الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة0%

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 253

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: هاشم معروف الحسني
تصنيف: الصفحات: 253
المشاهدات: 53779
تحميل: 9110

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 253 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53779 / تحميل: 9110
الحجم الحجم الحجم
الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وهو المانع والمنع في حقّه سبحانه محال، فقال له أبو الحسن الأشعري: فعلى قياسك لا يسمّى الله حكيماً؛ لأنّ هذا الاسم مشتقٌّ من حكمة اللجام وهي الحديدة المانعة للدابة عن الخروج، فإذا كان اللفظ مشتقّاً من المنع، والمنع على الله محال، لزِمَك أنْ تمنع إطلاق اسم حكيم عليه سبحانه وتعالى.

فقال له الجبائي: لم منعت أنت أنْ يسمّى الله سبحانه عاقلاً، وأجزت أنْ يسمّى حكيماً؟

فقال الأشعري: لأنّ طريقي في مأخذ أسماء الله الإذن الشرعي دون القياس اللغوي، فأطلقت عليه حكيماً متابعةً للشرع، ولم أطلق عليه عاقلاً؛ لأنّ الشرع قد منَع من ذلك (1).

ويؤكّد كتّاب الفِرَق أنّ الاختلاف الذي كان يقَع بين التلميذ وأُستاذه في تلك المناظرات هو الذي أدّى إلى انفراد التلميذ عن أُستاذه، بعد أنْ كان يؤمن بأقوال المعتزلة وآرائهم أشدّ الإيمان ويدافع عنها بإخلاصٍ وتجرّد، ولكن المتتبّع لتاريخ كبار المعتزلة الذين ترأسوا فكرة الاعتزال منذ أنْ ظهر واصل بن عطاء الزعيم الأوّل، حتى جاء الجبائي في القرن الثالث، يجد بينهم اختلافاً كبيراً في أكثر المسائل الكلامية والفلسفية.

وقد جاء عن الجبائي نفسه أنّه قال: ليس بيني وبين أبي الهذيل العلاّف خلاف إلاّ في أربعين مسألة، فمجرّد الاختلاف في الرأي في بعض المسائل التي كان يجري بين الأُستاذ وتلميذه لا يؤدّي إلى محاربة الاعتزال، بالشكل الذي انتهى إليه بين الأشاعرة والمعتزلة، هذا بالإضافة إلى أنّ المعتزلة أنفسهم يقرّرون أنّ الخلاف مهما بلغ واشتدّ لا يوجب الخروج عن الاعتزال ما دامت أركان الاعتزال الخمسة محفوظة بين الطرفين، لذلك فليس من المُستبعد أنْ يكون الأشعري منذ بدأ دراسة الاعتزال، واتّصل بشيوخ المعتزلة حتى المرحلة الأخيرة، لم يكن يؤمن بنظريّاتهم ولا بمناهجهم التي سلكوها في مقام البحث والاستدلال، وإنّما اتصل بهم وتعمّق في دراسة آرائهم ومناهجهم التي سلكوها في مقام البحث والاستدلال والمناظرة؛ لغرض الردّ عليها والانتصار للمُحدّثين الذين كانوا هدفاً لنقمة المعتزلة وأعوانهم، نعم، الشيء الذي

____________________

(1) انظر الفرق لعليّ الغرابي.

١٢١

لا يُمكن تجاهله أنّ الأشعري قد تأثّر بأُسلوبهم في مقام البحث والاستدلال، فكان أُسلوبه مزيجاً من العقل والحديث، فلَم يعتمد على العقل وحده ولا على الحديث وحده، وإنْ كانت هذه الطريقة قد أوجبَت نقمة المحدّثين عليه وعلى أتباعه فيما بعد كما سنشير إلى ذلك في المباحث الآتية.

ومهما كان الحال فقد تفرّد في بعض النظريّات عن شيوخ المعتزلة، وخالفهم في بعض أقوالهم في الصفات وغيرها كما يدّعي كتاب الفِرَق والمذاهب، وجاء ولده من بعد، أبو هاشم عبد السلام بن محمّد الجبائي، فاختصّ ببعض الآراء والنظريّات وخالف والده في تِسعٍ وعشرين مسألة، كما جاء في التعليقة على التبصير في الدين للشيخ محمّد زاهد الكوثري (1).

ومن آرائه أنّ مَن تاب عن ذنبٍ مع إصراره على ذنبٍ آخر لم تُقبل توبته، حتى أنّ يهودياً لو تاب عن كفره ولكنّه منع حبّةً مثلاً عن مستحقٍّ لم تصحّ توبته من اليهودية، وأنّ التوبة عن الذنب بعد العجز عنه لا تقبل، فمَن كذّب ثمّ قُطِع لسانه وتاب بعد ذلك لا تقبل توبته، ويَنسِب إليه أبو مظفّر في التبصير أنّ الوقوف بعرفة، والسعي، والطواف ليس واجباً، وأنّه كان يكفّر المعتزلة ويكفّرونه ويتبرّأ من أبيه (2) إلى غير ذلك من الآراء المنسوبة إليه، وإليه يُنسب القول بالأحوال.

والتزم بذلك في مقابل المعتزلة المنكرين لصفات الله الذاتية محتجّين لذلك، بأنّ الالتزام بوجود صفات غير الذات يؤدّي إلى تعدّد القديم، فجاء أبو هاشم الجبائي وسمّاها أحوالاً لا معدومة ولا موجودة، ولا معلومة ولا مجهولة، لا تُعرف إلاّ مع الذات ولا تُدرك إلاّ معها ولا تتحقّق إلا بتحقّقها، فليس لها وجود خارجي كوجود الذات وليست معدومة؛ لأنّ الله سبحانه أثبتها لنفسه، فمعنى أنّها لا موجودة ولا معدومة هي أنّها ثابتة (3) وليس من قصدنا تحقيق هذه الآراء، ولا بيان كلّ ما تفرّدت به تلك الفِرَق، ولم نضع هذا الكتاب لهذه الغاية، وإنّما الذي أردناه من العرض الموجز لشيوخ المعتزلة وبعض آرائهم التمهيد للغاية التي وضعنا هذا الكتاب من أجلها.

____________________

(1) انظر ص 80 من الكتاب المذكور.

(2) انظر المصدر المذكور ص 82.

(3) انظر الفرق لعلي الغرابي ص 259 و260.

١٢٢

ومجمل القول أنّ هذه الحفنة القليلة من آراء المعتزلة التي عرضناها في هذه الصفحات، تمثّل النزعة العقلية التي طغت على تفكير المعتزلة، فاعتمدوا على العقل وحده في جميع أبحاثهم شرعية كانت أم غيرها، وحاولوا عن طريقه حلّ جميع المشاكل حلاًّ منطقياً مقنعاً، وأقّروا للعقل بالسلطنة المطلقة، واعتبروا الشرع موضّحاً ومتمّماً لشريعة العقل، فإذا بدا تناقض بين ما جاء به الوحي، وبين ما حكَم به العقل، لابدّ من تأويل الوحي بما يوافق حكم العقل، فشريعة العقل عندهم في منتهى القداسة، لا يُمكن أنْ تمسّ بحال من الأحوال، وقد يلجأ العقل أحياناً إلى الوحي ليستمدّ منه ما يعجز عن إدراكه. ومِن أمثلة ذلك مقدار النعيم والعقاب، أمّا أصل الثواب والعقاب على الأفعال فهما من مختصّات العقل وحده ولو لم يأت بها الوحي من الله سبحانه، ولكن مقدار الاستحقاق يتوقّف على الشرع.

