شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم0%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الأستاذ محمد هادي معرفة
تصنيف: الصفحات: 578
المشاهدات: 286235
تحميل: 13144

توضيحات:

شبهات وردود حول القرآن الكريم
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 286235 / تحميل: 13144
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بل وَرَفع مِن مكانتهم حتى أجاز الائتمام بهم في الصلاة - وهي أفضل عبادات الإسلام -، جاء في (قرب الإسناد) للحميري عن الإمام الصادق عن آبائه عن عليّ (عليهم السلام) قال: (لا بأس بأن يَؤمّ المملوك إذا كان قارئاً) (1) .

وليكون ذلك دليلاً على صلاحيّتهم لتصدّي جميع المناصب الرسميّة وغير الرسميّة في النظام الإسلامي وأن لا فَرق بينهم وبين الأحرار في ذات الأمر، وهذا مِن المساواة في أفخم وأضخم شكلها المعقول؛ ولذلك نرى الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) قد أَمّر زيداً مولاه على رأس جيش فيه كِبار الأنصار والمهاجرين، فلمـّا قُتل زيد ولّى ابنه أسامة قيادة الجيش وفيهم أبو بكر وعمر فلم يُعطِ الرقيق بذلك مجرّد المساواة الإنسانيّة، بل أعطاه حقّ القيادة والرئاسة على الأحرار، فأعطى العبيد بذلك الحق في أرفع مناصب الدولة كلّها.

وقد وصل الإسلام في حُسن المعاملة وردّ الاعتبار الإنساني للرقيق إلى درجة عجيبة، حتى ولقد آخى الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) بين بعض العبيد وبعض أكابر الأصحاب من سادة العرب، فآخى بين بلال بن رباح وأبي رويحة الخثعمي، وبين مولاه زيد وعمّه حمزة (2) ، وكانت هذه المؤاخاة صلة حقيقيّة تعدل رابطة الدم والنسب.

كما وزوّج بنت عمته زينب بنت جحش مِن مولاه زيد، والزواج مسألة حسّاسة جدّاً وخاصّة من جانب المرأة، فهي تأبى أن يكون زوجها دونها في الحَسب والنَسب والثراء، وتحسّ أنّ هذا يحطّ مِن شأنها ويغضّ من كبريائها، ولكن الرسول كان يهدف إلى

____________________

اذهب، فأنت حرّ لوجه الله)، قال أبو بصير: فقلت له: جُعلت فداك، كان العتق كفّارة الضرب؟ فسكت! البحار، ج 71، ص 142، رقم 12.

وكان رجل من بني فهد يَضرب عبداً له وهو يَستعيذ بالله ولم يُقلع عنه حتّى إذا أبصر رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله) استعاذ به فأقلع عنه، فقال له النبي: (يتعوّذ بالله فلا تُعيذه، ويتعوّذ بمُحمّد فتُعيذه؟! والله أحقّ أن يُجار عائذه مِن مُحمّد! فقال الرجل: هو حرّ لوجه الله، فقال النبي (صلّى اللّه عليه وآله): والذي بعثني بالحقّ نبيّاً لو لم تُعتقه لسَفَعَتْ وجهَك حرّ النار)، بحار الأنوار، ج 71، ص 143، رقم 15، وإحياء علوم الدين، ج2، ص 220).

وقال الزهري: متى قلتَ لمـَملوكِك: أخزاك الله، فهو حرّ، المصدر: ج 2، ص 220. والآثار من هذا القبيل كثير.

(1) بحار الأنوار، ج 85، ص 43، نقلاً عن قرب الإسناد، ص95، ط نجف، وللمجلسي هنا (45) بيان وافٍ.

(2) راجع: السيرة لابن هشام، ج 2، ص 151 - 153.

١٨١

معنى أسمى من كل ذلك، وهو رفع الرقيق من الوَهدَة التي دفعته إليها البشريّة الظالمة، إلى حيث مستوى أعظم سادة العرب من قريش.

* * *

كلّ ذلك هي خَطرات واسعة لتحرير الرقيق روحيّاً بردّه إلى الإنسانيّة، ومعاملته على أنّه بشر كريم، لا يَفترق عن السادة مِن حيث الأصل، وإنّما هي ظروف عارضة حدَّت مِن الحريّة الخارجيّة للرقيق في التعامل المـُباشر مع المجتمع، وفيما عدا هذه النقطة كانت للرقيق كلّ حقوق الآدميّين.

ولكن الإسلام لم يكن ليَكتفي بهذا المقدار؛ لأنّ قاعدته الأساسيّة العظمى هي المساواة الكاملة بين البشر، وهي التحرير الكامل لكلّ بشرٍ! وكلّ الذي تقدّم كان تمهيداً للبلوغ إلى هذه الغاية، والتي كان النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) يترقّبها، إمّا في حال حياته أو فيما بعد، ترقّباً غير بعيد.

قال (صلّى اللّه عليه وآله): (ما زالَ جبرائيل يُوصيني بالمـَماليك حتّى ظننتُ أنّه سَيجعل لهم وقتاً إذا بلغوا ذلك الوقت أُعتقوا) (1) .

وبالفعل جَعل وسيلتَينِ كبيرتَينِ: هما العِتق والكتابة إلى التحرّر التامّ، هذا فضلاً عن رفضٍ مطلقٍ لأسباب الاسترقاق - والتي كانت متفشّية وعن طُرق معادية - والنهب والأسر والإغارة الغاشمة، كان الإسلام يَرفضها رفضاً باتّاً؛ وبذلك انسدّ - شرعيّاً - باب الاسترقاق نهائياً منذ ذلك الحين.

ويَكفيك نموذجاً عن شناعة نظام الاسترقاق في العصر الجاهلي، حادث استرقاق زيد بن حارثة الذي تبنّاه الرسول الأعظم (صلّى اللّه عليه وآله):

كانت أمّه سُعدى بنت ثعلبة من بني معن مِن طيء، أرادت أنْ تزور قومَها فاصطحبت ابنها زيداً وهو لم يَبلغ الثمانية من عمره، فما أنْ وردت القوم إلاّ وأغارت عليهم خيلُ بني القين، فنهبوا وسلبوا وأسروا، ومِن جملة الأُسارى زيد، فقَدِموا به سوق

____________________

(1) أورده الصدوق في الأمالي، المجلس السادس والستون، ص 384، وفي كتابه (مَن لا يحضره الفقيه)، ج 4، ص 7.

١٨٢

عكاظ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمّته خديجة بنت خويلد، فوهبته خديجة للنبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) بمكّة قبل البعثة، وكان زيد قد بلغ الثمانية.

