السقيفة

السقيفة27%

السقيفة مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 211

السقيفة
  • البداية
  • السابق
  • 211 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 46907 / تحميل: 13560
الحجم الحجم الحجم
السقيفة

السقيفة

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

وإذا علمنا ان علي بن ابي طالب هو المهيأ لولاية امور المسلمين بعد النبي على الأقل ان فرض انه لم يكن هو المنصوص عليه، أفلا يثبت لنا ان قضية اسامة كانت لقبول الناس امارة علي على صغر سنه يومئذ بالقياس الى وجوه المسلمين وكان إذ ذاك لا يتجاوز الثلاثين؟ وهذا ما يفسر به المشكل الأول والثاني في هذا البعث.

و(ثانيا)- ان يبعد عن المدينة ساعة وفاته من يطمع في الخلافة خشية ان يزيحوها عن صاحبها الذي نصبه لها في الخلافة. وقد ثبت عنه انه كان يتوجس خيفة على اهل بيته ولا سيما على علي، فوصفهم بأنهم المظلومون من بعده. ولذا نراه اوعب في هذا الجيش كل شخصية معروفة تتطاول الى الرئاسة، ولم يدخل فيه عليا ولا احدا ممن يميل اليه الذين كانوا له بعد ذلك شيعة ووافقوه على ترك البيعة لأبي بكر، فلم يذكر واحد منهم في البعث، وهم ليسوا اولئك النكرات الذين لا يذكرون.

وهذا ما يفسر تباطؤ القوم عن البعث وعرقلتهم له بخلق الاشاعات في المعسكر عن وفاة الرسول، مع اصراره صلى الله عليه وآله ذلك الاصرار العظيم ولم يمكنهم ان يصرحوا بما في نفوسهم، فاعتذروا بصغر قائدهم، وفي هذا كل معنى التهجين لرأي النبي وعصيان أمره الصريح.

فكان الغرض اخلاء المدينة من المزاحمين لعلي ليتم الأمر

٨١

له، بعد ان اتضح للنبي ان التصريحات بخلافته لا تكفي وحدها للعمل بها عندهم، كما امتنعوا عن السير تحت لواء اسامة وهو لايزال في قيد الحياة، فقدر أن القوم إذا ذهبوا في بعثهم هذا يرجعون وقد تم كل شىء لخليفته المنصوب من قبله، فليس يسعهم إلا ان ينضووا حينئذ تحت جماعة المسلمين ورايتهم.

و(ثالثا)- ان يقلل من نزوع المتوثبين للخلافة، ليقيم الحجة لهم وللناس بأن من يكون مامورا طائعا لشاب يافع ولا يصلح لامارة غزوة موقته كيف يصلح لذلك الأمر العظيم وهو ولاية امور جميع المسلمين العامة، وهي في مقام النبوة وصاحبها اولى بالمؤمنين من انفسهم.

وزبدة المخض ان بعث اسامة لايصح أن يفسر إلا بأنه تدبير لاتمام أمر علي بن أبي طالب بمقتضى الظروف المحيطة به من تقدم النص على علي وقرب أجل النبي صلى الله عليه وآله وعلمه بأن هناك من لايروق له ولاية ابن عمه، وبمقتضى الدلائل الموجودة في الواقعة نفسها: من تأمير فتى يافع وتكديس وجوه القوم وقوادهم في البعث وعدم دخول علي ومن يميل اليه وامتناع جماعة عن الالتحاق بالجيش وحث النبي على تنفيذه وغضبه من اعتراضهم وتخلفهم، وهو في مرض الفراق والظرف دقيق على المسلمين.

فهذا البعث في الوقت الذي كان تدبيرا لاخلاء المدينة

٨٢

لعلي وحزبه كان حجة على المستصغرين لسنة ودليلا على عدم صلاح غيره لهذا المنصب العظيم. فاذا كان الاخلاء لم يتم لتمانع القوم وعرقلتهم للبعث فان الحجة ثابتة مع الدهر.

ولايصح للباحث ان يدعي إنَ السبب الحقيقي لتخلف القوم هو ما تظاهروا به من عدم الرضى بامارة قائدهم الصغير، وان تذرعوا به من عذرا لاخفاء تلك الشنشنة التي عرفها النبي من اخزم، لأنا نرى ان لو كان هذا هو السبب الحقيقي، لما تنفذ البعث بعد أن تم أمر الخلافة الذي به زال المانع الحقيقي، والمسلمون الى النبي اطوع منهم الى ابي بكر لو كان يمنعهم صغر القائد. ولم يتأب عمر نفسه بعد ذلك ان يخاطب اسامة بالامير طيلة حياته اعترافا بامارته.

اما الشفقة على النبي ان لم تكن عذرا آخر تذرعوا به فلا يصح ان تكون سببا حقيقيا، إذ ينبغي أن يكونوا عليه أشفق بالتحاقهم بالبعث، وقد غضب أشد الغضب من تأخرهم على ما فيه من حال ومرض. ولئن ذهبوا يسألون عنه الركبان كان أكثر براً بنبيهم من أن يعصوا امره ويغضبوه ذلك الغضب المؤلم له.

ولو ان القوم كانوا قد امتثلوا الأمر لأصابوا خيرا كثيرا ولتبدل سير التأريخ ومجرى الحوادث تبدلا قد لا يحيط به حتى الخيال( ولو ان أهل القرى لآمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)

٨٣

ولما وقع ما وقع بعد ذلك من خلاف بين المسلمين وتطاحن وحروب دموية انهكت قوى الاسلام واضعفت روحية الدين حتى انفصمت عرى الجامعة الاسلامية سريعا وانتهكت حرمات الأحكام الدينية، فعاد الاسلام كما نشاهد اليوم غريبا كما بدىء.

أي أمر عظيم وتدبير حازم صنعه النبي لسد باب كل خلاف يحدث؟( وكل أفعاله عظيمة) لو تم ما اراد. ولكن لا امر لمن لايطاع.

ب - ائتوني بكتف ودواة

قد شاهد النبي صلى الله عليه وآله ما كان من أمر عرقلة بعث اسامة، وهؤلاء القوم المتباطؤن لم ينفع معهم صعوده المنبر عاصبا رأسه في أشد حال لا تقله رجلاه مما به من لغوب، مشددا عليهم النكير على مقالتهم في حق اسامة وتخلفهم عن البعث.

وهي اول حادثة من نوعها تمر على النبي في المدينة، لا يطاع امره ويتجاهل حكمه، ويتساهل في غضبه، ثم لا يستطيع ان ينفذ هذا الأمر وهو مصر على تنفيذه الى آخر يوم من حياته إذ دخل عليه اسامة راجعا من الجرف فأمره بالسير غاديا.

لاشك ان مثل هذا الحادث يدعو الى تدبير آخر سريع

٨٤

لاتمام الامر لعلي، ومنه يتأكد للنبي جليا ما عليه القوم من التواطؤ على عدم التقيد بالنص على علي. وهم إذ كانوا في حياته لايطيعون أمره في هذا السبيل فكيف اذن بعد وفاته. فلم يجد بعد هذا من خيرا من ان يكتب لهم كتابا فاصلا لا يضلون بعده ابدا، لأنه سيكون امرا ثابتا لا يقبل التأويل والنكران والتناسي، لا كالكلام الذي لا يحفظ الا في الصدور وهي لاتسلم من دخل.

ما أعظمه من كتاب؟

أهم لايضلون بعده ابدا؟

ما أعظمها من نعمة!‍

بالله أباللّه أهكذا قال النبي؟

نعم! لما اشتد المرض به(يوم الخميس) وفي البيت رجال منهم عمر بن الخطاب، قال صلى الله عليه وآله : (هلموا اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ابدا).