قال الجبائي وابنه أبو هاشم: (بمقتضى العقل والحكمة يجب على الحكيم ثواب المطيع وعقاب العاصي، إلاّ أنّ التأقيت والتخليد فيه يعرف بالسمع)، ومن ذلك يبدو أنّ المعتزلة قد أفرطوا في تحكيم العقل إفراطاً حملهم على القول بأنّ الوحي وظيفته توضيح شريعة العقل، وأنّ باستطاعة جميع الناس أنْ يدركوا بعقولهم الصفات الذاتية الثابتة للأفعال عندما تنضج عقولهم وتتّسع مداركهم، وهي وحدها المقياس الوحيد لتحديد ما في الأفعال من صفات حسنة أو قبيحة، وعندما يعجز العقل أحياناً عن إدراك بعض الحقائق، يلتجئ إلى الوحي ليستمدّ منه النور الذي يرشده إلى ذاتيات الأفعال، فهو إما مؤكّد لشريعة العقل، أو شارح وكاشف لمّا لم يستطع العقل تحديده والإحاطة بواقعه، وإذا بدا ما يوهم الخلاف بين الحكمين، لابدّ من تأويل النصوص الشرعية بما يتّفق مع حكم العقل.

ومن ذلك الآيات التي يلزم من الأخذ بظاهرها التجسيم، ومشابهة الإله لسائر مخلوقاته، وغير ذلك من الآيات التي اعتمد عليها الجهمية والمحدّثون فيما يتعلّق بأفعال الإنسان، وكونه حرّاً مستقلاًّ فيما يفعل، أو مسيّراً لا يملك من أُموره شيئاً، هذا الإفراط في تحكيم العقل كان حدَثاً جديداً في تاريخ الإسلام بنظر المحدّثين الذين اعتادوا أنْ يبحثوا الدين وغيره من المشاكل عن طريق النصوص منذ مطلع فجر الإسلام، ولا سيّما وقد رأوا من المعتزلة بعض الانحرافات في آرائهم تتخطّى الأُصول الإسلامية، كما أوردنا قسماً منها عن الواصلية، والنظامية، والبشرية وغيرهم من

١٢٣

الأقطاب المؤسّسين لمذهب الاعتزال.

لذلك اتسعت المسافة بين الطرفين، وتراشقوا بالتفكير والخروج عن الدين، وأعلنوا حرباً بينهما لا هوادة فيها، وادعى كلٌّ منهما أنّه الحامي للإسلام والذائد عنه كيد المخرّبين والمعتدين، وتضاعفت نقمة المحدّثين عليهم عندما وقف الحكّام العبّاسيّون بجانبهم، وحاولوا فرض آرائهم ونظرّياتهم على الناس بالسيف، ولا سيّما مسألة خلق القرآن التي جرت المحنة والبلاء على فريق من كبار العلماء، وبلغت المحنة أشدّها في عهد المعتصم والواثق اللذين تبنّيا وصيّة المأمون بمناصرة المعتزلة والتنكيل بخصومهم.

وبقي سلطان الاعتزال ينتشر، حتى جاء المتوكّل العبّاسي فخفّف من حدّته، وأفسح المجال للمحدّثين أنْ يُعبّروا عن آرائهم حسب اجتهادهم، ورفع منزلتهم بين الناس ولا سيّما في الشطر الأخير من حكمه، ومن مجموع ذلك تبيّن أنّ المعتزلة منذ نشأتهم لم يصادفوا مقاومة من الحكّام الذين عاصروهم، فالأمويّون وإنْ لم يقفوا بجانبهم، كما فعَل بعض الحكّام العبّاسيّين، ولكنّهم لم يتدخّلوا في أُمورهم، وأفسحوا لهم ولغيرهم المجال للبحث والخصومات المذهبية، والمناظرات في مختلف العلوم والمعتقدات، وقدّروا أنّ انفتاح هذا الباب في وجه العلماء، وانصرافهم إلى هذه النواحي يشغل القسم الأكبر من أوقاتهم وتفكيرهم، ويصرفهم عن الشؤون السياسية، وسوء الإدارة إلى البحث والتفكير والخصومات في العقائد والآراء.

والعبّاسيّون في السنين الأُولى من عهدهم التي تنتهي بانتهاء خلافة الرشيد، كانوا مع المعتزلة أشبه بأسلافهم الأمويّين، وانصرفوا عن جميع الأحزاب والفرق إلى التنكيل بالعلويّين ومطاردتهم، وإذا قرّبوا أحداً من العلماء أو تظاهروا بتعظيمهم كما كان يفعل المنصور والرشيد أحياناً، فذاك ليستروا سوء تصرّفاتهم بهذه المظاهر.

ولمّا جاء دور المأمون تبنّى بنفسه آراء المعتزلة، وقرّبهم من مجالسه، وجعل منهم الحجّاب والوزراء، وعقَد لهم المجالس للمناظرة بينهم وبين الفقهاء والمحدّثين بصورة خاصّة (1)، وقد أكسبتهم هذه المعاملة عطف

____________________

(1) يؤكّد جماعة من الكتّاب العرب والمستشرقين ومنهم المستشرق الفرنسي غودفروا في كتابه (النظم الإسلامية) إنّ مذهب المعتزلة قد ساد بصفته مذهباً رسميّاً لا بصفته مذهباً عقليّاً حرّاً.

١٢٤

الناس، ووجّهت إليهم أنظار الجماهير، ولذلك عندما تخلّى عنهم الحكّام اتجهت إليهم الأنظار، وأصبح الإمام أحمد بن حنبل من الأعاظم بنظر الجماهير، واستغل المحدّثون وعلى رأسهم أحمد بن حنبل، انحراف الحكّام عن المعتزلة، فنشطوا في نشر آرائهم، وقاموا بتمثيل الدور الذي مثّله المعتزلة وأنصارهم مع الفقهاء والمحدّثين من قبل.

على أنّ الذي تؤكّده المصادر التاريخية، أنّ المحدّثين قد صمدوا في وجه تلك الأحداث، وأعلنوا رأيهم في المعتزلة بكلّ صراحة وبدون مواربة، فلقد عدّهم أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة من الزنادقة، كما أفتى مالك، والشافعي بعدم قبول شهادتهم، وكان محمّد بن الحسن الشيباني لا يجيز الصلاة معهم (1).

وفي كتاب التبصير لأبي المظفر الإسفراييني ما يشير إلى أنّ جميع الفقهاء والمحدّثين من عهد التابعين إلى نهاية القرن الرابع، وقد وقفوا في اتجاهٍ معاكس للمعتزلة بالرغم من مساندة الحكّام لهم.