وكان أبوه قد وَجَدَ لفَقدِه وَجدَاً شديداً، قال فيه:

بكيتُ على زيدٍ ولم أدرِ ما فعل

أحيٌّ يُرجّى أم أتى دونه الأجلُ

فو الله ما أدري وإن كنتُ سائلاً

أَغالَكَ سهلُ الأرضِ أَم غالَك الجبلُ

فيا ليتَ شِعري هل لك الدهر رجعة

فَحسبي مِن الدنيا رُجوعُك لي عللُ

تُذكرنِيه الشمسُ عند طلوعِها

ويَعرض ذِكراه إذا قاربَ الطفلُ

وإنْ هبّتْ الأرواحُ هيّجنّ ذِكره

فياطول ما حزّني عليه ويا وجلُ

سأعملُ نصّ العيش في الأرض جاهدا

ولا أسأم التَطواف أو تسأم الإبلُ

حياتي أو تأتي عليّ منيّتي

وكلّ امرئ فانٍ وإنْ غرّه الأملُ

... إلى آخر أبيات له تُنبؤك عن شديد حُزنه الذي لم يَزل يُكابده...

ثمّ إنّ أُناساً مِن كلب (قوم زيد) حجّوا فرأَوا زيداً فعرفهم وعرفوه وقال لهم: أبلغوا عنّي أهلي هذه الأبيات، فإنّي أعلم أنّهم جَزَعوا عليّ فقال:

أَحنّ إلى قومي وإنْ كنتُ نائياً

فإنّي قعيدُ البيت عندَ المشاعرِ

فكفّوا مِن الوَجد الذي قد شَجاكُمُ

ولا تعملوا في الأرض نصّ الأباعرِ

فإنّي بحمدِ الله في خير أُسرةٍ

كرامٍ معدٍّ كابراً بعد كابرِ

١٨٣

فانطلق الكلبيّون فأَعلَموا أباه ووصفوا له موضَعه وعند مَن هو، فخرج حارثة وأخوه كعب لفدائه فَقَدِما مكّة فدخلا على النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) فقالا: يا ابن عبد المطّلب، يا ابن هاشم، يا ابن سيّد قومه، جئناك في ابننا عندك فامنُن علينا وأَحسِن إلينا في فدائه! فقال: (مَن هو)؟ قالا: زيد بن حارثة، فدعاه وخيّره فاختار البقاء في كَنَف رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله) ورضيا بذلك.

وكان (صلّى اللّه عليه وآله) قد عَزم على تبنّيه، فتبنّاه على ملأ مِن قريش، فأصبح مولاه عن رضا نفسه (1) .

فيا تُرى هل مِن المعقول أنّ شريعةً - كشريعة الإسلام الداعية إلى تحرّر الإنسانيّة - تُقرّر مِن رقّيّةٍ مِثل زيد، بهذا الشكل الفضيع المشجي الذي تَمجّه النفوس الأبيّة فضلاً عن العقول الحكيمة؟!

كلاّ، لا يُقرّره أبداً، ما عرفنا من الإسلام دين الفطرة، دين الإنسانيّة المـُتحرّرة، الذي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المـُنكر، ويُحلّ لهم الطيّبات ويُحرّم لهم الخبائث ويَضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم (2) .

قالوا:

وهنا يَخطر السؤال الحائر على الأفكار والضمائر: إذا كان الإسلام قد خطا هذه الخُطوات كلّها نحو تحرير الرقيق، وَسَبق بها العالم كلّها مُتطوِّعاً غير مُضطرّ ولا مضغوط عليه، فلماذا لم يَخطُ الخُطوة الحاسمة الباقية؟ فيُعلن في صراحة كاملة إلغاء الرّقّ مِن حيث المبدأ، وبذلك يكون قد أسدى للبشريّة خدمةً لا تُقدّر، ويكون هو النظام الأكمل الذي لا شُبهةَ فيه، والجدير حقّاً بأن يصدر عن الله الذي كرّم بني آدم، وفضّلهم على كثير ممّن خلق؟! (3) .

قلت: ليس يخفى على ذوي اللّبّ أنّ الإسلام قد جفّف منابع الرّقّ كلّها - كما

____________________

(1) راجع: تمام القصّة في أسد الغابة لابن الأثير في ترجمة زيد، ج 2، ص 224 - 225.

(2) من الآية (157) من سورة الأعراف.

(3) سؤال طرحه سيد قطب و أجاب عليها بما جاء مُلخَّصاً هنا، (شبهات حول الإسلام، ص 39).

١٨٤

ذَكَرنا - فيما عدا مَنبعاً واحداً لم يكن مِن المصلحة تجفيفُه آنذاك، وذلك هو رقّ الحرب؛ لملابسات سوف نَذكُرُها، وعليه فقد أعلن - لكن في غير صراحة - إلغاء نظام الرّقّ مِن حيث المبدأ، وإن كان التشديد عليه بحاجة إلى توفّر شرائط لم تكن مؤاتية حينذاك، كما أشرنا إليه وسنشير.

وينبغي أنْ نُدرك حقائق اجتماعيّة وسيكولوجيّة وسياسيّة أحاطت بموضوع الرّقّ، وأخّرت هذا الإعلان (الصريح) المـُرتَقب، وإن كان يَنبغي أنْ نُدرك أنّه تأخّر في الواقع كثيراً جدّاً عمّا أراد له الإسلام، وعمّا كان يُمكن أنْ يَحدث لو سار الإسلام في طريقه الحقّ، ولم تُفسده الشهوات والانحرافات.

يجب أنْ نذكر أَوّلاً أنّ الإسلام جاء والرّقّ نظام مُعترَف به في جميع أنحاء العالم كما أسلفنا، وكان إبطاله في حاجة إلى زمن، ويكفي الإسلام على أيّ حال أنْ يكون هو الذي بدأ حركة التحرير في العالم، وأنّه في الواقع جفّف منابع الرّقّ القديمة، لولا مَنبع جديد ظلّ يَفيض بالرّقّ من كلّ مكان، ولم يكن بوِسع الإسلام يومئذٍ القضاء عليه؛ لأنّه لا يَتعلّق به وحده، وإنّما يَتعلّق بأعدائه الذين ليس له عليهم سلطان، ذلك هو رقّ الحرب.

فقد كان العرف السائد يومئذٍ هو استرقاق أسرى الحرب أو قَتلَهم، وكان هذا العرف قديماً جدّاً مُوغلاً في ظُلمات التأريخ يَكاد يرجع إلى الإنسان الأَوّل، ولكنّه ظلّ مُلازماً للإنسانيّة في شتّى أطوارها.