فأية فرصة غالية هذه يجب ان يقتنصها الحاضرون لهم ولجيلهم للأجيال اللاحقة حتى الأبد؟ وأية نعمة كبرى هذه لا تعادلها نعمة!... أما كان على المسلمين ان يستغلوها اعظم غنيمة فيسرعوا الى تلبية هذا الطلب ليخلد لهم الهدى ما بقوا؟ فأي شىء كان يؤخرهم عن اقتناص هذه النعمة؟

او ليس عمر بن الخطاب حال دون هذا التدبير، فأوهى

٨٥

منه عقدته المحكمة، فقال:( ان رسول الله قد غلبه الوجع أو ليهجر وعندكم القرآن وحسبنا كتاب الله)!. فاختلف الحضور واكثروا اللغط والنقاش، منهم من يقول قربوا يكتب لكم كتابا لاتضلوا بعده، ومنهم من يقول: ما قال عمر.

فما ترى نبي الرحمة صانعا بعد هذا؟ أيكتب الكتاب وهو في زعم بعضهم على حال مرض غالب( حاشا النبي الذي لاينطق عن الهوى ان هو إلا وحي يوحى)، فكيف إذن يهتدون به ولايضلون بعده ابدا، وقد وقع فيه الخلاف من الآن، وطعن بتلك الطعنة النجلاء التي لاسبرلها ولا غور. فلم يجد روحي فداه إلا ان ينهرهم وينبههم على خطأهم فقال: (قوموا. ولا ينبغي عند نبي نزاع) لتبقى هذه الحادثة حجة على مرور القرون.

حقا انها لرزية من أعظم الرزايا سببت كل ضلال وقع ويقع بعد النبي. وحق لإبن عباس حبر الأمة ان يبكي عند تذكرها حتى يخضب دمعه الحصباء ويقول:( ان الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وبين ان يكتب لهم ذلك الكتاب).

وليفكر المفكر أي شىء كان يدعو عمر ليقول هذه المقالة القارصة في حق النبي المختار، وما ضره لو كان يكتب هذا

٨٦

الكتاب ليعصم الخلق عن الضلالة ابد الدهور وسجيس الليالي؟

أكان لايحب أن يبقى الخلق على هدى لا يضلون؟

أم كان يعتقد حقيقة ان النبي ليهجر. ولكن لا يعتقد هذا الاعتقاد إلا من كان يجهل حقيقة النبي وما جاء به القرآن من الآيات التي ندد بها على المشركين. وليس ذلك عمر. وما باله لم يعتقد بهجر ابي بكر( وليس شأنه شأن النبي) لما أوصى بالخلافة، وكان قد أغمى عليه اثناء تحرير الاستخلاف، فأتم ذلك عثمان بالنص على عمر من دون علم ابي بكر، خشية ان يدركه الموت قبل الوصية، فأمضى ما كتبه عثمان لما استفاق.

أم ماذا؟

ليتني أستطيع أن افهم غير انه علم بما سيكتبه النبي من النص على علي، وقد سبق للنبي ان عبر مثل هذا التعبير في العترة يوم الغدير إذ ذكر الثقلين كتاب الله وعترته اهل بيته ووصفهما بأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، ثم قال: (لن تضلوا ان اتبعتموها)(١) أو على المشهور( لن تضلوا ما ان تمسكتم بهما ابدا) ففهم عمر من قوله:( لا تضلوا بعده ابدا) ماذا سيريد ان يكتب الرسول. ويشهد لتنبه عمر

______________________________

(١)مستدرك الحاكم(١٠٦:٣).

٨٧

لذلك قوله: (حسبنا كتاب الله) إذ فهم ان غرض النبي ان يقرن الثقلين احدهما بالآخر فكأنه قال: يكفينا واحد منهما وهو الكتاب ولا حاجة لنا بالآخر، وإلا فما كان معنى لقوله حسبنا... وهو يدعي هجر النبي صلى الله عليه وآله

فكانت هذه المقالة من عمر والمقالة بمشهد النبي للحيلولة دون الكتاب لعلي، اقداما جريئا جاء في وقته المناسب له قبل أن تفوت الفرصة. ولا يشبهه أي موقف آخر منه على كثرة مواقفه في اتمام البيعة لأبي بكر، كما سنرى في انكاره موت النبي وموقفه في السقيفة وبعدها فانه هو الذي شيد(١) بيعة ابي بكر وكافح المخالفين. ولولاه لم يثبت لأبي بكر امر ولا قامت له قائمة: فقد كسر سيف الزبير، ودفع في صدر المقداد، ووطأ سعد بن عبادة وقال: اقتلوه فانه صاحب فتنة، وحطم انف الحباب بن المنذر، وتوعد من لجأ الى بيت فاطمة عليها السلام وكان بيده عسيب نحل(٢) بعد خروجهم من السقيفة يدعو الناس الى البيعة...

ولا يستطيع الباحث ان ينكر من عمر بن الخطاب تمالؤه على علي بن ابي طالب ويقظته فيما يخص استخلافه. وكذلك جماعته الذين شاهدنا منهم التعاضد والتكاتف في اكثر

______________________________

(١) راجع شرح ابن ابي الحديد(٥٨:١).

(٢) راجع كنز العمال(ج٣ رقم ٢٣٤٦ و٢٣٦٣).

٨٨

الحوادث كأبي بكر وابي عبيدة سالم مولى حذيفة ومعاذ بن جبل واضرابهم. وكذا علي نفسه ظاهر عليه جليا ميله عن هؤلاء في جميع مواقفه معهم حتى انه لم يبايع ابا بكر حتى ماتت فاطمة فبايع مقهورا، ولم يدخل في حرب قط على عهد الخلفاء الثلاثة، وهو ابن بجدتها وقطب رحاها. وكان يتهم عمر انه لم يشد أزر ابي بكر إلا ليجعلها له بعده فقال له مرة:(احلب حلبا لك شطرة اشدد له اليوم أمره ليرده عليك غدا)(١) وقد صدقت فيه مقالته فاستخلف من قبل ابي بكر.

وهل يخفى على أحد ما كان في القلوب من تنافر؟ ويكفي شاهدا أن نسمع المحاورة التي دارت بين عمر بن الخطاب وابن عباس كما رواها ابن عباس(٢) .

عمر (لابن عباس): أتدري مامنع قومكم منكم بعد محمد؟

ابن عباس:( وهو يكره أن يجيبه) ان لم أكن أدري فأمير المؤمنين يدريني.

-: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة، فتبجحوا

______________________________

(١) السياسة والامامة: باب امامة ابي بكر. وشرح النهج (٥:٢).

(٢) الطبري (٣١:٥) وابن الأثير (٣١:٣) وشرح النهج (١٨:٢).

٨٩

على قومكم بجحاً بجحاً، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت.

-: يا أمير المؤمنين إن تأذن لي في الكلام وتمط عني الغضب تكلمت.

-: تكلم:

-: اما قولك: (اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت) فلو ان قريشاً اختارت لأنفسها حيث اختار الله عز وجل لها لكان الصواب بيدها غير مردود ومحسود. واما قولك:( انهم كرهوا ان تكون لنا النبوة والخلافة) فان الله عز وجل وصف قوما بالكراهية فقال: (ذلك بأنهم كرهوا ما انزل الله فأحبط اعمالهم).

-: هيهات! والله يا إبن عباس قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره ان افرك عنها فتزيل منزلتك مني.

-: وما هي؟ فان كانت حقاً فما ينبغي ان تزيل منزلتي منك وان كنت باطلا فمثلي اماط الباطل عن نفسه.

-: بلغني انك تقول انما صرفوها حسداً وظلماً.

-: اما قولك (ظلما) فقد تبين للجاهل والحليم. واما قولك (حسداً) فإن إبليس حسد آدم فنحن ولده المحسودون.

-: هيهات! ابت والله قلوبكم يا بني هاشم إلا حسداً ما يحول وضغنا وغشا ما يزول.

