فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد10%

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 568

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 247986 / تحميل: 11080
الحجم الحجم الحجم
فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

الوديعة، وأخذت الرهينة، وأخلست الزهراء، فما أقبح الخضراء والغبراء يا رسول الله.

أمّا حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد، وهم لا يبرح من قلبي، أو يختار الله لي دارك التي أنت فيها مقيم، كمد وقيح، وهم مهيج، سرعان ما فرق بيننا، وإلى الله أشكو، وستنبئك ابنتك بتظافر أمتك على هظمها، فأحفها السؤال، واستخبرها الحال، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثه سبيلاً، وستقول ويحكم الله، وهو خير الحاكمين.

والسلام عليكما سلام مودع لا قال ولا سئم، فان انصرف فلا عن ملالة، وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين.

واهاً واهاً، والصبر أيمن وأجمل، ولو لا غلبة المستولين لجعلت المقام واللبث لزاماً معكوفاً، ولأعولت إعوال الثكلى على جليل الرزية.

فبعين الله تدفن ابنتك سرّاً، وتهضم حقها، ويمنع إرثها، ولم يتباعد العهد، ولم يخلق منك الذكر، وإلى الله - يا رسول الله - أحسن العزاء، صلى الله عليك و عليها‌السلام والرضوان (1) .

الظلمة يلاحقون فاطمة بعد الشهادة:

عن الصادق عليه‌السلام في حديث طويل:... فلمّا أصبح أبو بكر وعمر.. فلقيا رجلاً من قريش فقالا له: من أين أقبلت؟

قال: عزّيت علياً بفاطمة.

قالا: وقد ماتت؟

قال: نعم، ودفنت في جوف الليل...

__________________

(1) البحار 43 / 194.

٢٦١

ثم أقبلا إلى علي عليه‌السلام فلقياه فقالا له: والله ما تركت شيئاً من غوائلنا ومسائتنا، وما هذا إلّا من شيء في صدرك علينا.. هل هذا إلّا كما غسلت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دوننا ولم تدخلنا معك؟؟؟!!! وكما علمت ابنك أن يصيح بأبي بكر أن: انزل عن منبر أبي....

فأجابهم أمير المؤمنين عليه‌السلام عن افتراءاتهم ثم قال: وأما فاطمة فهي المرأة التي استأذنت لكما عليها، فقد رأيتما ما كان من كلامها لكما، والله لقد أوصتني أن لا تحضرا جنازتها ولا الصلاة عليها، وما كنت الذي أخالف أمرها ووصيتها إليّ فيكما.

فقال عمر: دع عنك هذه الهمهمة، أنا أمضي إلى المقابر فأنبشها حتى أصلّي عليها.

فقال له علي عليه‌السلام : والله لو ذهبت تروم من ذلك شيئاً - وعلمت أنّك لا تصل إلى ذلك حتى يندر عنك الذي فيه عيناك - فاني كنت لا أعاملك إلّا بالسيف قبل أن تصل إلى شيء من ذلك.

فوقع بين علي عليه‌السلام وعمر كلام حتى تلاحيا واستبسل... (1) .

وفي عيون المعجزات:... ودفنها... وجدّد أربعين قبراً، فاستشكل على الناس قبرها، فأصبح الناس ولام بعضهم بعضاً، وقالوا إنّ نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله خلّف بنتاً ولم نحضر وفاتها والصلاة عليها ودفنها، ولا نعرف قبرها فنزورها.

فقال من تولّى الأمر: هاتوا من نساء المسلمين من تنبش هذه القبور حتى نجد فاطمة عليها‌السلام فنصلّي عليها ونزور قبرها، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام فخرج مغضباً قد احمرت عيناه، ودرّت أوداجه، وعليه القباء الأصفر الذي كان يلبسه في الكريهة، وهو يتوكأ على سيفه ذي الفقار حتى أتى البقيع، فسار الناس من أنذرهم وقال:

__________________

(1) البحار 43 / 205.

٢٦٢

هذا علي قد أقبل كما ترونه وهو يقسم بالله لئن حوّل من هذه القبور حجر ليضعن السيف في رقاب الآمرين.

فتلقاه الرجل ومن معه من أصحابه وقال له: مالك يا أبا الحسن، والله لننبشن قبرها ونصلّي عليها.

فأخذ علي بجوامع ثوبه ثم ضرب به الأرض وقال: يابن السوداء، أمّا حقّي فقد تركته مخافة ارتداد الناس عن دينهم، وأمّا قبر فاطمة فوالذي نفسي علي بيده لئن رمت أنت أو أصحابك شيئاً لأسقين الأرض من دمائكم، فان شئت فافعل يا ثاني.

وجاء الأول وقال له: يا با الحسن بحقّ رسول الله وبحقّ فاطمة إلّا خلّيت عنه فانا لسنا فاعلين شيئاً تكرهه، فخلى عنه وتفرّق الناس ولم يعودوا إلى ذلك (1) .

* * *

__________________

(1) دلائل الامامة: 47.

٢٦٣

أسماء بنت عميس

أسماء بنت عميس بن سعد بن الحارث بن تميم بن كعب بن مالك بن قحافة بن عامر بن معاوية بن زيد بن مالك بن نسر بن وهب الخثعمي، ولذا عرفت أسماء بالخثعمية.

وأمها هند بنت عوف بن زهير بن الحارث من كنانة.

وقد تزوجت هند مرتين:

الأول: هو الحارث بن حزن بن جبير الهلالي.

والثاني: عميس بن سعد.

وولدت منهما بنات كريمات زوجتهن من رجال كرام، وقال فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : هي أكرم عجوز جمعت على الأرض أصهاراً.

فبناتها:

ميمونة زوجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وأم الفضل زوجة العباس.

وأسماء بنت عميس التي سنتحدث عنها.

وسلمى زوجة حمزة سيد الشهداء.

وسلمة زوجة عبد الله بن كعب الخثعمي.

٢٦٤

وقد وعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هؤلاء الأخوات بدخول الجنة كما روى المرحوم الصدوق - طاب ثراه - في العلل والمرحوم المجلسي في البحار عن أبي بصير عن أبي جعفر الأول عليه‌السلام قال: سمعته يقول:

رحم الله الأخوات من أهل الجنة، فسماهن: أسماء بنت عميس الخثعمية، وكانت تحت جعفر بن أبي طالب عليه‌السلام ، وسلمى بنت عميس الخثعمية، وكانت تحت حمزة، وخمس من بني هلال: ميمونة بنت الحارث، وكانت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأم الفضل عند العباس، واسمها هند، والغميصاء (وقيل: القميصان) أم خالد بن الوليد، وكانت أنصارية لازمت أمير المؤمنين عليه‌السلام في صفين، وغزة، وكانت في ثقيف عند الحجاج بن غلاظ بن خالد بن حوز بن هلال المكنى بأبي عبد الله، سكن المدينة وبنا بها مسجداً (1) .

وفي الحديث مدح لهؤلاء الأخوات معاً، يعني أنهن جميعاً من أهل الجنة لا تخرج منهن واحدة.

أسماء عند جعفر:

هاجرت أسماء بنت عميس مع زوجها جعفر إلى الحبشة فراراً من مشركي مكة، وولدت هناك ثلاثة أولاد: عبد الله وعون ومحمد.

وكان عبد الله أشهر أولادها من جعفر، وكان من الأجواد الأربعة، ولد للنجاشي ولد أيام ولادة عبد الله فسماه باسمه تيمناً وتبركاً، وأمر أن يرضع ولده بلبن عبد الله بن جعفر.

