شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم0%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الأستاذ محمد هادي معرفة
تصنيف: الصفحات: 578
المشاهدات: 286342
تحميل: 13144

توضيحات:

شبهات وردود حول القرآن الكريم
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 286342 / تحميل: 13144
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وقد عرفت أنّ سِحرَهم كانت شَعْوذة والأُخْذة بالعين لا غير، فقد ( سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ ) (1) وكانت ( حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ) (2) ، فقد كان مجرّد تلبيس وتَمويه في الأمر وأَروهم ما كان الواقع خلافه.

وإذا كان هذا (مجرّد التخييل والتمويه) سِحراً عظيماً - والسّحر ما لطُف ودقّ مأخذه - فكيف بغير العظيم الذي هو أخفّ وزناً وأردأ شأناً؟ هذا ما يرسمه لنا القرآن من واقع السحر، وأنّه يخالف تماماً ما كانت العرب تعتقده بشأن السحر وتأثيره في قلب الواقع، فكيف يا ترى مَزعومة مَن زعم أنّ القرآن وافق العرب في عقيدتها أو جاملهم وتماشى معهم في أمرٍ باطل؟!

قال سيّد قطب: وحسبنا أنْ يقرّر القرآن أنّه سحر عظيم، لندرك أيّ سحرٍ كان، وحسبنا أن نعلم أنّهم سحروا أعين الناس وأثاروا الرهبة في قلوبهم (واسترهبوهم) لنتصوّر أيّ سحرٍ كان، ولفظ (استرهب) ذاته لفظ مصوِّر، فهم استجاشوا إحساس الرهبة في الناس وقسروهم عليه قسراً.

ثُمّ حسبنا أنْ نعلم من النصّ القرآني - في سورة طه - أنّ موسى (عليه السلام) قد أوجس في نفسه خيفةً لنتصوّر حقيقة ما كان، ولكن مفاجأة أخرى تُطالع فرعون ومَلأه، وتُطالع السَحَرة الكَهَنة، وتُطالع جماهير الناس في الساحة الكبرى التي شَهِدت ذلك السحر العظيم: ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ ) (3) .

إنّه الباطل ينتفش، ويَسحر العيون، ويَسترهِب القلوب، ويُخيّل إلى الكثير أنّه غالب، وأنّه جارف، وأنّه مُحيق! وما هو إلاّ أنْ يواجه الهادئ الواثقَ، حتّى ينفثئ كالفُقّاعة، ويَنكمش كالقنفذ، وينطفئ كشُعلة الهشيم! وإذا الحقّ راجح الوزن، ثابت القواعد، عميق الجذور، والتعبير القرآني هنا يُلقي هذه الظِلال، وهو يُصوّر الحقّ واقعاً ذا ثقل (فوقع الحقّ)... وثبت، واستقرّ... وذهب ما عداه فلم يَعد له وجود: (وبطل ما كانوا يعملون).

____________________

(1) الأعراف 7: 116.

(2) طه 20: 66.

(3) الأعراف 7: 117 - 119.

٢٢١

وغُلب الباطل والمـُبطلون وذلّوا وصغروا وانكمشوا بعد الزهو الذي كان يُبهر العيون: ( فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ ) (1) .

قال: فالسحر لا يُغيّر من طبيعة الأشياء، ولا يُنشئ حقيقةً جديدةً لها، ولكنّه يُخيّل للحواسّ والمشاعر بما يريده الساحر، وهذا هو [ واقع ] السحر كما صوّره القرآن الكريم في قصّة موسى (عليه السلام) فلم تنقلب حبالُهم وعصيّهم حيّات فعلاً، ولكن خُيّل إلى الناس أنّها تسعى، وهذه هي طبيعة السحر كما ينبغي لنا أن نُسلّم بها، وهو بهذه الطبيعة يُؤثّر في الناس، ويُنشئ لهم مشاعر وِفق إيحائه، مشاعر تُخيفهم وتُؤذيهم وتُوجّههم الوِجهة التي يُريدها الساحر.

قال: وعند هذا الحدّ نقف في فهم طبيعة السحر والنفث في العُقد، وهي شرّ يُستعاذ منه بالله ويُلجأ إلى حماه (2) .

سَحَرة بابل

كان المـُجتمع البابلي - على عهد الكلدانيّين - مُجتمعاً فاسداً شاعت فيه الفحشاء والمـُنكرات وراج الفساد والإفساد في الأرض، وكان من أساليب إفسادهم ارتكاب الحِيَل الماكرة والدسائس الخادعة لإيجاد البغضاء والشحناء بين الناس، وبثّ روح سوء الظنّ بين المؤتلفَينِ، بين المرء وزوجه، بين الوالد وَوَلَده، بين الأخوَين، بين الشريكين في صنعةٍ أو تجارة، وذلك عن طريق الوساوس والدسائس والخُدع والنيرنجات، وكان السبب يعود إلى هيمنة الحسد على الناس حينذاك، بما جعلهم يُبغض بعضهم بعضاً ويعمل بعضهم ضدّ البعض في أساليب وحِيَل خدّاعة كلّ يوم في شكل من أشكالها، ويتعاون بعضهم مع بعض في تخطيط هذه الأساليب وتنويعها ( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ) (3) ، وإلى ذلك تُشير سورة الناس: ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ

____________________

(1) في ظِلال القرآن، المجلّد 3، ص 604، ج 9، ص 38.

(2) المصدر: المجلّد 8، ص 709، ج 30، ص 291.

(3) الأنعام 6: 112.

٢٢٢

الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ ) ، الخَنس: العمل في خَفاء وعن وحشة الافتضاح، ومِن ثَمّ إذا أحسّ بالفضح خَنَس أي انقبض وتخفّى بسرعة، فكان الخنّاس هو الذي يعمل في خُبثٍ ولؤم وعن وحشةٍ خشية الافتضاح، فهو يعمل في خُبثٍِ معه ضَعف وجُبن وَوَهن في مَقدرته الماكرة.

فأنزل الله الملكَين هاروت وماروت ببابل يُنبّهان الناس على إفشاء تلك الأساليب الماكرة ويُعلّمانِهم طُرق التخلّص منها والنقض من أثرها، غير أنّ بعض الخُبثاء كانوا يَتعلّمون ما يضرّهم دون ما ينفعهم، ليُفرّقوا بين المرء وزوجه، سوى أنّ الله غالب على أمره وما تشاءون إلاّ أنْ يشاء الله.

يقول الله عن سوء تصرّف بني إسرائيل: ( وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ) (1) .

لقد تركوا ما أنزل الله ونَبذوه وراء ظهورهم، وراحوا يَتَتبّعون ما كان يقصّه الشياطين - والشيطان وَصفٌ لكلّ خبيث سيّئ السريرة - على عهد سليمان وأساليب تضليلهم للناس من دعاوٍ مكذوبة عن سليمان؛ حيث كانوا يقولون إنّه كان ساحراً وإنّه سخّر ما سخّر بسحره، والقرآن ينفي عنه ذلك (وما كفر سليمان) باستعمال السحر الذي هو في حدّ الكفر بالله العظيم، (ولكنّ الشّياطين (خبثاء الجنّ والإنس) كفروا يعلّمون النّاس السّحر) (طُرق الإضلال وأساليب التضليل).

