شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم0%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الأستاذ محمد هادي معرفة
تصنيف: الصفحات: 578
المشاهدات: 286338
تحميل: 13144

توضيحات:

شبهات وردود حول القرآن الكريم
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 286338 / تحميل: 13144
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

(سيمون) السيرناي تماماً ثم أخفى نفسَه، ومنهم: (السرنتيون) فإنّهم قرّروا أنّ أحدَ الحواريّين صُلِب بدلَ المسيح، وقد عُثِر على فصلٍ من كلام الحواريّين، وإذا كلامه كلام (الباسيليديّين) قد صرّح إنجيل القدّيس (برنابا) باسم الذي صُلِب بدلَ عيسى أنّه (يهوذا).

2 - وقال (الهرارنست دي بونس) الألماني في كتابهِ (الإسلام أي النصرانيّة الحقّة) في ص143 ما معناه: إنّ جميعَ ما يختصّ بمسائل الصَلب والفِداء هو من مبتكرات ومخترعات (بولس ومَن شابَهَه مِن الذين لمْ يروا المسيح، وليس من أُصول النصرانيّة الأصيلة.

3 - قال (ملمن) في الجزء الأَوّل من كتابهِ (تأريخ الديانة النصرانيّة): إنّ تنفيذ الحكم كان في وقتِ الغَلَس وإسدالِ ثوب الظَلام، فسَيَنتُج من ذلك إمكان استبدال المسيح بأحد المجرمين الذين كانوا في سجون القُدُس منتظرين تنفيذ حكم القتل عليهم، كما اعتقد بعض الطوائف المسيحيّة، وصدّقهم القرآن (1) .

* * *

وللشيخ مُحمّد عَبدَه أيضاً بحثٌ مذيّل حولَ مسألةِ الصَلب والفِداء، وأنّها عقيدة وثنيّة، ورِثَتها المسيحيّة من الهنود. ويتعرّض لشبهاتٍ أثارها المسيحيّون بشأنِ إنكار الصَلب. وكانت الشبهة الثانيّة: أنّ قصةَ الصَلب متواترةٌ متّفقٌ عليها بين طوائفِ النصارى.

لكنّها شبهةٌ إنّما تَعبِرُ على مَن يجهل تأريخ المسيحيّة، أمّا مَن يطّلع على تأريخهم فالإجابة على هذه الشُبهة يسيرة عليه؛ حيث هناك فِرَقٌ منهم أنكروا الصَلب، كفرقةِ (السيرنشيّين) و(التاتيانوسيين ّ) أتباع (تاتيانوس) تلميذ (يوستينوس) الشهير، وقال (فوتيوس) أنّه قرأ كتاباً يُسمّى (رحلة الرُسُل) فيه أخبار (بطرس) و(يوحنّا) و(اندراوس) و(توما) و(بولس). وممّا قَرأَهُ فيه: (أنّ المسيح لم يُصلب، ولكن صُلِب غيرُه، وقد ضِحك بذلك مِن صالبيه). وأنّ مجامع المسيحيّين حينذاك قد حرَّمَتْ قراءةَ

____________________

(1) راجع: الفارق بين الخالق والمخلوق، ص 281 - 282، وقصص الأنبياء للنجّار، ص447 - 449.

١٠١

أمثال هذه الكُتُب التي تخالف الأناجيلَ الأربعة والرسائلَ التي اعتَمَدتْها الكنيسة، فجعلوا يُحرِقون تلك الكُتُب ويُتلِفونها... وقد سَلَمت بعضُ تلك الكُتُب كإنجيل برنابا، وهو يُنكِر الصَلب (1) .

وسنذكر أنّ جماعةً اعتقدوا تَظاهرَ المسيح بالموت، في تواطؤ مع أحد تلاميذه يوسف وساعده الوالي بيلاطس بتحريضٍ من امرأته، حذّرته أنْ يُمسَّ الرجل البارّ بسوءٍ (2) .

* * *

إذن، ليس الأمرُ كما زَعَمَه النصارى أنّ المسيح قد صُلِب وقُتِل يقيناً، بل الأمرُ كان مشكوكاً لديهم، مُنذ بداية الأمر وإنْ اتفقوا بعد ذلك على عقيدة الصَلب والفِداء، وهي بدعة ورِثوها من عبدةِ الأوثان.

ومِن ثَمّ، فالحقّ ما صرّح به القرآن الكريم الذي ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) ، (3) قال تعالى: ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) (4) .

مسألة التوفّي

قد عرفتَ تصريحَ القرآن الكريم بأنّ الأمر قد شُبِّهَ لهُم، وما قَتلوه وما صَلبوه، بل رَفَعه اللّهُ إليه.

وكان القوم من أَوّلِ أَمرِهم على شكٍّ من ذلك، وكان هناك أقوامٌ أنكروا وقوعَ القتل على شخصِ المسيح، وكان اختلاف الأناجيل الأربعة في سَردِ القضيّة تأييد لهذا الشكّ والترديد.

____________________

(1) تفسير المنار، ج6، ص34 - 35.

(2) قصص الأنبياء للنجّار، ص429.

(3) فصّلت 41: 42.

(4) النساء 4: 157 - 158.

١٠٢

غير أنّ هنا سؤالاً: هل المسيح رُفِع بِرُوحه وجَسدِه إلى السماء وهو حيٌّ يُرزق حتّى يرجع إلى الأرض في آخر الزمان كما في كثير من رواياتٍ إسلاميّة؟ أم رُفع برُوحه دون جَسدِه وأنّ اللّه توفّاه أي أَماتَهُ وقبضَ روحَهُ؟

يقول البعض من علماء الغرب: ليس في القرآن نصٌّ على بقاء المسيح حيّاً يُرزق في السماء، بل التصريح بمُوته، وأنّ اللّه توفّاه: (1)

( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) (2) .

وهذا يدلّ على أنّه تعالى أَماتَه ثم رُفِع بروحه إلى السماء...

وهكذا قوله: ( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) (3) .

ولكنّ التوفية: أَخْذُ الشيء أخذاً مستوفياً، أي بكمالِه وتمامِه، ومنه: وفاء الدَّيَن، وليس دليلاً على الموت صِرْفاً، ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ) ، (4) ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ) (5) .