تزوج عبد الله بن جعفر السيدة زينب بنت أمير المؤمنين، فولدت له ولدين استشهدا يوم الطف بين يدي الحسين الشهيد عليه‌السلام .

__________________

(1) البحار 22 / 195 ح 8 باب 2.

٢٦٥

بقيت أسماء في الحبشة مع جعفر وأبنائه إلى السنة السابعة للهجرة وقدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في قلاع خيبر مع جماعة، فلما قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما أدري بأيهما أنا أسر بفتح خيبر أو بقدوم جعفر» (1) .

ثم نظر إلى جعفر وبكى وقال له: «ألا أمنحك؟ ألا أعطيك؟ ألا أحبوك؟! فقال: بلى يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعلّمه الصلاة المعروفة باسم «صلاة جعفر»، وفضلها معروف، وهي مذكورة في كتب الأدعية والأخبار».

والعاقبة أنّ جعفر استشهد في البلقاء في أقصى أرض يثرب والحجاز على حدود الشام في جمادى الآخرة سنة ثمان للهجرة مع زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة، ووجد في جسده تسعون جراحة.

وأخبر جبرئيل النبي في المدينة بمقتل جعفر، فبكى صلى‌الله‌عليه‌وآله ودعى لذريته فقال: «اللهم إنّ جعفر قدم اليك فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحداً من عبادك» (2) .

وبشّر أسماء بنت عميس أنّ الله أعطى جعفراً جناحين يطير بهما في الجنة، ثم أمر سلمى أن تصنع طعاماً شهياً من الشعير والزيت وتطعم أيتام جعفر، وكان يصحبهم معه أينما ذهب ثلاثة أيام يدور بهما على نسائه (3) .

وكان جعفر أشبه الناس برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خَلقاً وخُلقاً، وكان يكنى «أبو المساكين» لأنه كان يحبهم ويطعمهم (4) .

أسماء عند أبي بكر:

استشهد جعفر فأخلف على أسماء بنت عميس أبو بكر بن أبي قحافة، فولدت له

__________________

(1) البحار 21 / 25 ح 22 باب 22.

(2) البحار 21 / 56 ح 8.

(3) أنظر: البحار 21 / 55 ح 8 باب 24.

(4) البحار 22 / 275 ح 5.

٢٦٦

محمداً، ومحمد بن أبي بكر يعزّ له النظير في جلالة القدر ورفعة الشان وعلو المقام وصلابة الايمان والثبات والاستقامة على ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام حتى استشهد في مصر بايعاز من معاوية، فقتل قتلة شنيعة، فلما سمع أمير المؤمنين خبر شهادته قال: شهادته قصمت ظهري، ثم تكلّم كلاماً ترتعد له الفرائص وترتجف له القلوب (1) .

وكان أبو بكر قد خطب أسماء في الاسلام وعنده حبيبة بنت الحارث الأنصاري، فلما توفي أبو بكر أوصى إلى أسماء بنت عميس أن تغسله، كما رواه الطبرسي، فقبلت أسماء الوصية - ولا منص لها إلّا القبول (2) - وتحملت عناء التنفيذ.

وهذه الوصية إنّما تدلّ على طهارة أسماء وتقواها، وكمال إيمانها وتدينها: لأنه أوصى لها من دون المسلمين ومن دون بقية أزواجه، وكان له ثلاث زوجات غيرها هن: أسماء بنت عبد العزي، ولد منها عبد الله، وأسماء ذات النطاقين، وأم رومان بنت عامر بن عمير من بني كنانة، ولد منها عبد الرحمن وعائشة وحبيبة.

والعجيب أنّه في مدة خلافته القليلة - سنتين وثلاثة أشهر وأيام - كانت أسماء في بيته تغذي ابنها محمد محبة أمير المؤمنين وولايته على مرأى ومسمع من أبي بكر، فخرّجت من بيته من جُبلوا على محبة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فكأن أسماء كانت هي أشرف الأبوين لمحمد بن أبي بكر حيث ما فتأت توصيه دائماً بولاية آل طه وأهل بيت النبوة، فشبّ على ذلك، ولم يحد عنه بل بقي ثابتاً راسخاً.

ومن غرائب الوقائع وعجائب الدهر التي تكشف عن شهامة هذه المخدرة المكرمة وشدّة ولائها وصلابة إيمانها وشجاعتها أنها كانت في حبائل أبي بكر إلّا أنّها شهدت عليه، وردّت قوله في قصة فدك، ووقفت لتعلن على رؤوس الأشهاد

__________________

(1) أنظر: البحار 33 / 562 ح 722 باب 30.

(2) أنظر: تاريخ الطبرسي 3 / 421 أحداث سنة (13) قال: إنّ أسماء بنت عميس قالت: قال لي أبو بكر: غسليني قلت: لا أطيق ذلك قال: يعينك عبد الرحمن بن أبي بكر يصب الماء.

٢٦٧

كذب زوجها وتدليسه وغصبه لحق آل البيت عليهم‌السلام ، فشهدت خلافاً لهوى زوجها وهوى الآخرين، ولم تفزع من تهديداتهم، ولم تستسلم لقهرهم، وقالت لهم بشجاعة العارف بالله وبأهل بيته: «إنّكم ظلمة جائرون غصبتم حقّ من له الحق فأعيدوه إلى نصابه».

ولما أرادوا قتل أمير المؤمنين عليه‌السلام وأمروا خالد بن الوليد بتنفيذ ذلك في الصلاة بعثت جاريتها إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وقالت له: ( إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ) (1) .

فقال أمير المؤمنين للجارية: قولي لها: «إنّ الله يحول بينهم وبين ما يريدون».

أو أنّه قال: «فمن يقتل الناكثين والقاسطين والمارقين، وإنّ الله بالغ أمره»؟!

فهدأ روعها وسكن قلبها وسلّمت لما قاله أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وبالفعل فقد ندم أبو بكر - وهو في الصلاة - على ما اتفق عليه مع خالد، وخاف من سيوف بني هاشم المسلولة ونفوسهم الأبية، وحال الله بينه وبين ما يريد، فقال قبل تسليم الصلاة: «أي خالد لا تفعل ما أمرتك» ثم سلم... إلى آخر الخبر (2) .

أسماء عند أمير المؤمنين عليه‌السلام :

فلمّا توفي أبو بكر انتقلت أسماء بكامل الخلوص والوفاء والصفاء الى حجرة سيد الأولياء، وسعدت بشرف الدخول في عداد زوجات سيد الأوصياء أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فأولدها يحيى وعون (3) .

ويكفي أسماء بنت عميس من الفضل أمور:

__________________

(1) سورة القصص: الآية 20.

(2) أنظر: البحار 28 / 305 ح 48 باب 4.

(3) أنظر: تذكرة الخواص: 57 الباب الثالث في ذكر أولاده عليه‌السلام .

٢٦٨

منها: أنّ النبي شهد لها بأنها من أهل الجنة.

منها: أدعية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لها ولذريتها.

ومنها: أنّها كانت ممن شهد لفاطمة الزهراء عليها‌السلام في قصد فدك (بالرغم من ظروفها الخاصة) فصارت في ذلك قرينة لأم أيمن، وصارت ممن لازم الحق في تلك الفتنة العمياء في قصة شهادتها لفاطمة عليها‌السلام .

ومنها: ما قاله عمر من محبتها لآل أبي طالب وأنها تشهد لبني هاشم (1) .

ومنها: الأخبار المروية في حقها عن الحضرة النبوية والعلوية والعصمة الكبرى لفاطمة الزهراء عليها‌السلام .