٩٠

-: مهلا! لاتصف قلوب قوم اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا بالحسد والغش، فان قلب رسول الله من بني هاشم.

-: اليك عني؟

* * *

نقلنا هذه المحاورة بطولها لانها تجلي كثيرا من الغوامض في بحثنا، فهي تكشف لنا:

(اولا) عما في نفوس الطرفين من نزوان بغضاء كامنة يستطير شرارها. وهذا ما أردنا استكشافه الآن وسقنا لأجله المحاورة.

و(ثانيا)- عن ان القوم كانوا قد تعمدوا منع الأمر عن آل البيت، وان منعهم كان عاطفيا كراهة اجتماع النبوة والخلافة فيهم خشية تبجحهم، وقد فسر ابن عباس هذه الخشية بالحسد وانها من الظلم. واستشعر الألم الكامن من تأكيد هذه الكلمة (بجحا بجحا).

و(ثالثا)- عن ان الامامة انما هي باختيار الله، وأن الخلافة في آل البيت مما انزله الله، وليست تابعة لاختيار قريش وكراهتهم.

٩١

و(رابعا) عن ان ظلمهم لآل البيت بأخذها منهم مشهور يعرفه كل احد.

وهذان الامران الأخيران صرح بهما ابن عباس على شدة تحفظه واتقائه غضب عمر الذي لم يسلم منه بالأخير. ولم يرد عليه عمر الرد الذي يكذب هذا التصريح اكثر من الطعن فيه وفي بني هاشم ثم الزجر له بقوله: (اليك عني). وهذا الزجر ينطق صريحا بالعجز عن الجواب، فختمت به المحاورة.

والغرض من كل ذلك ان اقدام عمر الجرىء ، على نسبة الهجر الى النبي المعصوم، وعلى دعوى ان كتاب الله وحده كاف للناس بلا حاجة الى شىء آخر على عكس تصريح النبي، لايستغرب منه ما دام القصد منع الأمر عن علي. وقد اتضح ان بينهما مالا يستطيع التأريخ نكرانه والتمويه فيه.

واما اعتذار بعض الناس عنه بأنه ظهر له ان الأمر ليس للوجوب فهو اعتذار بارد لايقره العلم. فمن اين ظهر ذلك؟ أمن قول النبي( لا تضلوا بعده أبدا) وهل هناك أمر اعظم مصلحة في الحكم الشرعي تجعله للوجوب من هداية الخلق اجمعين الى أبد الدهور ام من وقوع النزاع وغضب النبي وزجرهم بالانصراف. واذا كان قد فهم الاستحباب فلماذا يرده بأشنع كلمة لا يواجه بمثلها الرجل العادي من

٩٢

الناس لاسيما عند المرض، أعني كلمة الهجر والهذيان، مهما لطف العبارة بتحويلها الى كلمة( قد غلبه الوجع). ثم أي معنى حينئذ لقوله:( حسبنا كتاب الله)، وهو رد على النبي وتدخل في مصلحة الحكم واساسه، وكان يغنيه ان يقول لا يجب علينا امتثال الأمر.

* * *

والخلاصة إن الكتاب الذي أراد أن يكتبه النبي صلى الله عليه وآله من نفس وصفه له:( لاتضلوا بعده أبداً) ومن نفس رد عمر( حسبنا كتاب الله) ومن قرائن الأحوال المحيطة بالقصة بعد سبق توقف البعث عن الذهاب نعرف ان المقصود منه النص على خليفته من بعده وهو علي بن أبي طالب، لاسيما ان كل خلاف بين المسلمين وكل ضلال وقع ويقع في الأمة هو ناشيء من الخلاف في أمر الخلافة فهو أسّ كل ضلالة. ولو تركوا النبي يكتب التصريح بالخلافة من بعده لما كان مجال للشك والخلاف الا بالخروج رأسا عن الاسلام.

وليس بالبعيد انه صلى الله عليه وآله امتنع عن التصريح شفاها أو كتبا بعد هذه القصة بالنص على خليفته لئلا يأخذ اللجاج بالبعض الى الخروج على الاسلام، فتكون المصيبة أعظم على الاسلام والمسلمين وهذا ما حدا بعلي عليه السلام الىالمجاراة والمماشاة، فلذا قال في خطبته الشقشقية:( فطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء...

٩٣

فرأيت ان الصبر على هاتا أحجى...). وسيأتي في الفصل الرابع الكلام عن موقفه مع الخلفاء تفصيلا.

٩٤

٩٥

الفصل الثالث : بيعَة السقيفة

(١- الدوافع لاجتماع السقيفة(١) )

تصور الأنصار انهم الذين آووا ونصروا يوم عز الناصر، وأسلموا يوم قحط المسلمين، فبذلوا للاسلام نفوسهم واموالهم، فكانوا بحق (انصاراً) كما سماهم النبي صلى الله عليه وآله، و(حضنة الاسلام واعضاد الملة) كما دعتهم الزهراء عليها السلام في خطبتها الشهيرة عند مطالبتها بالنحلة.

اذن، لابد أن يروا لأنفسهم حقا في الأسلام لايغمط وسابقة ليست لغيرهم لاتنكر، ولهم في تشييده يد مشهورة وذكر جميل.. وهذا ما يطمعهم في امارة المسلمين كجزاء

______________________________

(١) السقيفة: الصفة والظلة، وهي شبه البهو الواسع الطويل السقف. وكان لبني ساعدة بن كعب بن الخزرج وهم حي من الأنصار ومنهم سعد بن عبادة نقيبهم ورئيس خزرج ظلة يجلسون تحتها هي دار ندوتهم لفصل القضايا اشتهرت (بسقيفة بني ساعدة). اجتمع فيها الأنصار اوسهم وخزرجهم ليبايعوا سعد بن عبادة خليفة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

٩٦

لتضحيتهم في سبيل الاسلام وكنتيجة لنجاحهم وتفوقهم على العرب في النصرة والايواء.

ومن جهة ثانية: انهم كانوا قد وتروا قريشا والعرب؛ وأية ترة هي؟ آووا ونصروا من سفه أحلامهم، وهم يحرقون الارم عليه ليقتلوه، فتمنع عن جبروتهم باولئك المستضعفين في نظر (أهل النواضح) واكثر من ذلك انهم قتلوا صناديدهم واسروا رجالهم وجعجعوا بهم حتى دانت بأسيافهم العرب. فكانت الأنصار والحال هذه تتخوف هؤلاء الذين وتروهم اذا خلصت اليهم الامارة ان يأخذوهم بترتهم، وهم عندئذ المغلوبون على أمرهم سوقة لايملكون لأنفسهم قوة ولا دفاعا، وكفاهم ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وآله مخاطا لهم: (ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض). والمناظرة التي وقعت يوم السقيفة كانت تشير الى تخوفهم هذا، بل صرح الحباب بن المنذر إذ يقول: ( ولكنا نخاف ان يليها بعدكم من قتلنا ابناءهم وآباءهم واخوانهم). وقد صدقت فراسته فتولى الأمر بنو أمية وكان ما كان منهم في وقفة (الحرة) المخزية التي يندى منها جبين الشرف والانسانية، ويبرأ منها الاسلام وأهله.

وشيء ثالث هناك: إذا كان صاحب الأمر هو علي بن أبي طالب، فلم يخف عليهم حسد العرب له وتمالؤها عليه،

٩٧

وهي موتورة له اكثر من أي شخص آخر من المسلمين بعد النبي، فلا تمكنه العرب وقريش خاصة من امورهم. وليس بعيدا عهد تأخر جيش اسامة والحيلولة دون كتاب النبي. ولا بد انهم علموا بمؤامرات هناك وتفكيرات احسوها عيانا في جماعة من الناس. فالأنصار والحال هذه قد لايرون كبير إثم في تطاولهم لمنصب الخلافة، مادامت خارجة عن معدنها، ولا يأمنون أن يتولاها من لا يحمدون مغبة أمره، ولا يجدون غيرهم ممن يتطاولون لها اولى بها في نصرة وخدمة وتضحية، ولعلهم لأجل هذا لما يئسوا من الأمر بعد محاولتهم الفاشلة ورأوه قد خرج من أيديهم ايضا قال كلهم أو بعضهم: (لانبايع إلا عليا)(١) ولكن بعد خراب البصرة.