وجاء الإسلام والناس على هذا الحال، ووقعت بينه وبين أعدائه الحروب، فكان الأسرى المسلمون يُستَرَقَّون عند أعداء الإسلام، فتُسلب حرّياتهم، ويُعامل الرجال منهم بالعَسْفِ والظلم الذي كان يومئذٍ يجري على الرقيق، وتُنتَهك أعراض النساء... عندئذٍ لم يكن في وِسع الإسلام أنْ يُطلق سَراح مَن يقع في يده مِن أسرى الأعداء، فليس مِن حُسن السياسة أنْ تُشجّع عدوّك عليك بإطلاق أَسراه، بينما أهلك وعشيرتك وأتباع دينك يُسامُون الخَسف والعذاب عند هؤلاء الأعداء، والمعاملة بالمِثل هنا هي أعدل قانون تستطيع استخدامه، أو هي القانون الوحيد.

وممّا هو جدير بالإشارة هنا أنّ الآية الوحيدة الّتي تعرّضت لأَسرى الحرب، ( فَإِمَّا

١٨٥

مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ) (1) ، لم تَذكر الاسترقاق للأسرى، حتّى لا يكون هذا تشريعاً دائماً للبشريّة، وإنّما ذَكرت الفِداء أو إطلاق السَّراح بلا مقابل؛ لأنّ هذا وذاك هما القانونان الدائمان، اللّذان يريد القرآن للبشريّة أن تَقصُر عليها معاملتها للأسرى في المستقبل القريب أو البعيد؛ وإنّما أخذ المسلمون بمبدأ الاسترقاق، خضوعاً لضَرورة قاهرة لا فكاك منها، وليس خضوعاً لنصٍّ في التشريع الإسلامي.

إذن فلم يَلجأ الإسلام إلى هذا الطريق، ولم يَسترقّ الأسرى لمـُجرّد اعتبارِهِ أنّهم ناقصون في آدميّتهم؛ وإنّما لجأ إلى المعاملة بالمِثل فَحَسب، فعلّق استرقاقه للأسرى على اتّفاق الدول المـُتحاربة على مبدأ آخر غير الاسترقاق، ليَضمن فقط ألاّ يقع الأسرى المسلمون في ذلّ الرّقّ بغير مقابل.

ومع هذا فلم يَكن تقليد الإسلام الدائم هو استرقاق الأسرى، فحيثما أَمِن لم يسترقّهم، وقد أطلق الرسول بعضَ الأسرى بِلا فِداء، كما وأخذ مِن نصارى نجران جزيةً وردّ إليهم أسراهم ولم يَعهد أنّه (صلّى اللّه عليه وآله) استرقّ الأسرى - كما كان عليه عُرف ذلك اليوم - وليَضرب بذلك المـَثل لما يُريد أن تهتدي إليه البشريّة في مستقبلها، حين تتخلّص مِن وراثاتها الكريهة، وتستطيع أنْ تستعيد إلى حظيرتها أصالتها الكريمة.

خرافات جاهليّة بائدة

قالوا: هناك خُرافات جاهليّة بائدة جاءت في القرآن جرياً مع ثقافة العصر الذي عاشه، ومتأثِّراً بها ممّا يتنافى وكونه كلام عليمٍ خبير، من ذلك الكلام عن الجنّ والسحر وإصابة العين ومسّ الجنّ!

غير أنّ هذه النسبة الظالمة نشأت عن مزائغ الفهم لمعاني القرآن ومزالق الوهم عند مواجهة تعابيره القويمة.

أمّا الجنّ فحقيقة ثابتة لا تُنكر، وقد بَدت طلائعُها مُنذ عهدٍ غير بعيد، وليس كلّ ما

____________________

(1) محمّد 47: 4.

١٨٦

لا يُدرَك بالحواسّ الظاهرة مَحكوماً عليه بالرفض وعدم الوجود، بعد أنْ لم تكن الحواسّ الظاهرة هي لوحدها المقياس للردّ والقبول - كما نبّهنا - ولم يكن العِلم يوماً ما مُعترِفاً بهذه الكلّية المنهارة الأساس، فهناك الكثير مِن أمورٍ لا تقع تحت معيار الحسّ ولكنّها ثابتة بدليل الوجدان الذاتي وببرهان العقل الحكيم.

وأمّا السحر فلم يَعترف به القرآن في شيء بل رفض إمكان تحقّقه بمعنى تأثيره في قلب الحقائق، وإنّما هي شعوذة وَحيل ووساوس خبيثة لا أكثر.

وأمّا إصابة العين فلم يتعرّض لها القرآن في شيء من تعابيره، سواء أكانت لها حقيقة أم لم تكن، وكذا مَسّ الجنّ وما أشبه ممّا نَعرضه بتفصيل:

الجنّ في تعابير القرآن (1)

مِن الغريب أنْ نَرى بعض الكُتّاب الإسلاميّين يلهجون بما لاكَه المستشرقون الأجانب مِن فرض التعابير الواردة في القرآن بشأن الجنّ، تعابير مُستعارة من العرب تَوافقاً معهم جدلاً كعامل تنفيذ في أوساطهم على سبيل المـُماشاة، لا على سبيل الحقيقة المـُعترف بها؛ إذ يَبعد اعتراف القرآن بما لا يعترف العلم التجربي بوجوده أو سوف ينتهي إلى إنكاره رأساً، لكن ذلك لا يُوهن شأن القرآن بعد أن كان تعبيره بذلك ظاهريّاً ومُجاراةً مع القوم، وهكذا تعبيره عن السحر وإصابة العين تعبير ظاهري وليس على حقيقته.

قالوا: وهذا نظير تأثّره ظاهراً بالنظام الفلكي البطلميوسي والطبّ الجالينوسي القديمَينِ، وقد رفضهما العلم الحديث.

قلت: أمّا اعتراف القرآن بوجود الجنّ إلى جنب الإنس واشتراكهما في الخَلق والتكليف وفي نهاية المطاف، فممّا لا يعتريه شكّ، ولا يسوغ لمسلم يَرى من القرآن وحياً من السماء أن يرتاب في ذلك، فإنّ هناك وراء عالم الشهود كائناتٍ مَلكوتيّة أعلى تُسمّى بالملائكة، وأخرى أدنى تُسمّى بالجنّ، الأمر الّذي صرّح به القرآن الكريم بما لا يدع

____________________

(1) جاء التعبير بالجنّ في 22 موضعاً، والجانّ (جمع الجنّ) في 7 مواضع. والجنّة في 5 مواضع.

١٨٧

مجالاً للريب فيه أو احتمال التأويل، ( وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ ) (1) ، ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ ) (2) ، ويبدو أنّ خَلق الجنّ كان قبل الإنس؛ حيث أُمر إبليس وكان من الجنّ (3) أن يَسجد مع الملائكة لآدم، بعد أنْ خَلَقه من طين فأبى واستكبر وكان من الكافرين (4) .

