شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم0%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الأستاذ محمد هادي معرفة
تصنيف: الصفحات: 578
المشاهدات: 286287
تحميل: 13144

توضيحات:

شبهات وردود حول القرآن الكريم
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 286287 / تحميل: 13144
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

شُبُهَات وردود

حول القرآن الكريم

تأليف: الأُستاذ محمّد هادي معرفة

تحقيق: مؤسّسة التمهيد - قم المقدّسة

١

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وسلامٌ على عباده الّذين اصطفى مُحمّدٍ وآله الطّاهرين

( ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ )

وبعد، فقد صدق الله وَعدَه إذ قال: ( وَإِنّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) (1) .

كان القرآن مُنذ أوّل يومه ولا يزال موضع عناية ذوي الأحلام الراجحة، والنّفوس الطيّبة، مِن علماء ونُبهاء مُلئت بهم الآفاق، كما كان مطمحُ غواية ذوي الأحقاد الرّديئة والأنفس الخبيثة، لم ترعهم شاكلة القرآن الوضيئة، فطَفِقوا يناوئونه في محاولة مستمرّة لغرض الحطّ مِن كرامته الرّفيعة، أو النّقص من دعائمه القويمة وهيهات ( وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (2) .

وكان مِن مضاعفات تلكمُ المحاولات الفّاشلة، أنْ تراكمت هنّاك (في غياهب التيه) شُبُهاتٍ، هي ظلماتٌ بعضها فوق بعض ( وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ ) (3) .

____________________

(1) فصّلت 41: 41 - 42.                           (2) التوبة 9: 32.

(3) النور 24: 40.

٣

والشّبُهات حول القرآن - في قديمها أو الحديث مِنها - تتنوّع إلى أنحاء:

1 - مِنها ما يعود إلى التشكيك في كونه وحياً مباشريّاً، تلقّاه نبيُّ الإسلام من ملكوت أعلى، إمّا لعدم إمكانه؛ نظراً لعدم التّوائم بين عالمـَينِ أحدهما أعلى لطيف والآخر أسفل كثيف! وقد أجبنا على ذلك (1) بإمكان الاتّصال بالجانب الرّوحانيّ - حقيقة الإنسان الذاتيّة - مِن الإنسان، إذا كان قد بلغ الكمال واستعدّ روحيّاً للاتصال بالملأ الأعلى.

وإمّا لزعم أنّها مُلتقطات التقطها نبيُّ الإسلام من أفواه الرجال - أهل الكتاب -، كان يلتقي برجال من أهل الدّيانات المعروفة في جزيرة العرب، في رحلاته وأسفاره إلى مختلف البلاد، بل وفي مكّة والحجاز مِمَن آوى إليها من المعتنقين للمسيحيّة، وأبناء اليهود. ( قَالُوا أَسَاطِيرُ الأُوّلِينَ أكْتَبتَهَا فَهِيَ تُمْلَى‏ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) (2) .

أضف إليه ما كان يَستلهم من صميم وعيه المـُطعّم بإيحاءات البيئة الّتي كان يعيشها، كان يَستوحيها من داخل ضميره عندما يختلي بنفسه في غار حِراء، فكان يَستصفي أحسنَ ما تلقّاه، ليُبديه وحْياً من الله، وقرآناً نازلاً من السماء.

هكذا فرضوا فيما زعموا من غير بُرهانٍ أتاهم وسنفصّل الكلام في ذلك.

2 - ومنها زَعْمُ التأثّر بالبيئة وثقافات جاهليّة كانت ساطيةً حينذاك.

حسبوا أنّ في القرآن الشيء الكثير من رسوم وعادات بائدة، كانت قد تَعارفها العرب، وربّما البشريّة يومذاك، وقد خَضع لها القرآن في كثير مِن تعاليمه وبرامجه، والّتي منها ما يبدو غليظاً أو شديداً، أو متجافياً للحكمة ويتعافاه العقل الرشيد، فيما تقدّمت رَكْبُ البشريّة فيما بعد، وأخذوا من عقوبات الإسلام دليلاً على ذلك فيما وهموا!

3 - ومنها ما حَسِبوه متهافتاً مِن إيهام التّناقض في القرآن، ولو كان مِن عند الله لم يوجد فيه هذا الاختلاف!، هكذا حسبوا حسابهم لا عن مُداقّة!

4 - ومنها احتمال وجود اللحن في القرآن، إمّا تأريخيّاً أو أدبيّاً، أو متنافياً مع بداهة العلم، فيما توهّموا عِبر الخيال!

____________________

(1) في الجزء الأَوّل من التمهيد.                                    (2) الفرقان 25: 5.

٤

5 - ومنها احتمال التحريف في نصّه الكريم، والّذي يُذْهِب بحجيّته وإمكان الاستناد إليه، فيما حسبه أهل الظاهر المقلّدة، ممّن كانت تهمّهم الرواية وتُعوزهم الدراية!