ثُمّ ينفي أنّ السحر مُنزَل من عند الله على الملكَين: هاروت وماروت، اللذين كان مَقرّهما بابل، ويبدو أنّه كانت هناك قصّة معروفة عنهما وكان اليهود أو الشياطين يَدّعون أنّهما كانا يَعرفان السحر ويُعلّمانه للناس، فنفى القرآن هذه الفِرية، وبيّن الحقيقة، وهي أنّ

____________________

(1) البقرة 2: 102.

٢٢٣

هذين الملكَين كانا هناك فتنةً وابتلاء للناس، كانا يقولان لكلّ مَن يأتيهما طالباً منهما معرفة طريق التخلّص من براثن الشياطين السَحَرة: لا تَكفر باستخدام تلك الأساليب الماكرة، وقد كان بعض الناس يُصرّ على تعلّم السحر لغرض خبيث على الرغم من تحذيره وتبصيره، ( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ) ، وهنا يُبادر القرآن فيُقرّر كلّية التصوّر الإسلامي الأساسيّة، وهي أنّه لا يقع شيء في هذا الوجود إلاّ بإذن الله ورعاية مصلحته وحِكمته، فبإذن الله تَفعل الأسباب فعلها وتُنشأ أثارها وتحقّق نتائجها، وإن كانت عاقبة السوء تعود على الزائغين الذين ينحرفون عن الطريق السوي والصراط المستقيم الذي رسمه لهم ربّ العالمين.

ثُمّ يقرّر القرآن حقيقة ما يتعلّمونه بُغية إيقاع الشرّ بالآخرين، إنّه شرّ عليهم وليس خيراً لهم ( وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ) ، وربّما يكفي أن يكون هذا الشرّ هو الكفر والخسران في الآخرة ( وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ) ، فمَن تعلّم شرّاً وحاول الإضرار به يعلم أنْ لا نصيب له في العاقبة، فهو حين يَختاره ويشتريه يَفقد كلّ رصيدٍ له في الآخرة سِوى العقاب، فما أسوأ ما باعوا به أنفسهم وأضاعوا خيرات كانت لهم في عُقبى الدار، ( وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ) لو كان يفقهون وَيَعون واقع الأمر.

النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (1)

النَفث، قَذفُ القليل من الريق، شبيهٌ بالنفخ، وهو أقلّ من التفل، ونَفَث الراقي أو الساحر أن يَنفث بريقه في عُقدٍ يَعقدها بعد كلّ زَمزَمَة يَتزمزم بها؛ ليسحر بها فيما زعموا، والمـُراد به هنا هي النميمة ينفثها النمّامون في العُقد أي في الروابط الودّية ليُبدّدوا شمل الأُلفة بين المتحابَّين: المرء وزوجه، الوالد وولده، الأخوين، المتشاركين في صنعةٍ أو تجارةٍ أو زراعةٍ وغير ذلك ممّا يرتبط وأواصر الودّ بين شخصين أو أكثر، والعرب تُسمّي

____________________

(1) الفلق 113: 4.

٢٢٤

الارتباط الوثيق بين شيئَين أو شخصَين عُقدة، كما جاء التعبير عن الارتباط بين الزوجين (عُقدة النكاح) قال تعالى: ( وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ) (1) ، ( إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ) (2) .

ومعنى الآية: ومِن شرّ النمّامين الذين يُحاولون بوساوسهم الخبيثة قطع الأواصر بين المتحابّين، وهذا من التشبيه في الجُمَل التركيبيّة، نظير التشبيه في سورة المـَسد بشأن أُمّ جميل امرأة أبي لهب ( وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) (3) ، أي النمّامة؛ حيث النمّام يَحمل على عاتقه حطبَ لهيبِ النفاق والتفرقة بين المتحابّين، وجاء مناسباً مع تكنّي زوجها بأبي لهب، فهي تَحمل حطب هذا اللهب، فكما أنّها لم تكن تَحمل حطباً حقيقةً - كما زعمه بعضهم - لأنّها بنت حرب أخت أبي سفيان وكذا زوجها أبو لهب، كانا من أشراف قريش الأثرياء، غير أنّهما كانا يحملان خُبثا ولؤماً بالِغَين.

فالنميمة تُحوّل ما بين الصديقين من محبّة إلى بغضاء بالدسائس، وهي وسائل خفيّة تشبه السحر الذي هو ما لطُف ودقّ مأخذه، فالنّمام يأتي بكلامٍ يشبه الصدق ويؤثّر في خَلَدِك، كما يفعل الساحر المشعوذ إذا أراد أنْ يَحلّ عُقد المحبّة والوِداد بين كلّ متحابّين، إذ يتزمزم بألفاظٍ ويَعقد عُقدةً وينفثُ فيها، ثُمّ يحلّها إيهاماً للعامّة أنّ هذا حلّ للعُقدة بين الزوجَين أو غيرهما، فهو من التشبيه المحض وليس المقصود ما تفعله السَحَرة بالذات، الأمر الذي يتناسب مع سائر آيات سورة الفلق: ( وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ) ، أي ومِن شرّ الليل إذا دخل وغَمَر كلّ شيءٍ بظلامه، والليل إذا كان على تلك الحال كان مَخوفاً باعثاً على الرهبة والوحشة؛ لأنّه سِتار يختفي في ظلامه ذوو الإجرام إذا قصدوك بالأذى، وعَون لأعدائك إذا قصدوا بكَ الفتك... وهكذا قوله: ( وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ) يعني: شرّ حاسد إذا حاول إنفاذ حسدِه بالسعي والجدّ في إزالة نعمة مَن يحسده، فهو يعمل الحِيَل ويَنصب شباكه؛ لإيقاع المحسود في فخّ الضرر والأذى، يعمل ذلك بأدقّ الوسائل لتنفيذ مكائده.

____________________

(1) البقرة 2: 235.

(2) البقرة 2: 237.

(3) المسد 111: 4.

٢٢٥

فكما أنّ الآيتين (السابقة واللاحقة) استعاذة بالله من مكائد أهل الزيغ والإفساد، كذلك هذه الآية ( النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ) هي مكائد يَرتكبها أهل النمائم لإيقاع الأذى، شُبِّهوا بالسّاحرات يَنفثنَ في العُقد.

فالاستعاذة منهم جميعاً إلى الله المستعان لإحباط مساعيهم وردّ مكائدهم في نحورهم، وهو الملجأ والمعين.

