فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد10%

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 568

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 248057 / تحميل: 11086
الحجم الحجم الحجم
فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

فلمّا اكتملنا جميعاً تحت الكساء أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بطَرفي الكساء وأومأ بيده اليمين إلى السماء وقال: اللّهمّ إنّ هؤلاء أهل بيتي وخاصَّتي وحامَّتي لحمهم لحمي، ودمهم دمي، يؤلمني ما يؤلمهم ويُحرجني ما يُحرجهم (١) ، أنا حرب لمـَن حاربهم، وسلم لمـَن سالمهم، وعدوٌ لمـَن عاداهم، ومحبٌّ لمـَن أحبَّهم، إنَّهم منّي وأنا منهم، فاجعل صلواتك وبركاتك ورحمتك وغفرانك ورضوانك عليَّ وعليهم، وأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

قال الله عزّ وجل: يا ملائكتي ويا سكّان سماواتي إنّي ما خلقت سماءً مبنيّة، ولا أرضاً مدحيَّة، ولا قمراً منيراً، ولا شمساً مضيئة، ولا فلكاً يدور، ولا بحراً يجري، ولا فُلكاً تسري إلاَّ في محبّة هؤلاء الخمسة الذين هم تحت الكساء.

فقال الأمين جبرئيل: يا ربّ مَن تحت الكساء؟ فقال الله عزّ وجل: هم أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة، هم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها.

فقال جبرئيل: يا ربّ أتأذن لي أن أهبط إلى الأرض لأكون لهم سادساً؟ فقال الله عزّ وجل: قد أذنت لك. فهبط الأمين جبرئيل فقال: السلام عليك يا رسول الله!‍ العلي الأعلى يقرئك السلام، ويخصّك بالتحيّة والإكرام ويقول لك: وعزّتي وجلالي! إنّي ما خلقت سماءً مبنيّة، ولا أرضاً مدحيَّة، ولا قمراً منيراً ولا شمساً مضيئة، ولا فلكاً يدور، ولا بحراً يجري ولا فُلكاً تسري إلاَّ لأجلكم، وقد

____________________

(١) وفي نسخة: ويحزنني ما يحزنهم.

٨١

أذن لي أن أدخل معكم تحت الكساء، فهل تأذن لي أن أدخل أنت يا رسول الله؟

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وعليك السلام يا أمين وحي الله قد أذنت لك. فدخل جبرئيل معهم تحت الكساء فقال: إن الله قد أوحى إليك(١) يقول:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) .

فقال علي بن أبي طالب: يا رسول الله أخبرني ما لجُلُوسِنا هذا تحت الكساء من الفضل عند الله؟

فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : والذي بعثني بالحق نبيّاً، واصطفاني بالرسالة نجيّاً، ما ذُكر خبرنا هذا في محفل من محافل أهل الأرض وفيه جمع من شيعتنا ومحبّينا إلاَّ ونزلت عليهم الرحمة وحفّت بهم الملائكة، واستغفرت لهم إلى أن يتفرّقوا.

فقال عليعليه‌السلام : إذن - والله فزنا - وفازت شيعتنا وربِّ الكعبة، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : والذي بعثني بالحق نبيّاً، واصطفاني بالرسالة نجيّاً ما ذكر خبرنا هذا في محفل من محافل أهل الأرض وفيه جمع من شيعتنا ومحبّينا وفيهم مهموم إلاَّ وفرّج الله همَّه، ولا مغموم إلاَّ وكشف الله غمّه، ولا طالب حاجة إلاَّ وقضى الله حاجته.

فقال علي عليه‌السلام إذن - والله - فُزنا وسعدنا وكذلك شيعتنا فازوا وسعدوا في الدنيا والآخرة. انتهى

الشيعة وحديث الكساء

لقد جرت السيرة عند الشيعة - طوال القرون والعصور - على تلاوة

____________________

(١) وفي نسخة: فقال لأبي: إنّ الله قد أوحى إليكم يقول...

٨٢

حديث الكساء في المجالس والمجامع والمحافل، للتبرّك واستجابة الدعاء ونزول الرحمة الإلهيّة.

وهناك الآثار العجيبة التي ظهرت ببركة تلاوة هذا الحديث الشريف، من شفاء المرضى وقضاء الحوائج ورفع الشدائد والمكاره.

وقد روي حديث الكساء هذا، في المصادر التالية:

١ - غرر الأخبار للديلمي صاحب كتاب إرشاد القلوب، وهو من علماء القرن الثامن الهجري.

٢ - المنتَخب للطريحي صاحب كتاب مجمع البحرين.

٣ - نهج المحجّة في فضائل الأئمّة للشيخ علي نقي بن أحمد الاحسائي، وهو من علماء القرن الثاني عشر.

٤ - عوالم العلوم للشيخ عبد الله أفندي البحراني... فقد رواه بأسانيد عالية متصلة، عن سلسلة من العلماء العظام، فيهم: العلاّمة الحلّي، والشيخ الطوسي، والشيخ المفيد، وابن قولويه، وعلي بن إبراهيم - صاحب التفسير - والشيخ الكليني، وغيرهم.

كما أفرد بعض العلماء كتباً مستقلّة حول هذا الحديث وشرحه وبيان طُرقه.

هذا... ومَن أراد التفصيل فليراجع كتاب إحقاق الحق للقاضي نور الله التستري ج ٢ ص ٥٥٨.

الشعراء وحديث الكساء

كما كان للشعراء دور كبير في نظم هذا الحديث الشريف وصياغته في قوالب شعرية رائعة، باللغة العربية والفارسية والهندية (الأُردو).

ومنهم السيد الأجلّ السيد محمد القزويني بن السيد مهدي القزويني

٨٣

النجفي الحلّي، حيث نظم هذا الحديث الشريف في القصيدة التالية:

