الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة23%

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 253

  • البداية
  • السابق
  • 253 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 57794 / تحميل: 9941
الحجم الحجم الحجم
الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

التي تدور فيها » ١ .

و روي عنه عليه السلام هذا المعنى بلفظ آخر هكذا : « و إنّه و الله ليعلم أنّي أولى بها منّي بقميصي » ٢ .

قال دعبل :

حللت محلاّ يقصر الطرف دونه

و يعجز عنه الطيف أن يتجشّما

و لقد أجاد الناشى‏ء فقال فيه عليه السّلام :

و صارمه كبيعته بخم

مقاصدها من الخلق الرقاب

و لقد أجاد وفائي التستري فيه عليه السلام بالفارسية :

جز بتو آراستن سرير خلافت

نسبت افسر بمستحق فسار است

و روى الكنجي الشافعي في ( مناقبه ) عن سعيد بن المسيب قال : قلت لسعد أبن أبي وقاص : إنّي أريد أن أسألك عن شي‏ء و إنّي أتّقيك . قال : سل عمّا بذالك . فإنّما أنا ابن عمّك . قلت : مقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيكم يوم الغدير . قال : نعم قام فينا بالظهيرة فأخذ بيد علي بن أبي طالب . فقال : « من كنت مولاه فعلي مولاه . اللهمّ وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره » فقال أبو بكر و عمر : أمسيت يا ابن أبي طالب مولى كلّ مؤمن و مؤمنة ٣ .

و روى الجزري في ( اسده ) في وهب بن حمزة مسندا عنه قال : صحبت عليا عليه السّلام من المدينة إلى مكّة . فرأيت منه بعض ما أكره . فقلت : لئن رجعت إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لأشكونك إليه . فلمّا قدمت لقيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقلت : رأيت من عليّ

ــــــــــــــــ

( ١ ) جمهرة اللغة ١ : ٣٠٨ ، مادة ( بطق )

( ٢ ) رواه المفيد في اماليه : ١٥٣ ح ٥ ، المجلس ١٩ ، و لفظه : « قد علم و الله انى اولى الناس بهم مني بقميصي » و رواه غيره أيضا .

( ٣ ) كفاية الطالب : ١٦ .

٢١

كذا و كذا . فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : لا تقل هذا فهو أولى الناس بعدي ١ .

و في ( مروج المسعودي ) : لمّا صرف عليّ عليه السّلام قيس بن سعد بن عبادة عن مصر وجّه مكانه محمّد بن أبي بكر . فلمّا وصل إليها كتب إلى معاوية « من محمّد بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر إلى أن قال فكان أوّل من أجاب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و أناب ، و آمن و صدّق ، و أسلم و سلّم أخوه و ابن عمّه عليّ بن أبي طالب صدّقه بالغيب المكتوم ، و آثره على كلّ حميم ، و وقاه بنفسه كلّ هول ، و حارب حربه و سالم سلمه ، فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات الليل و النهار ، و الخوف و الجزع حتّى برز سابقا لا نظير له في من اتّبعه ، و لا مقارب له في فعله ، و قد رأيتك تساميه ، و أنت أنت ، و هو هو أصدق الناس نيّة ، و أفضل الناس ذرّية ، و خير الناس زوجة ، و أفضل الناس ابن عم ، و أخوه الشاري بنفسه يوم موته ، و عمّه سيد الشهداء يوم احد ، و أبوه الذابّ عن رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و عن حوزته ، و أنت اللعين أبن اللعين ، لم تزل أنت و أبوك تبغيان لرسول الله صلّى اللّه عليه و آله الغوائل ، و تجهدان في إطفاء نور الله . تجمعان على ذلك الجموع ، و تبذلان فيه المال ، و تؤلّبان عليه القبائل . على ذلك مات أبوك و عليه خلفته ، و الشهيد عليك من تدني ، و يلجأ إليك من بقيّة الأحزاب ، و رؤساء النفاق ،

و الشاهد لعلي مع فضله المبين القديم أنصاره الّذين معه الّذين ذكرهم الله و أثنى عليهم من المهاجرين و الأنصار ، و هم كتائب ، و عصائب يرون الحق في اتباعه ، و الشقاء في خلافه . فكيف يا ويلك تعدل نفسك بعليّ عليه السّلام ، و هو وارث رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و وصيّه ، و أبو ولده أوّل الناس له اتّباعا ، و أقربهم به عهدا يخبره بسره ، و يطلعه على أمره ، و أنت عدّوه و ابن عدّوه . فتمتّع في دنياك بباطلك ، و ليمددك ابن العاص في غوايتك إلى أن قال

ــــــــــــــــ

( ١ ) اسد الغابة ٥ : ٩٤ .

٢٢

فكتب إليه معاوية : « من معاوية بن صخر إلى الزاري على أبيه محمّد بن أبي بكر . أمّا بعد ، فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما الله أهله في عظمته و قدرته . و ما اصطفى به رسوله ، مع كلام كثير لك فيه تضعيف ، و لأبيك فيه تعنيف ، ذكرت فيه فضل ابن أبي طالب ، و قديم سوابقه ، و قرابته إلى الرسول ، و مواساته إيّاه في كلّ هول و خوف فكان احتجاجك عليّ و عيبك بفضل غيرك لا بفضلك .

فاحمد ربّا صرف هذا الفضل عنك ، و جعله لغيرك . فقد كنّا و أبوك فينا نعرف فضل ابن أبي طالب و حقّه ، لازما لنا مبروما علينا ، فلمّا اختار الله لنبيّه ما عنده ،

و أتمّ له ما وعده ، و أظهر دعوته و أفلج حجّته ، و قبضه إليه ، كان أبوك و فاروقه أوّل من ابتزه حقّه ، و خالفه على أمره . على ذلك اتفقا و اتّسقا . ثم إنّهما دعواه إلى بيعتهما فأبطا عنهما ، و تلكّأ عليهما ، فهمّا به الهموم ، و أرادا به العظيم ثمّ انّه بايع لهما ، و سلّم لهما ، و أقاما لا يشركانه في أمرهما ، و لا يطلعانه على سرّهما حتّى قبضهما إليه . ثم قام ثالثهما عثمان فهدى بهديهما ، و سار بسيرهما . فعبته أنت ، و صاحبك . حتّى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي ،

فطلبتما له الغوائل ، و أظهرتما عداوتكما حتى بلغتما فيه مناكما . فخذ حذرك يا ابن أبي بكر ، و قس شبرك بفترك . تقصر أن توازي أو تساوي من يزن الجبال بحلمه ، لايلين لمن قسر قناته ، و لا يدرك ذو مقال أناته ، مهّد أبوك مهاده و بنى ملكه و شاده ، فإن يك ما نحن فيه صوابا ، فأبوك أسسّه و نحن شركاؤه ،

و لو لا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب ، و لسلّمنا إليه ، و لكنّا رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا . فأخذنا بمثله . فعب أباك بما بدالك أو دع ذلك ١ .

و رواه نصر بن مزاحم في ( صفّينه ) ، و فيه : « فإن يكن ما نحن فيه صوابا ، فأبوك أوّله ، و إن يك جورا ، فأبوك اسّسه ، و نحن شركاؤه ، و بهديه

ــــــــــــــــ

( ١ ) مروج الذهب ٣ : ١١ ، و النقل بتصرف يسير .

٢٣

أخذنا ، و بفعله اقتدينا و لو لا ما سبقنا إليه أبوك ، ما خالفنا ابن أبي طالب و أسلمنا له ، و لكنّا رأينا أباك فعل ذلك . فاحتذينا بمثاله ، و اقتدينا بفعاله . فعب أباك ما بدا لك أو دع » ١ .