قال سيّد قطب: والنفّاثات في العقد: السواحر الساعيات بالأذى عن طريق خِداع الحواسّ، وخِداع الأعصاب، والإيحاء إلى النفوس والتأثير في المشاعر، وهُنّ يَعقدنَ العُقد في نحو خيطٍ أو منديلٍ ويَنفثن فيها كتقليد من تقاليد السحر والإيحاء، قال: والسحر لا يغيّر من طبيعة الأشياء، ولا يُنشئ حقيقةً جديدةً لها، ولكنّه يُخيّل للحواسّ والمشاعر بما يريده الساحر (1) .

قال شيخ الطائفة أبو جعفر مُحمّد بن الحسن الطوسي (قدس سره): ولا يجوز أن يكون النبيّ (صلّى الله عليه وآله) سُحِر، على ما رواه القصّاص الجُهّال؛ لأنّ مَن يُوصف بأنّه مسحور فقد خَبِل عقله، وقد أنكر الله تعالى ذلك في قوله: ( وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مَّسْحُوراً ) (2) .

وهكذا قال العلاّمة الطبرسي في تفسيره للسورة عند الكلام عن شأن النزول (3) .

وقال الأستاذ مُحمّد عبده: قد رَوَوا هنا أحاديث في أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) سَحَره لبيد بن الأعصم، وأثّر سحره فيه حتّى كان يُخيّل إليه أنّه يفعل الشيء وهو لا يفعله، أو يأتي شيئاً وهو لا يأتيه، وأنّ الله أنبأه بذلك، وأُخرجت موادّ السحر من بئرٍ، وعُوفي ممّا كان نزلَ به من ذلك ونزلت هذه السورة!

ولا يخفى أنّ تأثير السحر في نفسه عليه الصلاة والسلام ماسّ بالعقل آخذ بالروح، فهو ممّا يُصدّق قول المشركين فيه:) إِن تَتَّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مَّسْحُوراً ) .

والذي يجب علينا اعتقاده أنّ القرآن المتواتر جاء بنفي السحر عنه عليه الصلاة

____________________

(1) في ظِلال القرآن، المجلّد 6، ص 709، ج 30، ص 291، وقد نقلنا تمام كلامه آنفاً.

(2) تفسير التبيان، ج 10، ص 434، والآية 8 من سورة الفرقان، وفي سورة الإسراء 17: 47: ( وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً ) .

(3) مجمع البيان، ج 10، ص 568.

٢٢٦

والسلام؛ حيث نَسب القول بإثبات حصوله له إلى المشركين ووبّخهم على ذلك.

والحديث - على فرض صحّته - من أحاديث الآحاد التي لا يُؤخذ بها في العقائد، وعصمة الأنبياء عقيدة لا يؤخذ فيها إلاّ باليقين.

على أنّ سورة الفَلق مكّية نزلت بمكة في السنين الأُولى، وما يزعمونه من السحر إنّما وقع في المدينة في السنين الأخيرة حيث اشتدّ العداء بين اليهود والمسلمين فهذا ممّا يُضعف الاحتجاج بالحديث ويُضعف التسليم بصحّته (1) .

قال سيّد قطب: هذه الروايات تُخالف أصل العصمة النبويّة في الفعل والتبليغ، ولا تستقيم مع الاعتقاد بأنّ كلّ فعل من أفعاله (صلّى الله عليه وآله) أنّه مسحور، وتكذيب المشركين فيما كانوا يدّعونه من هذا الإفك؛ ومِن ثَمّ نستبعد هذه الروايات، وأحاديث الآحاد لا يُؤخذ بها في أمر العقيدة، والمـَرجع هو القرآن، والتواتر شرط للأخذ بالأحاديث في أصول الاعتقاد، وهذه الروايات ليست مِن المتواتر، فضلاً عن أنّ نزول هاتَين السورتَين في مكّة هو الراجح، ممّا يُوهن أساس الروايات الأخرى (2) .

وقد استوفينا الكلام حول مَزعومة سحر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وتفنيد رواياته بصورة مستوعبة، فراجع (3) .

ظواهر روحيّة غريبة

إنّه ما يَزال مُشاهداً في كلّ وقت أنّ بعض الناس يَملكون خصائص لم يكشف العلم عن حقيقتها بعد، لقد سُمّي بعضها بأسماء من غير أنْ يُحدّد كنهها ولا معرفة طُرقها، هذه ظاهرة (التيليباثي) - التَخاطر من بعيد - ما هو؟ وكيف يتمّ؟ كيف يملك إنسانٌ أنْ يتلقّى فكرةً من إنسانٍ آخر على أبعاد وفواصل لا رابط بينهما سِوى هذا الاتّصال الروحي

____________________

(1) ملخّص كلامه على ما جاء في تفسير المراغي، ج 10، ص 268، وراجع: تفسير جزء عمّ لمـُحمّد عبده، ص 181 - 183.

(2) في ظِلال القرآن، المجلّد 8، ص 710، ج 30، ص 292.

(3) في الجزء الأَوّل من التمهيد.

٢٢٧

الغريب؟! وربّما تُتلقّى الفكرة مِن كائنٍ حيٍّ وراء سِتار الغيب، إمّا فكرة طيّبة - وهي نفثة روح القُدس - أو فكرة خبيثة تَنبثُها شياطين الجنّ، وإلى هذا الأخير جاءت الإشارة في قوله تعالى: ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ) (1) ، وهكذا تتبادل الأفكار الذميمة بين شياطين الجنّ والإنس: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ) (2) .

وهذا السُبات المغناطيسي (هبنوتزم) أو التنويم الصناعي يَتمّ بسيطرة إرادة إنسان على إرادة آخر كان قد نوّمه بطريقة غير عادية، قالوا: إنّ في الإنسان سيّالاً مغناطيسياً لا يُعرف كُنهه يَنبعث منه بالإرادة ويؤثّر على الأشياء أو الأشخاص تأثيراً خاصّاً، فقد يُلقّنه بأن يُوقع في وهمه فيقتنع هذا اقتناعاً تامّاً، أو استخراج الروح من الجسد ليأخذ بالتَجول والإطّلاع على غيوب، وربّما استُخدم هذا السيّال المغناطيسي في الطبّ وفي معالجة قسم من الأمراض المستعصية، لكن لم يُحدّد إلى اليوم ما هو؟ وكيف يتمّ؟ وكيف يقع أنْ تسيطر إرادة على إرادة؟ أو ينفعل شيء بتأثير قوّة الإرادة؟

وهكذا تحضير الأرواح - حسبما يُسمّونه اليوم - يقوم على أساس اتصالٍ روحيٍّ بكائنات حيّة وراء سِتار الغيب، أمّا ما هذه الكائنات الحيّة؟ وكيف يتمّ هذا الاتصال؟ وهل هو اتصال بأرواح فارقت أجسادها بالموت أم هي غيرها؟ الأمر الذي بقي مجهولاً لم يُقطع بشيءٍ منه.

