السقيفة

السقيفة27%

السقيفة مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 211

السقيفة
  • البداية
  • السابق
  • 211 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 46903 / تحميل: 13559
الحجم الحجم الحجم
السقيفة

السقيفة

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

المضي في البحث ويشجعني على اخراجه للناس. وان كان فيه صعوبة اخرى قد تقحمتها وجب الي عبؤها الثقيل.

وبعد التفكير والمحاولات مدة طويلة هديت الى شيء واحد بالاخير ارجو ان ابتعد بسببه عن تأثير العواطف ولعبها بالعقول واقترب من الحق والصدق، هو ان اكثر من مراجعاتي لمؤلفات من اخالفه في الرأي من ناحية مذهبية، بل اجعلها هي المصدر في البحث وظني ان بهذا سيحصل التفاعل من الجانبين: عقيدتي وهذه المصادر، لينتج ما قد يسمونه (الوسط في الرأي) او تكون الحقيقة قد اهتديت اليها بهذه الحيلة، إن طاوعتني .

وقد اخذت على نفسي في هذا الكتاب ان اسجل خلاصة مطالعاتي ومحاكماتي التاريخية، بعد ان سبرت كثيرا من المصادر القديمة التي اشرت اليها آنفا، فاذا كنت اذكر حديثا او حادثا تأريخيا توافرت المصادر على ذكره وتوثيقه، فاني لا اذكر معه تلك المصادر توفيرا على القاريء خشية إعناته بدون جدوى، الا بعض الاحاديث التي ينفرد بها مصدر او مصدران، فاني اضطر اضطرارا الى ذكر المصدر في التعليقة تنويرا لذهن القارئ غير المتتبع.

وكل جهدي ان اضع بين يدي القراء صورة مصغرة مما اهتديت اليه من افكار، ارجو ان تكون خالصة من تأثير

٢١

العواطف والنزعات حرة هي الحق كله او قريبة من الحق، وبالله التوفيق ومنه التسديد.

شهر رمضان ١٣٥٣ هجرية

المؤلف

محمد رضا المظفر

٢٢

تمهيد

بسم الله الرحمن الرحيم

في عام ١١ للهجرة يفعل الدهر فعلته الأولى، فيقلب صفحة من صفحات التاريخ الاسلامي المجيدة كتبت بأحرف من النور الالهي. كلها ايمان وصدق، جهاد وتضحية، فخر وقوة، عز ومجد، عدل ورحمة، اخوة وانسانية.

يقلب الدهر هذه الصفحة الناصعة بالخيرات والفضائل، بأفول ذلك النور المقدس من الأرض، فيستقبل بالمسلمين صفحة من كتابه التكويني مشوشة الخط قال عنها الكتاب التشريعي:( أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ) . لا شك عند من يعترف بالقرآن الكريم وحيا إلهيا لا ينطق صاحبه عن الهوى، في ان هذا الحادث التاريخي العظيم بموت منقذ الأنسانية، كان حدا فاصلا بين عهدين يختلفان كل الاختلاف: ذاك اقبال بالنفس والنفيس على الحق تعالى، وهذا انقلاب عنه على الأعقاب. إذن نحن الآن أمام أمر واقع:

مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم!

٢٣

ولا بد أن يكون المسلمون ( - كلهم؟ لا أدري الآن) قد انقلبوا على اعقابهم.

ولكن... بأي حادث كان مظهر هذا الانقلاب؟.

***

اعطني من نفسك أيها القارئ وفكر بحرية، والتمس لي حادثا ذا بال وقع بعد وفاة صاحب الرسالة مباشرة، فنضح برذاذه جميع المسلمين، فهل تجد غير حادث (السقيفة)؟ ما أعظمه من حادث! وهل تدري ان الشيعة تفسر الآية الكريمة به؟.

فاذا اردنا الآن أن نبحث عن (السقيفة)، فإنما نبحث عن اعظم حدث في الاسلام، واول حوادثه بعد الوفاة، له علاقته الخاصة بالآية الكريمة، أتفسر به أو لا؟.

وعلى هذا الاساس قلت في المقدمة شرق فيها قوم وغرب آخرون فدخلت العقائد والأهواء في سرد الحادثة، فكانت ذات ألوان ووجوه يكد فيها الباحث، ويجهد مستهدف الحقيقة.

***

وما علي لو أدعي قبل الدخول في بحث السقيفة ان الآية الكريمة تفسر بحوادث الردة التي وقعت في خلافة ابي بكر.

٢٤

ولكني لا اطمئن الى هذا الاحتمال، ما دامت الآية تشعرنا بأن الانقلاب يقع بعد موت النبي مباشرة، وما دامت هي خطاباً لجميع المسلمين، واهل الردة كيفما فرضناهم هم اقل القليل من المسلمين، بل في العدوة القصوى منهم.

وفوق ذلك نجد ان عمدة من نسميهم بأهل الردة هم المتنبؤن واشياعهم، كمسيلمة واتباعه، وطليحة واوليائه. وهؤلاء كانوا في عهد النبي واستغلظ امرهم بعده، ما عدا سجاح التميمية، وما كان لها كبير شأن وقد اندمجت بمسيلمة. اما الأسود العنسي فقد قتل في حياة الرسول ولازم انصاره طريقته بعده. وعلقمة بن علاثة ارتد في زمانه صلى الله عليه وآله. ومثله ام رفل سلمى بنت مالك وتابعوها.

أفيصح ان نقول: إن هؤلاء انقلبوا على الاعقاب بعد النبي، وكان الخطاب بالاية لهم؟ اللهم ان هذا يأبى الانصاف ان يصدق به، عند من كان له شيء من حرية الرأي وصحة التفكير.

ومالك بن نويرة(١) .

مالك وادع سجاح (والموادعة. المتاركة والمسالمة على ترك الحرب كما كان كعب القرضي موادعا لرسول الله). وليست الموادعة من الردة في شيء واكثر من ذلك إنما كانت

______________________________

(١) وبه يضرب المثل المشهور: (فتىً ولا كمالك).

٢٥

منه لمصلحة المسلمين، ليرد سجاح عن غزوهم في تلك الأصقاع النائية عن مركز المسلمين. وكان الذي أراد.

وإن كانت تلك الموادعة ذنباً، فقد اظهر هو وقومه التوبة بعد ذلك، كما صنع وكيع وسماعة، وهما وادعا سجاح ايضا، وقبل المسلمون المحاربون توبتهما.

وهذا ابو بكر يدين مالكا إذ قتله خالد بن الوليد وخلا بزوجته ليلة قتله، فهل تفسر بهذا آية الانقلاب؟.

ولا ذنب لمالك إذ عد من اهل الردة إلا أن قاتله بطل المسلمين يومئذ وقائدهم. وحقيق عليهم ان يدافعوا عن فعلته ويبرروا عمله. فليكن مالك مرتدا يستحق القتل! وما يهمنا ان نشين مالكا بما يستحق وبما لا يستحق، ما دامت كرامة خالد محفوظة مصونة من النقد!.

عمر بن الخطاب يريد ان يؤخذ خالد بقتله لمالك ونزوه على زوجته وابو بكر يعتذر عنه (انه اجتهد فأخطأ). وما الخطأ على المجتهدين بعزيز. وهذا من اوليات ابي بكر. إذ يجعل الاجتهاد عذرا للمخالفة الصريحة للقانون الاسلامي.

وابو بكر لم يقل لمتمم اخي مالك انه ارتد فقتل بل قال له: ما دعوته وما قتلته، لما قال له متمم من ابيات:

ادعوته بالله ثم قتلته

لوهو دعاك بذمة لم يغدر

٢٦

نعم! التاريخ ينزه مالكا. وقضى الدفاع عن خالد ان يحكم بعض الكتاب في هذا العصر بكفر مالك وارتداده!.

***

ومن هم أهل الردة غير هؤلاء؟.

مانعوا الزكاة.