إلى غير ذلك من تساويل شيطانيّة، حِيكت حول هذا الكتاب الإلهي العزيز الذي ( لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِه تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) (1) . ومُنذ أمد غير قصير قُمنا بجمع تلك السفاسف والأقاويل، لنأتي عليها بما أوتينا من حول وقوّة ( مَا تَذَرُ مِن شَيْ‏ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاّ جَعَلَتْهُ كَالرّمِيمِ ) (2) وهو توفيق ربّاني نَحمده عليه.

ولننظر فيما سطّروه بهذا الصدد تِباعاً حسبَ الترتيب.

____________________

(1) فصّلت 41: 42.                                  (2) الذاريات 51: 42.

٥

الباب الأول

هل للقرآن من مصادر؟

( إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى )

سؤالٌ أثارته شاكلة المستشرقين الأجانب

لكنّه رجع قول قد قاله رجال من قبلهم:

( قَالُوا أَسَاطِيرُ الأُوّلِينَ أكَْتَبتَهَا فَهِيَ تُمْلَى‏ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً )

(الفرقان 25: 5)

٦

الوحي مصدر القرآن الوحيد!

( إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى )

قال تعالى: ( إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرّةٍ فَاسْتَوَى‏ * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى‏ * ثُمّ دَنَا فَتَدَلّى‏ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى‏ إِلَى‏ عَبْدِهِ مَا أَوْحَى‏ * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى‏ * أَفَتُمارُونَهُ عَلَى‏ مَا يَرَى ) (1) .

كانت الدّلائل على أنّ القرآن كلّه - بلفظه ونَظمه ومحتواه جميعاً - كلام ربّ العالمين، وافرةً وظافرةً، وقد تكفّل عرضها مباحثُ الإعجاز القرآني باستيفاء وإحكام (2) . كما وأصبحت سفاسف المعاكسين لذلك الاتّجاه الناصع، هباءً منثوراً تذروه عواصف الرياح.

والآن، فلنشهد تَجوالهم الحديث في هذا الميدان الرهيب:

وليُعلم أنّ عمدة مستند القول باستيحاء القرآن تعاليمه الدينيّة من زُبُر الأُوّلين، هو: تواجد التّوافق - نسبيّاً - بين شريعة الإسلام وشرائع سالفة.

لكن هذا لا يجدي نفعاً بعد اعترافنا بوحدة أصول الشرائع، وأنّها جميعاً مُستقاة مِن عينٍ واحدة: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى‏ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّه ِ ) (3) .

____________________

(1) النجم 53: 4 - 21.                             (2) قد استوفينا البحث عنها في التمهيد، ج 4 و 5 و 6.

(3) آل عمران 3: 64.

٧

هذا فضلاً عن وجود التّخالف الفاحش بين أكدار أحاطت بتلك الكتب على أثر التّحريف، وقداسةٍ زاكيةٍ حَظي بها القرآن الكريم، ولا يزال مصوناً في حراسته تعالى: ( إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا الذّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (1)

هذا إجمال الكلام في ذلك ولنَخُض في تفصّيل الحديث:

كتب الكثير مِن الكتّاب المستشرقين عن نبيّ الإسلام والقرآن، حسب أساليبهم في التحقّيق عن سائر الأديان، حيثُ لا يرون لها صلة بوحي السماء، فكان من الطّبيعي في عرفهم، أنْ يلتمسوا من هنا وهناك مصادر، غذّت تلكمُ الشرائع في طول التّأريخ.

وحتّى مَن تظاهر مِنهم بالمسيحيّة يعتنقونها شكليّاً، وليس عن صدق عقيدة.

غير أنّ المسيحيّة - ولو شكليّاً - كانت من الدّوافع الحافزة للبغي على الإسلام، وللنّظر إليه نظرة سوء، وهذا ما يسمّى بالاستشراق الدِّيني الّذي قام به أبناء الفاتيكان، كان أَوّل روّاده من رجال الكنيسة وعلماء اللاّهوت، حيث ظلّوا المشرفين على هذه الحركة، والمـُسيّرين لها طوال القرنَينِ الأخيرَينِ، وكان الهدف من ذلك:

1 - الطعن في الإسلام وتشويه حقائقه.

2 - حماية النّصارى من خطر الإسلام، بالحيلولة بينهم، وبين رؤية حقائقه الناصعة وآياته البيّنة اللاّئحة.

3 - محاولة تنصّير المسلمين، ولا أقلّ من تضعّيف العقيدة في نفوسهم.

أضف إلى ذلك دوافع استعماريّة ثقافيّة وسياسيّة وتجاريّة، تحول دون خلوص مهنة الاستشراق - استطلاع تأريخ الثقافة الشرقيّة بسلام - ومِن ثَمّ فقد أُسيء بهم الظنّ، في كثير ما يبدونه من نظر.

