فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد10%

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 568

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 247887 / تحميل: 11070
الحجم الحجم الحجم
فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

فلمّا اكتملنا جميعاً تحت الكساء أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بطَرفي الكساء وأومأ بيده اليمين إلى السماء وقال: اللّهمّ إنّ هؤلاء أهل بيتي وخاصَّتي وحامَّتي لحمهم لحمي، ودمهم دمي، يؤلمني ما يؤلمهم ويُحرجني ما يُحرجهم (١) ، أنا حرب لمـَن حاربهم، وسلم لمـَن سالمهم، وعدوٌ لمـَن عاداهم، ومحبٌّ لمـَن أحبَّهم، إنَّهم منّي وأنا منهم، فاجعل صلواتك وبركاتك ورحمتك وغفرانك ورضوانك عليَّ وعليهم، وأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

قال الله عزّ وجل: يا ملائكتي ويا سكّان سماواتي إنّي ما خلقت سماءً مبنيّة، ولا أرضاً مدحيَّة، ولا قمراً منيراً، ولا شمساً مضيئة، ولا فلكاً يدور، ولا بحراً يجري، ولا فُلكاً تسري إلاَّ في محبّة هؤلاء الخمسة الذين هم تحت الكساء.

فقال الأمين جبرئيل: يا ربّ مَن تحت الكساء؟ فقال الله عزّ وجل: هم أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة، هم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها.

فقال جبرئيل: يا ربّ أتأذن لي أن أهبط إلى الأرض لأكون لهم سادساً؟ فقال الله عزّ وجل: قد أذنت لك. فهبط الأمين جبرئيل فقال: السلام عليك يا رسول الله!‍ العلي الأعلى يقرئك السلام، ويخصّك بالتحيّة والإكرام ويقول لك: وعزّتي وجلالي! إنّي ما خلقت سماءً مبنيّة، ولا أرضاً مدحيَّة، ولا قمراً منيراً ولا شمساً مضيئة، ولا فلكاً يدور، ولا بحراً يجري ولا فُلكاً تسري إلاَّ لأجلكم، وقد

____________________

(١) وفي نسخة: ويحزنني ما يحزنهم.

٨١

أذن لي أن أدخل معكم تحت الكساء، فهل تأذن لي أن أدخل أنت يا رسول الله؟

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وعليك السلام يا أمين وحي الله قد أذنت لك. فدخل جبرئيل معهم تحت الكساء فقال: إن الله قد أوحى إليك(١) يقول:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) .

فقال علي بن أبي طالب: يا رسول الله أخبرني ما لجُلُوسِنا هذا تحت الكساء من الفضل عند الله؟

فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : والذي بعثني بالحق نبيّاً، واصطفاني بالرسالة نجيّاً، ما ذُكر خبرنا هذا في محفل من محافل أهل الأرض وفيه جمع من شيعتنا ومحبّينا إلاَّ ونزلت عليهم الرحمة وحفّت بهم الملائكة، واستغفرت لهم إلى أن يتفرّقوا.

فقال عليعليه‌السلام : إذن - والله فزنا - وفازت شيعتنا وربِّ الكعبة، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : والذي بعثني بالحق نبيّاً، واصطفاني بالرسالة نجيّاً ما ذكر خبرنا هذا في محفل من محافل أهل الأرض وفيه جمع من شيعتنا ومحبّينا وفيهم مهموم إلاَّ وفرّج الله همَّه، ولا مغموم إلاَّ وكشف الله غمّه، ولا طالب حاجة إلاَّ وقضى الله حاجته.

فقال علي عليه‌السلام إذن - والله - فُزنا وسعدنا وكذلك شيعتنا فازوا وسعدوا في الدنيا والآخرة. انتهى

الشيعة وحديث الكساء

لقد جرت السيرة عند الشيعة - طوال القرون والعصور - على تلاوة

____________________

(١) وفي نسخة: فقال لأبي: إنّ الله قد أوحى إليكم يقول...

٨٢

حديث الكساء في المجالس والمجامع والمحافل، للتبرّك واستجابة الدعاء ونزول الرحمة الإلهيّة.

وهناك الآثار العجيبة التي ظهرت ببركة تلاوة هذا الحديث الشريف، من شفاء المرضى وقضاء الحوائج ورفع الشدائد والمكاره.

وقد روي حديث الكساء هذا، في المصادر التالية:

١ - غرر الأخبار للديلمي صاحب كتاب إرشاد القلوب، وهو من علماء القرن الثامن الهجري.

٢ - المنتَخب للطريحي صاحب كتاب مجمع البحرين.

٣ - نهج المحجّة في فضائل الأئمّة للشيخ علي نقي بن أحمد الاحسائي، وهو من علماء القرن الثاني عشر.

٤ - عوالم العلوم للشيخ عبد الله أفندي البحراني... فقد رواه بأسانيد عالية متصلة، عن سلسلة من العلماء العظام، فيهم: العلاّمة الحلّي، والشيخ الطوسي، والشيخ المفيد، وابن قولويه، وعلي بن إبراهيم - صاحب التفسير - والشيخ الكليني، وغيرهم.

كما أفرد بعض العلماء كتباً مستقلّة حول هذا الحديث وشرحه وبيان طُرقه.

هذا... ومَن أراد التفصيل فليراجع كتاب إحقاق الحق للقاضي نور الله التستري ج ٢ ص ٥٥٨.

الشعراء وحديث الكساء

كما كان للشعراء دور كبير في نظم هذا الحديث الشريف وصياغته في قوالب شعرية رائعة، باللغة العربية والفارسية والهندية (الأُردو).

ومنهم السيد الأجلّ السيد محمد القزويني بن السيد مهدي القزويني

٨٣

النجفي الحلّي، حيث نظم هذا الحديث الشريف في القصيدة التالية:

روت لنا فاطمة خير النسا

حديث أهل الفضل أصحاب الكسا

تقول: إنّ سيّد الأنامِ

قد جاءني يوماً من الأيامِ

فقال لي: إنّي أرى في بدني

ضعفاً أراه اليوم قد أنحلني

قومي عَليَّ بالكسا اليماني

وفيه غطّيني بلا تواني

قالت: فجئته وقد لبّيته

مسرعةً وبالكسا غطيّته

وكنت أرنو وجهه كالبدرِ

في أربعٍ بعد ليالٍ عشرِ

فما مضى إلاَّ يسير من زمن

حتى أتى أبو محمد الحسن

فقال: يا أُمّاه إنّي أجدُ

رائحةً طيّبةً أعتقدُ

بأنّها رائحة النبيِّ

أخ الوصي المرتضى عليِّ

قلت: نعم هاهو ذا تحت الكسا

مدثَّرٌ به، مغطىً واكتسى

فجاء نحوه ابنه مسلِّما

مستأذناً قال له: ادخل مكرما

فما مضى إلاَّ القليل إلاّ

جاء الحسين السبط مستقلاّ

فقال يا أُمّ أشمّ عندكِ

رائحةً كأنّها المسك الذكي

وحقِّ مَن أولاك منه شرفا

أظنّها ريح النبيّ المصطفى

قلت: نعم تحت الكساء هذا

بجنبه أخوك فيه لاذا

فأقبل السبط له مستأذنا

مسلّماً قال له: ادخل معنا

وما مضى من ساعةٍ إلاَّ وقدْ

جاء أبوهما الغضنفرُ الأسدْ

أبو الأئمّة الهداة النُّجبا

المرتضى رابع أصحاب الكسا

فقال يا سيّدة النساءِ

ومَن بها زُوِّجتُ في السماءِ

إنّي أشمّ في حماك رائحه

كأنّها الورد النديّ فايحه

يحكي شذاها عرف سيّد البشرْ

وخير مَن لبَّى وطاف واعتمرْ

٨٤

قلت: نعم تحت الكساء التحفا

وضمّ شبليك وفيه اكتنفا

فجاء يستأذن منه سائلا

منه الدخول قال: فادخل عاجلا

قالت: فجئت نحوهم مسلّمه

قال: ادخلي محبوّة مكرّمة

فعندما بهم أضاء الموضعُ

وكلّهم تحت الكساء اجتمعوا

نادى إلهُ الخلق جلّ وعلا

يُسمع أملاك السماوات العلى

أقسم بالعزّة والجلالِ

وبارتفاعي فوق كل عالي

ما من سما رفعتها مبنيّه

وليس أرض في الثرى مدحيّه

ولا خلقت قمراً منيرا

كلاّ ولا شمساً أضاءت نورا

وليس بحر في المياه يجري

كلاّ ولا فُلك البحار تسري

إلاّ لأجل مَن هم تحت الكسا

مَن لم يكن أمرهم ملتبسا

قال الأمين: قلت: يا ربّ ومَنْ

تحت الكسا؟ بحقّهم لنا أبِنْ

فقال لي: هم معدن الرساله

ومهبط التنزيل والجلاله

وقال: هم فاطمة وبعلها

والمصطفى والحسنان نسلها

فقلت: يا ربّاه هل تأذن لي

أن أهبط الأرض لذاك المنزلِ

فأغتدي تحت الكساء سادسا

كما جعلتُ خادماً وحارسا؟

قال: نعم. فجاءهم مسلّما

مستأذناً يتلو عليهم إنّما

يقول: إنَّ الله خصّكم بها

معجزة لمـَن غدا منتبها

أقرأكم ربُّ العلا سلامه

وخصّكم بغاية الكرامه

وهو يقول معلناً ومفهما

أملاكه الغرّ بما تقدّما

قال علي: قلت: يا حبيبي

ما لجلوسنا من النصيبِ؟

قال النبيُّ: والذي اصطفاني

وخصّني بالوحي واجتباني

ما إن جرى ذكرٌ لهذا الخبرِ

في محفل الأشياع خير معشرِ

إلاَّ وأنزل الإله الرحمه

وفيهم حفَّت جنود جمَّه

٨٥

من الملائك الذين صدقوا

تحرسهم في الدهر ما تفرّقوا

كلاّ وليس فيهم مغموم

إلاَّ وعنه كُشفت همومُ

كلاَّ ولا طالب حاجة يرى

قضاءها عليه قد تعسّرا

إلاَّ قضى الله الكريم حاجتَه

وأنزل الرضوان فضلاً ساحتَه

قال عليٌ: نحن والأحبابُ

أشياعنا الذين قِدماً طابوا

فُزنا بما نلنا وربِّ الكعبه

فليشكرنَّ كلُ فَردٍ ربَّه

يا عجباً يستأذنُ الأمينُ

عليهمُ ويهجمُ الخئونُ

قال سُليمٌ: قلتُ: يا سلمانُ

هل دخلوا ولم يك استئذانُ

فقال: أي وعزَّة الجبّارِ

ليس على الزهراءِ من خمارِ

لكنّها لاذت وراء البابِ

رعايةً للستر والحجابِ

فمذ رأوها عَصَروها عصره

كادت - بروحي - أن تموت حسره

تصيح: يا فضةُ أسنديني

فقد وربّي قتلوا جنيني

فأسقطت بنت الهدى وا حزنا

جنينها ذاك المسمَّى مُحسنا

٨٦

الزّكِيّة

لقد وردت كلمات في القرآن الكريم مشتقّة من التزكية في مواضع عديدة كقوله تعالى:( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكّاهَا ) وقوله:( أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً ) وقوله:( لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً ) وقوله( ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ ) .