على أنّ الأناجيل متّفقةٌ على أنّ المسيح (عليه السلام) قامَ مِن القبرِ وذهبَ إلى حيث لم يرَه أحد غير تلاميذه، وافتقدوا جسده فلم يجدوه؛ فلعلّه لمْ يَمُتْ حين الصَلب وإنّما ذهب وعيُه، ثُمّ رجع إليه بعد وضعِهِ في القبرِ، حيث لم يُهيلوا عليه التراب - حسبما نصّت عليه الأناجيل - وإنّما وُضِع على القبرِ حجرٌ فوجدوا الحجرَ مُدَحرجاً عن القبرِ.

وجاء في إنجيل (متّى): إنّ مَلاك الربِّ نزلَ من السماءِ وجاء ودَحْرَج الحجر عن الباب، وقال للمرأتَين اللتين جاءتا لتَنظرا القبرَ: لا تَخافا، إنّي أعلمـُ أنّكما تَطلبانِ يسوع المـَصلوب، ليس هو هاهنا؛ لأنّه قام كما قال هلُمّا انظرا الموضعَ الذي كان الربُّ مضطَجِعاً فيه، واذهبا سريعاً وقولا لتلاميذه: إنّه قام من الأَموات، ها هو يَسبِقُكم إلى الجليل، هناك ترونه.

فخَرَجتا سَريعاً مِن القبرِ بخوفٍ وفرحٍ عظيم راكِضَتَين؛ لتُخبِرا تلاميذه، فيما هما

____________________

(1) عيسى والقرآن، ص 207، ترجمة وتحقيق الأُستاذ محسن بينا.

(2) آل عمران 3: 55.

(3) المائدة 5: 117.

(4) الزمر 39: 42.

(5) الأنعام 6: 60.

١٠٣

مُنطَلِقتانِ إذا يسوع قال لهما: سلامٌ لكما، فَتَقدَّمتا وأَمسَكَتا بِقَدَميّه وسَجَدَتا له، فقال لهما يسوع: لا تخافا، اذهَبا قُولا لإخوتي أنْ يَذهبوا إلى الجليل وهناك يرَونَني.

وأمّا التلاميذ فانطَلقوا إلى الجليلِ حيثُ أَمرهم يسوع، ولمـّا رَأَوه سجدوا له ولكنْ بعضُهم شَكّوا، فتقدّمَ يسوع وكلّمهم قائلاً: دُفِع إليّ كلَّ سلطانٍ في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمـّذوا جميعَ الأُمّم. وعلِّمُوهم أنْ يَحفظوا جميعَ ما أَوصيتُكم به، وها أنا معكم كلّ الأيّام إلى انقضاء الدهر، آمين (1) .

وفي إنجيل لوقا: إنّهنّ (2) دَخَلْنَ القبرَ ولم يَجِدْنَ جسدَ يسوع، وفيما هُنّ مُتحيّرات إذ وقف بِهنّ رَجُلانِ بثيابٍ برّاقةٍ، وقالا لهُنّ: لماذا تَطلُبَنَّ الحيَّ بين الأموات، وإنّه في الجليل.

وإنّ التلاميذ لمـّا وجدوا المسيح نفسَه في وسطهم هناك وقال لهم سلامٌ لكم فجَزعوا وخافوا وظَنّوا أنّهم نظروا روحاً فقال لهم: ما بالَكم مُضطَرِبِينَ؟ انظروا يديَّ ورجليَّ إنّي أنا هو، جسّوني فإنّ الروحَ ليس له لحمٌ وعظام كما تَرَون لي، فطلب منهم طعاماً،فَنَاوَلوه جزءً مِن سمكٍ مشويٍّ وشيئاً مِن شَهْدِ عسلٍ، فأخذ وأكلَ قُدّامهم، ثُمّ أَوصاهم بوصايا، ثمّ رفع يديه إلى السماء وبارَكَهم، وفيما هو يُبارِكُهم انفرد عنهم واُصعِد إلى السماء (3) .

وقريبٌ مِن ذلك جاء في إنجيل يوحنّا (4) .

وفي إنجيل (مرقس): ثُمّ أنّ الربّ بعد ما كلَّمَهم ارتفعَ إلى السماء وجلسَ عن يمينِ اللّه... (5)

ومِن هنا يعتقد البعضُ أنّ قوله تعالى: ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ) (6) بمعنى أنّ صَلبَه لم يؤدِّ إلى قتلِه، ولكن شُبِّه لهم أنّه قُتِل على خَشَبة الصَلب، ولم يكونوا على يقينٍ مِن أنّه ماتَ حقيقةً وذلك معنى ( وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً ) (7) .

____________________

(1) إنجيل متّى، إصحاح 28 / 1 - 20.

(2) ذكر مرقس ولوقا: أنّ ثلاث من النساء ذهبنَ ليُفتّشن عنِ القبرِ.

(3) إنجيل لوقا، إصحاح 24 / 1 - 53.

(4) إنجيل يوحنّا، إصحاح 20 و21.

(5) إنجيل مرقس، إصحاح 16/19.

(6) النساء 4: 157.

(7) النساء 4: 157.

١٠٤

وذلك أنّ (بيلاطس) كان يَعتقد براءةَ المسيح مِن كلّ ما يَرميه به اليهود، كما أنّ امرأته أيضاً كانتْ عاطِفَةً على يسوع، مهتمّةً بأمره، حريصةً على أنّه لا يُمَسّ بِسُوء، وقد أوصت زوجها بذلك...

ففي إنجيل متّى: وإذ كان جالساً على كرسيّ الولاية، أرسلت إليه امرأته قائلةً: إيّاك وذلكَ البارّ؛ لأنّي اليوم تألّمتُ كثيراً في حُلُمٍ مِن أجلِه (1) .

ومِن ثَمّ نرى أنّ المسيح لم يَمكُث على خَشَبة الصَلب طويلاً، ولمْ تُكسَر رجلاه كما كُسِرت رِجلا المـَصلوبَينِ الآخَرَينِ، بل جاء يوسف - وهو أحد تلاميذ المسيح - وتسلّم الجسد، وتعجّبوا مِن موتِه سريعاً، فلفّه في كفنٍ ووَضَعَه في قبرٍ له كان هناك.

ولا سبب لذلك إلاّ العناية الخاصّة التي كانت تحوط المسيح من ناحية الوالي بيلاطس وزوجه ويوسف ونيقوديموس...

فلهذه الاعتبارات جَعلوا يقولون: إنّ المسيح تَظاهَرَ بالموتِ وحَسِبَه الناسُ ميّتأً، ولم يكنْ قد مات، والذي تولّى إنزالَه رجلٌ من تلاميذه في الحقيقة، وكان ذلك التَظاهر بإيحاءٍ منه وساعَدَه الوالي على ذلك بأنْ سُلِّم له في إنزالِه عن الخَشَبة، واليهود في غفلةٍ عمّا بينه وبين المسيح من العلاقة، ولفّه في كفنٍ ووضعه في القبر وأجافَ على الباب حجراً (2) .

