسطوة معتدٍ غاشم، وهرج شامل، واستبداد من الظالمين يَدَع فيئكم زهيداً، وجمعكم حصيداً) وبين الحوادث والمآسي التي مرّت بها الأمّة الإسلامية.

وأخيراً ختمت السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام خطابها للنساء بهذه الجملات: (فيا حسرة لكم) هذه الكلمة مأخوذة من قوله تعالى:( يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) فالمعنى: يا لكم من حسرة وندامة على ما فاتكم من الخير والهداية، والأمن والأمان، والأجر والثواب في الدنيا وفي الآخرة.

(وأنّى لكم؟) أي ما أدري إلى ما يصير أمركم وقد سلكتم عن طريق الهداية، ووقعتم في موارد الهلكة والخسران.

(وقد عميت عليكم) خفيت عليكم الحقائق بسبب قلّة تدبّركم فيها.

٤٧٤

( أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ) هذه الجملة من قوله تعالى:( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ من ربِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ) أي أتريدون منّي أن أُكرهكم على المعرفة وأُلجأكم إليها على كرهٍ منكم؟

هذا غير مقدور لي وإنّما الواجب عليّ أن أدلّكم بالبيّنة والطريق وليس عليّ أن أضطرّكم على معرفتها.

قطعت السيدة فاطمة شريط كلامها مع النساء - هنا - وقامت النساء وخرجن.

قال سويد بن غفلة: (فأعادت النساء قولها على رجالهنّ، فجاء إليها قوم من وجوه المهاجرين والأنصار معتذرين).

من المؤسف أنّ القضية مجملة مبهمة، فليس هنا تصريح بأسماء النساء ولا بأسماء الرجال الذين هم من وجوه المهاجرين والأنصار.

وإنّما المستفاد من مجموع الأحداث أنّ النساء ما كنّ يعرفن الألعاب السياسية، وما كنّ يعرفن اتجاه رجالهن في تلك الفترة العاصفة، فحضرن عند السيدة فاطمة الزهراء لعيادتها، فخطبت فيهنّ السيدة الزهراء الخطبة التي مرّت عليك، وصبّت جام غضبها على رجالهن، وبعد انتهاء الخطبة قامت كل امرأة وكأنّها نائمة فاستيقظت، أو كانت غافلة فانتبهت وحصل عندهنّ شيء من الوعي والانتباه.

ويعلم الله ما جرى بين تلك النساء وبين رجالهنّ من الصياح والنزاع بعد رجوعهن من عيادة السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام بحيث جاء رجالهن إلى دار فاطمة معتذرين.

معتذرين عن أيّ شيء؟

٤٧٥

معتذرين عن تخاذلهم عن نصرة آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

كأنّهم لا يعلمون شيئاً، كأنّهم لا يعرفون عن الأحداث شيئاً.

كأنّهم لم يبايعوا عليّاًعليه‌السلام يوم الغدير، وذلك قبل وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بسبعين يوماً.

كأنّهم لم يسمعوا خطبة الزهراء في المسجد واحتجاجها مع رئيس الدولة ومع المهاجرين والأنصار!

كأنّهم لم يسمعوا صرختها عند باب البيت.

وكأنّهم ما كانوا بالمدينة ولم يعلموا شيئاً أبداً.

وكأنّهم الآن عرفوا الحق فجاءوا معتذرين بأعذار تافهة تائهة باردة:

(وقالوا: يا سيّدة النساء لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نُبرم العهد، ونُحكم العقد، لما عدلنا عنه إلى غيره)

استمع إلى هذا الاعتذار البعيد عن المنطق، البعيد عن كل مقياس.

ما أدري أيّ شيء كان مفروضاً على أبي الحسن أن يذكره لهؤلاء؟

أما ذكر لهم الله تعالى قوله:( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ؟

أما سمعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله رافعاً صوته يوم الغدير: (مَن كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ وال مَن والاه، وعاد مَن عاداه، وانصر مَن نصره، واخذلْ مَن خذله).

إلى غيرها من الآيات نزلت في حق عليّعليه‌السلام وكلمات الثناء والنصوص الصريحة التي سمعوها من فم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الدالة على خلافة عليّ بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٤٧٦

أي شيء يذكره عليّ لهم؟

فهل كان هناك شيء مستور أو غير معلوم عند أولئك الشخصيات فيحتاجوا إلى مَنْ يذكر لهم ذلك؟ أو يخبرهم به؟

وبعد هذا كلّه، أما احتجّ الإمام أمير المؤمنين بأنواع الاحتجاج يوم أخذوه من بيته إلى المسجد ليبايع أبا بكر؟

أما سمعوا؟

أما علموا؟

أما فهموا؟

ثم انظر إلى كيفيّة الاعتذار وسخافة القول: (لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نبرم العهد ونحكم العقد لما عدلنا عنه إلى غيره).