روت لنا فاطمة خير النسا

حديث أهل الفضل أصحاب الكسا

تقول: إنّ سيّد الأنامِ

قد جاءني يوماً من الأيامِ

فقال لي: إنّي أرى في بدني

ضعفاً أراه اليوم قد أنحلني

قومي عَليَّ بالكسا اليماني

وفيه غطّيني بلا تواني

قالت: فجئته وقد لبّيته

مسرعةً وبالكسا غطيّته

وكنت أرنو وجهه كالبدرِ

في أربعٍ بعد ليالٍ عشرِ

فما مضى إلاَّ يسير من زمن

حتى أتى أبو محمد الحسن

فقال: يا أُمّاه إنّي أجدُ

رائحةً طيّبةً أعتقدُ

بأنّها رائحة النبيِّ

أخ الوصي المرتضى عليِّ

قلت: نعم هاهو ذا تحت الكسا

مدثَّرٌ به، مغطىً واكتسى

فجاء نحوه ابنه مسلِّما

مستأذناً قال له: ادخل مكرما

فما مضى إلاَّ القليل إلاّ

جاء الحسين السبط مستقلاّ

فقال يا أُمّ أشمّ عندكِ

رائحةً كأنّها المسك الذكي

وحقِّ مَن أولاك منه شرفا

أظنّها ريح النبيّ المصطفى

قلت: نعم تحت الكساء هذا

بجنبه أخوك فيه لاذا

فأقبل السبط له مستأذنا

مسلّماً قال له: ادخل معنا

وما مضى من ساعةٍ إلاَّ وقدْ

جاء أبوهما الغضنفرُ الأسدْ

أبو الأئمّة الهداة النُّجبا

المرتضى رابع أصحاب الكسا

فقال يا سيّدة النساءِ

ومَن بها زُوِّجتُ في السماءِ

إنّي أشمّ في حماك رائحه

كأنّها الورد النديّ فايحه

يحكي شذاها عرف سيّد البشرْ

وخير مَن لبَّى وطاف واعتمرْ

٨٤

قلت: نعم تحت الكساء التحفا

وضمّ شبليك وفيه اكتنفا

فجاء يستأذن منه سائلا

منه الدخول قال: فادخل عاجلا

قالت: فجئت نحوهم مسلّمه

قال: ادخلي محبوّة مكرّمة

فعندما بهم أضاء الموضعُ

وكلّهم تحت الكساء اجتمعوا

نادى إلهُ الخلق جلّ وعلا

يُسمع أملاك السماوات العلى

أقسم بالعزّة والجلالِ

وبارتفاعي فوق كل عالي

ما من سما رفعتها مبنيّه

وليس أرض في الثرى مدحيّه

ولا خلقت قمراً منيرا

كلاّ ولا شمساً أضاءت نورا

وليس بحر في المياه يجري

كلاّ ولا فُلك البحار تسري

إلاّ لأجل مَن هم تحت الكسا

مَن لم يكن أمرهم ملتبسا

قال الأمين: قلت: يا ربّ ومَنْ

تحت الكسا؟ بحقّهم لنا أبِنْ

فقال لي: هم معدن الرساله

ومهبط التنزيل والجلاله

وقال: هم فاطمة وبعلها

والمصطفى والحسنان نسلها

فقلت: يا ربّاه هل تأذن لي

أن أهبط الأرض لذاك المنزلِ

فأغتدي تحت الكساء سادسا

كما جعلتُ خادماً وحارسا؟

قال: نعم. فجاءهم مسلّما

مستأذناً يتلو عليهم إنّما

يقول: إنَّ الله خصّكم بها

معجزة لمـَن غدا منتبها

أقرأكم ربُّ العلا سلامه

وخصّكم بغاية الكرامه

وهو يقول معلناً ومفهما

أملاكه الغرّ بما تقدّما

قال علي: قلت: يا حبيبي

ما لجلوسنا من النصيبِ؟

قال النبيُّ: والذي اصطفاني

وخصّني بالوحي واجتباني

ما إن جرى ذكرٌ لهذا الخبرِ

في محفل الأشياع خير معشرِ

إلاَّ وأنزل الإله الرحمه

وفيهم حفَّت جنود جمَّه

٨٥

من الملائك الذين صدقوا

تحرسهم في الدهر ما تفرّقوا

كلاّ وليس فيهم مغموم

إلاَّ وعنه كُشفت همومُ

كلاَّ ولا طالب حاجة يرى

قضاءها عليه قد تعسّرا

إلاَّ قضى الله الكريم حاجتَه

وأنزل الرضوان فضلاً ساحتَه

قال عليٌ: نحن والأحبابُ

أشياعنا الذين قِدماً طابوا

فُزنا بما نلنا وربِّ الكعبه

فليشكرنَّ كلُ فَردٍ ربَّه

يا عجباً يستأذنُ الأمينُ

عليهمُ ويهجمُ الخئونُ

قال سُليمٌ: قلتُ: يا سلمانُ

هل دخلوا ولم يك استئذانُ

فقال: أي وعزَّة الجبّارِ

ليس على الزهراءِ من خمارِ

لكنّها لاذت وراء البابِ

رعايةً للستر والحجابِ

فمذ رأوها عَصَروها عصره

كادت - بروحي - أن تموت حسره

تصيح: يا فضةُ أسنديني

فقد وربّي قتلوا جنيني

فأسقطت بنت الهدى وا حزنا

جنينها ذاك المسمَّى مُحسنا

٨٦

الزّكِيّة

لقد وردت كلمات في القرآن الكريم مشتقّة من التزكية في مواضع عديدة كقوله تعالى:( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكّاهَا ) وقوله:( أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً ) وقوله:( لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً ) وقوله( ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ ) .

وهذه الكلمة تستعمل في التطهير والنمو، فالآية الأولى معناها: قد أفلح مَن زكّى نفسه بالتطهير من الأخلاق الذميمة، الناشئة من شر البطن والكلام والغضب والحسد والبخل، وحب الجاه وحب الدُّنيا والكبر والعجب.

فالتطهير من هذه الصفات يكون بالتجرّد عنها، وبالعمل الصالح الذي هو ضد البخل والكبر، وما شابه ذلك.

ومعنى الآية الثانية: أقتلت نفساً طاهرة لم تصدر منها جناية أو أي عمل يوجب قتلها.

ومعنى الآية الثالثة. أي غلاماً طاهراً من الذنوب، تامّاً في أفعال الخير.

والسيّدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام زكية بجميع هذه المعاني والمفاهيم، وفي آية التطهير كفاية لإثبات هذه الأمور، فهي زكية أي مطهّرة من كل رجس، وقد ذكرنا معاني (الرجس) عند البحث عن آية التطهير.

وأمّا الآية الرابعة التي معناها النمو والزيادة، فإنَّ السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام زكيّة بذلك المعنى أيضاً، وقد ذكرنا بعض ما يتعلّق بهذا الموضوع في معنى كلمة (المباركة).

٨٧

الراضِيَة

الرضا بما قدَّر الله تعالى لعبده يعتبر من أعلى درجات الإيمان بالله عزّ وجل، وقد رضيت السيدة فاطمة الزهراء بما قدّر لها من مرارة الحياة، وهذا الكتاب كلّه يحدّثك عن المصائب والنوائب التي انصبّت على فاطمة الزهراء منذ نعومة أظافرها إلى أن فارقت الحياة في عنفوان شبابها، وهي في جميع تلك المراحل راضية بما كتب الله لها من خوف واضطهاد وحرمان وفقر وأحزان وهموم وغموم ومآسي وآلام، وستجد شيئاً من تلك المكاره التي امتزجت بحياتها، تجدها في هذا الكتاب، ويجدر بها أن يشملها قوله تعالى:( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ) لأنّها راضية بثواب الله، راضية عن الله بما أعدّ الله لها، راضية بقضاء الله في الدنيا حتى رضي الله عنها.

٨٨

المـَرْضِيَّة

إنّ درجة المرضيين عند الله تعالى درجة عالية، ومنزلة سامية فهناك القليل من عباد الله الذين رضي الله عنهم فكانوا مرضيين عند الله تعالى بسبب اعتدالهم واستقامتهم، ومن جملة الذين فازوا بتلك المنزلة الرفيعة والدرجة الراقية هي سيّدتنا فاطمة الزهراءعليها‌السلام فإنّ الله تعالى قد رضي عنها أحسن الرضا، فكانت مرْضيّة عنده لعبادتها وطاعتها، مرْضيّة لزهدها وإنفاقها، مرْضيّة لصبرها واستقامتها.

وقد روى الحافظ العسقلاني عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: (أتاني جبرئيل فقال: يا محمد إنّ ربّك يحبّ فاطمة فاسجد، فسجدت...) إلى آخره.

كما روى الذهبي أنّ جبرئيل نزل على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - عند ولادة فاطمة - فقال له: (... الله يقرؤك السلام، ويُقرئ مولودك السلام)(٢) .

____________________

(١) لسان الميزان لابن حجر العسقلاني ج ٣ ص ٢٧٥ طبعة حيدر آباد.

(٢) ميزان الاعتدال للذهبي ج ٢ ص ٢٦ طبعة القاهرة.

٨٩

المـُحَدّثَة

قبل كل شيء ينبغي أن نعلم: هل تتحدث الملائكة مع غير النبي؟ وهل يراهم غير النبي؟ أو يسمع أصواتهم؟

للإجابة على هذه الأسئلة نراجع القرآن الكريم للتحقيق عن الجواب الصحيح:

١ - قال تعالى:( وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ) (١) .

إنّ صريح هذه الآية أنّ الملائكة خاطبت مريم بما مرّ عليك من كلمات الثناء والأوامر الإلهية، ولا شكّ أنّها كانت تسمع نداءهم وتفهم خطابهم وإلاّ فما فائدة هذا الخطاب؟

وقيل: الذي خاطبها هو جبرئيل وحده(٢) .

٢ - قال سبحانه:( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ

____________________

(١) آل عمران: ٤١.

(٢) مجمع البيان في تفسير الآية.

٩٠

وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيّاً ) (١) .

لقد أجمع المفسّرون أن المقصود من( رُوحَنَا ) هو جبرئيل، تمثّل لها بصورة آدمي صحيح، لم ينقص منه شيء فانتصب بين يديها، وجرى بينهما الكلام والحوار.

٣ -( وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) (٢) .

إنّ هذه الآيات تتعلّق بمجيء الملائكة إلى دار إبراهيم الخليلعليه‌السلام لتبشّره بالولد، وكانت زوجته سارة تخدم وتحمل الطعام إليهم ظنّاً منها أنّهم ضيوف فلقد تكلّمت مع الملائكة، وخاطبتها الملائكة بما مرّ عليك من الآيات.

٤ -( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ) (٣)

وقد ذكر المفسّرون معنى( أَوْحَيْنَا ) أي ألهمنا، وقذفنا في قلبها، وعلى قول: إنّها نوديت بهذا الخطاب.

وقد ذكر المنّاوي في شرح الجامع الصغير ج٢ ص٢٧٠ عن القرطبي قال: (محدَّثون ) بفتح الدال اسم مفعول، جمع محدَّث أي مُلهَم، أو صادق الظن وهو مَن أُلقي في نفسه شيء على وجه الإلهام والمكاشفة من

__________

(١) مريم: ١٦ - ٢١.

(٢) هود: ٧٠ - ٧٣.

(٣) القصص: ٧.

٩١

الملأ الأعلى، أو مَن يجري الصواب على لسانه بلا قصد، أو تكلِّمه الملائكة بلا نبوّة، أو مَن إذا رأى رأْياً أو ظنَّ ظناً أصاب كأنّه حُدِّث به وأُلقي في روعه من عالم الملكوت، فيظهر على نحو ما وقع له، وهذه كرامة يكرّم الله بها مَن يشاء من صالحي عباده، وهذه منزلة جليلة من منازل الأولياء.

أقول: بعد هذه المقدّمات سوف لا يصعب عليك أن تعرف أنّ السيدة فاطمة الزهراء كانت محدَّثة، إذ ليست سيّدة نساء العالمين وبنت سيّد الأنبياء والمرسلين بأقلِّ شأناً من مريم بنت عمران أو سارة زوجة إبراهيم أو أم موسى، وليس معنى ذلك أنّ مريم أو سارة أو أم موسى كنَّ من الأنبياء، وهكذا ليس معنى ذلك أنّ السيدة فاطمة الزهراء كانت نبيّة.

وقد روى الشيخ الصدوق في (علل الشرائع) عن زيد بن علي قال: سمعت أنّ أبا عبد الله (الصادق) يقول: إنَّما سمِّيت فاطمة محدَّثة (بفتح الدال) لأنّ الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما تنادي مريم بنت عمران، فتقول الملائكة: يا فاطمة إنّ الله اصطفاك وطهَّرك واصطفاك على نساء العالمين(١) .

وفي البحار (ج١٠) قال الإمام الصادقعليه‌السلام لأبي بصير: وإنّ عندنا لمصحف فاطمة، وما يدريهم ما مصحف فاطمة؟ قال: فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرّات، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد وإنّما هو شيء أملاه الله عليها وأوحى إليها... إلى آخر الحديث(٢) .

إنّ هذا الحديث يكشف لنا أموراً قد تحتاج إلى بحث وتحقيق، فكلام الإمامعليه‌السلام : (فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات) يريد بذلك حجم

____________________

(١) علل الشرايع: ص ١٨٢ باب ١٤٦ ح ١.