وهذه الكلمة تستعمل في التطهير والنمو، فالآية الأولى معناها: قد أفلح مَن زكّى نفسه بالتطهير من الأخلاق الذميمة، الناشئة من شر البطن والكلام والغضب والحسد والبخل، وحب الجاه وحب الدُّنيا والكبر والعجب.

فالتطهير من هذه الصفات يكون بالتجرّد عنها، وبالعمل الصالح الذي هو ضد البخل والكبر، وما شابه ذلك.

ومعنى الآية الثانية: أقتلت نفساً طاهرة لم تصدر منها جناية أو أي عمل يوجب قتلها.

ومعنى الآية الثالثة. أي غلاماً طاهراً من الذنوب، تامّاً في أفعال الخير.

والسيّدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام زكية بجميع هذه المعاني والمفاهيم، وفي آية التطهير كفاية لإثبات هذه الأمور، فهي زكية أي مطهّرة من كل رجس، وقد ذكرنا معاني (الرجس) عند البحث عن آية التطهير.

وأمّا الآية الرابعة التي معناها النمو والزيادة، فإنَّ السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام زكيّة بذلك المعنى أيضاً، وقد ذكرنا بعض ما يتعلّق بهذا الموضوع في معنى كلمة (المباركة).

٨٧

الراضِيَة

الرضا بما قدَّر الله تعالى لعبده يعتبر من أعلى درجات الإيمان بالله عزّ وجل، وقد رضيت السيدة فاطمة الزهراء بما قدّر لها من مرارة الحياة، وهذا الكتاب كلّه يحدّثك عن المصائب والنوائب التي انصبّت على فاطمة الزهراء منذ نعومة أظافرها إلى أن فارقت الحياة في عنفوان شبابها، وهي في جميع تلك المراحل راضية بما كتب الله لها من خوف واضطهاد وحرمان وفقر وأحزان وهموم وغموم ومآسي وآلام، وستجد شيئاً من تلك المكاره التي امتزجت بحياتها، تجدها في هذا الكتاب، ويجدر بها أن يشملها قوله تعالى:( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ) لأنّها راضية بثواب الله، راضية عن الله بما أعدّ الله لها، راضية بقضاء الله في الدنيا حتى رضي الله عنها.

٨٨

المـَرْضِيَّة

إنّ درجة المرضيين عند الله تعالى درجة عالية، ومنزلة سامية فهناك القليل من عباد الله الذين رضي الله عنهم فكانوا مرضيين عند الله تعالى بسبب اعتدالهم واستقامتهم، ومن جملة الذين فازوا بتلك المنزلة الرفيعة والدرجة الراقية هي سيّدتنا فاطمة الزهراءعليها‌السلام فإنّ الله تعالى قد رضي عنها أحسن الرضا، فكانت مرْضيّة عنده لعبادتها وطاعتها، مرْضيّة لزهدها وإنفاقها، مرْضيّة لصبرها واستقامتها.

وقد روى الحافظ العسقلاني عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: (أتاني جبرئيل فقال: يا محمد إنّ ربّك يحبّ فاطمة فاسجد، فسجدت...) إلى آخره.

كما روى الذهبي أنّ جبرئيل نزل على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - عند ولادة فاطمة - فقال له: (... الله يقرؤك السلام، ويُقرئ مولودك السلام)(٢) .

____________________

(١) لسان الميزان لابن حجر العسقلاني ج ٣ ص ٢٧٥ طبعة حيدر آباد.

(٢) ميزان الاعتدال للذهبي ج ٢ ص ٢٦ طبعة القاهرة.

٨٩

المـُحَدّثَة

قبل كل شيء ينبغي أن نعلم: هل تتحدث الملائكة مع غير النبي؟ وهل يراهم غير النبي؟ أو يسمع أصواتهم؟

للإجابة على هذه الأسئلة نراجع القرآن الكريم للتحقيق عن الجواب الصحيح:

١ - قال تعالى:( وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ) (١) .

إنّ صريح هذه الآية أنّ الملائكة خاطبت مريم بما مرّ عليك من كلمات الثناء والأوامر الإلهية، ولا شكّ أنّها كانت تسمع نداءهم وتفهم خطابهم وإلاّ فما فائدة هذا الخطاب؟

وقيل: الذي خاطبها هو جبرئيل وحده(٢) .

٢ - قال سبحانه:( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ

____________________

(١) آل عمران: ٤١.

(٢) مجمع البيان في تفسير الآية.

٩٠

وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيّاً ) (١) .

لقد أجمع المفسّرون أن المقصود من( رُوحَنَا ) هو جبرئيل، تمثّل لها بصورة آدمي صحيح، لم ينقص منه شيء فانتصب بين يديها، وجرى بينهما الكلام والحوار.

٣ -( وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) (٢) .

إنّ هذه الآيات تتعلّق بمجيء الملائكة إلى دار إبراهيم الخليلعليه‌السلام لتبشّره بالولد، وكانت زوجته سارة تخدم وتحمل الطعام إليهم ظنّاً منها أنّهم ضيوف فلقد تكلّمت مع الملائكة، وخاطبتها الملائكة بما مرّ عليك من الآيات.

٤ -( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ) (٣)

وقد ذكر المفسّرون معنى( أَوْحَيْنَا ) أي ألهمنا، وقذفنا في قلبها، وعلى قول: إنّها نوديت بهذا الخطاب.

وقد ذكر المنّاوي في شرح الجامع الصغير ج٢ ص٢٧٠ عن القرطبي قال: (محدَّثون ) بفتح الدال اسم مفعول، جمع محدَّث أي مُلهَم، أو صادق الظن وهو مَن أُلقي في نفسه شيء على وجه الإلهام والمكاشفة من

__________

(١) مريم: ١٦ - ٢١.

(٢) هود: ٧٠ - ٧٣.

(٣) القصص: ٧.

٩١

الملأ الأعلى، أو مَن يجري الصواب على لسانه بلا قصد، أو تكلِّمه الملائكة بلا نبوّة، أو مَن إذا رأى رأْياً أو ظنَّ ظناً أصاب كأنّه حُدِّث به وأُلقي في روعه من عالم الملكوت، فيظهر على نحو ما وقع له، وهذه كرامة يكرّم الله بها مَن يشاء من صالحي عباده، وهذه منزلة جليلة من منازل الأولياء.

أقول: بعد هذه المقدّمات سوف لا يصعب عليك أن تعرف أنّ السيدة فاطمة الزهراء كانت محدَّثة، إذ ليست سيّدة نساء العالمين وبنت سيّد الأنبياء والمرسلين بأقلِّ شأناً من مريم بنت عمران أو سارة زوجة إبراهيم أو أم موسى، وليس معنى ذلك أنّ مريم أو سارة أو أم موسى كنَّ من الأنبياء، وهكذا ليس معنى ذلك أنّ السيدة فاطمة الزهراء كانت نبيّة.

وقد روى الشيخ الصدوق في (علل الشرائع) عن زيد بن علي قال: سمعت أنّ أبا عبد الله (الصادق) يقول: إنَّما سمِّيت فاطمة محدَّثة (بفتح الدال) لأنّ الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما تنادي مريم بنت عمران، فتقول الملائكة: يا فاطمة إنّ الله اصطفاك وطهَّرك واصطفاك على نساء العالمين(١) .

وفي البحار (ج١٠) قال الإمام الصادقعليه‌السلام لأبي بصير: وإنّ عندنا لمصحف فاطمة، وما يدريهم ما مصحف فاطمة؟ قال: فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرّات، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد وإنّما هو شيء أملاه الله عليها وأوحى إليها... إلى آخر الحديث(٢) .

إنّ هذا الحديث يكشف لنا أموراً قد تحتاج إلى بحث وتحقيق، فكلام الإمامعليه‌السلام : (فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات) يريد بذلك حجم

____________________

(١) علل الشرايع: ص ١٨٢ باب ١٤٦ ح ١.

(٢) الكافي: ج ١ ص ٢٣٨ ح ١.

٩٢

المصحف، وكميّة المواد الموجودة فيه، وحيث إنّ القرآن كتاب معروف ومشهور عند جميع المسلمين - في كل زمان ومكان - من حيث الحجم والسور والآيات والكميّة؛ ولهذا جعل الإمامعليه‌السلام القرآن مقياساً وميزاناً يقيس عليه مصحف فاطمةعليها‌السلام من حيث الحجم وكميّة المواد.

فمثلاً: لو أنّ قرآناً طُبع بحروف متوسّطة، وصفحات حجمها متوسّط، فلنفرض أنّ عدد تلك الصفحات تبلغ خمسمائة صفحة فلو طبعنا مصحف فاطمةعليها‌السلام بنفس تلك الحروف ونفس حجم تلك الصفحات لبلغ عدد صفحات مصحف فاطمةعليها‌السلام ألفاً وخمسمائة صفحة، أي ثلاثة أضعاف صفحات القرآن، وهذا معنى كلام الإمامعليه‌السلام : (فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات) وليس معناه أنّ القرآن الموجود بين أيدينا ناقص، وأنّ مصحف فاطمة مكمِّل له، كلاّ وألف كلاّ، وليس معناه أنّ الله أنزل على السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام قرآناً، وكل مَن ادَّعى غير هذا فهو إمَّا جاهل أو معاند مفترٍ كذّاب.

وأمّا كلمة: المصحف (وإن كان هذا الاسم) يُستعمل في زماننا هذا اسماً للقرآن ولكنّه في اللغة يُستعمل في الكتب.

قال الرازي في مختار الصحاح: (والمصحف - بضم الميم وكسرها - وأصله الضم؛ لأنّه مأخوذ من (أصحف) أي جُمعت فيه الصحف).

وفي المنجد: المـَصحف والمـُصحف جمعه مصاحف: ما جُمع من الصحف بين دفَّتي الكتاب المشدود.

وفي صراح اللغة:

٩٣

مصحف - بالكسر والضم - كرّاسة.

قال الفراء وقد استثقلت العرب الضمّة في حروف فكسروا ميمها وأصلها الضم من ذلك مصحف ومخدع ومطرف... لأنّها في المعنى مأخوذة من أصحف أي جمعت فيه الصحف.

وفي المصباح المنير: والصحيفة قطعة من جلد أو قرطاس كتب فيه... والجمع صُحُف بضمّتين وصحائف... والمصحف بضم الميم أشهر من كسرها.

وفي أقرب المـُوارد: المـُصحف اسم مفعول... وحقيقتها مجمع الصحف أو ما جمع منها بين دفّتي الكتاب المشدود... وفيه لغتان أُخريان وهما المِصحف والمـَصحف جمعه مصاحف.

وفي لسان العرب: المـُصحف والمِصحف الجامع للصُّحف المكتوبة بين الدفتين كأنّه أُصحِف، والكسر والفتح فيه لغة.

أيّها القارئ الكريم: إليك الآن هذا الحديث الشريف الذي يتحدّث فيه الإمام الصادقعليه‌السلام عن معنى المحدَّثة و (مصحف فاطمة):

في بحار الأنوار ج ٤٣:... وسأله بعض أصحابه عن مصحف فاطمة.