ومنها: أنّها شهدت وفاة فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، وشاركت أمير المؤمنين عليه‌السلام في غسلها، ويا لها من مفخرة عظيمة.

ومنها: أنّها ممدوحة في كتب الشيعة والسنة، فقد مدحها العدو بالرغم من شدّة عناده، بل وثقوا ذريتها الكريمة وأثنوا عليهم وقالوا: «إنّهم خيار عباد الله» (2) .

ومنها: أنّها ولدت عبد الله بن جعفر زوج زينب الكبرى، وقد استشهد أولاده بين يدي الحسين عليه‌السلام ، فقدمت بذلك أسماء فداءً للحسين عليه‌السلام ، وولدت محمد بن أبي بكر، وكان كما قال أمير المؤمنين «محمد ابني من صلب أبي بكر» وراح شهيداً في سبيل الله دفاعاً عن ولاية أمير المؤمنين، وولدت عوناً من أمير المؤمنين وقد استشهد بين يدي الحسين عليه‌السلام في طف كربلاء.

فهنيئاً لها، والسلام عليها وعلى زوجها أمير المؤمنين وعلى أولادها المستشهدين.

* * *

__________________

(1) أنظر: العوالم 11 / 635 ح 27 باب 3.

(2) أنظر: الخصائص الفاطمية للكجوري ترجمة سيد علي أشرف 2 / 162 وما بعدها.

٢٦٩

أمامة بنت أبي العاص

أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن العزى بن عبد شمس بن عبد مناف، وأمه هند بنت خويلد أخت خديجة عليها‌السلام ، واسم أبو العاص «لقيط» أو «مقسم» بسكر الميم، أو «ياسر» (1) ، أسر يوم بدر ففدته زينب فأطلقه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وأمها زينب بنت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، تزوجها ابن خالتها أبو العاص فولدت له ولداً وبنتاً، أما الولد فقد مات صغيراً، وأما البنت فاسمها «أمامة» تزوجها أمير المؤمنين عليه‌السلام تنفيذاً لوصية فاطمة الزهراء عليها‌السلام بعد تسع ليال من وفاة السيدة المخدرة الكبرى - حسب رواية المعالم - (2) .

ولدت أمامة على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان يحبها، وحملها في الصلاة، وكان إذا ركع أو سجد تركها وإذا قام حملها (3) .

وأهديت له هدية فيها قلادة فدعا أمامة فأعلقها في عنقها (4) .

__________________

(1) أنظر: أسد الغابة 6 / 196 ترجمة 6035.

(2) العوالم 11 / 1082 ح 14، الخصائص الفاطمية 1 / 456 ح 6.

(3) أسد الغابة 7 / 25 ترجمة 6717.

(4) المصدر نفسه.

٢٧٠

وكان على عينها غمص فمسحه بيده (1) الشريفة فعوفيت.

تزوجها أمير المؤمنين عليه‌السلام تنفيذاً لوصية السيدة الصديقة عليها‌السلام حيث قالت عليها‌السلام :.. أوصيك أولاً أن تتزوج بعدي بابنة أختي أمامة فانها تكون لولدي مثلي، فان الرجال لابد لهم من النساء (2) .

وفي مصباح الأنوار: قالت: بنت أختي وتحنن على ولدي (3) .

وهذا وسام عظيم قلدته سيدة النساء لأمامة حيث شهدت لها بالولاء والمحبة والتحنن على ابناء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولما كبرت أمامة توجعت وجعاً شديداً حتى اعتقل لسانها، فكان الامامان الحسن والحسين عليهما‌السلام يسألانها وهي تجيبهما بالاشارة (4) .

قيل: إنّها ماتت سنة خمسين للهجرة (5) .

* * *

__________________

(1) الاصابة 4 / 236.

(2) البحار 43 / 192.

(3) البحار 43 / 217.

(4) أنظر: التهذيب 8 / 258 ح 936.

(5) البحار 21 / 183.

٢٧١

ليلى النهشلية

وهي ليلى بنت مسعود بن جابر بن مالك بن ربعي بن سلم بن جندل بن نهشل بن دارم بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم (1) .

ولسلم يقول الشاعر:

تسود أقوام وليسوا بسادة

بل السيد الميمون سلم بن جندل

وأم ليلى بنت مسعود عميرة بنت قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقر سيد أهل الوبر ابن عبيد بن الحارث، وهو مقاعس.

وأمها عناق بنت عاصم بن سنان بن خالد بن منقر.

وأمها بنت أعبد بن أسعد بن منقر.

وأمها بنت سفيان بن خالد بن عبيد بن مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم (2) .

في الغارات والبحار قال: لما نكح علي عليه‌السلام ليلى بنت مسعود النهشلية قالت:

__________________

(1) مناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام للكوفي 2 / 48.

(2) مقاتل الطالبيين: 57.

٢٧٢

ما زلت أحبّ أن يكون بيني وبينه سبب منذ رأيته قام مقاماً من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (1) .

وقال: تزوج علي عليه‌السلام ليلى بنت مسعود النهشلية فضربت له في داره حجلة فجاء فهتكها وقال: حسب أهل علي ما هم فيه (2) .

وولدت له عبيد الله وأبا بكر (3) .

* * *

__________________

(1) الغارات 1 / 93، البحار 42 / 139.

(2) المصدر نفسه، شرح النهج 2 / 202.

(3) المناقب (للكوفي) 2 / 48.

٢٧٣

خولة الحنفية

وهي خولة بنت إياس بن جعفر جان الصفا الحنفية

ويقال: بل كانت أمة لبني حنيفة، سندية سوداء، ولم تكن من أنفسهم، وإنّما صالحهم خالد بن الوليد على الرقيق ولم يصالحهم على أنفسهم.

وقيل: إنّها كانت من سبي بني حنيفة، اشتراها علي واتخذها أم ولد، فولدت له محمداً (1) .

وفي الاصابة: رأها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في منزله فضحك ثم قال: يا علي أما إنّك تتزوجها من بعدي، وستلد لك غلاماً فسمه باسمي، وكنه بكنيتي وانحله (2) .

عن الكلبي، عن ميمون بن مصعب المكّي بمكّة قال: كنّا عند أبي العباس بن سابور المكّي فأجرينا حديث أهل الردّة، فذكرنا خولة الحنفيّة ونكاح أمير المؤمنين عليه‌السلام لها فقال: أخبرني عبد الله بن الخير الحسيني، قال: بلغني أنّ الباقر محمد بن علي عليهما‌السلام - قال -:

__________________

(1) الجوهرة في نسب الامام علي عليه‌السلام : 58.

(2) الاصابة 4 / 289 ترجمة 357.

٢٧٤

كان جالساً ذات يوم إذ جاءه رجلان، فقالا: يا أبا جعفر! ألست القائل أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يرض بإمامة من تقدّمه؟

فقال: بلى.

فقالا له: هذه خولة الحنفيّة نكحها من سبيهم ولم يخالفهم على أمرهم مذ حياتهم؟!

فقال الباقر عليه‌السلام : من فيكم يأتيني بجابر بن عبد الله؟ - وكان محجوباً قد كفّ بصره -.

فحضر وسلّم على الباقر عليه‌السلام فردّ عليه وأجلسه إلى جانبه.

فقال له: يا جابر! عندي رجلان كرا أنّ أمير المؤمنين رضي بإمامة من تقدّم عليه، فاسألهما ما الحجّة في ذلك؟

فسألهما فذكرا له حديث خولة، فبكى جابر حتى اخضلّت لحيته بالدموع.