مانعوا الزكاة؟. من هؤلاء بأسمائهم وقبائلهم! ليت احدا يرشدني اليهم! فقد وجدت التأريخ يجمجم في ذكرهم فيحصر، ويروح ويغدو فلا يجد غير المتنبئين واشياعهم. وأبو بكر لما قال كلمته المشهورة: (لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه)، فانما قالها عندما جاء وفد طليحة المتنبئ المتقدم ذكره يطلبون الموادعة على الصلاة وترك الزكاة، لافي قوم غير المتنبئين.

واذا كانوا وربما كانت بعض القبائل المجهولة امتنعت عن الزكاة فهل العصيان بترك واجب، وهم يقيمون الصلاة يكون كفرا وارتدادا؟ بأي مذهب وبأي دين؟ فليتأول المتأولون ما شاؤوا.

ولم يعرف عنهم انهم أنكروا وجوب الزكاة بقول، حتى يكونوا من منكري ضروريات الدين الذين يعدون في الكافرين المرتدين. وأكثر ما عرف عنهم اذا كان لهم من منكري ضروريات الدين الذين يعدون في الكافرين المرتدين.

٢٧

وأكثر ما عرف عنهم اذا كان لهم وجود غير المتنبئين انهم امتنعوا عن أدائها.

وتغلق دعوى المدعي أن هؤلاء أنكروا بيعة ابي بكر التي كانت عن غير مشورة من المسلمين كما صرح به عمر بن الخطاب، فلم يعترفوا له بامامة وولاية حتى يؤدوا له الزكاة. ولعلهم كانوا يطالبون بخلافة من كان النص من النبي على خلافته، فأهمل مطالبتهم التأريخ.

هذه احتمالات لا يفندها التأريخ والاعتبار وادعتها الشيعة فيهم، فما لنا بتكذيبها من برهان، فالأحسن لنا ألا نعترف بوجودهم كما أهمل التأريخ أسماءهم وقبائلهم.

ومهما كان الامر، فان استطاع الكاتب ان يثبت الانقلاب بأول حدث في الاسلام، فلا يهمه ماذا سيكون شأن الحوادث اللاحقة، بل يستعين على تفسيرها بتفسير الحادث الأول، وكفى!

وأجدني مضطرا قبل كل شيء الى ان اقف مع القاريء على ما صنعه النبي صلى الله عليه وآله، من حل للخلاف بعده: إما في وصية باستخلاف أحد، او في قاعدة مضبوطة يرجعون اليها، او انه اهمل الأمر وتركهم وشأنهم، لأن هذا البحث له علاقة قوية في موضوع بحثنا، يتوقف عليه تفسير كثير من الحوادث.

٢٨

إذن سنعقد الكتاب على اربعة فصول:

الفصل الاول في موقف النبي تجاه الخلافة

الفصل الثاني في تدبيره لمنع الخلاف

الفصل الثالث في بيعة السقيفة

الفصل الرابع موقف علي بن ابي طالب.

٢٩

الفصل الاول: مَوقِفْ النَّبي تجَاه الخَلافَة

٣٠

(١ هل كان يعلم بأمر الخلافة؟)

٣١

هل تجد من نفسك الميل الى الاعتقاد بأن النبي صلى الله عليه وآله كان لا يعلم بما سيجري بعده: من خلافات وحوادث من اجل الخلافة؟ وهل تراه كان غافلا عما يجب في هذا السبيل؟.

إذا كان لك هذا الميل فلا كلام لي معك، وارجو منك ياقارئي العزيز علي أن تلقي الكتاب عندئذ عنك ولا تتعب نفسك بالاستمرار معي الى اخر الحديث، لاني افرض قارئي مسلما يؤمن بالنبي ورسالته، ويعرف من تأريخه ما يكفيه في طرد هذا الوهم.

فان من يمت الى الاسلام بصلة العقيدة لابد ان يثبت عنده على الاقل ان صاحبه صرح في مقامات كثيرة بما ستحدثه امته من بعده فقد قال غير مرة: (ستفترق امتي على ثلاث وسبعين فرقة فرقة ناجية والباقون في النار).

واكثر من ذلك انه لم يستثن من اصحابه إلا مثل همل النعم، ثم هم يدخلون النار بارتدادهم بعده على ادبارهم القهقري، او يردون عليه الحوض فيختلجون بما احدثوا

٣٢

بعده. وفي بعض الاحاديث: (فيقال لي: إنهم لم يزالوا مرتدين على اعقابهم منذ فارقتهم)(١)

واخبرهم انهم يتبعون سنن من قبلهم شبراً بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعوهم.

و (الخلافة) امر كانت تحدثه به نفسه الشريفة، ويشير اليها انها ستكون ملكا عضوضا بعد الثلاثين سنة. وثبت انه قال: (هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش). وقال: ( من لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية). وقال... وقال... الى مالا يحصى.

وسيرته والأحاديث عنه وما اكثرها تشهد شهادة قطعية على ما كان من اختلاف امته، وعلى أن الخلافة والامامة من اولى القضايا التي كانت نصب عينيه.

٢ - هل وضع حلا للخلاف؟

إذن كان صلى الله عليه وآله وسلم عالما بأن الدهر سيقلب لأمته صفحة مملوءة بالحوادث والفتن، والخلافات والمحن، وان لابد لهم من خلافة وإمارة.

______________________________

(١) صحيح مسلم ٨: ١٠٧ وغيره

٣٣

فلا بد ان نفرض انه قد وضع حلا مرضيا لهذا الامر يكون حدا للمنازعات وقاعدة يرجع اليها الناس، لتكون حجة على المنافقين والمعاندين، وسلاحا للمؤمنين، ما دمنا نعتقد انه نبي مرسل جاء بشيرا ونذيرا للعالمين الى يوم يبعثون، فلم يكن دينه خاصا بعصره، ليترك امته من بعده سدى من غير راع او طريقة يتبعونها، مع علمه بافتراق امته في ذلك.

ولا يصح من حاكم عادل ان يحكم بنجاة فرقة واحدة على الصدفة من دون بيان وحجة تكون سببا لنجاتهم باتباعها، وسببا لهلاك باقي الفرق بتركها.

لنفرض ان الحديث والتأريخ لم يسجلا لنا الحل الذي نطمئن اليه، فهل يصح ان نصدقهما بهذا الاهمال، ونوافقهما على ان النبي ترك امته سدى، وفي فوضوية لاحد لها يختلفون ويتضاربون، ثم يتقاتلون، وتراق آلاف آلاف الدماء المسلمة، ساكتا عن اعظم امر مُني به الاسلام والمسلمون، مع انه كان على علم به؟.

ولو كنا نصدقها مستسلمين لكذبنا عقولنا وتفكيرنا، فان الاسلام جاء رحمة لينقذ العالم الاسلامي من الهمجية والجاهلية الأولى ، فكيف يقر تلك المجازر البشرية في اقصى حدودها، تلك المجازر التي لم يحدث التأريخ عن مثلها ولا عن بعض منها في عصر الجاهليين.

٣٤

فما علينا إلا ان نتهم التأريخ والحديث بالكتمان وتشويه الحقيقة بقصد او بغير قصد. ولئن لم يكن محمد نبياً مرسلا يعلم عن وحي ويحكم بوحي فليكن على الاقل اعظم سياسي في العالم كله لا اعظم منه، فكيف يخفى عليه مثل هذا الأمر العظيم لصلاح الأمة بل العالم بأسره مدى الدهر، او يعلم به ولا يضع له حدا فاصلا؟.

وهل يرضى لنفسه عاقل يتولى شئون بلده فضلاً عن امة، ان يتركها تحت رحمة الاهواء واختلاف الآراء ولو لأمد محدود، وهو قادر على اصلاحها او التنويه عن اصلاحها، إلا ان يكون مسلوبا من كل رحمة وانسانية؟ حاشا نبينا الاكرم من جاء رحمة للعالمين ومتمما لمكارم الاخلاق وخاتما للنبيين! وقد قال الله تعالى على لسانه بعد حجة الوداع: (اليوم اكملت لكم دينكم).