حكى لي زميلنا العلاّمة الشيخ مهدي الآصفي أنّ جماعةً مِن مزاولي هذا الفنّ طلبوا إليه أنْ يشهد جلسةً يَتمّ فيها هذا العمل، قال: وبعد أعمال وأطوار قاموا بها طلبوا إليّ رغبتي في إحضار روحٍ من الأرواح، فرغبتُ أنْ يَحضر روح الشيخ الأعظم المحقّق الأنصاري (قدس سره) فلمـّا حضر - وِفق إخبارهم - قالوا: ماذا تبتغي السؤال منه؟ فطلبت إليهم أنْ يسألوه عن مسألةٍ أصوليّة عريقة كان الشيخ هو مُبدِعها وهي مسألة (الحكومة والورود) في دلائل الأحكام، فرغبتُ أنْ يشرحها بنفسه؛ حيث الاختلاف كثير في تفسيرها، وعند

____________________

(1) الأنعام 6: 121.

(2) الأنعام 6: 112.

٢٢٨

ذلك قالوا: إنّ الرّوح قد سخط مِن هذا السؤال وترك الجلسة وذهب مغضباً!

نعم، لا نَنكر إمكان ذلك إجماليّاً، ولكن هل هذا الأمر يتمّ بهذه التوسعة؟ وهل هذه الأرواح هي أرواح الأموات أم غيرها؟ الأمر الذي لا يُمكن البتّ فيه، غير أنّ هذه وأمثالها مظاهر روحيّة غريبة، وهي في جميع أنحائها وأشكالها لا تمسّ قضية السحر حسبما كان يزعمه الأقدمون - من الاستعانة بأرواح الأفلاك والكواكب وتسخيرها - أو حسبما راج عند أوساط السُذّج الأوهام اليوم وربّما بعد اليوم مادام لم تكتمل العقول (1) .

كلامٌ عن إصابة العين

قالوا: وممّا نجد القرآن متأثّراً بالبيئة العربيّة الجاهلة اعترافه بإصابة العين في مواضع:

الأَوّل: قوله تعالى - حكاية عن يعقوب (عليه السلام) -: ( وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) (2) ، قيل: خاف عليهم إصابة العين؛ لأنّهم كانوا ذوي جمالٍ وهيبةٍ وكمالٍ، وهم إخوة أولاد رجلٍ واحد (3) .

الثاني: قوله تعالى: ( وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ) (4) ، قيل: يُزلقونك بمعنى يُصيبونك بأعينهم، قال الطبرسي: والمفسّرون كلّهم على أنّه المراد من الآية (5) .

الثالث: قوله تعالى: ( وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ) (6) ، قيل: أي مِن شرّ عينه (7) ، وعن ابن أبي عمير رفعه قال: أَما رأيته إذا فَتَح عينَيه وهو يَنظر إليك هو ذاك (8) .

والكلام هنا من جهتَين، الأُولى: هل القرآن تعرّض لتأثير العين، سواء كان حقّاً أم

____________________

(1) راجع في ذلك كلّه: الإنسان روح لا جسد، للأستاذ رؤوف عبيد، في ثلاث مجلّدات ضخام، وغيره ممّن كتبوا في هذا الشأن وهي كثيرة جدّاً.

(2) يوسف 12: 67.

(3) مجمع البيان: ج 5، ص 249.

(4) القلم 68: 51 - 52.

(5) مجمع البيان، ج 10، ص 341.

(6) الفلق 113: 5.

(7) مجمع البيان، ج 10، ص 569.

(8) معاني الأخبار للصدوق، ص 216، طبع النجف.

٢٢٩

باطلاً؟ الثانية: هل للعين تأثير سوءٍ ذاتي مع قطع النظر عمّا جاء في القرآن؟

أمّا الجهة الأُولى فليس في ظاهر تعبير القرآن ما يَدلّ على ذلك:

أمّا قولة يعقوب لبنيه: ( لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ... ) فإنّما كانت في عودتهم إلى مصر بعد سفرتهم الأُولى التي رجعوا منها خائبين، فلو كان يخاف عليهم العين لأمرهم بذلك في المرّة الأُولى بل وفي كلّ سفرةٍ وحلّ وارتحال، فيمنعهم أنْ يترافقوا في الأسفار على الإطلاق، ولا خصوصية لهذه المرّة من الدخول على يوسف.

قيل: إنّما قال لهم ذلك - في هذه المرّة - ليَستخبر من حالة العزيز حين يَدخل عليه كلّ أخٍ له، فيَستعلم من تأثير كلّ واحدٍ عند الدخول عليه حالته الخاصّة، وما يظهر على أسارير وجهه وحركات عينيه حين رؤية شقيقه من أُمّه بنيامين (1) ، ولعلّ يعقوب استشعر من ردّ العزيز إخوته ليأتوا بأخٍ آخر لهم من أبيهم، أنّه هو يوسف، فحاول بهذه التجربة معرفة شخصية العزيز ولعلّه يوسف نفسه، الأمر الذي لا يَعلم إذا دخلوا عليه كلّهم جماعةً واحدةً؛ ومِن ثَمّ لمـّا دخل عليه أخوه بنيامين آواه وأفشى نفسه لديه، الأمر الذي يدلّ على دخوله عليه لوحده، فقد تحقّق تدبير يعقوب في تفرّسه.

وهذا يدلّ على فراسة يعقوب القوية، حيث يقول عنه تعالى: ( وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍْ لِّمَا عَلَّمنَاهُ ) (2) أي ذو فراسةٍ قوية.

قال إبراهيم النخعي - وهو تابعيّ كبير -: إنّ يعقوب (عليه السلام) كان يَعلم بفراسته بأنّ العزيز هو ابنه يوسف إلاّ أنّ الله لم يَأذن له في التصريح بذلك، فلمـّا بعث أبناءه إليه أَوصاهم بالتفرقة عند الدخول وكان غرضُه أن يصل بنيامين وحده إلى يوسف في خلوةٍ من سائر إخوته (3) .

وقوله تعالى: ( مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا ) (4) يعني: إنّ هذا التدبير الذي قام به يعقوب لم يكن يُغيّر من المصلحة التي رعاها الله بشأنه،

____________________

(1) راجع: تفسير المراغي، ج 13، ص 16.

(2) يوسف 12: 68.

(3) راجع: التفسير الكبير، ج 18، ص 174، والدرّ المنثور، ج 4، ص 557.

(4) يوسف 12: 68.

٢٣٠

ولكن كانت تلك بُغية أملٍ في نفس يعقوب، قضاها الله رعايةً لجانبه العزيز على الله.

وممّا يُبعّد إرادة إصابة العين - إضافة على ما ذكرنا - أنّ التحرّز من ذلك لا يتوقّف على الدخول من أبوابٍ متفرّقة، بل يكفي الدخول متعاقبين وفي فترات، ثُمّ إنّهم كانوا يدخلون مصر في جمعٍ غفيرٍ من رِفقة القافلة الحاشدة بالأحمال والأثقال، فكيف يَعرف الناس أنّ هؤلاء إخوة مِن أبٍ واحد؟

وكذا قوله تعالى: ( وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ... ) .