فسكت الإمام طويلاً، ثم قال: إنّكم لتبحثون عمّا تريدون وعمّا لا تريدون!

إنّ فاطمة مكثت بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خمسة وسبعين يوماً، وكان دخلها حزن شديد على أبيها، وكان جبرئيل يأتيها فيحسن عزاها على أبيها، ويطيب نفسها ويخبرها عن أبيها ومكانه

٩٤

ويخبرها بما يكون بعدها، وكان عليعليه‌السلام يكتب ذلك، فهذا مصحف فاطمة.

والحسين بن أبي العلا يروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله:... ومصحف فاطمة، ما أزعم أنّ فيه قرآناً، وفيه ما يحتاج الناس إلينا، ولا نحتاج إلى أحد، حتى أنّ فيه الجلد بالجلدة، ونصف الجلدة، وربع الجلدة وأرش الخدش... الخ.

وفي حديث آخر قالعليه‌السلام : وأمّا مصحف فاطمةعليها‌السلام ففيه ما يكون من حادث، وأسماء مَن يملك إلى أن تقوم الساعة.

بقي الكلام حول جملة (أوحى إليها) فالمستفاد من القرآن أنّ الوحي من الله لا يختص بالأنبياء، بل يوحي الله تعالى إلى غير الأنبياء أيضاً، استمع إلى هذه الآيات البيِّنات:

١ -( فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) (١) .

٢ -( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي ) (٢) .

٣ -( إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا ) (٣) .

٤ -( وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ) (٤) .

٥ -( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ) (٥) .

٦ -( إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ) (٦) .

هذه بعض الآيات التي تصرّح بأنّ الوحي لا يختص بالأنبياء، بل لا يختص بالبشر، فلقد أوحى الله تعالى إلى كل سماء، وأوحى إلى الحواريين، وإلى الملائكة، وإلى النحل، وإلى أم موسى، فلا يصعب عليك أن تقبل بأنَّ الله تعالى أوحى إلى سيّدة نساء العالمين وبنت سيّد الأنبياء

____________________

(١) فصلت: ١٠.

(٢) المائدة: ١١١.

(٣) الأنفال: ١٢.

(٤) النحل: ٧٠.

(٥) القصص: ٦.

(٦) طه: ٣٩.

٩٥

والمرسلين فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، وكما تقول في تفسير الوحي إلى أم موسى قل في تفسير الوحي إلى فاطمة الزهراء.

وختاماً لهذا البحث: إنّ مصحف السيدة فاطمة الزهراء كتاب ضخم، يحتوي على جميع الأحكام الشرعية بالتفصيل، ويستوعب قانون العقوبات في الإسلام، حتى بعض المخالفات التي عقوبتها جلدة واحدة أو نصف جلدة أو ربع جلدة، بل وحتى غرامة مَن خدش جسم أحد من الناس خدشة واحدة.

وفيه أسماء ملوك العالم الذين حكموا البلاد من ذلك اليوم وسيحكمون إلى قيام القيامة، كل ذلك كان في علم الله الذي هو بكل خلق عليم وبكل شيء خبير بصير محيط.

وفيه ذكر الحوادث المهمّة من الملاحم والمجازر التي تحدث في الكون وغير ذلك من القضايا الهامّة.

وليس فيه شيء من القرآن كما هو صريح الحديث.

ولقد أطلنا البحث والكلام حول هذا الموضوع؛ لأنّ بعض أصحاب النفوس المريضة والقلوب السقيمة اعتبروا هذا الحديث مرتعاً خصباً للتهريج والتشنيع ضد الشيعة والتشيّع، كأنّهم لم يقرأوا هذه الآيات أو لم يفهموها أو تناسوها فهاجموا الشيعة مهاجمة شعواء فقالوا ما قالوا، وحسابهم على الله يوم فصل القضاء.

٩٦

الزهراء

عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه قال: (... فخلق الله نور فاطمة الزهراء - يومئذٍ - كالقنديل، وعلَّقه في قرط العرش، فزهرت السماوات السبع والأرضون السبع، من أجل ذلك سُميّت فاطمة: الزهراء)(١).

وعن ابن عباس قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : وأمّا ابنتي فاطمة فإنّها سيّدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين، وهي بضعة منّي وهي نور عيني، وهي ثمرة فؤادي وهي روحي التي بين جنبيّ، وهي الحوراء الإنسيّة متى قامت في محرابها بين يدي ربّها (جل جلاله) زهر نورها لملائكة السماوات كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض(٢) .

وبهذين الحديثين اتضح لنا سبب تسميتهاعليها‌السلام الزهراء، وهناك أحاديث أخرى بهذا المضمون، وأنّها كانت تتمتع بوجه مشرق مستنير زاهر، وفيما ذكرنا كفاية.

ولسيّدتنا فاطمة الزهراءعليها‌السلام أسماء غير التي مرّت عليك، وكل اسم يدل على فضيلة ومزية امتازت بها السيّدة الزهراء، منها: البتول، العذراء الحانية (من الحنُوّ) بسبب كثرة حنانها على أولادها.

وكنيتها، أُمّ أبيها، وهي من أفضل كناها.

____________________

(١) بحار الأنوار ج ٤٣ ص ١٧.

(٢) أمالي الصدوق / بحار الأنوار ج ٤٣.

٩٧

البَتُول

اعلم أنَّ الله تعالى قد جعل في مخلوقاته - من الجماد والنبات والحيوان والإنسان - قوانين وسُنَن، وجعل تلك المخلوقات خاضعة لتلك القوانين. فالنار طبيعتها الإحراق وهذه سُنّة الله في النار.

والنبات يحتاج إلى زمان محدود ومكان معيّن بشروط خاصة حتى ينمو ويكبر ويثمر، انظر إلى الحبّة التي تُزرع، والعوامل التي تساعدها على أن تنبت من الأرض، والزمان المعيّن لنموِّها، وهذه سُنّة الله في النباتات.

وكذلك الحيوانات جعلها الله خاضعة لقوانين خاصة وأحجامها وألوانها وغير ذلك.

والإنسان كذلك خاضع لقوانين كونيّة، وطبائع جسميّة ونفسيّة وروحيّة، ولكنّ الله تعالى جعل أولياءه فوق تلك القوانين والسنن في ظروف خاصة لحكمته البالغة.

وبعبارة أخرى: جعل الله تلك القوانين هي الخاضعة لأوليائه بإذنه.

انظر إلى النار المحرقة، التي تحرق كل ما أصابته، ولكنّ الله تعالى جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم الخليلعليه‌السلام .

وكذلك أنبت الله على نبيّه يونسعليه‌السلام شجرة من يقطين، بعد أن نبذه الحوت بالعراء وهو سقيم، مع العلم أنّ حبة اليقطين تحتاج إلى مدّة غير قصيرة، حتى تنبت وتورق وتستر بوَرقها جسم إنسان أو غير إنسان، وهكذا جعل الله النبات خاضعاً لوليّه يونسعليه‌السلام .

٩٨

والتناسل لا يمكن إلاّ بالتلقيح، وانتقال نطفة الرجل إلى رحم المرأة، وتطوُّر النطفة إلى علقة إلى مضغة إلى عظام إلى خلق آخر، وإلى أن يكمل الجنين خلال ستة أشهر على أقل التقادير، أو تسعة أشهر كما هو الغالب.

هذه سنة الله في قانون التناسل بين البشر، ولكن هذه السُنة وهذا القانون كان خاضعاً لمريم إذ حملت بعيسىعليه‌السلام ولم يمسسها بشر، وحملت وبلدها فانتبذت به مكاناً قصياً، فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة، فوضعت بعيسى، كل ذلك خلال تسع ساعات أو ست ساعات فقط(١) .

وعلى هذا الغرار كانت المعجزات تصدر عن الأنبياء والأوصياء عن طريق خرق العادة والطبيعة.

هذا والأمثلة كثيرة جداً، تجد في القرآن الكريم طائفة كبيرة من القصص التي تحدّى فيها الأنبياء والأوصياء قانون الطبيعة، كهبوط آدم من الجنة إلى الأرض، وفوران التنور بالماء في قصة نوحعليه‌السلام وحمْل سارة بإسحاقعليه‌السلام بعد أن كانت عجوزاً عقيماً، وانقلاب العصا حيَّة تسعى في قصة موسىعليه‌السلام وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى في قصة عيسىعليه‌السلام وقصة الإسراء والمعراج في قصة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وغير ذلك من القضايا الخارقة للعادة والطبيعة،

وقد ذكرت هذه الفقرات كمقدمة تمهيدية لما يلي:

إن العادة الشهرية التي تراها المرأة في كل شهر منذ بلوغها حدِّ الأُنوثة إلى الخمسين أو الستّين من العمر ما هي إلاَّ دم فاسد، قد تخزَّن في

____________________

(١) (مجمع البيان) سورة مريم. ج ٦ / ٥١١.

٩٩

الأوعية والأجهزة التي جعلها الله في جسم المرأة ليكون ذلك الدم غذاء للجنين، فإذا لم يكن جنين في الرحم سال الدم إلى الخارج، وربّما انقلب إلى اللبن إذا كانت المرأة مرضعة.

قال تعالى:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً ) أي إنّ دم الحيض مادة ضارّة، مؤذية في جسم المرأة، فلابدَّ من خروجها لتنجو المرأة من أمراض وأعراض.

وفي فترة العادة الشهرية تحدث حوادث جسمية وروحية للمرأة تغيِّر ملامحها، ولون وجهها، بل وأخلاقها ونفسيِّتها ومن الممكن معرفة الحائض من ملامح وجهها وعينيها، بل من نظراتها وحركاتها، وهذا النزيف لا يشبه النزيف الطبيعي العادي الذي يصاب به الإنسان، بل يختلف عن ذلك اختلافاً كثيراً.

إنّ العادة الشهرية حينما تحدث للمرأة تشعر بشيء من الانفعال والخجل والانكسار، وإن كان الأمر خارجاً عن إرادتها واختيارها، ولكنّها تتألّم بهذا الحادث الذي لا يحسن التصريح به لكل أحد، وخاصة للرجال، والنزيف وحالة الانفعال توجد في المرأة ضعفاً وانكساراً في جسمها وروحها.

ولهذا سقط عنها حكم الصلاة والصوم خلال فترة العادة، وحرَّم الله عليها اللبث في المساجد، ودخول المسجد الحرام والمسجد النبوي، وقراءة سُوَر العزائم الأربع وهي السور التي فيها آيات السجدة الواجبة، وغير ذلك ممّا هو مذكور في الكتب الفقهيّة.

ونفس هذه الأحكام تجري في أيام النفاس لنفس الأسباب التي مرّ ذكرها.