هذه أسباب قد تقنع النفوس الاعتيادية على تنفيذ رغباتها، وتحملها على الاعتقاد بصحة ما يوحي اليها أهواؤها بقصد أو بغير قصد من جراء تأثير العاطفة، فتعمى العين عن أوضح ما يقوم في طريقها من نور للحق ودليل على فساد ايحاء النفس بنزعاتها، وهذا ما يؤيده علم النفس.

وإذا نحن تفهمنا هذه الحقائق وتدبرناها جيداً استطعنا ان نعرف السر في استباق الأنصار بهذه العجالة الى عقد

______________________________

(١) الطبري(١٩٨:٣) وابن الأثير(١٥٧:٢) وغيرهما.

٩٨

اجتماعهم سراً في سقيفتهم، واستطعنا ان نعرف لماذا كان سرياً بلا مشورة لمهاجرين ولا باقي المسلمين.

أجل! ما هو إلا لأنهم طلبوا الغرة من أصحاب الرسول واهل بيته، فانتهزوا فرصة انشغالهم بفادحهم العظيم وبجهازهم نبيهم، ليحكموا البيعة لأحد نقبائهم وسيد الخزرج، أو لأي شخص آخر منهم قبل ان يفرغ أهلها أو طالبوها. وحينئذ ظنوا ان سيتم لهم كل شيء.

٢ - نفسية الأنصار

حاولنا في البحث السابق ان نتشبث بما يرفع الأنصار عن سوء النية والقصد، ولكنا نؤمن بأن ما قلنا عنهم لا يخرج عن عده من الوساوس التي لا تبرر عمل المرء من الناحية الدينية. على انا نرجو ان يكونوا معذورين فيما عملوا لئلا نخسر عدداً وفيراً من الصحابة.

اما نفس عملهم سواء كانوا بسوء نية أم لا فلا يسعنا ان نحكم بصحته، فإنا مهما فرضنا الحقيقة من جهة النص على الامام فان استبدادهم هذا وتسرعهم في عقد اجتماعهم لنصب خليفة منهم لايخرج عن عدة خيانة للاسلام وتفريطاً في حقوق المسلمين بلا مبرر، وفي وقت قد دهمت الاسلام فيه هذه الفاجعة

٩٩

الدهيماء، والمسلمون كالمذهولين بمصابهم لايعلمون ماذا سيلاقون من العرب واعداء الاسلام.

ولا نريد الآن ان نجلس في دست القضاء لنحكم لهم أو عليهم، ولعل هناك من يرى صحة عملهم فلا نضايقه، وإنما مهمتنا ان ندرس الاسباب التي دعتهم إلى عملهم هذا، وأن ندرس نفسياتهم.

في البحث السابق رأينا ان خدمتهم للاسلام الممتازة هي التي خيلت لهم الحق في الخلافة أو في سلطان المسلمين. وهذا نعرفه من حجتهم على لسان المرشح منهم للخلافة سعد بن عبادة في خطبته ذلك اليوم، ينضم الى ذلك تخوفهم من ان يخلص الأمر الى من قتلوا أبناءهم وآباءهم واخوانهم، مع اعتقادهم بخروج الأمر عن أهله، ويدل على هذا الأخير كما تقدم طلبهم مبايعة علي بعد اليأس.

هذه الأسباب التي استطعنا عرفانها. وكل ذلك تقدم وفيها قبس نسير على ضوئه لمعرفة نفسياتهم.

فانا نعرف مجموعها انهم في محاولتهم كانوا مدافعين اكثر منهم مهاجمين، والدفاع دائما يكون عن الشعور بالضعف والانخذال وهذا الشعور من أعظم الأدواء النفسية لمن أراد الظفر في الحياة، إذ ينشأ منه الوهن في العزيمة والضعف في

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

والحزن لوقوع حادثة غير مطلوبة!.

ثمّ تبيّن الآيات من هم «المكذّبون» فتقول :( الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ) .

فيزعمون أنّ آيات القرآن ضرب من الكذب والافتراء وأنّ معجزات النّبي سحر وأنّه مجنون ، ويتلقّون جميع الحقائق باللعب ويسخرون منها ويستهزئون بها ويحاربون الحقّ بالكلام الباطل غير المنطقي ، ولا يأبون من أيّة تهمة أو كذب في سبيل الوصول إلى مآربهم.

«خوض» على وزن حوض ـ معناه الدخول في الكلام الباطل ، وهو في الأصل ورود الماء والعبور منه.

ثمّ تبيّن الآيات ذلك اليوم وعاقبة هؤلاء المكذّبين في توضيح آخر : فتقول :( يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ) (١) أي يساقون نحو جهنّم بعنف وشدّة.

ويقال لهم حينئذ :( هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ ) .

كما يقال لهم أيضا :( أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ ) ؟!

لقد كنتم تزعمون في الدنيا إنّ ما جاء به محمّد سحر ، وقد أخذ السحر عن ساحر آخر ، فغطّى على أعيننا ليصرفها عن الحقائق وليختطف عقولنا! ويرينا أمورا على أنّها معاجز ، ويذكر لنا كلاما على أنّه وحي منزل من الله ، إلّا أنّ جميع ذلك لا أساس له وما هو إلّا السحر!!

لذلك فحين يردون نار جهنّم يقال لهم بنحو التوبيخ والملامة والاحتقار وهم يلمسون حرارة النار : أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون؟!

كما يقال لهم هناك أيضا :( اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

أجل هذه هي أعمالكم وقد عادت إليكم ، فلا ينفع الجزع والفزع والآه

__________________

(١) دعّ على وزن جدّ معناه الدفع الشديد والسوق بخشونة وعنف و «اليوم» في الآية منصوب على الظرفية أو البدلية من يومئذ في الآية السابقة.

١٦١

والصراخ ولا أثر لكلّ ذلك أبدا.

وهذه الآية تأكيد على «تجسّم الأعمال» وعودتها نحو الإنسان ، وهي تأكيد جديد أيضا على عدالة الله لأنّ نار جهنّم مهما كانت شديدة ومحرقة فهي ليست سوى نتيجة أعمال الناس أنفسهم ، وأشكالها المتبدّلة هناك!.

* * *

تعقيب

١ ـ كيف يساق المجرمون إلى جهنّم؟

لا شكّ أنّ المجرمين يساقون ويدعّون إلى جهنّم بالتحقير والمهانة والزجر والعذاب ، إلّا أنّه تشاهد آيات متعدّدة في هذا الصدد ذات تعابير مختلفة.

إذ نقرأ في الآيتين (٣٠) و٣١) من سورة الحاقة مثلا( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ) .

ونقرأ في الآية (٤٧) من سورة الدخان( خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ ) .

كما جاء التعبير بالسوق في بعض الآيات كالآية (٨٦) من سورة مريم( وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً ) .

وعلى العكس منهم المتّقون والصالحون إذ يتلقّون بكلّ إكرام واحترام عند باب الجنّة :( حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ ) (١) .

وعلى هذا فليست الجنّة والنار ـ كلّ منهما ـ مركزا لرحمة الله أو عذابه فحسب ، بل تشريفات الورود لكلّ منهما كاشفة عن هذا المعنى أيضا.

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية ٧٣.

١٦٢

٢ ـ الخائضون في الأباطيل!.