وقد وجدناه نفسه لا يترك حتى المدينة المنورة، اذا خرج لحرب او غزاة ، من غير امير يخلفه عليها، فكيف نصدق عنه انه اهمل امر هذه الامة العظيمة بعده الى اخر الدهر، من دون وضع قاعدة يرجعون اليها او تعيين خلف بعده.

٣ - ايكال الامر الى اختيار الأمة

لنختار الان لحل هذه المشكلة انه صلى الله عليه واله

٣٥

وسلم أوكل امته الى اختيارهم، او الى اختيار اهل الحل والعقد منهم خاصة في تقرير شئون الخلافة. فهل يصح هذا الفرض للحل؟.

اما انا ايها القارئ لا استطيع ان اقتنع بأن هذا الفرض يكون حلا مرضيا لهذه المشكلة، ولعلك انت ترى مع من يرى ان تعيين الرئيس بالانتخاب من ارقى التشريعات الحديثة وقد سبق اليه الاسلام، فهذا من مفاخره.

فوجب علينا ان نبحث هذه الناحية العلمية بدقة، واملي كما هو مفروض انك تعطيني من نفسك النصف وتفكر معي تفكيرا حرا، بعيدا عن تأثير العاطفة التي تقضي علينا ان نتمسك بهذه المفخرة للاسلام.

ولا ينبغي لنا ان نحاول هذه المحاولة، فربما نلصق به ما ليس له، ولعلها لا تثبت للبحث مفخرة يمتدح بها، فنكون قد نقضنا غرضنا الذي نريده من إثبات الفضيلة للاسلام بالسبق الى هذا التشريع.

والذي ادعيه الآن ان إرجاع الأمة مدى الدهر الى اختيارها في تعيين الرئيس لها هو عين الفوضوية التي اردنا التخلص منها في البحث السابق، وليس معناه إلا إلقاء الأمة في اعظم هوة من الخلاف لاحد لها ولا قعر.

٣٦

وسر ذلك ان الناس مختلفون متباينون، ليس بينهم اثنان يتفقان في فكر أو عاطفة أو ذوق أو عادة أو عمل، حتى التوءمين، إلا من التشابه القريب أو البعيد من غير اتفاق حقيقي، كاختلافهم في أجسامهم وسحنات وجوههم، وتشابههم في ذلك. بل الناس مختلفون في كل شيء من دقائق أجسادهم وأخلاقهم ونفوسهم وعاداتهم فلم يتفق لشخصين أن يتفقا تحقيقا حتى في بصمة الأصابع، حتى قيل ان كل فرد من الانسان نوع برأسه.

وعليه، فيستحيل أن تتفق أهل بلدة واحدة على حكم واحد أو عمل واحد، فضلا عن أمة كبيرة كالأمة الأسلامية على توالي الزمان. وبالأخص اذا كان الحكم مسرحا للعواطف والأغراض الشخصية والتحيزات كالحكم في الزعامة العامة.

ومن هذا نستنتج ان الرأي العام الحقيقي غير موجود أبدا، بل يستحيل وجوده لأية امة في العالم، ومن خطل الرأي أن يطلب الانسان تكوين الرأي العام، وتوحيد اختيار الأمة بأسرها لأمر من الأمور، على ان محاولة ذلك يستحيل أن تسلم من منازعات دموية واضطرابات شديدة اذا كان تكوينه يراد لأمر ذي شأن، إلا أن يكون هنا حاكم يفصل بين المتنازعين بما له من القوة القاهرة لمخالفيه، كما هو موجود فعلا في الانتخابات الجارية عند الأمم المتمدنة، فان تحكيم الأكثرية ذات القوة الطبيعة خير علاج على منازعاتهم في الامور العامة.

٣٧

وتحكيم الاكثرية في الحقيقة فرار من محاولة تكوين الرأي العام الحقيقي، بل هو اعتراف باستحالته، ومع ذلك لم يستغن غالبا الرجوع الى الأكثرية ليكون لها الفصل عن ملطفات ومؤثرات اخرى تنضم الى قوته الطبيعية، أهمها سلطة الحكومة والقانون العام القاضي بتحكيم الأكثرية الذي أصبح بحكم التقليد لا مسيطرا على معتنقيه.

وبتوسيط أمثال هذه الأمور تمكن التسوية بين الأكثرية على راي متوسط، وإلا فالاتفاق الحقيقي على تفاصيل الأمور يستحيل حتى في الأكثرية.

وهذا الرجوع الى الأكثرية اخر ما توصل اليه الأنسان بعد العجز عن تحصيل الاتفاق الحقيقي وبعد أن فشل البشر على ممر تلك القرون الطويلة التي انهكته بالتجارب القاسية، فوجد ذلك خير ضمان للسلام في الأمم. وليس معنى ذلك ان الأكثرية لا تخطأ، كيف والجماعات دائما تفكر بأحط فكرة فيها، ومن مزاياها انها خاضعة لسلطان العاطفة، فهي علاج لفض المنازعات ليس إلا، لا لضمان تحصيل الرأي المصيب.

وبهذا البيان نخرج الى فكرة ان تعيين الرئيس أو غيره بالانتخاب الذي هو من أرقى التشريعات الحديثة معناه الرجوع الى الأكثرية دائما التي أصبحت من التقاليد المرعية عند الناس في هذا العصر، وهذا لم يسبق اليه الاسلام، ومن يدعي ان النبي صلى الله عليه وآله أوكل أمته الى اختيارهم

٣٨

في تقرير شئون الخلافة لا يدعي انه شرع قانون الاكثرية لأنه ليس لهذه الدعوى شاهد في زبر الأولين، على انه كما ذكرنا لا يسلم من الخطأ، فلا يسوغ لنا أن ننسبه الى من لا ينطق إلا عن وحي ولا يريد إلا الحق.

وإذا ادعى انه أوكل الأمر الى اتفاق أمته واختيارهم جميعا، فمن خطل الرأي، إلا اذا جوزنا عليه ان يطلب المستحيل او تعمد ايقاع أمته في منازعات دائمية تفضي الى ازهاق النفوس واضعاف القوى المادية والأدبية، ثم الى ضعف كلمة الاسلام في الارض.

فتلخص ان هذا التشريع أعني تشريع تعيين الامام بالانتخاب لا يصح لنا ان ننسبه الى منقذ البشرية من الضلالة الى الهدى الذي لا ينطق إلا عن وحي، سواء فسرناه بالأكثرية او باتفاق الجميع.

***

ومهما حاولنا اصلاح هذا التشريع بتفسير الأمة بأهل الحل والعقد منها خاصة، فلا اجد هذه المحاولة تسلم من ذلك النقص البارز فان اهل الحل والعقد وكبار الأمة هم بؤرة الخلاف والنزاع. فان الخاصة مع اختلاف نفوسهم وتباين نزعاتهم كسائر الناس، لا ينفكون عن تحيزات فيهم اعظم منها في غيرهم. ويندر ان يتجردوا من اهواء نفسية واغراض

٣٩

شخصية، تجعل كل فرد يشرئب الى هذا المنصب الرفيع ما هيئ له ووجد مجالا لأرتقائه، ولو عن غير قصد، بل عن رغبة نفسية كامنة هي غريزية لا يفطن لها صاحبها او لا يعدها باطلا وخروجا عن محجة الصواب. بل حب النفس قد يحمله على الأعتقاد بأن زعامته اصلح للأمة واجدى، فيوحي الهوى للنفس البرهان المقنع على صحة رأيه.

وللمعتقد ان يعتقد ان الخليفة ابا بكر تفطن الى سوء عواقب هذا التشريع، فأسرع الى تعيين الخليفة من بعده، بالرغم على جدة هذا التشريع الذي به كان خليفة، وعلى تركزه في النفوس تتوقف صحة خلافته. كيف لا وقد شاهد هو الموقف في بيعته يوم السقيفة، وكان أدق من سم الخياط، مع غفلة الناس يومئذ عن الامر، وانشغالهم بفاجعة نبيهم.