ولكنّ الله تعالى كره لسيّدة النساء فاطمة الزهراء أن تتلوّث بهذه

١٠٠

ضربة كلها تبضع اللحم وتحدر الدم فهذا من ضرب التعزير وروى شعبة عن واصل عن المعرور بن سويد قال أتى عمر بن الخطاب بامرأة زنت فقال أفسدت حسبها اضربوها ولا تحرقوا عليها جلدها فهذا يدل على أنه كان يرى ضرب الزاني أخف من التعزير* قال أبو بكر قد دل قوله( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ ) على شدة ضرب الزاني على ما بينا وإنه أشد من ضرب الشارب والقاذف لدلالة الآية على شدة الضرب فيه ولأن ضرب الشارب كان من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجريد والنعال وضرب الزاني إنما يكون بالسوط وهذا يوجب أن يكون ضرب الزاني أشد من ضرب الشارب وإنما جعلوا ضرب القاذف أخف الضرب لأن القاذف جائز أن يكون صادقا في قذفه وإن له شهودا على ذلك والشهود مندوبون إلى الستر على الزاني فإنما وجب عليه الحد لقعود الشهود عن الشهادة وذلك يوجب تخفيف الضرب. ومن جهة أخرى أن القاذف قد غلظت عليه العقوبة في إبطال شهادته فغير جائز التغليظ عليه من جهة شدة الضرب. فإن قيل روى سفيان بن عيينة قال سمعت سعد بن إبراهيم يقول للزهري إن أهل العراق يقولون إن القاذف لا يضرب ضربا شديدا ولقد حدثني أبى أن أمه أم كلثوم أمرت بشاة فسلخت حين جلد أبو بكرة فألبسته مسكها فهل كان ذلك إلا من ضرب شديد. قيل له هذا لا يدل على شدة الضرب لأنه جائز أن يؤثر في البدن الضرب الخفيف على حسب ما يصادف من رقة البشرة ففعلت ذلك إشفاقا عليه.

باب ما يضرب من أعضاء المحدود

قال الله سبحانه وتعالى( فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ) ولم يذكر ما يضرب منه ظاهره يقتضى جواز ضرب جميع الأعضاء وقد اختلف السلف وفقهاء الأمصار فيه فروى ابن أبى ليلى عن عدى بن ثابت عن المهاجر بن عميرة عن على رضى الله عنه أنه أتى برجل سكران أو في حد فقال اضرب وأعط كل عضو حقه واتق الوجه والمذاكير وروى سفيان بن عيينة عن أبى عامر عن عدى بن ثابت عن مهاجر بن عميرة عن على رضى الله عنه أنه قال اجتنب رأسه ومذاكيره واعط كل عضو حقه فذكر في هذا الحديث الرأس وفي الحديث الأول الوجه وجائز أن يكون قد استثناهما جميعا وروى عن عمر أنه أمر بالضرب في حد فقال أعط كل عضو حقه ولم يستثن شيئا وروى المسعودي عن

١٠١

القاسم قال أتى أبو بكر برجل انتفى من ابنه فقال أبو بكر اضرب الرأس فإن الشيطان في الرأس وقد روى عن عمر أنه ضرب صبيغ بن عسيل على رأسه حين سأل عن الذاريات ذروا على وجه التعنت وروى عن ابن عمر أنه لا يصيب الرأس وقال أبو حنيفة ومحمد يضرب في الحدود الأعضاء كلها إلا الفرج والرأس والوجه وقال أبو يوسف يضرب الرأس أيضا وذكر الطحاوي عن أحمد بن أبى عمران عن أصحاب أبى يوسف أن الذي يضرب به الرأس من الحد سوط واحد وقال مالك لا يضرب إلا في الظهر وذكر ابن سماعة عن محمد في التعزير أنه يضرب الظهر بغير خلاف وفي الحدود يضرب الأعضاء إلا ما ذكرنا وقال الحسن بن صالح يضرب في الحد والتعزير الأعضاء كلها ولا يضرب الوجه ولا المذاكير وقال الشافعى يتقى الوجه والفرج قال أبو بكر اتفق الجميع على ترك ضرب الوجه والفرج وروى عن على استثناء الرأس أيضا وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه وإذا لم يضرب الوجه فالرأس مثله لأن الشين الذي يلحق الرأس بتأثير الضرب كالذي يلحق الوجه وإنما أمر باجتناب الوجه لهذه العلة ولئلا يلحقه أثر يشينه أكثر مما هو مستحق بالفعل الموجب للحد والدليل على أن ما يلحق الرأس من ذلك هو كما يلحق الوجه أن الموضحة وسائر الشجاج حكمها في الرأس والوجه سواء وفارقا سائر البدن من هذا الوجه لأن الموضحة فيما سوى الرأس والوجه إنما تجب فيه حكومة ولا يجب فيها أرش الموضحة الواقعة في الرأس والوجه فوجب من أجل ذلك استواء حكم الرأس والوجه في اجتناب ضربهما ووجه آخر وهو أنه ممنوع من ضرب الوجه لما يخاف فيه من الجناية على البصر وذلك موجود في الرأس لأن ضرب الرأس يظلم منه البصر وربما حدث الماء في العين وربما حدث منه أيضا اختلاط في العقل فهذه الوجوه كلها تمنع ضرب الرأس وأما اجتناب الفرج فمتفق عليه وهو أيضا مقتل فلا يؤمن أن يحدث أكثر مما هو مستحق بالفعل وقال أبو حنيفة وأصحابه والليث والشافعى الضرب في الحدود كلها وفي التعزير مجردا قائما غير ممدود إلا حد القذف فإنه يضرب وعليه ثيابه وينزع عنه الحشو والفرو وقال بشر بن الوليد عن أبى يوسف عن أبى حنيفة يضرب التعزير في إزار ولا يفرق في التعزير خاصة في الأعضاء وقال أبو يوسف ضرب ابن أبى ليلى المرأة القاذفة قائمة فخطأه أبو حنيفة وقال الثوري لا يجرد الرجل ولا

١٠٢

يمد وتضرب المرأة قاعدة والرجل قائما قال أبو بكر في حديث رجم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم اليهوديين قال رأيت الرجل يحنى على المرأة يقيها الحجارة وهذا يدل على أن الرجل كان قائما والمرأة قاعدة وروى عاصم الأحول عن أبى عثمان النهدي قال أتى عمر بسوط فيه شدة فقال أريد ألين من هذا فأتى بسوط فيه لين فقال أريد أشد من هذا فأتى بسوط بين السوطين فقال اضرب ولا يرى إبطك واعط كل عضو حقه وعن ابن مسعود أنه ضرب رجلا حدا فدعا بسوط فأمر فدق بين حجرين حتى لان ثم قال اضرب ولا تخرج إبطك واعط كل عضو حقه وعن على أنه قال للجلاد اعط كل عضو حقه وروى حنظلة السدوسي عن أنس بن مالك قال كان يؤمر بالسوط فتقطع ثمرته ثم يدق بين حجرين ثم يضرب به وذلك في زمن عمر بن الخطاب وروى عن أبى هريرة أنه جلد رجلا قائما في القذف قال أبو بكر هذه الأخبار تدل على معاني منها اتفاقهم على أن ضرب الحدود بالسوط ومنها أنه يضرب قائما إذ لا يمكن إعطاء كل عضو حقه إلا وهو قائم ومنها أنه يضرب بسوط بين سوطين وإنما قالوا أنه يضرب مجردا ليصل الألم إليه ويضرب القاذف وعليه ثيابه لأن ضربه أخف وإنما قالوا لا يمد لأن فيه زيادة في الإيلام غير مستحق بالفعل ولا هو من الحد وروى يزيد بن هارون عن الحجاج عن الوليد بن مالك أن أبا عبيدة بن الجراح أتى برجل في حد فذهب الرجل ينزع قميصه وقال ما ينبغي لجسدى هذا المذنب أن يضرب وعليه قميص فقال أبو عبيدة لا تدعوه ينزع قميصه فضربه عليه وروى ليث عن مجاهد ومغيرة عن إبراهيم قالا يجلد القاذف وعليه ثيابه وعن الحسن قال إذا قذف الرجل في الشتاء لم يلبس ثياب الصيف ولكن يضرب في ثيابه التي قذف فيها إلا أن يكون عليه فرو أو حشو يمنعه من أن يجد وجع الضرب فينزع ذلك عنه وقال مطرف عن الشعبي مثل ذلك وروى شعبة عن عدى بن ثابت عمن شهد عليا رضى الله عنه أنه أقام على رجل الحد فضربه على قبا أو قرطق ومذهب أصحابنا موافق لما روى عن السلف في هذه الأخبار ويدل على صحته أن من عليه حشو أو فرو فلم يصل الألم أن الفاعل لذلك غير ضارب في العادة ألا ترى أنه لو حلف أن يضرب فلانا فضربه وعليه حشو أو فرو فلم يصل إليه الألم إنه لا يكون ضاربا ولم يبر في يمينه ولو وصل إليه الألم كان ضاربا.

١٠٣

في إقامة الحدود في المسجد

قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والشافعى لا تقام الحدود في المساجد وهو قول الحسن بن صالح قال أبو يوسف وأقام ابن أبى ليلى حدا في المسجد فخطأه أبو حنيفة وقال مالك لا بأس بالتأديب في المسجد خمسة أسواط ونحوها وأما الضرب الموجع والحد فلا يقام في المسجد قال أبو بكر روى إسماعيل بن مسلم المكي عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا تقام الحدود في المساجد ولا يقتل بالولد الوالد وروى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم وشراكم وبيعكم وإقامة حدودكم وجمروها في جمعكم وضعوا على أبوابها المطاهر ومن جهة النظر أنه لا يؤمن أن يكون من المحدود بالمسجد من خروج النجاسة ما سبيله أن ينزه المسجد عنه.

في الذي يعمل عمل قوم لوط

قال أبو حنيفة يعزر ولا يحد وقال مالك والليث يرجمان أحصنا أو لم يحصنا وقال عثمان البتى والحسن بن صالح وأبو يوسف ومحمد والشافعى هو بمنزلة الزنا وهو قول الحسن وإبراهيم وعطاء قال أبو بكر قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل نفس بغير نفس فحصرصلى‌الله‌عليه‌وسلم قتل المسلم إلا بإحدى هذه الثلاث وفاعل ذلك خارج عن ذلك لأنه لا يسمى زنا فإن احتجوا بما روى عاصم بن عمرو عن سهيل بن صالح عن أبيه عن أبى هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الذي يعمل عمل قوم لوط فارجموا الأعلى والأسفل وارجموهما جميعا وبما روى الدراوردى عن عمر وبن أبى عمر وعن عكرمة عن ابن عباس أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به قيل له عاصم بن عمرو وعمرو بن أبى عمرو ضعيفان لا تقوم بروايتهما حجة ولا يجوز بهما إثبات حد وجائز أن يكون لو ثبت إذا فعلاه مستحلين له وكذلك نقول فيمن استحل ذلك أنه يستحق القتل وقوله فاقتلوا الفاعل والمفعول به يدل على أنه ليس بحد وأنه بمنزلة قوله من بدل دينه فاقتلوه لأن حد فاعل ذلك ليس هو قتلا على الإطلاق وإنما هو الرجم عند من جعله كالزنا إذا كان محصنا

١٠٤

وعند من لا يجعله بمنزلة الزنا ممن يوجب قتله فإنما يقتله رجما فقتله على الإطلاق ليس هو قولا لأحد ولو كان بمنزلة الزنا لفرق فيه بين المحصن وغير المحصن وفي تركهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الفرق بينهما دليل على أنه لم يوجبه على وجه الحد.