فإنّه بعد أنْ أورد اعتقادات أهل السنّة والجماعة التي تخالف المعتزلة، بعد أنْ أوردها قال: (واعلم أنّ جميع ما ذكرناه من اعتقادات السنّة لا خلاف في شيء منه بين الشافعي، وأبي حنيفة، وجميع أهل الرأي والحديث، مثل مالك الأوزاعي وداود الظاهري، والزهري،والليث بن سعد، وأحمد بن حنبل، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة (2)، ويحيى بن معين (3)، وإسحق بن راهويه (4)، ومحمّد بن اسحق الحنظلي (5)) .

واستطرد يُعدّد الفقهاء الذين رافقوا عصر المعتزلة في القرنين الثاني والثالث، في الحجاز والعراق والشام وخراسان، وما وراء النهر، ومَن تَقدّمهم من الصحابة والتابعين، وأيّد دعواه بمؤلّفات أبي حنيفة

____________________

(1) المذاهب الإسلامية لأبي زهرة ص 227.

(2) المتوفّى سنة 198.

(3) المتوفّى سنة 233.

(4) المتوفّى سنة 238.

(5) المتوفّى سنة 242.

١٢٥

والشافعي وغيرهما من المؤلّفين، حتى في عصر المحنة على حدّ تعبير بعض الكتاب، تلك المؤلّفات التي تعبر عن آراء المحدّثين والفقهاء في المعتزلة، وأهل الأهواء والبِدَع على حد تعبير الاسفراييني (1) .

ومع أنّ تلك الخصومات المذهبية التي استمرت قروناً من الزمن قد أضرّت بالمسلمين وأدخلت على العقيدة الإسلامية بعض التشويشات والآراء المستوردة من أصحاب الديانات القديمة كاليهودية والنصرانية وغيرهما، وبسبب ذلك أُحيطت العقيدة بشيءٍ من التعقيد والغموض، ومع ذلك فلا يسعنا أنْ نتجاهل المكاسب التي استفادها المسلمون من هذا الصراع العقائدي ومِن تحكيم العقل والمنطق في تعليل الحوادث وإرجاع الأُمور إلى أسبابها الواقعية، هذا الأُسلوب الجديد الذي أفاد الفكر الإسلامي قوّةً ومرونة على الجدَل والنقاش، فاستطاع أنْ يصمد في وجه أُولئك الغزاة المحاربين للإسلام عن طريق الدسّ في تعاليمه، وتشويش عقائده وتحويرها عن واقعها.

ومهما كان الحال فقد أسرف أنصار المعتزلة في سرد الغنائم والمكاسب التي أضافوها إلى المعتزلة، كما أسرفوا في التشنيع على المحدّثين والفقهاء الذين اتبعوا طريقة إسلافهم في فهم الدين، وتحديد أُصوله وأركانه، كما وقف المحدّثون والفقهاء والأشاعرة منهم نفس الموقف، فقد بالغوا في التشويش عليهم، وأضافوا إليهم من الأفكار والآراء التي لا تدخل في حسابهم، ولا هي من تعاليمهم وحاولوا بشتّى الأساليب أنْ يظهروا بمظهر الحماة للدين والعقيدة، بحيث لولاهم لم يبقَ للإسلام رسم أو وصف.

والواقع الذي لا يُمكن تجاهله أنّ لكلّ من الطرفين حسناته وسيّئاته، فكلاهما قد أفسَد وأدخل على الدين من البِدَع والخرافات ما يشوه وجهه ويسيء الى تعاليمه ومبادئه، كما أصلح من ناحية أُخرى أفادت الفكر وأكسبته قوّة ومرونة في وجه الغزاة والمخرّبين، وتهيّأ لكلا الطرفين بواسطة هذا الصراع الفكري نشر الثقافة الإسلامية، وتأليف الموسوعات العلمية والدينية الغنية بالفكر والعطاء الجزيل الواسع.

ومن المؤسف أنّ الباحثين في تأريخ الفِرَق والمتتبّعين لآثارها من ناقدين ومؤيّدين قد تجاهلوا أئمّة الشيعة، وتلاميذهم الذين رافقوا تلك

____________________

(1) انظر التبصير في الدين ص 165 و166.

١٢٦

التطورات الفكرية في القرنين الثاني والثالث، مع أنّهم عاشوا في ذلك الجو العلمي المزدحم بالآراء والأفكار المتضاربة، وكانوا في الطليعة بين علماء ذلك العصر، كما يعترف بذلك حتى أخصامهم، وكانت مجالسهم، وبيوتهم مقصداً لكلّ عالم ومتعلم، ومع ذلك لم يتعرضوا لهم، ولم يذكروا شيئاً عن تلك المواقف التي وقفوها لحماية العقيدة من الخطر الذي أحدَق بها في تلك الفترة من تاريخ الإسلام.

مع أنّ الأئمّة من أهل البيت (عليه السلام) وشيعتهم قد انصرفوا عن كلّ شيء، إلاّ عن خدمة الدين، وحماية عقائده التي جاء بها الرسول (صلّى الله عليه وآله) ونصّ عليها القرآن الكريم من العابثين والمشوّشين، وكانت لهم ولشيعتهم وتلامذتهم أمثال هشام بن الحكّم، ومؤمن الطاق، ومحمّد بن مسلم، ويونس بن عبد الرحمان، وزرارة بن أعين، وأبان بن تغلب، ومحمّد بن عمر، والفضل بن شاذان وغيرهم من العشرات، جولات موفّقة في الدفاع عن العقائد الإسلامية، سلَكوا فيها طريقاً وسَطاً بين المعتزلة والمحدّثين وأنصارهم الأشاعرة، وقد أثبتت كتب الحديث ومؤلّفات الشيعة في عِلم الكلام آراء الإمامية في التوحيد والصفات والتجسيم، والقدر والاختيار، وغير ذلك ممّا يتعلّق بالنبوّة والإمامة والجنّة والنار، وجميع المباحث التي كانت محلاًّ للجدَل والمناظرات بين المسلمين وغيرهم، وبين المسلمين أنفسهم.

وسنعرض قسماً من تلك الآراء في الفصل الذي أعددناه للمقارنة بين آراء الإمامية وغيرهم من الفِرَق الإسلامية، ومنها يتبيّن أنّهم وحدهم الذين وضعوا أُصول العقيدة الإسلاميّة، والذائدون عنها كيد المعتدين، والمفترين  بأُسلوب منطقي يؤيّده العقل، ويتّفق مع الفطرة.

ومجمل القول أنّ الخصومات العقائدية لم تكن بين الأشاعرة وأتباعهم المحدّثين، وبين المعتزلة فحسب، بل كانت بين هاتين الفئتين وبين الإمامية أيضاً؛ لأنّهم يتخطّون في الغالب آراء الفريقين، غاية ما في الأمر أنّ حدّة الخصام بين الإمامية وغيرهم لم تبلغ الحدّ الذي وصلت إليه بين المعتزلة والمحدّثين وأنصارهم الأشاعرة، و الماتريدية أتباع ابي الحسن الماتريدي الذي يتّفق مع الأشعري في أكثر مناهجه.