وهكذا حذا حذوه خليفته، فاخترع طريقة الشورى من ستة اشخاص، وهي تبعد كل البعد عن قاعدة الرجوع الى اختيار اهل الحل والعقد، على ان وجدنا هؤلاء وهم ستة لا غير لم يتفقوا على رأي واحد، فلعبت دورها التحيزات والعواطف، فصغى رجل لضغنه، ومال الاخر لصهره، على حد تعبير الامام علي بن ابي طالب.

ولا شك لم يخف على الخليفة عمر استحالة حتى اتفاق الجماعة الصغيرة، فحكم فيها الأكثرية، وعند التساوي فالكفة الراجحة التي فيها عبد الرحمن بن عوف. ومع ذلك

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

بنو الحارث بن فهر بن مالك

بنو عامر بن لؤى

بنو سهم بن عمرو

بنو جمح بن عمرو

بنو أنمار بن بغيض

بنو تيم بن مرة بن كعب

بنو عدي بن كعب الخ.

ولكن الفعل والتأثير كان للقبائل المهمة، والزعماء المهمين، وهم بضع قبائل، والباقون تبعٌ لهم الى حد كبير فقد وصف ابن هشام اجتماع دار الندوة الذي بحث فيه قادة القبائل ( مشكلة نبوة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ) فقال في 2 / 331: وقد اجتمع فيها أشراف قريش:

من بني عبد شمس: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب.

ومن بني نوفل بن عبد مناف: طعيمة بن عدي، وجبير بن مطعم، والحارث بن عامر بن نوفل.

ومن بني عبد الدار بن قصي: النضر بن الحارث بن كلدة.

ومن بني أسد بن عبد العزى: أبوالبختري بن هشام، وزمعة بن الأسود بن المطلب، وحكيم بن حزام.

ومن بني مخزوم: أبو جهل ابن هشام.

ومن بني سهم: نبيه ومنبه ابنا الحجاج.

ومن بني جمح: أمية بن خلف.

ومن كان معهم وغيرهم ممن لا يعد من قريش، فقال بعضهم لبعض:

إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأياً.

١٤١

قال: فتشاوروا ثم قال قائل منهم: إحبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه باباً، ثم تربصوا به...الخ.

- وقال في: 2 / 488 مسمياً المنفقين على جيش المشركين في بدر:

وكان المطعمون من قريش ثم من بني هاشم بن عبد مناف: العباس بن عبد المطلب بن هاشم.

ومن بني عبد شمس بن عبد مناف: عتبة بن ربيعة بن عبد شمس.

ومن بني نوفل بن عبد مناف: الحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، يعتقبان ذلك.

ومن بني أسد بن عبد العزى: أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد، وحكيم بن حزام بن خويلد بن أسد، يعتقبان ذلك.

ومن بني عبد الدار بن قصي: النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار. انتهى.

واليك هذا الترتيب الذي رتبه الخليفة عمر لقبائل قريش، في سجل الدولة لتوزيع العطاءات، فإنه يدل على تركيبة قبائلها، وتميز بني هاشم عليهم:

- قال البيهقي في سننه: 6 / 364:

عن الشافعي وغيره، أن عمر رضي‌الله‌عنه لما دوَّن الدواوين قال: إبدأ ببني هاشم، ثم قال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم وبني المطلب فوضع الديوان على ذلك، وأعطاهم عطاء القبيلة الواحدة.

ثم استوت له عبد شمس ونوفل في جذم النسب، فقال: عبد شمس إخوة النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه وأمه دون نوفل، فقدمهم، ثم دعا بني نوفل يتلونهم.

ثم استوت له عبد العزى وعبد الدار، فقال في بني أسد بن عبد العزى أصهار النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم أنهم من المطيبين فقدمهم على بني عبد الدار، ثم دعا بني عبد الدار يتلونهم.

١٤٢

ثم انفردت له زهرة فدعاها تلو عبد الدار.

ثم استوت له تيمٌ ومخزوم، فقال في بني تيم إنهم من حلف الفضول والمطيبين وفيهما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل ذكر سابقةً، وقيل ذكر صهراً فقدمهم على مخزوم.

ثم دعا مخزوم يتلونهم.

ثم استوت له سهمٌ وجمحٌ وعديُّ بن كعب، فقيل له إبدأ بعدي فقال بل أقر نفسي حيث كنت، فإن الاسلام دخل وأمرنا وأمر بني سهم واحد، ولكن انظروا بني جمح وسهم، فقيل قدم بني جمح.

ثم دعا بني سهم، وكان ديوان عدي وسهم مختلطاً كالدعوة الواحدة، فلما خلصت اليه دعوته كبر تكبيرة عالية، ثم قال: الحمد لله الذى أوصل اليَّ حظي من رسوله.

ثم دعا بني عامر بن لؤي، قال الشافعي: فقال بعضهم إن أبا عبيدة بن عبد الله بن الجراح الفهري لما رأى من تقدم عليه قال: أكل هؤلاء تدعو أمامي؟!

فقال: يا أبا عبيدة، إصبر كما صبرتُ أو كلم قومك فمن قدمك منهم على نفسه لم أمنعه، فأما أنا وبنو عدي فنقدمك إن أحببت على أنفسنا.

قال فقدم معاوية بعدُ بني الحارث بن فهر، فصل بهم بين بني عبد مناف وأسد بن عبد العزى.

وشجر بين بني سهم وعدي شيء في زمان المهدي فافترقوا، فأمر المهدي ببني عدي فقدموا على سهم وجمح، للسابقة فيهم.

* *

وقد اعترف الجميع بأن فرع هاشم كانوا متميزين على بقية الفروع في فكرهم وسلوكهم، متفوقين في فعاليتهم وقيمهم وأن جمهور القبائل والملوك كانوا

١٤٣

يحترمونهم احتراماً خاصاً حتى حسدهم زعماء قريش، وتحالفوا ضدهم من أيام هاشم وعبد المطلب.

فقد رتب هاشم ( رحلة الصيف ) الى الشام وفلسطين ومصر لقبائل قريش كلها، فسافر في الصحاري والدول، وفاوض رؤساء القبائل، والملوك، الذين تمر في مناطقهم قوافل قريش، وعقد معهم جميعاً معاهداتٍ بعدم الغارة على قوافل قريش وضمان سلامتها.

وقد فرحت قبائل قريش بهذا الإنجاز، وبادرت الى الإستفادة منه، ولكنها حسدت هاشماً، وتمنى زعماؤها لو أن ذلك تم على يدهم، وكان فخره لهم.

وقد توفي هاشم مبكراً في إحدى سفراته في أرض غزة، في ظروف من حق الباحث أن يشك فيها!

ولكن بيت هاشم لم ينطفئ بعده، فسرعان ماظهر ولده عبد المطلب، وساد في قومه، وواصل مآثر أبيه، فرتب لقريش رحلة الشتاء الى اليمن، وعقد معاهداتٍ لحماية قوافلها مع كل القبائل التي تمر عليها ومع ملك اليمن، وفاز بفخرها كما فاز أبوه بفخر رحلة الصيف.

* *

وعلى الصعيد المعنوي، كانت قبائل قريش ترى أن بني هاشم وعبد المطلب يباهون دائماً بانتمائهم الى إسماعيل، واتباعهم لملة ابراهيم، كأنهم وحدهم أبناء إسماعيل وابراهيم عليهما‌السلام .

وتفاقم الأمر عندما أخذ عبد المطلب يدعي الإلهام عن طريق الرؤيا الصادقة، وأخبرهم بأن الله تعالى أمره بحفر زمزم التي جفت وانقرضت من قديم، فحفرها ونبع ماؤها بإذن الله تعالى، ووجد فيها غزالين من ذهب، فزين بذهبهما باب الكعبة ففاز بمأثرةٍ جديدة وصار - بسبب شحة الماء في مكة - ساقي الحرم والحجيح!

١٤٤

ثم طمأن الناس عند غزو الحبشة للكعبة، بأن الجيش لن يصل اليها، وأن الله تعالى سيتولى دفعهم، فصدقت نبوءته، وأرسل الله عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول.