وأمّا العلم التجربي فلا مُتّسع له في هذا المجال، بعد أن كان سلطانه مُهيمِناً على عالم الحسّ، ومَحدوداً بآفاقه من غير أنْ يُمكنه لَمَس ما وراء سِتار الغيب، فكيف يجوز له بالنسبة إلى أمرٍ خارجٍ عن سلطانه أن يَحكم عليه بنفي أو إثبات أو يجعله موضع رفض أو قبول؟!

نعم، هناك لأصحاب المذاهب العقليّة من علماء المسلمين وغيرهم مِن المعتنقين بوحي السماء كلام عن مَدى مَقدرة هذا الكائن الغيبي، وهل له سلطان على التدخّل في شؤون الإنس أو يَمسّه بسوء؟ الأمر الذي أنكروه أشدّ الإنكار، على خلاف أصحاب التزمّت في الرأي ممّن ركضوا وراء أهل البَداوة في التفكير، واتّبعوا خرافاتهم الأساطيريّة البائدة.

فالاعتراف بوجود الجنّ شيء، ورفض مقدرتهم على التدخّل في شؤون الإنس شيء آخر، والرفض في هذا الأخير لا يَستدعي رفضاً في أصل الوجود.

ذهب أصحاب القول بالعَدل (5) ، إلى أنّه لا يجوز في حِكمته تعالى أن يَتسلّط كائن غيبي على كائن عيني فيتلاعب بنفسه وبمُقدّراته وهو لا يستطيع الذبّ عن نفسه؛ حيث لا يراه، وكلّ ما قيل في مَسّ جُنون وما شابه فهو حديث خُرافة ومِن مَزاعم باطلة تُفنّده الحِكمة الرشيدة، نعم سِوى بعض الوساوس (إيحاءات مُغرية) يُلقيها شياطين الجنّ على شاكلتها من الإنس ( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ) (6) ، ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ

____________________

(1) الرحمان 55: 15.

(2) الذاريات 51: 56.

(3) الكهف 18: 50.

(4) البقرة 2: 34.

(5) راجع في ذلك: التفسير الكبير، ج 7، ص 88.

(6) الأنعام 6: 112.

١٨٨

إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ ) (1) ، ويقول الشيطان لمـّا قُضي الأمر: ( وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم ) (2) .

وزعم الإمام الرازي أنّ ظاهر المـَنقول عن أكثر الفلاسفة إنكار وجود الجنّ؛ استناداً إلى كلام الشيخ الرئيس ابن سينا في رسالته في حدود الأشياء، حيث يقول: الجنّ حيوان هوائي مُتشكّل بأشكال مختلفة، ويُعقبّه بقوله: وهذا شرح للاسم، قال الرازي: وهذا يدلّ على أنّ هذا الحدّ شرح للمراد من هذا اللفظ، وليس لهذه الحقيقة وجود في الخارج (3) .

وقد أخذت دائرة المعارف الإسلاميّة المـُترجمة إلى العربيّة هذا الاستظهار مِن الرازي مُستَنَدَاً لتَنسب إلى الشيخ الرئيس إنكاره الباتّ لحقيقة الجنّ، جاء فيها: ولكنّ ابن سينا عند تعريفه لكلمة (جنّ) أكّد في غير مؤاربة أنّه ليست هناك حقيقة واقعة وراء هذه الكلمة (4) .

غير أنّ ذاك الاستظهار من الرازي خطأ، وكانت عبارة الشيخ الرئيس تعني: أنّ هذا التعريف للجنّ ليس حدّاً تامّاً - حسب مُصطلحهم - وإنّما هو رسم ناقص لا يَعدو شرح الاسم، كما في قولهم: سعدانة نبت، إذ ليس فيه ذِكرٌ لذاتيّات المـُعرَّف (الجنس القريب والفصل القريب)، ومِن ثَمّ فهو تعريف ببعض اللوازم والآثار وليس بالجنس والفصل القريبَينِ.

إذن، فنسبة إنكار حقيقة الجنّ إلى مثل الشيخ الرئيس - كبير الفلاسفة الإسلاميّين ومِن ذوي العقول الراجحة المـُعتَقِدة بالإسلام والقرآن - جفاءٌ يشبه الافتراء، ومِن الغريب أنّ الإمام الرازي يُعقّب ذلك، بقوله: وأمّا جمهور أرباب المِلَل والمـُصدّقين للأنبياء فقد اعترفوا بوجود الجنّ: يا تُرى أليس شيخ الفلاسفة الإسلاميّين من المـُصدّقين للأنبياء ولا سيما نبيّ الإسلام والقرآن العظيم؟!

وبعد، فإذ لم يَعد البحث عن حقيقة الجنّ إلى مسألة فلسفيّة بحتة ولا إلى فَرَضية

____________________

(1) الأنعام 6: 121.

(2) إبراهيم 14: 22.

(3) التفسير الكبير، ج 30، ص 148.

(4) دائرة المعارف الإسلاميّة، ج 7، ص 113.

١٨٩

علميّة مَحضة، وإنّما هو إخبار غيبي لا مصدر له سِوى وحي السماء، وقد أكّدت عليه جميع الكُتُب السماويّة واعتقدته أصحاب المِلَل ممّن صدّق برسالات الله في الأرض، من غير خلافٍ بينهم في أصل وجوده، إذن فلا مجال للتراجع تجاه إيهام أنْ سوف يَرفضه العِلم، مع فرض أنْ لا مُتّسع للعلم في هكذا مجالات هي وراء سِتار الغيوب!

وللشيخ مُحمّد عَبدَه كلام تفصيلي حول الملائكة والجنّ والشياطين، له وجه وجيه لمن تَدبّره بإمعان، وعبثاً حاول بعضهم الإنكار عليه وربّما رَميه بالخروج عن مظاهر الدِّين، وما هذه الهجمة إلاّ جفاء بشأن عالِم مُجاهد في سبيل الإسلام خبير (1) .

كلام عن مَسّ الجنّ

وأمّا الكلام عن مَسّ الجنّ وأنّ الجنون داءٌ عارض مِن مسّه فيُعالج باللجوء إلى الرُقى والتعويذات ودَمدَمة الكَهَنة وأصحاب التسخيرات وما إلى ذلك من خُرافات بائدة، فالذي يُمكننا القول فيه: أن ليس في القرآن شيء من ذلك، حتّى ولا إشارة إليه، إذ لا شكّ أنّ الجنون داءٌ عصبيّ وله أنحاء، بعضها صالح للعلاج بأسباب عادية ذَكَرها الأطبّاء في كتبهم قديماً وحديثاً، وهناك مراكز لمـُعالجة هذه الأمراض أو التخفيف مِن وطئتها بالأساليب العلاجيّة الطبيعيّة المتعارفة وليست بالأساليب الغريبة.