جاء في قصّة الحضارة: وكان في بلاد العرب كثيرون من المسيحيّين، وكان منهم عدد قليلٌ في مكّة، وكان مُحمّد على صلة وثيقة بواحد منهم على الأقل، هو ورقة بن نوفل ابن عمّ خديجة، الّذي كان مُطّلعاً على كُتُب اليهود والمسيحيّين المقدّسة. وكثيراً مّا كان مُحمّد يزور المدينة، الّتي مات فيها والده عبد الله، ولعلّه قد التقى هناك ببعض اليهود وكانوا

____________________

(1) الحجر 15: 9.

٨

كثيرين فيها. وتدلّ كثير من آيات القرآن على إعجابه بأخلاق المسيحيّين، وبما في دين اليهود من نزعة إلى التّوحيد، وبما عاد على المسيحيّة واليهوديّة من قوّة كبيرة؛ لأنّ لكلتيهما كتاباً مقدّساً تعتقد أنّه موحى من عند الله.

قال: ولعلّه قد بدا له أنّ ما يسود جزيرة العرب من شِرك، ومن عبادة للأوثان، ومن فساد خُلُقي، ومن حروب بين القبائل وتفكّك سياسي، نقول: لعلّه قد بدا له أنّ حالَ بلاد العرب إذا قورنت بما تأمر به المسيحيّة واليهوديّة حالٌ بدائيّة، لا تُشرِّف ساكنيها، ولهذا أحسّ بالحاجة إلى دينٍ جديد. ولعلّه أحسّ بالحاجة إلى دين يؤلّف بين هذه الجماعات المتباغضة المتعادية، ويَخلق منها أُمّةً قويّةً سليمةً، دينٌ يسموا بأخلاقهم عمّا أَلِفه البدو من شريعة العنف والانتقام، ولكنّه قائمٌ على أوامر مُنزَّلة لا يُنازع فيها إنسان. ولعلّ هذه الأفكار نفسها قد طافت بعقل غيره من الناس، فنحن نسمع عن قيام عدد من المتنبّئين في بلاد العرب في بداية القرن السابع، وقد تأثّر كثير من العرب بعقيدة المسيح المنتظر التي يؤمن بها اليهود، وكان هؤلاء أيضاً ينتظرون بفارغ الصّبر مجيء رسولٍ من عند الله. وكانت في البلاد شيعة من العرب تُدعى بالحنفيّة أبت أنْ تقرّ بالإلوهية لأصنام الكعبة، وقامت تنادي بإلهٍ واحد، يجب أنْ يكون البشر جميعاً عبيداً له، وأن يعبدوه راضين (هم: ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، وزيد بن عمرو بن نفيل)، كانوا قد أيقنوا أنّ ما هم عليه من الوثنيّة ليس بشيء، فتفرّقوا في البلاد يلتمسون الحنيفيّة دين إبراهيم (عليه السلام)...

وكان مُحمّد - كما كان كلّ داعٍ ناجح في دعوته - النّاطق بلسان أهل زمانه والمعبّر عن حاجاتهم وآمالهم... (1) .

ويقول الأسقف يوسف درّة الحدّاد: (2) استفاد القرآن من مصادر شتّى أهمّها الكتاب المقدّس ولا سيّما كتاب موسى، وذلك بشهادة القرآن ذاته:

____________________

(1) ول ديورانت: قصّة الحضارة ج 13، ص 23 و 24، ترجمتها العربية.

(2) مارس رتبة الكهنوتيّة في الكنيسة اللبنانيّة عام 1939 م، ثُمّ انقطع زُهاء عشرين عاماً يبحث عن شؤون الإسلام والقرآن على أسلوبه الكهنوتي، حاول التقارن والتقارب بين القرآن وكُتب العهدَين، ليجعل الأخيرة منابع للقرآن ومصادره في كلّ ما ينسبه إلى وحي السماء. توفي سنة 1979 م.

٩

( إِنّ هذَا لَفِي الصّحُفِ الأُولَى‏ * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ) (1) .

( أَمْ لَمْ يُنَبّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى‏ * وَإِبْرَاهِيمَ الّذِي وَفّى‏ * أَلاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ‏ ) (2) .

( وَإِنّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوّلِينَ * أَوَلَمْ يَكُن لَهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) (3) .

قال: فآية مُحمّد الأُولى هي مطابقة قرآنه للكتب السابقة عليه. وآيته الثانية استشهاده بعلماء بني إسرائيل وشهادتهم له بصحّة هذه المطابقة. ولكن ما الصلة بين القرآن وكونه في زُبُر الأوّلين؟! هذا هو سرّ مُحمّد! فيكون مِن ثَمّ أنّه نزل في زُبُر الأوّلين بلُغة أعجميّة يجهلوها، ثُمّ وصل إلى مُحمّد بواسطة علماء بني إسرائيل، فأنذر به مُحمّد بلسان عربيّ مبين.