بالرغم من أنّ كلام القرآن في الآيات الآنفة كان يدور حول المشركين في عصر النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّ هذه الآيات دون شكّ عامّة ، فهي تشمل جميع المكذّبين حتّى الفلاسفة الماديين الخائضين في حفنة من الخيالات والأفكار الناقصة ، ويتّخذون حقائق عالم الوجود لعبا وهزوا ، ولا يعتدون إلّا بما يقرّ به عقلهم القاصر ، فهم ينتظرون أن يروا كلّ شيء في مختبراتهم وتحت المجهر حتّى ذات الله المقدّسة ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ـ وإلّا فلا يؤمنون بوجوده أبدا.

هؤلاء أيضا مصداق للذين هم( فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ) وهم غارقون في أمواج من الخيالات والتصوّرات الباطلة.

إنّ عقل الإنسان مهما بلغ فهو قبال نور الوحي كالشمعة أمام نور الشمس المضيئة في العالم ، فهذه الشمعة تساعد الإنسان أن يخرج من محيط المادّة المظلم وأن يفتح الأبواب نحو ما وراء الطبيعة ، وأن يحلق في كلّ جهة بنور الوحي ليرى العالم الواسع ويتعرّف على مجهولاته وخفاياه.

* * *

١٦٣

الآيات

( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) )

التّفسير

مواهب الله للمتّقين :

تعقيبا على المباحث الواردة في الآيات المتقدّمة حول عقاب المجرمين وعذابهم الأليم تذكر الآيات محلّ البحث ما يقابل ذلك من المواهب الكثيرة والثواب العظيم للمؤمنين والمتّقين لتتجلّى بمقايسة واضحة مكانة كلّ من الفريقين.

تقول الآية الاولى من الآيات محلّ البحث :( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ) .

١٦٤

والتعبير بـ «المتّقين» بدلا من المؤمنين ، لأنّ هذا العنوان يحمل مفهوم الإيمان ، كما يحمل مفهوم العمل الصالح أيضا ، خاصّة أنّ «التقوى» تقع مقدّمة وأساسا للإيمان في بعض المراحل ، كما تقول الآية ٢ من سورة البقرة( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) لأنّ الإنسان إذا لم يكن ذا تعهّد وإحساس بالمسؤولية وروح تطلب الحقّ وتبحث عنه ـ وكلّ ذلك مرحلة من مراحل التقوى ـ فإنّه لا يمضي في التحقيق عن دينه وعقيدته ولا يقبل هداية القرآن أبدا.

والتعبير بـ( فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ) بصيغة الجمع والتنكير لكلّ منهما ، إشارة إلى تنوّع الجنّات والنعيم وعظمتهما.

ثمّ يتحدّث القرآن عن تأثير هذه النعم الكبرى على روحية أهل الجنّة فيقول في الآية التالية :( فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ ) (١) .

خاصّة أنّ الله قد طمأنهم وآمنهم من العقاب( وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ) .

وهذه الجملة قد تكون ذات معنين الأوّل بيان النعمة المستقلّة قبال نعم الله الاخر والثاني أن يكون تعقيبا على الكلام السابق ، أي أنّ أهل الجنّة مسرورون من شيئين «بما آتاهم الله من النعم في الجنّة» ، و «بما وقاهم من عذاب الجحيم».

والتعبير بـ «ربّهم» في الجملتين يشير ضمنا إلى نهاية لطف الله ودوام ربوبيته عليهم في تلك الدار.

ثمّ تشير الآية الاخرى إشارة إجمالية إلى نعم المتّقين في الجنّة فتقول :( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

والتعبير بـ «هنيئا» هو إشارة إلى أنّ أطعمة الجنّة وشرابها السائغة غير المنغّصة ، فهي ليست كأطعمة الدنيا وشرابها التي تجرّ الإنسان إلى الوبال عند

__________________

(١) كلمة «فاكهين» مشتقّة من فكه على وزن نظر ـ وفكاهة على وزن شباهة ، ومعناها كون الإنسان مسرورا ، وجعل الآخرين مسرورين بالكلام العذب ، ويقول الراغب في مفرداته : الفاكهة معناها كلّ نوع من الثمار. والفكاهة أحاديث أهل الأنس وقد احتمل بعضهم أنّ الآية : فاكهين بما أتاهم ربّهم إشارة إلى تناول أنواع الفواكه وهذا المعنى يبدو بعيدا

١٦٥

الإفراط أو التفريط بها إضافة إلى كلّ ذلك لا يحصل عليها بمشقّة ، ولا يخاف من انتهائها ، ولذلك فهي هنيئة!(١) .

ومن المعلوم أنّ أطعمة الجنّة هنيئة بذاتها ، ولكنّ قول الملائكة لأهل الجنّة «هنيئا» هذا القول له لطفه وعذوبته الخاصّة.

والنعمة الاخرى التي يتمتّع بها أهل الجنّة هي كونهم :( مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ ) .

فهم يلتذّون بالاستئناس إلى أصحابهم والمؤمنين الآخرين ، وهذه لذّة معنوية فوق أيّة لذّة اخرى!.

و «سرر» جمع سرير ، وأصل المادّة هو «السرور» وتطلق السرر على الكراسي المهيأة لمجالس السرور ليتّكأ عليها.

و «مصفوفة» من مادّة صف ، ومعناها أنّ هذه السرر مرتبة واحدا إلى جنب الآخر ويتشكّل منه مجلس عظيم للأنس.

ونقرأ في آيات متعدّدة من القرآن أنّ أهل الجنّة يجلسون على سرر متقابلين. [الحجر الآية ٤٧ والصافات الآية ٤٤].

وهذا التعبير لا ينافي ما ورد في هذه الآية محلّ البحث ، لأنّ مجالس الانس والسرور ترتّب الأسّرة فيها على شكل مستدير ومصفوفة جنبا إلى جنب ، فجلّاسها على سرر مصفوفة متقابلون!.

والتعبير بـ «متكئين» إشارة إلى منتهى الهدوء ، لأنّ الإنسان عند الهدوء يتكئ عادة ، والذين هم في قلق وحزن لا يرون كذلك!.

ثمّ يضيف القرآن بأنّا زوجناهم من نساء بيض جميلات ذوات أعين واسعة( وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ) (٢) .

__________________

(١) يقول الراغب في مفرداته : الهنيء كلّ ما لا يلحق فيه المشقّة ولا يعقبه وخامة

(٢) «الحور» : جمع (حوراء) وأحور ، فهو جمع للمذكّر والمؤنث سواء ، ويطلق على من حدقة عينه سوداء وبياضها شفّاف أو

١٦٦

هذه بعض من نعم أهل الجنّة المادية والمعنوية ، إلّا أنّهم لا يكتفون بهذه النعم فحسب ، وإنّما تضاف إليها نعم ومواهب معنوية ومادية أخر!( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) !.

وهذه نعمة بنفسها أيضا أن يرى الإنسان ذريّته في الجنّة ويلتذّ برؤيتهم دون أن ينقص من عمله شيء أبدا.

ويفهم من تعبير الآية أنّ المراد من الذرية هم الأبناء البالغون الذين يسيرون في خطّ الآباء المؤمنين ويتّبعون منهجهم.

فمثل هؤلاء الأبناء وهذه الذريّة إذا كان في عملهم نقص وتقصير فإنّ الله سبحانه يتجاوز عنهم لأجل آبائهم الصالحين ، ويرتفع مقامهم عندئذ فيبلغون درجة آبائهم ، وهذه المثوبة موهبة للآباء والأبناء(١) !.

إلّا أنّ جماعة من المفسّرين يعتقدون أنّ «الذريّة» هنا تشمل الأبناء الكبار والصغار جميعا غير أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع ظاهر الآية ، لأنّ الاتّباع بإيمان دليل على وصولهم مرحلة البلوغ أو مقاربتهم لها.

