شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم0%

شبهات وردود حول القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 578

شبهات وردود حول القرآن الكريم

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الأستاذ محمد هادي معرفة
تصنيف: الصفحات: 578
المشاهدات: 286395
تحميل: 13144

توضيحات:

شبهات وردود حول القرآن الكريم
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 578 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 286395 / تحميل: 13144
الحجم الحجم الحجم
شبهات وردود حول القرآن الكريم

شبهات وردود حول القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الحدوث وعبر البقاء جميعاً (1) .

وعليه أيضاً نزلت الآية: ( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (2) ، أي يُمكنه تعالى أنْ يُزيل شيئاً عمّا قدّر فيه ويُبدّله إلى غيره، حسب عِلمه تعالى في الأَزل بالمصالح والمفاسد المـُقتضية في أوقاتها وظروفها الخاصّة، فهو تعالى كلّ يوم في شأن (3) .

ومِثلها قوله تعالى: ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (4) ، وذلك أنّهم؛ لفَرط جهلهم أنكروا إمكان التبديل في الخلق والتدبير - سواء في التشريع والتكوين - حَسبوا من التغييرات الحاصلة في طول التشريع أنّها افتراءٌ على اللّه، الأمر الذي يدلّ على غباوتهم وجهلهم بمقام حِكمته تعالى الماضية في الخَلق والتدبير على طول خطّ الوجود.

وهذا المعنى هو المستفاد من عقيدتهم بأنّه تعالى بعد ما فَرغ من خَلق السماوات والأرض خلال الستة الأيّام استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت، جاء في سِفر التكوين: (فأكملتُ السماوات والأرض وكلّ جُندها، وفَرِغ اللّه في اليوم السابع مِن عملِه الذي عَمل، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل) (5) .

* * *

وقد يُقال: إنّ هذا المعنى لا ينسجم مع ذيل الآية ( يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) ؛ حيث يستدعي هذا التعبير أن يكون النظر في صدر الآية إلى أمر البُخل والتقتير في الرزق (6) .

غير أنّ ذِكر الإنفاق كيف يشاء - في ذيل الآية -: جاء بياناً لأَحدِ مصاديقِ بسط يده تعالى وشمول قُدرته، وليس ناظراً إلى الانحصار فيه؛ ولعلّ ذكر ذلك كان بسبب ما واجَه المسلمين في إبّان أمرهم مِن الضيق وعدم التوفّر في تهيئة التجهيز الكافي والحصول على الإمكانات اللازمة، فأخذتْ اليهود في الطعن عليهم بأنّ ذلك هو المـُقدّر لهم، وليس بوِسعِه تعالى أنْ يفسح لهم المـَجال أو يُوسِع عليهم في المعاش.

____________________

(1) تفسير الميزان، ج1، ص253 - 254.

(2) الرعد 13: 39.

(3) الرحمان 55: 29.

(4) النحل 16: 101.

(5) سِفر التكوين، الإصحاح 2/1.

(6) راجع: تفسير الميزان، ج6، ص31.

٣٦١

وإلاّ فوِجهة الآية عامّة كنظيراتها، والعِبرة بعموم اللفظ دون خصوص المـُورد.

قولة اليهود: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ!!

قال تعالى: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) (1) .

عُزَير - مُصغّراً - هو الذي يسمّيه أهل الكتاب (عَزْرا) قال الشيخ مُحمّد عَبده: والظاهر أنّ يهود العرب هم الذين صَغّروا بالصيغة العربيّة للتحبيب وصَرَفوه، وعنهم أَخذ المسلمون، والتصرّف في أسماء الأعلام المنقولة إلى لغةٍ أُخرى معروف عند جميع الأُمَم، حتّى أنّ (يسوع) قَلَبَته العرب فقالت: (عيسى).

وعَزْرا هذا هو الذي أَحيى شريعة اليهود بعد اندراسها، وكَتَب أسفارَهم من جديد بعد ضَياعها لمدّة تقرب من قَرنَينِ، بعد كارثة بخت نصّر الذي شتّت شملهم وأحرق كُتبهم وأَخرب معابدهم، ووضع السيف في رقابهم، وأَسَر الباقين إلى أرض بابل حتّى فرّج عنهم الملك داريوش عند ما فتح بابل، وساعدهم على المـُراجعة إلى أرض فلسطين فيمَن عَزم على الرجوع إليها من اليهود وعلى رأسهم عَزرا - وهو عجوزٌ قد طَعن في السنّ - فأعاد بناء الهيكل على حساب مَلِك فارس، وقام بإحياء الشريعة وكتابة الأسفار نحو سنة 457 ق. م (2) ، جَمعها من صدور الرجال والمـَحفوظ لديهم من بقايا آثار التوراة، فكانت له منزلة رفيعة عند اليهود ممّا يقرب من مرتبة نبيّ اللّه موسى (عليه السلام)؛ لأنّه أحيا الشريعة الموسويّة من جديد وأعاد حياتها بعد الضياع والاندراس.

وهذا هو السرّ في تلقيبه بابن اللّه تشريفاً بمقامه الرفيع عندهم، كما قالوا ( نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) (3) ، أي مُقرّبون لديه تعالى مَقربة الوَلد مِن والدهِ.

ولعلّ تلقيب المسيح بابن اللّه أيضاً من هذا الباب تشريفاً بموضعه عند اللّه العزيز.

وجُملة القول: إنّ اليهود كانوا وما زالوا يُقدّسون عُزَيراً هذا، حتّى أنّ بعضهم أو

____________________

(1) التوبة 9: 30.

(2) راجع: سِفر عَزْرا، الإصحاح السابع.

(3) المائدة 5: 18.

٣٦٢

جُلّهم أَطلق عليه لقب ابن اللّه، فهو تلقيبُ تكريمٍ كما في تلقيب يعقوب بإسرائيل أي القٌدرة الغالبة الإلهيّة، وداود بمعنى المحبوب لدى اللّه، وجبرائيل أي الرجل الإلهي، وعزّئيل أي عزّته تعالى، كلّ هذه ألقاب تشريفيّة تكريماً بمقام المـُتلقّبين بها.