فأصل القرآن مُنزّلٌ في زُبُر الأوّلين، وهذا يوحي بصلة القرآن بمصدره الكتابيّ زُبُر الأوّلين، أي صُحفهم وكتبهم.

وأيضاً فإنّ شهادة علماء أهل الكتاب بصحّة ما في القرآن، لم تكن إلاّ؛ لأنّهم كانوا شركاء هذا الوحي المولود؛ ذلك لأنّ الوحي التّنزيليّ أمر شخصيّ لا يعرفه غير صاحبه فحسب.

والآية ( وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى‏ إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهذَا كِتَابٌ مُصَدّقٌ لّسَاناً عَرَبِيّاً ) (4) فيها صراحة بأنّه تتلمذ لدى كتاب موسى وجعله في قالب لسان العرب، الأمر الّذي يجعل من القرآن نُسخة عربيّة مُترجمة عن الكتاب الإمام.

( كِتَابٌ فُصّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ) (5) التفصّيل هنا يعنى: النّقل من الأصل الأعجمي إلى العربي، فالقرآن موحى، والتفصّيل العربي للكتاب منزّل؛ لأنّ الأصل وحي منزّل... (6) .

وعلى هذا الغِرار جرى كلّ من (تسدال) و (ماسيه) و(أندريه) و(لامنز) و(جولد تسيهر) و(نولديكه) (7) إلى أنّ القرآن استفاد كثيراً مِن زُبُر الأوّلين، وحجّتهم في ذلك

____________________

(1) الأعلى 87: 18 و 19.                            (2) النجم 53: 36 - 38.

(3) الشعراء 26: 196 و 197.                      (4) الأحقاف 46: 12.

(5) فصّلت 41: 3.

(6) دروس قرآنيّة ليوسف درّة الحدّاد، ج 2، ص 173 - 188 (القرآن والكتاب) بيئة القرآن الكتابيّة، فصل 11 (هل للقرآن من مصادر؟) منشورات المكتبة البوليسيّة - لبنان 1982م.

(7) آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره لعمر رضوان، ج1، صفحات 272 - 290 و335.

١٠

محضر التّشابه بين تعاليم القرآن وسائر الصّحف. فالقصص والحِكم في القرآن هي الّتي جاءت في كُتب اليهود، وكذا قضايا جاءت في الأناجيل وحتّى في تعاليم زرادشت والبرهميّة، في مثل حديث المعراج، ونعيم الآخرة والجحيم، والصراط والافتتاح بالبسملة، والصلوات الخمس وأمثالها مِن طُقُوس عباديّة وكذا مسألة شهادة كلّ نبيّ بالآتي بعده، كلّها مأخوذة من كتب سالفة كانت معهودة لدى العرب.

زعموا أنّ القرآن صورة تلموديّة، وصلت إلى نبيّ الإسلام عن طريق علماء اليهود، وسائر أهل الكتاب ممّن كانت لهم صلة قريبة بجزيرة العرب، فكان مُحمّد (صلّى الله عليه وآله) يلتقي بهم قبل أنْ يُعلن نُبوّته، ويأخذ منهم الكثير من أُصول الشّريعة.

يقول (وِل ديورانت): وجديرٌ بالذكر أنّ الشّريعة الإسلاميّة لها شَبه بشريعة اليهود... ثُمّ جَعل يسرد قضايا مشتركة بين القرآن والعَهدَينِ ويَعدّ منها مسألة التوحيد والنبوّة، والإيمان والإنابة، ويوم الحساب والجنّة والنّار، زاعماً أنّها من تأثير اليهوديّة على دين الإسلام. وكذا كلمة التّوحيد - لا إله إلاّ اللّه - مأخوذة من كلمة إسرائيليّة: أَلا فاسمع يا إسرائيل وحدك، والبسمَلَة مأخوذة أيضاً من تلمود، ولفظة (الرحمان) معرّبة من (رحمانا) العِبريّة... إلى غيرها من تعابير جاءت في الإسلام مُنحدرة عن أصل يهودي، الأمر الّذي جعل البعض يتصوّر أنّ مُحمّداً كان عارفاً بمصادر يهوديّة وكانت هي مستقاه في تأليف القرآن... (1)

شرائع إبراهيميّة منحدِرة عن أصل واحد

نحن المسلمون نعتقد في الشرائع الإلهيّة أجمع أنّها مُنحدِرة عن أصلٍ واحد، ومُنبعِثة من مَنهل عَذبٍ فارد، تهدف جميعاً إلى كلمة التّوحيد وتوحّيد الكلمة، والإخلاص في العمل الصّالح والتحلّي بمكارم الأخلاق، من غير اختلافٍ في الجذور ولا في الفروع المتصاعدة. ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا

____________________

(1) - تاريخ التّمدّن (قصّة الحضارة) الفارسيّة، لمؤلّفه ول ديورانت، مجلّد 4، ص236 - 238، عصر الإيمان، الفصل التاسع وراجع قصّة الحضارة، ج13، ص 22، فيه إلمامة إلى ذلك.