وليس في القرآن ما يبدو منه أنّ صاحب هذا الداء إنّما يُصاب على أثر مَسّ الجنّ له، نعم سِوى استعماله لهذه اللفظة (المجنون) في أحد عشر موضعاً (2) ، وكذا التعبير بمَن به جِنّة في خمسة مواضع (3) .

وهذا مِن باب المـُجاراة في الاستعمال (4) - كما نبّهنا - حيث كان التفاهم بلسان

____________________

(1) راجع ما كتبه بهذا الشأن في تفسير المنار، ج 1، ص 267 - 273، وج 3، ص 96، وراجع أيضاً: الميزان، للسيد الطباطبائي، ج 2، ص 433 - 439.

(2) الحجر 15: 6، الشعراء 26: 27، الصافّات 37: 36، الدخان 44: 14، الذاريات 51: 39 و 52، الطور 52: 29، القمر 54: 9؛ القلم 68: 2 و 51، التكوير 81: 22.

(3) الأعراف 7: 184، المؤمنون 23: 25 و 70، سبأ 34: 8 و 46.

(4) أي مَن تُسمّونه بهذا الاسم، أو تَسِمونه بهذه السِّمة في استعمالكم المتعارف عندكم.

١٩٠

القوم، وليس عن اعترافٍ بمنشأ هذه التسمية اللغويّة، ولا يزال الأطبّاء المـُعالجون - قديماً وحديثاً - يُعبّرون عن المـُصاب بهذا الداء بالمـَجنون وعن نفس الداء بالجنون، مُجاراةً مع لُغة العامّة، ولا يعني ذلك اعتقادهم بمسّ الجنّ إيّاه حتميّاً، وتلك دُور المجانين مُعدّة لمعالجة المـُصابين بهذا الداء أو للحراسة عنهم مرسومٌ عليها نفس العنوان؛ وليس إلاّ لأجل التفاهم مع العرف الدارج لا غير.

وأمّا قوله تعالى: ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ) (1) فالمـُراد من المـَساس هنا هو مَسّ وساوسه الخبيثة المـُغرية، والتي هي عبارة عن استحواذه على عقلية أهل المطامع؛ ليَتيه بهم الدرب ويجعلهم في السعي وراء مطامعهم يَتخبّطون خبط عشواء وفي غياهب غيّهم يعمهون، وهذا إنّما يعني استيلاء الشيطان على شراشر وجودهم فعموا وصمّوا ( كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ ) (2) ، ( اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) (3) .

قال تعالى - حكايةً عن نبيّ اللّه أيّوب (عليه السلام) -: ( إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ) (4) ، أي مسّني ضرّ وساوسه ودسائسه الخبيثة في سبيل إيقاع أولياء اللّه في النصب ومكابدة الآلام، كما في قوله: ( إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) (5) ، فمَسُّ الشيطان هو مَسّ ضرّه على أثر دسائسه الخبيثة، لا الإضرار مباشرةً (6) .

التشبيه في رؤوس الشياطين

قال تعالى: ( أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ) (7) .

وهذا أيضاً أَخذوه على القرآن، حيث التعبير برؤوس الشياطين جاء على

____________________

(1) البقرة 2: 275.

(2) الأنعام 6: 71.

(3) المجادلة 58: 19.

(4) ص 38: 41.

(5) الأنبياء 21: 83.

(6) راجع: التفسير الكبير، ج 7، ص 89، والميزان، ج2، ص436.

(7) الصافّات 37 62 - 66.

١٩١

ما تَوهّمته العرب أنّ للشياطين رؤوساً على غِرار ما تَوهّموه في الغُول، جاء في شعر امرئ القيس: (وَمَسنونَةٌ زُرقٌ كأَنيابِ أَغوالِ).

غير أنّ الشيطان في اللغة مِن أوصاف المـُبالغة مأخوذ مِن شاط يَشيط إذا اشتدّ غيظاً وغَضباً، يُقال: تَشيّط إذا احترق غيظاً واشتاط اشتياطاً عليه إذا التهب غضباً، وكذا قولهم: استشاط عليه أي احتدّ عليه غضباً، واستشاط الحَمامُ: نَشط، واستشاط مِن الأمر: خفّ له، واستشاط فلان أي استقتل وعرّض نفسه للقتل، وأصله مِن شاط الشيء إذا احترق.

قال ابن فارس: الشَّيط مِن شاطَ الشيء إذا احترق، ومنه استشاطَ الرجلُ إذا احتدّ غضباً، قال ومِن هذا الباب الشيطان (1) ، ويُطلق على كلّ مُتمرّدٍ عاتٍ مِن الجنّ والإنس والدّوابّ، فهو فَعلان، لتكون الألف والنون زائدتَين، كما في عطشان وغضبان و رحمان، أمّا القول، بأنّه مِن شَطَن ليكون على وِزان فيعال فهو غريب؛ إذ لم يُعهد مِثلُ هذا الوزن في صيّغ المبالغة، وإنْ قال به الخليل.

وهكذا الراغب رجّح كون النون أصليّة بدليل جمعه على شياطين! (2)

وعلى أيّ حالٍ فهو وصفٌ يُطلق على كلّ متمرّدٍ عاتٍ بالَغَ في شَطَطِه كالمـُستشيط غَضَباً أو المـُلتهب غيظاً، قال جرير:

أيّام يَدعونَني الشيطانَ من غَزَلي

وهُنَّ يَهْوَيْنَني إذ كنتُ شيطاناً

وقال آخر: لو أنّ شيطان الذِّئاب العُسَّل... قال الراغب: جمع العاسِل وهو الذي يَضطرب في عدوه، واختصّ به عَسَلان الذئب، قال: وسُمّي كل خُلُق ذميم للإنسان شيطاناً، فقال (عليه السلام): (الحَسَد شيطان والغَضَب شيطان)، فليس الشيطان اسماً لإبليس ولا خاصّاً بجنوده الأبالسة، وإنّما أُطلق عليه كإطلاقه على سائر ذوي الشرور، قال تعالى: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ ) (3) .

____________________

(1) معجم مقاييس اللغة، ج3، ص234 - 235 و185.

(2) المفردات، ص261، ولسان العرب، ج13، ص 238.

(3) الأنعام 6: 112.