(٢) الكافي: ج ١ ص ٢٣٨ ح ١.

٩٢

المصحف، وكميّة المواد الموجودة فيه، وحيث إنّ القرآن كتاب معروف ومشهور عند جميع المسلمين - في كل زمان ومكان - من حيث الحجم والسور والآيات والكميّة؛ ولهذا جعل الإمامعليه‌السلام القرآن مقياساً وميزاناً يقيس عليه مصحف فاطمةعليها‌السلام من حيث الحجم وكميّة المواد.

فمثلاً: لو أنّ قرآناً طُبع بحروف متوسّطة، وصفحات حجمها متوسّط، فلنفرض أنّ عدد تلك الصفحات تبلغ خمسمائة صفحة فلو طبعنا مصحف فاطمةعليها‌السلام بنفس تلك الحروف ونفس حجم تلك الصفحات لبلغ عدد صفحات مصحف فاطمةعليها‌السلام ألفاً وخمسمائة صفحة، أي ثلاثة أضعاف صفحات القرآن، وهذا معنى كلام الإمامعليه‌السلام : (فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات) وليس معناه أنّ القرآن الموجود بين أيدينا ناقص، وأنّ مصحف فاطمة مكمِّل له، كلاّ وألف كلاّ، وليس معناه أنّ الله أنزل على السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام قرآناً، وكل مَن ادَّعى غير هذا فهو إمَّا جاهل أو معاند مفترٍ كذّاب.

وأمّا كلمة: المصحف (وإن كان هذا الاسم) يُستعمل في زماننا هذا اسماً للقرآن ولكنّه في اللغة يُستعمل في الكتب.

قال الرازي في مختار الصحاح: (والمصحف - بضم الميم وكسرها - وأصله الضم؛ لأنّه مأخوذ من (أصحف) أي جُمعت فيه الصحف).

وفي المنجد: المـَصحف والمـُصحف جمعه مصاحف: ما جُمع من الصحف بين دفَّتي الكتاب المشدود.

وفي صراح اللغة:

٩٣

مصحف - بالكسر والضم - كرّاسة.

قال الفراء وقد استثقلت العرب الضمّة في حروف فكسروا ميمها وأصلها الضم من ذلك مصحف ومخدع ومطرف... لأنّها في المعنى مأخوذة من أصحف أي جمعت فيه الصحف.

وفي المصباح المنير: والصحيفة قطعة من جلد أو قرطاس كتب فيه... والجمع صُحُف بضمّتين وصحائف... والمصحف بضم الميم أشهر من كسرها.

وفي أقرب المـُوارد: المـُصحف اسم مفعول... وحقيقتها مجمع الصحف أو ما جمع منها بين دفّتي الكتاب المشدود... وفيه لغتان أُخريان وهما المِصحف والمـَصحف جمعه مصاحف.

وفي لسان العرب: المـُصحف والمِصحف الجامع للصُّحف المكتوبة بين الدفتين كأنّه أُصحِف، والكسر والفتح فيه لغة.

أيّها القارئ الكريم: إليك الآن هذا الحديث الشريف الذي يتحدّث فيه الإمام الصادقعليه‌السلام عن معنى المحدَّثة و (مصحف فاطمة):

في بحار الأنوار ج ٤٣:... وسأله بعض أصحابه عن مصحف فاطمة.

فسكت الإمام طويلاً، ثم قال: إنّكم لتبحثون عمّا تريدون وعمّا لا تريدون!

إنّ فاطمة مكثت بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خمسة وسبعين يوماً، وكان دخلها حزن شديد على أبيها، وكان جبرئيل يأتيها فيحسن عزاها على أبيها، ويطيب نفسها ويخبرها عن أبيها ومكانه

٩٤

ويخبرها بما يكون بعدها، وكان عليعليه‌السلام يكتب ذلك، فهذا مصحف فاطمة.

والحسين بن أبي العلا يروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله:... ومصحف فاطمة، ما أزعم أنّ فيه قرآناً، وفيه ما يحتاج الناس إلينا، ولا نحتاج إلى أحد، حتى أنّ فيه الجلد بالجلدة، ونصف الجلدة، وربع الجلدة وأرش الخدش... الخ.

وفي حديث آخر قالعليه‌السلام : وأمّا مصحف فاطمةعليها‌السلام ففيه ما يكون من حادث، وأسماء مَن يملك إلى أن تقوم الساعة.

بقي الكلام حول جملة (أوحى إليها) فالمستفاد من القرآن أنّ الوحي من الله لا يختص بالأنبياء، بل يوحي الله تعالى إلى غير الأنبياء أيضاً، استمع إلى هذه الآيات البيِّنات:

١ -( فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) (١) .

٢ -( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي ) (٢) .

٣ -( إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا ) (٣) .

٤ -( وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ) (٤) .

٥ -( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ) (٥) .

٦ -( إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ) (٦) .

هذه بعض الآيات التي تصرّح بأنّ الوحي لا يختص بالأنبياء، بل لا يختص بالبشر، فلقد أوحى الله تعالى إلى كل سماء، وأوحى إلى الحواريين، وإلى الملائكة، وإلى النحل، وإلى أم موسى، فلا يصعب عليك أن تقبل بأنَّ الله تعالى أوحى إلى سيّدة نساء العالمين وبنت سيّد الأنبياء

____________________

(١) فصلت: ١٠.

(٢) المائدة: ١١١.

(٣) الأنفال: ١٢.

(٤) النحل: ٧٠.

(٥) القصص: ٦.

(٦) طه: ٣٩.

٩٥

والمرسلين فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، وكما تقول في تفسير الوحي إلى أم موسى قل في تفسير الوحي إلى فاطمة الزهراء.

وختاماً لهذا البحث: إنّ مصحف السيدة فاطمة الزهراء كتاب ضخم، يحتوي على جميع الأحكام الشرعية بالتفصيل، ويستوعب قانون العقوبات في الإسلام، حتى بعض المخالفات التي عقوبتها جلدة واحدة أو نصف جلدة أو ربع جلدة، بل وحتى غرامة مَن خدش جسم أحد من الناس خدشة واحدة.

وفيه أسماء ملوك العالم الذين حكموا البلاد من ذلك اليوم وسيحكمون إلى قيام القيامة، كل ذلك كان في علم الله الذي هو بكل خلق عليم وبكل شيء خبير بصير محيط.

وفيه ذكر الحوادث المهمّة من الملاحم والمجازر التي تحدث في الكون وغير ذلك من القضايا الهامّة.

وليس فيه شيء من القرآن كما هو صريح الحديث.

ولقد أطلنا البحث والكلام حول هذا الموضوع؛ لأنّ بعض أصحاب النفوس المريضة والقلوب السقيمة اعتبروا هذا الحديث مرتعاً خصباً للتهريج والتشنيع ضد الشيعة والتشيّع، كأنّهم لم يقرأوا هذه الآيات أو لم يفهموها أو تناسوها فهاجموا الشيعة مهاجمة شعواء فقالوا ما قالوا، وحسابهم على الله يوم فصل القضاء.

٩٦

الزهراء

عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه قال: (... فخلق الله نور فاطمة الزهراء - يومئذٍ - كالقنديل، وعلَّقه في قرط العرش، فزهرت السماوات السبع والأرضون السبع، من أجل ذلك سُميّت فاطمة: الزهراء)(١).

وعن ابن عباس قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : وأمّا ابنتي فاطمة فإنّها سيّدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين، وهي بضعة منّي وهي نور عيني، وهي ثمرة فؤادي وهي روحي التي بين جنبيّ، وهي الحوراء الإنسيّة متى قامت في محرابها بين يدي ربّها (جل جلاله) زهر نورها لملائكة السماوات كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض(٢) .

وبهذين الحديثين اتضح لنا سبب تسميتهاعليها‌السلام الزهراء، وهناك أحاديث أخرى بهذا المضمون، وأنّها كانت تتمتع بوجه مشرق مستنير زاهر، وفيما ذكرنا كفاية.

ولسيّدتنا فاطمة الزهراءعليها‌السلام أسماء غير التي مرّت عليك، وكل اسم يدل على فضيلة ومزية امتازت بها السيّدة الزهراء، منها: البتول، العذراء الحانية (من الحنُوّ) بسبب كثرة حنانها على أولادها.

وكنيتها، أُمّ أبيها، وهي من أفضل كناها.

____________________

(١) بحار الأنوار ج ٤٣ ص ١٧.

(٢) أمالي الصدوق / بحار الأنوار ج ٤٣.

٩٧

البَتُول

اعلم أنَّ الله تعالى قد جعل في مخلوقاته - من الجماد والنبات والحيوان والإنسان - قوانين وسُنَن، وجعل تلك المخلوقات خاضعة لتلك القوانين. فالنار طبيعتها الإحراق وهذه سُنّة الله في النار.

والنبات يحتاج إلى زمان محدود ومكان معيّن بشروط خاصة حتى ينمو ويكبر ويثمر، انظر إلى الحبّة التي تُزرع، والعوامل التي تساعدها على أن تنبت من الأرض، والزمان المعيّن لنموِّها، وهذه سُنّة الله في النباتات.

وكذلك الحيوانات جعلها الله خاضعة لقوانين خاصة وأحجامها وألوانها وغير ذلك.

والإنسان كذلك خاضع لقوانين كونيّة، وطبائع جسميّة ونفسيّة وروحيّة، ولكنّ الله تعالى جعل أولياءه فوق تلك القوانين والسنن في ظروف خاصة لحكمته البالغة.