و من العجب أن الطبري قال : لم أجز نقل هذا الكتاب لعدم احتمال العامّة له ٢ . فيقال له : لا يحتمله إلاّ من انسلخ عن الإنسانية ، و جوّز التناقض و التضاد ،

و إنكار المتواترات ، و عدم بطلان الملزوم مع بطلان اللازم في دين الاسلام ،

و لازم صحّة خلافة أبي بكر و عمر و عثمان كون معاوية على الحق و هو هو و عليّ عليه السلام على الباطل و هو هو . أفّ لهم و لما يعبدون من دون اللّه .

و نقل ( طرائف ابن طاووس ) عن ( أنساب البلاذري ) : انّ الحسين عليه السلام لما قتل كتب عبد الله بن عمر إلى يزيد بن معاوية : أما بعد فقد عظمت الرزيّة ،

و جلّت المصيبة ، و حدث في الإسلام حدث عظيم ، و لا يوم كيوم الحسين .

فكتب إليه يزيد : يا أحمق فانّا جئنا إلى بيوت متخذة ، و فرش ممهّدة ، و وسائد منضّدة . فقاتلنا عليها ، فان يكن الحقّ لنا فعن حقّنا قاتلنا ، و ان يكن الحق لغيرنا فأبوك أوّل من سنّ هذا و آثر و استأثر بالحق على أهله ٣ .

و لازم صحّة خلافة أبي بكر كون قتل يزيد السكّير القمّير للحسين سيّد شباب أهل الجنّة بالتواتر عن النبيّ صلى الله عليه و آله و ابن الرسول صلى الله عليه و آله بقوله جلّ و علا و أبناءنا و أبناءكم ٤ و من أهل بيت العصمة بنصّ القرآن انّما يريد

ــــــــــــــــ

( ١ ) وقعة صفين : ١٢٠ .

( ٢ ) تاريخ الطبري ٣ : ٥٥٧ ، سنة ٣٦ .

( ٣ ) رواه ابن طاووس في الطرائف ١ : ٢٤٨ ح ٣٤٨ ، لكن لم يوجد في ترجمة الامام الحسين عليه السلام و لا يزيد بن معاوية من انساب الاشراف .

( ٤ ) آل عمران : ٦١ .

٢٤

اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيرا ١ حقّا ، و كفاهم بذلك خزيا .

و في ( الطبري ) : لما كتب عبيد اللّه بن زياد مع مالك بن النسير البديّ الكندي إلى الحرّ « جعجع بالحسين حين يبلغك كتابي » نظر إليه أبو الشعثاء الكندي من أصحاب الحسين عليه السلام و قال له : ثكلتك أمّك ماذا جئت فيه ؟ قال :

أطعت إمامي و وفيت بيعتي . قال له أبو الشعثاء : كسبت العار و النار ، قال الله عزّ و جلّ : و جعلناهم أئمّة يدعون إلى النار و يوم القيامة لا ينصرون ٢ .

و في ( الطبري ) : أن الشيعة الّذين كانوا أصحاب جعفر بن محمّد قالوا لزيد بن عليّ لمّا أراد الخروج : ما قولك في أبي بكر و عمر ؟ قال : إنّ أشدّ ما أقول إنّا كنّا أحقّ بسلطان رسول الله صلى الله عليه و آله من الناس أجمعين ، و إنّ القوم استأثروا علينا ، و دفعونا عنه ، و لم يبلغ ذلك عندنا بهم كفرا قالوا : فلم يظلمك هؤلاء إذا كان اولئك لم يظلموك فلم تدعو إلى قتال قوم ليسوا لك بظالمين ؟ ٣ و قولهم عين الحق . فإنّ المؤسس لبني اميّة هم الثلاثة أليس الثاني أحدث شورى لاختيار الثالث ؟ أليست خلافة الثالث عين سلطنة بني اميّة ؟

ثم الظاهر انّ زيدا اتّقى باقي أصحابه ، فروى عنه أيضا انّه سأله رجل عن الرجلين ، فلم يجبه . فلمّا وقع السهم في جبينه دعا الرجل ، و قال : لم يرمني بهذا السهم إلاّ الرجلان ٤ .

و روى محمّد بن الحسن الصفار في ( بصائره ) عن الباقر عليه السلام في قوله جلّ و علا : انّا عرضنا الأمانة على السموات و الأرض و الجبال فأبين أن

ــــــــــــــــ

( ١ ) الاحزاب : ٣٣ .

( ٢ ) تاريخ الطبري ٤ : ٣٠٨ ، سنة ٦١ ، و النقل بتلخيص . و الآية ٤١ من سورة القصص .

( ٣ ) تاريخ الطبري ١٥ : ٤٩٨ ، سنة ١٢٢ ، و النقل بتلخيص .

( ٤ ) روى هذا المعنى الهمداني في الالفاظ الكتابية : ١٤٣ .

٢٥

يحملنها و أشفقن منها و حملها الإنسان انّه كان ظلوما جهولا ١ : الأمانة :

الولاية حملها أبو فلان ، و أبت السماوات و الأرض و الجبال حملها ٢ .

و قال الزبير بن بكار : روى محمد بن اسحق انّ أبا بكر لمّا بويع افتخرت تيم بن مرّة ، و كان عامّة المهاجرين ، و جلّ الأنصار لا يشكّون أن عليّا عليه السّلام هو صاحب الأمر بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله . فقال الفضل بن العباس : يا معشر قريش ،

و خصوصا يا بنى تيم إنّكم إنّما أخذتم الخلافة بالنبوّة ، و نحن أهلها دونكم إلى أن قال و انّا لنعلم انّ عند صاحبنا عهدا هو ينتهي إليه ٣ .

و روى الواقدي في ( شوراه ) كما نقله ابن أبي الحديد عند قوله عليه السّلام :

« و من كلام له عليه السّلام و قد وقع بينه و بين عثمان مشاجرة » عن ابن عباس قال :

شهدت عتاب عثمان لعليّ عليه السّلام إلى أن قال قال عثمان لعلي عليه السّلام : فإن كنت تزعم انّ هذا الأمر جعله رسول الله صلّى اللّه عليه و آله لك ، فقد رأيناك حين توفي نازعت ثم أقررت إلى أن قال فقال له عليّ عليه السّلام : و امّا عتيق و ابن الخطاب . فإن كانا أخذا ما جعله رسول الله صلّى اللّه عليه و آله لي . فأنت أعلم بذلك و المسلمون ٤ .

و روى الزبير بن بكار في ( موفقياته ) و ( الطبري في تاريخه ) في سيرة عمر ، عن عبد الله بن عمر قال : كنت عند أبي يوما ، و عنده نفر من الناس . فجرى ذكر الشعر فقال : من أشعر العرب ؟ فقالوا : فلان و فلان . فطلع ابن عباس . فقال عمر : جاء الخبير . من أشعر الناس يا عبد الله ؟ قال : زهير ابن أبي سلمى . قال :

فأنشدني مما تستجيده له . فقال : انّه مدح قوما من غطفان يقال لهم بنوسنان .

فقال فيهم :

ــــــــــــــــ

( ١ ) الاحزاب : ٧٢ .

( ٢ ) بصائر الدرجات : ٩٦ ح ٣ ، و النقل بالمعنى .

( ٣ ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه ٢ : ٨ ، شرح الخطبة ٦٥ .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٣٧٧ ، شرح الخطبة ١٣٣ .

٢٦

لو كان يقعد فوق الشمس من كرم

قوم بأوّلهم أو مجدهم قعدوا

قوم سنان ابوهم حين تنسبهم

طابوا و طاب من الأولاد ما ولدوا

انس اذا آمنوا جنّ اذا فزعو

مرزؤن بها ليل إذا جهدوا

محسّدون على ما كان من نعم

لا ينزع اللّه عنهم ماله حسدوا

فقال عمر : قاتله اللّه لقد أحسن ، و لا أرى هذا المدح يصلح إلاّ لهذا البيت من هاشم لقرابتهم من رسول اللّه . فقال له ابن عباس : و فّقك اللّه . فلم تزل موفّقا .