ثم وضع عبد المطلب للناس مراسم وسنناً، كأنه نبي أو ممهد لنبي، فجعل الطواف سبعاً وكان بعض العرب يطوفون بالبيت عريانين لأن ثيابهم ليست حلالاً، فحرم عبد المطلب ذلك. ونهى عن قتل الموؤودة. وأوجب الوفاء بالنذر، وتعظيم الاشهر الحرم. وحرم الخمر. وحرم الزنا ووضع الحد عليه، ونفى البغايا ذوات الرايات الى خارج مكة. وحرم نكاح المحارم. وأوجب قطع يد السارق. وشدد على القتل، وجعل ديته مئة من الإبل.

وقد عظمت مكانة عبد المطلب في قريش وفي قبائل العرب، وكان زعماء قريش يأكلهم الحسد منه! حتى جروه مرتين الى المنافرة والإحتكام الى الكهان فنصره الله عليهم بكرامة جديدة، وتعاظمت مكانته أكثر!

ولعل أكثر ما أثار زعماء قريش في آخر أيام عبد المطلب، أنه ادعى أنه مثل جده ابراهيم عليه‌السلام ، ونذر أن يذبح أحد أولاده قرباناً لرب الكعبة الخ.

وما أن استراح زعماء قريش من عبد المطلب، حتى ظهر ولده أبو طالب وساد في قومه وفي قريش والعرب، وأخذ مكانة أبيه وجده، وواصل سيرة أبيه عبد المطلب ومقولاته.

وفي أيام أبي طالب وقعت المصيبة على زعماء قريش عندما ادعى ابن أخيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النبوة، وطلب منهم الإيمان به وإطاعته!

وزاد من خوفهم أن عدداً من بني هاشم وبني المطلب آمنوا بنبوته، وأعلن عمه أبو طالب حمايته لابن أخيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليبلغ رسالة ربه بكامل حريته، وهدد قريشاً بالحرب إن هي مست منه شعرة، ووقف في وجه مؤامراتها، وأطلق قصائده في

١٤٥

فضح زعماءها فسارت بشعره الركبان يمدح فيه محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويهجو زعماء قريش حتى أنه سمى زعيم مخزوم أبا الحكم ( أحيمق مخزوم ) كما سماه ابن أخيه محمد ( أبا جهل )!!

ونشط الزعماء القرشيون في مقاومة النبوة بأنواع الإغراءات والتهديدات لأبي طالب وابن أخيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ففشلوا!

ثم اتخذوا قراراً باضطهاد المسلمين الذين تطالهم أيديهم، فهرب أكثرهم الى الحبشة وفشل زعماء قريش!

ثم اتخذوا قراراً بالإجماع وضموا اليهم بني كنانة، بعزل كل بني هاشم ومقاطعتهم مقاطعة تامة شاملة، وحصروهم في شعبهم ثلاث سنوات أو أربع فأفشل الله محاصرتهم بمعجزة!

وما أن فقد بنو هاشم رئيسهم أبا طالب، حتى اتحد زعماء قريش قراراً بالإجماع بقتل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الذي بقي بزعمهم بلا حامٍ ولا ناصر فأفشل الله كيدهم ونقل رسوله الى المدينة التي أسلم أكثر أهلها!

وحاول القرشيون أن يضغطوا على أهل المدينة بالإغراء والوعيد، واليهود ولكنهم فشلوا، لأن المدينة صارت في يد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي تقع على طريق شريانهم التجاري، وتهددهم بقطع تجارتهم مع الشام ومنطقتها!

فقرروا دخول الحرب مع ابن بني هاشم، وحاربوه في بدر، وأحد، والخندق ففشلوا!

وحاربوه باليهود، واستنصروا عليه بالفرس والروم ففشلوا!

وما هو إلا أن فاجأهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السنة الثامنة من هجرته ودخل عليهم عاصمتهم مكة، بجيش من جنود الله لا قبل لهم به. فاضطروا أن يعلنوا إلقاء سلاحهم، والتسليم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !

١٤٦

وقام أهل مكة سماطين ينظرون الى دخول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والى جيشه ..

وتقدم براية الفتح بين يديه شابٌّ أنصاري من قبيلة الخزرج اليمانية، هو عبد الله بن رواحة، وهو يقول للفراعنة:

خلُّوا بني الكفار عن سبيلِهِ

فاليوم نضربْكم على تنزيلهِ

ضرباً يزيل الهام عن مَقِيلِهِ

ويذهلُ الخليلَ عن خليله

تالله لا يحكم فينا ابن الدعي (2)

فقال عمر بن الخطاب: يابن رواحة، أفي حرم الله وبين يدي رسول الله، تقول الشعر!!

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مهْ يا عمر، فو الذي نفسي بيده، لكلامه هذا أشد عليهم من وقع النبل )! ( البيهقي في سننه: 10 / 228، ونحوه الترمذي: 4 / 217، والذهبي في سير أعلام النبلاء: 1 / 235 )

فعمر يريد أن يخفف على زعماء قريش وقع هزيمتهم، ولا يتحداهم في عاصمتهم ولا ننسى أن عمر من قبيلة عدي الصغيرة، وأنه نشأ على احترام زعماء قريش وإكبارهم.

ولكن الرؤية النبوية أن هؤلاء الفراعنة لا يفهمون إلا لغة السيوف والسهام، وأن عمل عبد الله بن رواحة عملٌ صحيحٌ، وقيمته عاليةٌ عند الله تعالى، لأنه أشد على أعداء الله من وقع النبل!!

* *

وأعلن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمان لقريش، وجمع زعماءهم في المسجد الحرام وسيوف جنود الله فوق رؤوسهم وشرح لهم تكبرهم وتجبرهم وتكذيبهم لآيات الله ومعجزاته، وعداءهم لله ورسوله، واضطهادهم لبني هاشم والمسلمين، وحروبهم ومكائدهم ضد الإسلام ورسوله ..

١٤٧

- قال الطبري في تاريخه: 2 / 337:

عن قتادة السدوسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام قائماً حين وقف على باب الكعبة ثم قال:

لا إله الا إلله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.

ألا كل مأثرةٍ أو دمٍ أو مالٍ يدَّعى، فهو تحت قدميَّ هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ...

يا معشر قريش: إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس من آدم وآدم خلق من تراب. ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) الآية.

يا معشر قريش ويا أهل مكة: ماترون أني فاعلٌ بكم؟!

قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم.

ثم قال: إذهبوا فأنتم الطلقاء.

فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان الله أمكنه من رقابهم عنوةً، وكانوا له فَيْأً، فبذلك يسمى أهل مكة الطلقاء. انتهى.

لقد خيرهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين إعلان إسلامهم أو القتل: فأعلنوا إسلامهم، فقال لهم: إذهبوا فأنتم الطلقاء، وذلك يعني أنه منَّ عليهم بحياتهم، مع أنهم يستحقون أن يتخذهم عبيداً، أو يقتلهم!!

ويعني أن إعلان إسلامهم الشكلي، لم يرفع جواز استرقاقهم أو قتلهم!

* *

ومما صادفته في تصفحي، ما ارتكبه الشيخ ناصر الدين الألباني من تعصبٍ مفضوح للقرشيين، حيث ضعف هذا الحديث! فقال في سلسلة أحاديثه الضعيفة

١٤٨

3 / 307 برقم 1163: ضعيف. رواه ابن إسحاق في السيرة 4 / 31 - 32، وعنه الطبري في التاريخ 3 / 120، ونقله الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 4 / 300 - 301، ساكتاً عليه. وهذا سندٌ ضعيف مرسل، لأن شيخ ابن إسحاق فيه لم يسمَّ، فهو مجهول. ثم هو ليس صحابياً، لأن ابن إسحاق لم يدرك أحداً من الصحابة، بل هو يروي عن التابعين وأقرانه، فهو مرسل، أو معضل. انتهى.

وكأن هذا المحدث لم يطلع على وجود هذا الحديث ومؤيداته في المصادر الأخرى، ولم ير المحدثين والفقهاء وهم يرسلونه إرسال المسلمات ..