وبعبارة أخرى: جعل الله تلك القوانين هي الخاضعة لأوليائه بإذنه.

انظر إلى النار المحرقة، التي تحرق كل ما أصابته، ولكنّ الله تعالى جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم الخليلعليه‌السلام .

وكذلك أنبت الله على نبيّه يونسعليه‌السلام شجرة من يقطين، بعد أن نبذه الحوت بالعراء وهو سقيم، مع العلم أنّ حبة اليقطين تحتاج إلى مدّة غير قصيرة، حتى تنبت وتورق وتستر بوَرقها جسم إنسان أو غير إنسان، وهكذا جعل الله النبات خاضعاً لوليّه يونسعليه‌السلام .

٩٨

والتناسل لا يمكن إلاّ بالتلقيح، وانتقال نطفة الرجل إلى رحم المرأة، وتطوُّر النطفة إلى علقة إلى مضغة إلى عظام إلى خلق آخر، وإلى أن يكمل الجنين خلال ستة أشهر على أقل التقادير، أو تسعة أشهر كما هو الغالب.

هذه سنة الله في قانون التناسل بين البشر، ولكن هذه السُنة وهذا القانون كان خاضعاً لمريم إذ حملت بعيسىعليه‌السلام ولم يمسسها بشر، وحملت وبلدها فانتبذت به مكاناً قصياً، فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة، فوضعت بعيسى، كل ذلك خلال تسع ساعات أو ست ساعات فقط(١) .

وعلى هذا الغرار كانت المعجزات تصدر عن الأنبياء والأوصياء عن طريق خرق العادة والطبيعة.

هذا والأمثلة كثيرة جداً، تجد في القرآن الكريم طائفة كبيرة من القصص التي تحدّى فيها الأنبياء والأوصياء قانون الطبيعة، كهبوط آدم من الجنة إلى الأرض، وفوران التنور بالماء في قصة نوحعليه‌السلام وحمْل سارة بإسحاقعليه‌السلام بعد أن كانت عجوزاً عقيماً، وانقلاب العصا حيَّة تسعى في قصة موسىعليه‌السلام وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى في قصة عيسىعليه‌السلام وقصة الإسراء والمعراج في قصة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وغير ذلك من القضايا الخارقة للعادة والطبيعة،

وقد ذكرت هذه الفقرات كمقدمة تمهيدية لما يلي:

إن العادة الشهرية التي تراها المرأة في كل شهر منذ بلوغها حدِّ الأُنوثة إلى الخمسين أو الستّين من العمر ما هي إلاَّ دم فاسد، قد تخزَّن في

____________________

(١) (مجمع البيان) سورة مريم. ج ٦ / ٥١١.

٩٩

الأوعية والأجهزة التي جعلها الله في جسم المرأة ليكون ذلك الدم غذاء للجنين، فإذا لم يكن جنين في الرحم سال الدم إلى الخارج، وربّما انقلب إلى اللبن إذا كانت المرأة مرضعة.

قال تعالى:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً ) أي إنّ دم الحيض مادة ضارّة، مؤذية في جسم المرأة، فلابدَّ من خروجها لتنجو المرأة من أمراض وأعراض.

وفي فترة العادة الشهرية تحدث حوادث جسمية وروحية للمرأة تغيِّر ملامحها، ولون وجهها، بل وأخلاقها ونفسيِّتها ومن الممكن معرفة الحائض من ملامح وجهها وعينيها، بل من نظراتها وحركاتها، وهذا النزيف لا يشبه النزيف الطبيعي العادي الذي يصاب به الإنسان، بل يختلف عن ذلك اختلافاً كثيراً.

إنّ العادة الشهرية حينما تحدث للمرأة تشعر بشيء من الانفعال والخجل والانكسار، وإن كان الأمر خارجاً عن إرادتها واختيارها، ولكنّها تتألّم بهذا الحادث الذي لا يحسن التصريح به لكل أحد، وخاصة للرجال، والنزيف وحالة الانفعال توجد في المرأة ضعفاً وانكساراً في جسمها وروحها.

ولهذا سقط عنها حكم الصلاة والصوم خلال فترة العادة، وحرَّم الله عليها اللبث في المساجد، ودخول المسجد الحرام والمسجد النبوي، وقراءة سُوَر العزائم الأربع وهي السور التي فيها آيات السجدة الواجبة، وغير ذلك ممّا هو مذكور في الكتب الفقهيّة.

ونفس هذه الأحكام تجري في أيام النفاس لنفس الأسباب التي مرّ ذكرها.

ولكنّ الله تعالى كره لسيّدة النساء فاطمة الزهراء أن تتلوّث بهذه

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

زبيدة: (كانت ولاية الأمين بعهد من أبيه، قدمه على إخوته لمكان والدته، وكان الأحق بالتقديم المأمون لعلمه وفضله وسنه..)(١) وبعد.. فإننا لا نستبعد أنها كانت بالإضافة إلى ذلك قد استخدمت أموالها، من أجل ضمان ولاية العهد لولدها الأمين، ولعل مما يشير إلى ذلك قول الفضل بن سهل للمأمون: (وهو ابن زبيدة، وأخواله بنو هاشم، وزبيدة وأموالها).

وأخيراً. فإن من المحتمل جداً أن يكون الرشيد ـ بملاحظة الدور الذي كانت تلعبه الأنساب في التفكير العربي ـ قد لاحظ سمو نسب الأمين على المأمون، وكان لذلك أثر في تقديمه له عليه، وقد ألمح بعض المؤرخين إلى ذلك فقال: (وفيها ـ أي في سنة ١٧٦ ه‍ ـ عقد الرشيد لابنه المأمون عبد الله العهد بعد أخيه الأمين. إلى أن قال: وكان المأمون أسن من الأمين بشهر واحد، غير أن الأمين أمه زبيدة بنت جعفر هاشمية، والمأمون أمه أم ولد اسمها (مراجل) ماتت أيام نفاسها به)(٢) .

محاولات الرشيد لصالح المأمون:

ومن كل ما تقدم يتضح لنا حقيقة موقف العباسيين، وأهل بيت المأمون، ورجال الدولة من المأمون.. ويظهر إلى أي حد كان مركز أخيه قويا، ونجمه عاليا، وأنه لم يكن له مثل ذلك الحظ الذي كان لأخيه الأمين.

____________

(١) دائرة المعارف الإسلامية ج ١ ص ٦٠٦.

(٢) النجوم الزاهرة ج ٢ ص ٨٤، وقريب منه ما في تاريخ الخلفاء للسيوطي.

١٤١

إلا أن أباه الرشيد، الذي كان يدرك حقيقة الموقف كل الإدراك، قد حاول أن يضمن له نصيبه من الخلافة، فجعله ولي العهد بعد أخيه الأمين، وكتب بذلك العهود والمواثيق، وأشهد عليها، وعلقها في جوف الكعبة، ولا نعلم خليفة، قبله ولا بعده فعل ذلك مع أولياء عهده، من أولاده أو من غيرهم، رغم أن غيره من الخلفاء قد أخذوا البيعة لأكثر من واحد بعدهم.

كما أنه قد حاول بطرق شتى أن يشد من عضد المأمون، ويقوي مركزه في مقابل أخيه الأمين، لأنه كان يخاف منه على أخيه المأمون، فنراه يجدد أخذ البيعة للمأمون أكثر من مرة، ويوليه الحرب، ويولي أخاه السلم(١) ويهب المأمون كل ما في العسكر من كراع وسلاح. ويأمر الفضل بن الربيع، الذي كان يعرف أنه سوف يتآمر مع الأمين ـ يأمره ـ بالبقاء مع المأمون في خراسان. إلى غير ذلك من مواقفه، التي لا نرى حاجة لتتبعها واستقصائها.

مركز المأمون ظل في خطر:

ولكن رغم كل محاولات الرشيد فقد ظل مركز المأمون في خطر والكل كان يشعر بذلك، وكيف لا يعرف الجميع ذلك. ولا يشعرون به، وهم يرون الأمين يصرح بعد أن أعطى العهود والمواثيق، وحلف الأيمان، بأنه: كان يضمر الخيانة لأخيه المأمون(٢) .

لقد كان الكثيرون يرون بأن هذا الأمر لا يتم، وأن الرشيد قد أسس العداء والفرقة بين أولاده، (وألقى بأسهم بينهم، وعاقبة ما صنع

____________

(١) مروج الذهب ج ٣ ص ٣٥٣، والطبري حوادث سنة ١٨٦ ه‍.

(٢) الوزراء والكتاب ص ٢٢٢.