* * *

هذا، ولم يُصرِّح القرآن بنوعية الشُبهة، وقِصّة إلقاء الشَبَه على (يهوذا الأسخر يوطى). جاءت في إنجيل برنابا وبعض المصادر النصرانيّة ؛ ولعلّه الأصلُ في شيوع ذلك بين مفسّري العامّة، وعمدتُهم: وهب بن منبّه (4) الذي اشتهر بِكَثرَةِ النقل عن أهل الكتاب (3) ولا سيّما نصارى نجران (5) ولم يُؤثَر عن أئمّةِ أهل البيت (عليهم السلام) شيء من ذلك في تفاسيرنا القديمة المعتمدة (6) سِوى ما جاء في التفسير المنسوب إلى عليّ بن إبراهيم

____________________

(1) إنجيل متّى، إصحاح 27/19.

(2) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص 428 - 429.

(3) المصدر: ص448 - 449.

(4) راجع: جامع البيان، ج6، ص10 - 12، ومجمع البيان، ج3، ص136.

(5) راجع: الإسرائيليّات والموضوعات لأبي شُهبة، ص105، ومعجم البلدان، ج5، ص267.

(6) راجع: تفسير العيّاشي، ج1، ص175 و283، وتفسير التبيان، ج2، ص478 وج3، ومجمع البيان، ج2، ص449 وج3، ص135، وتفسير أبو الفتح الرازي، ج3، ص55 وج4، ص61.

١٠٥

القمي (1) ولم يَثبُت انتسابُ هذا التفسير إلى عليّ بن إبراهيم، وإنّما هو من صُنْع أحد تلامذته المجهولين (2) ، ومِنْ ثَمّ لا يُعتَمد بما تفرّد به هذا التفسير ما لمْ يدعَمْه شواهد تُوجب الاطمئنان.

والمهمّ: أنّ الأناجيل وإنْ ذَكَرَتْ قصّة الصَلب لكن ليس فيها تصريح بموت المسيح بذلك. وقد عرفتَ عبارة (لوقا): (لماذا تَطلُبَنّ الحيَّ بين الأموات) (3) الأمر الذي يلتئم واشتباه اليهود في زَعمِهم أنّهم قتلوا المسيح بالصَّلب.

والقرآن مصرّح بأنّ الأمر قد اشتبه عليهم ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ... وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً ) (4) .

وأيضاً فإنّ الأناجيل متّفقة على أنّ المسيح رُفع بجسمه ورُوحِه، وهذا هو ظاهر تعبير القرآن الكريم أيضاً: ( بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ... ) .

ومِن ثَمّ لم يُعهَد للمسيح (عليه السلام) قبرٌ لا عند المسيحيّين ولا عند غيرهم.

نعم زَعَمَ (غلام أحمد القادياني) أنّ المسيح أنجاهُ اللّه مِن كيد اليهود، فذهب إلى بلاد الهند، واستقرّ في بلاد كشمير - شمال الهند - بِسَفحِ الجبلِ (جبال هملايا) وأقام هناك إلى أن وافاه أجله، ودُفن في تلك البلاد قُرب بلدة (سرنجار) وقبره معروف هناك.

قال الأُستاذ النجّار: كنت مسافراً في رحلةٍ إلى (اسطنبول) في سنة 1924م وكان في السفينة الأُستاذ الشيخ أبو الوفاء الشرقاوي، فسألته: هل سمع حين كان في (سرنجار) بكشمير عن قبرٍ بقربِها يقال له: قبر النبيّ الأمير - حسب تعبير القادياني - يعني المسيح؟ فقال: نعم، سمعتُ بذلك وأنّه في الصحراء.

والقادياني في زَعمه هذا حاولَ إثبات كونه هو المسيح الموعود بمجيئه في آخر الزمان، ولكن كيف يكون هو المسيح وهو معروف النَسب بين قومه؟! فذهب إلى تأويل الأمر على أنّ المسيح مات ولا يمكن أن يعود بشخصه، ولكنّه يعود في شخصيةٍ أُخرى.

____________________

(1) تفسير القمي، ج1، ص103.

(2) راجع: صيانة القرآن من التحريف، ص229، طبع 1418.

(3) إنجيل لوقا، إصحاح 24/5.

(4) النساء 4: 157.

١٠٦

فقال: إنّي أنا هو المسيح. آتٍ بِهديهِ وتعاليمهِ مِن بثّ السلام والرحمة والتعاطف والمحبّة... وله كلام طويل في كتبه ومجلّته التي كان يُصدرها في حياته، ولا يزال جماعته في نشاط من التبشير بمسيحيّته... والدولة الإنكليزيّة - في وقته - كانت تؤيّدُهم؛ لأنّهم كانوا يقولون أنّ مسيحهم أبطلَ الجهاد، وكان مُغرماً بالكافر المـُستعمِر، ويمدح حكمهم في البلاد ويراه نعمةً على أهل الهند (1) .

بقي الكلام حول قوله تعالى: ( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) (2) إلى مَ يعود الضمير من قوله (قبل موته)؟ فيه قولان:

أحدهما: أنّه يعود إلى المسيح، ويكون دليلاً على أنّه (عليه السلام) لم يَمت، وتضافرت الروايات بأنّه ينزل في آخر الزمان ليكون مؤيِّداً للمهديّ المنتظر عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف، فهناك يبدو الحقّ وتتجلّى الحقيقة لدى أبناء كلّ مِن اليهود والنصارى، أمّا اليهود فيبدو لهم خطأهم في إنكار نبوّته، وأمّا النصارى ففي زَعمهم أنّه إله.

قال عليّ بن إبراهيم القمي: حدّثني أبي عن القاسم بن مُحمّد عن سليمان بن داوود المنقري عن أبي حمزة عن شهر بن حوشب، قال: قال لي الحجّاج: إنّ آية في كتاب اللّه قد أعيتني! قلتُ: أيّة آية هي؟ قال: قوله تعالى: ( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) وإنّي لآمر باليهودي والنصراني فيُضرب عنقُه، ثم أرمقُه بعيني فما أراه يحرّك شَفتيه حتّى يخمد! فقلتُ: ليس على ما تأوّلتَ، قال: كيف هو؟ قلت: إنّ عيسى يَنزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا، فلا يبقى أهلُ ملّةٍ يهودي ولا نصراني إلاّ آمن به قبل موته، ويصلّي خلف المهديّ، قال: ويحك أنّى لكَ هذا؟ ومن أين جئتَ به؟ فقلت: حدّثني به مُحمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليهم السلام) فقال: جئتَ بها واللّه من عينٍ صافية (3) .