١٩٢

والشيطان - أيضاً - اسم لِحَيّة لها عُرْف، وهي لحَمة مُستطيلة فوق رأسها شبه عُرْف الديك قال الزجّاج: تُسمّي العرب بعض الحيّات شيطاناً، قيل: هو حيّة لها عُرف قبيح المنظر (1) ، وأنشد الرجل (هو الراجز) (2) ، يَذمّ امرأةً له كانت سَليطَة:

عَنْجَرِدٌ تَحلف حين أَحلف

كمثل شيطانِ الحَماط أعرَفُ (3)

وقال آخر يصف ناقته في المسير:

تُلاعبُ مَثنى حَضْرميّ كأنَّه

تَعَمُّجُ شيطانٍ بذي خِرْوَعٍ قَفر (4)

والشيطان في هذينِ البيتَين هي الحَيّة المـَهيبة يُتَنَفَّر منها، لها عُرف كتاج الديك قبيح المـَنظر، فقد شَبَّه الشاعر في البيت الأَوّل امرأته العجوز السَليطَة بشيطان الحَماط القبيح المهيب، وهي الحيّة ذات عُرف يَكثُر وجودها تحت شجر الحَماط في الصحراء القاحلة.

وفي البيت الثاني شَبَّه الشاعر زِمام ناقتِه في تَلوّيه بسبب مشية الناقة بتلوّي حيّةٍ قبيحةِ الهيئة تلتوي في بيداء قَفر (5) .

وعليه، فالتشبيه في الآية الكريمة وَقَع على الواقع المشهود، هي رؤوس الحيّات القبيحة المنظر الهائلة على حدّ تعبير الزمخشري في الكشّاف، ووافقه اللغة والعُرف العامّ حسبما عرفتَ، وليس مجرّد تخييل أو تقليد تَوهّمته العرب كما زَعَمه الزاعِمون!

وهكذا جاء في (تأويل مشكل القرآن) لابن قتبية قال: والعرب تقول إذا رأت مَنظراً قبيحاً: كأنّه شيطان الحَماط، يريدون حيّة تأوي في الحَماط، كما تقول: أيمُ الضالّ،

____________________

(1) قال الزمخشري: قيل: الشيطان، حيّة عرفاء لها صورة قبيحة المنظر هائلة جدّاً الكشّاف، ج4، ص46.

(2) راجع: تفسير أبي الفتوح الرازي، ج9، ص313.

(3) العَنجَرد: المرأة السليطة الطويلة اللسان الصَخَّابة، وجاء البيت في تأويل مشكل القرآن، ص389: (عُجيَّز) بدل (عَنجَرد)، والحَماط - جمعُ حَماطة - شجر تَنبُت في البراري شبيهة التينة، تكثر حولها الحيّات، والأعرف: ذو العُرف، هي اللحمة شبه التاج تكون في أعلى رأس بعض الحيّات مثل تاج الديك، وهي من أشدّ الحيّات تنفّراً.

(4) المـَثنى: زِمام الناقة، والحضرمي منسوب إلى حضرموت، والخِرْوَع: شوك لا يُرعى لغلظته يَنبُت في الفلوات القفر، راجع: لسان العرب، ج13، ص238 - 239، وراجع أيضاً: معاني القرآن للفرّاء، ج2، ص387.

(5) تفسير أبي الفتوح الرازي، ج9، ص313.

١٩٣

وذِئب الغَضى، وأَرنبُ خُلّة، وتيسُ حُلَّب، وقنفذُ بُرقَة (1) .

قال الشيخ أبو الفتوح الرازي: وهذا كتشبيهه تعالى عصا موسى (عليه السلام) التي انقلبت حيّة تسعى بالجانّ، وهو أيضاً اسم للحيّة السريعة التَلوّي في حركتها (2) .

قال ابن منظور: والجانّ، ضَربٌ من الحيّات أكحل العينَين يَضرب إلى الصُفرة لا يُؤذي، وهو كثير في البيوت، قال سيبويه: والجمع جِنّان، وأنشد بيت الخطفي جدّ جرير يصف إبلاً:

أعناقَ جِنّانٍ وهاماً رُجَّفا

وعَنَقاً بعد الرسيم خَيْطَفا

وفي الحديث: أنّه نهى عن قتل الجِنّان، قال: هي الحيّات تكون في البيوت، واحدها جانّ، وهو الدقيق الخفيف.

قال الأزهري في التهذيب في قوله تعالى: ( تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ ) : (3) ، الجانّ حيّة بيضاء، قال أبو عمرو: الجانّ حيّة، وجمعه جوانّ.

قال الزجّاج: المعنى أنّ العصا صارت تتحرّك كما يَتحرّك الجانّ حركةً خفيفةً، قال: وكانت في صورة ثُعبان، وهو العظيم من الحيّات، ونحو ذلك قال أبو العباس المبرّد، قال: شبّهها في عِظَمِها بالثُعبان وفي خفّتها (خفّة حركتها) بالجانّ. ولذلك قال تعالى مرّةً ( فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ) (4) ومرّةً ( كَأَنَّهَا جَانٌّ ) (5) .

قال الشيخ أبو الفتوح الرازي - في وجه التشبيه بالجانّ مرّة وبالثعبان أُخرى -: إنّ التشبيه الأَوّل وَقَع في بدء بعثته (عليه السلام) عند الشجرة، قال تعالى في سورة النمل: ( يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ

____________________

(1) تأويل مشكل القرآن، ص389، والأيّم - بسكون الياء وتشديدها -: الحيّة الأبيض اللطيف، والضالّ: نوع من الشجر يَنبت في السهول والوعور له شوك، ويقال: هو السِّدر من شجر الشوك، وألفه مُنقلبة عن الياء، والغَضى: نوع من الشجر يأوي إليه أخبث الذئاب، والخُلّة: نبات فيه حلاوة، والحُلّب: بقلة جَعدة غبراء في خضرة تنبسط على الأرض، يسيل منها اللبن إذا قُطع منها شيء، يقال: أسرع الظباء تيسٌ حُلَّب؛ لأنّه قد رعى الربيع، والبُرقة: أرض غليظة مُختلطة بحجارة ورمل، ويقال: قنفذ برقة كما يقال: ضبّ كُدية، وهي الأرض الصُلبة الغليظة.

(2) تفسير أبي الفتوح الرازي، ج9، ص313.

(3) النمل 27: 10.

(4) الأعراف 7: 107.

(5) راجع: لسان العرب، ج13، ص97.

١٩٤

إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ) (1) وفي سورة القصص: ( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ ) (2) .

أمّا التشبيه بالثعبان فكان عند لقاء فرعون ومَلَئِه، وقوله لهم: إنّي قد جئتكم ببيّنة، قالوا: فائتِ بها إن كنت مِن الصادقين ( فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ) (3) .

ولعلّ عندما ألقى عصاه لأَوّل مرّة عند الشجرة كان لَفَت نظره وأرهبه أنّ العصا - وهي عودة - تتحرّك وتهتزّ كما تسعى الحيّة، فولّى مُدبراً ولم يُعقّب.