ثم قال: والله - يا مولاي - لقد خشيت أن أخرج من الدنيا وأن أُسأل عن هذه المسألة، والله إنّي كنت جالساً إلى جنب أبي بكر - وقد سبى بني حنيفة مع مالك بن نويرة من قبل خالد بن الوليد - وبينهم جارية مراهقة -.

فلمّا دخلت المسجد قالت: أيّها الناس! ما فعل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

قالوا: قُبض.

قالت: هل له بنية تقصد؟

قالوا: نعم هذه تربته وبنيته.

فنادت وقالت: السلام عليك يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أشهد أنّك تسمع صوتي وتقدر على ردّ جوابي، وإنّنا سبينا من بعدك، ونحن نشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك محمّداً رسول الله...

٢٧٥

ثم جلست فوثب إليها رجلان من المهاجرين أحدهما طلحة والآخر الزبير وطرحا عليها ثوبيهما.

فقالت: ما بالكم - يا معاشر الأعراب - تغيبون حلائلكم وتهتكون حلائل غيركم؟

فقيل لها: لأنّكم قلتم لا نصلّي ولا نصوم ولا نزكّي؟

فقال لها الرجلان اللذان طرحاً ثوبيهما: إنّا لغالون في ثمنك.

فقالت: أقسمت بالله وبمحمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّه لا يملكني ويأخذ رقبتي إلّا من يخبرني بما رأت أُمّي وهي حاملة بي؟ وأيّ شيء قالت لي عند ولادتي؟ وما العلّامة التي بيني وبينها؟ وإلّا بقرت بطني بيدي فيذهب ثمني ويطالب بدمي.

فقالوا لها: اذكري رؤياك حتى نعبرها لك.

فقالت: الذي يملكني هو أعلم بالرؤيا منّي؟

فأخذ طلحة والزبير ثوبيهما وجلسوا، فدخل أمير المؤمنين عليه‌السلام وقال: ما هذا الرجف في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

فقالوا: يا أمير المؤمنين امرأة حنفيّة حرّمت ثمنها على المسلمين وقالت: من أخبرني بالرؤيا التي رأت أُمّي وهي حاملة بي يملكني.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ما ادّعت باطلاً، أخبروها تملكوها.

فقالوا: يا أبا الحسن! ما منّا من يعلم، أما علمت أنّ ابن عمّك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد قبض وأخبار السماء قد انقطعت من بعده.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : أخبرها بغير اعتراض منكم؟

قالوا: نعم.

فقال عليه‌السلام : يا حنفيّة! أخبرك وأملكك؟

فقالت: لعلّك الرجل الذي نصبه لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في صبيحة يوم الجمعة بغدير خم علماً للناس؟

٢٧٦

فقال: أنا ذلك الرجل.

قالت: من أجلك نهبنا، ومن نحوك أتينا، لأنّ رجالنا قالوا: لا نسلّم صدقات أموالنا ولا طاعة نفوسنا إلّا لمن نصبه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فينا وفيكم علماً.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّ أجركم غير ضائع، وإن الله يوفي كلّ نفس ما عملت من خبر.

ثم قال: يا حنفيّة! ألم تحمل بك اُمّك في زمان قحط قد منعت السماء قطرها، والأرضون نباتها، وغارت العيون والأنهار حتى أنّ البهائم كانت ترد المرعى فلا تجد شيئاً، وكانت اُمّك تقول لك: انّك حمل مشوم في زمان غير مبارك، فلمّا كان بعد تسعة أشهر رأت في منامها كأن قد وضعت بك، وأنّها تقول: إنّك حمل مشوم في زمان غير مبارك، وكأنّك تقولين: يا اُمّي لا تتطيّرن بي فإنّي حمل مبارك أنشأ منشأ مباركاً صالحاً، ويملكني سيّد، واُرزق منه ولداً يكون للحنفيّة عزّاً؟

فقالت: صدقت.

فقال عليه‌السلام : إنّه كذلك وبه أخبرني ابن عمّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقالت: ما العلامة التي بيني وبين اُمّي؟

فقال لها: لمّا وضعتك كتبت كلامك والرؤيا في لوح من نحاس وأودعته عتبة الباب، فلمّا كان بعد حولين عرضته عليك فأقررت به، فلمّا كان بعد ستّ سنين عرضته عليك فأقررت به، ثم جمعت بينك وبين اللوح وقالت لك: يا بنيّة إذا نزل بساحتكم سافكٌ لدمائكم، وناهب لأموالكم، وسابٍ لذراريكم، وسبيت فيمن سبي، فخذي اللوح معك واجتهدي أن لا يملكك من الجماعة إلّا من خبرك بالرؤيا وبما في هذا اللوح.

فقالت: صدقت... يا أمير المؤمنين عليه‌السلام .

ثم قالت: فأين هذا اللوح؟

٢٧٧

فقال: هو في عقيصتك.

فعند ذلك دفعت اللوح إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام .

ثم قالت: يا معاشر الناس! اشهدوا أنّي قد جعلت نفسي له عبدة، فقال عليه‌السلام : بل قولي زوجة، فقالت: اشهدوا أن قد زوّجت نفسي - كما أمرني - بعليّ عليه‌السلام . فقال عليه‌السلام : قد قلبتكِ زوجة، فماج الناس، فقال جابر: فملكها والله يا أبا جعفر بما ظهر من حجّته وثبت من بيّنته، فلعن الله من اتّضح له الحقّ ثم جحد حقّه وفضله، وجعل بينه وبين الحقّ ستراً (1) .

* * *

__________________

(1) البحار:

٢٧٨

الصهباء

وهي أم حبيبة بنت ربيعة بن بجير بن العبد بن علقمة بن الحارث بن عتبة بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر بن جيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل.

وكانت سبية أصابها خالد بن الوليد في خلافة أبي بكر حين أغار على بني تغلب بناحية عين تمر، ولدت له عمر ورقية (1) .

* * *

__________________

(1) الطبقات الكبرى 3 / 19، البحار 42 / 90.

٢٧٩

أم مسعود

أم مسعود (سعيد) بنت عروة بن مسعود بن معتب بن مالك الثقفي، وولدت له عليه‌السلام رملة وأم الحسن (1) .

* * *

__________________

(1) المصدر نفسه.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

جاهلين.

ولماذا ما جاءنا عليٌّ ليذكِّرنا، ليخبرنا، ليعرّفنا الحق والحقيقة؟

ولهذا كان عليّعليه‌السلام يحمل السيدة فاطمة الزهراء على أتان(١) ، فيدور بها أربعين صباحاً على بيوت المهاجرين والأنصار، والحسن والحسين معها، وهي تقول:

(يا معشر المهاجرين والأنصار، انصروا الله وابنة نبيّكم، وقد بايعتم رسول الله يوم بايعتموه أن تمنعوه وذرّيته ممّا تمنعون منه أنفسكم وذراريكم.

فَفوا لرسول الله ببيعتكم!)

فما أعانها أحد، ولا أجابها ولا نصرها.

فانتهت إلى معاذ بن جبل فقالت: يا معاذ بن جبل! إنّي قد جئتك مستنصرة، وقد بايعتَ رسولَ الله على أن تنصره وذرّيّته، وتمنعه ممّا تمنع منه نفسك وذرّيّتك، وإنّ أبا بكر قد غصبني على فدك وأخرج وكيلي منها.

قال: فَمعي غيري؟

قالت: لا، ما أجابني أحد.

قال: فأين أبلغ أنا مَن نصرك؟

خرجت السيدة من دار معاذ وهي تقول له: والله لا أُنازعنّك الفصيح من رأسي حتى أرِدَ على الرسول الله.

ودخل ابن معاذ فقال لأبيه: ما جاء بابنة محمد إليك؟

قال: جاءت تطلب نصرتي على أبي بكر، فإنّه أخذ منها فدكاً.