وأخرج ابن المنذر عن شهر بن حوشب مثَلَه، فقال الحجّاج: من أين أخذتها؟ فقلتُ: مِن مُحمّد بن عليّ قال: لقد أخذتَها مِن معدنها. وفي رواية أُخرى: يعنى

____________________

(1) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص427.

(2) النساء 4: 159.

(3) تفسير القمي، ج1، ص158.

١٠٧

ابن الحنفيّة (1) .

وأَخرجه كبارُ المفسّرين، قال الشيخ أبو جعفر الطوسي: ذهب إلى هذا القول ابن عبّاس وأبو مالك والحسن وقُتادة وابن زيد، واختاره الطبري، قال: والآية خاصّة لمـَن يكون في ذلك الزمان (2) وهو الذي ذكره عليّ بن إبراهيم في تفسير أصحابنا. وذكر الحديث عن شهر بن حوشب عن محمّد بن عليّ ابن الحنفيّة، وذكر البلخي مثل ذلك.

قال: وضَعَّف هذا الوجه الزجّاج وقال: الذين يَبقون إلى زمنِ نزول عيسى من أهل الكتاب قليل، والآية تقتضي عموم إيمان أهل الكتاب أجمع (3) .

وهكذا الطبرسي في مجمع البيان (4) .

وذكر الإمام الرازي حديث شهر بن حوشب، قال: فاستوى الحجّاج جالساً - حين ذكرتُ له ذلك - وقال: عمّن نقلتَ هذا؟ فقلتُ: حدّثني به مُحمّد به عليّ ابن الحفنيّة. فأخذ ينكتُ في الأرض بقضيب، ثم قال: لقد أخذتَها من عينٍ صافيةٍ (5) .

والقول الثاني: أنْ يعود الضمير إلى الكتابي، ومعناه: لا يكون أحد من أهل الكتاب حين يخرج مِن الدنيا عند الموت إلاّ ويؤمن بالمسيح، وذلك عند زوال التكليف ومعاينة الموت؛ حيث الحقيقة تنكشف لدى حضور الموت.

قال الطبرسي: وذهب إليه ابن عبّاس في روايةٍ أُخرى ومجاهد والضحّاك وابن سيرين وجويبر، قال: ولو ضربتُ رقبته لم تخرج نفسه حتّى يؤمن (6) .

قال الشيخ مُحمّد عبده: ( قَبْلَ مَوْتِهِ ) أي قبل موت ذلك الأحد، الذي هو نكرة في سياق النفي فيفيد العموم، وحاصل المعنى: أنّ كلّ أحدٍ من أهل الكتاب عندما يُدرِكُه الموت ينكشف له الحقّ في أمر عيسى وغيره مِن أمر الإيمان فيؤمن بعيسى إيماناً صحيحاً، فاليهودي يعلم أنّه رسولٌ صادق غير دعيّ ولا كذّاب. والنصراني يعلم أنّه عبد اللّه ورسوله فلا هو إله ولا ابن اللّه.

____________________

(1) الدرّ المنثور، ج2، ص734.

(2) راجع: جامع البيان، ج6، ص16.

(3) تفسير التبيان، ج3، ص386.

(4) مجمع البيان، ج3، ص137.

(5) التفسير الكبير، ج11، ص104.

(6) مجمع البيان، ج3، ص137.

١٠٨

ورجّح هذا المعنى على المعنى الأَوّل باحتياج ذلك إلى تأويلِ النفي العامّ هنا بتخصيصه بمَن يكون منهم حيّاً عند نزول عيسى، قال: والمـُتبادر من الآية هو المعنى الذي أختاره، وهذا التخصيص لا دليل عليه، وهو مبنيّ على شيءٍ لا نصّ عليه في القرآن حتّى يكون قرينةً له.

قال: والأخبار التي وردت فيه لم ترد مفسِّرةً للآية، أمّا المعنى المـُختار الذي هو الظاهر المـُتبادر من النَظم البليغ فيؤيِّده ما ورد من اطّلاع الناس قبل موتهم على منازلهم في الآخرة، قال: وممّا يؤيِّد هذه الحقيقة النصّ في سورة يونس على تصريح فرعون بالإيمان حين أدركه الغرق (1) .

غير أنّ سياق الآية يُرجّح القولَ الأَوّل؛ حيث وقع هذا التعبير عقيب ردِّ مزعومةِ اليهود: أنّهم صلبوه وقتلوه، بل شُبِّه لهم الأمر وما قتلوه يقيناً، فمعناه: أنّه لم يُقتل ولم يَمُت وأنّه حيٌّ يرزق، وما مِن أحدٍ من أبناء اليهود والنصارى ليؤمنَنَّ به إيماناً بنبوّته الصادقة قبل أن يموت المسيح، فالكلام هنا كلام عن موت المسيح، وأنّه مات بالصَلب وقُتل أم لا، فالآية تَنكر ذلك، وتنصّ على أنّه لم يَمُت، فكان قوله تعالى إشارةً إلى موت المسيح (عليه السلام).

ولسيّدنا العلاّمة الطباطبائي (قدس سرّه) هنا نظرة دقيقة في دلالة سياق الآية على عود الضمير في ( قَبْلَ مَوْتِهِ ) إلى المسيح؛ وذلك حيث قوله تعالى - عقيب ذلك -: ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) . فإنّه يدلّ على أنّه (عليه السلام) يشهد يوم القيامة بشأن مَن آمن به في حياته قبل موته، أمّا فترة التوفّي ورَفعه إلى السماء فكان الشاهد عليهم هو اللّه سبحانه، كما جاءت في سورة المائدة: 117 (2) .

وأمّا مسألة تخصيص العموم فليس من التخصيص حقيقة، وإنّما هو من باب التسامح والتوسعة في التعبير، فخوطب الآباء بما يفعله الأبناء، كما عوتب الأبناء بما فعله الآباء في كثير من مواضع القرآن.

____________________

(1) تفسير المنار، ج6، ص21 - 22.

(2) راجع: تفسير الميزان، ج5، ص142.

١٠٩

الباب الثاني

القرآن وثقافات عصره!