لكن الفيلسوف اليهودي (فلو) الاسكندري المعاصر للمسيح يقول: إنّ لله ابناً هو كلمتُه التي خَلق بها الأشياء، فعلى هذا لا يبعُد أن يكون بعض اليهود المتقدّمين على البعثة المـُحمّديّة - على المبعوث وآله صلوات ربّ العالمين - قد قالوا إنّ عُزَيراً ابن اللّه بهذا المعنى، كما شاع عند النصارى أنّ تلقيب المسيح بابن اللّه هو من هذا الباب (1) .

قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ

قالوا: لم يَعهد من تأريخ مصر القديمة أنّ ملوكها استوزَروا أجانب في سُلطانهم، فمَن هذا المـَلِك الذي استوزرَ يوسف العِبراني لإدارة شؤون الاقتصاد في البلاد؟

( وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي (أي أجعله من خاصّتي) فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) (2) ، فأصبح يوسف عزيز مصر!

وتَحذلق بعضهم القول بعدم معهوديّة التوزير من أبناء اليهود (3) ولم يدرِ المسكين أنّ يوسف سَبق اليهوديّة بقرون! وكان الذي خوّله إرادة شؤون الاقتصاد من المـُلوك الرُعاة (الهِكسوس) وهم أجانب ومِن جالية الشعوب الهنديّة الأُوروبيّة تغلّبوا على الشعب المصري وحكموا البلاد قسراً، والذي بدأ حوالي سنة 1800 ق. م، وهو العهد الذي يُمثّل الأُسرتَين الخامسة عشرة والسادسة عشرة ثُمّ السابعة عشرة في الشمال حتّى عام 1570 ق. م، ليقوم (أحمس الأَوّل) في وجههم ويَطردهم ويُؤسّس الدولة الحديثة الأُسرات من الثامنة عشرة إلى آخر العشرين، وكان إذ ذاك أوان خروج العِبرانيّين من مصر

____________________

(1) راجع: تفسير المنار، ج10، ص322 - 328.

(2) يوسف 12: 54 و55.

(3) شجاع الدين شفا في كتابه (تولّدي ديكر)، ص286.

٣٦٣

على عهد موسى وفرعون (1) .

عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ

ويسترسل (نولدكه) في توهّماته عن القرآن، ليزعم أنّ هذا التعبير بشأن صعيد مصر الذي تشح فيه الأمطار يَنمّ عن جهلٍ بموضع هذا البلد الذي تعود خُصوبته إلى فيضان النيل لا الأمطار، جاء في فقرةٍ من كتابه (... Sketches ص30 - 31) حول هامان ومريم: (بالإضافة إلى هذا التصوّر غير المعقول، يوجد تحويرات مزاجيّة شتّى، بعضها يدعو للسُخرية ويُنسب إلى محمّدٍ نفسه، والمثال على جهله لكلّ الأُمور خارج الجزيرة هو جَعْلُ الخُصوبة في مصر - التي تشحّ فيها الأمطار - مرهونةً بالأمطار وليس بفيضان النيل) (2) .

هذا الانتقاد في غاية الغَباء وينمّ عن جهل (نولدكه) - المستشرق - للّغة العربيّة وللشؤون المصريّة بالذات.

لقد جاء في الآية التي يستشهد بها ما يلي: ( ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ) (3) .

وكلمة (يُغاث) تَحتمل أن تكون من (الغَوث) - وهو النُصرة - أو مِن (الغيث) أي المطر، ( فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) (4) أي استَنصَره؛ ومِن ثَمّ جاء في تفسير الآية ( عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ ) أي يُنْجى الناسُ من الجَدب ومحنة القحط، قالوا: ويكون من قولهم: أغاثه اللّه، إذا أَنقذه من كَربٍ أو غمّ، يُنقَذُ الناس فيه من كَرب الجَدب، وقوله ( وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ) أي يَعصرون السِّمسم دُهناً والعِنب خمراً والزيتون زيتاً، وهذا يَدلّ على ذهاب الجَدب وحصول الخِصب ووفور الخير (5) .

____________________

(1) راجع: الموسوعة المصريّة (تأريخ مصر القديمة)، مجلّد أوّل، الجزء الأوّل، ص38 - 42، وقاموس الكتاب المقدّس، ص968 و969، وقصص الأنبياء للنجّار، ص149.

(2) راجع: الدفاع عن القرآن، ص186.

(3) يوسف 12: 49.

(4) القصص 28: 15.

(5) راجع: التفسير الكبير، ج18، ص151.

٣٦٤

أمّا لو أُخذت من (الغيث) أي المطر فيكون المعنى: فيه يُمْطَرون، غير أنّ بلاد مصر العُليا تَنعم بغزارة الأمطار أربعة أشهر متتالية في فصل الشتاء، فالمصريّون الّذين يعيشون في الصعيد في الدلتا يعلمون جيّداً أنّ الأمطار تتساقط بغزارة خلال فصل الشتاء أي خلال أربعة أشهر (من ديسمبر إلى مارس)، وأنّ زراعة القمح والبِرس والشعير والفول وأمثالها تعتمد أساساً على الأمطار الّتي تتساقط هذه الفترة، الأمر الذي يجهله أمثال (نولدكه) مِن المتخصّصين في الدراسات العربيّة الإسلاميّة، وهو لم تطأ قدمه بعدُ البلدان الإسلاميّة ولم يغادر أُوربا طَوال عمره (1836 - 1931م)، فلا غَرْوَ أن يخطأ (نولدكه) خطأً مزدوجاً، فهو لم يَفهم النصّ العربي للآية، ثُمّ إنّه يؤكّد أنّ المطر يكاد يَنعدم في مصر، وأهلُها لم يشعروا أبداً باحتياجهم له! وهو الخطأ الذي لا يقع فيه أحد من صبية مصر! على حدّ تعبير الأُستاذ البدوي (1) .

والعجب أنّه لم يَطّلع على ما كَتبه (سال Sale ) في تَرجمة القرآن التي أَنجزها وانتشرت خلال القرن الثامن عشر، إنّه يترجم الآية هكذا:

Then shall there come, after this a year wherein men shall have plenty of rain ، end wherein they shall press wine and oil .