في الذي يأتى البهيمة

قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك وعثمان البتى لا حد عليه ويعزر وروى مثله عن بن عمر وقال الأوزاعى عليه الحد قال أبو بكر قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل نفس بغير نفس ينفى قتل فاعل ذلك إذ ليس ذلك بزنا في اللغة ولا يجوز إثبات الحدود إلا من طريق التوقيف أو الاتفاق وذلك معدوم في مسألتنا ولا يجوز إثباته من طريق المقاييس وقد روى عمر وبن أبى عمر وعن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من وجدتموه على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة وعمر وهذا ضعيف لا نثبت به حجة ومع ذلك فقد روى شعبة وسفيان وأبو عوانة عن عاصم عن أبى رزين عن ابن عباس فيمن أتى بهيمة إنه لا حد عليه وكذلك رواه إسرائيل وأبو بكر بن عياش وأبو الأحوص وشريك وكلهم عن عاصم عن أبى رزين عن ابن عباس مثله ولو كان حديث عمر وبن أبى عمرو ثابتا لما خالفه ابن عباس وهو رواية إلى غيره وإن صح الخبر كان محمولا على من استحله.

(فصل) قال أبو بكر وقد أنكرت طائفة شاذة لا تعد خلافا الرجم وهم الخوارج

وقد ثبت الرجم عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بفعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وبنقل الكافة والخبر الشائع المستفيض الذي لا مساغ للشك فيه وأجمعت الأمة عليه فروى الرجم أبو بكر وعمر وعلى وجابر ابن عبد الله وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وبريدة الأسلمى وزيد بن خالد في آخرين من الصحابة وخطب عمر فقال لو لا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لأثبته في بعض المصحف وبعض هؤلاء الرواة يروى خبر رجم ماعز وبعضهم خبر الجهينية والغامدية وخبر ماعز يشتمل على أحكام منها إنه ردده ثلاث مرات ثم لما أقر الرابعة سأل عن صحة عقله فقال هل به جنة فقالوا لا وإنه استنهكه ثم قال له لعلك لمست لعلك قبلت فلما أبى إلا التصميم على الإقرار بصريح الزنا سأل عن إحصانه ثم لما هرب حين أدركته الحجارة قال هلا تركتموه وفي ترديده ثلاث مرات ثم المسألة عن عقله بعد

١٠٥

الرابعة دلالة على أن الحد لا يجب إلا بعد إقراره أربعا لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب فلو كان الحد واجبا بإقراره مرة واحدة لسأل عنه في أول إقراره ومسألته جيرانه وأهله عن عقله يدل على أن على الإمام الاستثبات والاحتياطيات في الحد ومسألته عن الزنا كيف هو وما هو وقوله لعلك لمست لعلك قبلت يفيد حكمين أحدهما أنه لا يقصر على إقراره بالزنا دون استثباته في معنى الزنا حتى يبينه بصفة لا يختلف فيه أنه زنا وقوله لعلك لمست لعلك قبلت تلقين له الرجوع عن الزنا وأنه إنما أراد اللمس كما روى أنه للسارق ما أخاله سرق ونظيره ما روى عن عمر أنه جيء بامرأة حبلى بالموسم وهي تبكى فقالوا زنت فقال عمر ما يبكيك فإن المرأة ربما استكرهت على نفسها يلقنها ذلك فأخبرت أن رجل ركبها وهي نائمة فقال عمر لو قتلت هذه لخشيت أن تدخل ما بين هذين الأخشبين النار فخلى سبيلها وروى أن عليا قال لشراحة حين أقرت عنده بالزنا لعلك عصيت نفسك قالت أتيت طائعة غير مكرهة فرجمها وقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم هلا تركتموه يدل على جواز رجوعه عن إقراره لأنه لما امتنع مما بذل نفسه له بديا قال هلا تركتموه ولما لم يجلده دل على أن الرجم والجلد لا يجتمعان قوله تعالى( وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) وروى ابن أبى نجيح عن مجاهد قال الطائفة الرجل إلى الألف وقرأ( وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ) وقال عطاء رجلان فصاعدا وقال الحسن وأبو بريدة الطائفة عشرة وقال محمد بن كعب القرظي في قوله( إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ ) قال كان رجلا وقال الزهري( وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ ) ثلاثة فصاعدا وقال قتادة ليكون عظة وعبرة لهم وحكى عن مالك والليث أربعة لأن الشهود أربعة قال أبو بكر يشبه أن المعنى في حضور الطائفة ما قاله قتادة أنه عظة وعبرة لهم فيكون زجرا له عن العود إلى مثله وردعا لغيره عن إتيان مثله والأولى أن تكون الطائفة جماعة يستفيض الخير بها ويشيع فيرتدع الناس عن مثله لأن الحدود موضوعة للزجر والردع وبالله التوفيق.

باب تزويج الزانية

قال الله تعالى( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) قال أبو بكر روى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن

١٠٦

جده قال كان رجل يقال له مرثد بن أبى مرثد وكان يحمل الأسرى من مكة حتى يأتى بهم المدينة وكان بمكة بغى يقال لها عناق وكانت صديقة له وكان وعد رجلا أن يحمله من أسرى مكة وإن عناقا رأته فقالت له أقم الليلة عندي قال يا عناق قد حرم الله الزنا فقالت يا أهل الخباء هذا الذي يحمل أسراكم فلما قدمت المدينة أتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت يا رسول الله أتزوج عناق فلم يرد على حتى نزلت هذه الآية( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تنكحها فبين عمر وبن شعيب في هذا الحديث أن الآية نزلت في الزانية المشركة أنها لا ينكحها إلا زان أو مشرك وإن تزوج المسلم المشركة زنا إذ كانت لا تحل له وقد اختلف السلف في تأويل الآية وحكمها فحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا يحيى بن سعيد ويزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد الأنصارى عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) قد نسختها الآية التي بعدها( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ ) قال كان يقال هي من أيامى المسلمين فأخبر سعيد بن المسيب أن الآية منسوخة قال أبو عبيد وحدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في قوله( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) قال كان رجال يريدون الزنا بنساء زوان بغايا معلنات كن كذلك في الجاهلية فقيل لهم هذا حرام فأرادوا نكاحهن فذكر مجاهد أن ذلك كان في نساء مخصوصات على الوصف الذي ذكرنا وروى عن عبد الله بن عمر في قوله( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) إنه نزل في رجل تزوج امرأة بغية على أن تنفق عليه فأخبر عبد الله بن عمر أن النهى خرج على هذا الوجه وهو أن يزوجها على أن يخليها والزنا وروى حبيب بن أبى عمرة عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال يعنى بالنكاح جماعها وروى ابن شبرمة عن عكرمة( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) قال لا يزنى حين يزنى إلا بزانية مثله وقال شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس بغاياكن في الجاهلية يجعلن على أبوابهن رايات كرايات البياطرة يأتيهن ناس يعرفن بذلك وروى مغيرة عن إبراهيم النخعي( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً ) يعنى به الجماع حين يزنى وعن عروة بن الزبير مثله قال أبو بكر فذهب هؤلاء إلى أن معنى الآية الإخبار باشتراكهما في الزنا وأن المرأة كالرجل في ذلك فإذا كان الرجل زانيا فالمرأة مثله إذا طاوعته وإذا زنت المرأة فالرجل مثلها فحكم تعالى في ذلك بمساواتهما في

١٠٧

الزنا ويفيد ذلك مساواتهما في استحقاق الحد وعقاب الآخرة وقطع الموالاة وما جرى مجرى ذلك وروى فيه قول آخر وهو ما روى عاصم الأحول عن الحسن في هذه الآية قال المحدود لا يتزوج إلا محدودة واختلف السلف في تزويج الزانية فروى عن أبى بكر وعمر وابن عباس وابن مسعود وابن عمر ومجاهد وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير في آخرين من التابعين أن من زنى بامرأة أو زنى بها غيره فجائز له أن يتزوجها وروى عن على وعائشة والبراء وإحدى الروايتين عن ابن مسعود أنهما لا يزالان زانيين ما اجتمعا وعن على إذا زنى الرجل فرق بينه وبين امرأته وكذلك هي إذا زنت قال أبو بكر فمن حظر نكاح الزانية تأول فيه هذه الآية وفقهاء الأمصار متفقون على جواز النكاح وأن الزنا لا يوجب تحريمها على الزوج ولا يوجب الفرقة بينهما ولا يخلو قوله تعالى( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً ) من أحد وجهين إما أن يكون خبرا وذلك حقيقته أو نهيا وتحريما ثم لا يخلو من أن يكون المراد بذكر النكاح هنا الوطء أو العقد وممتنع أن يحمل على معنى الخبر وإن كان ذلك حقيقة اللفظ لأنا وجدنا زانيا يتزوج غير زانية وزانية تتزوج غير الزاني فعلمنا أنه لم يرد مورد الخبر فثبت أنه أراد الحكم والنهى فإذا كان كذلك فليس يخلو من أن يكون المراد الوطء والعقد وحقيقة النكاح هو الوطء في اللغة لما قد بيناه في مواضع فوجب أن يكون محمولا عليه على ما روى عن ابن عباس ومن تابعه في أن المراد الجماع ولا يصرف إلى العقد إلا بدلالة لأنه مجاز ولأنه إذا ثبت أنه قد أريد به الحقيقة انتفى دخول المجاز فيه وأيضا فلو كان المراد العقد لم يكن زنا المرأة أو الرجل موجبا للفرقة إذ كانا جميعا موصوفين بأنهما زانيان لأن الآية قد اقتضت إباحة نكاح الزاني للزانية فكان يجب أن يجوز للمرأة أن تتزوج الذي زنى بها قبل أن يتوبا وأن لا يكون زناهما حال في الزوجية يوجب الفرقة ولا نعلم أحدا يقول ذلك وكان يجب أن يجوز للزاني أن يتزوج مشركة وللمرأة الزانية أن تتزوج مشركا ولا خلاف في أن ذلك غير جائز وأن نكاح المشركات وتزويج المشركين محرم منسوخ فدل ذلك على أحد المعنيين إما أن يكون المراد الجماع على ما روى عن ابن عباس ومن تابعه أو أن يكون حكم الآية منسوخا على ما روى عن سعيد بن المسيب ومن الناس من يحتج في أن الزنا لا يبطل النكاح بما روى هارون بن رئاب عن عبيد الله بن عبيد ويرويه عبد الكريم الجزري عن أبى