هل تاثّر القرآن بثقافات كانت ساطية على البيئة العربيّة آنذاك؟

القرآن جاء ليؤثّر ويظهر على الأعراف كلّها لا ليتأثّر ويخضع لرغبات الطواغيت!

( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ )

١١٠

التأثّر بالبيئة!

هل تأثّر القرآن بثقافات عصره؟

جاء القرآن ليؤثِّر ويكافح عادات جاهليّة بائدة لا ليتأثَّر ويخضع لأعرافٍ كانت جافية إلى حدٍّ بعيد ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (1) ، ومَن أمعن النظر في تعاليم القرآن الرشيدة - يَجدها بحقٍّ نابيةً عن التشابه لأعرافٍ كانت نائيةً، فكيف بالتأثّر بها؟!.

ولكن هناك مَن زعم أنّ في القرآن كثيراً من تعابير تُوائِم أعراف العرب يومذاك ممّا ينبو عنها أعرافٌ متحضّرة اليوم، وأخذوا مِن وصفِ نعيم الآخرة والحُور والقصور ممّا يلتئم وعِيشَة العرب القاحلة حينذاك، شاهداً على ذلك، وكذا الإشارة إلى أُمورٍ خُرافَةٍ كانت تعتنقها العرب ولا واقع لها اليوم دليل آخر، والعُمدة أنّ التكلّم بلسانِ قومٍ لَيستدعي الاعتراف بما تحمله الكلمات من معاني عندهم لاحَظُوها عند الوضع فلابدّ أنّها مَلحوظةٌ أيضاً لدى الاستعمال.

هكذا زعم القوم ولكنّه وهمٌ توهّموه محضاً، وإليك التفصيل.

ولنُمّهد قبل ذلك مقدّمات تَنفعنا في صميم البحث:

____________________

(1) تكرّر هذا المقطع من الآية في القرآن ثلاث مرّات (التوبة 9: 33، الفتح 48، 28، الصفّ 61: 9) دليلاً على التأكيد البالغ.

١١١

1 - مُجاراة في الاستعمال

هل كان التكلّم بلسان قومٍ يستدعي الاعتراف بما تحمله لغتهم من ثقافات؟ أم كان لا يعدو سِوى المجاراة معهم في الاستعمال؟

الثاني هو الصحيح الواقع؛ ذلك أنّ المحاورة لأجل التفاهم في أيّ لغةٍ لا يستدعي سِوى العلم بمعاني الكَلِم الإفراديّة والجُمليّة في الاستعمال الدارج فعليّاً لدى القوم، فكان ينبغي المـُماشاة معهم ومُجاراتهم في تبادل المفاهيم حسبما يتعاهدونه الآن، من غير نظرٍ إلى أصل الوضع والدواعي التي دعت إلى وضع كلّ لفظةٍ لمعنىً خاصّ، فإنّ هذه الدواعي كانت ملحوظةً لدى الوضع ولا تُلحظ حين الاستعمال، وربّما كان مستعملو اللفظة في ذُهولٍ عن الأسباب الداعية للأوضاع الخاصّة الأَوّليّة.

خُذ مثلاً لفظة (المجنون) وُضِعت للمـُصاب بداء توتّر الأعصاب، وكان السبب الداعي لهذا الوضع في حينه اعتقاد أنّه أُصيب بِمَساسِ الجنّ؛ ومِن ثَمّ كانوا في العهد القديم يعالجون المصابين بهذا الداء بالرُّقَى والتعاويذ لغرض إبعاد الجنّ عنهم فيما زعموا، واليوم أصبحت هذه العقيدة خُرافة، غير أنّ أبناء اللغة لا يزالون يتداولون اللفظة لغرض التفاهم مع بعضهم، حيث اللفظة أصبحت مجرّد علامة للدلالة على هذا المعنى بمفهومه الجديد لا الخُرافة البائدة، وإن كانت هي السبب للوضع في وقته، غير أنّه غير ملحوظ بل مرفوض في الاستعمال حاليّاً.

والصحراء القاحلة سمّيت (مَفازَة) تفاؤلاً، وتَتَداولُ التسمية من غير أنْ تُلحظ فيها ذاك التفاؤل الملحوظ عند الوضع، أو مَن سَمّى ابنه جميلاً لِما يرى عليه مسحةَ جمالٍ، وغيره ممّن يستعمل اللفظة إنّما يستعملها لأنّها عَلَمٌ عليه رُغم عدم لحاظ جمالٍ فيه، أو كان يرى العكس؛ ذلك لأنّ التسمية تحقّقت وأصبح الاسم عَلَماً له من غير أنْ يُحمل مفهومه المـَلحوظ عند التسمية.

وعليه، فالاستعمالات الدارجة تابعة لمداليلِ الألفاظ كعلائمٍ على المعاني محضاً، ولا تُلحظ الدواعي والمناسبة الأَوّليّة التي لاحظها الواضع حين الوضع.

١١٢

فلنفرض أنّ لفظة (الخُلُق) إنّما وُضِعت للصفات والمـَلَكات النفسيّة؛ لِما كانت جاهليّة العرب تعتقد أنّ للصفات النفسيّة مَنشَأً في الخَليقة الأُولى، والإنسان مجبول عليها ومسيَّرٌ في حياته وِفق ما فُطِر عليه، تلك عقيدة جاهليّة بادت ولكنّ التسمية دامت، والمستعملون اليوم لا يريدون هذا المعنى قطعيّاً، وهكذا فيما جاء استعماله في القرآن، فإنّها مُجاراة في الاستعمال وليس اعترافاً بما تحمله اللفظة من مفهومها الأَوّلي البائد.

2 - خطاب القرآن عامّ

القرآن وإنْ كان واجه العرب في وقته لكنّه خاطب النّاس عامّة عِبر الأجيال، فقد واجه العرب وخاطبهم بلسانهم وعلى أساليب كلامهم المعهودة لديهم وذلك لغرض التفاهم معهم حينذاك ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) (1) لكن هذا لا يعني الاختصاص بعد أن كانت الرسالة عامّة والخطابات شاملة.

جاءت في القرآن تعابير قد يبدو من ظاهرها الاختصاص لكنْ في طيّها مفاهيم عامّة تشمل جميع الناس في جميع الأزمان، الأمر الذي جعل من القرآن دستوراً عامّاً لكافّة الأُمَم وفي كلّ الأدوار، وكذا الأمثال والحِكم الواردة في القرآن لا تَتَركّز على ذهنيّات العرب خاصّة وإنّما على ذهنيّات يتعاهدها جميع الأُمَم عِبر الأيّام، حتّى في مثل (الإبل) جُعِلت عِبرةً لا للعرب خاصّة وإنّما هي للعموم بعد أن كانت منبثّةً على وجه الأرض يَعرف عجائبها كلُّ الناس.