قال : يا ابن عباس أتدري ما منع الناس منكم ؟ قال : لا . قال : لكنّي أدري . قال :

ما هو ؟ قال : كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوّة و الخلافة فتجحفوا الناس جحفا ، فنظرت قريش لأنفسها فاختارت ، و وفّقت فأصابت . فقال ابن عباس :

أتميط عنيّ غضبك فأقول ؟ قال : قل ما تشاء . قال : أمّا قولك إن قريشا كرهت فإن الله تعالى قال لقوم ذلك بأنّهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ١ ،

و اما قولك إنّا كنّا نجحف بالخلافة فلو جحفنا بالقرابة ، و لكنّا قوم أخلاقنا مشتقّة من خلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الّذي قال تعالى له : و انّك لعلى خلق عظيم ٢ و قال تعالى له صلّى اللّه عليه و آله : و اخفض جناحك لمن اتّبعك من المؤمنين ٣ و اما قولك : انّ قريشا اختارت فإن الله تعالى يقول : و ربّك يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخيرة ٤ ، و قد علمت انّ اللّه تعالى اختار من خلقه لذلك من اختار . فلو نظرت قريش لنفسها من حيث نظر الله لها لوفّقت و أصابت . فقال عمر : « على رسلك يا ابن عباس . أبت قلوبكم يا بنى هاشم إلاّ غشّا في أمر قريش لا يزول و حقدا عليها لا يحول » .

ــــــــــــــــ

( ١ ) محمد : ٩ .

( ٢ ) القلم : ٤ .

( ٣ ) الشعراء : ٢١٥ .

( ٤ ) القصص : ٦٨ .

٢٧

فقال ابن عباس : « مهلا ، لا تنسب قلوب بني هاشم إلى الغشّ . فإنّ قلوبهم من قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الّذي طهّره اللّه ، و زكّاه ، و هم أهل البيت الّذين قال تعالى فيهم إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيرا ١ و أما قولك : حقدا ، فكيف لا يحقد من غصب شيئه ، و يراه في يد غيره . فقال عمر : « أما أنت يا ابن عباس فقد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك به فتزول منزلتك عندي » قال : و ما هو ؟ اخبرني . فإن يك باطلا فمثلي يميط الباطل عن نفسه ، و إن يك حقّا فإنّ منزلتي عندك لا تزول به . قال عمر : بلغني أنّك لا تزال تقول اخذ هذا الأمر منّا حسدا و ظلما . قال : أمّا قولك حسدا فقد حسد إبليس آدم فأخرجه من الجنّة . فنحن بنو آدم المحسود ، و امّا قولك ظلما فأنت تعلم صاحب الحقّ من هو . ثم قال : ألم تحتجّ العرب على العجم بحقّ رسول اللّه ، و احتجّت قريش على سائر العرب بحقّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ؟ فنحن أحقّ برسول اللّه من سائر قريش . فقال عمر : قم الآن فارجع إلى منزلك . فقام ، فلمّا ولى هتف به عمر أيّها المنصرف إنّي على ما كان منك لراع حقّك . فالتفت ابن عباس فقال : انّ لي عليك ، و على كلّ المسلمين حقّا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فمن حفظه فحقّ نفسه حفظ ، و من أضاعه فحقّ نفسه أضاع . ثم مضى . فقال عمر لجلسائه : و اها لابن عباس ما رأيته لاحى أحدا قط إلاّ خصمه ٢ .

و أقول : لله در ابن عباس أدّى حقّ الكلام ، و هل ما قاله لعمر إلاّ عين ما تقوله الإمامية للسنّة من أنّ قريشا ، و في رأسهم صدّيقهم و فاروقهم ، كرهوا ما أنزل اللّه تعالى من استخلاف أمير المؤمنين عليه السّلام فأحبط اللّه أعمالهم ، و أنّهم

ــــــــــــــــ

( ١ ) الاحزاب : ٣٣ .

( ٢ ) رواه الزبير بن بكار في الموفقيات ، و عنه شرح ابن أبي الحديد ٣ : ١٠٦ ، شرح الخطبة ٢٢٦ ، و الطبري في تاريخه ٣ : ٢٨٨ ، سنة ٢٣ ، و النقل بتصرف يسير .

٢٨

علموا من اختاره اللّه تعالى فتركوه عمدا ، و أنه ما كان لهم اختيار الإمام بل لله تعالى كاختيار النبيّ ، و أن أمير المؤمنين ، و أهل بيته عليه السّلام هم الّذين أذهب اللّه عنهم الرجس ، و طهّرهم تطهيرا ، و أن أخلاقهم كأخلاق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قلوبهم كقلبه و أنهم حسدوهم ، و ظلموهم .

و أقول لعمر ، زيادة على ما قال ابن عباس : لم لا تقول : « أصابت قريش و وفّقت في اختيارها » و لو لم يكن فعلها لما كنت أنت و صاحبك تؤمّران على العالم .

و يا للّه من عرّ عمر . تارة ينسب إلى بني هاشم و مغزى كلامه و مرماه أمير المؤمنين عليه السّلام الغشّ ، و قد أخذه عنه معاوية ، و اخرى العجب و الجحف ،

و قد أخذ ذلك عنه ابن الزبير ، فكان لا يصلّى على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في صلاته و خطبته و يقول : لئلا يشمخ أهله بآنافهم . و ثالثة الحرص و أخذه عنه ابن عوف يوم الشورى ، و رابعة الدعابة أخذه ابن النابغة . فكان يزعم ذلك لأهل الشام .

و روى الجوهري في ( سقيفته ) عن ابن عباس قال : تفرّق الناس ليلة الجابية عن عمر . فسار كلّ واحد مع إلفه . ثم صادفت عمر تلك الليلة في مسيرنا فحادثته فشكا إليّ تخلّف عليّ عليه السلام عنه إلى أن قال قال عمر : يا ابن عباس أوّل من ريّثكم عن هذا الأمر أبو بكر أنّ قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة و النبوّة ، قلت : لم ذاك ألم تنلهم خيرا ؟ قال : بلى ، و لكنّهم لو فعلوا لكنتم عليهم جحفا ١ .

قلت : سبحان اللّه إعتقد عمر أنّ خلافة الإسلام بيد جمع أنكروا نبوّة نبي الإسلام حتّى قهرهم بالسيف ، فأسرّوا كفرهم به و أظهروه بعد وفاته .

و روى الزبير بن بكار في ( موفقياته ) عن ابن عباس قال : إني لأماشي

ــــــــــــــــ

( ١ ) السقيفة : ٥٢ ، و النقل بتلخيص .

٢٩

عمر بن الخطاب في سكّة من سكك المدينة إذ قال لي : يا ابن عباس ما أرى صاحبك إلاّ مظلوما . فقلت في نفسي : و اللّه لا يسبقني بها . فقلت : فاردد إليه ظلامته . فانتزع يده من يدي ، و مضى يهمهم ساعة . ثم وقف فلحقته . فقال : يا ابن عباس ما أظنّ منعهم عنه إلاّ انّه استصغره قومه . فقلت في نفسي : هذه شرّ من الاولى . فقلت : و اللّه ما استصغره اللّه و رسوله حين أمراه أن يأخذ براءة من صاحبك . فأعرض عنّي و أسرع . فرجعت عنه ١ .

و في ( فهرست ابن النديم ) : قال هشام بن الحكم : ما رأيت مثل مخالفينا عمدوا إلى من ولاّه اللّه من سمائه فعزلوه ، و إلى من عزله من سمائه فولّوه ٢ .

و روى الزبير بن بكار أيضا في ( الموفّقيات ) : عن ابن عباس قال : كنت عند عمر . فتنفّس نفسا ظننت أنّ أضلاعه قد انفرجت . فقلت له : ما أخرج هذا النفس منك إلاّ هم شديد . فقال أي : و الله يا ابن عباس إنّي افتكرت فلم أدر في من أجعل هذا الأمر من بعدي . ثم قال : لعلّك ترى صاحبك لها أهلا قلت : و ما يمنعه من ذلك مع جهاده و سابقته و قرابته و علمه ، قال : صدقت و لكنّه امرؤ فيه دعابة إلى أن قال قال عمر : من ان وليها يحملهم على كتاب ربّهم و سنّة نبيّهم لصاحبك أما ان ولي أمرهم حملهم على المحجّة البيضاء و الصراط المستقيم ٣ .