وتؤكّد المصادر الموثوقة أنّ الخصومة بين الطرفين بقيَت إلى أوائل القرن الخامس الهجري، وكانت تشتدّ تارة، وتضعف أُخرى حتى جاء

١٢٧

دور القادر العبّاسي، فتدخل رسميّاً لإنهاء هذه المنازعات، ووضَع حدّاً لها بعد أنْ جمَع المحدّثين وأنصارهم من الأشاعرة، فوضعوا كتاباً أسموه (الاعتقاد القادري) يتضمّن ما يجب على المسلم الاعتقاد به من أُصول الدين، كالتوحيد، والصفات، وخلق القرآن وغير ذلك من المسائل التي كانت محلاًّ للخلاف بين الطرفين، ثمّ وقّعه الفقهاء بخطوطهم، وتعهّدت الدولة بنشره بين المسلمين، وحذّرت المخالفين بالعقوبات الصارمة.

وأصدر الخليفة القادر أوامره بعدَم الخوض في المباحث الكلامية وتدريسها، والمناظرات على مذهب الاعتزال (1) وبذلك تمّ القضاء على الاعتزال كمذهب له أنصاره وأتباعه، وأصبحت السيادة المطلقة لمذهب المحدّثين والأشاعرة في العقائد بتأثير السلطة الحاكمة يومذاك، وكان لهذا الانحياز أثره البالغ في انتشار مذهب الأشاعرة، والركود الذي طرأ على الاعتزال، ولولا ذلك لَما استطاع الأشاعرة وأتباعهم الوقوف في طريق المعتزلة، والحدّ من نشاطهم.

وقد أصبح التقليد في الأُصول مفروضاً على جميع المسلمين، وانتهى دور الاجتهاد وتحكيم العقل في أُصول العقائد، كما انتهى دورهما في المسائل الفرعية بعد أنْ أصدر المنتصر العبّاسي مرسوماً بحصر المذاهب الفقهية في الأربعة، التي لا تزال إلى اليوم مرجعاً لأهل السنّة يفتون الناس ويعملون بآراء أُولئك الذين مضى عليهم أكثر من ألف ومِئتي سنة تقريباً، ومن المعلوم أنّ تحمّس الحكّام للأشاعرة والمحدّثين لم يكن بدافع الحرص على الدين، وإنّما هو لإرضاء الجماهير التي كانت تؤيّد الحنابلة والأشاعرة، والتي انحازت إليهم بعد المحنة التي أنزلها بعض الحكّام بهم بواسطة المعتزلة كما ذكرنا في الفصول السابقة.

ومهما كان الحال فالتحجير على العقول، وتحديد صلاحيّاتها يعتبر إساءة إلى العلم وإلى الدين والأُمّة، ولولاها لَما نجحت دعوة الرُسل، ولا تقدّمت الأُمم في جميع نواحي الحياة.

____________________

(1) انظر مقدّمة مقالات الإسلاميين للأشعري بقلم محمّد محيي الدين عبد الحميد ص 27.

١٢٨

الأشاعرة

الأشاعرة إلى عليّ بن إسماعيل المعروف بأبي الحسن الأشعري، وهو الذي وضع أُصول هذا المذهب في سنة 300 تقريباً، بعد أنْ انفصل عن أُستاذه محمّد بن عبد الوهاب الجبائي، وناصَر المحدّثين في أكثر آرائهم في أُصول العقائد، وينسب المذهب إليه؛ لأنّه سلَك طريقاً وسَطاً بين المحدّثين الذين يعتمدون على النصوص، ولا يرون للعقل سُلطاناً في مقابلها ويعتمدون على ظواهر الآيات والأحاديث، وبين المعتزلة الذين اعتمدوا على العقل، واعتبروا الوحي مقرّراً لأحكام العقل، ولمّا جاء الأشعري لم يعتمد على العقل مستقلاًّ، ولا وقف مع النصوص والتزم بها وإنْ خالفت العقل، وحاول أنْ يجمع بين الأمرين.

وقد جاء في ترجمته أنّه ولد في البصرة سنة 260، وتوفّي سنة 333، وينتهي نسبه إلى أبي موسى الأشعري، وقد نشأ ببغداد وتوفّي بها، وأخفى أصحابه قبره خوفاً من أنْ تنبشه الحنابلة؛ لأنّهم حكموا بكفره وأباحوا دمه، وحينما توجّه لدراسة العِلم اتصل بالمعتزلة فلازم الجنائي وبقي معه حوالي أربعين سنة، كان مِن ألصق الناس به، وأشدّهم إيماناً بآرائه وإحصاءً لأقواله، وجرَت بينهما مناظرات في مختلف المواضيع، أدّت إلى انفصاله عنه، ووقوفه بجانب الأخصام الأشدّاء على المعتزلة، وقد سأله يوماً عن حقيقة الطاعة، فقال الجبائي: هي موافقة الإرادة، فقال له: هذا يوجب أنْ يكون الله مطيعاً لعبده إذا أعطاه مراده، فالتزم الجبائي بذلك.

وقال الشهرستاني في الملل والنحل: ومن غريب الاتّفاق أنّ أبا موسى الأشعري كان يقرّر رأي حفيده الأشعري في القدر، وقد جرَت بينه وبين عمرو بن العاص مناظرة في القدر، فقال عمرو بن العاص: لو أجد أحداً أُخاصم إليه ربّي، قال أبو موسى: أنا ذلك الشخص، قال عمرو بن العاص: يُقدّر عليّ شيئاً ثمّ يعذّبني عليه؟ قال: نعم! قال عمرو بن العاص: ولِمَ؟ قال: لأنّه لا يظلمك.

ويبدو أنّ أبا الحسن الأشعري بعد أنْ نضج وأحاط بآراء المعتزلة، ونظريّاتهم، كان يقف لأُستاذه موقف الخصم العنيد في أكثر الأحيان، ويروي كتّاب الفِرَق والمذاهب أنّ الخصومة بينهما بلغت أشدّها في مسألة

١٢٩

وجوب الأصلح على الله سبحانه، وكان لا يرى ذلك أبو الحسن الأشعري، فقال له: ما قولك في ثلاثة: مؤمن، وكافر، وصبي؟

قال الجبائي: المؤمن من أهل الدرجات، والكافر من أهل الدركات، والصبي من أهل النجاة.

قال الأشعري: فإنْ أراد الصبي أنْ يرقى إلى أهل الدرجات بعد موته صبياً، هل يمكن ذلك أمْ لا؟

قال الجبائي: لا يمكن ذلك؛ لأنّ المؤمن إنّما نال هذه الدرجات بالطاعة، وليس للطفل مثلها.

قال أبو الحسن الأشعري: للطفل أنْ يقول له: إنّ التقصير ليس منّي، فلو أحييتني كنت أعمَل الطاعات كعمل المؤمن.

فردّ عليه الجبائي: إنّ الله يقول له: كنتُ أعلم أنّك لو بقيت لعصيت، فراعيت مصلحتك، وأمَتك قبل أنْ تنتهي إلى سنّ التكليف.

فقال الأشعري: فللكافر إذن أنْ يقول له: لقد عَلِمت حالي كما علِمت حال الطفل، فهلاّ راعيت مصلحتي مثله، وأمَتني قبل سنّ التكليف؛ كي لا أقع في معصيتك التي نلتُ بها العقاب؟

وعندما وصل النزاع بينهما إلى هذا الحدّ رأى الجبائي نفسه عاجزاً فأعرض عنه (1).