ونجده في ملاحظةٍ سجّلها في أسفل الصفحة يقول علينا أن نُفنّد ما كَتَبه بعض المؤلّفين القدامى، فلقد كانت تمطر عادةً في الشتاء خاصّة في الوجه البحري، وقد لُوحظ الثلج في الإسكندريّة على نقيض ما يزعمه ( Seneca ) صراحةً، فعلاً تُصبح الأمطار أكثر ندرةً في الوجه القبلي في اتجاه شلاّلات النيل، وعلى أيّة حالٍ فإنّنا نفترض أنّ الأمطار التي ذُكرت هنا - في الآية - قُصد بها تلك التي تَسقط في (إثيوبيا) وتُسبّب ارتفاع منسوب النيل (2) .

____________________

(1) معدّل الأمطار التي تسقط في الإسكندريّة وشمال الدلتا يُقدّر بـ 206 ملم، وفي القاهرة 33 ملم، انظر: Suggate . l.s . Africa ، London ، Harap ، 1974 (الدفاع عن القرآن، ص187 - 188).

(2) The Koran ، translated into Englis c h from the original Arabic by George Sale هذه الترجمة صَدرت عام 1734 (الدفاع عن القرآن، ص187).

٣٦٥

فيا تُرى كيف لم يَطّلع (نولدكه) على هذه الترجمة وهذه المـُلاحظة التي سجّلها (سال) وكانت في متناوله؟!

فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ

قال تعالى - فيما حكاه خطاباً لفرعون حينما أَدركه الغَرَق -: ( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ) (1) ، وذلك عندما أَيقن بالغَرَق وقال: ( آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) (2) ، قال تعالى: ( آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) (3) .

قال هاشم العربي: وهذا يدلّ على أنّه تعالى نجّى فرعون من الغَرَق؛ ومِن ثَمّ يُناقض ما وَرد في سائر الآيات مِن أنّه تعالى أَغَرقه ومَن معه جميعاً (4) .

وسَخَّف تأويلَ المفسّرين ذلك بإنقاذ جسده مِن قَعر البحر وجَعْله طافياً على وجه الماء، أو نَبذ الأمواج له إلى نَجوة (مكان مرتفع) من ساحل البحر؛ ليكون عبرةً للآتينَ، حيث يَجدوه مطروحاً بلا روح على الأرض، قال: هذا تأويل يُخالف ظاهر التعبير؛ حيث المـُتبادر من النجاة هو الخلاص من الغَرَق، قال: على أنّه ليس في ذلك (طفو الجسد على وجه الماء أو طرحه على الساحل) آيةٌ؛ لأنّ هذه حال أكثر الغَرقَى تطفو جُثَثُهم على الماء أو يُلقيها البحر بالساحل (5) .

لكنّه لم يُمعن النظر في التعبير بالبَدن، وهي الجُثّة بلا روح، فلو كان أَراد تَنجيتَه لجاء التعبير: (ننجّيك) بلا زيادة قوله: (ببدنك)، فهذه الزيادة دَلّتنا على اختصاص البَدن (الجسد بلا روح) بالنجاة.

والمـُراد بالنجاة هو الخلاص ببدنِه سليماً مِن مقضمة الحيوانات البحريّة ومن غير أن يتفتّت أشلاءً أو يتفسّخ.

____________________

(1) يونس 10: 92.

(2) يونس 10: 90.

(3) يونس 10: 91، وراجع الإسراء 17: 103، والزخرف 43: 55، والقصص 28: 40.

(4) ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص379 - 380.

(5) راجع ما كتبه الشيخ الطنطاوي بهذا الشأن في تفسير الجواهر، ج6، ص81 و105.

٣٦٦

الأمر الذي بقيَ معجزةً خالدةً، فها هو جسد فرعون المـُنحّط، معروض للعامّة، وقد شاهدتُه في متحف بريطانيا الأثري، وجُثث أُخرى معروضةً هناك وفي مَتاحف مصر أيضاً.

مَن هو فرعون موسى؟

وفرعون هذا يقال: إنّه (توت عنخ أمون) من ملوك الأُسرة الثامنة عشرة وكانت مدّة مُلكه ما بين (1348 - 1337ق. م) أي قبل ثلاثة آلاف وثلاثمِئة سنة تقريباً (1) .

وقيل: هو منفطا (منفتاح) الأَوَّل من الأُسرة التاسعة عشرة (1223 - 1211 ق. م). وقيل: ابنه (سيتي) الثاني (1207 - 1202 ق. م) (2) .

وفي أيّامه اختلّ الأَمن وسادت القلاقل وهَلك سيتي بعد أنْ مَلَك مدّةً قصيرةً، وقد عُثر على جُثّته في قبر (أمنهوتب) الثاني بطيبة، فانفرد الوُلاة كلٌّ بولايته؛ ومِن ثَمَّ كثر وفود الأجانب على مصر (3) .

ولقد صدق اللّه سبحانه حيث يقول: ( كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ ) (4) .

( كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) (5)

هل ورثت بنو إسرائيل ديار مصر بعد غَرَق فرعون وجنوده؟

ليس في الآية تصريح بذلك، وإنّما هو الاستيلاء على ديارٍ كان مُلوك مصر مُسيطرينَ عليها، وليس على نحو الشُمول، ففي سورة الأعراف - بعد أنْ ذَكَر قصّة الغَرَق - قال: ( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا

____________________

(1) تفسير الجواهر، ج6، ص81 - 82.

(2) دائرة معارف القَرن العشرين، ج9، ص30، وراجع: الموسوعة المصريّة (تأريخ مصر القديمة وآثارها): المجلّد الأَوّل، الجزء الأَوّل، ص59.

(3) المصدر.

(4) الدخان 44: 25 - 28.

(5) الشعراء 26: 59.

٣٦٧

فِيهَا ) (1) ، والأرض المباركة هي أرض فلسطين والشامات (2) ، وهي عامرة بوِفرة الخِصب وكثرة الأرزاق، ومشارق الأرض ومغاربها إشارةً إلى سُلطان داود وسليمان على بني إسرائيل وأنّهما أقاما دولةً واسعة الأرجاء في فلسطين امتدّت إلى شرق البلاد وغربها في عرضٍ عريض.

وأمّا قوله تعالى: ( كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ ) (3) ؛ فلعلّه أراد الفَوضى التي حصلت بعد هلاك (سيتي) الثاني وتواترت وفود الأجانب على البلاد كما قدّمنا (4) ، وإن كان أُريد بهم قوم إسرائيل فيُحمل على إرادة أرض فلسطين كالآية السابقة.