١٤٢

في ذلك مخوفة على الرعية) وقالت الشعراء في ذلك الشيء الكثير. ومن ذلك قول بعضهم:

أقـول لغمة في النفس مني

ودمـع العين يطرد اطرادا

خـذي لـلهول عدته بحزم

سـتلقي ما سيمنعك الرقادا

فـإنك إن بقيت رأيت أمراً

يـطيل لك الكآبة والسهادا

رأى الملك المهذب شر رأي

بـقسمته الـخلافة والبلادا

رأى مـا لـو تـعقبه بعلم

لـبيض من مفارقه السوادا

أراد بـه لـيقطع عن بنيه

خـلافهم ويـبتذلوا الودادا

فـقد غرس العداوة غير آل

وأورث شـمل ألفتهم بدادا

والـقح بـينهم حربا عواناً

وسـلس لاجـتنابهم القيادا

فـويل لـلرعية عـن قليل

لقد أهدى لها الكرب الشدادا

وألـبسها بـلاءا غير فان

وألزمها التضعضع والفسادا

سـتجري من دمائهم بحور

زواخـر لا يرون لها نفادا

فـوزر بـلائهم أبـداً عليه

أغيا كان ذلك أم رشادا(١)

والمأمون وحزبه كانوا يدركون ذلك:

وبعد.. فإنه من الطبيعي جداً أن نرى أن المأمون وحزبه كانوا يدركون أن مركز المأمون كان في خطر، وأن الأمين كان ينوي الخيانة لأخيه. ولقد رأينا الفضل بن سهل عندما عزم الرشيد على الذهاب إلى خراسان، وأمر المأمون بالمقام في بغداد ـ رأيناه ـ يقول للمأمون: (لست تدري ما يحدث بالرشيد، وخراسان ولايتك، والأمين مقدم عليك. وإن أحسن ما يصنع بك أن يخلعك، وهو ابن زبيدة، وأخواله

____________

(١) الطبري حوادث سنة ١٨٦ ه‍.

١٤٣

بنو هاشم، وزبيدة، وأموالها..)(١) . وتقدم أيضاً قوله له: إن أهل بيته وبني أبيه، والعرب معادون له.

والرشيد أيضاً كان في قلق:

بل لقد صرح الرشيد نفسه بأنه كان يخشى من الأمين على المأمون، فإنه قال لزبيدة، عندما عاتبته على إعطائه الكراع والسلاح للمأمون: (إنا نتخوف ابنك على عبد الله، ولا نتخوف عبد الله على ابنك إن بويع)(٢) .

هذا بالإضافة إلى تصريحات الرشيد السابقة، والتي لا نرى حاجة إلى إعادتها.

ولقد قال الرشيد، عندما بلغه ما يتهدد به محمد الأمين:

مـحمد لا تـظلم أخـاك فإنه

عليك يعود البغي إن كنت باغيا

ولا تـعجلن الـدهر فـيه فإنه

إذا مال بالأقوام لم يبق باقيا(٣)

ومهما يكن من أمر، فإن الحقيقة التي لا يمكن الجدال فيها، هي أن الرشيد كان في قضية ولاية العهد مغلوبا على أمره، من مختلف الجهات. وكان يشعر أن ما أبرمه سوف يكون عرضة للانتقاض بين لحظة وأخرى، وكم كان يؤلمه شعوره هذا، ويحز في نفسه.. حتى لقد ترجم مشاعره هذه شعراً فقال:

____________

(١) تاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٢٩، والنجوم الزاهرة ج ٢ ص ١٠٢، والكامل لابن الأثير، طبعة ثالثة ج ٥ ص ١٢٧، والوزراء والكتاب ص ٢٦٦.

(٢) مروج الذهب ج ٣ ص ٣٥٣. ولعله إنما فعل ذلك أيضاً، من أجل أن يطيب خاطر المأمون، ويذهب ما في نفسه ـ وهو الأفضل، والأكبر سنا من أخيه ـ من غل وحقد وضغينة..

(٣) ابن بدرون في شرح قصيدة ابن عبدون ص ٢٤٥، وفوات الوفيات ج ٢ ص ٢٦٩.

١٤٤

لـقد بـان وجه الرأي لي غير أنني

غـلبت على الأمر الذي كان أحزما

وكـيف يرد الدر في الضرع بعدما

تـوزع حـتى صـار نـهباً مقسما

أخـاف الـتواء الأمـر بعد استوائه

وأن ينقض الحبل الذي كان أبرما(١)

على من يعتمد المأمون؟

وهكذا: وإذا كان أبوه قد استطاع أن يضمن له المركز الثاني بعد أخيه الأمين، وإذا كان ذلك لا يكفي لأن يجعل المأمون يطمئن إلى مستقبله في الحكم، وأن يأمن أخاه وبني أمية العباسيين، أن لا يحلوا العقدة، وينكثوا العهد، فهل يستطيع المأمون أن يعتمد على غيرهم، لو تعرض مركزه ووجوده لتهديد في وقت ما؟!. ومن هم أولئك الذين يستطيع أن يعتمد عليهم؟! وكيف؟.. وما هو موقفهم فعلاً منه؟! وكيف يستطيع أن يصل إلى الحكم، والسلطان؟! ومن ثم.. كيف يستطيع أن يحتفظ به، ويقوي من دعائمه؟!

إن نظرة شاملة على الفئات الأخرى في تلك الفترة من الزمن، لكفيلة بأن تظهر لنا أنه لم يبق أمام المأمون غير العلويين، والعرب، والإيرانيين. فما هو موقف هؤلاء منه، وأي الفئات تلك هي التي يستطيع أن يعتمد عليها؟ وكيف يستطيع أن يغير مجريات الأمور لتكون في صالحه، وعلى وفق مراده؟!.

هذا هو السؤال الذي لا بد للمأمون من أن يضع الحل والإجابة عليه، بكل دقة ووعي وإدراك. وأن يتحرك من ثم على وفق تلك الإجابة، وعلى مقتضى ذلك الحل.. ولنلق أولاً نظرة سريعة على مواقف كل من هؤلاء من المأمون، ولنخلص من ثم إلى معرفة الفئة التي يستطيع المأمون أن يعتمد عليها في مواجهة الأخطار والتحديات، التي تنتظره، وتنتظر نظام حكمه، بصورة عامة.. فنقول:

____________

(١) ابن بدرون أيضاً ص ٢٤٥، وزهر الآداب، طبع دار الجيل ج ٢ ص ٥٨١، وفوات الوفيات ج ٢ ص ٢٦٩.

١٤٥

موقف العلويين من المأمون:

أما العلويون.. فإنهم ـ بالطبع ـ لن يرضوا بالمأمون ـ كما لن يرضوا بغيره من العباسيين، خليفة وحاكما لأن من بينهم من هو أجدر من كل العباسيين، وأحق بهذا الأمر، ولأن المأمون، وغيره، كانوا من تلك السلالة، التي لا يمكن أن تصفو لها قلوب آل علي، لأنها قد فعلت بهم أكثر من فعل بني أمية معهم، كما تقدم.. فقد سفكت دماءهم، وسلبتهم أموالهم، وشردتهم عن ديارهم، وأذاقتهم شتى صنوف العذاب والاضطهاد. ويكفي المأمون عندهم: أنه ابن الرشيد، الذي حصد شجرة النبوة، واجتث غرس الإمامة، والذي قد عرفت طرفاً من سيرته السيئة معهم فيما تقدم من الفصول.

موقف العرب من المأمون، ونظام حكمه:

وأما العرب: فإنهم لا يرضون بالمأمون خليفة وحاكما أيضاً، كما أشار إليه الفضل بن سهل فيما تقدم.

أما أولاً: فلأن أمه، ومؤدبه، والقائم بأمره، غير عربيين. ولقد عانى العرب ما لله أعلم به، من تقديم أسلافه للموالي، حتى لم يعد لهم معهم أي شأن يذكر، وأصبح العربي أذل من نعجة، وأحقر من الحيوان.

١٤٦

قال المسعودي: (.. وكان - أي المنصور- أول خليفة استعمل مواليه وغلمانه في أعماله، وصرفهم في مهماته، وقدمهم على العرب، فامتثل ذلك الخلفاء من بعده، من ولده، فسقطت، وبادت العرب، وزالت رياستها، وذهبت مراتبها)(١) .

وقال ابن حزم، وهو يتحدث عن العباسيين: (.. فكانت دولتهم أعجمية، سقطت فيها دواوين العرب، وغلبت عجم خراسان على الأمر، وعاد الأمر كسروياً، إلا أنهم لم يعلنوا بسب أحد من الصحابة رضوان الله عليهم. وافترقت في دولة بني العباس كلمة المسلمين..)(٢) .

ويقول الجاحظ: (.. دولة بني العباس أعجمية، خراسانية، ودولة بني مروان عربية..)(٣) .

إلى آخر ما هنالك، مما يدل على سقوط العرب في تلك الفترة، وامتهانهم، ويبدو أن ذلك من المسلمات. وقد استوفى الباحثون ـ ومنهم أحمد أمين، في الجزء الأول من ضحى الإسلام ـ البحث في هذا الموضوع، فمن أراد فليراجع مظان وجوده.

وإذا ما عرفنا: أن من الطبيعي أن يكون ذهاب رئاسة العرب، وإبادتها، واضطهادها على يد الفرس، الذين كانوا هم أصحاب القدرة والسلطان آنذاك.. فلسوف نجد أن من الطبيعي أن يحقد العرب، الذين كانوا في وقت ما هم أصحاب الجبروت والقوة، على الفرس، وعلى كل من يتصل بهم. ويمت إليهم بسبب، من قريب أو من بعيد.

____________

(١) مروج الذهب، طبع بيروت ج ٤ ص ٢٢٣، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٤، و ص ٢٦٩، ٢٧٠، و ص ٢٥٨، وفي طبيعة الدعوة العباسية ص ٢٧٩، نقلاً عن المقريزي في: السلوك لمعرفة دول الملوك ج ١ ص ١٤ مثل ذلك. وليراجع أيضاً كتاب: مشاكلة الناس لزمانهم لليعقوبي ص ٢٣.

(٢) البيان المغرب، طبع صادر ص ٧١.

(٣) البيان والتبيين ج ٣ ص ٣٦٦.

١٤٧

وأما ثانياً: فلسيرة أسلافه، وأبيه الرشيد بالخصوص، في الناس عامة، ومع أهل بيت نبيهم خاصة، والتي قدمنا شطراً منها في الفصول التي سبقت.