الزَلَق: الزلّة، وأَزلقه: أزلّه ونحّاه عن مكانه، والمـَزلق: المكان الذي يَنزلق عليه ولا يمكن الثبات عليه.

والإزلاق بالأبصار، تَحديق النظر إليه نظر ساخط شديد السُخط بحيث يكون مُرعباً يُوجب الوحشة والتراجع عمّا هو فيه خوفاً من إيقاع الأذى به.

و(إنْ) مخفّفة من المثقلة، أي كاد أنْ يزلّوك عن موضعك بشدّة السُخط والإرعاب والإرهاب، البادي ذلك من تحديق نظرهم المـُغضب إليك.

أي إنّهم لشدّة عداوتهم وبغضائهم ينظرون إليك نظراً شَزراً (1) حتّى ليكادون يزلّون قدمك بغضاً فتصدع حين سمعوك تتلو كتاب الله وتنبذ أصنامهم (2) .

وهذا نظير قوله تعالى: ( وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا ) (3) .

يقال: فزّه واستفزّه أي أزعجه.

فهذه النظرات الشَّزرة تكاد تؤثّر في موقف الرسول الصَلب فتجعله يَزلّ ويزلق ويفقد توازنه وثباته على الأمر، وهو تعبير فائق عمّا تَحمِله هذه النظرات العدائيّة من غيظٍ وحنقٍ وشرٍّ ونقمةٍ وضغن وحُمّى وسمّ ( لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ ) ، مصحوبة هذه النظرات المسمومة المحمومة بالسبّ القبيح والشتم البذيء والافتراء الذميم ( وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ) (4) .

ويَدلّنا على عدم إرادة إصابة العين في هذه الآية الكريمة بالذات أنّ إصابة العين

____________________

(1) يقال: شَزَر إليه أي نظر إليه بجانب عينه مع إعراضٍ أو غضب.

(2) راجع: تفسير المراغي، ج29، ص47.

(3) الإسراء 17: 76.

(4) في ظِلال القرآن، المجلّد 8، ص243، ج29، ص67.

٢٣١

إنّما تكون عند الإعجاب بشيء لا عند التنفّر والانزجار، والآية تصرّح بأنّهم كادوا يُزلِقونه لمـّا سمعوا الذِكر، ماقتينَ عليه نافرينَ منه، فجعلوا يَسلقونه بالسِّباب والشتم ويَرمونه بالجنون، فكيف والحال هذه يحسدونه فيُصيبونه بأعينهم؟! الأمر الذي لا يلتئم وسياق الآية الكريمة.

قال الزجّاج: معنى الآية، أنّهم ينظرون إليك عند تلاوة القرآن والدعاء إلى التوحيد نظر عداوةٍ وبغضٍ وإنكارٍ لِما يسمعونه وتعجّبٍ منه، فيَكادون يصرعونك بحدّة نظرهم ويُزيلونك عن موضعك، وهذا مُستعمل في الكلام، يقولون: نظر إليَّ فلان نظراً يَكاد يصرعني ونظراً يكاد يأكلني فيه، وتأويله كلّه أنّه نظر إليَّ نظراً لو أمكنه معه أكلي أو يصرعني لفعل (1) .

وهكذا قال الجبائي: إنّ القوم ما كانوا ينظرون إلى النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) نظر استحسان وإعجاب بل نظر مقتٍ ونقص (2) .

وهكذا قوله: ( وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ) (3) - في سورة الفلق - أي إذا حاول السعي وراء حسده لغرض إيقاع الأذى والضرر بالمحسود، أي استعذ باللّه مِن شرّ الحاسد إذا حاول إنفاذ حسده، بالسعي والجدّ في إزالة نعمة مَن يحسده، فهو يعمل الحِيَل وينصب شباكه؛ لإيقاع المحسود في الضرر والخسران، وربّما بأدقّ الوسائل والذرائع، وليس في الاستطاعة الوقوف على ما يُدبّره مِن مكائد إلاّ أنْ يُستعان عليه بربّ الفلق أي مُسبِّب الفرج والخلاص مِن كيد الكائدين، والإحباط من مساعيهم الخبيثة (4) .

نظرة فاحصة عن إصابة العين

أمّا الجهة الأُخرى - وهو البحث عن إصابة العين ومدى تأثيرها السيئ في النفوس والأموال - فقد شاع الإشفاق منها في أوساط بدائيّة وربّما في أوساط متحضّرة أيضاً،

____________________

(1) مجمع البيان، ج10، ص341.

(2) بحار الأنوار، ج60، ص39.

(3) الفلق 113: 5.

(4) راجع: تفسير المراغي، ج30، ص268 - 269، وتفسير جزء عمّ للشيخ مُحمّد عَبده، جزء عمّ، ص183 - 184.

٢٣٢

وفي ذلك نوع من الاعتراف بحقيقتِهِ إجمالياً، وربّما علّلوه بتعاليل تبدو طبيعيّة ترجع إلى نفس العاين، قالوا: هي تَشعشُعات تَمَوجيّة تنبعث من عين الرائي الذي أعجبه شيء على أثر انفعاله النفسي الخاصّ والأكثر إذا كان عن حسدٍ خبيث، وربّما من غير شعور بهذا الانفعال النفسي المفاجئ في غالب الناس، وهي خاصّية غريبة قد توجد شديدة في البعض وخفيفة في الآخرين.

وهذه التَشعشُعات السامّة تشبه التيّارات الكهربائيّة تؤثّر في المـُتكهرب بها تأثيراً بالفعل، الأمر الذي يكون طبيعياً وليس شيئاً خارقاً، وإن كان لم يُعلم كُنهُها ولا عُرفت حدودها ومشخّصاتها، ولا إمكان مقابلتها مقابلة علميّة فيما سوى الدعاء والصدقة والتوكّل على اللّه تعالى.

قال الشيخ ابن سينا: إنّ لبعض النفوس تأثيراً في الخارج من بدنه بتعلّق روحاني كتعلّقه ببدنه (1) .

وقال أبو عثمان الجاحظ: لا يُنكر أنْ ينفصل من العين الصائبة إلى الشيء المـُستَحسَن أجزاء لطيفة متّصلة به وتؤثّر فيه، فيكون هذا المعنى خاصّية في بعض الأعيُن كالخواصّ للأشياء (2) .

قال - في كتاب الحيوان بصدد التحرّز من أعين ذوي الشره والحِرص ونفوسهم -: كان علماء الفُرس والهند وأطبّاء اليونان ودُهاة العرب وأهل التجربة من نازلة الأمصار وحذّاق المتكلّمين يَكرهون الأكل بين يدي السباع، يَخافون نفوسَها وعيونَها؛ للّذي فيها من الشَرَه والحرص والطلب والكَلَب، لِما يتحلّل عند ذلك من أجوافها من البخار الرديء، وينفصل من عيونها من الأُمور المفسدة، ما إذا خالطت طبائع الإنسان نقضته؛ ولذلك كانوا يكرهون قيام الخدم بالمذابّ (مُطرِدة الذُّباب) والأشربة على رؤوسهم وهم يأكلون، مخافة النفس والعين، وكانوا يأمرون بإشباعهم قبل أنْ يأكلوا، وكانوا يقولون في السنّور

____________________

(1) في النمط الأخير من كتاب الإشارات (هامش مجمع البيان، ج5، ص 249).