أمّا الذي أتى به مُعجِزاً وبيّنة من ربّه فهو قَلْبُ العصا ثعباناً وهي حيّة عظيمة هائلة، فاسترهبوه وحاولوا مقابلته بالمِثل فجمعوا السَحَرة وجاءوا بسحرٍ عظيم، فألقى موسى عصاه ( فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) (4) .

فالتشبيه بالجانّ مرّة وبالثعبان أُخرى كان باعتبارَينِ وفي موقفَين مُختلفَين، قال الشيخ الرازي: لا يَمتنع أنْ تنقلب العصا إلى صورتَين مختلفتَين باختلاف الموردَين (5) .

* * *

وختاماً، فقد جاء في المـُعجم الزوولوجي الحديث تأليف الأُستاذ مُحمّد كاظم الملكي النجفي: أنّ الشيطان أيضاً اسمٌ لنوع من السَّمك الضخم يبلغ وزنه نحو طنَّين يُوجد في المياه المـُحيطة في الشمال الغربي لاستراليا، له وجهٌ كَريه كأنّه صنم من الأصنام القديمة وعلى رأسه قرنان يَزيدان في كَراهة منظره (6) .

أوصاف جاءت على مقاييس عامّة

هناك أوصاف عن نعيم الآخرة أو عن جحيمها جاءت على مقاييس عامّة، لا على مقاييس العرب خاصّة! وقد وَهِم مَن زَعمها أنّها أوصاف تَعرفها العرب لوحدهم أو هي

____________________

(1) النمل 27: 9 و10.

(2) القصص 28: 30 و31.

(3) الأعراف 7: 107، الشعراء 26: 32.

(4) الأعراف 7: 117 و118.

(5) تفسير أبي الفتوح الرازي، ج8، ص378.

(6) المعجم الزوولوجي، ج4، ص71 - 72.

١٩٥

عند رغباتهم المـُلِحّة التي تَستدعيها عِيشتُهم تلك الجافية وفي وسط تلك الصحراء القاحلة، ممّا لا يَستلفت رغبات العائشِين في أوساط خَصِبَة فارهِين، وذلك في مثل وصف الجنان بظلّ الأشجار ومجاري الأنهار والحور والقصور، ومثلها نعوت هي أوصاف جمال عند العرب وليس عند غيرهم.

لكنّه وَهمٌ نشأ مِن سوء التدبّر وعدم الإحاطة بدقائق اللغة التي خاطب بها القرآن العرب وسائر العالمِينَ جميعاً.

ولنأتِ بأمثلة ممّا أوقعهم في هذا الوهم:

الحُور العين

عِيْن جمع عيناء وهي المرأة ذات الأَعيُن الوسيعة والمتناسبة مع تقاسيم وجهها الوسيم، كما يقال للبقر الوحش: عِيْن، لحُسن عينها في سعةٍ متناسبة.

حُور: جمع حوراء. زعموا أنّها المرأة ذات الأَعين السود في حدقتها، وهو وصف جمال عند العرب بالذات ممّا قد يُخالف الجمال في بنات الروم في عيونهنّ الزُرق! ويُعدّ ذلك عيباً عند العرب؛ ومِن ثَمّ جاء وصف المجرمين بأنّهم يُحشرون يوم القيامة زُرقاً (1) .

فجاء كلا الوصفَين - جمالاً وعيباً - على مقاييس العرب محضاً.

غير أنّ الخطأ هنا جاء مِن قِبَل تفسير الحَوَر بالسواد، في حين أنّه البياض اللاّمع لشدّة ابيضاضه، فالحَوَر شدّة بياض العين بما يُوجب شدة بريق سواد حَدَقَتِها.

والحواريّات: النساء البيض، قال الأزهري: لا تُسمّى المرأة حوراء حتّى تكون مع حَوَر عينَيها بيضاء لون الجسد، قال الكميت:

ودامت قُدورُك للساغبِينَ

في المـَحْلِ غَرْغَرةً واحوِرارا

قال ابن منظور: أراد بالغَرْغَرة صوت الغَلَيان، وبالاحوِرار بياض الإهالة والشحم.

والأعراب تُسمّي نساء الأمصار حواريّات لبياضهنّ وتَباعدِهنّ عن قشف

____________________

(1) وذلك في قوله تعالى: ( يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً ) ، طه 20: 102.

١٩٦

الأعراب بنظافتِهنّ، قال شاعرهم:

فقلتُ إنّ الحواريّات مُعطِبَةٌ

إذا تفَتّلنَ مِن تحت الجلابيبِ

وقال أبو جِلّدة:

فقل للحواريّات يَبكِينَ غيرَنا

ولا تَبكِنا إلاّ الكلابُ النوابح

أراد: النساء النقيّات الألوان والجلود لبياضهنّ.

والحُوّارى: الدقيق الأبيض جصّ أبيض تُبيَّض به الجدران، كلّ ما حُوِّر به أي بُيِّض؛ ومِن ثَمّ يقال للقصّار (غسّال الثياب) حواريّ، لتحويره الثياب أي تبييضها وإزالة أوساخها، يقال: حوّر الثوب: غَسَله وبَالغ في غَسله حتّى بَرَق، ومنه سُمّي الحواريّون أي الخُلّص من أصحاب المسيح (عليه السلام).

والأحوري: الأبيض الناعم.

إذن، فالحوراء هي المرأة البيضاء ذات الأَعين اللامعة في شدّة بياضها، فإن كانت حَدَقَة عينها سوداء فهي أيضاً تلمع لحُسن جوارها، وهكذا إذا كانت زرقاء.

فالجمال في هذا الوصف إنّما هو في جانب بياض مُقلَة العين أي شَحمَتُها اللامعة مع بياض لون البدن، الأمر الذي يكون وصف جمال عند الجميع، كما في العيناء.

أمّا زُرقة العين - على ما جاءت في الآية وَصْفاً لحالة المـُجرمِين يوم الحشر - فالمـُراد بها العَمى وذهاب نور العين من شدّة الظمأ؛ إذ الظمأ الشديد يُذهب بنور العين ويَحول العطش بينه وبين السماء كالدخان، فيرى الأشياء زَرقاء؛ لأجل الدخان الحائل، لا لزُرقة في حَدَقة عينه.

وقال الفرّاء: يُقال: نَحشرهم عطاشاً، ويقال: نَحشرهم عُمياً (1) ، قال الأزهري: عطاشاً يظهر أثره في أَعينهم كالزُرقة، قال: وهو مِثل قوله: ( وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً ) (2) أي عطاشاً، كالإبل تَرِد الشريعة عطاشاً، مَشياً على أرجلهم، وعن ابن عبّاس:

____________________

(1) معاني القرآن، ج2، ص191.

(2) مريم 19: 86.

١٩٧

سُمّي العِطَاش وِرداً؛ لأنّهم يَردون الشريعة لطلب الماء (1) .