١٠٨

الزبير وكلاهما يرسله أن رجلا قال للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إن امرأتى لا تمنع يد لامس فأمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستمتاع منها فيحمل ذلك على أنها لا تمنع أحد ممن يريدها على الزنا وقد أنكر أهل العلم هذا التأويل قالوا لو صح هذا الحديث كان معناه أن الرجل وصف امرأته بالخرق وضعف الرأى وتضييع ماله فهي لا تمنعه من طالب ولا تحفظه من سارق قالوا وهذا أولى لأنه حقيقة اللفظ وحمله على الوطء كناية ومجاز وحمله على ما ذكرنا أولى وأشبه بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال على وعبد الله إذا جاءكم الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فظنوا به الذي هو أهدى والذي هو أهنأ والذي هو أتقى فإن قيل قال الله تعالى( أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ ) فجعل الجماع لمسا قيل له إن الرجل لم يقل للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إنها لا تمنع لامسا وإنما قال يد لامس ولم يقل فرج لامس وقال الله تعالى( وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ) ومعلوم أن المراد حقيقة اللمس باليد وقال جريج الخطفى يعاتب قوما :

ألستم لئاما إذ ترومون جارهم

ولولاهمو لم تمنعوا كف لامس

ومعلوم أنه لم يرد به الوطء وإنما أراد إنكم لا تدفعون عن أنفسكم الضيم ومنع أموالكم هؤلاء القوم فكيف ترومون جارهم بالظلم ومن الناس من يقول إن تزويج الزانية وإمساكها على النكاح محظور منهى عنه مادامت مقيمة على الزنا وإن لم يؤثر ذلك في إفساد النكاح لأن الله تعالى إنما أباح نكاح المحصنات من المؤمنات ومن أهل الكتاب بقوله( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) يعنى العفائف منهن ولأنها إذا كانت كذلك لا يؤمن أن تأتى بولد من الزنا فتلحقه به وتورثه ماله وإنما يحمل قول من رخص في ذلك على أنها تائبة غير مقيمة على الزنا ومن الدليل على أن زناها لا يوجب الفرقة أن الله تعالى حكم في القاذف لزوجته باللعان ثم بالتفريق بينهما فلو كان وجود الزنا منها يوجب الفرقة لوجب إيقاع الفرقة بقذفه إياها لا عترافه بما يوجب الفرقة ألا ترى أنه لو أقر أنها أخته من الرضاعة أو أن أباه قد كان وطئها لوقعت الفرقة بهذا القول فإن قيل لما حكم الله تعالى بإيقاع الفرقة بعد اللعان دل ذلك على أن الزنا يوجب التحريم لولا ذلك لما وجبت الفرقة باللعان قيل له لو كان كما ذكرت لوجبت الفرقة بنفس القذف دون اللعان فلما لم تقع بالقذف دل على فساد ما ذكرت فإن قيل إنما وقعت الفرقة باللعان لأنه صار بمنزلة الشهادة عليها بالزنا فلما حكم عليها بذلك حكم بوقوع الفرقة لأجل

١٠٩

الزنا قيل له وهذا غلط أيضا لأن شهادة الزوج وحده عليها بالزنا لا توجب كونها زانية كما أن شهادتها عليه بالإكذاب لا توجب عليه الحكم بالكذب في قذفه إياها إذ ليست إحدى الشهادتين بأولى من الأخرى ولو كان الزوج محكوما له بقبول شهادته عليها بالزنا لوجب أن تحد حد الزنا فلما لم تحد بذلك دل على أنه غير محكوم عليها بالزنا بقول الزوج والله أعلم بالصواب.

باب حد القذف

قال الله تعالى( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ) قال أبو بكر الإحصان على ضربين أحدهما ما يتعلق به وجوب الرجم على الزاني وهو أن يكون حرا بالغا عاقلا مسلما قد تزوج امرأة نكاحا صحيحا ودخل بها وهما كذلك والآخر الإحصان الذي يوجب الحد على قاذفه وهو أن يكون حرا بالغا عاقلا مسلما عفيفا ولا نعلم خلافا بين الفقهاء في هذا المعنى قال أبو بكر قد خص الله تعالى المحصنات بالذكر ولا خلاف بين المسلمين أن المحصنين مرادون بالآية وأن الحد واجب على قاذف الرجل المحصن كوجوبه على قاذف المحصنة واتفق الفقهاء على أن قوله( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ) قد أريد به الرمي بالزنا وإن كان في فحوى اللفظ دلالة عليه من غير نص وذلك لأنه لما ذكر المحصنات وهن العفائف دل على أن المراد بالرمي رميها بضد العفاف وهو الزنا ووجه آخر من دلالة فحوى اللفظ وهو قوله تعالى( ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ) يعنى على صحة ما رموه به ومعلوم أن هذا العدد من الشهود إنما هو مشروط في الزنا فدل على أن قوله( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ) معناه يرمونهن بالزنا ويدل ذلك على معنى آخر وهو أن القذف الذي يجب به الحد إنما هو القذف بصريح الزنا وهو الذي إذا جاء بالشهود عليه حد المشهود عليه ولو لا ما في فحوى اللفظ من الدلالة عليه لم يكن ذكر الرمي مخصوصا بالزنا دون غيره من الأمور التي يقع الرمي بها إذ قد يرميها بسرقة وشرب خمر وكفر وسائر الأفعال المحظورة ولم يكن اللفظ حينئذ مكتفيا بنفسه في إيجاب حكمه بل كان يكون مجملا موقوف الحكم على البيان إلا أنه كيفما تصرفت الحال فقد حصل الاتفاق على أن الرمي بالزنا مراد ولما كان كذلك صار بمنزلة قوله والذين يرمون المحصنات بالزنا إذ حصول الإجماع على أن الزنا مراد بمنزلة ذكره في اللفظ فوجب بذلك أن يكون وجوب حد القذف مقصورا

١١٠

بالزنا دون غيره وقد اختلف السلف والفقهاء في التعريض بالزنا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد بن شبرمة والثوري والحسن بن صالح والشافعى لا حد في التعريض بالقذف وقال مالك عليه فيه الحد وروى الأوزاعى عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال كان عمر يضرب الحد في التعريض وروى ابن وهب عن مالك عن أبى الرحال عن أمه عمرة أن رجلين استبا في زمن عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقال أحدهما للآخر والله ما أبى بزان ولا أمى بزانية فاستشار في ذلك عمر الناس فقال قائل مدح أباه وأمه وقال آخرون قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا نرى أن يجلد الحد فجلده عمر الحد ثمانين ومعلوم أن عمر لم يشاور في ذلك إلا الصحابة الذين إذا خالفوا قبل خلافهم فثبت بذلك حصول الخلاف بين السلف ثم لما ثبت أن المراد بقوله( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ) هو الرمي بالزنا لم يجز لنا إيجاب الحد على غيره إذ لا سبيل إلى إثبات الحدود من طريق المقاييس وإنما طريقها الاتفاق أو التوقيف وذلك معدوم في التعريض مشاورة عمر الصحابة في حكم التعريض دلالة على أنه لم يكن عندهم فيه توقيف وأنه قال اجتهادا ورأيا وأيضا فإن التعريض بمنزلة الكناية المحتملة للمعاني وغير جائز إيجاب الحد بالاحتمال لوجهين أحدهما أن الأصل أن القائل برىء الظهر من الجلد فلا نجلده بالشك والمحتمل مشكوك فيه ألا ترى أن يزيد بن ركانة لما طلق امرأته البتة استحلفه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أردت إلا واحدة فلم يلزمه الثلاث بالاحتمال ولذلك قال الفقهاء في كنايات الطلاق أنها لا تجعل طلاقا إلا بدلالة والوجه الآخر ما روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال أدرءوا الحدود بالشبهات وأقل أحوال التعريض حين كان محتملا للقذف وغيره أن يكون شبهة في سقوطه وأيضا قد فرق الله تعالى بين التعريض بالنكاح في العدة وبين التصريح فقال( وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا ) يعنى نكاحا فجعل التعريض بمنزلة الإضمار في النفس فوجب أن يكون كذلك حكم التعريض بالقذف والمعنى الجامع بينهما أن التعريض لما كان فيه احتمال كان في حكم الضمير لوجود الاحتمال فيه واختلف الفقهاء في حد العبد في القذف فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك وعثمان البتى والثوري والشافعى إذا قذف العبد حرا فعليه أربعون جلدة وقال الأوزاعي يجلد ثمانين وروى الثوري عن جعفر بن محمد

١١١

عن أبيه أن عليا قال يجلد العبد في الفرية أربعين وروى الثوري عن ابن ذكوان عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال أدركت أبا بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم من الخلفاء فلم أرهم يضربون المملوك في القذف الأربعين قال أبو بكر وهو مذهب ابن عباس وسالم وسعيد بن المسيب وعطاء وروى ليث بن أبى سليم عن القاسم بن عبد الرحمن أن عبد الله بن مسعود قال في عبد قذف حرا أنه يجلد ثمانين وقال أبو الزناد جلد عمر بن عبد العزيز عبدا في الفرية ثمانين ولم يختلفوا في أن حد العبد في الزنا خمسون على النصف من حد الحر لأجل الرق وقال الله تعالى( فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ) فنص على حد الأمة وأنه نصف حد الحرة واتفق الجميع على أن العبد بمنزلتها لوجود الرق فيه كذلك يجب أن يكون حده في القذف على النصف من حد الحر لوجود الرق فيه واختلفوا في قاذف المجنون والصبى فقال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح والشافعى لاحد على قاذف المجنون والصبى وقال مالك لا يحد قاذف الصبى وإن كان مثله يجامع إذا لم يبلغ ويحد قاذف الصبية إذا كان مثلها تجامع وإن لم تحصن ويحد قاذف المجنون وقال الليث يحد قاذف المجنون قال أبو بكر المجنون والصبى والصبية لا يقع من واحد منهم زنا لأن الوطء منهم لا يكون زنا إذ كان الزنا فعلا مذموما يستحق عليه العقاب وهؤلاء لا يستحقون العقاب على أفعالهم فقاذفهم بمنزلة قاذف المجنون لوقوع العلم بكذب القاذف ولأنهم لا يلحقهم شين بذلك الفعل لو وقع منهم فكذلك لا يشينهم قذف القاذف لهم بذلك ومن جهة أخرى أن المطالبة بالحد إلى المقذوف لا تجوز ولا يجوز أن يقوم غيره مقامه فيه ألا ترى أن الوكالة غير مقبولة فيه وإذا كان كذلك لم تجب المطالبة لأحد وقت القذف فلم يجب الحد لأن الحد إذا وجب فإنما يجب بالقذف لا غير فإن قيل فللرجل أن يأخذ بحد أبيه إذا قذف وهو ميت فقد جاز أن يطالب عن الغير بحد القذف قيل له إنما يطالب عن نفسه لما حصل به من القدح في نسبه ولا يطالب عن الأب وأيضا لما اتفقوا على أن قاذف الصبى لا بحد كان كذلك قاذف الصبية لأنهما جميعا من غير أهل التكليف ولا يصح وقوع الزنا منهما فكذلك المجنون لهذه العلة واختلفوا فيمن قذف جماعة فقال أبو حنيفة وابو يوسف وزفر ومحمد ومالك والثوري والليث إذا قذفهم بقول واحد فعليه حد واحد وقال ابن أبى ليلى إذا قال لهم يا زناة فعليه حد واحد وإن قال لكل