١١

وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ... ) (1) .

إذنْ، فالدِّين واحد والشّريعة واحدة، والأحكام والتكاليف تهدف إلى غرضٍ واحد وهو كمال الإنسان، ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ ) (2) ، يعني: أنّ الدِّين كلّه - من آدم فإلى الخاتم - هو الإسلام أي التسلّيم للّه والإخلاص في عبادته محضاً.

( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (3) .

الإسلام هو الدّين الشّامل، فمَن حاد عنه فقد حاد عن الجادّة الوسطى، وضلّ الطريق في نهاية المسير، وهكذا تأدّب المسلمون بالإيمان بجميع الأنبياء من غير ما فارق: ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (4) .

وهذا منطق القرآن يدعو إلى كلمة التّوحيد وتوحيد الكلمة وأنّ لا تفرقة بين الأديان مادام التّسليم للّه ربّ العالمين؛ وبذلك يكون الاهتداء والاتحاد، وفي غيره الضّلال والشّقاق، ( فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ) (5) .

وفي ذلك ردّ وتشنّيع بشأن اليهود والنصارى، أولئك الّذين يَدعُون إلى الحياد والانحياز ( وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ) (6) ، أي قالت اليهود كونوا منحازين على اليهوديّة لا غيرها حتى تهتدوا! وقالت النصارى كونوا حياداً على النّصرانيّة لا غيرها حتى تهتدوا!

والقرآن يردّ عليهم جميعاً، ويدعو إلى الالتفاف حول الحنيفيّة الإبراهيميّة: ( قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (7) ، ( صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ) (8) .

نعم، صِبغة اللّه شاملة وكافلة للإسعاد بالبشريّة جمعاء، الأمر الذي يعتنقه المسلمون أجمع، والحمد للّه.

____________________

(1) الشورى 42: 13.                                  (2) آل عمران 3: 19.

(3) آل عمران 3: 85.                                  (4) البقرة 2: 136.

(5) البقرة 2: 137.                                     (6) البقرة 2: 135.

(7) البقرة 2: 135.                                     (8) البقرة 2: 138.

١٢

وحدة المنشأ هو السّبب للتّوافق على المنهج

وبعد، فإنّ ائتلاف الأديان السماويّة واتّحاد كلمتها، لابدّ أنْ يكون عن سببٍ معقول، وهذا يحتمل أحد وجوهٍ ثلاثة:

1 - إمّا لوحدة المنشأ؛ حيثُ الجميع منبعث مِن أصلٍ واحد، فكان التّشابه في الفروع المتصاعدة طبيعيّاً.

2 - أو لأنّ البعض مُتّخذٌ من البعض، فكان التّشاكل نتيجة ذاك التّبادل يداً بيد.

3 - أو جاء التّماثل عن مصادفةٍ اتفاقيّة وليس عن علّةٍ حكيمة.

ولا شكّ أنّ الأخير مرفوض بعد مُضادّة الصّدفة مع الحِكمة السّاطية في عالم التدبّير.

بقي الوجهان الأوّلان، فلنتساءل القوم: ما بالهم تغافلوا عن الوجه الأَوّل الرّصين، وتواكبوا جميعاً على الوجه الهجين؟! إنّ هذا لشيءٌ مُريب!

هذا، والشّواهد متضافرة، تدعم الشقّة الأُولى لتهدم الأُخرى من أساس:

أوّلاً: صراحة القرآن نفسه بأنّه مُوحى إلى نبيّ الإسلام وحياً مباشريّاً، نزل عليه ليكون للعالمين نذيراً، فكيف الاستشهاد بالقرآن لإثبات خلافه؟! إنّ هذا إلاّ تناقضٌ في الفهم، واجتهاد في مقابلة النصّ الصريح!

ثانياً: معارف فخيمة قدّمها القرآن إلى البشريّة، بحثاً وراء فلسفة الوجود ومعرفة الإنسان ذاته، لم يَكد يدانيها أيّة فكرة عن الحياة كانت البشريّة قد وصل إليها لحدّ ذاك العهد، فكيف بالهزائل الممسوخة الّتي شُحنت بها كُتب العهدَينِ؟!

ثالثاً: تعاليم راقية عرضها القرآن لا تتجانس مع ضآلة الأساطير المـُسطَّرة في كتب العهدَينِ، وهل يكون ذاك الرفيع مستقىً من هذا الوضيع؟!

إلى غيرها من دلائل سوف يوافيك تفصّيلها.