أما الأمين: فقد كان له ـ إلى حد ما ـ شافع عندهم، حيث إنه كان من أب وأم عربيين من جهة. وكان قد منحهم ثقته وحبه، وقربهم إليه، حتى كان وزيره الفضل بن الربيع منهم. من جهة ثانية، فتوسموا فيه أن يجعل لهم. وأن ينظر إليهم بغير العين، التي كان أبوه وأسلافه ينظرون إليهم بها. أو على الأقل: سوف لا تكون نظرته إليهم. على حد نظرة المأمون نحوهم. وذلك ما يجعلهم يرجحونه ـ على الأقل ـ على أخيه المأمون، وإن كان المأمون أفضل، وأسن منه، فلقد كان عليهم أن يختاروا أهون الشرين، وأقل الضررين. حتى إن نصر بن شبث، الذي كان هواه مع العباسيين، لم يقم بثورته ضد المأمون، التي بدأت سنة ١٩٨ ه‍. واستمرت حتى سنة ٢١٠ ه‍. إلا انتصاراً للعرب، ومحاماة عنهم، لأن العباسيين كانوا يفضلون عليهم العجم، حسب تصريحات نصر بن شبث نفسه(١) .

وحتى في مصر أيضاً، قد ثارت الفتن بين القيسية، المناصرة للأمين، واليمانية المناصرة للمأمون..

وقال أحمد أمين: (.. إن أغلب الفرس تعصب للمأمون، وأغلب العرب تعصبوا للأمين..)(٢) كما أننا نكاد لا نشك في أن تعصب العرب للأمين ليس إلا للسببين المتقدمين، الذين أشرنا إليهما، وأشار إلى أحدهما نصر بن شبث..

____________

(١) التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ ص ١٠٤.

(٢) ضحى الإسلام ج ١ ص ٤٣.

١٤٨

ولكن فردينان توتل يرى في منجد الأعلام: أن تعصب العرب للأمين يرجع إلى أن: (المأمون لم يستطع أن يجعل العرب يحبونه، حيث إنه كان يظهر ميلا للإيرانيين، ويقربهم إليه. وقد أعانه الإيرانيون في مبارزاته، وحروبه، وخصوصاً الخراسانيين منهم).

ولكن الذي يبدو لي هو أن تعصب العرب للأمين لم يكن نتيجة تقريب المأمون للإيرانيين، وتحببه للخراسانيين، وإنما عكس ذلك هو الصحيح، فإن المأمون لم يتقرب من الخراسانيين إلا بعد أن فرغت يده من العرب وأهل بيته، والعلويين.

لا بد من اختيار خراسان:

وبعد أن فرغت يد المأمون من بني أبيه، والبرامكة(١) ، والعرب، والعلويين، اضطر أن يلتجئ إلى جهات أخرى لتمد له يد العون والمساعدة، وتكون سلما لأغراضه، وأداة لتحقيق أهدافه ومآربه. ولم يبق أمامه غير خراسان، فاختارها، كما اختارها محمد بن علي العباسي من قبل. فأظهر لهم الميل والحب، وتقرب إليهم، وقربهم إليه، وأراهم: أنه محب لما ولمن يحبون، وكاره لما ولمن يكرهون. حتى إنه عندما علم منهم الميل إلى العلويين، والتشيع لهم، أظهر هو بدوره أنه محب للعلويين، ومتشيع لهم.

كما أنه كان من جهة ثانية قطع لهم على نفسه الوعود والعهود، بأن يرفع الظلم والحيف عنهم، ورد عنهم الكيد، الأمر الذي جعلهم يثقون به، ويطمئنون إليه، ويعلقون كل آمالهم عليه.

____________

(١) ذكرنا للبرامكة هنا ليس عفويا، فإن محط نظرنا يشمل حتى الأيام الأولى، التي فتح بها المأمون عينيه، وعرف واقعه، وأدرك الأخطار، التي تتهدده، وتتهدد مستقبله في الخلافة مع أخيه الأمين، فلا يرد علينا: أن البرامكة قد نكبهم الرشيد قبل خلافة المأمون بزمان. مضافاً إلى الدور الكبير الذي لعبه البرامكة في تقديم أخيه الأمين عليه، حسبما قدمنا..

١٤٩

تشيع الإيرانيين:

هذا.. وليس تشيع(١) الإيرانيين بالأمر الذي يحتاج إلى إثبات، بعد أن تقدم معنا: أن دولة العباسيين ما قامت إلا على أساس الدعوة للعلويين، وأهل البيت. وبعد أن رأينا الخراسانيين يظهرون النياحة على (يحيى بن زيد) سبعة أيام، وكل مولود ولد في خراسان في سنة قتل يحيى سمي ب‍ـ (يحيى)(٢) . بل يذكر البلاذري: أنه لما استشار المنصور عيسى بن موسى في أمر محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن، فأشار عليه بأن يولي المدينة رجلاً خراسانياً، قال له المنصور: (يا أبا موسى إن محبة آل أبي طالب في قلوب أهل خراسان ممتزجة بمحبتنا، وإن وليت أمرها رجلاً من أهل خراسان حالت محبته لهما بينه وبين طلبهما، والفحص عنهما، ولكن أهل الشام قاتلوا علياً على أن لا يتآمرعليهم لبغضهم إياه الخ)(٣) .

وقد تقدم معنا: كيف وصف المؤرخون ما جرى في نيشابور، حين دخلها الإمام الرضا، وسيأتي في فصل: خطة الإمام، وصف ما جرى في مرو حينما خرج الإمام ليصلي بالناس. ولقد عرفنا أيضاً: كيف فرق الإمام الرضا الناس عن المأمون. عندما أرادوا قتله، انتقاماً للفضل بن سهل.

____________

(١) قد تقدم منا ما نقصده بكلمة (التشيع) في هذا الكتاب، فلا نعيد.

(٢) مروج الذهب ج ٣ ص ٢١٣، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٥٧، وليراجع أيضاً نزهة الجليس ج ١ ص ٣١٦، فإن فيه ما يشير إلى ذلك.

(٣) أنساب الأشراف للبلاذري ج ٣ ص ١١٥.

١٥٠

بل لقد بلغ من حب الإيرانيين لأهل البيت أن المأمون كان يخشى على نفسه أن يقتلوه، لو أنه أراد أن يرجع عن البيعة للإمام الرضا بولاية العهد(١) .

ويقول جرجي زيدان: (وكان الخراسانيون، ومن والاهم من أهل طبرستان والديلم، قبل قيام الدولة العباسية، من شيعة علي، وإنما بايعوا للعباسيين مجاراة لأبي مسلم أو خوفاً منه)(٢) .

وقال أحمد أمين: (.. إن الفرس يجري في عروقهم التشيع)(٣) ويقول الدكتور الشيبي: (.. إن الفرس قد عادوا إلى التشيع، بعد أن نزلت بهم ضربة السفاح أولاً، ثم المنصور، ثم الرشيد) (٤) ويقول أحمد شلبي: (.. إنه ربما كان سبب أخذ المأمون للرضا العهد، هو أنه يريد أن يحقق آمال الخراسانيين، الذين كانوا إلى أولاد علي أميل) (٥)

ما هو سر تشيع الإيرانيين؟

يقول السيد أمير علي، وهو يتحدث عن سر ارتباط الفرس بقضية بني فاطمة: (.. وقد أظهر الإمام علي منذ بداية الدعوة الإسلامية

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي المجلد الثاني، جزء ٤ ص ٤٤٠.

(٢) نفس المصدر والمجلد، والجزء ص ٢٣٢، ولا يهمنا هنا مناقشة جرجي زيدان فيما جعله سبباً لبيعتهم للعباسيين، ولعل ما قدمناه في فصل: قيام الدولة العباسية كاف في ذلك.

(٣) ضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٥.

(٤) الصلة بين التصوف والتشيع ص ١٠١.

(٥) التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ ص ١٠٧.

١٥١

كل تقدير، ومودة نحو الفرس، الذين اعتنقوا الإسلام، لقد كان سلمان الفارسي، وهو أحد مشاهير أصحاب الرسول، رفيق علي وصديقه. كان من عادة الإمام أن يخصص نصيبه (النقدي) في الأنفال لافتداء الأسرى. وكثيراً ما أقنع الخليفة عمر بمشورته، فعمد إلى تخفيف عبء الرعية في فارس. وهكذا كان ولاء الفرس لأحفاده واضحاً تمام الوضوح)(١) .

ويرى فان فلوتن: إن من أسباب ميل الخراسانيين، وغيرهم من الإيرانيين للعلويين، هو أنهم لم يعاملوا معاملة حسنة، ولا رأوا عدلاً إلا في زمن حكم الإمام عليعليه‌السلام (٢) .

أما الأستاذ علي غفوري فيرى(٣) : أن الإيرانيين كانوا قبل الإسلام يعاملون بمنطق: أن الناس قد خلقوا لخدمة الطبقة الحاكمة، وأن عليهم أن ينفذوا الأوامر من دون: كيف؟ ولماذا؟. فجاء الإسلام بتعاليمه الفطرية السهلة السمحاء، فاعتنقوه بكل رضى وأمل، وبدأ جهادهم في سبيل إقامة حكومة إسلامية حقيقية. وبما أن أولئك الذين تسلموا زمام الأمور ـ باستثناء الإمام علي طبعاً ـ كانوا منحرفين (المقصود هنا بالطبع هو خلفاء الأمويين) عن الإسلام، وتعاليمه، ويحاولون تلبيس عاداتهم الجاهلية، حتى التمييز القبلي، والعرقي بلباس الإسلام. وإعطائها صفة القانونية والشرعية.