شُبهة وجود اللَحن في القرآن

قالوا: وأيّ باطل بعد الخطأ واللَحن تبتغون؟ وقد رَوَيتم عن عائشة أنّها قالت: ثلاثة أحرف في كتاب اللّه هُنّ خطأٌ من الكاتب:

1 - قوله: ( إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ) (5) .

2 - قوله: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ ) (6) .

3 - قوله: ( وَالْمُقِيمِينَ الصّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزّكَاةَ ) (7) .

ورَوَيتم عن عثمان: أنّه نَظَر في المـُصحف بعد ما رُفع إليه فقال: أرى فيه لَحناً وستُقيمه العرب بألسنتها (8) .

وَنَسبوا إلى التابعي الكبير سعيد بن جُبير أنّه زَعَم أنّ في القرآن لَحناً في أربعة مواضع، وذَكَر الموارد الثلاثة، وزاد الرابعة قوله تعالى: ( فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) (9) .

____________________

(1) الأعراف 7: 137.

(2) جاء هذا التعبير بشأن أرض فلسطين وما والاها في مواضع من القرآن: الإسراء 17: 1، الأنبياء 21: 71، الأعراف 7: 137.

(3) الدخان 44: 28.

(4) راجع: دائرة معارف القَرن العشرين، ج9، ص30.

(5) طه 20: 63.

(6) المائدة 5: 69.

(7) النساء 4: 162.

(8) راجع: تأويل مشكل القرآن، ص25 - 26.

(9) المصاحف للسجستاني، ص33 - 34، والآية 10 من سورة المنافقين.

٣٦٨

وقالوا في قوله تعالى ( يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ) : (1) كان ينبغي التأنيث في العدد؛ لأنّ التقدير: وعشرة أيّام!

وهكذا زَعَم مَن لا دراية له من المـُستشرقين وأَذنابهم أنّ في القرآن لَحناً، وتَغافلوا عن أنْ لو كان الأمر على ذلك لاتخذه مناوئو الإسلام من أَوَّل يومه ذريعةً للغَمز فيه وهم عربٌ أَقحاحٌ، ولم يكن يَصل الدور إلى هؤلاء الأجانب الأسقاط (2) .

ليس في القرآن لَحن

لاشكّ أنّ القرآن من أقدم أسناد اللغة ذوات الاعتبار، ولا مجال للترديد في حجّيته واعتباره بعد حضوره في عصرٍ كان العرب في أَوْج حضارتها الأدبيّة الراقية، وكانوا أعداء ألدّاء له يتحيّنون الفُرص للغَمز فيه من أيّ جهةٍ كانت، لولا اعترافاتهم الصريحة باعتلائه الشامخ في الأدب الرفيع، فهل يُعقل أنْ يكون في القرآن مسارب للغَمز فيه تَغَافَلها أولئك الأقحاح ليَتعرّف إليها هؤلاء الأذناب؟

على أنّ الصحيح من كلّ لغة هو ما حَفظته أسنادهم العتيدة، ولتكون هي المعيار في تمييز السليم عن السقيم، هذا ابن مالك - إمام في النحو والأدب ولغة العرب - يَجعل القرآن قدوةً في تنظيم قواعد اللغة وترصيف أدبها، يقول:

وسَبْقُ حالٍ ما بحرفٍ جُرَّ قَدْ

أَبَوا ولا أمنَعُه فَقَدْ وَرَدَ

يعني: أنّ بعض النُحاة ذهبوا إلى عدم جواز تقدّم الحال على ذي حالٍ مجرور بحرف، ولكنّي أُجيز ذلك، استناداً إلى وروده في سندٍ قويم وهو القرآن الكريم، في قوله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنَّاسِ ) (3) ، لتكون (كافّةً) حالاً من (الناس).

فقد جَعَل القرآن سنداً قطعياً لقاعدة لغوية، دون العكس على ما زَعَمه الزاعمون.

فكلّ ما جاء في القرآن هو الحجّة والسند القاطع لفهم مجاري الأدب الرفيع.

____________________

(1) البقرة 2: 234.

(2) انظر: تأريخ القرآن لنولديكه، ج3، ص2 - 4، آراء المستشرقين حول القرآن، ج2، ص555 - 574.

(3) سبأ 34: 28.

٣٦٩

* * *

فما زَعَمه الزاعمون من وجود لَحنٍ في كتاب اللّه فإنّما هو؛ لقصور فهمٍ وعدم اضطلاع بمباني اللغة الأصيلة وإليك توضيحاً لهذا الجانب:

أمّا قوله تعالى: ( إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ) (1) فالقراءة الصحيحة المـُتّبعة وهي قراءة حفص وجمهور المسلمين هي القراءة بالتخفيف، مخفّفاً عن المثقّلة؛ بدليل وجود اللام في الخبر، وكان أبو عمرو بن العلاء - وهو أعلم أهل زمانه بالقرآن والعربيّة وآدابها - يقول: إنّي لأَستحيي أنْ أقرأ بالتشديد ورفع الاسم، فالخطأ موجّه إلى تلك القراءة المرفوضة وليس في القرآن، الذي يلهج به عامّة المسلمين وعلى رأسهم قراءة حفص ذات الإسناد الذهبي إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

أمّا الحَمل على لغة بَلْحَرث بن كعب، حيث كانوا يلهجون في المثنّى بالألف مطلقاً - كما فعله ابن قتيبة - (2) فغير سديد؛ لأنّ القرآن نزل وِفق اللغة الفُصحى ولا يُحمل على الشواذّ المنبوذة (3) .

* * *

وأمّا الرَفعُ في المعطوف عن منصوب (إنّ) في قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ ) (4) قَبل استكمال الخبر؛ فلكونه عطفاً على محلّ الاسم وهو رفع بالابتدائيّة، ورُجّح ذلك لوجهين:

أحدهما: مُناسبة الواو في (هادوا) في حين عدم ظهور إعراب الاسم بسبب البناء، قال الفرّاء: ويجوز ذلك إذا كان الاسم ممّا لم يَتبيّن فيه الإعراب، كالمـُضمر والموصول (5) ، كقول الضابئ بن الحارث البرجمي:

فمَن يكُ أمسى بالمدينةِ رحلُهُ

فإنّي وقيّارٌ بها لغريبُ

____________________

(1) طه 20: 63.