وما أدري هل هو جهلٌ بالتاريخ والحديث الى هذا الحد أم حبٌّ للقرشيين ومحاولةٌ لتخليصهم من صفة الرق الشرعية للرسول وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

فإن مسألة الطلقاء ثابتة مشهورة عند جميع الفرق، واسم ( الطلقاء ) كالعلم لأكثر قريش، وهو كثيرٌ في مصادر الحديث، وقد دخلت أحكامه في فقه المذاهب.

- فقد روى البخارى في صحيحه: 5 / 105 - 106

قال لما كان يوم حنين التقى هوازن ومع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف والطلقاء، فأدبروا ...

- وفي مسلم: 3 / 106: ومعه الطلقاء فأدبروا عنه حتى بقي وحده!!

ونحوه في: 5 / 196 ونحوه في مسند أحمد: 3 / 190 و 279

والصحيح أنه لم يثبت معه إلا بنو هاشم.

- وفي مسند أحمد: 4 / 363: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض، الى يوم القيامة.

وقد صححه الحاكم في المستدرك: 4 / 80، وقال عنه في مجمع الزوائد: 10 / 15:

رواه أحمد والطبراني بأسانيد، وأحد أسانيد الطبراني رجاله رجال الصحيح، وقد جوده رضي‌الله‌عنه وعنا، فإنه رواه عن الأعمش عن موسى بن عبد الله بن يزيد بن عبد الرحمن بن هلال العبسي، عن جرير وموسى بن عبد الله بن هلال العبسي.

١٤٩

- وقال الشافعي في كتاب الأم: 7 / 382

قال الأوزاعي: فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة، فخلى بين المهاجرين وأرضهم ودورهم بمكة، ولم يجعلها فيئاً.

قال أبو يوسف رحمه‌الله : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عفا عن مكة وأهلها وقال:

من أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ونهى عن القتل إلا نفراً قد سماهم، إلا أن يقاتل أحدٌ فيقتل، وقال لهم حين اجتمعوا في المسجد: ما ترون أني صانعٌ بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم.

قال: إذهبوا فأنتم الطلقاء. ولم يجعل شيئاً قليلاً ولا كثيراً من متاعهم فيئاً. وقد أخبرتك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في هذا كغيره، فهذا من ذلك، وتفهَّم فيما أتاك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لذلك وجوهاً ومعاني. انتهى.

وراجع أيضاً مغني ابن قدامة: 7 / 321، ومبسوط السرخسي: 10 / 39، ومسند أحمد: 3 / 279، وسنن البيهقي: 6 / 306، و: 8 / 266 و: 9 / 118، وكنز العمال: 12 / 86.

- وفي كنز العمال: 5 / 735: قال لهم عمر: إن هذا الأمر لا يصلح للطلقاء ولا لأبناء الطلقاء، فإن اختلفتم فلا تظنوا عبد الله بن أبي ربيعة عنكم غافلاً - ابن سعد. انتهى.

وكذلك الأمر في مصادرنا:

- ففي نهج البلاغة شرح الشيخ محمد عبده: 3 / 30 في جواب علي عليه‌السلام لمعاوية:

وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلانٌ وفلانٌ، فذكرت أمراً إن تم اعتزلك كله، وإن نقص لم تلحقك ثلمته.

وما أنت والفاضل والمفضول والسائس والمسوس؟! وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين، وترتيب درجاتهم، وتعريف طبقاتهم.

هيهات، لقد حنَّ قدحٌ ليس منها، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها.

ألا تربع أيها الإنسان على ظلعك، وتعرف قصور ذرعك، وتتأخر حيث أخرك

١٥٠

القدر، فما عليك غلبة المغلوب، ولا لك ظفر الظافر وإنك لذهاب في التيه رواغ عن القصد.

- وفي الكافي: 3 / 512

من أسلم طوعاً تركت أرضه في يده وما أخذ بالسيف فذلك الى الإمام يقبِّله بالذي يرى كما صنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخيبر وقال: إن أهل الطائف أسلموا وجعلوا عليهم العشر ونصف العشر، وإن أهل مكة دخلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنوةً فكانوا أسراء في يده، فأعتقهم وقال: إذهبوا فأنتم الطلقاء.

قريش بعد فتح مكة

ماذا فعلت قريش بعد أن اضطر بقية فراعنتها وألوف الطلقاء من أتباعهم الى الدخول في الإسلام؟؟

من الطبيعي أن مشاعر الغيظ والكبرياء القرشي بقيت محتدمةً في قلوب أكثرهم إن لم نقل كلهم ولكن في المقابل ظهر فيهم منطقٌ يقول: إن دولة محمد دولتنا فمحمد أخٌ كريمٌ، وابن أخٍ كريم، ودولته دولة قريش، وعزه عزها وفخره فخرها، فهو مهما كان ابن قريش الرحيم، ودولته أوسعُ من دولة قريش وأقوى، والمجال أمام زعمائها مفتوحٌ من داخل هذه الدولة، فلماذا نحاربها، ولماذا نتركها بأيدي الغرباء من الأوس والخزرج اليمانيين!.

أما مسألة من يرث دولة محمد بعده، فهي مسألةٌ قابلةٌ للعلاج، وهي على كل حال مسألةٌ قرشيةٌ داخلية!!

من البديهي عند الباحث أن يفهم أن قريشاً وجهت جهودها لمرحلة ما بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن الهدف الأهم عندها كان: منع محمد أن يرتب الأمر من بعده لبني هاشم، ويجمع لهم بين النبوة والخلافة على حد تعبير قريش!

فالنبوة لبني هاشم، ولكن خلافة محمد يجب أن تكون لقريش غير بني هاشم!

١٥١

لكن رغم وجود هذا المنطق، فإن النصوص واعترافات بعض زعمائهم تدل على أنهم كانوا يعملون على كل الجبهات الممكنة! وأن أكثريتهم كانوا يائسين من أن يشركهم محمد في حكم دولته، لأنه يعمل بجدٍّ لتركيز حكم عترته من بعده ..

لذلك اتجه تفكيرهم بعد فتح مكة الى اغتيال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسرعان ما حاولوا تنفيذ ذلك في حنين ..!!

إن فراعنة قريش كفراعنة اليهود أبناء عمهم، فهم لا يعرفون الوفاء، بل كأنهم إذا لم يغدروا بمن عفا عنهم وأحسن اليهم، يصابون بالصداع!!

لقد اعلنوا إسلامهم، وادعوا أنهم ذهبوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليساعدوه في حربه مع قبيلتي هوازن وغطفان، وكان عدد جيشهم ألفين، وعدد جيش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي فتح مكة عشرة آلاف، وعندما التقوا بهوازن في حنين انهزموا من أول رشق سهام، وسببوا الهزيمة في صفوف المسلمين فانهزموا جميعاً، كما حدث في أحد!

وثبت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعه بنو هاشم فقط، كالعادة، وقاتلوا بشدةٍ مع مئة رجعوا اليهم مئة من الفارين حتى ردوا الحملة، ثم رجع المسلمون الفارون وكتب الله النصر.

وفي أثناء هزيمة المسلمين، قامت قريش بعدة محاولاتٍ لقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !

نكتفي منها بذكر ما نقله زعيم بني عبد الدار النضير بن الحارث، الذي سيأتي ذكره في تفسير الآية الثالثة! ونقله عنه محب له ولقريش ولبني أمية هو ابن كثير فقال في سيرته: 3 / 691:

كان النضير بن الحارث بن كلدة من أجمل الناس، فكان يقول: الحمد لله الذي من علينا بالإسلام، ومن علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولم نمت على ما مات عليه الآباء، وقتل عليه الإخوة وبنو العم.

ثم ذكر عداوته للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه خرج مع قومه من قريش الى حنين، وهم على دينهم بعد، قال: ونحن نريد إن كانت دائرة على محمد أن نغير عليه، فلم يمكنا ذلك.