فإن الإيرانيين لم يجدوا أهداف الإسلام، وتعاليمه في تلك الحكومات، ولهذا كان من الطبيعي أن يتوجهوا إلى علي، والأئمة من ولده، الذين تعدى الآخرون على حقوقهم بالخلافة، والذين كان سلوكهم المثالي هو المرآة الصافية، التي تنعكس عليها تعاليم الإسلام وأهدافه، ويمثلون الصورة الحقيقية للإسلام على مدى التاريخ. وكان صدى علمهم، وزهدهم، واستقامتهم يطبق الخافقين، وخصوصاً الصادق والرضا، الذي اهتبل الفرصة إبان الخلاف بين الأمين والمأمون لنشر تعاليم الإسلام. وتعريف الناس على الحقائق، التي شاء الآخرون أن لا يعرفها أحد.

____________

(١) روح الإسلام ص ٣٠٦.

(٢) السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات.

(٣) ياد بود هشتمين إمام (فارسي).

١٥٢

لكن لم يكن يروق للقوى الحاكمة، أن تظهر تلك الوجوه الطاهرة على الصعيد العام، وتتعرف عليها الأمة الإسلامية، وعلى فضائلها، وكمالاتها، لأن الناس حينئذٍ سوف يدركون الواقع المزري لأولئك الحكام، والمتزلفين لهم. والذين كانوا يتحكمون بمقدرات الأمة، وإمكاناتها، وإذا أدركوا ذلك فإن من الطبيعي أن لا يترددوا في تأييد الأئمة، ومساعدة أية نهضة، أو ثورة من قبلهم. ولهذا فقد جهد الحكام في أن يزووهم ويبعدوهم ما أمكنهم عن الناس، ووضعوهم تحت الرقابة الشديدة، وفي أحيان كثيرة في غياهب السجون. حتى إذا ما سنحت لهم فرصة، تخلصوا منهم بالطريقة التي كانوا يرون أنها لا تثير الكثير من الشكوك والظنون.

عودة على بدء:

وعلى كل حال.. فإن ما يهمنا هنا هو مجرد الإشارة إلى تشيع الإيرانيين، الذي حاول المأمون أن يستغله لمصالحه وأهدافه. حيث قد أثمرت وعود المأمون للخراسانيين، وتحببه لهم. وتقربه منهم، وتظاهره بالحب لعليعليه‌السلام وذريته، الثمار المرجوة منها، لأن الخراسانيين كانوا يريدون التخلص من أولئك الحكام الذين انقلبوا عليهم يقتلون. ويضطهدون كل من عرفوه موالياً لأهل البيت محبا لهم، ابتداء من المنصور، بل السفاح. وانتهاء بالرشيد، الذي لم يستطع يحيى بن خالد البرمكي أن يسمع لعلوي ذكراً في خراسان في زمانه. رغم أنه جهد كل الجهد من أجل ذلك. وفي سبيله، حسبما تقدم.

كما أنهم ـ أعني الخراسانيين ـ قد توسموا في المأمون أن يكون المنقذ لهم من أولئك الولاة،٨ الذين ساموهم شتى ضروب العسف، والظلم والعذاب. والذين لم يكن بهمهم غير مصالحهم، وإرضاء شهواتهم وملذاتهم، يعلم ذلك بأدنى مراجعة للتأريخ.

وقد وثقوا إلى حد ما بوعود المأمون تلك، التي كان يغدقها عليهم، وعلى غيرهم بدون حساب، وأمنوا جانبه، فكانوا جنده، وقواده، ووزراءه المخلصين، الذين أخضعوا له البلاد، وأذلو له العباد، وبسطوا نفوذه وسلطانه على كثير من الولايات والأمصار، التي كان يطمح إلى الوصول إليها، والسيطرة عليها.

١٥٣

كيف يثق العرب بالمأمون؟!

وهكذا إذن.. يتضح أن ميل المأمون للإيرانيين ما كان إلا دهاء منه وسياسة، استغلها المأمون أحسن ما يكون الاستغلال، حتى استطاع أن يصل إلى الحكم، ويتربع على عرش الخلافة، بعد أن قتل أخاه العزيز على العباسيين والعرب، وقضى على أشياعه بسيوف غير العرب، وذلك ذنب آخر لن يسهل على العرب الإغضاء عنه أو غفرانه.

ثم ولى على بغداد رجلاً غير عربي، هو الحسن بن سهل، أخو الفضل بن سهل، الذي تكرهه بغداد والعرب كل الكره..

ثم إنه بعد هذا كله جعل مقر حكمه مروا الفارسية، وليس بغداد العاصمة العربية الأولى التي خربها ودمرها.. وكان ذلك من شأنه أن يثير المخاوف لدى العرب في أن تتحول الإمبراطورية العربية إلى إمبراطورية فارسية، وخصوصاً إذا لاحظنا: أن الفرس هم الذين أوصلوا المأمون إلى الحكم.. وقد أثبتوا جدارتهم، وأهليتهم في مختلف المجالات، وخصوصاً السياسة، وشؤون الحكم.

قتل الأمين وخيبة الأمل:

وإن قتل الأمين، وإن كان يمثل ـ في ظاهره ـ انتصاراً عسكرياً للمأمون إلا أنه كان في الحقيقة ذا نتائج سلبية وعكسية بالنسبة للمأمون، وأهدافه، ومخططاته.. سيما بملاحظة الأساليب التي اتبعها المأمون للتشفي من أخيه الأمين، الذي كان قد أصدر الأمر لطاهر بالأمس بأن يقتله(١) . حيث رأيناه قد أعطى الذي جاءه برأس أخيه ـ بعد أن سجد لله شكرا! ـ ألف ألف (أي مليون) درهم(٢) . ثم أمر بنصب رأس أخيه على خشبة في صحن الدار، وأمر كل من قبض رزقه أن يلعنه، فكان الرجل يقبض، ويلعن الرأس، ولم ينزله حتى جاء رجل فلعن الرأس، ولعن والديه، وما ولدا، وأدخلهم في (كذا وكذا) من أمهاتهم، وذلك بحيث يسمعه المأمون، فتبسم، وتغافل، وأمر بحط الرأس(٣) !.

ويا ليته اكتفى بكل ذلك.. بل إنه بعد أن طيف برأس الأمين بخراسان(٤)

____________

(١) لقد نص الأستاذ علي غفوري في كتابه الفارسي (ياد بود هشتمين إمام) ص ٢٩ على أن المأمون: (لم يرض بقتل الأمين فحسب، بل أنه هو الذي أمر بقتله..).

(٢) فوات الوفيات ج ٢ ص ٢٦٩، والطبري، طبع دار القاموس الحديث ج ١٠ ص ٢٠٢، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٣، وحياة الحيوان ج ١ ص ٧٢، وتجارب الأمم المطبوع مع العيون والحدايق ج ٦ ص ٤١٦.

(٣) مروج الذهب ج ٣ ص ٤١٤، وتتمة المنتهى ص ١٨٦ والموفقيات ص ١٤٠.

(٤) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٩٨.

١٥٤

أرسل إلى إبراهيم بن المهدي يعنفه ويلومه على أنه أسف على قتل الأمين، ورثاه(١) !

فماذا ننتظر بعد هذا كله، وبعد ما قدمناه: أن يكون موقف العباسيين. والعرب، بل وسائر الناس منه..

إن أيسر ما نستطيع أن نقوله هنا: أنه كان لقتله أخاه، وفعاله الشائنة تلك.. أثر سيء على سمعته، ومن أسباب زعزعة ثقة الناس، به، وتأكيد نفورهم منه، سواء في ذلك العرب، أو غيرهم.

وقد استمر ذلك الأثر أعواما كثيرة، حتى بعد أن هدأت ثائرة الناس، ورجع إلى بغداد.

فقد جلس مرة يستاك على دجلة، من وراء ستر، فمر ملاح، وهو يقول: (أتظنون أن هذا المأمون ينبل في عيني، وقد قتل أخاه؟!).

قال: فسمعه المأمون، فما زاد على أن تبسم، وقال لجلسائه: (ما الحيلة عندكم. حتى أنبل في عين هذا الرجل الجليل)(٢) .

وقال له الفضل بن سهل، عندما عزم على الذهاب إلى بغداد: (ما هذا بصواب، قتلت بالأمس أخاك، وأزلت الخلافة عنه، وبنو أبيك معادون لك، وأهل بيتك والعرب.. إلى أن قال: والرأي،

____________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٤٤٣.

(٢) تاريخ بغداد ج ١٠ ص ١٨٩، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٧٧، وتاريخ الخلفاء ص ٣٢٠، وروض الأخيار في منتخب ربيع الأبرار ص ١٨٦، وفوات الوفيات ج ١ ص ٢٤٠.

١٥٥

أن تقيم بخراسان، حتى تسكن قلوب الناس على هذا، ويتناسوا ما كان من أمر أخيك..)(١) .

المأمون في الحكم:

وإذا ما أردنا أن نعطف نظرنا على ناحية أخرى في سياسة النظام المأموني، فإننا سوف نرى أنه لم يكن موفقاً في سياسته مع الناس، سواء في ذلك العرب أو الإيرانيون، بالأخص أهل خراسان، حيث لم يحاول أن يتجنب سياسة الظلم والعسف والاضطهاد، التي كان يمارسها أسلافه مع الرعية. بل لعله زاد عليهم، وسبقهم أشواطاً بعيدة في ذلك.