(2) راجع: تأويل مشكل القرآن، ص50.

(3) وقد أَسَهب ابن قتيبة في هذا المجال، وذكر أشياء فيها فوائد كثيرة، فراجع، وقد فصّلنا الكلام حول الآية في كتابنا (صيانة القران من التحريف)، ص182 - 183، طبق 1418.

(4) المائدة 5: 69.

(5) مجمع البيان، ج3، ص224.

٣٧٠

وقال بشر بن حازم:

وإلاّ فاعلَموا أنّا وأنتم

بُغاةٌ ما بَقينا في شِقاق

ورجّح ذلك في الآية رعايةً لمـُناسبة الواو في (هادوا) نظير العطف على الجِوار، قال الكسائي: هو نسقٌ على ما في (هادوا) (1) .

كما رجّح النَصب على الأصل في آيةٍ أُخرى نظيرتها أيضاً لمناسبة الجِوار، وذلك في قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ ) (2) لمـُناسبة الياء في (النصارى) (3) .

ثانيهما: ما ذَكَره ابن قتيبة، قال: جواز الرفع في مِثل ذلك إنّما كان؛ لأجل عدم تغيير في مفهوم الابتدائيّة سواء قبل دخول (إنّ) أو بعده، حيث إنّها تزيد معنى التحقيق ولا تزيد معنى آخر سِوى ما كانت الجملة تفيدها ذاتاً؛ ومِن ثَمّ لا يجوز ذلك في المعطوف على اسم (لعلّ) أو (ليتَ) لزيادة معنى الترجّي أو التمنّي في مفهوم الكلام.

وقال: رُفع (الصابئون) لأنّه ردٌّ (أي عطف) على موضع الاسم وموضعه رُفع؛ لأنّ (إنّ) مبتدأةٌ ولم تُحدث في مفهوم الكلام معنىً كما تُحدث أخواتها؛ أَلا إنّك تقول (زيد قائم) ثُمّ تقول (إنّ زيداً قائم)، ولا يكون بين الكلامَينِ فرقٌ في المعنى، سِوى زيادة التأكيد، لكنّك إذا قلتَ (زيدٌ قائم) ثُمّ (لعلّ زيداً قائم) أو (ليتَ زيداً قائم) فقد أَحدثتَ معنى الشكّ (الترجّي) أو التمنّي في مفهوم الكلام؛ ومِن ثَمّ لا يجوز الرفع في المعطوف على الاسم في غير (إنّ) من سائر أخواتها (4) .

وأمّا النَصب في (المقيمين) من قوله تعالى: ( لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) (5) - وطرفاه على الرفع - فلأنّه على القطع؛ لأجل المـَدح والاختصاص، وهو شائع في اللغة.

____________________

(1) المصدر.

(2) البقرة 2: 62.

(3) مجمع البيان، ج3، ص225.

(4) تأويل مشكل القرآن، ص52.

(5) النساء 4: 162.

٣٧١

ونظيره قوله تعالى في موضعٍ آخر: ( وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ) (1) ، قال سيبويه - في باب ما يُنتصب في التعظيم والمدح -: وسمعنا بعض العرب يقول: الحمد لله ربَّ العالمين - بنصب الربّ - فسألت عنها يونس فزعم أنّها عربيّة (2) ، قال: ومنها (والمقيمين) و(الصابرين) فقُطع إلى النصب مدحاً، وهذا باب شائع في العربيّة، وتكلّم فيه سيبويه بتفصيل (3) .

وهكذا قال أبو عبيد، قال: هو نصبٌ على تَطاول الكلام بالنسق، أي للإيفاد بالكلام تطريةً تُخرجه على تطاول النسق، فيجوز القطع إلى النصب وإلى الرفع تطريةً للكلام وإخراجه عن نسقٍ واحد، وأنشد للخِرِنْق بنت هفّان:

لا يَبعَدن قومي الذين هُمُ

سُمُّ العُداةِ وآفة الجُزْرِ

النازلينَ بكلِّ مُعتَركٍ

والطيّبون معاقِدَ الأُزرِ (4)

* * *

وأمّا الجزم في (وأَكنْ) معطوفاً على (فأَصَّدَقَ) فمحمول على موضع (فأصّدّق) لو لم يكن فيه الفاء، وموضعه جزم، جواباً لـ (لولا) في قوله تعالى: ( فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) (5) ، وهو من العطف على التوهّم، وهو شائع في اللغة، كما في قول الشاعر:

فأَبلوني بليّتكم لعلّي

أصالِحُكم وأستدرجْ نَوَيّاً

فجزم (أستدرج) معطوفاً على موضع (أصالحُكم) بتوهّم أنّه لو لم يكن قبلها (لعلّي)؛ لأنّه قال: فأبلوني بليّتكم أصالِحْكم واستدرج (6) .

وللفرّاء هنا كلامٌ مُسهبٌ أتى فيه بفوائد جمّة، نذكره على طوله:

____________________

(1) البقرة 2: 177.

(2) كان سيبويه يحترم آراء يونس، ويأخذها حجّة، والزَعم هنا بمعنى الرأي والنظر.

(3) راجع: كتاب سيبويه، ج1، ص288 - 291.

(4) تأويل مشكل القرآن، ص53.

(5) المنافقون 63: 10.

(6) راجع: تأويل مشكل القرآن، ص56.

٣٧٢

قال: فإذا أَدخلتَ في جواب الاستفهام فاءً نَصبت، كما قال اللّه تبارك وتعالى: ( رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ ) (1) .

فإذا جئت بالمعطُوف التي تكون في الجزاء وقد أجبته بالفاء كان لك في العطف ثلاثة أوجه:

1 - إنْ شِئت رفعتَ العطف، مثل قولك: إنْ تأتني فإنّي أهل ذاك، وتُؤجَرُ وتُحمدُ، وهو وجه الكلام.

2 - وإن شِئت جزمتَ، وتجعله كالمردود على موضع الفاء.

والرفع على ما بعد الفاء، وقد قرأَتْ القرّاء: ( مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ ) (2) ، رُفع وجُزم.

وكذلك ( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ ) (3) ، جُزم ورُفع.