قلت : سبحان اللّه مع اعترافه بأنّ أمير المؤمنين عليه السلام لو ولي الأمر يحملهم على كتاب ربّهم و سنّة نبيّهم ، و على المحجّة البيضاء و الصراط المستقيم كيف دبّر الأمر لعثمان الّذي كان يعرف أنّه لو ولي يردّهم إلى

ــــــــــــــــ

( ١ ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه ٣ : ١٠٥ ، شرح الخطبة ٢٢٦ .

( ٢ ) تكملة الفهرس : ٢٢٤ .

( ٣ ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه ٣ : ١٠٦ ، شرح الخطبة ٢٢٦ ، لكن لا عن الزبير بن بكار بل روى حديثا آخر قبل هذا عن موفقيات الزبير بن بكار و النقل بتصرف يسير .

٣٠

الجاهلية الاولى ؟ و كيف لا و ساعة جلوسه في الخلافة جاهر أبو سفيان في محضره : يا بني اميّة تداولوها تداول الكرة فلا جنّة و لا نار .

و أمّا رميه له عليه السلام بالدعابة ، فإنّما كان لأنّه عليه السلام لم يكن مثله عبوسا بصفة الجبّارين ، بل كان بشره في وجهه الّذي هو صفة المؤمنين .

و روى ابو عمر في ( استيعابه ) عن ابن عمر . قال : قال عمر لأهل الشورى : لله درّهم إن ولّوها الأصيلع كيف يحملهم على الحقّ ، و لو كان السيف على عنقه . فقلت : أتعلم ذلك منه و لا تولّيه . قال : إن لم أستخلف فأتركهم ، فقد تركهم من هو خير منّي ١ .

قلت : يالله للجواب ، و لحمق أتباعه ، لكن لا غرو . قال تعالى في فرعون :

فاستخفّ قومه فأطاعوه ٢ ، و لو كان الأمر كما ذكروا من عدم لزوم تعيين النبي لخليفته و تكون بيعة الناس تجعل انسانا إماما يكون من خالفه خارجيا مباح الدم يلزم أن يصير ولي اللّه عدّوا لله ، و بالعكس لو بايع الناس مخالف الأول مع كون عملهما مع اللّه تعالى بعد ذلك عملهما معه جلّ و علا قبل بلا تغيير و لا تبديل ، و لا زيادة و لا نقصان .

و لمّا حارب المهلب مع الخوارج بسولاف من قبل مصعب بن الزبير ثمانية أشهر ثم قتل مصعب بلغ ذلك الخوارج ، و لم يبلغ المهلّب و أصحابه فناداهم الخوارج ألا تخبروننا ما قولكم في مصعب ؟ قالوا : إمام هدى . قالوا :

فهو وليّكم في الدنيا و الآخرة . قالوا : نعم . قالوا : فما قولكم في عبد الملك بن مروان ؟ قالوا : ذلك اللعين ابن اللعين نحن إلى اللّه منه براء ، و هو عندنا أحلّ دما منكم . قالوا : فأنتم منه براء في الدنيا و الآخرة ، قالوا : نعم . كبراءتنا منكم . قالوا :

ــــــــــــــــ

( ١ ) الاستيعاب ٣ : ٦٤ .

( ٢ ) الزخرف : ٥٤ .

٣١

و أنتم له أعداء أحياء و أمواتا . قالوا : نعم . نحن له أعداء كعداوتنا لكم . قالوا : فإنّ إمامكم مصعبا قد قتله عبد الملك ، و نراكم ستجعلون غدا عبد الملك إمامكم و أنتم لا تتبرّؤون منه و تلعنون أباه . قالوا : كذبتم يا أعداء اللّه . فلّما كان من الغد تبيّن لهم قتل مصعب . فبايع المهلّب الناس لعبد الملك . فأتتهم الخوارج فقالوا :

ما تقولون في مصعب ؟ قالوا : يا أعداء اللّه لا نخبركم ما قولنا فيه ، و كرهوا أن يكذّبوا أنفسهم عندهم قالوا : فقد أخبرتمونا أمس أنّه وليّكم في الدنيا و الآخرة ، و أنّكم أولياؤه أحياء و أمواتا ، فأخبرونا ما قولكم في عبد الملك ؟

قالوا : ذاك إمامنا و خليفتنا و لم يجدوا إذ بايعوه بدّا من أن يقولوا هذا القول .

فقالت لهم الأزارقة : يا أعداء اللّه أنتم أمس تتبرؤون منه في الدنيا و الآخرة ،

و تزعمون أنّكم له أعداء أحياء و أمواتا . و هو اليوم إمامكم و خليفتكم ، و قد قتل إمامكم الّذي كنتم تتولّونه ، فأيهما المحق و أيهما المبطل ؟ و أيّهما المهتدي ،

و أيّهما الضالّ ؟ قالوا لهم : يا أعداء اللّه رضينا بذلك إذ كان وليّ أمورنا ،

و نرضى بهذا كما رضينا بذالك . قالوا لهم : لا و الله ، و لكنّكم إخوان الشياطين ،

و أولياء الظالمين ، و عبيد الدنيا .

و أقول للخوارج : إنّ ذلك يلزم عليكم بعد إقراركم بإمامة صديقكم و فاروقكم ، و خروجكم عن الإلتزام بلازمه لكونه واضح البطلان التزام بالتضاد و التناقض ، و خلاف المعقول . فمن أقرّ بملزوم لابد أن يقرّ بلازمه .

و أقول لفاروقهم قولك : « إن لم أستخلفهم فأتركهم فقد تركهم من هو خير منّي » مضحك للثكى . فكيف تركهم فقد أراد كتابة وصيّة و تعيين وصيّه كتابة حتّى لا يمكنك إنكاره ، و كنت تعرف ذلك كما أقررت به في اعتذارك عن منعه . فقلت : ان الرجل ليهجر حسبنا كتاب الله ، مع عدم معرفتك بشي‏ء منه حتّى سخط و أخرجك من عنده .

٣٢

ثم كيف تركتهم ، و قد استخلفت بني امية الشجرة الملعونة في القرآن ١ .

و في ( إيضاح الفضل بن شاذان ) : روى يزيد بن هارون ، عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي قال : قال ابن عباس : لقي رجل من أهل الشام أبي بالجابية فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، فقال : لست للمؤمنين بأمير و هو ذاك و أشار إلى عمر و كان بالقرب و انا و اللّه أحقّ بها منه ، فسمعها عمر . فقال له : أحقّ بها منّي و منك رجل خلّفناه في المدينة يعني عليّا عليه السّلام ٢ .

قلت : نقلنا قصصا عن عمر في قوله عليه السّلام : « و إنّه ليعلم أنّ محلي منها محلّ القطب من الرحى » مع كون المراد به أبا بكر لأنّهما كانا كنفس واحدة ،

و لأنّه إنّما كان هو الناصب لأبي بكر كما اعترف به النظام ، نصبه ليردّ الأمر إليه كما صرّح به أمير المؤمنين عليه السلام مع انّه كان أيّام خلافة أبي بكر شريكه في الخلافة أيضا كما لا يخفى عند من كان له إلمام بالتاريخ .

ثم إنّه كما علم أبو بكر أوّل من تقمّص بها بكونه عليه السلام أولى بها من كلّ أحد كذلك كلّ من تصدّى لها إلى الآخر إلاّ أنّهم تبعوا الأول و تظاهروا به لكونه أسّس لهم رياسة و دنيا عظيمة . فخطب داود بن علي لمّا بويع السفّاح ، و قال :

« لم يصعد هذا المنبر بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حقّا إلاّ عليّ بن أبي طالب و السفّاح » .