١٣

القرآن يشهد بأنّه مُوحى

وأمّا إنْ كنّا نستنطق القرآن، فإنّه يشهد بكونه مُوحى إلى نبيّ الإسلام مُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله)، كما أُوحي إلى النبيّين من قبله: ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً * رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً * لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ) (1) .

( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) (2) .

والآيات بهذا الشأن كثيرة ناطقة صريحاً بكون القرآن إلى نبيّ الإسلام وحياً مباشريّاً؛ لينذر قومه ومَن بلغ كافّة.

أمّا أنّه (صلّى اللّه عليه وآله) تلقّاه (التقطه) من كُتب السالفِينَ وتعلّمه من علماء بني إسرائيل فهذا شيءٌ غريب، يأباه نسج القرآن الحكيم.

القرآن في زُبُر الأوّلين

وأمّا ما تذرّع به صاحبنا الأسقف درّة، فملامح الوهن عليّه بادية بوضوح:

قوله تعالى: ( إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ) (3) .

هذا إشارة إلى نصائح تقدّمت الآية ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) ، وذلك تأكيدٌ على أنّ ما جاء به مُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله)، لم يكن بِدعاً ممّا جاء به سائر الرسل ( قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ ) (4) ، فليس الّذي جاء به نبيّ الإسلام جديداً لا سابقة له في رسالات اللّه، الأمر الّذي يستدعيه طبيعة وحي السماء

____________________

(1) - النساء 4: 163 - 166.

(2) - الأنعام 6: 19.

(3) - الأعلى 87: 18 و19.

(4) - الأحقاف 46: 9.

١٤

العامّ وفي كلّ الأدوار، مِن آدم فإلى الخاتم، فإنّ شريعة اللّه واحدة، لا يختلف بعضها عن بعض، فالإشارة راجعة إلى محتويات الكتاب، توالى نزولها حسب توالي بعثة الأنبياء، فالنّصائح والإرشادات تكرّرت مع تكرّر الأجيال، هذا ما تعنيه الآية لا ما زعمه صاحبنا الأسقف!

وهكذا قوله تعالى: ( أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) (1) .

يعود الضمير إلى مَن وقف في وجه الدّعوة مُستهزِئاً، بأنْ سوف يتحمّل آثام الآخرين، إنْ لم يؤمنوا بهذا الحديث، فيردّ عليهم القرآن: ألم يبلغهم أنّ كلّ إنسان سوف يُكافىء حسب عمله، ولا تزرُ وازرةٌ وِزر أُخرى؟ فإنْ لم يَعيروا القرآن اهتماماً فليَعيروا اهتمامهم لما جاء في الصُحُف الأُولى، وَهلاّ بلغهم ذلك وقد شاع وذاع خبره منذ حين؟!، وهكذا سائر الآيات تَروم هذا المعنى لا غير!

( أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ) (2)

وآية أُخرى على صدق الدعوة المـُحمّديّة: أنّ الراسخين في العلم من أهل الكتاب، يشهدون بصدقها ممّا عرفوا من الحقّ:

( لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ (أي من أهل الكتاب) وَالْمُؤْمِنُونَ (أي من أهل الإسلام) يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك ) (3) .

( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) (4) ، وهؤلاء هم القساوسة والرّهبان الّذين لا يستكبرون؛ ومِن ثَمَّ فهم خاضعون للحقّ أين وجدوه، وبالفعل فقد وجدوه في حظيرة الإسلام.

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ (أيّها الكافرون بالقرآن) وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ (ممّن آمن برسالة الإسلام) عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ) (5) .

____________________

(1) النجم 53: 36 و37.

(2) الشعراء 26: 197.

(3) النساء 4: 162.

(4) المائدة 5: 83.

(5) الأحقاف 46: 10.

١٥

الضمير في قوله (على مثله) يعود إلى القرآن، يعني: أنّ مِنْ علماء بني إسرائيل مَن يشهد بأنّ تعاليم القرآن تماماً مثل تعاليم التّوراة الّتي أنزلها اللّه على موسى؛ ولذا آمن به لِما قد لَمس فيه من الحقّ المتطابق مع شريعة اللّه في الغابرين.

وكثير من علماء أهل الكتاب آمنوا بصدق رسالة الإسلام فور بُلوغ الدعوة إليّهم؛ حيث وجدوا ضالّتهم المنشودة في القرآن فآمنوا به، فكانت شهادة عمليّة إلى جنب تصرّيحهم بذلك علناً على الملأ من بني إسرائيل.

وهذا هو معنى شهادة علماء بني إسرائيل بصدق الدعوة، حيث وجدوها متطابقة مع معايير الحقّ الّذي عندهم، لا ما حسبه صاحبنا الأسقف بعد أربعة عشر قَرناً أنّه مقتبسٌ من كتبهم ومُتلقّى من أفواههم هم!! الأمر الّذي لم يقله أولئك الأنجاب وقد أنصفوا الحقّ الصريح! ( وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ) (1) ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ ) (2) .