إلّا أن يقال أنّ الأطفال يصلون في يوم القيامة مرحلة البلوغ ويمتحنون فمتى نجحوا في الامتحان التحقوا بالآباء ، كما جاء هذا المعنى في الكافي إذ ورد فيه أنّه سئل الإمام عن أطفال المؤمنين فقالعليه‌السلام : «إذا كان يوم القيامة جمعهم الله ويشعل نارا فيأمرهم أن يلقوا أنفسهم في النار فمن ألقى نفسه سلم وكان سعيدا وجعل الله النار عليه بردا وسلاما ومن امتنع حرم من لطف الله»(٢) .

__________________

هو كناية عن الجمال ، لأنّ الجمال يتجلّى في العينين قبل كلّ شيء ، والعين جمع لأعين وعيناه معناه العين الواسعة ، وهكذا فإنّ الحور العين مفهوما واسع يشمل الأزواج جميعا الذكور والإناث من أهل الجنّة فالذكور للإناث وبالعكس.

(١) الظاهر أنّ جملة والذين آمنوا جملة مستقلّة والواو للاستئناف ، وقد اختبار جماعة من المفسّرين هذا المعنى «كالعلّامة الطباطبائي والمراغي وسيّد قطب» إلّا أنّ العجب أن يعدّ الزمخشري هذه الجملة معطوفة على وزوجناهم بحور عين مع أنّه لا يتناسب هذا المعنى ومفهوم النصّ ولا ينسجم مع فصاحة القرآن وبلاغته.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٣٩ بتصرّف وتلخيص.

١٦٧

إلّا أنّ ، هذا الحديث إضافة إلى ضعف سنده يواجه إشكالات ومؤخذات في المتن أيضا وليس هنا مجال لبيانها وشرحها.

وبالطبع فإنّه لا مانع أن يلحق الأطفال بالآباء ويكونوا معهم في الجنّة إلّا أنّ الكلام هو هل الآية الآنفة ناظرة إلى هذا المطلب أم لا؟ وقد قلنا إنّ التعبير بـ( اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ ) ظاهره أنّ المقصود هو الكبار.

وعلى كلّ حال ـ وحيث أنّ ارتقاء الأبناء إلى درجة الآباء يمكن أن يوجد هذا التوهّم أنّه ينقص من أعمال الآباء ويعطى للأبناء فإنّ الآية تعقّب بالقول :( وَما أَلَتْناهُمْ ) (١) ( مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) .

وينقل ابن عبّاس عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إذا دخل الرجل الجنّة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال له إنّهم لم يبلغوا درجتك وعملك. فيقول : ربّ قد عملت لي ولهم فيؤمر بالحاقهم به»(٢) .

ممّا ينبغي الالتفات إليه أنّ القرآن يضيف في نهاية الآية :( كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ) .

فلا ينبغي التعجّب من عدم إنقاص أعمال المتّقين ، لأنّ هذه الأعمال مع الإنسان حيثما كان ، وإذا أراد الله أن يلحق أبناء المتّقين بهم تفضّلا منه ورحمة ، فلا يعني ذلك أنّه سينقص من ثواب أعمالهم أي شيء!

وقال بعض المفسّرين : إنّ كلمة «رهين» هنا معناها مطلق ، فكلّ إنسان مرهون بأعماله ، سواء أكانت صالحة أم طالحة ، ولا ينقص من جزاء أعماله شيء.

ولكن مع ملاحظة أنّ هذا التعبير لا يتناسب والأعمال الصالحة ، فإنّ بعض المفسّرين قالوا : إنّ «كلّ امرئ» هنا إشارة إلى أصحاب الأعمال السيّئة! وإنّ كلّ إنسان مرهون بأعماله السيّئة فهو حبيسها وأسيرها.

__________________

(١) الفعل ألتناهم مشتق من مادّة ألت على وزن ثبت : ومعناه الإنقاص.

(٢) تفسير المراغي ، ج ٢٧ ، ص ٢٦.

١٦٨

ويستدلّون أحيانا بالآيتين (٣٨) و٣٩) من سورة المدثر( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ ) .

غير أنّ هذا التّفسير مع الالتفات إلى سياق الآيات السابقة واللاحقة ـ التي تتكلّم في شأن المتّقين وليس فيها كلام على المشركين والمجرمين ـ يبدو غير مناسب!

وقبال هذين التّفسيرين الذين يبدو كلّ منهما غير مناسب ـ من بعض الوجوه ـ هناك تفسير ثالث ينسجم مع صدر الآية والآيات السابقة والآيات اللاحقة ، وهو أنّ من معاني «الرهن» في اللغة «الملازمة» ، وإن كان معروفا أنّه الوثيقة في مقابل الدين ، إلّا أنّه يستفاد من كلمات أهل اللغة أنّ الرهن من معاينة الدوام والملازمة(١) .

بل هناك من يصرّح بأنّ المعنى الأصلي للرهن هو الدوام والثبوت ، ويعدّ الرهن بمعنى الوثيقة من اصطلاحات الفقهاء ، لذلك فإنّه حين يقال «نعمة راهنة» فمعناها أنّها ثابتة ومستقرّة(٢) .

ويقول أمير المؤمنين في شأن الأمم السالفة : «ها هم رهائن القبور ومضامين اللحود»(٣) .

فيكون معنى( كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ) أنّ أعمال كلّ إنسان ملازمة له ولا تنفصل عنه أبدا ، سواء كانت صالحة أو طالحة ، ولذلك فإنّ المتّقين في الجنّة رهينو أعمالهم ، وإذا كان أبناؤهم وذريّاتهم معهم ، فلا يعني ذلك أنّ أعمالهم ينقص منها شيء أبدا.

وأمّا في شأن الآية (٣٩) من سورة المدثر التي تستثني أصحاب اليمين ممّا

__________________

(١) لسان العرب ، مادّة رهن.

(٢) مجمع البحرين ، مادّة رهن.

(٣) نهج البلاغة ، من كتاب له ٤٥.

١٦٩

سبق ، فيمكن أن تكون إشارة إلى أنّهم مشمولون بألطاف لا حدّ لها حتّى كأنّ أعمالهم لا أثر لها بالقياس إلى ألطاف الله(١)

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذه الجملة تؤكّد هذه الحقيقة وهي أنّ أعمال الإنسان لا تنفصل عنه أبدا ، وهي معه في جميع المراحل.

* * *

__________________

(١) هناك تفاسير أخر في أصحاب اليمين سنتناولها ذيل الآية من سورة المدثر إن شاء الله.

١٧٠

الآيات

( وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨) )

التّفسير

مواهب اخرى لأهل الجنّة :

أشارت الآيات المتقدّمة إلى تسعة أقسام من مواهب أهل الجنّة ، وتشير الآيات محلّ البحث إلى خمسة أخر منها بحيث يستفاد من المجموع أنّ ما هو لازم للهدوء والطمأنينة والفرح والسرور واللذّة مهيّأ لهم في الجنّة!

فتشير الآية الاولى من الآيات محلّ البحث إلى نوعين من طعام أهل الجنّة فتقول :( وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ) .

١٧١

«أمددناهم» مشتق من الإمداد ومعناه العطاء والزيادة والإدامة أي أنّ طعام الجنّة وفواكهها لا ينقص منهما شيء بتناولهما ، وهما ليسا كطعام الدنيا وفواكهها بحيث يتغيّران أو ينقصان.

والتعبير بـ( مِمَّا يَشْتَهُونَ ) يدلّ على أنّ أهل الجنّة أحرار تماما في انتخاب الأطعمة ونوعها وكميّتها وكيفيتها ، فمهما طلبوا فهو مهيئ لهم وبالطبع فإنّ طعام الجنّة غير منحصر بهذين النوعين اللحم والفاكهة ، إلّا أنّهما يمثّلان الطعام المهمّ ، وتقديم الفاكهة على اللحم إشارة إلى أفضليّتها عليه.