١٥٢

فلما صار بالجعرانة فوالله إني لعلى ما أنا عليه، إن شعرت إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنضير؟

قلت: لبيك.

قال: هل لك الى خير مما أردت يوم حنين مما حال الله بينك وبينه؟

قال: فأقبلت إليه سريعاً.

فقال: قد آن لك أن تبصر ما كنت فيه توضع!

قلت: قد أدري أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئاً، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم زده ثباتاً.

قال النضير: فوالذي بعثه بالحق لكأن قلبي حجرٌ ثباتاً في الدين، وتبصرة بالحق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي هداه. انتهى.

وأنت تلاحظ أن هذه الكلام يتضمن إقراراً من هذا الزعيم القرشي على نفسه، وإقرار الإنسان على نفسه حجة وأنه يتضمن ادعاء منه بإيمانه بالله تعالى، فقد ذكر أنه تشهده الشهادة الأولى فقط، ولم يذكر الثانية!

ولكن الدعوى لا تثبت بادعاء صاحبها بدون شهادة غيره!

ومهما يكن فقد اعترف زعيم بني عبد الدار أصحاب راية قريش التي يصدر حاملها الأوامر لألفي مسلح في حنين، بأن إعلان إسلامهم في مكة كان كاذباً، وبأنه كل زعماء قريش كانوا متفقين على قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنهم حاولوا محاولاتٍ في حنين ولم يتوفقوا فقد أحبط الله تعالى خططهم، وكشف لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نواياهم!!

بل تدل أحاديث السيرة، على أن زعماء قريش لم يملكوا أنفسهم عند انهزام المسلمين في حنين في أول الأمر، فأظهروا كفرهم الراسخ، وفضحوا أنفسهم!

- ففي سيرة ابن هشام: 4 / 46

قال ابن اسحاق: فلما انهزم الناس، ورأى من كان مع رسول الله صلى الله عليه

١٥٣

وسلم من جفاة أهل مكة الهزيمة، تكلم رجالٌ منهم بما في أنفسهم من الضغن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وإن الأزلام لَمَعَهُ في كنانته! وصرخ جبلة بن الحنبل - قال ابن هشام كلدة بن الحنبل - وهو مع أخيه صفوان بن أمية مشركٌ في المدة التي جعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا بطل السحر اليوم!

قال ابن اسحاق: وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة أخو بني عبد الدار: قلت اليوم أدرك ثأري من محمد، وكان أبوه قتل يوم أحد، اليوم أقتل محمداً، قال:

فأدرت برسول الله لأقتله، فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي فلم أطلق ذاك، وعلمت أنه ممنوعٌ مني!! انتهى.

وهذا آخر من أصحاب راية جيش قريش المسلمة، يعترف بأنه في حنين عند الهزيمة أو بعدها ( دار ) مرة أو مراتٍ حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليقتله!

إن الناظر في مقومات شخصيات زعماء قريش، وتفكيرهم واهتماماتهم، يصل الى أن قناعة بأن عنادهم بلغ حداً أنهم اتخذوا قراراً بأن يكذبوا بكل الآيات والمعجزات التي يأتيهم بها محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويكفروا بكل القيم والأعراف الإنسانية التي يدعو اليها ويعاملهم بها وأن لا يدخلوا في دينه إلا في حالتين لا ثالثة لهما:

إذا كان السيف فوق رؤوسهم!

أو صارت دولة محمد وسلطانه بأيديهم!

لقد حاربوا هذا الدين ونبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكل الوسائل حتى عجزوا وانهزموا ..

ثم واصلوا تآمرهم ومحاولاتهم اغتيال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى عجزوا ..

ثم جاؤوا يشترطون الشروط مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليأخذوا سهماً من دولته فعجزوا ..

ثم جاؤوا يدعون أنهم أصحاب الحق في دولة نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنه من قبائل قريش!!!

- قال في مناقب آل أبي طالب: 2 / 239

قال الشريف المرتضى في تنزيه الأنبياء: إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما نص على أمير المؤمنين

١٥٤

بالإمامة في ابتداء الأمر، جاءه قوم من قريش وقالوا له: يا رسول الله إن الناس قريبوا عهد بالإسلام لا يرضون أن تكون النبوة فيك والإمامة في ابن عمك علي بن أبي طالب فلو عدلت به الى غيره، لكان أولى!

فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما فعلت ذلك لرأيي فأتخير فيه، لكن الله تعالى أمرني به وفرضه عليَّ.

فقالوا له: فإذا لم تفعل ذلك مخافة الخلاف على ربك، فأشرك معه في الخلافة رجلاً من قريش تركن الناس اليه، ليتم لك أمرك، ولا تخالف الناس عليك. فنزلت الآية: لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين .

عبد العظيم الحسني عن الصادق عليه‌السلام في خبر: قال رجل من بني عدي اجتمعت اليَّ قريش، فأتينا النبي فقالوا: يا رسول الله إنا تركنا عبادة الأوثان واتبعناك، فأشركنا في ولاية علي فنكون شركاء، فهبط جبرئيل على النبي فقال: يا محمد لئن أشركت ليحبطن عملك الآية. انتهى. ( والحديث الأول في تنزيه الأنبياء/ 167 )

* *

قريش تتمحور حول زعامة سهيل بن عمرو

رغم خيانات زعماء قريش بعد فتح مكة وتآمرهم، فقد حاول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستقطبهم، فأكرمهم وتألفهم وأعطاهم أكثر غنائم المعركة، وأطمعهم بالمستقبل إن هم أسلموا وحسن إسلامهم الخ.

لقد أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقاوم عُقَدهم بنور الحلم، وظلماتهم بنور الإحسان ..!!

وفي هذه الفترة تراجعت زعامة أبي سفيان، ولم يبق منها إلا ( أمجاد ) حربه مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فشخصية أبي سفيان تصلح للزعامة في الحرب فقط وفي التجارة، ولا تصلح في السلم للزعامة والعمل السياسي، لذلك تراه بعد أن انكسر في فتح مكة ذهب الى المدينة وطلب منصباً من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعينه جابياً للزكاة من بعض القبائل!!

١٥٥

أما الزعيم الذي يجيد العمل لمصلحة قريش المنكسرة عسكرياً فقد وجدته قريش في سهيل بن عمرو، العقل السياسي المفكر والمخطط ..

وسرعان ما صار سهيل محوراً لقريش، ووارثاً لقيادة زعمائها الذين قتلهم محمد أو أماتهم رب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وسهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود، هو في نظر قريش: قرشي أصيل. ولئن كان من بني عامر بن لؤي، الذين هم أقل درجة من بني كعب بن لؤي ( سيرة ابن هشام: 2 / 489 ) ، ولكنه صاحب تاريخ مع محمد، فهو من الزعماء الذين فاوضوا أبا طالب بشأنه.

وهو من أعضاء دار الندوة الذين قرروا مقاطعة بني هاشم.

وهو من الذين ائتمروا على قتله عندما ذهب الى الطائف، وقرروا نفيه من مكة، وهددوه بالقتل إن هو دخلها، ورفضوا أن يجيروه حتى يستطيع الدخول الى مكة وتبليغ رسالة ربه ففي تاريخ الطبري: 2 / 82 : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال للأخنس بن شريق: ائت سهيل بن عمرو فقل له إن محمداً يقول لك: هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالات ربي؟ فأتاه فقال له ذلك، قال فقال: إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب! انتهى.

وهو من الزعماء الذين واصلوا العمل لقتل محمد بعد وفاة أبي طالب، حتى أنجاه الله منهم بالهجرة.

وهو أحد الذين حبسوا المسلمين وعذبوهم على إسلامهم، ومن المعذبين على يده ولده أبو جندل.

وهو أحد قادة المشركين في بدر، وأحد أثريائهم الذين كانوا يطعمون الجيش.

وهو أحد الذين كانوا يؤلمون قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفعالياتهم الخبيثة، فلعنهم الله تعالى وطردهم من رحمته، وأمر رسوله أن يلعنهم، ويدعو عليهم في صلاته.