وقد أورَد نظير هذه المحاورة بينهما الأسفراييني، في معرض النقض على المعتزلة القائلين بوجوب الأصلح على الله سبحانه، ويؤكّد جماعة من كتّاب الفِرَق الإسلامية أنّ الأشعري بعد هذه المناظرات التي جرَت بينه وبين أُستاذه الجبائي، قد اعتكف في بيته مدّة طويلة انقطع فيها عن جميع الناس، وتفرّغ للمقارنة بين آراء المعتزلة، وآراء المُحدّثين والفقهاء، وبعد دراسة واسعة لآراء الفريقين ووقف على جوانب النقص فيها، كوّن لنفسه رأياً وخرج على الناس، ودعاهم إلى الاجتماع في مسجد البصرة، وبعد الصلاة وقَف خطيباً بتلك الجماهير المحتشدة، ثمّ قال: أيها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أُعرّفه بنفسي، أنا عليّ بن إسماعيل بن إسحق الأشعري، كنت أقول بخلق القرآن، وأنّ

____________________

(1) انظر الفرق الإسلامية لعليّ الغرابي والمذاهب الإسلامية لأبي زهرة ص 286 وانظر تمهيداً لتاريخ الفلسفة لمصطفى عبد الرزّاق ص 292.

١٣٠

الله تعالى لا يُرى بالأبصار، وأنّ أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائبٌ مُقلِع عمّا كنتُ أقول، ومتصدّ للردّ على المعتزلة، ومُخرجٌ لفضائحهم، وقد تغيّبت عنكم هذه المدّة ونظرت في الأدلّة فتكافأت عندي، ولم يترجّح عندي شيءٌ على شيء، فاستهديت الله سبحانه وتعالى فأهداني إلى اعتقاد ما أودعته كتبي هذه وانخلعت من جميع ما كنت اعتقد، كما انخلعت من ثوبي هذا.

ثمّ انخلع من ثوبٍ كان عليه، وأبرز للناس ما كتبه في المدّة التي احتجب فيها عن الناس، وكان قد ألّف كتابه (الإبانة) الذي أورد فيه المذهب الذي اتخذه لنفسه، كما ألّف في الموضوع نفسه كتابين آخرين وهما الموجز والمقالات.

وممّا جاء في كتبه التي أبرزها للناس بالإضافة إلى ما تقدّم، أنّ ديانتنا التي ندين بها هي التمسّك بكتاب الله وسنّة رسوله (صلّى الله عليه وآله) وما رُويَ عن الصحابة، والتابعين وأئمّة الحديث، واستطرد يقول: ونحن بذلك معتصمون ولِما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته متّبعون، ولِمَن خالف قوله مجانبون؛ لأنّه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال، وأوضح به المنهاج وقمَع به بِدَع المُبتدعين، وزيغ الزائغين وشكّ الشاكّين (1).

ومن ذلك يتبيّن أنّ الأشعري بعد أنْ اعتكف في بيته خرَج على الناس مناصراً لآراء المحدّثين، وعلى الأخص أحمد بن حنبل الخصم العنيد لمذهب الاعتزال (2)، ومع ذلك فقد لقيَ من الحنابلة في حياته وبعد وفاته، عنَتاً وتحاملاً عليه وعلى أتباعه ومؤيّدي أفكاره وآرائه، وقد بلَغ بهم الحال أنّهم حاولوا أنْ يمنعوا الخطيب البغدادي المتوفّى سنة 463 من دخول المسجد الجامع ببغداد؛ لأنّه كان يرى رأي الأشعري في الأُصول الإسلامية، كما اضطهدوا أكابر الأشاعرة في ذلك القرن ونفوهم من بلادهم.

ووقع بينهم وبين الأشاعرة قتال في شوارع بغداد، كان منشأ تحاملهم

____________________

(1) انظر المذاهب الإسلامية لأبي زهرة ص 266 و269، ومقدّمة كتاب مقالات الإسلاميّين بقلم محمّد محيي الدين عبد الحميد ص 24.

(2) كما جاء في كتبه الإبانة والموجز، والمقالات وغيرها.

١٣١

على رجلٍ من شيوخ الأشاعرة يُدعى القشيري، فاضطرّ إلى الخروج من بغداد وهجرها، وكانت اللعنات تنهال على أبي الحسن الأشعري، ونسبوا إليه بعض الآراء الشاذّة ليوجّهوا الرأي العام ضدّهم، ومن ذلك أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) كانت نبوّته في حال حياته، أمّا بعد وفاته فقد انتهت نبوّته (1).

ويعزو بعض الكتّاب والمترجمين هذا الصراع العنيف الذي حدَث بين الأشاعرة والمحدّثين الحنابلة إلى أنّ الأشعري وإنْ تجاهر أوّلاً بالدعوة لمذهبهم، وتأييده لآراء الإمام أحمد شيخ الحنابلة الأوّل وخطَب بذلك على منابر بغداد، إلاّ أنّ دراسته الطويلة على المعتزلة وانطباعاته بمناهجهم واتّباعه لطريقتهم نحواً من ثلاثين عاماً أو أكثر، هذه المدّة الطويلة قد أثّرت على تفكيره تأثيراً عميقاً وعلى جميع اتجاهاته، فلم يستطع أنْ يتحرّر منها، ولذا فإنّه في جميع أبحاثه لم يتعبّد بالحديث وحده، ولا بالعقل وحده، بل حاول أنْ يوفّق بينهما.

ويبدو ذلك واضحاً من آرائه في المسائل التي كانت محلاًّ للخلاف بين المعتزلة والمحدّثين، ومن أمثلة ذلك أفعال الإنسان، فالمعتزلة قد ذهبوا إلى أنّ الإنسان موجدٌ لأفعاله، قال الغزالي في كتابه الأربعين:: إنّ المعتزلة أثبتوا لأنفسهم الاختيار الكلّي، ونسبوا إليه العجز في ضمن ذلك).

والمُحدّثون يدّعون أنّ الأفعال مخلوقة لله سُبحانه، ولا أثر للعبد في ذلك، أمّا الأشعري فقد ذهب إلى أنّ الله قد خلَق الاختيار في العبد بنحو الكسب، والفعل المخلوق لله سبحانه مقارن لاختيار العبد، من غير أنْ يكون للعبد قدرة مؤثّرة في ذلك الاختيار، ولا في مقارنة الفعل له.

فهو مع قوله بأنّ أفعال الإنسان من صنع الله سبحانه يقول بالكسب بهذا النحو ليصحّح الثواب والعقاب، فقد وافق المحدّثين الذين التزموا بظاهر بعض النصوص القرآنية، وخالفهم في القول بخلق الاختيار، وإنْ لم يكن مؤثّراً في إيجاد الأفعال.

ومن ذلك مسألة رؤية الله سبحانه، فالمحدّثون بما فيهم الحشوية

____________________

(1) المصدر السابق ص 26 والحضارة الإسلامية في القرن الرابع الجزء الأوّل ص 362 للمستشرق آدم (متز) ترجمة محمّد عبد الهادي.