قال: فما أجبتها؟

قال: قلت: وما يبلغ نصرتي أنا وحدي؟

قال: فأبيت أن تنصرها؟

____________________

(١) الأتان: الحمارة.

٤٨١

قال: نعم!

قال: فأيّ شيء قالت لك؟

قال: قالت لي: والله لا أُنازعنّك الفصيح من رأسي حتى أرِدَ على رسول الله.

فقال: أنا والله لا أُنازعنّك الفصيح من رأسي حتى أرد على رسول الله.

وذكر ابن قتيبة الدينوري في (الإمامة والسياسة) ص١٩: قال: وخرج علي (كرّم الله وجهه) يحمل فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على دابّة ليلاً في مجالس الأنصار تسألهم النصرة، فكانوا يقولون يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو أنّ زوجك وابن عمّك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به.

فيقول عليّ (كرّم الله وجهه) أفكنت أدَع رسولَ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في بيته لم أدفنه، وأخرج أُنازع الناس سلطانه؟

فقالت فاطمة: ما صنع أبو الحسن إلاّ ما كان ينبغي له، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم.

٤٨٢

فاطمة الزهراءعليها‌السلام في بيت الأحزان

لا أعلم ما كان تأثير بكاء السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام في النفوس المريضة حتى شعروا بالانزعاج؟!

وهل بكاء امرأة جالسة في بيتها يسلب الراحة من أُولئك الشخصيات الفذّة ‍‍؟!

لقد اجتمع شيوخ أهل المدينة وأقبلوا إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام وقالوا له: يا أبا الحسن إنّ فاطمة تبكي الليل والنهار فلا أحد منّا يهنأ بالنوم في الليل على فُرشنا، ولا بالنهار لنا قرار على أشغالنا وطلب معايشنا، وإنّا نخبرك أن تسألها إمّا أن تبكي ليلاً أو نهاراً.

فأقبل الإمام عليّ حتى دخل على فاطمة الزهراء وهي لا تفيق من البكاء، ولا ينفع فيها العزاء، فلمّا رأته سكنت هنيئة فقال لها: يا بنت رسول الله إنّ شيوخ المدينة يسألونني أن أسألك إمّا أن تبكي أباك ليلاً وإمّا نهاراً.

فقالت: يا أبا الحسن ما أقلّ مكثي بينهم! وما أقرب مغيبي من بين أظهرهم، فو الله لا أسكت ليلاً ولا نهاراً أو أُلحق بأبي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقالعليه‌السلام : افعلي يا بنت رسول الله ما بدا لكِ(١) .

نعم، إنّ شيوخ المدينة لا يعرفون حق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقدره ومنزلته، فلو كانوا يعرفون ذلك لكانوا يشاركون ابنته

____________________

(١) بحار الأنوار ج٤٣.

٤٨٣

الوحيدة في البكاء ويساعدونها في ذرف الدموع على أشرف ميت وأعزّ فقيد.

ويا ليتهم حين لم يشاركوها ولم يساعدوها كانوا يسكتون ولا يمنعونها عن البكاء على مصائبها العظيمة.

ولكنّهم معذورون؛ لأنّ السياسة فرضت عليهم أن يمنعوا حبيبة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن البكاء على سيّد الأنبياء!

يحق للسيدة فاطمة أن لا تمتنع عن البكاء على تلك الفاجعة العظمى والكارثة الكبرى لأجل أُناس لهم غايات وأهداف يعلمها الله تعالى.

فبنى لها الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام بيتاً نازحاً عن المدينة سُمّي (بيت الأحزان )، وكانت إذا أصبحت قدّمت الحسن والحسين أمامها، وخرجت إلى البقيع باكية فلا تزال بين القبور باكية، فإذا جاء الليل أقبل أمير المؤمنين إليها وساقها بين يديه إلى منزلها.

فليهنأ أُولئك المنزعجون عن بكاء فاطمة!! ولترتاح ضمائرهم، وليناموا على فُرشهم ليلاً نومة عميقة هنيئة بدون أن يشعروا بالأذى من بكاء فاطمة العزيزة.

ونرى - هنا - الشعراء يشيرون إلى هذه المأساة التي يظهر فيها الجفاء بأسوأ منظر:

يقول أحدهم:

منعوا البتول عن النياحة إذ

غدت تبكي أباها ليلها ونهارها

قالوا لها: قَرّي فقد آذيتنا

أنّى؟ وقد سلب المصاب قرارها

____________________

(١) قال السمهودي في تاريخ المدينة ج ٢ ص ٩٥: إنّ الغزالي ذكر استحباب الصلاة في مسجد فاطمةعليها‌السلام بالبقيع، وقال غيره: انه المعروف بـ (بيت الحزن) لأن فاطمةعليها‌السلام اقامت فيه أيام حزنها على أبيها.

٤٨٤

ويقول الآخر:

والقائلين لفاطمٍ: آذيتنا

من طول نَوحٍ دائمٍ وحنينِ

وقد رأى أحد علمائنا - وهو السيد باقر الهندي - في المنام الإمام المهدي المنتظرعليه‌السلام فقال له الإمام مشيراً إلى هذه المأساة:

أتراني اتخذتُ لا وعلاها

بعد بيت الأحزان بيت سرور؟

٤٨٥

فاطمة الزهراءعليها‌السلام طريحة الفراش

أسفي عليها.

أسفي على شبابها، أسفي على آلامها، أسفي على قلبها المتوقّد الملتهب.

أسفي على خاطرها المنكسر.

صارت طريحة الفراش، أخذ المرض والهزال منها كل مأْخذ.

واستولى الذبول على تلك الزهرة الزهراء.

إنّها لا ترجو العلاج والدواء، ولا تأمل في البقاء.

إنّها تنتظر الموت، تنتظر التخلّص من هذه الحياة.

تتمنّى أن تلتحق بأبيها الرسول.

لقد اقتربت شمسها نحو الغروب.

لقد كادت شمعة الرسول أن تنطفئ.

لقد ضاقت الدنيا وضُيّقت عليها.

تنظر إلى زوجها العظيم، جليس الدار، مسلوب الإمكانيات، مغصوباً حقّه وإلى أملاكها قد صودرت، وإلى أموالها قد غُصبت.

استغاثت فلم يغثها أحد، واستنصرت فلم ينصرها أحد.

منعوها عن البكاء على أبيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشرف الآباء.

٤٨٦

وعن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه كان من دعائها في شكواها: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث فأغثني، اللّهمّ زحزحني عن النار وأدخلني الجنّة وألحقني بأبي محمّد.

فإذا قال لها أمير المؤمنين: عافاكِ الله وأبقاكِ. تقول: يا أبا الحسن ما أسرع اللحاق برسول الله(١) .

وعن الإمام زين العابدين عن أبيه الحسينعليهما‌السلام قال: لما مرضت فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصَّت إلى عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام أن يكتم أمرها ويخفي خبرها، ولا يؤذن أحداً بمرضها، ففعل ذلك، وكان يمرّضها بنفسه وتعينه على ذلك أسماء بنت عميس على استسرار بذلك... إلى آخر الحديث(٢) .

يستفاد من هذا الحديث مدى تألُّم السيدة فاطمة الزهراء من ذلك المجتمع الذي عرفت موقفه اتجاه بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقد يكون الاستياء عميقاً، في النفس كالجرح الغائر في البدن الذي يطول بُرؤُه أو لا يبرأ على مرّ الزمان.