وهكذا جاءت أوصاف نعيم الآخرة وشديد عقوباتها على معايير يتعاهدها الجميع وليس عند العرب خاصّة، حسبما نبيّن.

قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله): (ما من آيةٍ في القرآن إلاّ ولها ظهرٌ وبطن). سُئل الإمام الباقر(عليه السلام) عن ذلك، فقال: (ظَهرَهُ تنزيلُه وبطنُه تأويلُه) (2) . وعنى بالتنزيل: ظاهر الآية؛ حيث

____________________

(1) إبراهيم 14: 4.

(2) تفيسر العيّاشي، ج1، ص11.

١١٣

نزلتْ بشأنٍ خاصّ، وبالتأويل: المفهوم العامّ المـُنتَزع مِن الآية وهو شامل يجاري الأيّام والليالي أبداً.

وأضاف (عليه السلام): أنّ العِبرة بهذا المفهوم العامّ الذي ضَمن خلود القرآن، وإلاّ فلو كانت العِبرة بظاهر التعبير الخاصّ إذن لكان القرآن قيدَ التأريخ في حَقلِه القصير، وذهب بهلاك تلكُم الأقوام!

وسنفصّل الكلام عن ذلك في مجالات متناسبة.

3 - حقيقة لا تخييل

ما يأتي به القرآن من عِبَر وضَرْب الأمثال فإنّها جميعاً حكايةٌ عن أمرٍ واقع، إمّا حقيقة ثابتة في الأعيان، أو تصوير لحالةٍ راسخةٍ في القلوب، وهكذا فيما أَخبر عن عالَمٍ وراءَ عالَم الشهود، ليست تصوّرات وهميّة وإنّما هي حقائق راهنة في أصقاعها المتناسبة.

فعِبَرُ التأريخ يتمثّل بها القرآن لها واقعيّة يأخذها القرآن عِبْرَةً - وإلاّ فلا عِبْرَة بالأوهام! وكذلك الصوَر التخييليّة لحالاتٍ وهواجس نفسيّة - يَضرب بها الأمثال، لها واقع مُرّ صوَّرها القرآن وألبسها ثوبَ الحياة في أبدعِ تصويرٍ.

أمّا الحكاية عن مغيّبات ما وراء السِتار فهي حقائق ثابتة مَثَّلها القرآن في قالب الاستعارة والتشبيه، فيتنبّه النابه لوجه الاستعارة والتشبيه ولا مجال للإنكار بعد عدم الدليل على الامتناع.

فهؤلاء ملائكة الرحمان لها أجنحة مَثنى وثُلاث ورُباع (1) ، ذَكَرها القرآن تعبيراً عن مُختَلف مدارج القُوى والطاقات تَملِكُها ملائكة السماء المـُدبِّرات أمراً حَسب وظائفها في التدبير المخوّل إليها، والتعبير عن القُدَر والقُوى بالأَجنحة شائع وليس المراد أجنحةً كأجنحة الطيور.

وهكذا في سائر الموارد عَمَدَ القرآن إلى التشبيه والتمثيل حكايةً عن أمرٍ واقع وليس مجرّد تصوير وتخييل.

____________________

(1) وهو قوله تعالى: ( جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ... ) فاطر 35: 1.

١١٤

ثقافات جاهليّة كافَحَها الإسلام

كان المجتمع العربي إبّان ظهور الإسلام آهِلاً بثقافاتٍ هي ضلالات وجهالات، وكان الفساد والفحشاء قد غطَّ البلاد، وكفى شاهداً على ضَخامة هذا الظلام ما رَسَمه القرآن عن مُنكَرات كانت قد عمّت الجزيرة هي مِن الفظاعة بمكانٍ، فجاء الإسلام ليُنقِذَهم من الجَهالة وَحَيرَة الضلالة، وليضعَ عنهم إصرَهم والأغلال التي كانت عليهم، وقد نجح بالفعل في خُطوات واسعة؛ حيث جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً.

إذن، جاء القرآن ليُتحِف البشريّة جَمعاء والعرب خاصّةً بِمَعالم حضارة زاهية ( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ) (1) فقد جاء ليؤثِّر لا ليتأثَّر، ومن الجَفاء زَعْمُ العكس فيما حَسِبه المـُتشاكِسون.

ودليلاً على ذلك نأتي بعادات ورسوم جاهليّة خاطئة عارضها الإسلام وغلب عليها ( وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ) (2) ( وكَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (3) .

ولنبدأ بشؤون المرأة وقد سُحِقت كرامتها الإنسانيّة في ذلك الجوّ الحالِك، فجاء الإسلام وأخذ بيدها ليَرفعَها إلى حيث مستواها الكريم.

المرأة وكرامتها في القرآن

للمرأةِ كرامتها الإنسانيّة في القرآن، وقد جَعلها الله في مستوى الرجل في الحَظوة الإنسانيّة الرفيعة، حينما كانت في كلّ الأوساط المتحضّرة والجاهلة مُهانةً وَضيْعَةَ القَدْرِ، لا شأن لها في الحياة سِوى كونها لُعبةَ الرجل وبُلغتَه في الحياة، فجاء الإسلام وأخذ بيدها وصَعد بها إلى حيث مستواها الرفيع الموازي لمستوى الرجل في المجال الإنساني الكريم ( لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ) (4) ، ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (5) .

____________________

(1) يوسف 12: 21.

(2) الصافّات 37: 116.

(3) المجالة 58: 21.

(4) النساء 4: 32.

(5) البقرة 2: 228.

١١٥

القرآن عندما يتحدّث عن الإنسان - وليس في حقيقة الإنسانيّة ذكورةٌ ولا أُنوثةٌ - إنّما يتحدّث عن الجنس ذكراً وأنثى على سواء، وعندما يتحدّث عن كرامةِ الإنسان وتفضيلِه على كثير ممَّن خلق (1) وعن الودائع التي أَودَعَها هذا الإنسان َ (2) وعن نَفخِ روحه فيه (3) وعندما يباركُ نفسَه في خَلقِه لهذا الإنسان (4) إنّما يتحدّث عن الذات الإنسانيّة الرفيعة المشتركة بين الذَّكر والأُنثى من غير فرقٍ.