ولو نصبتَ على ما تنصب عليه عطوف الجزاء إذا استغنى لأَصبت، كما قال الشاعر وهو النابغة الذبياني:

فإنْ يَهلِكِ النعمانُ تُعْرَ مَطِيَّهُ

وتُخبأَ في جوفِ العياب قُطوعُها

وإنْ جزمت عطفاً على ما نصبت تردّه على الأَوّل كان صواباً، كما قال الشاعر بعد هذا البيت:

وتنحَطْ حصانٌ آخر الليلِ نَحطَةً

وتُخبأَ في جوفِ العياب قُطوعُها

وهو كثير في الشعر والكلام، وأكثر ما يكون النص في المعطوف إذا لم تكن في جواب الجزاء الفاء، فإذا كانت الفاءُ فهو الرفع والجزم.

____________________

(1) وقد عدّ (لولا) هنا في أدوات الاستفهام، وهذا المعنى ذكره الهروي - كما في المغني لابن هشام: حرف اللام، ج1، 275 والطبعة الحجريّة، ص144 ومَثّل له بالآية، وقال الأمير في التعليقة على المـُغني: الاستفهام هنا بعيدٌ جداً، ورجّح أنْ يكون معنى العرض أو التحضيض.

(2) الأعراف 7: 186.

(3) البقرة 2: 271.

٣٧٣

3 - وإذا أجبت الاستفهام بالفاء فنصبت فانصب العطوف، وإنْ جزمتها فصواب، من ذلك قوله تعالى: ( لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ ) (1) ، رددت (وأكنْ) على موضع الفاء؛ لأنّها في محلّ جزمٍ، إذ كان الفعل إذا وقع موقعها بغير الفاء جُزم، والنصب على أنْ تردّه على ما بعدها، فتقول: (وأكون)، وهي قراءة عبد اللّه بن مسعود (وأكون) بالواو.

وقد قَرأَ بها بعض القرّاء (هو أبو عمرو بن العلاء)، قال: وأرى ذلك صواباً (أي القراءة بالواو مع عدم كَتَبها في المـُصحف)؛ لأنّ الواو ربّما حُذفت من الكتاب وهي تُراد، لكثرة ما تُنقص وتُزاد في الكلام...

وقال بعض الشعراء (هو أبو داود الأيادي):

فأبلوني بليّتكم لعلّي

أُصالِحُكُم وَأَسْتَدْرِجْ نويّاً

فجُزم (أَسْتَدْرِجْ) فإنْ شِئت رَدَدتَه إلى موضع الفاء المضمرة في (لعلّي)، وإنْ شِئت جعلته في موضع رفع فسكّنت الجيم لكثرة توالي الحركات، وقد قرأ بعض القرّاء ( لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ ) (2) بالجزم وهم يَنوون الرفع، وقرأوا ( أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ) (3) ، والرفع أحبّ إليَّ من الجزم (4) .

* * *

وأمّا قوله تعالى: ( أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشـْراً ) (5) فليس التقدير (عشرة أيام) إنّما التقدير في مِثل ذلك عند العرب (عشر ليال). كما في قولهم: لخمس بقين أو خَلون من رجب، والتقدير في حساب الأيّام عند العرب بالليالي دون وضح النهار؛ ومِن ثَمّ تُحسب الليلة من أَوّل الشهر من الشهر، ويبدأ كلّ شهر بليلة أَوّله، فالنهار تابعٌ للّيل كما في آخر الشهر.

____________________

(1) المنافقون 63: 10.

(2) الأنبياء 21: 103.

(3) هود 11: 28.

(4) راجع: معاني القرآن، ج1، ص86 - 88.

(5) البقرة 2: 234.

٣٧٤

( وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً) (1)

قالوا: فيه لَحن، أَوّلاً تأنيث العدد مع أنّ التمييز مُذكّر، وثانياً جمع التمييز، والصحيح إفراده هنا (2) .

لكن الكلام يتمّ بالعدد من غير ما حاجةٍ إلى ذِكر التمييز، كما في نظائره من قولك: قطّعتُ اللحم أربعاً، أي أربع قطع، وجئناك خمسةً، أي خمسة أشخاص، ( وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ ) (3) ، أي بعشر ليالٍ، ( يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ) (4) ، أي عشر ليال؛ وذلك لأنّ الاعتبار بحساب الليالي - كما قدّمنا - ( إِنْ لَّبِثْتُمْ إِلاّ عَـشْراً ) (5) ، ( فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ ) (6) ، ( عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ) (7) ، أي خازناً.

كلّ ذلك لمعلوميّة المعدود من غير حاجة إلى ذِكره، وكذا هنا، إذ قولك: فرّقتهم اثنتي عشرة، تعني: اثنتي عشرة فِرقةٍ، (وحذف ما يُعلم جائز)، بل ذِكره إمّا تأكيدٌ أو حشوٌ زائد.

قال المفسّرون: (أسباطاً) بدلٌ من (اثنتي عشرة)، تقديره: وفرّقناهم فِرَقاً أسباطاً وجعلناهم أُمَماً متفرّقة لا مُجتمعة، وهذا نَكال بهم من أَوّل يومِهم، حيث تفرّقهم في الرأي وعن إتّباع الرسول منذ البدء، على خلاف ما حَظيت به هذه الأُمّة من الاجتماع ووحدة الكلمة والتفافهم حول الرسول ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (8) ، الأمر الذي أراده بشأن كلّ اُمّةٍ من الأُمَم رُغم تفرّقهم وتشعّبهم فِرَقاً ( وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً (أي قطعاً كزُبرِ الحديد أي صفحاته) كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) (9) ، الأمر الذي مُنيَ به بنو إسرائيل حيث تشتّتهم وتطاحنهم في الحياة.

____________________

(1) الأعراف 7: 160.

(2) هاشم العرب في ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص417.

(3) الأعراف 7: 142.

(4) البقرة 2: 234.

(5) طه 20: 103.

(6) القصص 28: 27.

(7) المدّثر 74: 30.

(8) الأنبياء 21: 92.

(9) المؤمنون 23: 52 و53.

٣٧٥

( وَنُقَدِّسُ لَكَ) (1)

زَعَم المـُتعرّب (هاشم العربي) أنّ في ذلك لَحناً؛ حيث زيادة اللام من غير حاجة إليها وكان الصواب (نقدّسك) لأنّ الفعل متعدٍّ بنفسه، اللّهمّ إلاّ أنْ يُقدَّر المفعول به شيئاً من الأشياء، الأمر الذي يزيد في إبهام الكلام (2) .