وهكذا يزهد الإنسان المتألِّم في المجتمع، ويختار الاعتزال عنهم، وبعد أن كان يستأنس بهم صار لا يحب الالتقاء بهم والتحدّث معهم.

وإنّما يدرك هذه الحالة كل مَن رأى الجفاء والقسوة من أقاربه أو أصدقائه أو مجتمعه، فإنّه ينزعج حتى من رؤيتهم فكيف بالتحدّث والمجالسة معهم، وقد يبلغ الأمر بالإنسان أن يملّ الحياة ويفضّل الموت كي يستريح من الحياة التي يعيشها مع أهل الجفاء والقسوة.

____________________

(١) دلائل الإمامة لابن جرير ص ٤٣، بحار الأنوار ج ٤٣ ص ٢١٧.

(٢) بحار الأنوار ج ٤٣ عن مجالس المفيد.

٤٨٧

اختارت السيدة فاطمة زوجها العظيم ليقوم بتمريضها، ولا أعلم كيفيّة تمريض الإمام إيّاها، فهل كان الإمام يصنع لها طعاماً يليق بالمرضى، أو يتولّى هو أُمور بيته بنفسه؟

وعلى كل تقدير، فقد كانت أسماء بنت عميس لها شرف التعاون في تمريض السيدة فاطمة، ولعلّ السبب في انتخابها لهذه المهمّة هو أنّه كانت العلاقات بين السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام وبين أسماء بنت عميس وُديّة وطيّبة للغاية، إلى درجة أنّها كانت تعتبر نفسها من أُسرة بني هاشم، وخاصة وأنّها كانت زوجة لجعفر بن أبي طالب.

وكانت هي بالذات امرأة عاطفية، تؤمن بالوفاء والإنسانية، وتقدّر الحقوق لأهلها. وتلتزم بالقيم والمفاهيم العليا.

ويستفاد من مطاوي التاريخ أنّها كانت - بالإضافة إلى ذكائها الوافر وعقلها الوقّاد - حسنة الأخلاق، طيّبة المعاشرة، وكانت السيدة فاطمة الزهراء تبادلها الحب والمودّة والشعور.

ولمّا قُتل جعفر بن أبي طالب في غزوة مؤتة وبلغ رسول الله الخبر بكى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وبكى الصحابة، ووصل الخبر إلى حجرات الرسول فبكت الهاشميات، وأقبل الرسول ودخل على أسماء فدعى بأولاد جعفر وجعل يمسح على رؤُوسهم، ويشمّهم ويضمّهم إلى صدره، فأحسّت أسماء بالشرّ، وقالت: يا رسول الله هل بلغك شيء عن جعفر؟

فبكى الرسول وقال لها: احتسبي جعفراً فقد قُتل. فبكت وصاحت.

وأقبل الرسول إلى دار ابنته فاطمة وقال لها: اصنعي طعاماً لآل جعفر فإنّهم مشغولون بالعزاء.

فعمدت السيدة فاطمة إلى الدقيق وعجنته وخبزت خبزاً كثيراً وعمدت

٤٨٨

إلى مقدار من التمر وأرسلت بالخبز والتمر إلى دار آل جعفر.

والعجيب أنّ الرسول لم يأمر إحدى زوجاته ولا سائر الهاشميّات بذلك، فلعلّ السبب في ذلك أنّ الرسول أراد أن يكون هذا الثواب الجزيل من نصيب ابنته فاطمة.

أو أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اختار لها هذا العمل نظراً للعلاقات الطيّبة والسوابق الحسنة والخدمات الجمّة التي أسدتها أسماء بنت عميس إلى أهل بيت الرسول.

فلقد مرّ عليك أنّ أسماء حضرت عند السيدة خديجة ساعة وفاتها، وأنّها ساهمت في التدابير التي اتخذت في زواج السيدة فاطمة الزهراء، بل وحضرت أسماء عند السيدة فاطمة ساعة ولادة الإمام الحسين، وقامت بدور المولِّدة وساعدْنها بعض النساء أيضاً.

وبالرغم من أنّها تزوّجت بأبي بكر بعد مقتل زوجها جعفر فإنّها استمرّت على ولائها، ولم تتغيّر قيد شعرة، وحتى بعد وفاة الرسول، وموقف أبي بكر اتجاه أهل البيت كان موقفاً معروفاً.

وبالرغم من الحرب الباردة بين أهل البيت وبين السلطة المتمثّلة في أبي بكر فإنّ أسماء بنت عميس لم تتأثّر بعواطف زوجها، وتحدّت السلطة تحدّياً لا تنقضي عجائبه.

فكيف كان أبو بكر يسمح لها بالذهاب إلى دار عليّ لخدمة الزهراء وخدمة أولادها؟

وكيف لم يأمرها بقطع علاقاتها مع أهل البيت في تلك الظروف الخاصة؟

وعلى كل حال، فقد كانت السيدة فاطمة الزهراء تستأنس بأسماء وتنسجم معها وتسكن إليها، وتبثُّ إليها آلامها، وكأنّها أُختها، وكأنّها

٤٨٩

أحبّ الناس إليها، وأقربهنّ إلى قلبها.

قالت لها السيدة فاطمة في أواخر أيام حياتها: كيف أصنع وقد صرت عظماً وقد يبس الجلد على العظم؟

وفي رواية التهذيب عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام قال... وقالت فاطمة لأسماء: إنّي نحلت وذهب لحمي، ألا تجعلين لي شيئاً يسترني؟

قالت أسماء: إنّي كنت بأرض الحبشة رأيتهم يصنعون شيئاً أفلا أصنع لكِ، فإن أعجبك أصنع لكِ؟

قالت: نعم.

فدعت (أسماء) بِسَرير فأكبّته لوجهه، ثم دعت بجرائد فشدّتها على قوائمه ثم جلَّلته ثوباً فقالت: هكذا رأيتهم يصنعون.

فقالت: اصنعي لي مثله، استريني سترك الله من النار.

وفي رواية الاستيعاب: فقالت فاطمة: ما أحسن هذا وأجمله لا تعرف به المرأة من الرجل.

ورُوي أنّهاعليها‌السلام - لما رأت ما صوَّرته أسماء - تبسَّمت، وما رُؤيت مبتسمة - بعد أبيها - إلاّ يومئذٍ.

٤٩٠

أسْبَابُ انحراف صحّتِها

انتشر خبر مرض السيدة فاطمة الزهراء في المدينة، وسمع الناس بانحراف صحّتها.

ولم تكن تشكو السيدة فاطمة الزهراء من داء عضال، بل الهموم والمصائب والآلام هي التي ساعدت على استيلاء الهزال والذبول عليها.

وكثرة البكاء على أبيها وعلى حياتها ساعدت على زوال الطراوة والنضارة عن وجهها.

والجفاء والخشونة والمواقف غير المشرّفة التي شاهدتها من بعض المسلمين، وانقلاب الأمور، وتبدّل الأحوال وتغيّر الأوضاع السياسية والاجتماعية كان لها أكبر الأثر عليها.

ولقد حدث لها بين حائط دارها والباب حوادث أدّت إلى سقوط جنينها.

والسياط التي أدمت جسمها الطاهر، وتركت في بدنها آثاراً عميقة.

والضرب المبرّح الذي ألَّم جسمها ونفسها وروحها.

كل هذه الأمور ساهمت في انحراف صحّتها، وقعودها عن ممارسة أعمالها المنزلية.

٤٩١

عيادة الشيخين للسيّدة الزهراءعليها‌السلام

انتشر خبر استياء السيدة فاطمة من السلطة، ونقمتها على الذين آزروا تلك السلطة، ونبذوا وراءهم كل المفاهيم والقيم، وتناسوا كل آية من القرآن نزلت في آل الرسول.