و روى الطبري في أحوال المهدي : أنّ أبا عون عبد الملك بن يزيد مرض فعاده المهدي و سأله حاجته . فقال : حاجتي أن ترضى عن عبد الله بن أبي عون و تدعو به . فقد طالت موجدتك عليه . فقال : يا أبا عون إنّه على غير الطريق و على خلاف رأينا و رأيك ، إنّه يقع في الشيخين أبي بكر و عمر و يسيى‏ء القول

ــــــــــــــــ

( ١ ) بالنظر الى قوله تعالى في الاسراء : ٦٠ .

( ٢ ) الايضاح : ٩٠ ، و النقل بتصرف يسير .

٣٣
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الخامس الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

فيهما . فقال أبو عون : هو و اللّه على الأمر الّذي خرجنا عليه ، و دعونا إليه . فإن كان قد بدا لكم فمروا بما أحببتم حتى نطيعكم ١ .

و في ( الأغاني ) عن أبي سليمان الناجي قال : جلس المهدي يوما يعطي قريشا صلات أمر لهم بها و هو ولي عهد . فبدا ببني هاشم ثم بسائر قريش .

فجاء السيّد الحميري ، و دفع إلى الربيع رقعة مختومة و إذا فيها :

قل لابن عباس سميّ محمّد

لا تعطينّ بني عديّ درهما

و احرم بني تيم بن مرّة إنّهم

شرّ البرية آخرا و مقدما

إن تعطهم لا يشكروا لك نعمة

و يكافئوك بأن تذمّ و تشتما

و لئن منعتهم لقد بدؤوكم

بالمنع إذ ملكوا فكانوا أظلما

منعوا تراث محمّد أعمامه

و بنيه و ابنيه عديلة مريما

و تأمّروا من غير أن يستخلفوا

و كفى بما فعلوا هنالك مأثما

لم يشكروا لمحمّد إنعامه

أفيشكرون لغيره ان أنعما

و اللّه منّ عليهم بمحمّد

و كسا الجنوب و أطعما

ثم انبروا لوصيّه و وليّه

بالمنكرات فجرّعوه العلقما

فرمى بها إلى عبيد اللّه الوزير ثم أمر بقطع العطاء فانصرف الناس و أدخل السيّد عليه . فلمّا رآه ضحك ، و قال : قد قبلنا نصيحتك يا إسماعيل . . .

و يأتي كلام الناصر العباسي ٢ .

و أمّا قول أبي بكر في إظهاره الشكّ في احتضاره . فقد قال كما في ( خلفاء ابن قتيبة ) : « ليتني سألته ( أي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ) لمن هذا الأمر من بعده فلا ينازعه فيه أحد » ٣ فيقال له في قوله « ليتني سألته لمن هذا الأمر من بعده » ليت

ــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٦ : ٤٠٠ ، سنة ١٦٩ ، و النقل بتلخيص .

( ٢ ) الأغاني ٧ : ٢٤٣ ، و النقل بتلخيص .

( ٣ ) رواه ابن قتيبة في الإمامة و السياسة ١ : ١٩ ، و الطبري في تاريخه ٢ : ٦٢٠ ، سنة ١٣ ، و غيرهما .

٣٤

صاحبك خلاّه يقول ذلك ، لكن الرزية كلّ الرزية كما قال ابن عباس و كان كلّما ذكر ذلك قال ذلك و يبكي بكاء الثكلى منع صاحبك له عن ذلك مع أنّه يكفي في خزي اتباعه شكّ متبوعهم في أمر نفسه .

و روى محمّد بن يعقوب الكليني عن الأصبغ قال : قال أمير المؤمنين عليه السّلام : ما بال أقوام غيّروا سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ، و عدلوا عن وصيّه لا يتخوّفون أن ينزل بهم العذاب ؟ ثم تلا هذه الآية : ألم تر إلى الذين بدّلوا نعمة اللّه كفرا و أحلّوا قومهم دار البوار جهنّم ١ ثم قال : نحن النعمة الّتي أنعم اللّه بها على عباده ، و بنا يفوز من فاز يوم القيامة ٢ .

هذا . و في ( روضة المناظر ) : اتّفق الملك العادل أبو بكر أخو السلطان صلاح الدين ، و الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين على أخذ دمشق من الملك الأفضل علي بن صلاح الدين ، و حاصراه . فدخل أبو بكر من باب توما ،

و عثمان من باب العرج ، فسار علي إلى صرخد ، و كتب إلى الخليفة الناصر العباسي يشكو من عمّه و أخيه :

مولاي إنّ أبا بكر و صاحبه

عثمان قد أخذا بالجور حقّ علي

فانظر إلى حظّ هذا الأسم كيف لقي

من الأواخر ما لقى من الاوّل

فأجابه الخليفة الناصر العباسي :

غصبوا عليّا حقّه إذ لم يكن

بعد النبّي له بيثرب ناصر

فاصبر فإنّ غدا عليه حسابهم

و ابشر فناصرك الإمام الناصر ٣

« ينحدر » أي : ينهبط .

ــــــــــــــــ

( ١ ) إبراهيم : ٢٨ و ٢٩ .

( ٢ ) الكافي ١ : ٢١٧ ح ١ .

( ٣ ) روضة المناظر ٢ : ١٠٦ ، و النقل بتصرف في اللفظ .

٣٥

« عنّي السيل » من سال الماء .

« و لا يرقى » أي : لا يصعد .

« إلى الطير » شبّه عليه السّلام علوه المعنوي بجبل عال لا يقدر الطير من كثرة علوه أن يصعد إليه ، و قال الشاعر

« عال يقصّر دونه اليعقوب »

و اليعقوب ذكر الحجل ، و قال الأعشى :

في مجدل شيّد بنيانه

يزلّ عنه ظفر الطائر

و قال امرؤ القيس :

نيافا تزلّ الطير عن قذفاته

هذا ، و قال كعب الأشقري في فتح يزيد بن المهلّب قلعة نيزك بباد غيس و كانت في غاية الإرتفاع ، و كان نيزك يعظّمها حتّى إذا رآها سجد لها :

نفى نيزكا عن باد غيس و نيزك

بمنزلة أعيى الملوك أغتصابها

محلّقة دون السماء كأنّها

غمامة صيف زلّ عنها سحابها

و لا يبلغ الأروى شماريخها العلى

و لا الطير إلاّ نسرها و عقابها

و ما خوّفت بالذئب ولدان أهلها

و لا نبحت إلاّ النجوم كلابها

نقل الصدوق في ( معاني أخباره ) عن أبي أحمد العسكري قال : معنى قوله عليه السّلام « ينحدر عنّي السيل و لا يرقى إليّ الطير » أنّ الخلافة ممتنعة على غيري ، و لا يتمكّن منها ، و لا تصلح له ١ .

قلت : ما قاله إنّما هو معنى قوله عليه السلام قبل ذلك : « انّ محلي منها محلّ القطب من الرحى » و امّا هذا الكلام فمعناه علوّ مقامه بحيث لا يمكن لأحد أن يناله .

و علو مقامه هو أحد أسباب إعراض الناس عنه عليه السّلام ، قال أبو زيد

ــــــــــــــــ

( ١ ) معانى الاخبار : ٣٦٢ ، و علل الشرائع ١ : ١٥٢ .

٣٦

النحوي : قلت للخليل العروضي : لم هجر الناس عليّا عليه السّلام و قرباه ، من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قرباه ، و موضعه من الإسلام موضعه ؟ فقال : « و اللّه بهر نوره أنوارهم ، و غلبهم على صفو كلّ منهل ، و الناس إلى أشكالهم أميل . أما سمعت قول الأوّل :

و كلّ شكل لشكله ألف

أما ترى الفيل يألف الفيلا ؟ ١

و قال يونس النحوي أيضا قلت للخليل : ما بال أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كأنّهم بنو أمّ واحدة ، و علي كأنّه ابن علّة ؟ قال : تقدّمهم إسلاما ، و بذّهم شرفا و فاقهم علما ، و رجحهم حلما و كثرهم هدى فحسدوه ، و الناس إلى أمثالهم و أشكالهم أميل ٢ .