لكنّه لم يدرِ الفَرق بين (قَدَّسَه) و(قدّس له)!

يقال: قَدَّسه أي نَزَّهه ومَجَّده، أما إذا قيل: قَدَّس له، فيعني: تطهير النفس تمهيداً لإمكان الحضور لدى ساحة قُدسه تعالى.

قال أرباب اللغة: يقال: قَدّس الرّجلُ اللّهَ، أي نَزّهه ووَصَفه بكونه قُدُّوساً، والقُدّوس: المـُتنزّه عن العُيوب والنقائص، وقَدَّس للّه، أي طهّر نفسه له، وذلك بأنْ مهّدها لإمكانِ الاستفاضةِ من أنوار الملكوت.

كانت الملائكة ترى من بني آدم ذواتاً منكدِرة لا تصلح للاستجلاء بجلاءٍ يَليق بمقام القُدس الأعلى، فعرضت نفسها وهي صالحة للاقتراب من مقام القرب الأدنى.

لكنّه تعالى أعلم بالمصالح فيما يُقدّر ويُدبّر. ( قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) (3) .

ثُمَّ على فرض التقدير في الكلام فإنّه ليس على ما فَرَضَه المتعرّب من الإبهام، قال الراغب: ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) أي نُطهّر الأشياء ارتساماً لك (4) ، أي بدلاً من بني آدم - حيث يُفسدون في الأرض أي يَعبثون بوجوه الأشياء ليُغيّروها إلى جهة الفساد - نقوم نحن بتطهير الأشياء وتصقيلها إلى حيث الصفاء والجَلاء التامّ، الأمر الذي يتحقّق منه الامتثال التامّ لما أراده تعالى من الطهارة والنزاهة في خليقته جمعاء.

ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ

قال تعالى: ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (5) .

____________________

(1) البقرة 2: 30.

(2) ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص434.

(3) البقرة 2: 30.

(4) المفردات، ص396.

(5) آل عمران 3: 59.

٣٧٦

قالوا: وكان ينبغي أنْ يقول: ثُمّ قال له كنْ فكان.

قال بعضهم - تجاسراً على كتاب اللّه -: آثر الرويّ على المعنى، فآثر الإخلال بالمعنى ليستقيم له الرويّ، وزاد بشاعةً في القول: قد سَاقه إليه ما أَلفه لسانُه - يَعني مُحمّداً (صلّى اللّه عليه وآله) حيث كرّره في ستّة مواضع من كتابه بصيغة المضارع، ممّا كان متناسباً فيها غير ما هنا (1) .

لكن المسكين ذَهب عنه أنّ هذه الجُملة تُمثّل كلمة التكوين وليست تكليفاً بالقول؛ ومِن ثَمَّ كان المسيح (عليه السلام) كلمة اللّه ألقاها إلى مريم (2) .

قال الشيخ مُحمّد عَبده: يجوز أن تكون كلمة التكوين مجموع (كن فيكون) والمعنى: ثُمَّ قال له كلمة التكوين التي هي عبارة عن توجّه الإرادة إلى الشيء ووجوده بها حالاً، قال: ويظهر هذا في مِثل قوله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ) (3) ، ولو كان القول للتكليف لم يَظهر هذا؛ لأنّ قول التكليف من صفة الكلام، وقول التكوين من صفة المشيئة (4) .

فلفظة (كن) تُمثّل إرادته تعالى المـُتعلّقة بتكوين شيء، و(فيكون) تُمثّل تكوين الشيء حالاً فورَ إرادته تعالى، الأمر الذي يَتمثّل في لفظة المضارع الدالّة على التحقّق في الحال، ولا يصلح لذلك صيغة الماضي إلاّ بتأويله إلى إرادة الحال أي (فكان في الحال)، وهذا ممّا يكفله صيغة المضارع من غير تأويل، وهذا هو معنى قولهم: (فيكون) حكايةُ حالٍ ماضية.(5) أي وإن كان الأمر قد مضى، لكنّها حكاية عن أمر كان حالاً في ظرفه: فقد تَكَوَّن الشيء حالاً فورَ الإرادة، وهذا من تصوير الحال الماضية كما يقول أهل المعاني.

فمعنى قوله (كن فيكون): أنْ لا فاصل زمنيّاً بين إرادته تعالى وتكوين الشيء ( وَمَا أَمْرُنَا إِلاّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) (6) ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (7) ، أي لا فاصل

____________________

(1) هاشم العربي في ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص 417 - 418.

(2) إشارة إلى الآية 171 من سورة النساء.

(3) الأنعام 6: 73.

(4) تفسير المنار، ج3، ص319.

(5) الكشّاف، ج1، ص368.

(6) القمر 54: 50.

(7) يس 36: 82.

٣٧٧

- عند إرادته تعالى لتكوين شيء - بين هذه الإرادة وتكوين ذاك الشيء حالاً.

قال الحجّة البلاغي: (فيكون) فعل مضارع دالّ على الثبوت، لبيان الملازمة الدائمة بين قوله (كن) وبين تكوّن الشيء بهذا الأمر لا محالة، وبهذه القُدرة التامّة والمـُلازمة الدائمة خُلق عيسى من غير فَحل، إذ قال له: (كن).

وهو كلام صادر في مقام الاحتجاج بالتمثيل، ولا تقوم الحجّة بهذا التمثيل ولا يحصل المراد منه في الاحتجاج إلاّ ببيان الملازمة.

وهذا بخلاف ما لو قال: كن فكان؛ لأنّ هذا الأُسلوب (الثاني) لا يُفيد إلاّ أنّ آدم كان، سواءٌ أَكان ذلك باتفاق أم بملازمة خاصّة بذلك الكون أو عامّة، وهو أمرٌ معلوم لا فائدة في بيانه ولا حجّة فيه على خَلق عيسى من غير فحل، فلا يكون التفريع لو قيل: كن فكان، إلاّ لغواً في كلام متهافت (1) .