١٣٢

والمشبّهة قد التزموا بظواهر النصوص التي تُوهم ذلك بدون تأويل أو تصرّف بشيءٍ منها، والمعتزلة تأوّلوها ولم يلتزموا بظاهرها، أمّا الأشعري مع أنّه يقول بها، ولكنّه ذهب إلى أنّها ليست كبقيّة المرئيات التي لابدّ لها من جهة ومكان ولا تكون إلاّ بالمقابلة، بل هي إدراك لا تقتضي تأثيراً في المُدرِك (1) .

وهكذا في أكثر المباحث حاول أنْ يوفّق بين العقل والنقل، هذا المسلك الذي سلكه الأشعري في أبحاثه وإنْ كان من حيث النتائج يلتقي مع المحدّثين، إلاّ أنّ اعتماده على العقل في التوصّل إلى هذه النتائج لم يُرضِ المحدّثين، وسبب له تلك الهجَمات العنيفة التي قام بها المحدّثون، وعلى الأخص الحنابلة، وجعلتهم يعتقدون بأنّ الأشعري لم يتحرّر من مذهب الاعتزال ولا تزال آثاره تسيطر على تفكيره، وتبرز في المنهج الذي اعتمده لإثبات آرائه التي أعلن عنها لأكثر من مناسبة، لذلك فقد لقي مذهب أبي الحسن الأشعري مقاومة من المحدّثين بالرغم من وقوفه بجانبهم ضدّ الاعتزال وأتباعه، وأصبح هدفاً لطعنات المعتزلة والمحدّثين معاً، وبالرغم من كلّ ذلك فقد ذاع وانتشر ولا سيّما بعد مساندة الحكّام له، ووقوفهم بجانبه.

وقد ذكرنا سابقاً أنّ الدولة تدخّلت رسمياً في ذلك وفرضت آراءه على الناس بالقوّة، وأصدر الخليفة القادر العبّاسي مرسوماً توعّد فيه المعتزلة بالعقوبات الصارمة إنْ أصرّوا على تدريسه مذهبهم أو ناظروا أحداً فيه، وقد لقّبه العلماء بإمام أهل السنّة والجماعة؛ لأنّه تولّى الدفاع عن الأُصول الإسلاميّة، وحامى عنها من غير أنْ يتخطّى آراء المحدّثين والفقهاء في أكثر مبادئه، وقد وجّه الأشعري بياناً إلى الناس يُحدّد فيه عقيدته، وما يجب الإيمان فيه، وجاء فيه أنّه يقرّ بالله ورسوله وبما رواه الثقات عنه، وأنّه واحدٌ أحدٌ لم يتّخذ صاحبةً ولا ولداً، وأنّ ما جاء به الرسول والكتاب من قيام الساعة، ووجود الجنّة والنار والبعث واقعٌ لا محالة، وأنّ الله قد استوى على عرشه، وأنّ له وجهاً ويداً وعيناً وسمعاً وبصراً، وأنّ كلامه قديمٌ غير مخلوق، وأنّ أحداً لم يستطع أنْ يفعل شيئاً

____________________

(1) انظر الملل والنحل للشهرستاني ص 135 و136.

١٣٣

قبل أنْ يفعله الله، وأعمال العباد كلّها مخلوقة ومقدورة له، وأنّه لو أصلح العباد لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين، وكلّ شيء بقضاء الله وقدره سَواء كان خيراً أم شرّاً، وأنّ مَن قال بخلق القرآن كان كافراً، وأنّه يُرى بالأبصار يوم القيامة كما يُرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون دون الكافرين، وأنّ الإيمان قولٌ وعمَل يزيد وينقص والإمامة بعد الرسول على الترتيب الذي جرَت عليه من بعده (1) .

لقد ظهر أبو الحسن الأشعري بأُسلوبٍ جديد حاول فيه أنْ يقرّب بين العقل والحديث، فأثار إعجاب الذين جاؤوا من بعده وتقديرهم، وتبنّى مذهبه وطريقته جماعة من الفقهاء؛ لأنّه لم يُخالف السلَف من المحدّثين في آرائهم، ولم يتّخذ لنفسه مذهباً يُخالف من سبقه منهم، وأصبح كلُّ من سلَك سبيله واتبع طريقته أشعرياً، حتى قيل: إنّ عقيدته اجتمع عليها الشافعية والمالكية والحنابلة والأحناف (2).

ومن مشاهير الفقهاء والمتكلّمين الذين تابعوه وتعصّبوا لآرائه أبو بكر محمّد بن الطيّب الباقلاّني وقال عنه ابن العماد الحنبلي: إنّه كان أُصولياً أشعرياً، ومجدّداً للدين على رأس المِئة الرابعة، وقد صنّف في الردّ على الفِرَق الضالّة، وأنّه كان ورِعاً لم تحفظ عنه زلّة ولا نقيصة، وكان يستدلّ على أنّ لله وجهاً ويداً بالآيات التي نصّت على ذلك، فهو من ناحية يقف مع الآيات المثبتة له الجوارح، ومن ناحية أُخرى يرى أنّ يده ووجهه لا يجب أنْ يكونا كجوارح مخلوقاته، وكان يدافع القائلين بأنّه في كل مكان، ويذهب بأنّه مستو على عرشه، ويحتجّ لذلك بأنّه لو كان في كلّ مكان، لزِم أنْ يكون في بطن الإنسان وفمه وجميع أجزاء بدنه، وأنْ يزيد بزيادة الأمكنة وينقص بنقصانها (3).

أمّا فيما يتعلّق بخلق الأفعال، فكان يقرّر أنّ الأفعال مخلوقة لله ولا شأن للعبد في ذلك وقد خلق الله فيه الاختيار، وهو وإنْ لم يكن مؤثّراً

____________________

(1) انظر ما ذكرناه عن عقيدة الأشعري في المجلّد الرابع من المواقف ص400، والملل والنحل ص132 وما بعدها، والتبصير في الدين في الفصل الذي عقده لاعتقادات أهل السنّة والجماعة ص135، والمذاهب الإسلامية ص171 و172.

(2) انظر تمهيد لتاريخ الفلسفة لمصطفى عبد الرزّاق ص 292.

(3) انظر المجلّد الثالث من شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي ص 169 و170.

١٣٤

في إيجاد الفعل، إلاّ أنّه مؤثّر في حالات الفعل الخارجة عن حقيقته، ومثل لذلك بما لو ضرَب إنسانٌ يتيماً، فالضرب من فعل الله، أمّا كونه تأديباً أو إيذاءً فهو من آثار اختيار العبد، وبذلك يصح الثواب والعقاب، وتوفّي الباقلاّني سنة403 (1).

ومن الفقهاء المناصرين له إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجويني، الفقيه الشافعي الملقّب بضياء الدين، وكان على رأي الأشعري في أُصول العقائد، ومُتّبعاً لطريقته في الاعتماد على العقل والنقل، وجاء في رسالته النظامية أنّ البعض ذهبوا إلى تأويل آيات الكتاب، وذهب أئمّة السلَف إلى الكفاف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب، والذي نرتضيه وندين به هو اتّباع سلَف الأئمّة؛ لأنّ إجماعهم حجّة متّبعة وعليه تستند الشريعة، وأضاف إلى ذلك، فحقّ على كلّ ذي دِين أنْ يعتقد تنزيه الباري عن صفات المُحدّثين، ولا يخوض في تأويل المشكلات، ويكل معناها إلى الرب.