هو عندما يقول: ( وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاّ مَا سَعَى ) (5) وعندما يقول: ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (6) وإلى أمثالها من تعابير لا يُفرِّق بين ذكرٍ وأُنثى: ( أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) (7) ، ولا مَيْزَ بينهما ولا تَفارُق فيما يَمتاز به الإنسان في أصل وجوده وفي سعيه وفي البلوغ إلى مراتب كماله، ( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) (8) .

وقد جاء قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ‏ ) (9) دليلاً قاطعاً على موازاة الأُنثى مع الذكر في أصالة النوع البشري، ولا تزال هذه الأصالة مُحتَفَظاً بها عِبر تناسل الأجيال.

نعم، هناك خصائص نفسيّة وعقليّة ميّزت أحدهما عن الآخر في تكوينِهما الذاتي ممّا أوجب تَفارقاً في توزيع الوظائف التي يقوم بها كلٌّ منهما في حقل الحياة، توزيعاً عادلاً يتناسب مع معطيات ومؤهّلات كلّ من الذكر والأنثى، الأمر الذي يؤكِّد شمول العدل في التكليف والاختيار، ولنَنَظر في هذه الفوارق الناشئة من مقام حكمته تعالى في الخلق والتدبير.

____________________

(1) الإسراء 17: 70.

(2) الأحزاب 33: 72.

(3) السجدة 32: 9.

(4) المؤمنون 23: 14.

(5) النجم 53: 39.

(6) الحجرات 49: 13.

(7) آل عمران 3: 195.

(8) الأحزاب 33: 35.

(9) الحجرات 49: 13.

١١٦

وللرجال عليهنّ درجة

هنا وقفة قصيرة عندما نَلحظ أنّ القرآن فضّل الرجال على النساء بدرجة!

فهل في ذلك حطٌّ من قَدْر المرأة؟ أو كمال حُظي به الرجل دونها؟

ليس من هذا أو ذاك في شيء؛ وإنّما هي مُرافقة مع ذات الفطرة التي جُبِل عليها كلٌّ من الرجل والمرأة.

إنّ معطيات الرجل النفسيّة والخُلُقيّة تختلف عن معطيات المرأة، كما تختلف طبيعتها الأُنوثيّة المـُرْهَفَة الرقيقة عن طبيعة الرجل الصُّلبة الشديدة، كما قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (المرأة ريحانة وليست بقهرمانة) (1) ، فنُعومة طبعها وظرافة خُلُقها تجعلها سريعة الانفعال تجاه مُصطَدمات الأُمور، على خلاف الرجل في تريّثِه ومقاومته عند مقابلة الحوادث.

فالمرأة في حقوقها ومَزاياها الإنسانيّة تُعادِل الرجل ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (2) ، هذا في أصل خلقتها لتكونَ للرجل زوجاً مِن نفسه أي نظيرَه في الجنس، فيتكافلان ويتعاونان معاً في الحياة الزوجيّة على سواء، فلها مثلُ الذي عليها من الحقّ المشترك، وهذا هو التماثل بالمعروف أي التساوي فيما يعترف به العقل ولا يَستَنكِرُه.

لكنّ الشطر الذي يتحمّله الرجل في الحياة الزوجيّة هو الشطر الأثقل الأشقّ، فضلاً عن القِوامة والحماية التي تُثقل عبء الرَجُل في مزاولة الحياة، الأمر الذي استدعى شيئاً من التَمايز في نفس الحقوق الزوجيّة، ممّا أوجب للرَجُل امتيازاً بدرجة ( وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ) (3) .

وهذا التفاضل في الذات والمـُعطيات هو الذي جعل من موضع الرَجُل في الأُسرة موضع القِوامة، ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) (4) .

____________________

(1) نهج البلاغة، الكتاب رقم 31، ص405.

(2) البقرة 2: 228.

(3) البقرة 2: 228.

(4) النساء 4: 34.

١١٧

إنّ الأسرة هي المؤسَّسة الأُولى في الحياة الإنسانيّة، وهي نقطة البدء التي تؤثِّر في كلّ مراحل الطريق، والتي تُزاول إنشاء وتنشئة العنصر الإنساني، وهو أكرم عناصر هذا الكون في التصوّر الإسلامي، وإذا كانت المؤسّسات - التي هي أقلّ شأناً وأرخص سعراً كالمؤسّسات الماليّة والصناعيّة والتجاريّة وما إليها - لا تُوكِل أمرَها عادةً إلاّ للأكفاء من المرشّحين لها ممّن تخصّصوا في هذا الفرع علمياً، وتدرّبوا عليه عمليّاً فوق ما وِهبوا مِن استعدادات طبيعيّة للإدارة والقِوامة، فالأًولى أن تُتَّبّع هذه القاعدة في مؤسّسة الأُسرة التي تُنشِئ وتُنشِّئ أثمن عناصر الكون، ذلك هو العنصر الإنساني.

والمنهج الربّاني يراعي هذا، ويراعي به الفطرة والاستعدادات الموهَبة لشطري النفس - العقلاني والجسماني - لأداء الوظائف المـَنوطة بهما معاً، كما يراعي به العدالة في توزيع الأعباء على شطري الأُسرة الواحدة، والعدالة في اختصاص كلٍّ منهما بنوع الأعباء المهيَّأ لها، المـُعان عليها مِن فطرته واستعداداته المتميّزة المتفرّدة.

والمسلَّم به ابتداءً أنّ الرجل والمرأة كلاهما مِن خَلْقِ اللّه، وأنّه تعالى لا يريد ظلماً بأحدٍ من خَلقه، وهو يُهيِّئه ويُعدّه لوظيفة خاصّة، ويمنحه الاستعدادات اللازمة لإحسان هذه الوظيفة، وقد خلق اللّه الناس ذكراً وأنثى زوجين على أساسِ القاعدة الكلّيّة في بناء هذا الكون، وجعل من وظائف المرأة أن تَحمل وتَضَع وتَرضع، وتَكفُل ثمرةَ الاتّصال بينها وبين الرجل، وهي وظائف ضَخمة وخطيرة وليست هيّنة ولا يسيرة، بحيث يمكن أنْ تؤدّى بدون إعداد عضويٍّ ونفسيٍّ وعقليٍّ عميق غائر في كيان الأنثى.