ثمّ تشير الآية التالية إلى ما يشربه أهل الجنّة من شراب سائغ فتقول :( يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ ) !

حيث يناول أحدهم الآخر كؤوس الشراب الطاهر من الإثم والإفساد ، ويشربون شرابا سائغا عذبا لذيذا يهب النشاط خاليا من أي نوع من أنواع التخدير وفساد العقل! ولا يعقبه لغو ولا إثم ، بل كلّه لذّة وانتباه ونشاط «جسمي وروحاني».

وكلمة «يتنازعون» من مادّة التنازع ومعناه أخذ بعضهم من بعض ، وقد يأتي للمخاصمة والتجاذب ، لذلك قال بعض المفسّرين بأنّ أهل الجنّة يتجاذبون الشراب الطهور بعضهم من بعض على سبيل المزاح والسرور.

لكن كما يستفاد من كلمات أهل اللغة أنّ «التنازع» متى أطلق معه لفظ الكأس أو ما أشبه فمعناه أخذ الكأس من يد الآخر! ولا يعني التخاصم أو التجاذب! وينبغي الالتفات إلى هذه اللطيفة اللغوية وهي أنّ «الكأس» هي الإناء المملوء فإذا كان خاليا لا يطلق عليه كأس(١) .

وعلى كلّ حال ، فحيث أنّ التعبير بالكأس يتداعى منه إلى الشراب المخدّر

__________________

(١) قال الراغب في مفرداته : الكأس : الإناء بما فيه من الشراب وقال في مجمع البحرين كذلك فإذا خلا الإناء سمّي «قدحا».

١٧٢

في الدنيا فإنّ الآية تضيف قائلة( لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ ) ولا يصدر على أثرها عمل قبيح كما يعقب الشراب المخدّر! فشراب هذه الكأس طهور نقي يجعلهم أكثر طهارة وخلوصا.

أمّا النعمة الرابعة المذكورة لأهل الجنّة فوجود الخدم والغلمان إذ تقول الآية :( وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ) .

و «اللؤلؤ المكنون» هو اللؤلؤ داخل صدفه ، وهو في هذه الحالة شفّاف وجميل إلى درجة لا توصف وإن كان خارج الصدف شفّافا وجميلا أيضا ، غير أنّ الهواء الملوّث والأيدي التي تتناوله كلّ ذلك يؤثّر فيه ، فلا يبقى على حالته الاولى من الشفّافية! فالغلمان وخدمة الجنّة هم إلى درجة من الصفاء حتّى كأنّهم اللؤلؤ المكنون كما يعبّر القرآن الكريم.

وبالرغم من أنّه لا حاجة في الجنّة إلى الخدمة ، وما يطلبه الإنسان يجده أمامه ، إلّا أنّ هذا بنفسه إكرام أو احترام آخر لأهل الجنّة!

وقد ورد في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين سئل عن أهل الجنّة فقيل له : يا رسول الله إنّ الغلمان هم كاللؤلؤ المكنون فكيف حالة المؤمنين؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والذي نفسي بيده فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب(١) .

والتعبير بـ (لهم) يدلّ على أنّ كلّ مؤمن له خدمة خاصّون به ، وحيث أنّ الجنّة ليست مكانا للهم والحزن فإنّ الغلمان يلتذّون بخدمتهم المؤمنين!.

وآخر نعمة في هذه السلسلة من النعم هي نعمة الطمأنينة وراحة البال من كلّ عذاب أو عقاب إذ تقول الآية التالية :( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ ) .

__________________

(١) مجمع البيان ، الكشّاف ، روح البيان ، أبو الفتوح الرازي.

١٧٣

فمع أنّنا كنّا نعيش بين ظهراني أهلنا وكان ينبغي أن نحسّ بالأمان والطمأنينة ، إلّا أنّنا كنّا مشفقين مشفقين أن تحدق بنا الحوادث المزعجة والمكدّرة لحياتنا وأن يصيبنا عذاب الله على حين غرّة في أيّة لحظة.

مشفقين أن يسلك أبناؤنا طريق الضلال ، فيتيهوا في مفازة جرداء ويتحيّروا! مشفقين أن يفجؤنا أعداؤنا القساة ويضيّقوا علينا الميدان! ولكن الله منّ علينا برحمته الواسعة :( فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ ) .

أجل : منّ الله الرحيم علينا فنجّانا من سجن الدنيا ووحشتها ، وأنعم علينا في دار القرار وجنّات النعيم.

وحين يتذكّرون ماضيهم وجزئياته ويقيسونه بما هم عليه من حالة منعّمة! يعرفون قدر نعم الله ومواهبه الكبرى أكثر ، وستكون تلك النعم ألذّ وأدعى للقلب ، لأنّ القيم تتجلّى أكثر في القياس بين نعم الدنيا ونعم الآخرة.

والكلام الذي ينقله القرآن على لسان أهل الجنّة هنا يشير إلى اعترافهم بهذه الحقيقة وهي أنّ كون الله برّا رحيما يعرفه أهل الجنّة في ذلك الزمان أكثر من أي وقت مضى فيقولون :( إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ) .

إلّا إنّنا نعرف هذه الصفات الآن بشكل واقعي أكثر ممّا كنّا نعرفها ، إذ شملنا برحمته العظيمة قبال هذه الأعمال التي لا تعدّ شيئا وأحسن إلينا مع كلّ تلك الذنوب الكثيرة!.

أجل إنّ عرصة القيامة ونعم الجنّة مدعاة لتجلّي صفات الله وأسمائه ، والمؤمنون يتعرّفون في عرصة القيامة على حقيقة أسماء الله تعالى وصفاته أكثر من أي زمن آخر.

حتّى الجحيم أيضا تبيّن صفاته وحكمته وعدله وقدرته!

* * *

١٧٤

ملاحظات

١ ـ كلمة «يتساءلون» مشتقّة من السؤال ، ومعناه الاستفهام ، أي يسأل بعضهم بعضا ، وهذا الفعل هنا يشير إلى أنّ أهل الجنّة يسأل بعضهم بعضا عن ماضيه ، لأنّ تذكّر هذه المسائل والنجاة من تلك الآلام والهموم والوصول إلى مثل هذه المواهب كلّ ذلك بنفسه تلذّذ أيضا وهذا يشبه تماما «الإنسان» المسافر العائد من سفر محفوف بالمخاطر إلى محيط آمن. فهو يتحدّث مع من سافر معه عن ما كان في سفره ويعرب عن سروره لسلامته.

٢ ـ كلمة «مشفقين» مشتقّة من الإشفاق ، وكما يقول الراغب في مفرداته معناه التوجّه المقرون بالخوف فحين يتعدّى هذا اللفظ «الإشفاق» بـ «من» يكون مفهوم الخوف فيها أظهر ، وإذا تعدّت بـ «في» يكون مفهوم التوجّه والعناية فيها أكثر!

والأصل أنّ هذه الكلمة مشتقّة من «الشفق» وهو النور المقرون أو الممزوج بشيء من الظلمة.

والآن ينبغي أن يعرف ممّ كانوا مشفقين في الدنيا وخائفين؟ ولأي شيء كانوا يتوجّهون؟!

وهنا احتمالات ثلاثة وقد جمعناها في تفسير الآية إذ لا منافاة بينها جميعا «الخوف من الله والتوجّه إليه لنجاتهم ـ والإشفاق من انحراف أهليهم والالتفات إلى أمر التربية ـ والخوف من الأعداء والتوجّه لحفظ أنفسهم في قبالهم» وإن كان المعنى الأوّل ـ مع ملاحظة الآيات التالية وخاصّة( فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ ) ـ أقرب للنظر!

٣ ـ التعبير «في أهلنا» بإطلاقه يحمل مفهوما واسعا حيث يصدق على جميع الأبناء والأزواج والأحباب ، ويشير هذا التعبير إلى أنّ الإنسان في مثل هذا الجمع يحسّ بالأمن أكثر من أي مكان آخر ، فإذا كان فيهم مشفقا ، فمن المعلوم حاله إذا

١٧٥

كان في غيرهم!!