(2) مجمع البيان، ج5، ص249، تفسير سورة يوسف، ولعلّه أخذه من الشريف الرضي في كتابه المجازات النبويّة، ص369، بتغيير يسير سوف ننقله.

٢٣٣

والكلب إما أنْ تَطرده قبل أن تأكل، وإمّا أنْ تشغله بشيء يأكله ولو بعَظمٍ يُطرح له.

قال: ورأيت بعض الحكماء وقد سقطت من يده لقُمة، فرفع رأسه فإذا عينُ غلامٍ تُحدّق نحو لقُمته، وهو يزدرد ريقه لتحلّب فمه من الشهوة، وكان ذلك الحكيم جيّد اللقم طيّب الطعام، ويضيّق على غلمائه.

وقالت الحكماء: إنّ نفوس السِّباع وأعينها في هذا الباب أردأ وأخبث لفرط شَرَهِها وشرّها، قال الجاحظ: بين هذا المعنى وبين قولهم في إصابة العين الشيء العجيب المستحسن شِركةً وقرابةً، ذلك أنّهم قالوا: قد رأينا أُناساً يُنسب إليهم ذلك، ورأيناهم وفيهم من إصابة العين مقدار مِن العدد، لا نستطيع أن نجعل ذلك النسق من باب الاتفاق، وليس إلى ردّ الخبر (العين حقّ) سبيل، لتواتره وترادفه؛ ولأنّ العيان قد حقّقه والتجربة قد ضُمّت إليه.

قالوا: ولولا فاصل ينفصل من عين الرائي المـُعجَب إلى الشيء المـُعجَب به - حتّى يكون ذلك الداخل عليه هو الناقض لقُواه - لَما جاز أنْ يَلقى المصاب بالعين مكروهاً مِن قِبَل العاين، مِن غير تماسّ ولا تصادم ولا رابط يربط أحدهما بالآخر.

قال الأصمعي: رأيتُ رجلاً عَيوناً (الشديد الإصابة بالعين) كان يَذكر عن نفسه أنّه إذا أعجبه الشيء وَجَد حرارةً تخرج من عينه (1) .

وأضاف الجاحظ - ردّاً على مَن زعم أن الاعتراف بصحّة إصابة العين ينافي التوحيد -: أنّ الاعتراف بالطبائع اعترافُ بسُنّة الله الجارية في الخَلق والتدبير، وليس أمراً خارجاً عن طَوع إرادته تعالى، قال: ومَن زَعم أنّ التوحيد لا يَصحّ إلاّ بإبطال حقائق الطبائع فقد حَمَلَ عجزَه على الكلام في التوحيد، وإنّما يأنس منك المـُلحِد إذا لم يدعك التوفّر على التوحيد إلى بخس حقوق الطبائع؛ لأنّ في رفع أعمالها رفع أعيانها، وإذا كانت الأعيان هي الدالّة على اللّه فرفعت الدليل فقد أبطلت المدلول عليه (2) .

____________________

(1) الحيوان للجاحظ، ج2، ص264 - 269، تحقيق يحيى الشامي، مع بعض التعديل حسب نقل ابن أبي الحديد في شرح النهج، ج19، ص376 - 377.

(2) المصدر: ص266.

٢٣٤

وللسيّد الشريف الرضي (قدس سرّه) كلام لطيف عند شرحه لقول النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله): (العين حقّ تَستَنزل الحالقَ) (1) ، قال: وهذا مجاز، والمراد أنّ الإصابة بالعين مِن قوّة تأثيرها وتحقّق أفاعيلها كأنّها تستهبط العالي من ارتفاعه، وتَستَقلِقُ (أي تُزحزح) الثابت بعد استقراره، والحالق، المكان المرتفع من الجبل وغيره، فجعل عليه الصلاة والسلام العين كأنّها تحطّ ذروة الجبل مِن شدّة بطشها وحدّة أَخذها.

وقد تناصرت (تضافرت) الأخبار بأنّ الإصابة بالعين حقّ (2) ، والذي يقوله أصحابنا: إنّ اللّه سبحانه يفعل المصالح بعباده على حسب ما يَعلمه مِن الصلاح لهم في تلك الأفعال التي يفعلها والأَقدار التي يُقدّرها، وإذا تقرّرت هذه القاعدة، فغير ممتنع أنْ يكون تغييره تعالى نعمة زيدٍ مصلحةً لعمروٍ، وإذا كان تعالى يعلم من حال عمروٍ أنّه لو لم يَسلب زيداً نعمته ويَخفض منزلته، أقبل على الدنيا بوجهه، ونأى عن الآخرة بعِطفه، وأقدم على المغاوي وارتكس في المهاوي، وإذا سَلبَ سبحانه نعمةَ زيدٍ للعلّة الّتي ذكرناها عوّضه عنها وأعطاه بدلاً منها عاجلاً أو آجلاً، وإذا كان ذلك كما قلنا - وقد رُوي عنه (صلّى اللّه عليه وآله) ما يدلّ على أنّ الشيء إذا عَظُم في صدور العباد وضع اللّه قَدْرَه وصغّر أمره - (3) لم يُنكر تغيير حال بعض الأشياء عند نظر بعض الناظرين إليه واستحسانه له وعِظَمِه في صدره وفخامته في عينه، كما رُوي أنّه (صلّى اللّه عليه وآله) قال - لمـّا سُبِقَت ناقَتُه العَضباء (4) وكانت إذا سوبق بها لم تُسبَق -: (ما رَفَعَ العبادُ من شيء إلاّ وضع اللّه منه) (5) .

____________________

(1) حديث متواتر، رواه الفريقان بعدّة أسانيد وفي مختلف الألفاظ والعبارات، راجع: مسند أحمد، ج1، ص274، وسائر المسانيد الستّ: وبحار الأنوار، ج60، ص25 - 26، وسائر الكتب الحديثيّة المعتبرة.

(2) وقد عقد العلاّمة المجلسي في بحاره باباً في ذلك، راجع: ج60، كتاب السماء والعالم.

(3) إشارة إلى ما رواه أحمد في مسنده الآتي وفي النهج: (ما قال الناس لشيء طوبى له إلاّ وقد خبأَ الدهر له يومَ سوء).

قصار الحِكم، رقم 286، ص526. وفي نوادر الراوندي، ص128: (ما رفع الناسُ أبصارَهم إلى شيء إلاّ وَضَعه اللّه) وراجع: بحار الأنوار، ج60، ص27.

(4) العَضباء: الناقة المشقوقة الأُذُن، وكان هذا الاسم لقباً لناقة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) ولم تكن مشقوقة الأُذُن، قال الزمخشري: ناقة عَضباء، قصيرة اليد.