وأعرضوا عن كل حديث سمعوه من شفتي الرسول في حق السيدة فاطمة الزهراء وزوجها وولديها.

وأخيراً تولَّد شيء من الوعي عند الناس، وعرفوا أنّهم مخطئون في تدعيم السلطة الحاكمة التي لا تعترف بها أُسرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

تلك السلطة التي كان موقفها تجاه بنت الرسول موقفاً غير حسن.

وأخيراً انتبه أفراد السلطة للاستياء العام المستولي على القلوب من سوء تصرّفاتهم.

فأرادوا تغطية أعمالهم واستدراك ما فات، فقرّروا أن يعودوا السيدة فاطمة الزهراء لاسترضائها، وعند ذلك ينتهي كل شيء، وتكون المأساة نسياً منسيّاً.

هكذا تفكّروا وتدبّروا.

وقد رأينا في زماننا هذا الكثير من المجرمين الذين يعتدون على الأبرياء بالإهانة والتحقير والاستخفاف وأنواع الظلم والتعذيب، ثم يأتون إلى المظلوم ويعتذرون منه سرّاً، وهم يحسبون أنّهم يغسلون أعمالهم بالاعتذار.

٤٩٢

ولكنّ السيدة الزهراء كانت تعرف هذه الأساليب وتعلم كل هذه الأمور.

وإليك الواقعة - كما ذكرها ابن قتيبة في (الإمامة والسياسة ج١ ص٤) وعمر كحالة في (أعلام النساء) ٣ ص٣١٤:

إنّ عمر قال لأبي بكررضي‌الله‌عنه : انطلق بنا إلى فاطمة فإنّا قد أغضبناها، فانطلقا جميعاً، فاستأذنا على فاطمة فلم تأذن لهما، فأتيا عليّاً فكلَّماه فأدخلهما عليها فلمّا قعدا عندها حوّلت وجهها إلى الحائط فسلَّما عليها، فلم ترد - عليهما - السلام.

فتكلّم أبو بكر فقال: يا حبيبة رسول الله!! والله إنّ قرابة رسول الله أحبُّ إليَّ من قرابتي وإنّك لأحبّ إليّ من عائشة ابنتي، ولوَددت يوم مات أبوكِ أنّي متُّ ولا أبقى بعده، أتراني أعرفكِ وأعرف فضلك وشرفك، وأمنعك حقّك وميراثك من رسول الله؟

إلاّ أنّي سمعت أباك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: لا نورّث، ما تركناه فهو صدقة.

فقالت: أرأيتكما أن حدّثكتما حديثاً عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تعرفانه وتفعلان به؟

فقالا: نعم.

فقالت: نشدتكما الله: ألم تسمعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي، فمَن أحبّ فاطمة ابنتي فقد أحبّني، ومَن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومَن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟

قالا: نعم، سمعناه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

قالت: فإني أُشهد الله وملائكته أنّكما أسخطتماني وما أرضيتماني،

٤٩٣

ولئن لقيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأشكونّكما إليه.

فقال أبو بكر: أنا عائذ بالله تعالى من سخطه ومن سخطك يا فاطمة. ثم انتحب أبو بكر يبكي، حتى كادت نفسه أن تزهق، وهي (فاطمة) تقول: والله لأدعونَّ عليك في كل صلاة أُصلّيها. ثم خرج باكياً، فاجتمع الناس إليه فقال لهم: يبيت كل رجل معانقاً حليلته، مسروراً بأهله وتركتموني وما أنا فيه، لا حاجة لي في بيعتكم، أقيلوني بيعتي.

العيادة بصورة أُخرى

في علل الشرائع: لما مرضت فاطمةعليها‌السلام مرضها الذي ماتت فيه أتاها أبو بكر وعمر عائدين، واستأذنا عليها فأبت أن تأذن لهما، فلمّا رأى ذلك أبو بكر أعطى الله عهداً أن لا يظلّه سقف بيت حتى يدخل على فاطمة ويترضّاها، فبات في الصقيع، ما أظلّه شيء، ثم إنّ عمر أتى عليّاًعليه‌السلام فقال له: قد أتيناها (فاطمة) غير هذه المرّة مراراً نريد الإذن عليها وهي تأبى أن تأذن لنا حتى ندخل عليها فنترضّى، فإن رأيت أن تستأذن لنا عليها فافعل.

قال: نعم، فدخل عليّ على فاطمة فقال: يا بنت رسول الله قد كان من هذين الرجلين ما قد رأيت، وقد تردّدا مراراً كثيرة ورددتهما ولم تأذني لهما، وقد سألاني أن أستأذن لهما عليك؛ فقالت: والله لا أأذن لهما، ولا أُكلّمهما كلمة من رأسي حتى ألقى أبي فأشكوهما إليه بما صنعاه وارتكباه منّي.

قال علي: فإنّي ضمنت لهما ذلك. قالت: إن كنت ضمنت لهما شيئاً فالبيت بيتك، والنساء تتبع

٤٩٤

الرجال، لا أُخالف عليك بشيء فأْذن لمـَن أحببت.

فخرج عليّ فأذن لهما، فلمّا وقع بصرهما على فاطمة سلّما عليها، فلم تردّ عليهما، وحوَّلت وجهها عنهما، فتحوّلا واستقبلا وجهها حتى فعلت مراراً وقالت: يا عليّ جافِ الثوب وقالت - لنسوة حولها -: حوّلن وجهي!! فلمّا حوّلن وجهها حوّلا إليها فقال أبو بكر: يا بنت رسول الله إنّما آتيناك ابتغاء مرضاتك واجتناب سخطك، نسألك أن تغفري لنا وتصفحي عمّا كان منّا إليك.

قالت: لا أُكلّمكما من رأسي كلمة واحدة حتى ألقى أبي وأشكوكما إليه، وأشكو صنيعكما وفعالكما وما ارتكبتما منّي.

ثم التفتت إلى عليّ وقالت: إنّي لا أُكلّمهما من رأسي حتى أسألهما عن شيءٍ سمعاه من رسول الله، فإن صدقا رأيت رأيي.

قالا: اللّهمّ ذلك لها، وإنّا لا نقول إلاَّ حقّاً ولا نشهد إلاَّ صدقاً.

فقالت: أنشدكما بالله: أتذكران أنّ رسول الله استخرجكما في جوف الليل بشيءٍ كان حدث من أمر عليّ؟

فقالا: اللّهمّ نعم.

فقالت: أُنشدكما بالله هل سمعتما النبي يقول: فاطمة بضعة منّي وأنا منها، مَن آذاها فقد آذاني، ومَن آذاني فقد آذى الله، ومَن آذاها بعد موتي كان كمَن آذاها في حياتي، ومَن آذاها في حياتي كان كمَن آذاها بعد موتي؟

قالا: اللّهمّ نعم.

فقالت: الحمد لله. ثم قالت:

اللّهمّ إنّي أُشهدك فاشهدوا يا مَن حضرني: أنّهما قد آذياني في حياتي وعند موتي. والله لا أُكلِّمكما من رأسي كلمة حتى ألقى ربّي فأشكوكما

٤٩٥

إليه بما صنعتما به وبي، وارتكبتما منّي.

فدعا أبو بكر بالويل والثبور وقال: ليت أمي لم تلدني!!

فقال: عمر: عجباً للناس كيف ولّوك أُمورهم وأنت شيخ قد خرفت!!

تجزع لغضب امرأة وتفرح برضاها؟

وما لمـَن أغضب امرأة؟ وقاما وخرجا.