وهو أحد المنفقين أموالهم على تجهيز الناس لحرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أحد والخندق وغيرهما.

١٥٦

- قال في سير أعلام النبلاء: 1 / 194

يكنى أبا يزيد، وكان خطيب قريش وفصيحهم ومن أشرافهم وكان قد أسر يوم بدر وتخلص. قام بمكة وحض على النفير، وقال: يال غالب أتاركون أنتم محمداً والصباة يأخذون عيركم! من أراد مالاً فهذا مال، ومن أراد قوة فهذه قوة.

وكان سمحاً جواداً مفوهاً.

وقد قام بمكة خطيباً عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحو من خطبة الصديق بالمدينة فسكنهم!! وعظم الإسلام. انتهى.

وهو الذي انتدبته قريش لمفاوضة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديبية، وقد أجاد المفاوضة وشدد عليه بالشروط، ولم يقبل أن يكتب في المعاهدة ( رسول الله ) ووقع الصلح معه نيابة عن كل قريش.

وهو المعروف عند قريش بأنه سياسي حكيم، أكثر من غيره من فراعنتها.

وهو أخيراً من أئمة الكفر الذين أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتالهم! وإعلانه الإسلام تحت السيف لا يغير من آيات الله شيئاً! ففي تفسير الصنعاني: 1 / 242 : عن قتادة في قوله ( وقاتلوا أئمة الكفر ) هو أبو سفيان بن حرب، وأمية بن خلف، وعتبه بن ربيعة، وأبو جهل، وسهيل بن عمرو. انتهى.

وقد اختار سهيل بن عمرو البقاء في مكة بعد فتحها ودخولها تحت حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يهاجر الى المدينة كبعض الطلقاء، ولم يطلب من محمد منصباً، لأن كبرباءه القرشي وتاريخه في الصراع مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأبيان عليه ذلك!!

ولكنه قبل هدية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حنين وكانت مئة بعير، بينما كان رفضها في أيام القحط والسنوات العجاف التي حدثت على قريش بدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم أشفق عليهم وأرسل اليهم مساعدة، وكانت أحمالاً من المواد الغذائية، فقبلها أكثرهم وكان سهيل ممن رفضوها!

١٥٧

إنه تاريخٌ طويلٌ مشرقٌ عند القرشييين، وإن كان أسود عند الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !! ومن أجل هذا النسب وهذا التاريخ والصفات، اجتمعت حوله قريش بعد فتح مكة، وانضوت تحت زعامته!

* *

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عين حاكماً لمكة بعد فتحها، هو عتاب بن أسيد الأموي وحعل معه أنصارياً، ولكن قريشاً كانت تفضل عليه سهيلاً، وتسمع كلامه أكثر منه!

والدليل على ذلك أنه بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ارتدت قريش عن الإسلام، وخاف حاكمها عتاب أن يقتلوه فاختبأ مع أنه قرشي أموي وبعد أيام وصلهم خبر يطمئنهم ببيعة أبي بكر التيمي، وأن أحداً من بني هاشم لن يحكم بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمأن سهيل بن عمرو، وخطب في قريش بنفس خطبة أبي بكر في المدينة، والتي مفادها أنه من كان يعبد محمداً فإن إلهه قد مات، ونحن لا نعبد محمداً، بل هو رسولٌ بلغ رسالته ومات، وهو ابن قريش وسلطانه سلطان قريش، وقد اختارت قريش حاكماً لنفسها بعده وهو أبو بكر، فاسمعوا له وأطيعوا.

لقد طمأنهم سهيل بأن الأمر بيد قريش، وليس بيد بني هاشم والأنصار اليمانية الذين ( يعبدون ) محمداً، فلماذا الرجوع عن الإسلام!

فأطاعته قريش وانتهى مشروع الردة!

وأصدر سهيل أمره لعتاب الحاكم من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أخرج من مخبئك، واحكم مكة باسم الزعيم القرشي غير الهاشمي أبي بكر بن أبي قحافة التيمي!

( راجع سيرة ابن هشام: 4 / 1079، وفيها: فتراجع الناس وكفوا عما هموا به، وظهر عتاب بن أسيد ).

سهيل بن عمرو يحاول الإستقلال!

اقتنعت قريش بعد فتح مكة أن العمل العلني ضد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محكوم بالفشل ..

١٥٨

فركزت جهودها على العمل السياسي المتقن، والعمل السري الصامت، لإبعاد عترته عن الحكم، وجعله في قريش ..

ولكن المشكلة عندها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسير قدماً في ترتيب الأمر من بعده لعلي ومن بعده للحسن والحسين، أولاد بنته فاطمة وقريش لا تطيق علياً ولا أحداً من بني هاشم لذلك قرر قادتها وفي مقدمتهم سهيل بن عمرو أن يقوموا بأنشطة متعددة، منها محاولة جريئة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد كتبوا اليه ثم جاؤوه وفداً برئاسة سهيل بن عمرو، طالبين اليه أن يرد ( اليهم ) عدداً من أبنائهم وعبيدهم، الذين تركوا مكة أو مزارعهم في الطائف، وهاجروا الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليتفقهوا في الدين، كما تنص الآية القرآنية!

قال سهيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحن اليوم حلفاؤك، وقد انتهت الحرب بيننا وتصالحنا، وأنا الذي وقعت الصلح السابق معك في الحديبية!

وهؤلاء أولادنا وعبيدنا هربوا منا وجاؤوك، ولم يأتوك ليتفقهوا في الدين كما زعموا، ثم إن كانت هذه حجتهم فنحن نفقههم في الدين، فأرجعهم الينا!!

ومعنى هذا الطلب البسيط من زعيم قريش الجديد: أن قريشاً حتى بعد فتح مكة واضطرارها الى خلع سلاحها وإسلامها تحت السيف تريد من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإعتراف بأنها وجودٌ سياسيٌّ مستقل، في مقابل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودينه ودولته!!

- روى الترمذي في: 5 / 298

عن ربعي بن حراش قال: أخبرنا علي بن أبي طالب بالرحبة فقال: لما كان يوم الحديبية خرج إلينا ناس من المشركين فيهم سهيل بن عمرو وأناس من رؤساء المشركين، فقالوا يا رسول الله: خرج إليك ناس من أبنائنا وإخواننا وأرقائنا، وليس لهم فقه في الدين، وإنما خرجوا فراراً من أموالنا وضياعنا، فارددهم إلينا فإن لم يكن لهم فقه في الدين سنفقههم.

١٥٩

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معشر قريش لتنتهن أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين، قد امتحن الله قلوبهم على الإيمان! قالوا من هو يا رسول الله؟

فقال له أبو بكر: من هو يا رسول الله؟

وقال عمر: من هو يا رسول الله؟

قال هو خاصف النعل، وكان أعطى علياً نعله يخصفها. هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث ربعي عن علي.

- وروى أبو داود: 1 / 611

عن ربعي بن حراش عن علي بن أبي طالب قال: خرج عبدانٌ الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني يوم الحديبية قبل الصلح، فكتب إليه مواليهم فقالوا: يا محمد والله ما خرجوا إليك رغبة في دينك، وإنما خرجوا هرباً من الرق!

فقال ناسٌ: صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم!

فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا!

وأبى أن يردهم وقال: هم عتقاء الله عز وجل. انتهى.

ولا يغرك ذكر الحديبية في الحديث، فهذا من أساليب الرواة القرشيين في التزوير فالحادثة وقعت بعد فتح مكة، ولو كانت قبله لطالب سهيلٌ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالوفاء لهم بشرطهم، لأنهم شرطوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صلح الحديبية أن يرد اليهم من يأتيه منهم، ولا يردون اليه من يأتيهم من المسلمين!

ولو كانت قبل فتح مكة، لكانت مطالبةً بشرطهم، وما استحقت هذا الغضب النبوي الشديد، وهو لا يغضب إلا بحق، ولا يغضب إلا لغضب الله تعالى، ولا يرضى إلا بما يرضي الله تعالى!

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211