والخلاصة: أنّ المـُضارعة هنا يدلّ على المـُلازمة الدائمة بين قولة (كن) والتكوين، فصحّ جريانه بشأن آدم والمسيح على سواء، وهذا على خلاف ما لو قيل (فكان)؛ لاحتمال مجرّد الاتفاق وليس عن ملازمةٍ دائمة... وهو تنبّه لطيف أَفادته قريحة شيخنا العلاّمة البلاغي المهديّ بهداية اللّه تعالى، فرحمة اللّه عليه مِن مجاهد في سبيل اللّه بالعلم والعمل الدائب، أفاض اللّه عليه شآبيب رضوانه، آمين.

( وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) (2)

قال هاشم العربي: كان الصواب أنْ يقول: وكان قدّامهم... (3)

قلت: ما أقبح بالرجل لا عِلم له بالعربيّة وهو يتجرّأ في تخطئة أقدم وأقوم كلام عربي رصين، القرآن أصحّ سند عتيد حَفِظ على العرب لغتَهم الأصيلة، ولا تزال العرب تعرف أصالتها من القرآن وتَستلهم أساليب كلامها من تعابير القرآن، هذا ما يبدو من العرب خضوعهم تجاه عظمة القرآن، سواءٌ أكانوا ممّن آمنوا به وصدّقوه وحياً - وهم

____________________

(1) الهدى إلى دين المصطفى، ج1، ص380.

(2) الكهف 18: 79.

(3) ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص426.

٣٧٨

الأكثرية الساحقة - أم الذين بقوا على جاهليّتهم الأُولى وهم النَزر اليسير، لكنّهم جميعاً بَخعوا أمام كبرياء هذا الكتاب وجبروت هذا الكلام.

فيا لصاحبنا المسكين يُخطّئ ويُصوّب فيما لا شأن له!

إنّ كلمة (وراء) في هكذا موارد من استعمالاتها يُراد بها: الكارثة الخطيرة التي تَتَعقّبهم في مسيرة الحياة، والمعنى أنّهم سائرون لاهينَ، وتلاحقهم داهيةٌ دَهماءٌ تسعى وراءهم للنيل منهم وهم غافلون عنها غير مبالين بها، وهو مِن ألطف الكنايات.

وهذا كما في قوله تعالى: ( وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (1) ، ( مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً ) (2) ، ( مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ ) (3) ، ( وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ) (4) .

وهكذا جاء استعماله في الشعر الجاهلي، قال لبيد:

أَليسَ ورائي إنْ تراختْ مَنيّتي

لُزُوُمُ العَصا تُحنى عليها الأَصابعُ

وقال عبيد:

أَليسَ ورائي إن تراخت مَنيّتي

أدبُّ مع الوِلدان أزحفُ كالنسرِ

وقال المرقش:

ليسَ على طولِ الحياة ندمٌ

ومِن وراء المرء مالا يعلمُ (5)

قوله: أَليسَ ورائي، أي أَليس يتعقبني لزوم العصا؟ وهو تعبير كنائي عن الانتظار لهم في منتهى خطّ المسير، فكان قول المفسّرين: أمامهم، هو لازم المعنى ولم يُريدوا ترجمة اللفظة.

( وَطُورِ سِينِينَ) (6)

قال المتكلّف: هذا ممّا أخطأ القرآن فيه مُراعياً للرويّ، والوجه: سيناء كما جاء في

____________________

(1) المؤمنون 23: 100.

(2) الجاثية 45: 10.

(3) إبراهيم 14: 16.

(4) إبراهيم 14: 17.

(5) راجع: الهدى إلى دين المصطفى، ج1، ص352.

(6) التين 95: 2.

٣٧٩

سورة المؤمنون ( وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ ) (1) .

لكنّه تَجاهلَ استعمال اللفظة بكِلا الوجهَين في العهد القديم:

كانت البريّة التي خَرَجَ إليها بنو إسرائيل - بعد اجتيازهم بحر سوف (البحر الأحمر) ومنطقتي شور وإيليم - تُسمّى بريّة (سين) والتي تنتهي إلى جبل سيناء.

جاء في سِفر الخروج: (ثُمّ ارتحلوا من إيليم وأتى كلّ جماعة بني إسرائيل إلى برّية سين التي بين إيليم وسيناء) (2) .

وسِيناء - بكسر السين - اسم جبل (حوريب) (3) وعَبّر عنه بسينيم أيضاً، كما أنّ الوادي كلّه سُمّي بسيناء (4) وسينيم باعتبار فخامة هذا الجبل الواقع فيه، جاء في سِفر إشعياء: (هؤلاء من بعيد يأتون وهؤلاء من الشمال ومن المغرب وهؤلاء من أرض سينيم) (5) .

قال جيمس هاكس: فَسَّره جماعة بوادي (سين) و(سيناء)؛ نظراً للمناسبة القريبة الملحوظة في عبارة الكتاب (6) .

وهكذا جاءت اللفظة في القرآن مُعرّبةً (سيناء) بفتح السين، و(سينين) بقلب الميم نوناً كما هي العادة الجارية في لغة العرب، فلم يكن هناك تَضايق من جهة الرويّ كما زَعم.

ومِن المـُحتمل القريب أنّ (سينيم) جمع (سين) باعتبار أنّ الجمع في العِبريّة يأتي بالياء والميم، كما في (جَمَليم) و(حَمُوريم) و(رَكْبيم) جمع (جَمَل) و(حَمُور) و(رَكْب) (7) ، وعليه فقد أتى القرآن بسينين جمعاً بالياء والنون على النهج العربي وذلك قد التئم الرويّ من غير تَكلّف الأمر الذي اشتبه على المعرّب، وكم له من نظير!

____________________

(1) راجع: ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص418، والآية 20 من سورة المؤمنون.

(2) سِفر الخروج، الإصحاح 16/1.

(3) راجع: قاموس الكتاب المـُقدّس، ص498 مادة (سيناء).

(4) راجع: سِفر الخروج، الإصحاح 19/1: (جاؤوا إلى بريّة سيناء فنزلوا في البرّية، هناك نَزَل بنو إسرائيل مقابل الجبل) وفي الإصحاح 19/18: (فوقفوا في أَسفل الجبل، وكان جبل سيناء كلّه يُدخّن من أجل أنّ الرّبّ نَزَل عليه بالنار).

(5) سفر ِإشعياء، الإصحاح، 49 /12.

(6) قاموس الكتاب المـُقدّس، ص504.

(7) راجع: الرِحلة المدرسيّة، ج1، ص74 - 75.

٣٨٠