فكان جديراً أنْ يَنوط بالشطر الآخر - الرجل - توفير الحاجات الضروريّة، وتوفير الحماية كذلك للأُنثى كي تتفرّغ لأداء وظيفتها الخطيرة، ولا يُحمَل عليها أن تَحمل وتَضع وتَرضع وتكفل ثُمّ هي التي تعمل وتكدّ وتسهر ليلاً وتَجهد نهاراً لحماية نفسها وكفالة ولدها في آنٍ واحد! فكان عدلاً كذلك أن يُمنح الرجل من الخصائص في تكوينه العضويّ والعصبيّ والعقليّ والنفسيّ ما يُعينه على أداء وظائفه هذه الخطيرة أيضاً، وكان هذا فعلاً ( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) (1) .

____________________

(1) الكهف 18: 49.

١١٨

ومِن ثَمَّ زُوِّدت المرأة - فيما زُوِّدت به من الخصائص - بالرقّة والعطف والحنان، وسرعة الانفعال والاستجابة العاجلة لمطالب الطفولة بغير وعي ولا سابق تفكير؛ لأنّ الضرورات الإنسانيّة العميقة كلّها والمـُلِحّة أحياناً - حتّى في الفرد الواحد - قد لا تَتَركُ لأَرجَحة الوعي والتفكير وبطئه مجالاً، بل فرضت الاستجابة لها غير إراديّة، لتَسهُل تلبيتها فوراً وفيما يشبه أنْ تكون قسراً، ولكنّه قسرٌ داخلي غير مفروض من خارج النفس، ويكون لذيذاً ومستحبّاً في مُعظم الأحيان؛ لتكون الاستجابة سريعةً من جهةٍ ومريحةً من جهةٍ أُخرى، مهما يكن فيها من المشقّة والتضحية ( صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) (1) .

قال سيّد قطب: وهذه الخصائص ليست سطحيّة، بل هي غائرة في التكوين العضويّ والعصبيّ والعقليّ والنفسيّ للمرأة، بل يقول كبار العلماء المختصّين: إنّها غائرة في تكوين كلّ خليّة؛ لأنّها عميقة في تكوين الخليّة الأُولى التي يكون من انقسامها وتكاثرها الجنين، بكلّ خصائصه الأساسيّة (2) .

وكذلك زُوِّد الرجل - فيما زُوِّد به من الخصائص - بالمـُقاومة والصَلابة، وبطء الانفعال والاستجابة، والتروّي واستخدام الوعي والتفكير قبل الحركة والاستجابة؛ لأنّ وظائفه كلّها منذ بدء الحياة وممارسة التنازع في البقاء كانت تحتاج إلى قَدَرٍ من التروّي قبل الإقدام، وإعمال الفكر والبطء في الاستجابة بوجهٍ عامّ (3) ، وكلّها عميقة في تكوينه عمقَ خصائص المرأة في تكوينها، وهذه الخصائص تَجعله أقدر على القِوامة وأفضل في مجالها، كما أنّ تكليفه بالإنفاق - وهو فرع مِن توزيع الاختصاصات - يجعله بدوره أولى بالقِوامة.

وهذان العنصران هما اللذان أبرزهما النصّ القرآني، وهو يقرّر قِوامة الرجال على النساء في المجتمع الإسلامي.

____________________

(1) النمل 27: 88.

(2) تفسير في ظِلال القرآن، ج 5، ص 58 - 59، المجلّد الثاني، ص 354 - 355.

(3) إنّ معدّل سِعة الدماغ في الرجال 1480 سم مكعّب وفي النساء 1300 سم مكعّب، ووزن دماغ الرجل 1360 غم بينما وزن دماغ المرأة 1210 غم، إنّ هذا المعدّل يمثّل كافّة شعوب البشر بصورة عامّة، كتاب الحيوان للدراسة الجامعيّة، ص 388.

١١٩

قِوامة لها أسبابها وعِللها من التكوين والاستعداد، إلى جنب أسبابها من توزيع الوظائف والاختصاصات، الأمر الذي جعل من مرتبة الرجل أعلى من مرتبة المرأة بدرجة!

قال سيّد قطب: إنّها مسائل خطيرة، أخطر من أنْ تتحكّم فيها أهواء البشر، وأخطر من أنْ تُترك لهم يَخبطون فيها خَبْطَ عشواء، وحين تُركت لهم ولأهوائهم في الجاهليّات القديمة والجاهليّات الحديثة هدّدت البشريّة تهديداً خطيراً في وجودها ذاته، وفي بقاء الخصائص الإنسانيّة التي تقوم بها الحياة الإنسانيّة وتتميّز.

ولعلّ مِن الدلائل التي تُشير بها الفطرة إلى وجودها وتحكّمها، ووجود قوانينها المتحكِّمة في بني الإنسان، حتّى وهم يُنكرونها ويرفضونها ويتفكّرون لها، لعلّ من هذه الدلائل ما أصاب الحياة البشريّة من تَخبُّطٍ وفسادٍ، ومن تدهورٍ وانهيارٍ، ومن تهديدٍ بالدمار والبَوار في كلّ مرّةٍ خُولفت فيها هذه القاعدة، فاهتزّت سُلطة القِوامة في الأُسرة، أو اختلطت معالمها، أو شذّت عن قاعدتها الفطريّة الأصيلة.

ولعلّ من هذه الدلائل تَوَقان نفس المرأة ذاتها إلى قيام هذه القِوامة على أصلها الفطري في الأسرة، وشعورها بالحرمان والنقص والقلق وقلّة السعادة، عندما تعيش مع رجلٍ لا يزاول مهامّ القِوامة وتُنقِصُه صفاتها اللازمة، فيَكِل إليها هي أمرَ القِوامة! وهي حقيقة مَلحوظة تسلِّم بها حتّى المنحرفات الخابطات في الظلام.

ولعلّ من هذه الدلائل أنّ الأطفال الذين يَنشّأون في عائلة ليست القِوامة فيها للأب؛ إمّا لأنّه ضعيف الشخصيّة بحيث تَبرُز عليه شخصيّة الأُمّ وتسيطر، وإمّا لأنّه مفقود لوفاته أو لعدم وجود أبٍ شرعي، فلمـّا يَنشّأون أسوياء وقلّ أنْ لا ينحرفوا إلى شذوذٍ مّا، في تكوينهم العصبيّ والنفسيّ، وفي سلوكهم العمليّ والخُلقيّ.

فهذه كلّها بعض الدلائل التي تشير بها الفطرة إلى وجودها وتحكّمها، ووجود قوانينها المتحكّمة في بني الإنسان، حتّى وهم ينكرونها ويرفضونها ويتنكّرون لها (1) .

____________________

(1) في ظِلال القرآن، ج 5، ص 60، المجلّد الثاني، ص 356.

١٢٠