وفي كتاب بيت الأحزان: فلمّا خرجا قالت فاطمة لأمير المؤمنين (عليهما السّلام): قد صنعتُ ما اردتَ؟

قال: نعم.

قالت: فهل أنت صانع ما آمرك؟

قال: نعم.

قالت: فإنّي أُنشدك الله أن لا يصلّيا عليَّ ولا يقوما على قبري(١) .

أقول: لا حاجة إلى هذا البكاء المرّ الذي أوشك على إزهاق الروح - على حدّ تعبير رواية ابن قتيبة - ولا حاجة إلى الاستقالة ما دام العلاج مقدوراً للخليفة، ولا داعي بأن ينادي أبو بكر بالويل والثبور وبإمكانه أن يُرضي السيدة فاطمة بأن يردّ إليها حقوقها، ويرفع يده عن أراضيها، ويعتذر عن أعماله.

ولكنّ الرجل يريد أن يبقى على اعتدائه وعلى موقفه - الذي عرفته - بدون أي تنازل، وفي نفس الوقت يريد أن ترضى عنه فاطمة الزهراء!؟

لا أظن أنّ أيَّ إنسان أو مسلم أو قانون أو شعب يرضى بهذا، ولا أظن أنّ شريعةً أو ديناً أو ضميراً أو وجداناً أو منطقاً يقول بهذا سوى منطق العنف والضغط، ومنطق القوّة والقدرة.

ولكنّ السيدة فاطمة أقوى نفساً وروحاً من أن تخضع لهذا المنطق، أو بالأحرى: أن تنخدع بهذه المظاهر!

____________________

(١) بيت الأحزان ص ١٤٥.

٤٩٦

وهنا سؤال قد يتبادر إلى ذهن القارئ وهو: ما الذي دعا أبا بكر أن يلين ويخضع هكذا؟

وما الذي دعا الزهراء أن تثبت على رأيها، ولا تتضعضع عن موقفها؟

لقد أجاب الجاحظ على هذا السؤال، وكفانا مؤونة الجواب قال في رسائله ص٣٠٠ (... فإن قالوا: كيف تظن به ظلمها والتعدّي عليها، وكلما ازدادت عليه غلظة ازداد لها ليناً ورقّة حيث تقول له: والله لا أُكلمك أبداً، فيقول: والله لا أهجرك أبداً، ثم يتحمّل منها هذا الكلام الغليظ والقول الشديد في دار الخلافة وبحضرة قريش والصحابة مع حاجة الخلافة إلى البهاء والتنزيه، وما يجب لها من الرفعة والهيبة، ثم لم يمنعه ذلك عن أن قال معتذراً متقرّباً كلام المعظّم لحقّها، المكبِّر لمقامها، الصائن لوجهها، المتحنِّن عليها: ما أحد أعزّ عليَّ منك فقراً ولا أحب إليّ منك غنى، ولكن سمعت رسول الله يقول: إنّا معاشر الأنبياء لا نورِّث، ما تركناه صدقة؟؟

قيل لهم: ليس ذلك بدليل على البراءة من الظلم والسلامة من الجور.

وقد يبلغ من مكر الظالم ودهاء الماكر إذا كان أريباً وللخصومة معتاداً أن يظهر كلام المظلوم وذلَّة المنتصف، وحدب الوامق ومقت المحقّ... إلى آخر كلامه).

٤٩٧

عيادة أُم سلمة للسيّدة فاطمة الزهراء

تُعتبر السيدة أُمّ سلمة من خيرة زوجات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته وبعد مماته... فلم تؤذ النبي بكلامها أو تصرّفاتها، ولم تتآمر عليه مع ضرّاتها، كما حدث من بعضهنّ في قصّة المغافير ونزول قوله تعالى:( يَا أَيّهَا النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ) .

بل أحسنت صحبته ومعاشرته في حياته.

وبعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت لها مواقف مشرّفة ومشكورة تجاه آل رسول الله، ولم تنحرف عنهم في خضمّ الأحداث التي عصفت بهذه الذريّة الطاهرة، بل وقفت موقف المدافع والمحامي والناصر، وشاركتهم في الآلام والأحزان.

ولمّا مرضت السيدة فاطمةعليها‌السلام دخلت عليها أُمّ سلمة عائدةً لها فقالت: كيف أصبحتِ عن ليلتك(١) يا بنت رسول الله؟

قالتعليها‌السلام : أصبحت بين كَمد وكرب، فُقد النبي وظُلم الوصي.

هُتك - واللهِ - حجاب مَن أصبحت إمامته مقتضية، على غير ما شَرَع الله في التنزيل، وسنّها النبي في التأويل، ولكنّها أحقاد بدريَّة، وترات أُحُدية(٢) كانت عليها قلوب النفاق متمكّنة...) إلى آخر كلامهاعليها‌السلام (٣) .

____________________

(١) وفي نسخة: علَّتك.

(٢) ترات: جمع ترة - كعِدة -: الانتقام.

(٣) المناقب لابن شهر آشوب ج ٢ ص ٢٠٥.

٤٩٨

والجدير بالذكر: أنّ السيدة أُمّ سلمة هي الوحيدة - من بين زوجات النبي - التي جاءت لزيارة فاطمة الزهراءعليها‌السلام وعيادتها والسؤال عن صحّتها.

فأين كانت غيرها من الزَوجات؟!

ولماذا لم يشاركنَها في الآلام، وهي البنت الوحيدة لرسول الله؟!

هذا... وسوف تقرأ أنّ السيدة فاطمة أوصت إلى أمير المؤمنين (عليهما السّلام) أن يخبر أُمّ سلمة بوفاتها.

٤٩٩

عيادة عائشة بنت طلحة

للسيّدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام

ودخلت عليها عائشة بنت طلحة فقالت: بأبي أنتِ وأُميّ: ما الذي يبكيك؟

فقالتعليها‌السلام لها: أسائلتي عن هنة حلّق بها الطائر وحفى بها السائر، ورَفع إلى السماء أمراً، ورُزئتُ في الأرض خبراً؟!

إن قُحيف تيم، وأُحيول عدى(١) جازيا أبا الحسن في السباق، حتى إذا تفرّيا بالخناق اسرّا له الشنان(٢) وطوياه الاعلان.

فلمّا خبا نور الدين، وقُبض النبي الأمين، نَطقا بِفَورهما، ونفثا بسَورهما(٣) وإدالاً بفدك(٤) فيا لها لمن ملك.

إنّها عطيّة الربّ الأعلى للنجيّ الأوفى، ولقد نَحَلنيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله للصبيّة السواغب من نجله ونسلي، وإنّها لبعلم الله وشهادة أمينه.

فان انتزعا مني البُلغة، ومنعاني اللمظة، احتسبتُها يوم الحشر زلفة، وليجدنّها آكلوها ساعرةَ حميم في لظى جحيم(٥) .

____________________

(١) قحيف تصغير قحف، باعتبار أنّ أبا بكر هو ابن قحافة، وقحافة مشتق من القحف وهو جرف ما في الإناء من ثريد وغيره، فهو كناية عن الجشع والأكل والشرب بنَهَم شديد / لسان العرب - حرف الفاء.

أحَيول: تصغير أحول، وهو الذي في عينه حَوَل أي: تغيير.

(٢) الشنآن: البغضاء.

(٣) الفَور: الغليان والاضطراب. نفث: تكلَّم، ومنه: نفث الشيطان على لسانه. السَور - بفتح السين والواو -: حدّة الشيء وشدَّتُه.

(٤) إدالاً: غَلباً.

(٥) كتاب الأمالي للشيخ الطوسي ج ١ ص ٢٠٧.

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568