وهذه المعرفة ناشئة عن لمس الحقيقة في الدعوة ذاتها، وِفقاً لمعايير وافتهم على أيدي الرُسل من قبلُ، وقد لمسها أمثال صاحبنا الأُسقف اليوم أيضاً ولكن ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ) (3) كالذين من قبلهم ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) (4) ممّن حاول إخفاء الحقيقة - قديماً وحديثاً - فضلّوا وأضلّوا وما كانوا مُهتدين.

مقارنة عابرة بين القرآن وكُتب سالفة مُحرّفة

معارف فخيمة امتاز بها الإسلام

والآن، فلنقارن - شيئاً - بين ما جاء في القرآن من معارف وتعاليم، كانت في قمّة الشّموخ والعَظمة، وبين ما ذكرته سائر الكُتب، أو بلغتها الفكرة البشريّة في قصورٍ بالغ، وليكون برهاناً قاطعاً على أنّ هذا الهزيل، لا يصلح لأنْ يكون مستنداً لذلك الفخيم!

____________________

(1) الأنعام 6: 114.

(2) الأنعام 6: 20.

(3) النمل 27: 14.

(4) البقرة 2: 89.

١٦

جلائل صفات اللّه في القرآن

جاء وصفه تعالى في القرآن ما يَفوق الفكر البشري آنذاك، بلْ ولولا القرآن لما تسنّى للبشريّة أنْ تبلغه على مدى الزمان. حيث أدقّ الوصف ما وصف الله نفسه في كلامه العزيز (القرآن الكريم وليس في غيره إطلاقاً).

جاء في سورة الحشر: ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (1) .

وفي سورة التوحيد: ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ * اللّهُ الصّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) (2) .

وفي سورة الرعد: ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ) (3) .

وفي سورة الشورى: ( فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (4) .

وفي سورة البقرة: ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) (5) .

إلى غيرها مِن جلائل صفات زَخَر بها القرآن الكريم، واختلى عنها سائر الكتب، اللّهمّ إلاّ النَزر اليسير، فيا تُرى هل يصلح أنْ يكون هذا النَزر اليسير منشأ لذلك الجمّ الغفير؟!

وكلّ واحدة من هذه الصفات تنمّ عن حقيقة ملحوظة في الذات المقدّسة هي منشأ

____________________

(1) الحشر 59: 24 - 22.

(2) الإخلاص 112.

(3) الرعد 13: 9.

(4) الشورى 42: 11 و 12.

(5) البقرة 2: 255.

١٧

لآثار وبركات فاضت بها سلسلة الوجود، وقد شرحها العلماء الأكابر مِلء موسوعات كبار.

وصْفُه تعالى كما في التوراة

وأدنى مراجعة لكُتب العهدَينِ تكفي للإشراف على مدى الوهن في وصفه تعالى، بما يجعله في مرتبة أخسّ مخلوق، ويتصرّف تصرّفات لا تليق بساحة قُدسه الرفيع.

تلك قصّة بدء الخليقة جاءت في سِفر التكوين مشوّهة شائنة: تجد الإله الخالق المتعالي هناك، إلهاً يخشى منافسة مخلوقٍ له، فيُدبّر له المكائد في خداعٍ فاضح.

جاء فيها: إنّ الرّبّ الإله لمـّا أسكن آدم وزوجه حوّاء في جنّة عدن، رخّص لهما الأكل من جميع شجر الجنّة، وأمّا شجرة معرفة الخير والشرّ فلا يأكُلا منها، وماكرهما في ذلك قائلاً: (لأنّك - خطاباً لآدم - يوم تأكل منها موتاً تموت) (1) .

وهي كِذبة حاول خداعهما بذلك؛ لئلاّ يُصبحا عارفَينِ كالإله ويُنافسا سلطانه، الأمر الّذي صادَقَهما فيه إبليس وقال لهما: (لن تموتا، بل الله عالم أنّه يوم تأكلان منه، تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشرّ)! (2)

وحينما أكلا منها تبيّن صدق إبليس وكذب الإله - وحاشاه -، فانفتحت أعينهما وشَعرا بأنّهما عُريانان، فجعلا يَخيطان لأنفسهما مآزر من ورق التّين.

وفي هذا الأثناء جاء الإله يتمشّى بأرجله في الجنّة، إذ سمعا الصوت فاختبآ وراء شجرة؛ لئلاّ يُفتضح أمرهما، وناداهما الربّ: أين أنتما؟ فقال آدم: ها نحن هنا فخشيت لأنّي عريان فاختبأت!

فهنا عرف الربّ أنّهما أكلا من الشجرة، وأصبحا عارفين للخير والشرّ فقال: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منّا، والآن لعلّه يمدّ يده، ويتناول من شجرة الحياة ويحيا إلى الأبد، فطردهما مِن الجنّة وأقام حرساً عليها لئلاّ يقربا منها.