(5) روى أحمد في مسنده، ج3، ص103 و253 وغيره أنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) كانت له ناقة تُسمّى العَضباء، وكانت لا تُسبَق في مسابقةٍ، حتّى جاء أعرابيّ على قعودٍ (ما اُعدّ للحمل والركوب من الدوابّ ومن الإبل ما تجاوز السنتين ولم يبلغ الستّ) فسبقها، فشُقّ ذلك على المسلمين، فلمـّا رأى ما في وجوههم قال: (إنّ حقّاً على اللّه أنْ لا يرفع شيئاً في الدنيا إلاّ وضعه)، والحديث منقول في الكتب بألفاظ مختلفة.

٢٣٥

فيمكن أنْ يتأوّل قوله عليه الصلاة والسلام: (العينُ حقّ) على هذا الوجه، ويجوز أنْ يكون ما أَمر به المستحسن للشيء عند رؤيته له من إعاذته باللّه والصلاة على رسول اللّه (1) قائماً في المصلحة مقام تغيير حالة الشيء المستحسن، فلا تغيّر عند ذلك؛ لأنّ الرائي قد أظهر الرجوع إلى اللّه سبحانه والإخبات له، وأعاذ ذلك المرئي به، فكأنّه غير راكنٍ إلى الدنيا ولا مغترٌّ بها ولا واثقٌ بما يرى عليه أحوال أهلها.

قال: ولعمرو بن بحر الجاحظ في الإصابة بالعين مذهبٌ انفرد به، وذلك أنّه يقول: إنّه لا يُنكر أن ينفصل من العين الصائبة إلى الشيء المستحسن أجزاءٌ لطيفة فتؤثّر فيه وتَجني عليه، ويكون هذا المعنى خاصّاً ببعض الأَعيُن كالخواصّ في الأشياء، قال: وعلى هذا القول اعتراضات طويلة وفيه مطاعن كثيرة... (2)

وهذا الكلام نقلناه بطوله لما فيه مِن فوائد جمّة وتنبيهٌ على أنّ مِن حِكمته تعالى القيام بمصالح العباد، فربّما يحطّ من هيمنة المعيون كي لا يطغى العاين فيَخرج عن حدّه، ثُمّ إنّه تعالى يُعوّض المعيون بما يسدّ خلّة الضرر الوارد به، وقد يكون ذلك في مصلحة المعيون لتكون كفّارةً لِما فَرَط منه من الغلوّ أو التفريط بشأن العاين، لكن هذا لا ينافي ما علّل به ابن سينا أو الجاحظ في بيان السبب الطبيعي الواقع تحت إرادة اللّه الحكيمة.

وهكذا ذهب المتأخّرون في بيان التعليل الطبيعي لإصابة العين وِفق ما أودع اللّه من خصائص في طبيعة الأشياء.

قال سيّد قطب: والحسد انفعالٌ نفسي إزاء نعمة اللّه على بعض عباده مع تمنّي زوالها، وسواء أَتبَع الحاسد هذا الانفعال بسعي منه لإزالة النعمة تحت تأثير الحقد والغيظ، أو وَقَف عند حدّ الانفعال النفسي، فإنّ شرّاً يمكن أنْ يُعقّب هذا الانفعال.

قال: ونحن مضطرّون أنْ نطامن من حدّة النفي لِما لا نعرف من أسرار هذا الوجود وأسرار النفس البشريّة وأسرار هذا الجهاز الإنساني، فهنالك وقائع كثيرة تَصدر عن هذه الأسرار، ولا نملك لها حتّى اليوم تعليلاً، هنالك مثلاً التخاطر على البُعد، وكذلك التنويم

____________________

(1) قال رسول الله (صلّى اللّه عليه وآله): (مَن أَعجَبَه من أخيه شيءٌ فليذكر اللّه في ذلك، فإنّه إذا ذُكر اللّه لم يضرّه)، والأحاديث بهذا المعنى كثيرة، راجع: بحار الأنوار، ج60، ص25.

(2) المجازات النبويّة للسيّد الشريف الرضي، ص367 - 369، رقم 285.

٢٣٦

المغناطيسي وقد أصبح الآن موضعاً للتجربة المتكرّرة المثبتة، وهو مجهول السرّ والكيفيّة، وغير التخاطر والتنويم كثير من أسرار الوجود وأسرار النفس وأسرار هذا الجهاز الإنساني.

فإذا حَسَد الحاسدُ ووجّه انفعالاً نفسيّاً معيّناً إلى المحسود فلا سبيل لنفي أثر هذا التوجيه لمجرّد أنّ ما لدينا من العلم وأدوات الاختبار لا تصل إلى سرّ هذا الأثر وكيفيّته، فنحن لا ندري إلاّ القليل في هذا الميدان، وهذا القليل يُكشَفُ لنا عنه مُصادفةً في الغالب، ثُمّ يستقرّ واقعةً بعد ذلك، فهنا شرٌّ يُستعاذ منه باللّه (1) .

هل تأثّر القرآن بالشعر الجاهلي؟

من طريف ما يُذكر بهذا الشأن ما زَعَمه بعض المـُستشرقين الأجانب أنّ القرآن ضَمّن بعض آياتٍ تعابير اقتبسها من أبياتٍ شعريّةٍ جاهليّة!

فالدكتور (سنكلر تسديل Thusdale ) صاحب كتاب (مصادر الإسلام) يَروي شُبُهات الناقدينَ للقرآن الكريم، ومنها هذه الأبيات:

دنت الساعةُ وانشقّ القمر (2)

عن غزالٍ صادَ قلبي ونَفَر

أَحورٌ قد حُرت في أوصافهِ

ناعسُ الطرفِ بعينَيه

حور مرّ يوم العيدِ في زينتِهِ

فرَماني فتعاطى فَعَقر (3)

بسهامٍ من لحاظٍ فاتكٍ

تركتني كهشيمِ المحتظرِ (4)

ويَتخذ منها قرينةً على اقتباس القرآن بعض الآيات من أشعار الجاهليّين! ويَضيف إلى هذه الأبيات أبياتاً أُخرى كقول القائل:

أَقبلَ والعُشّاق مِن خلفه

كأنّهم من حَدَب ينسلون (5)

وجاء يوم العيد في زينةٍ

لمثل ذا فليعمل العاملون (6)

____________________

(1) في ظِلال القرآن، المجلد 8، ص719 - 711، ج30، ص292 - 293.

(2) مُقتبس من سورة القمر 54: 1.

(3) مُقتبس من سورة القمر 54: 29.

(4) مُقتبس من سورة القمر 54: 31.

(5) مُقتبس من سورة الأنبياء 21: 96.

(6) مُقتبس من سورة الصافّات 37: 61.