أما سياسته مع العرب:

فالمأمون، وإن استطاع أن يصل إلى الحكم إلا أنه فشل في مهمة الفوز بثقة العرب، خصوصاً إذا لاحظنا بالإضافة إلى ما قدمناه تحت عنوان (كيف يثق العرب بالمأمون). ما نالهم منه، ومن عماله، من صنوف العسف والظلم ـ عدا عما فعلته فيهم تلك الحروب الطاحنة، التي شنها ضد أخيه الأمين ـ فإن ذلك يفوق كل وصف، ويتجاوز كل تقدير،

____________

(١) البحار ج ٤٩ ص ١٦٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٨٥، وأعيان الشيعة ج ٤ قسم ٢ ص ١٣٨، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٠، هذا.. وتجدر الإشارة هنا: إلى أن بعض المحققين يرى: أن قتل الأخ في سبيل الملك، لم يكن من الأمور التي يهتم لها الناس كثيراً في تلك الفترة، سيما إذا كان المقتول هو المعتدي أولاً، والأمين هنا هو المعتدي على المأمون، بخلعه أولاً، ثم بإرساله جيشاً إلى إيران لمحاربته، والذي هزم على يد طاهر بن الحسين، ولكننا مع ذلك.. لا نزال نصر على رأينا في هذا المجال، سيما وأننا نرى في النصوص التاريخية ما يدعم هذا الرأي ويقويه.

١٥٦

حتى لقد وصف: (ديونيسيوس) جباة الخراج في العراق في سنة (٢٠٠ ه). بأنهم: (قوم من العراق، والبصرة. والعاقولاء، وهم عتاة، ليس في قلوبهم رحمة، ولا إيمان، شر من الأفاعي، يضربون الناس، ويحبسونهم. ويعلقون الرجل البدين من ذراع واحد، حتى يكاد يموت)(١) .

والإيرانيون أيضاً لم يكونوا أحسن حالاً:

ولم يكن حال الإيرانيين من هذه الجهة بأفضل من حال أهل العراق. ويذكر الجاحظ: أن المأمون ولى محمود بن عبد الكريم التصنيف (فتحامل على الناس، واستعمل فيهم الأحقاد والدمن، فخفض الأرزاق، وأسقط الخواص، وبعث في الكور، وأنحى على أهل الشرف والبيوتات، حسداً لهم، وإشفاء لغليل صاحبه منهم، فقصد لهم بالمكروه والتعنت فامتنعت طائفة من الناس من التقدم إلى العطاء، وتركوا أسماءهم، وطائفة انتدبوا مع طاهر بن الحسين بخراسان، فسقط بذلك السبب بشر كثير..)(٢) .

يقول الجنرال جلوب وهو يتحدث عن المأمون (.. وراح يلقي خطبته الأولى في الناس، فيعدهم بأن يكون حكمه فيهم طبقاً للشرع، وأن يكرس نفسه لخدمة الله وحده. وقد أثارت هذه الوعود التقية حماسة عند الناس. وكانت من أهم أسباب انتصاره. لكن هذه الوعود ما لبثت أن تحولت إلى فجيعة نزلت بالناس، إذ إن الخليفة ما لبث أن نسيها)(٣) .

ويكفي أن نشير هنا إلى المجاعة التي أصابت أهل خراسان، والري. وأصبهان، وعز الطعام، ووقع الموت، وذلك في سنة ٢٠١ للهجرة..

____________

(١) الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، لآدم متز ج ١ ص ٢٣٢.

(٢) رسائل الجاحظ ج ٢ ص ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

(٣) إمبراطورية العرب، ترجمة، وتعليق خيري حماد ص ٥٧٠.

١٥٧

المأمون مع الرعية عموماً:

وعن حالة المأمون العامة مع الناس يقول فان فلوتن:

(.. ولم يكن جور النظام العباسي وعسفه، منذ قيام الدولة العباسية بأقل من النظام الأموي المختل، وتذكرنا شراهة المنصور، والرشيد، والمأمون، وجشعهم، وجور أولاد علي بن عيسى، وعبثهم بأموال المسلمين بزمن الحجاج، وهشام، ويوسف بن عمر الثقفي. ولدينا البراهين الكثيرة على فجيعة الناس في هذا العرش الجديد، ومقدار انخداعهم به..)، ثم يضرب أمثلة من الخارجين على سياسات العباسيين تلك. ثم يقول: (.. كل ذلك يبين أن ما كان يشكو منه المسلمون من الجور والعسف لم يزل على ما كان عليه في عهد بني أمية الأول..)(١) .

قال ابن الجراح: إن إبراهيم بن المهدي كان: (يرمي المأمون بأمه(٢) ، وإخوته، وأخواته، ومن أيسر ذلك قوله:

صـد عـن تـوبة وعـن إخبات

ولـهـا بـالـمجون والـقـينات

مـا يـبالي إذا خـلا بأبي عيسى

وســرب مـن بـدن أخـوات

أن يغص المظلوم في حومة الجور

بــداء بـين الـحشا واللهاة(٣)

____________

(١) السيادة والعربية والشيعة والإسرائيليات ص ١٣٢.

(٢) ولكن أمه كانت قد ماتت أيام نفاسها به!!. ولعله يريد أن أمه كانت متهمة، فكان يعير بها..

(٣) الورقة، لابن الجراح ص ٢١، ولا بأس بمراجعة كتاب: أشعار أولاد الخلفاء.

١٥٨

وما يهمنا هنا هو البيت الأخير، أما ما قبله، فلا نملك إلا أن نقول: (أهل البيت أدرى بالذي فيه..).

وعلى كل حال. فإننا لا نستغرب على المأمون صفة الظلم والعسف والجور. بعد أن رأينا أنه عندما عرضت عليه سيرة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليعليه‌السلام يأبى أن يأخذ بها جميعاً، لأنه كان يجد في آخر كل منها: أنهم كانوا يأخذون الأموال من وجوهها، ويضعونها في حقوقها. لكنه قبل سيرة معاوية، الذي أراد الإعلان ببراءة الذمة ممن يذكره بخير، لأن في آخرها يقول: إنه كان يأخذ الأموال من وجوهها، ويضعها كيف شاء..، وقال المأمون حينئذٍ: (إن كان فهذا)(١) ! وفي رسالة عبد الله بن موسى للمأمون نفسه ما فيه الكفاية فلتراجع في أواخر هذا الكتاب.

وماذا بعد الوصول إلى الحكم:

وهكذا.. فإن المأمون كان يحسب أنه إذا قتل أخاه، وتخلص من من أشياعه ومساعديه، وبعد أن توتي الحملة الدعائية ضدهم ثمارها ـ كان يحسب ويقدر ـ أن الطريق يكون قد مهد له للاستقرار في الحكم، وأنه سوف يستطيع بعد هذا أن يطمئن، وينام قرير العين.

ولكن فأله قد خاب، وانقلبت مجريات الأمور في غير صالحه، فإن الإيرانيين قد: (انفضوا بعد الحرب الأهلية المفجعة بين الأمين والمأمون، عن

____________

(١) المحاسن والمساوي للبيهقي ص ٤٩٥.

١٥٩

تأييد العباسيين)(١) . انفضوا عنه ليمنحوا العلويين عطفهم ومحبتهم، وتأييدهم، لأنهم يعرفون أنهم هم الذين يقيمون العدل، ويعملون بشريعة الله ـ وما موقف نيسابور، وصلاتي العيد، إلا الدليل الواضح والقاطع على تلك العاطفة، وذلك الحب والتقدير. وأيضاً انفضوا عنه لأنه قد كشف لهم عن وجهه الحقيقي، وعرفهم بواقعه الأناني البشع، وخصوصاً بعد أن عانوا ما عانوا هم وغيرهم من صنوف الظلم والجور والاضطهاد، في ظل نظام الحكم الذي طالما عملوا من أجله، وضحوا في سبيله.

وحتى لو أنهم كانوا لا يزالون على تأييدهم له، فإنه لا يستطيع بعد هذا أن يعتمد على ذلك التأييد، وعلى ثقتهم به طويلاً، فإنه كان من السهل ـ بعد أن فعل بأخيه وأشياعه، وغيرهم. ما فعل ـ أن يكتشفوا أن ذلك منه ما كان إلا سياسة ودهاء. كما أنه أصبح من الصعب عليهم ـ بعد تجربتهم الأولى معه، ومع وعوده، التي ما أسرع ما نسيها ـ أن يقتنعوا منه بالأقوال التي لا تدعمها الأفعال، ولسوف لا يطمئنون إليه، ولن يتفادوا له ـ بعد هذا ـ بالسهولة التي كان يتوقعها.

الموقف الصعب:

كانت تلك لمحة خاطفة عن موقف العباسيين، والعرب تجاه المأمون. ذلك الموقف، الذي كان يزداد حساسية وتعقيدا، يوماً عن يوم. أضف إلى ذلك أيضاً الخطر الذي كان يكمن في موقف الخراسانيين، الذين رفعوا المأمون على العرش، وسلموا إليه أزمة الحكم والسلطان..

وإذا ما أضفنا إلى ذلك كله، موقف العلويين، الذين اغتنموا فرصة الصدام بينه وبين أخيه، لتجميع صفوفهم، ومضاعفة نشاطاتهم، فلسوف تكتمل أمامنا ملامح الصورة لحقيقة الوضع والظروف، التي كان يعاني منها المأمون، ونظام حكمه آنذاك.. سيما ونحن نراه في مواجهة تلك الثورات العارمة، وبالأخص ثورات العلويين أقوى خصوم الدولة العباسية، والتي كانت تظهر من جانب ومكان، وكل ناحية من نواحي مملكته.

____________

(١) إمبراطورية العرب ص ٦٤٩.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568