و في ( عيون المفيد ) : اتفق الناس على النقل عن أمير المؤمنين عليه السّلام رجزه في صفّين :

أنا علي صاحب الصمصامة

و صاحب الحوض لدى القيامة

أخو نبي اللّه ذي العلامة

قد قال إذ عمّمني العمامة

أنت أخي و معدن الكرامة

و من له من بعدي الإمامة ٣

و كيف لا يكون مقامه عليه السلام بذالك الشموخ ، و كتاب اللّه تعالى في تنزيله جعله نفس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و النبي صلّى اللّه عليه و آله جعل في المتواتر عنه يوم احد لمّا قال جبرئيل عليه السلام له صلّى اللّه عليه و آله تعجبا من حمايته عليه السّلام عنه صلّى اللّه عليه و آله نفسه منه عليه السّلام فقال صلّى اللّه عليه و آله لجبرئيل : « كيف لا يواسيني علي ، و هو منّي و أنا منه » كما جعل جبرئيل نفسه منه عليه السّلام كما جعلها منه صلّى اللّه عليه و آله فقال للنبي صلّى اللّه عليه و آله بعد

ــــــــــــــــ

( ١ ) رواه الصدوق في علل الشرائع ١ : ١٤٥ ح ١ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) رواه السروي في مناقبه ٣ : ٢١٣ ، و السائل هنا ايضا ابو زيد .

( ٣ ) رواه عنه الشريف المرتضى في الفصول المختاره ٢ : ٢٣٤ .

٣٧

كلامه ذاك « و أنا منكما » ١ .

« فسدلت » أي : أرخيت .

« دونها » أي : دون الخلافة .

« ثوابا » و الكلام كناية عن إعراضه عنها ، كمن يضرب الحجاب بينه و بين من يعرض عنه .

و في ( إيضاح الفضل ) : قال المأمون لفقهاء العامة : قال عليّ عليه السّلام : قبض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ، و أنا أولى بمجلسه مني بقميصي ، و لكنّي أشفقت أن يرجع الناس كفّارا ٢ .

« و طويت عنها كشحا » قال ابن أبي الحديد : أي : حرمتها قالوا : لأنّ من كان إلى جانبك الأيمن مثلا فطويت كشحك الأيسر فقد ملت عنه و الكشح ما بين الخاصرة و الجنب . و عندي انّهم أرادوا غير ذلك ، و هو أنّ من أجاع نفسه . فقد طوى كشحه كما أنّ من أكل و شبع فقد ملأ كشحه ، فكانّه أراد انّي اجعت نفسي عنها و لم ألتهمها ٣ .

قلت : إنّما يجي‏ء « طوى بطنه » بمعنى الجوع كما في الخبر « و اترك أهل الصفّة تطوى بطونهم » ٤ و أما « طوى كشحه » فلا يجي‏ء إلاّ بمعنى الإعراض إذا عدي بعن كما في كلامه عليه السّلام ، أو بتقديرها كما في قول الشاعر :

أخ قد طوى كشحا

و أبّ ليذهبا

و قال آخر :

و صاحب لي طوى كشحا فقلت له

إنّ انطواءك هذا عنك يطويني

ــــــــــــــــ

( ١ ) رواه جمع كثير منهم ابن هشام في السيرة ٣ : ٤٣ ، و الكليني في الكافي ٨ : ١١٠ ح ٩٠ ، غيرهما .

( ٢ ) لم يوجد في الايضاح ، بل رواه الصدوق في عيون الاخبار ٢ : ١٨٦ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ١ : ٥٠ .

( ٤ ) النهاية ٣ : ١٤٦ ، مادة ( طوي ) .

٣٨

و أمّا إذا عدّي بعلى فبمعنى الإخفاء كما قال زهير في حصين بن ضمضم في حرب داحس و الغبراء .

و كان طوى كشحا على مستكنّة

فلا هو أبداها و لم يتجمجم

و في ( اللسان ) : أراد « بالمستكنّة » عداوة أكنّها في ضميره ١ .

و بالجملة قوله عليه السّلام : « و طويت عنها كشحا » كقوله عليه السّلام : « و سدلت دونها ثوبا » ، كناية عن إعراضه عليه السلام عن الخلافة و تصدّي الأمر ، و ابن أبي الحديد خلط بين طيّ البطن و طيّ الكشح .

ثم طيّ الكشح لا يختصّ بمن كان على أيمنك فطويت أيسرك عنه كما قال ابن أبي الحديد بل يجي‏ء للعكس أيضا بل قوله : فطويت أيسرك عنه غير صحيح . فمن كان على أيمنك تطوى أيمنك أولا عنه إذا أعرضت عنه ، و بطيّ الأيمن يحصل طي الأيسر .

ثم انّه عليه السّلام أعرض عن الخلافة ، و سدل دونها ثوبا ، و طوى عنها كشحا لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أخبره بكيفيّة معاملة الناس معه عليه السّلام بعده فقال له « انّ الامّة ستغدر بك بعدي » ٢ .

و روي انّ الأشعث بن قيس قاله له : ما منعك يا ابن أبي طالب حين بويع أخو بني تيم ، و أخو بني عدي ، و أخو بني أميّة أن تقاتل و تضرب بسيفك ، و أنت لم تخطبنا خطبة مذ كنت قدمت العراق إلاّ قلت فيها قبل أن تنزل عن المنبر « و الله إنّي لأولى الناس ، و ما زلت مظلوما مذ قبض رسول الله » فما يمنعك أن تضرب بسيفك دون مظلمتك ؟

قال : يا ابن قيس إسمع الجواب . لم يمنعني من ذلك الجبن ، و لا كراهة

ــــــــــــــــ

( ١ ) لسان العرب ١٥ : ١٩ ، مادة ( طوي )

( ٢ ) أخرجه الحاكم في المستدرك ٣ : ١٤٠ و ١٤٢ ، و الثقفي ، و عنه تلخيص الشافي ٣ : ٥٠ ٥١ ، و جمع آخر غيرهما .

٣٩

للقاء ربيّ ، و لكن منعني من ذلك أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و عهده إليّ . أخبرني بما الامّة صانعة بعده . فلم أك بما صنعوا حين عاينته بأعلم به ، و لا أشدّ استيقانا منّي به قبل ذلك . فقلت : يا رسول الله ، فما تعهد إليّ إذا كان ذلك ؟ قال : إن وجدت أعوانا فانبذ إليهم و جاهدهم ، و إن لم تجد أعوانا . فكفّ يدك ، و احقن دمك حتى تجد على إقامة الدين و كتاب الله و سنّتي أعوانا ، و أخبرني أنّ الامة ستخذلني و تبايع غيري ، و أخبرني أنّي منه بمنزلة هارون من موسى ، و أنّ الامّة سيصيرون بعده بمنزلة هارون ، و من تبعه ، و العجل و من تبعه إذ قال له موسى : يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلّوا ألاّ تتّبعن أفعصيت أمري قال يا ابن ام لا تأخذ بلحيتي و لا برأسي إنّي خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل و لم ترقب قولي ١ الخبر ٢ .

و لم يحضر عليه السّلام السقيفة كما حضروا لأمرين :

أحدهما : انّه كان مشتغلا بدفن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فكانوا يقولون له عليه السّلام بعد سماع احتجاجه عليهم : « لو سمعت الأنصار كلامك قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلفت عليك » فكان عليه السّلام يقول : « أ فكنت أدع رسول الله صلّى اللّه عليه و آله في بيته لم أدفنه ،

و أخرج أنازع الناس بسلطانه » ٣ .

و الثاني : أنّ الإمام بمنزلة الكعبة يجب على الناس أن يأتوها لا أن تأتيهم هي .