وقد وصفه ابن العماد الحنبلي بأنّه من المشاهير في مختلف العلوم، بارعاً في المذاهب والمناظرة، وتولّى أمر التدريس بعد والده، وهاجر إلى بغداد على أثر الفِتَن التي قامت بين الأشاعرة والمُبتَدِعة على حدِّ تعبير ابن العماد، وتولّى التدريس فيها وكانت وفاته سنة 478 (2).

وقد عدّ منهم الشيخ أبو زهرة الغزالي المتوفّى سنة 505، والبيضاوي المتوفّى سنة 701، وعدّ منهم مصطفى عبد الرزّاق أبا بكر محمّد بن الحسن بن فورك، والشيخ إبراهيم بن محمّد بن مهران الأسفراييني، وأبا الفتح الشهرستاني، وفخر الدين بن الحسين الرازي وغيرهم وأضاف إلى ذلك أنّ الأيّوبيّين هم الذين نشروا مذهب الأشعري في مصر وغيرها، من بلاد الإسلام (3).

وقد أورد مؤلّف طبقات الأشاعرة في كتابه (الطبقات) عدداً كبيراً ممّن ناصروا المحدّثين على المعتزلة، ولا يعنينا استقصاء أحوالهم ومدى موافقتهم للأشعري في آرائه ومخالفتهم له، لأنّ كتابنا قد وضعناه للمقارنة

____________________

(1) انظر المواقف الجزء الثامن ص 147 والمجلّد الأوّل من الملل والنحل ص 133.

(2) انظر المجلد الثالث من الشذرات ص 359.

(3) انظر تمهيد لتاريخ الفلسفة ص 292.

١٣٥

بين آراء الإمامية من جهة وآراء غيرهم من المعتزلة والأشاعرة من جهة أُخرى؛ لأنّا وجدنا جماعة من الكتّاب القدامى والمحدّثين، ومن المستشرقين الأجانب يخلطون أحياناً بين الإمامية والمعتزلة، من حيث وحدة العقيدة، ويُغالي بعضهم فيدّعي أنّ التشيّع كان عالة على المعتزلة، وأسرَف آخرون فعدوا جماعة ممّن ركّزوا العقيدة الشيعية ومحّصوها تمحيصاً دقيقاً من المعتزلة، وقد أصبحت كتبهم وآراؤهم في أُصول الإمامية هي الوجه الصحيح للمبادئ التي ينظر الشيعة من خلالها إلى آراء أهل البيت ومذاهبهم في الأُصول التي يجب على المسلم أنْ يؤمن بها.

ومن هؤلاء من عاش في القرن الثالث المتّصل بعصر الأئمّة (عليهم السلام)، ولم يكن بينهم وبين الذين رَوَوا عن الأئمّة بلا واسطة أكثر من واسطتين، هؤلاء مع أنّهم ينادون ويؤكّدون لأكثر من مناسبة واحدة، أنّ مذهب الإمامية مستقلٌّ بنفسه ومستوحى من تعاليم الأئمّة (عليهم السلام) وإرشاداتهم، ولم يكن في حال من الأحوال تابعاً لمذهبٍ آخر.

والشواهد الكثيرة تنصّ على أنّ غيره قد استمدّ منه واعتمد عليه، ومع ذلك كلّه فالكتّاب يُرسلون هذه الادّعاءات بدون أيّ شاهد أو دليل، ويعتبرون هؤلاء بأشخاصهم وأعيانهم من أعلام المعتزلة زوراً وبهتاناً.

لقد ذكرنا سابقاً أنّ الشيعة هم الفرقة الأُولى التي يتّصل تاريخها بتاريخ الإسلام، قبل أنْ تحدث هذه المذاهب بأكثر من قرنٍ ونيف تقريباً، وقد جاهدوا في سبيل تركيز العقيدة الإسلامية في نفوس المسلمين، وتكلّموا في التوحيد والصفات والقضاء والقدر، وغير ذلك ممّا يتّصل بالأُصول الإسلامية قبل أنْ يولد الاعتزال، وقبل أنْ يتكلّم بها أحد من المسلمين، وسنضع بين يدَي القرّاء أمثلة من آرائهم في المواضيع التي كانت موضع خلاف بين المعتزلة من جهة، والمحدّثين وأتباعهم الأشاعرة من جهة أُخرى، ومنها يتبيّن أنّهم لم يكونوا في جميع حالاتهم عيالاً على أحد، ولا تَبَعاً لغير أئمّتهم في الأُصول والفروع.

وأكبر شاهد على ذلك إنّهم يلتقون بالمرجئة أحياناً في بعض الآراء، كما يلتقون بالأشاعرة والمعتزلة أحياناً أُخرى، ويستقلّون استقلالاً كاملاً في بعض الآراء، ويتخطّون جميع الفِرَق والمذاهب حيناً آخر، وهذا ممّا يؤكّد استقلالهم في تفكيرهم وعدم تبعيتهم لأحد، كما هو الحال في المذاهب الأُخرى التي تلتقي في بعض الآراء، وتستقل كلُّ فرقة عن الأُخرى في بعضها الآخر.

ومجمل القول أنّ الخلاف العقائدي بين المسلمين الذي اشتدّ في القرن

١٣٦

الثاني، بعد أنْ برزت معالمه في الشطر الأخير من القرن الأوّل، هذا الخلاف تكوّنت منه الفِرَق الثلاث: المرجئة، والمعتزلة، والأشاعرة، أمّا الإمامية فتاريخهم يتّصل بتاريخ الإسلام ويرتبط به ارتباطاً وثيقاً منذ نشأته - كما ذكرنا في الفصل الأوّل من هذا الكتاب - ولا ترتكز فكرة الإمامية على شيءٍ من الخلافات العقائدية كغيرها من المذاهب، وإذا أثبت تاريخهم أنّهم كانوا أبرز مِن غيرهم في تلك الخصومات والجولات الفكرية؛ فذاك لأنّهم مارسوا الحياة الفكرية أكثر من غيرهم، وكانوا هدَفاً للهجَمات العنيفة التي كانت تستهدف القضاء عليهم، وتستبيح في سبيل هذه الغاية كلّ السبل، ممّا دعاهم إلى الوقوف في وجه تلك الهجَمات التي كانت توجّه إليهم من هنا وهناك بشتّى الأساليب.

هذا بالإضافة إلى أنّ الأئمّة من أهل البيت قد رافقوا جميع هذه التطوّرات الفكرّية التي برزت في تاريخ الفكر الإسلامي في تلك الفترة من تاريخهم، وبلا شكّ كان يهمّهم أكثر من أيّ فئة من الناس أنْ تبقى للعقيدة الإسلامية قداستها وسمّوها، فكانت حلقاتهم العلمية لا تخلو من مناظر ومستعلم ومدون، وأكثر ما كان يعنيهم أنْ يرتدّ أُولئك الغزاة بكيدهم خاسرين، وأنْ لا تتسرّب انحرافات المعتزلة وجمود المحدّثين والفقهاء، إلى أذهان المسلمين فتحتلّ قلوبهم وعقولهم وبالتالي تبرز المبادئ الإسلامية بصورة مشوهة يستغلّها أعداء الإسلام للدسّ والافتراء.