٢٣٧

قال: ومِن الحكايات المـُتداولة في عصرنا الحاضر أنّه لمـّا كانت فاطمة بنت مُحمّد (صلّى اللّه عليه وآله) تتلو هذه الآية وهي ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) سمعتها بنت امرئ القيس وقالت لها إنّ هذه القطعة من قصائد أبي أخذها أبوك وادّعى أنّ اللّه أنزلها عليه (1) .

لكنّ الذي يُكذّب هذه الأسطورة أنّ امرئ القيس مات سنة 540م أي قبل مولد النبيّ (570م) بثلاثين سنة، فلو كنّا نعلم أنّ فاطمة (عليها السلام) وُلدت بعد البعثة (609م) بخمس سنين (614م) نَعرف مدى خُرافة هذه الأكذوبة! إذ لابدّ لفاطمة لو فُرض أنّها أرادت قراءة القرآن في محفل عامّ أنْ تبلغ عشر سنين مثلاً، فلو فرضنا أنّ بنت امرئ القيس عند وفاة أبيها كانت بلغت عشر سنين أيضاً فيكون عمرها عند سماع قراءة بنت النبي (صلّى اللّه عليه وآله) قد بلغ أربع وتسعين سنة!! إذ ولادتها حينئذٍ تكون سنة 530م وعام سماعها 624م، وقلّ مَن يعيش في هذه السنّ من نساء الجاهليّة؟!

والمـُرجّح أنّ هذا التضمين الشعري مُقتبس من القرآن على يد بعض أهل المـُجون، وكم له مِن نظير، ويشهد لذلك ذِكر العيد في هذه الأبيات الخاص بالعهد الإسلامي المتأخّر، ولا سابق له قبل الإسلام (2) .

وللاقتباس عرضٌ عريض سواء في الشعر أم النثر، وهو إمّا مقبول أو مردود على الشرح التالي:

الاقتباس

الاقتباس تَضمين الشعر أو النثر بعض القرآن، لا على أنّه منه، بأنْ لا يقال فيه: قال اللّه تعالى ونحوه، وقد شاع الاقتباس منذ الصدر الأَوّل وراج بين مَن تأخّر عنهم وعُدّ من المـُحسِّنات البديعيّة، وفي كثير من الخُطب والأدعية فضلاً عن الشعر تضمينات مُقتبسة مِن القرآن الكريم، لها رواء وبهاء وارتفاع شأن الكلام.

____________________

(1) كتاب (مصادر الإسلام) لتسديل، ص25 - 29، من ترجمته العربيّة.

(2) كما ولم يذكره صاحب ديوان امرئ القيس.

٢٣٨

وفي شرح بديعيّة ابن حجّة: الاقتباس ثلاثة أقسام: مقبول ومباح ومردود،

فالأوّل: ما كان في الخُطب والمواعظ والعهود.

والثاني: ما كان في القول والرسائل والقصص.

والثالث: على ضربَين:

أحدهما: ما نَسبه اللّه إلى نفسه، ونعوذ باللّه ممّن ينقله إلى نفسه، كما قيل عن أحد بني مروان أنّه وقّع على مطالعة فيها شكاية عمّاله ( إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ) ! (1) .

والآخر: تضمين آية في معنى هزل، ونعوذ باللّه من ذلك، كقوله:

أوحى إلى عُشّاقه طرفَه

( هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ) (2)

ورِدفُه يَنطق مِن خلقه

( لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ ) (3)

قلت: والأبيات التي ذَكرها (تسديل) من هذا القبيل، أي القسم الممنوع من الاقتباس.

ومن القسم الجائز ما رواه البيهقي في (شُعَب الإيمان) عن شيخه أبي عبد الرحمان السلمي قال: أنشدنا أحمد بن مُحمّد ابن يزيد لنفسه:

سلْ اللّهَ من فضله واتقِه

فإنّ التُقى خيرُ ما تَكتَسِب

ومَن يتّقِ اللّه يصنع له

( وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) (4)

وذَكَر الزركشي للطرطوشي:

رحل الظاعنون عنكَ وأَبقَوا

في حواشي الأحشاء وجداً مُقيماً

قد وَجَدنا السلام برداً سلاماً

إذ وَجَدنا النوى عذاباً أليماً

قال: وثَبُتَ للشافعي:

أنلني بالذي استقرضت خطّاً

وأَشهد معشراً قد عاينوهُ

فإنّ اللّه خلاّق البرايا

عَنَت لجلال هيبتِهِ الوجوهُ

____________________

(1) الغاشية 88: 25 و26.

(2) المؤمنون 23: 36.

(3) مقتبس من سورة الصافّات 37: 61، راجع: الإتقان للسيوطي، ج2، ص314 - 315.

(4) الطلاق 65: 3، راجع: الإتقان، ج2، ص316.

٢٣٩

يقول ( إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ) (1)

وذكر السبكي في طبقاته في تَرجمة أبي منصور البغدادي من كِبار الشافعيّة قوله:

يا مَن عدى ثُمّ اعتدى ثُمّ اقترف

ثُمّ انتهى ثُمّ ارعوى ثُمّ اعترف

أبشر بقول اللّه في آياته

( إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ ) (2)

قال جلال الدين السيوطي: هذا وما قَبلَه ليس من الاقتباس، للتصريح بأنّه قول الله (3) .

هل في القرآن تعابير جافية؟

زَعموا أنّ في القرآن تعابير جافية لا تتناسب وأدب الوحي الرفيع؛ وذلك في مثل التعبير بالفَرج وهو اسم لسَوءة المرأة، والتعبير بالخيانة بشأن أزواج أنبياء الله، وهو فَضح امرأة تكون في حَصَانة زوجٍ كريم، والتعبير باخسَؤُوا والتشبيه بالحِمار والكلب، وكذا سائر التعابير الغليظة الجافّة في مثل ( تَبَّتْ ) ، (4) و ( امْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ) (5) ، والدعاء بالشرّ ( قَاتَلَهُمُ اللّهُ ) (6) ... ومن أمثال هذا القبيل قد توجد في القرآن ممّا لا يوجد نظيره في غير من الكُتُب ذات الأدب الرفيع.

لكنّه زَعمٌ فاسدٌ ناشٍ عن الجهل بمصطلح اللغة ذلك العهد، وخلط القديم بالجديد من الأعراف، وإليك تفصيل الكلام عن ذلك:

( الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا)

جاء هذا التعبير في القرآن في موضعَين (7) فعابوا التصريح بسَوءة المرأة!

لكنّه تعبير كنائي وليس بصريح؛ حيث المراد مِن الفَرج هنا هو خصوص جيب

____________________

(1) البقرة 2: 282، راجع: البرهان للزركشي، ج 1، ص 482 - 483.

(2) الأنفال 8: 38.

(3) الإتقان، ج 1، ص 315 - 316.

(4) المسد 111: 1.

(5) المسد 111: 4.

(6) التوبة 9: 30، المنافقون 63: 4.

(7) في سورة الأنبياء: 91: ( وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا ) ، والتحريم: 12: ( وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ) .

٢٤٠