« و طفقت » طفق : من أفعال الشروع قال تعالى : و طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنّة ٤ .

ــــــــــــــــ

( ١ ) طه : ٩٢ .

( ٢ ) رواه سليم بن قيس في كتابه : ١٢٦ و ١٢٧ .

( ٣ ) رواه الجوهري في السقيفة : ١ ، و ابن قتيبة في الامامة و السياسة ١ : ١٢ ، و النقل بالمعنى .

( ٤ ) الاعراف : ٢٢ .

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وهو المانع والمنع في حقّه سبحانه محال، فقال له أبو الحسن الأشعري: فعلى قياسك لا يسمّى الله حكيماً؛ لأنّ هذا الاسم مشتقٌّ من حكمة اللجام وهي الحديدة المانعة للدابة عن الخروج، فإذا كان اللفظ مشتقّاً من المنع، والمنع على الله محال، لزِمَك أنْ تمنع إطلاق اسم حكيم عليه سبحانه وتعالى.

فقال له الجبائي: لم منعت أنت أنْ يسمّى الله سبحانه عاقلاً، وأجزت أنْ يسمّى حكيماً؟

فقال الأشعري: لأنّ طريقي في مأخذ أسماء الله الإذن الشرعي دون القياس اللغوي، فأطلقت عليه حكيماً متابعةً للشرع، ولم أطلق عليه عاقلاً؛ لأنّ الشرع قد منَع من ذلك (١).

ويؤكّد كتّاب الفِرَق أنّ الاختلاف الذي كان يقَع بين التلميذ وأُستاذه في تلك المناظرات هو الذي أدّى إلى انفراد التلميذ عن أُستاذه، بعد أنْ كان يؤمن بأقوال المعتزلة وآرائهم أشدّ الإيمان ويدافع عنها بإخلاصٍ وتجرّد، ولكن المتتبّع لتاريخ كبار المعتزلة الذين ترأسوا فكرة الاعتزال منذ أنْ ظهر واصل بن عطاء الزعيم الأوّل، حتى جاء الجبائي في القرن الثالث، يجد بينهم اختلافاً كبيراً في أكثر المسائل الكلامية والفلسفية.

وقد جاء عن الجبائي نفسه أنّه قال: ليس بيني وبين أبي الهذيل العلاّف خلاف إلاّ في أربعين مسألة، فمجرّد الاختلاف في الرأي في بعض المسائل التي كان يجري بين الأُستاذ وتلميذه لا يؤدّي إلى محاربة الاعتزال، بالشكل الذي انتهى إليه بين الأشاعرة والمعتزلة، هذا بالإضافة إلى أنّ المعتزلة أنفسهم يقرّرون أنّ الخلاف مهما بلغ واشتدّ لا يوجب الخروج عن الاعتزال ما دامت أركان الاعتزال الخمسة محفوظة بين الطرفين، لذلك فليس من المُستبعد أنْ يكون الأشعري منذ بدأ دراسة الاعتزال، واتّصل بشيوخ المعتزلة حتى المرحلة الأخيرة، لم يكن يؤمن بنظريّاتهم ولا بمناهجهم التي سلكوها في مقام البحث والاستدلال، وإنّما اتصل بهم وتعمّق في دراسة آرائهم ومناهجهم التي سلكوها في مقام البحث والاستدلال والمناظرة؛ لغرض الردّ عليها والانتصار للمُحدّثين الذين كانوا هدفاً لنقمة المعتزلة وأعوانهم، نعم، الشيء الذي

____________________

(١) انظر الفرق لعليّ الغرابي.

١٢١

لا يُمكن تجاهله أنّ الأشعري قد تأثّر بأُسلوبهم في مقام البحث والاستدلال، فكان أُسلوبه مزيجاً من العقل والحديث، فلَم يعتمد على العقل وحده ولا على الحديث وحده، وإنْ كانت هذه الطريقة قد أوجبَت نقمة المحدّثين عليه وعلى أتباعه فيما بعد كما سنشير إلى ذلك في المباحث الآتية.

ومهما كان الحال فقد تفرّد في بعض النظريّات عن شيوخ المعتزلة، وخالفهم في بعض أقوالهم في الصفات وغيرها كما يدّعي كتاب الفِرَق والمذاهب، وجاء ولده من بعد، أبو هاشم عبد السلام بن محمّد الجبائي، فاختصّ ببعض الآراء والنظريّات وخالف والده في تِسعٍ وعشرين مسألة، كما جاء في التعليقة على التبصير في الدين للشيخ محمّد زاهد الكوثري (١).

ومن آرائه أنّ مَن تاب عن ذنبٍ مع إصراره على ذنبٍ آخر لم تُقبل توبته، حتى أنّ يهودياً لو تاب عن كفره ولكنّه منع حبّةً مثلاً عن مستحقٍّ لم تصحّ توبته من اليهودية، وأنّ التوبة عن الذنب بعد العجز عنه لا تقبل، فمَن كذّب ثمّ قُطِع لسانه وتاب بعد ذلك لا تقبل توبته، ويَنسِب إليه أبو مظفّر في التبصير أنّ الوقوف بعرفة، والسعي، والطواف ليس واجباً، وأنّه كان يكفّر المعتزلة ويكفّرونه ويتبرّأ من أبيه (٢) إلى غير ذلك من الآراء المنسوبة إليه، وإليه يُنسب القول بالأحوال.

والتزم بذلك في مقابل المعتزلة المنكرين لصفات الله الذاتية محتجّين لذلك، بأنّ الالتزام بوجود صفات غير الذات يؤدّي إلى تعدّد القديم، فجاء أبو هاشم الجبائي وسمّاها أحوالاً لا معدومة ولا موجودة، ولا معلومة ولا مجهولة، لا تُعرف إلاّ مع الذات ولا تُدرك إلاّ معها ولا تتحقّق إلا بتحقّقها، فليس لها وجود خارجي كوجود الذات وليست معدومة؛ لأنّ الله سبحانه أثبتها لنفسه، فمعنى أنّها لا موجودة ولا معدومة هي أنّها ثابتة (٣) وليس من قصدنا تحقيق هذه الآراء، ولا بيان كلّ ما تفرّدت به تلك الفِرَق، ولم نضع هذا الكتاب لهذه الغاية، وإنّما الذي أردناه من العرض الموجز لشيوخ المعتزلة وبعض آرائهم التمهيد للغاية التي وضعنا هذا الكتاب من أجلها.

____________________

(١) انظر ص ٨٠ من الكتاب المذكور.

(٢) انظر المصدر المذكور ص ٨٢.

(٣) انظر الفرق لعلي الغرابي ص ٢٥٩ و٢٦٠.

١٢٢

ومجمل القول أنّ هذه الحفنة القليلة من آراء المعتزلة التي عرضناها في هذه الصفحات، تمثّل النزعة العقلية التي طغت على تفكير المعتزلة، فاعتمدوا على العقل وحده في جميع أبحاثهم شرعية كانت أم غيرها، وحاولوا عن طريقه حلّ جميع المشاكل حلاًّ منطقياً مقنعاً، وأقّروا للعقل بالسلطنة المطلقة، واعتبروا الشرع موضّحاً ومتمّماً لشريعة العقل، فإذا بدا تناقض بين ما جاء به الوحي، وبين ما حكَم به العقل، لابدّ من تأويل الوحي بما يوافق حكم العقل، فشريعة العقل عندهم في منتهى القداسة، لا يُمكن أنْ تمسّ بحال من الأحوال، وقد يلجأ العقل أحياناً إلى الوحي ليستمدّ منه ما يعجز عن إدراكه. ومِن أمثلة ذلك مقدار النعيم والعقاب، أمّا أصل الثواب والعقاب على الأفعال فهما من مختصّات العقل وحده ولو لم يأت بها الوحي من الله سبحانه، ولكن مقدار الاستحقاق يتوقّف على الشرع.