سبحان الله! أما أبرمتم العهد؟

أما أحكمتم العقد يوم الغدير؟ وبايعتم عليّاً بالخلافة بأمر الله وأمر رسوله؟

فهل كنتم تلعبون يومذاك تستهزئون بالله ورسوله؟

فالعجب أنّه جاز لكم أن تنقضوا ذلك العهد وتنكثوا ذلك العقد، ولكن اليوم لا يجوز لكم النكث والنقض لتلك البيعة، التي كانت هي نقضاً ونكثاً للبيعة السابقة التي بايعتم عليّاً يوم الغدير!!.

نعم، هكذا اعتذروا، اعتذروا بهذه الأعذار المزيّفة، ولهذا طردتهم السيدة فاطمة من بيتها، وقالت لهم:

(إليكم عنّي) تباعدوا عنّي، أمسكوا كلامكم عنّي.

(فلا عذر بعد تعذيركم) التعذير: التقصير في الاعتذار، والمعذّر: المقصّر الذي يريك أنّه معذور ولا عذر له، قال تعالى:( وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ

٤٧٧

الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ ) (١) .

لعلّ المقصود ليس لكم عذر صحيح بعد تعذيركم وتقصيركم.

(ولا أمر بعد تقصيركم) أي ليس لنا أمر معكم بعد هذه المواقف التي كانت لكم.

وهكذا طردتهم السيدة فاطمة من بيتها بعد أن زيّفت أعذارهم.

٤٧٨

مَصَادِرُ الخطْبَة في النِّساء

أيّها القارئ الكريم، لقد قضينا معك برهة من الزمان في رحاب كلمات السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام التي خطبت بها في المسجد وفي بيتها وفي فراش العلّة والمرض، وقد تبيّن لك الكثير الكثير من الحقائق التي اشتملت عليها خُطب السيدة الزهراء.

وقد ذكرنا لك بعض المصادر لخطبتها التي خطبت بها في المسجد، ولا بأس أن نذكر - هنا - بعض مصادر خطبتها التي خطبت بها للنساء:

١ - معاني الأخبار للشيخ ابن بابوية المتوفّي سنة (٣٨١) ينتهي سند الخطبة إلى فاطمة بنت الحسينعليهما‌السلام .

٢ - ويروي أيضاً بإسناده عن عمر بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام يروي عن أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليهما‌السلام .

٣ - الطبرسي في الاحتجاج، عن سويد بن غفلة كما تقدّم الكلام في أوّل الخطبة.

٤ - أمالي الشيخ الطوسي، يروي بإسناده عن ابن عباس.

٥ - دلائل الإمامة للطبري، يروي بإسناده عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدينعليهما‌السلام .

٦ - بلاغات النساء لأبي الفضل بن أبي طاهر، يروي بإسناده عن عطية العوفي.

٧ - كشف الغمّة للإربلي ص١٤٧ يروي عن كتاب السقيفة لأحمد بن عبد العزيز الجوهري.

٨ - ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة يروي أيضاً عن الجوهري.

٩ - أعلام النساء تأليف عمر رضا كحّالة ج٤ ص١٢٣.

١٠ - الشيخ المجلسي في العاشر من كتابه بحار الأنوار.

٤٧٩

إتمَامُ الحجّةِ عَلَى المـُهاجرين وَالأنصَار

كان الأنسب أن يكون هذا البحث قبل خطبتها التي خطبت بها للنساء، ولكن رعايةً لتوالي خُطَبها ذكرنا كما سلف.

كان الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام يسير على خطّة حكيمة تتفقْ مع العقل والمنطق والدين، وينتهز الفرص لإحقاق حقّه وإثبات مظلوميته وإتمام الحجّة على ذلك المجتمع، بل وتسجيلها في سجلّ التاريخ؛ كي يعلم ذلك الشعوب التي جاءت بعد ذلك اليوم وإلى يومنا هذا وإلى ما شاء الله.

من الصحيح أن نقول: إنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام كان يرى لزاماً عليه أن يتمّ الحجّة على الناس، ويبيّن لهم أنّ الخلافة من حقّه الذي جعله الله ورسوله له، وحتى إذا كان عالماً أنّ الناس لا يتجاوبون معه، وهكذا يبيّن لهم أنّ فدك من حق السيدة فاطمة الزهراء.

فهو - شرعاً - خليفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سواءً أذعن له الناس أو لم يذعنوا، وسواء خضع له المجتمع أو لم يخضع، وهكذا إنّ فدك مِلكٌ للسيدة فاطمة الزهراء سواءً أعطوها حقّها أو لا.

والسيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام لها المكانة المرموقة والشخصية المشهورة في ذلك المجتمع، فلا بأس لو أنّ السيدة الزهراء تتكلّف وتتجشّم تأييد زوجها في إثبات الحق والحقيقة والمطالبة بحقّها، فلا عجب إذا كانت ترافق زوجها العظيم، وولديها سيّدي شباب أهل الجنّة، وتستنجد بالصحابة لئلاّ يكون للناس على الله حجّة، لئلا يقولوا: كنّا غافلين ناسين أو

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568