ومهما كان الحال، فقد أصبحت آراء تلك الفئات مذاهب لأهل السنّة، وإنْ كان الأشعري يمثّل رأي الجمهور الأعظم منهم، منذ أنْ فرضت الدولة العبّاسية آراءه في العقائد على المسلمين بقوّة السلطان، وفرضت الرقابة على المعتزلة في مناظراتهم ومجالسهم، وأصبح أكثر المسلمين على رأي الأشعري في عقائدهم، ولم يشذّ عنه سوى الحشويّة، وهم القائلون بأنّ الله سبحانه جسم من لحمٍ ودم، وله أعضاء وجوارح تجوّز عليه المصافحة والملامسة والمعانقة، وأثبتوا له كلّ ما هو للبشَر وأسرف بعضهم فقال: أعفوني عن الفرْج واللحية وسلوني عمّا شئتم (1)، وفي القرن الرابع الهجري ظهَر جماعة من الفقهاء والمحدّثين، غلَب عليهم اسم السلفيّين،

____________________

(1) انظر المواقف المجلّد الرابع ص 399.

١٣٧

وانتحلوا هذا الاسم لأنفسهم بحجّة أنّهم جاؤوا لإحياء آراء السلَف من الفقهاء والمحدّثين، وادعوا أنّهم يمثّلون مذهب الإمام أحمد بن حنبل شيخ الحنابلة، وقد بالغوا في الإنكار والتشنيع من آراء وأفكار.

وذهب هؤلاء إلى أنّ العقائد إنّما تؤخذ من الكتاب والسنّة، ولا سبيل للعقل في تأويل الآيات وتفسيرها، حتى ولو كانت منافية لأحكام العقل (1)، وهذان الفريقان وإنْ أعلنا الحرب على الأشعري بلا هوادة، إلاّ أنّهما يتّفقان معه من حيث النتائج، وكلاهما يتمسّك بظواهر الكتاب ولا يرى مسوّغاً لتأويلها، ويذهب إلى ما يقتضيه الظاهر منها، ولكنّ الأشعري يحاول التوفيق بين ظاهرها وأحكام العقل كما يبدو ذلك من معالجته لمسألة الجبر والاختيار، وجواز الرؤية على الله سُبحانه وثبوت الصفات له وغير ذلك من المسائل التي تباينت فيها آراء المعتزلة والفقهاء والمحدّثين.

أمّا السلفيّون والحشوية فيدّعون أنّ العقل لا مسرح له في هذه الميادين، وما عليه إلاّ التصديق والإذعان بكلّ ما جاء في الكتاب السنّة، وعلى أيّ الأحوال فالأمامية منذ نشأتهم مستقلّون عن غيرهم في تفكيرهم وإنتاجهم وآرائهم في الأُصول والفروع؛ لأنّهم رافقوا جميع المراحل التي مرّ بها المسلمون، والتطوّرات الفكرية التي فرضتها الظروف المحيطة بالإسلام منذ أقدم المراحل، وسنعرض آراء هذه الفِرَق الثلاثَ ونقارن بينها لإثبات هذه الحقيقة.

____________________

(1) انظر المذاهب الإسلامية ص 215 و216.

١٣٨

الفصل الخامس: في المذاهب والمعتقدات

الأُصول التي تجمع المعتزلة

لقد أجمع كتّاب الفِرَق والمذاهب الإسلامية، أنّ أركان الاعتزال تتألّف من خمسة أجزاء: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنّ من آمن بهذه الأُصول الخمسة كان معتزليّاً، مهما بلغ الخلاف بالرأي مع غيره من علمائهم ومفكّريهم، ومَن خالف في واحد من هذه الخمسة لا يكون منهم، ولا يتحمّلون إثمه، ولا تلحقهم تبعته على حدّ تعبير بعض الكتّاب (1).

____________________

(1) انظر الانتصار لابن الخياط المعتزلي المتوفّى سنة 290 والمواقف المجلّد الرابع وغيرهما من كُتب الفِرَق والمذاهب الإسلامية.

١٣٩

وقد ذكرنا سابقاً أنّ الإيجي في المواقف، والسيّد شريفاً، الإسفراييني وغيرهم، قد عدّوا من فِرَق المعتزلة عشرين فِرقة، وهذه الفِرَق بعد التتبّع لآرائها لا تتّفق في أكثر تلك الآراء المنسوبة إليها، ولكن هذا الخلاف البارز بين تِلك الفِرَق لم يمنَع من صدق الاعتزال على كلّ واحدة منها، لأنّها تتّفق على الأُصول الخمسة.

فالتوحيد وهو الأصل الأوّل عندهم وعند جميع المسلمين، وبدونه لا يكون الإنسان مسلماً ولو آمن بجميع الأُصول والفروع، لا يختلف في مفهومه عمّا يقول به جميع المسلمين، وفي مقالات الإسلاميّين للأشعري، أنّ التوحيد عند المعتزلة هو أنّه واحد أحد ليس كمثله شيء، سميعٌ بصير، ليس بجسمٍ ولا بشبح ولا جثّة ولا صورة ليس له لون أو طعم أو رائحة، وليس فيه حرارة ولا رطوبة أو يبوسة، لا عمق له ولا اجتماع أو افتراق، لا يتحرّك ولا يسكن، وليس بذي أبعاض وأجزاء وجوارح وأعضاء، لا يجري عليه زمان، ولا تجوز عليه العُزلة ولا الحلول في الأماكن، ولا يُوصَف بشيءٍ من صِفات الخلْق الدالّة على حدوثهم، ولا تُحيط به الأقدار ولا تحجبه الأستار، ولا يشبه الخلْق بوجهٍ من الوجوه، شيء لا كالأشياء، عالمٌ قادرٌ حي، لا كالعلماء القادرين الإحياء، إلى غير ذلك من الصفات السلبية والوجودية التي أثبتوها لذاته سبحانه (1).

وتحديد التوحيد بهذه الأوصاف يتّفق مع التوحيد عند الإمامية، ويلتقون التقاء كلياً معهم، ولكن ذلك لا يعني أنّهم عيال على المعتزلة في ذلك؛ لأنّ مذهب الاعتزال، كانت بذرته في أواخر العصر الأموي، ولكنّه لم يصبح مذهباً له شأن ووجود إلاّ في العصر العبّاسي، ومعلوم أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قد طرَق هذا الموضوع وحدّد معنى التوحيد، بمثل ما جاء عن المعتزلة، قبل ظهور مذهب الاعتزال بأكثر من خمسين عاماً، وجاء أولاده من بعده الذين تخرجوا من مدرسته، ومن ذلك الفيض الإلهي الموروث لقّنوا أتباعهم وشيعتهم أنواع العلوم والمعارف، كما ورّثوه عن آبائهم، ومن وحي القرآن وسنّة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وإذا كان التوافق في الرأي والعقيدة يقتضي التبعية كما يدّعي الكتاب العرب، والأجانب، فمن اللازم أنّ يكون المتأخّر تبعاً للمتقدّم وعيالاً عليه، ويجد المتتبّع للآثار

____________________

(1) انظر مقالات الإسلاميين للأشعري ص 216.

١٤٠