ملحوظة

قد يَحسب البعض - باعتبار كون الحُور جمعاً للأحور والحوراء معاً، وكذا العِين جمعاً للأعين والعيناء - أن يكون هناك في الجنّة حورٌ عِينٌ، ذكورٌ وإناثٌ!

غير أنّ القرآن وَصَفَهنّ بوصف الإناث مَحضاً، في مثل قوله تعالى: ( وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً ) (2) والكَواعب: الناهِدات الثدي، وقوله: ( فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ) (3) ، والجمع بالألف والتاء يَخصّ الإناث دون الذكور. وكذا ضمير الجمع المؤنّث، والطَمْث: افتضاض بِكارة المرأة؛ لأنّه يُوجب الطَمْث وهو الدم الخارج مِن فَرجها، وقوله: ( فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً ) (4) ، والمرأة العروبة هي العفيفة تُحبّ زوجها لا تهوى سِواه، إلى غيرها مِن آياتٍ جاء فيها وصفُ الحُور بخِيار أوصاف النساء المـُترفِّعات دون المـُبتذلات.

ولعلّك تتساءل: فما حظّ النساء المؤمنات من هذا النعيم في الآخرة؟

وإجابة على هذا السؤال جاء في أحاديث مأثورة: أنّ اللّه سوف يَجعلهنّ حوريّات، ويَكُنّ ألذّ على أزواجهنّ مِن حوريّات الجِنان فعن ابن عبّاس - في تفسير قوله تعالى: ( إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً ) (5) -: أنّ الآية بشأن الإنسيّات يُبدِّلُهُنّ اللّه حُوراً عِيناً في الجِنان (6) .

قال تعالى: ( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ) (7) ، ( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ) (8) ، وهناك كلام عن نعيم الآخرة (ما سنخُها؟) لعلّنا نفصّل القول فيه إن شاء اللّه.

____________________

(1) مجمع البيان، ج7، ص29 وج6، ص531.

(2) النبأ 78: 33.

(3) الرحمان 55: 56.

(4) الواقعة 56: 36 و37.

(5) الواقعة 56: 35 و36.

(6) مجمع البيان، ج9، ص219.

(7) الرعد 13: 23.

(8) الزخرف 43: 70.

١٩٨

الأشجار والأنهار

ليس وصفُ النعيم بظِلال الأشجار ومجاري الأنهار ممّا يَستلفت رغبةَ العائشِين في البوادي الجرداء والصحاري القِفار فحَسب، وإنّما هي رَغَبات عامّة حتّى للمـُنعَّمين بخُصوبة البلاد وخُضرة الهضبات والوِهاد.

الناس في كافّة بقاع الأرض يرتادون لمـُنتزهاتهم أماكن أشجار وتُبلّها أنهار، على ما جاء في وصف القرآن الكريم:

( مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ ) سُرُر مزيّنة فاخرة.

( لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً ) لا يَحسّون لدغ حرارةٍ لافحة، ولا لَذعَ برودةٍ قارصة، مُرتاحِين في مهبّ ولطف نعيم.

( وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا ) أشجار بسطت أغصانها المـُتدانية، مستديرة الأطراف شبه مَظلاّت مُخيِّمة برَوْح أظلّتها.

( وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا ) (1) ، ثِمار متدنّية يَسهل قطوفُها ( وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ) (2) .

وألذّ المـُنتزه وأطيبه ما كان على ضِفاف الأَنهر ومُتفجّرات العيون، على حدّ تعبير القرآن:

( عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً ) (3) ، ( تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) (4) .

نعم، إنّها رغباتٌ عامّة يَبتغيها كلّ مُنعَّم ومُعدَم وفي كلّ بِقاع الأرض، مشارق الأرض ومغاربها، العامرة منها والبائرة. وليست ممّا تهفو إليها نُفوس مَكدودة فَحَسب، وتلك قصور شامخات ومصايف زاهرات تزدحم بأصحاب النِعَم ومُرفّهي الأحوال، أُنشئت على شواطئ البحار وضِفاف الأنهار في كلّ أرجاء المعمورة، وحسبُك شواهد على أنّها رغبات تَهفو إليها نُفوس جميع أبناء البشر في كلّ البلاد، ولدى جميع الأجيال والأُمم، وليس العرب وحدهم.

____________________

(1) الإنسان 76: 13 و14.

(2) الدخان 44: 27.

(3) الإنسان 76: 6.

(4) يونس 10: 9.

١٩٩

ابيضاض الوجوه واسودادها

قال تعالى: ( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (1) .

قالوا: إنّ في هكذا تعابير إزراء بشأن مُلوَّني البَشَرة؛ حيث أصبح ابيضاض الوجه رمزاً للفوز والسعادة، واسوداده رمزاً للحرمان والشقاء! في حين أنّ اللون مهما كان فهو أمرٌ طبيعي لا غَضاضة في لونٍ دون آخر، كما لا مَساس له بمسألة السعادة والشقاء ولا استيجاب مَدح أو قدح، الأمر الذي اُخِذَ على القرآن، حيث استجوابه لمـَزاعم كانت عند العرب في أمثال هذه التعابير!

لكنّ السواد - في هكذا تعابير قرآنية أو في غيرها - لا يُراد به ذات اللون الخاصّ، وإنّما المـُراد هو كُدْرة الظَلام المـُعبَّر عنه بالسواد في الاستعمال الدارج، في مقابلة فِلقَة الضياء المـُعبّر عنه بالبياض، كما في قوله تعالى: ( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) (2) ، أي حتّى يبدو فلق الصباح عن ظُلمة الليل.

ونظيره قول الشاعر - وهو عمرو بن أبي ربيعة المخزومي -:

إذا اسودّ جُنح الليل فلتأتِ

ولتَكن خُطاك خِفافاً إنّ حرّاسَنا أُسداً

فالاسوداد كناية عن اشتداد ظَلام الليل، وليس المـُراد ذات اللّون الخاصّ.

فالتعبير باسوداد الوجه كناية عن كُدْرته كأنها ظُلمة تَعتريه على أثر الانقباض الحاصل فيه والتقطيب، والناشئ مِن فَزَعِ نفسي وسوء وحشته، كما قال تعالى - حكايةً عن حالةٍ نفسيّة رديئة كان يَبدو أثرها كظُلمةٍ تعلو وجه أحدهم إذا بشّر بالأُنثى -: ( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ ) (3) ، فهو يُحاول كَظْمَ غيظِه، ولكن بَشَرة وجهه المـُظلمة هي التي تَفضحه بما تَكنّه نفسُه مِن ألمٍ وسوء حال.

____________________

(1) آل عمران 3: 106 و107.

(2) البقرة 2: 187.

(3) النحل 16: 58، الزخرف 43: 17.

٢٠٠