ويحتمل أيضا أنّ هذا التعبير يشير إلى أولئك المبتلين باسرة غير مؤمنة ، وكانوا خائفين حتّى منهم ، إلّا أنّهم في الوقت ذاته قاوموا وحافظوا على استقلالهم بالاتّكال على الله ولطفه ولم يتلوّنوا بلون الآسرة.

٤ ـ «السموم» يعني الحرارة التي تدخل في مسام البدن فتؤذي الإنسان ، ويطلق على الريح التي تتسم بهذه السمة بريح السموم كما يطلق عذاب السموم على مثل هذا العذاب الذي تدخل حرارته مسام البدن فتؤذيه.

وأمّا إطلاق كلمة «السم» على المواد القاتلة فهو لأنّها تنفذ في جميع أجزاء البدن!

٥ ـ كلمة «البرّ» في الأصل تطلق على اليابسة في قبال البحر ، ثمّ استعملت هذه الكلمة في من يعمل عملا صالحا وواسعا حسنا ، وأجدر بهذه الكلمة الذات المقدّسة ، لأنّ لطفه وإحسانه عمّ العوالم كلّها.

٦ ـ ارتباط الآيات ومضامينها

قلنا أنّ هذه الآيات والآيات المتقدّمة تذكر أربعة عشر قسما من نعم أهل الجنّة.

١ ـ الجنّات ٢ ـ النعيم ٣ ـ السرور ٤ ـ الأمان من عذاب جهنّم ٥ ـ تناول الطعام والشراب السائغ في الجنّة ٦ ـ الاتّكاء على السرر المصفوفة ٧ ـ الأزواج من الحور العين ٨ ـ الحاق الذرية التي تبعت آباءها بإيمان ٩ ـ أنواع الفواكه اللذيذة ١٠ ـ أنواع اللحم ، ١١ ـ ما تشتهي الأنفس ١٢ ـ كؤوس الشراب الطهور ١٣ ـ ويطوف عليهم غلمان لهم كأنّهم لؤلؤ مكنون ١٤ ـ التساؤل عن أيّام الدنيا في مجالس يغمرها الانس!.

١٧٦

وهذه النعم بعضها مادّي وبعضها معنوي ، ومع كلّ ذلك فإنّ نعم الجنّة الماديّة والمعنوية غير منحصرة بهذه النعم ، بل ما هو مذكور هنا يعدّ جانب من جوانب نعم الجنّة!

* * *

١٧٧

الآيات

( فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) )

سبب النّزول

جاء في رواية أنّ قريشا اجتمعت في دار الندوة(١) ليفكّروا في مواجهة دعوة النّبي الإسلامية التي كانت تعدّ خطرا كبيرا على منافعهم غير المشروعة.

فقال رجل من قبيلة «عبد الدار» ينبغي أن ننتظر حتّى يموت ، لأنّه شاعر على كلّ حال ، وسيمضي عنّا كما مات زهير والنابغة والأعشى «ثلاثة شعراء جاهليون» وطوي بساطهم وسيطوى بساط محمّد أيضا بموته. قالوا ذلك

__________________

(١) دار الندوة هي دار «قصي بن كلاب» جدّ العرب المعروف ، وكانوا يجتمعون فيها للمشاورة في الأمور المهمّة ، وكانت هذه الدار إلى جوار بيت الله وتفتح بابه نحو جهة الكعبة ، وكانت هذه الدار ذات مركزية في زمن قصي بن كلاب نفسه (راجع سيرة ابن هشام ، ج ٢ ، ص ١٢٤ وج ص ١٣٢).

١٧٨

وتفرّقوا فنزلت الآيات آنفة الذكر وردّت عليهم(١) .

التّفسير

أمنيات المشركين وتحدّي القرآن

كان الكلام في الآيات المتقدّمة على قسم مهمّ من نعم الجنّة وثواب المتّقين وكان الكلام في الآيات التي سبقتها عن بعض عذاب أهل النار.

لذلك فإنّ الآية الاولى من الآيات محلّ البحث تخاطب النّبي فتقول : «فتذكّر»! لأنّ قلوب عشّاق الحقّ تكون أكثر استعدادا بسماعها مثل هذا الكلام ، وقد أن الأوان أن تبيّن الكلام الحقّ لها!

وهذا التعبير يدلّ بوضوح أنّ الهدف الأصلي من ذكر جميع تلك النعم ومجازاة الفريقين هو تهيئة الأرضية الروحية لقبول حقائق جديدة! وفي الحقيقة فإنّه ينبغي على كلّ خطيب أنّ يستفيد من هذه الطريقة لنفوذ كلامه وتأثيره في قلوب السامعين.

ثمّ يذكر القرآن الاتّهامات التي أطلقها أعداء النّبي الألدّاء المعاندون فيقول :( فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ ) .

«الكاهن» يطلق على من يخبر عن الأسرار الغيبية ، وغالبا ما كان الكاهن يدّعي بأنّه له علاقة بالجنّ ويستمد الأخبار الغيبية منهم ، وكان الكهنة في الجاهلية ـ خاصّة ـ كثيرين ومن ضمنهم الكاهنان «سطيح» و «شق» ، والكهنة أفراد أذكياء ، إلّا أنّهم يستغلّون ذكاءهم فيخدعون الناس بادّعاءاتهم الفارغة.

والكهانة محرّمة في الإسلام وممنوعة ولا يعتدّ بأقوال الكهنة! لأنّ أسرار

__________________

(١) راجع تفسير المراغي ، ج ٢٧ ، ص ٣١.

١٧٩

الغيب خاصّة بعلم الله ولا يطلع غيبه إلّا من ارتضى من رسول وإمام وحسب ما تقتضيه المصلحة.

وعلى كلّ حال فإنّ قريشا ومن أجل أن تشتّت الناس وتصرّفهم عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت تتّهمه ببعض التّهم ، فتارة تتّهمه بأنّه كاهن ، وتارة تتّهمه بأنّه مجنون ، والعجب أنّها لم تقف على تضاد الوصفين ، لأنّ الكهنة أناس أذكياء والمجانين على خلافهم!! ولعلّ الجمع بين الافترائين في الآية إشارة إلى هذا التناقض في الكلام من قبل القائلين.

ثمّ يذكر القرآن الاتّهام الثالث الذي يخالف الوصفين السابقين أيضا فيقول :( أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) .

فطالما هو شاعر فعلينا أن نصبر ، إذ أنّ لأشعاره رونقها وجاذبيتها ، فإذا حلّ به الموت وانطوت أشعاره كما ينطوي سجل عمره وأودعت في ضمير النسيان فسنكون حينئذ في راحة من أمره!!.

وكما يفهم من كتب اللغة فإنّ «المنون» مشتقّ من المنّ ، وهو على معنيين : النقصان والقطع ، وهذان المعنيان أيضا بينهما مفهوم جامع!

ثمّ استعملت كلمة «المنون» في الموت أيضا ، لأنّه ينقص العدد ويقطع المدد.

وقد يطلق «المنون» على مرور الزمان ، وذلك لأنّه يوجب الموت ويقطع العلائق وينقص النفر ، كما يطلق «المنون» على الليل والنهار أحيانا ، ولعلّ ذلك للمناسبة ذاتها(١) .

وأمّا كلمة (ريب) فأصلها الشكّ والتردّد والوهم في الشيء الذي تنكشف أستاره بعدئذ فتتضح حقيقته!

وهذا التعبير يستعمل في شأن الموت ، فيقال «ريب المنون» لأنّ وقت

__________________

(١) راجع «لسان العرب» و «المفردات للراغب» و «المنجد» و «تفسير القرطبي».

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211