١١٢

إنسان يا زاني فلكل إنسان حد وهو قول الشعبي وقال عثمان البتى إذا قذف جماعة فعليه لكل واحد حد وإن قال لرجل زنيت بفلانة فعليه حد واحد لأن عمر ضرب أبا بكرة وأصحابه حدا واحدا ولم يحدهم للمرأة وقال الأوزاعى إذا قال يا زاني ابن زان فعليه حدان وإن قال لجماعة إنكم زناة فحد واحد وقال الحسن بن صالح إذا قال من كان داخل هذه الدار فهو زان ضرب لمن كان داخلها إذا عرفوا وقال الشافعى فيما حكاه المزني عنه إذا قذف جماعة بكلمة واحدة فلكل واحد حد وإن قال لرجل واحد يا ابن الزانيين فعليه حدان وقال في أحكام القرآن إذا قذف امرأته برجل لاعن ولم يحد للرجل قال أبو بكر قال الله تعالى( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ) ومعلوم أن مراده جلد كل واحد من القاذفين ثمانين جلدة فكان تقدير الآية ومن رمى محصنا فعليه ثمانون جلدة وهذا يقتضى أن قاذف جماعة من المحصنات لا يجلد أكثر من ثمانين ومن أوجب على قاذف جماعة المحصنات أكثر من حد واحد فهو مخالف لحكم الآية ويدل عليه من جهة السنة ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد ابن بشار قال حدثنا ابن أبى عدى قال انبأنا هشام بن حسان قال حدثني عكرمة عن هلال ابن أمية قذف امرأته عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بشريك بن سمحاء فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم البينة أوحد في ظهرك فقال يا رسول الله إذا رأى أحدنا رجلا على امرأته يلتمس البينة فجعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول البينة وإلا فحد في ظهرك فقال هلال والذي بعثك بالحق إنى لصادق ولينزلن الله في أمرى ما يبرئ ظهري من الحد فنزلت( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ ) وذكر الحديث وروى محمد بن كثير قال حدثنا مخلد بن الحسين عن هشام عن ابن سيرين عن أنس أن هلال بن أمية قذف شريك بن سمحاء بامرأته فرفع ذلك إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ائت بأربعة شهداء وإلا فحد في ظهرك قال ذلك مرارا فنزلت آية اللعان قال أبو بكر قد ثبت بهذا الخبر أن قوله تعالى( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ) الآية كان حكما عاما في الزوجات كهو في الأجنبيات لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لهلال بن أمية ائت بأربعة شهداء وإلا فحد في ظهرك ولأن عموم الآية قد اقتضى ذلك ثم لم يوجب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على هلال إلا حدا واحدا مع قذفه لامرأته ولشريك بن سمحاء إلى أن نزلت آية اللعان فأقيم اللعان في الزوجات مقام الحد في الأجنبيات ولم ينسخ موجب الخبر من وجوب الاقتصاد على حد واحد إذا قذف

«8 ـ احكام مس»

١١٣

جماعة فثبت بذلك أنه لا يجب على قاذف الجماعة إلا حد واحد ويدل عليه من جهة النظر أن سائر ما يوجب الحد إذا وجد منه مرارا لا يوجب إلا حدا واحدا كمن زنى مرارا أو سرق مرارا أو شرب مرارا لم يحد إلا حدا واحدا فكان اجتماع هذه الحدود التي هي من جنس واحد موجبا لسقوط بعضها والاقتصار على واحد منها والمعنى الجامع بينهما أنها حد وإن شئت قلت إنما يسقط بالشبهة فإن قيل حد القذف حق لآدمى فإذا قذف جماعة وجب أن يكون لكل واحد منهم استيفاء حده على حياله والدليل على أنه حق لآدمى أنه لا يحد إلا بمطالبة المقذوف قيل له الحد هو حق لله تعالى كسائر الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر وإنما المطالبة به حق لآدمى لا الحد نفسه وليس كونه موقوفا على مطالبة الآدمي مما يوجب أن يكون الحد نفسه حقا لآدمى ألا ترى أن حد السرقة لا يثبت إلا بمطالبة الآدمي ولم يوجب ذلك أن يكون القطع حقا للآدمي فكذلك حد القذف ولذلك لا يجيز أصحابنا العفو عنه ولا يورث ويدل على أنه حق لله تعالى اتفاق الجميع على أن العبد يجلد في القذف أربعين ولو كان حقا لآدمى لما اختلف الحر والعبد فيه إذ كان الجلد مما ينتصف ألا ترى أن العبد والحر يستويان فيما يثبت عليهما من الجنايات على الآدميين فإذا قتل العبد ثبت الدم في عنقه فإذا كان عمدا قتل وإن كان خطأ كانت الدية في رقبته كما لو قتله حر وجبت الدية فلو كان حد القذف حقا لآدمى لما اختلف مع إمكان تنصيفه الحر العبد وكذلك العبد والحر لا يختلفان في استهلاك الأموال إذ ما يثبت على الحر فمثله يثبت على العبد وقد اختلف في إقامة حد القذف من غير مطالبة المقذوف فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والأوزاعى والشافعى لا يحد إلا بمطالبة المقذوف وقال ابن أبى ليلى يحده الإمام وإن لم يطالب المقذوف وقال مالك لا يحده الإمام حتى يطالب المقذوف إلا أن يكون الإمام سمعه يقذف فيحده إذا كان مع الإمام شهود عدول قال أبو بكر حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سليمان بن داود المهري قال أخبرنا ابن وهب قال سمعت ابن جريج يحدث عن عمر وبن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمر وبن العاص أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب فثبت بذلك أن ما بلغ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من حد لم يكن يهمله ولا يقيمه فلما قال لهلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سمحاء ائتني بأربعة يشهدون وإلا

١١٤

فحد في ظهرك ولم يحضر شهودا ولم يحده حين لم يطالب المقذوف بالحد دل ذلك على أن حد القذف لا يقام إلا بمطالبة المقذوف ويدل عليه أيضا ما روى في حديث زيد بن خالد وأبى هريرة في قصة العسيف وإن أبا الزاني قال إن ابني زنى بامرأة هذا فلم يحده النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بقذفها وقال اغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ولما كان حد القذف واجبا لما انتهك من عرضه بقذفه مع إحصانه وجب أن تكون المطالبة به حقا له دون الإمام كما أن حد السرقة لما كان واجبا لما انتهك من حرز المسروق وأخذ ماله لم يثبت إلا بمطالبة المسروق منه وأما فرق مالك بين أن يسمعه الإمام أو يشهد به الشهود فلا معنى له لأن هذا إن كان مما للإمام إقامته من غير مطالبة المقذوف فواجب أن لا يختلف فيه حكم سماع الإمام وشهادة الشهود من غير سماعه.

باب شهادة القذف

قال الله عز وجل( وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) قال أبو بكر حكم الله تعالى في القاذف إذا لم يأت بأربعة شهداء على ما قذفه بثلاثة أحكام أحدها جلد ثمانين والثاني بطلان الشهادة والثالث الحكم بتفسيقه إلى أن يتوب واختلف أهل العلم في لزوم هذه الأحكام له وثبوتها عليه بالقذف بعد اتفاقهم على وجوب الحد عليه بنفس القذف عند عجزه عن إقامة البينة على الزنا فقال قائلون قد بطلت شهادته ولزمته سمة الفسق قبل إقامة الحد عليه وهو قول الليث بن سعد والشافعى وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك شهادته مقبولة ما لم يحد وهذا يقتضى من قولهم إنه غير موسوم بسمة الفسق ما لم يقع به الحد لأنه لو لزمته سمة الفسق لما جازت شهادته إذ كانت سمة الفسق مبطلة لشهادة من وسم بها إذا كان فسقه من طريق الفعل لا من جهة التدين والإعتقاد والدليل على صحة ذلك قوله تعالى( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً ) فأوجب بطلان شهادته عند عجزه عن إقامة البينة على صحة قذفه وفي ذلك ضربان من الدلالة على جواز شهادته وبقاء حكم عدالته ما لم يقع الحد به أحد هما قوله( ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ) وثم للتراخي في حقيقة اللغة فاقتضى ذلك أنهم متى أتوا بأربعة شهداء متراخيا عن حال القذف أن يكونوا غير فساق بالقذف لأنه قال( ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ) الآية فكان تقديره ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فأولئك هم الفاسقون

١١٥

فإنما حكم بفسقهم متراخيا عن حال القذف في حال العجز عن إقامة الشهود فمن حكم بفسقهم بنفس القذف فقد خالف حكم الآية وأوجب ذلك أن تكون شهادة القاذف غير مردودة لأجل القذف فثبت بذلك أن بنفس القذف لم تبطل شهادته وأيضا فلو كانت شهادته تبطل بنفس القذف لما كان تركه إقامة البينة على زنا المقذوف مبطلا لشهادته وهي قد بطلت قبل ذلك والوجه الآخر أن المعقول من هذا اللفظ أنه لا تبطل شهادته مادامت إقامة البينة على زناة ممكنة ألا ترى أنه لو قال رجل لا مرأته أنت طالق إن كلمت فلان ثم لم تدخلي الدار أنها إن كلمت فلانا لم تطلق حتى تترك دخول الدار إلى أن تموت فتطلق حينئذ قبل موتها بلا فصل وكذلك لو قال أنت طالق إن كلمت فلانا ولم تدخلي الدار كان بهذه المنزلة وكان الكلام وترك الدخول إلى أن تموت شرطا لوقوع الطلاق ولا فرق بين قوله أنت طالق إن كلمت فلانا ثم دخلت الدار وبين قوله إن كلمت فلانا ثم لم تدخليها وإن افترقا من جهة أن شرط اليمين في أحدهما وجود الدخول وفي الآخر نفيه ولما كان ذلك كذلك وكان قوله تعالى( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ) مقتضيا لشرطين في بطلان شهادة القاذف أحدهما الرمي والآخر عدم الشهود على زنا المقذوف متراخيا عن القذف وفوات الشهادة عليه به فما دامت إقامة الشهادة عليه بالزنا ممكنة بخصومة القاذف فقد اقتضى لفظ الآية بقاءه على ما كان عليه غير محكوم ببطلان شهادته وأيضا لا يخلو القاذف من أن يكون محكوما بكذبه وبطلان شهادته بنفس القذف أو أن يكون محكوما بكذبه بإقامة الحد عليه فلو كان محكوما بكذبه بنفس القذف ـ ولذلك بطلت شهادته ـ فواجب أن لا يقبل بعد ذلك بينة على الزنا إذ قد وقع الحكم بكذبه والحكم بكذبه في قذفه حكم ببطلان شهادة من شهد بصدقه في كون المقذوف زانيا فلما لم يختلفوا في حكم قبول بينته على المقذوف بالزنا وأن ذلك يسقط عنه الحد ثبت أن قذفه لم يوجب أن يكون كاذبا فواجب أن لا تبطل شهادته إذ لم يحكم بكذبه لأن من سمعناه بخبر يخبر لا نعلم فيه صدقه من كذبه لم تبطل به شهادته ألا ترى أن قاذف امرأته بالزنا لا تبطل شهادته بنفس القذف ولا يكون محكوما بكذبه بنفس قذفه ولو كان كذلك لما جاز إيجاب اللعان بينه وبين امرأته ولما أمر أن يشهد أربع شهادات بالله إنه لصادق فيما رماها به من الزنا مع الحكم بكذبه ولما وعظ في ترك اللعان الكاذب منهما ولما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد

١١٦

ما لاعن بين الزوجين الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب فأخبر أن أحدهما بغير عينه هو الكاذب ولم يحكم بكذب القاذف دون الزوجة وفي ذلك دليل على أن نفس القذف لا يوجب تفسيقه ولا الحكم بتكذيبه ويدل عليه قوله عز وجل( لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ ) فلم يحكم بكذبهم بنفس القذف فقط بل إذا لم يأتوا بالشهداء ومعلوم أن المراد إذا لم يأتوا بالشهداء عند الخصومة في القذف فغير جائز إبطال شهادته قبل وجود هذه الشريطة وهو عجزه عن إقامة البينة بعد الخصومة في حد القذف عند الإمام إذ كان الشهداء إنما يقيمون الشهادة عند الإمام فمن حكم بتفسيقه وأبطل شهادته بنفس القذف فقد خالف الآية فإن قيل لما قال الله تعالى( لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ ) دل ذلك على أن على الناس إذا سمعوا من يقذف آخر أن يحكموا بكذبه ورد شهادته إلى أن يأتى بالشهداء قيل له معلوم أن الآية نزلت في شأن عائشة رضى الله عنها وقذفتها لأنه قال تعالى( إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ) ـ إلى قوله( لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ) وقد كانت بريئة الساحة غير متهمة بذلك وقاذفوها أيضا لم يقذفوها برؤية منهم لذلك وإنما قذفوها ظنا منهم وحسبانا حين تخلفت ولم يدع أحد منهم أنه رأى ذلك ومن أخبر عن ظن في مثله فعلينا إكذابه والنكير عليه وأيضا لما قال في نسق التلاوة( فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ ) فحكم بكذبهم عند عجزهم عن إقامة البينة علمنا أنه لم يرد بقوله( وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ ) إيجاب الحكم بكذبهم بنفس القذف وإن معناه وقالوا هذا إفك مبين إذ سمعوه لم يأت القاذف بالشهود والشافعى يزعم أن شهود القذف إذا جاءوا متفرقين قبلت شهادتهم فإن كان القذف قد أبطل شهادته فوجب أن لا يقبلها بعد ذلك وإن شهد معه ثلاث لأنه قد فسق بقذفه فوجب الحكم بتكذيبه وفي قبول شهادتهم إذا جاءوا متفرقين ما يلزمه أن لا تبطل شهادتهم بنفس القذف ويدل على صحة قولنا من جهة السنة ما روى الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف فأخبرصلى‌الله‌عليه‌وسلم ببقاء عدالة القاذف ما لم يحد ويدل عليه أيضا حديث ابن منصور عباد عن عكرمة عن ابن عباس في قصة هلال بن أمية لما قذف امرأته عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أيجلد هلال

١١٧

وتبطل شهادته في المسلمينفأخبر أن بطلان شهادته معلق بوقوع الجلد به ودل بذلك أن القذف لم يبطل شهادته واختلف الفقهاء في شهادة المحدود في القذف بعد التوبة فقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف والثوري والحسن بن صالح لا تقبل شهادته إذا تاب وتقبل شهادة المحدود في غير القذف إذا تاب وقال مالك وعثمان البتى والليث والشافعى تقبل شهادة المحدود في القذف إذا تاب وقال الأوزاعى لا تقبل شهادة محدود في الإسلام قال أبو بكر روى الحجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) ثم استثنى فقال( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا ) فتاب عليهم من الفسق وأما الشهادة فلا تجوز. حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا حجاج وقد ورد عن ابن عباس أيضا ما حدثنا جعفر ابن محمد قال حدثنا ابن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية ابن صالح عن على بن طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى( وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) قال ثم قال( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا ) قال فمن تاب وأصلح فشهادته في كتاب الله مقبولة قال أبو بكر ويحتمل أن لا يكون ذلك مخالفا لما روى عنه في الحديث الأول بأن يكون أراد بأن شهادته مقبولة إذا لم يجلد وتاب والأول على أنه جلد فلا تقبل شهادته وإن تاب وروى عن شريح وسعيد بن المسيب والحسن وإبراهيم وسعيد بن جبير قالوا لا تجوز شهادته وإن تاب إنما توبته فيما بينه وبين الله وقال إبراهيم رفع عنهم بالتوبة اسم الفسق فأما الشهادة فلا تجوز أبدا وروى عن عطاء وطاوس ومجاهد والشعبي والقاسم ابن محمد وسالم والزهري أن شهادته تقبل إذا تاب وروى عن عمر بن الخطاب من وجه مطعون فيه أنه قال لأبى بكرة إن تبت قبلت شهادتك وذلك أنه رواه ابن عيينة عن الزهري قال سفيان عن سعيد بن المسيب ثم شك وقال هو عمر بن قيس أن عمر قال لأبى بكرة إن تبت قبلت شهادتك فأبى أن يتوب فشك سفيان بن عيينة في سعيد بن المسيب وعمر بن قيس ويقال إن عمر بن قيس مطعون فيه فلم يثبت عن عمر بهذا الإسناد هذا القول ورواه الليث عن ابن شهاب أنه بلغه أن عمر قال ذلك لأبى بكرة وهذا بلاغ لا يعمل عليه على مذهب المخالف وقد روى عن سعيد بن المسيب أن شهادته غير مقبولة

١١٨

بعد التوبة فإن صح عنه حديث عمر فلم يخالفه إلا إلى ما هو أقوى منه ومع ذلك فليس في حديث عمر أنه قال ذلك لأبى بكرة بعد ما جلده وجائز أن يكون قاله قبل الجلد قال أبو بكر ما ذكرنا من اختلاف السلف وفقهاء الأمصار في حكم القاذف إذا تاب فإنما صدر عن اختلافهم في رجوع الاستثناء إلى الفسق أو إلى إبطال الشهادة وسمة الفسق جميعا فيرفعهما والدليل على أن الاستثناء مقصور الحكم على ما يليه من زوال سمة الفسق به دون جواز الشهادة أن حكم الاستثناء في اللغة رجوعه إلى ما يليه ولا يرجع إلى ما تقدمه إلا بدلالة والدليل عليه قوله تعالى( إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ ) فكانت المرأة مستثناة من المنجين لأنها تليهم ولو قال رجل لفلان على عشرة دراهم إلا ثلاثة دراهم إلا درهم كان عليه ثمانية دراهم وكان الدرهم مستثنى من الثلاثة وإذا كان ذلك حكم الاستثناء وجب الاقتصار به على ما يليه ويدل عليه أيضا أن قوله( فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَ ) في معنى الاستثناء وهو راجع إلى الربائب دون أمهات النساء لأنه يليهن فثبت بما وصفنا صحة ما ذكرنا من الاقتصار بحكم الاستثناء على ما يليه دون ما تقدمه وأيضا فإن الاستثناء إذا كان في معنى التخصيص وكانت الجملة الداخل عليها الاستثناء عموما وجب أن يكون حكم العموم ثابتا وأن لا نرفعه باستثناء قد ثبت حكمه فيما يليه إلا أن تقوم الدلالة على رجوعه إليها فإن قيل قال الله تعالى( إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً ـ إلى قوله ـإِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ) فكان الاستثناء راجعا إلى جميع المذكور لكونه معطوفا بعضه على بعض وقال تعالى( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) ثم قال( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ) فكان التيمم لمن لزمه الاغتسال كلزومه لمن لزمه الوضوء بالحدث فكذلك حكم الاستثناء الداخل على كلام معطوف بعضه على بعض يجب أن ينتظم الجميع ويرجع إليه قيل له قد بينا أن حكم الاستثناء في اللغة رجوعه إلى ما يليه ولا يرجع إلى ما تقدمه إلا بدلالة وقد قامت الدلالة فيما ذكر على رجوعه إلى جميع المذكور ولم تقم الدلالة فيما اختلفنا فيه على رجوعه إلى المذكور فإن قيل إذا كنا قد وجدنا الاستثناء تارة يرجع إلى بعض المذكور وتارة إلى جميعه وكان ذلك متعالما مشهورا في

١١٩

اللغة فما الدلالة على وجوب الاقتصار به على بعض الجملة وهو الذي يليه دون رجوعه إلى الجميع قيل له لو سلمنا لك ما ادعيت من جواز رجوعه إلى الجميع لكان سبيله أن يقف موقف الاحتمال في رجوعه إلى ما يليه وإلى جميع المذكور وإذ كان كذلك وكان اللفظ الأول عموما مقتضيا للحكم في سائر الأحوال لم يجز رد الاستثناء إليه بالاحتمال إذ غير جائز تخصيص العموم بالاحتمال ووجب استعمال حكمه في المتيقن وهو ما يليه دون ما تقدمه فإن قيل ما أنكرت أن لا يكون اللفظ الأول عموما مع دخول الاستثناء على آخر الكلام بل يصير في حيز الاحتمال ويبطل اعتبار العموم فيه إذ ليس اعتبار عمومه بأولى من اعتبار عموم الاستثناء في عوده إلى الجميع وإذا بطل فيه اعتبار العموم وقف موقف الاحتمال في إيجاب حكمه فسقط اعتبار عموم اللفظ فيه قيل له هذا غلط من قبل أن صيغة اللفظ الأول صيغة العموم لا تدافع بيننا فيه وليس للاستثناء صيغة عموم يقتضى رفع الجميع فوجب أن يكون حكم الصيغة الموجبة للعموم مستعملا فيه وأن لا نزيلها عنه إلا بلفظ يقتضى صيغته رفع العموم وليس ذلك بموجود في لفظ الاستثناء فإن قيل لو قال رجل عبده حر وامرأته طالق إن شاء الله رجع الاستثناء إلى الجميع وكذلك قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا إن شاء الله فكان استثناؤه راجعا إلى جميع الأيمان إذ كانت معطوفة بعضها على بعض قيل له ليس هذا مما نحن فيه في شيء لأن هذا الضرب من الاستثناء مخالف للاستثناء الداخل على الجملة بحروف الاستثناء التي هي إلا وغير وسوى ونحو ذلك لأن قوله إن شاء الله يدخل لرفع حكم الكلام حتى لا يثبت منه شيء والاستثناء المذكور بحرف الاستثناء لا يجوز دخوله إلا لرفع حكم الكلام رأسا ألا ترى أنه يجوز أن يقول أنت طالق إن شاء الله فلا يقع شيء ولو قال أنت طالق إلا طالق كان الطلاق واقعا والاستثناء باطلا لاستحالة دخوله لرفع حكم الكلام ولذلك جاز أن يكون قوله إن شاء الله راجعا إلى جميع المذكور المعطوف بعضه على بعض ولم يجب مثله فيما وصفنا فإن قيل فلو كان قال أنت طالق وعبدى حر إلا أن يقدم فلان كان الاستثناء راجعا إلى الجميع فإن لم يقدم فلان حتى مات طلقت امرأته وعتق عبده وكان ذلك بمنزلة قوله إن شاء الله قيل له ليس ذلك على ما ظننت من قبل أن قوله إلا أن يقدم فلان وإن كانت صيغته صيغة الاستثناء فإنه في معنى الشرط

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568