____________________

(1) سِفر التكوين، إصحاح 2 / 17.

(2) المصدر: 3 / 4 و 5.

١٨

هكذا إله التوراة يخشى منافسة مخلوق صنعه بيده، فيُماكر و يُخاتل كي يصرفه عنها، ويجهل ويكذِّب كِذبةً عارمةً، افتُضِحت لفورها على يد إبليس، منافسه الآخر! الأمر الذي يشفّ عن عجز وضَعف، مضافاً إلى الوهن في التّدبير والعياذ بالله!

* * *

هذا، والقرآن يعلّل المنع (من تناول الشّجرة) بشقاءٍ (عناء في الحياة) سوف ينتظرهما لو أكلا منها، منعاً إرشاديّاً لصالح أنفسهما: ( فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ) (1) ، أي تقع في مَشاقّ الحياة بعد هذا الرّغد في العيش الهنيء.

وإبليس هو الذي ماكَرَهما وكَذّب كِذبته الفاضحة: ( قَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ) (2) .

فالّذي كذّب وافتضح هو إبليس، كما جاء في القرآن، على عكس ما جاء في التوراة!

وفارقٌ آخر: كان آدم وحوّاء متلبّسين بلباس يستر سوءاتهما، قبل أنْ يَغويهما الشيطان، لينزع عنهما لباسهما ويريهما سوءاتهما (3) .

وهذا على عكس التّوراة (المـُصطنعة) تفرضهما عُريانَينِ من غير شُعور بالعَراء، حتّى إذا ذاقا الشجرة، فعند ذلك شعرا بالعَراء وحاولا التستّر بورق الجنّة.

فكان الله قد خلقهما عُريانين من غير أنْ يشعرا بالخجل والحياء كسائر الحيوان، فجاء إبليس ليخرجهما من العَمَه إلى العقل الرشيد!

وفارق ثالث: القرآن يُمجّد الإله برحمته الواسعة على العباد، وحتّى الذين أسرفوا على أنفسهم أنْ لا يقنطوا من رحمة الله ( إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (4) .

وبالفعل فقد تاب الله على آدم واجتباه، مع ما فَرَط منه من النسيان ومخالفة وصيّة الله ( ثُمَّ

____________________

(1) طه 20: 117.

(2) الأعراف 7: 20 - 22.

(3) إشارة إلى الآية 27 من سورة الأعراف.

(4) الزمر 39: 53.

١٩

اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ) ، (1) ووعده الرّحمة المتواصلة، والعناية الشاملة طول حياته، وحياة ذراريه في الأرض ( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (2) .

وهذا يُعطي امتداد بركات الله على أهل الأرض أبداً، على خلاف ما ذكرته التوراة بامتداد سخطه تعالى على آدم، وجَعْل الأرض ملعونة عليّه، وعلى زوجه وذراريهما عِبر الحياة أبداً (ملعونةٌ الأرض بسببك) (3) .

نعم كان الإله - حسب وصف القرآن - غفوراً ودوداً رؤوفاً بعباده، وحسب وصف التوراة: حقوداً عنوداً شديد الانتقام!

فأين ذاك التوافق المزعوم، ليجعل مصطنعات اليهود أصلاً تفرّع منه القرآن؟!

الله يصول ويجول ضدّ بني آدم

ومسرحاً آخر تُرينا التوراة كيف حشّد الإله الربّ، جموعه لمكافحة بني آدم: فرّق شملهم وبلبل ألسنتهم، فلا يجتمعوا ولا يَتوازروا، ولا يتعارف بعضهم إلى بعض، ولا يتعاونوا في حياتهم الاجتماعيّة... لماذا؟؛ لأنّه كان - وحاشاه - يخاف سَطوتهم فيثوروا ضدّ مطامع الإله!!

جاء في سِفر التّكوين: كان بنو الإنسان على لسانٍ واحد متفرّقين على وجه الأرض، فحاولوا التجمّع وبناء مدينة في أرض شنعار - بين دجلة والفرات من أرض العراق - (4) فنزل الربّ لينظر بناء المدينة والبرج - برج بابل - ولكن هابه ذلك وخاف سطوتهم، فعَمد إلى تدمّير المدينة وتفرّيق الألسن، فلا يستطيع أحدهم أن يجتمع مع الآخر ليتفاوض معه، فبدّدهم الربّ من هناك على وجه الأرض ومنعهم من البنيان (5) .

____________________

(1) طه 20: 122.

(2) البقرة 2: 38.

(3) سِفر التكوين، إصحاح 3 / 17.

(4) عرفت باسم بابل عاصمة الكلدانيّين ممّا يلي الحلّة الفيحاء.

(5) سِفر التكوين، إصحاح 11.

٢٠