قال الجبائي وابنه أبو هاشم: (بمقتضى العقل والحكمة يجب على الحكيم ثواب المطيع وعقاب العاصي، إلاّ أنّ التأقيت والتخليد فيه يعرف بالسمع)، ومن ذلك يبدو أنّ المعتزلة قد أفرطوا في تحكيم العقل إفراطاً حملهم على القول بأنّ الوحي وظيفته توضيح شريعة العقل، وأنّ باستطاعة جميع الناس أنْ يدركوا بعقولهم الصفات الذاتية الثابتة للأفعال عندما تنضج عقولهم وتتّسع مداركهم، وهي وحدها المقياس الوحيد لتحديد ما في الأفعال من صفات حسنة أو قبيحة، وعندما يعجز العقل أحياناً عن إدراك بعض الحقائق، يلتجئ إلى الوحي ليستمدّ منه النور الذي يرشده إلى ذاتيات الأفعال، فهو إما مؤكّد لشريعة العقل، أو شارح وكاشف لمّا لم يستطع العقل تحديده والإحاطة بواقعه، وإذا بدا ما يوهم الخلاف بين الحكمين، لابدّ من تأويل النصوص الشرعية بما يتّفق مع حكم العقل.

ومن ذلك الآيات التي يلزم من الأخذ بظاهرها التجسيم، ومشابهة الإله لسائر مخلوقاته، وغير ذلك من الآيات التي اعتمد عليها الجهمية والمحدّثون فيما يتعلّق بأفعال الإنسان، وكونه حرّاً مستقلاًّ فيما يفعل، أو مسيّراً لا يملك من أُموره شيئاً، هذا الإفراط في تحكيم العقل كان حدَثاً جديداً في تاريخ الإسلام بنظر المحدّثين الذين اعتادوا أنْ يبحثوا الدين وغيره من المشاكل عن طريق النصوص منذ مطلع فجر الإسلام، ولا سيّما وقد رأوا من المعتزلة بعض الانحرافات في آرائهم تتخطّى الأُصول الإسلامية، كما أوردنا قسماً منها عن الواصلية، والنظامية، والبشرية وغيرهم من

١٢٣

الأقطاب المؤسّسين لمذهب الاعتزال.

لذلك اتسعت المسافة بين الطرفين، وتراشقوا بالتفكير والخروج عن الدين، وأعلنوا حرباً بينهما لا هوادة فيها، وادعى كلٌّ منهما أنّه الحامي للإسلام والذائد عنه كيد المخرّبين والمعتدين، وتضاعفت نقمة المحدّثين عليهم عندما وقف الحكّام العبّاسيّون بجانبهم، وحاولوا فرض آرائهم ونظرّياتهم على الناس بالسيف، ولا سيّما مسألة خلق القرآن التي جرت المحنة والبلاء على فريق من كبار العلماء، وبلغت المحنة أشدّها في عهد المعتصم والواثق اللذين تبنّيا وصيّة المأمون بمناصرة المعتزلة والتنكيل بخصومهم.

وبقي سلطان الاعتزال ينتشر، حتى جاء المتوكّل العبّاسي فخفّف من حدّته، وأفسح المجال للمحدّثين أنْ يُعبّروا عن آرائهم حسب اجتهادهم، ورفع منزلتهم بين الناس ولا سيّما في الشطر الأخير من حكمه، ومن مجموع ذلك تبيّن أنّ المعتزلة منذ نشأتهم لم يصادفوا مقاومة من الحكّام الذين عاصروهم، فالأمويّون وإنْ لم يقفوا بجانبهم، كما فعَل بعض الحكّام العبّاسيّين، ولكنّهم لم يتدخّلوا في أُمورهم، وأفسحوا لهم ولغيرهم المجال للبحث والخصومات المذهبية، والمناظرات في مختلف العلوم والمعتقدات، وقدّروا أنّ انفتاح هذا الباب في وجه العلماء، وانصرافهم إلى هذه النواحي يشغل القسم الأكبر من أوقاتهم وتفكيرهم، ويصرفهم عن الشؤون السياسية، وسوء الإدارة إلى البحث والتفكير والخصومات في العقائد والآراء.

والعبّاسيّون في السنين الأُولى من عهدهم التي تنتهي بانتهاء خلافة الرشيد، كانوا مع المعتزلة أشبه بأسلافهم الأمويّين، وانصرفوا عن جميع الأحزاب والفرق إلى التنكيل بالعلويّين ومطاردتهم، وإذا قرّبوا أحداً من العلماء أو تظاهروا بتعظيمهم كما كان يفعل المنصور والرشيد أحياناً، فذاك ليستروا سوء تصرّفاتهم بهذه المظاهر.

ولمّا جاء دور المأمون تبنّى بنفسه آراء المعتزلة، وقرّبهم من مجالسه، وجعل منهم الحجّاب والوزراء، وعقَد لهم المجالس للمناظرة بينهم وبين الفقهاء والمحدّثين بصورة خاصّة (١)، وقد أكسبتهم هذه المعاملة عطف

____________________

(١) يؤكّد جماعة من الكتّاب العرب والمستشرقين ومنهم المستشرق الفرنسي غودفروا في كتابه (النظم الإسلامية) إنّ مذهب المعتزلة قد ساد بصفته مذهباً رسميّاً لا بصفته مذهباً عقليّاً حرّاً.

١٢٤

الناس، ووجّهت إليهم أنظار الجماهير، ولذلك عندما تخلّى عنهم الحكّام اتجهت إليهم الأنظار، وأصبح الإمام أحمد بن حنبل من الأعاظم بنظر الجماهير، واستغل المحدّثون وعلى رأسهم أحمد بن حنبل، انحراف الحكّام عن المعتزلة، فنشطوا في نشر آرائهم، وقاموا بتمثيل الدور الذي مثّله المعتزلة وأنصارهم مع الفقهاء والمحدّثين من قبل.

على أنّ الذي تؤكّده المصادر التاريخية، أنّ المحدّثين قد صمدوا في وجه تلك الأحداث، وأعلنوا رأيهم في المعتزلة بكلّ صراحة وبدون مواربة، فلقد عدّهم أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة من الزنادقة، كما أفتى مالك، والشافعي بعدم قبول شهادتهم، وكان محمّد بن الحسن الشيباني لا يجيز الصلاة معهم (١).

وفي كتاب التبصير لأبي المظفر الإسفراييني ما يشير إلى أنّ جميع الفقهاء والمحدّثين من عهد التابعين إلى نهاية القرن الرابع، وقد وقفوا في اتجاهٍ معاكس للمعتزلة بالرغم من مساندة الحكّام لهم.

فإنّه بعد أنْ أورد اعتقادات أهل السنّة والجماعة التي تخالف المعتزلة، بعد أنْ أوردها قال: (واعلم أنّ جميع ما ذكرناه من اعتقادات السنّة لا خلاف في شيء منه بين الشافعي، وأبي حنيفة، وجميع أهل الرأي والحديث، مثل مالك الأوزاعي وداود الظاهري، والزهري،والليث بن سعد، وأحمد بن حنبل، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة (٢)، ويحيى بن معين (٣)، وإسحق بن راهويه (٤)، ومحمّد بن اسحق الحنظلي (٥)) .

واستطرد يُعدّد الفقهاء الذين رافقوا عصر المعتزلة في القرنين الثاني والثالث، في الحجاز والعراق والشام وخراسان، وما وراء النهر، ومَن تَقدّمهم من الصحابة والتابعين، وأيّد دعواه بمؤلّفات أبي حنيفة

____________________

(١) المذاهب الإسلامية لأبي زهرة ص ٢٢٧.

(٢) المتوفّى سنة ١٩٨.

(٣) المتوفّى سنة ٢٣٣.

(٤) المتوفّى سنة ٢٣٨.

(٥) المتوفّى سنة ٢٤٢.

١٢٥

والشافعي وغيرهما من المؤلّفين، حتى في عصر المحنة على حدّ تعبير بعض الكتاب، تلك المؤلّفات التي تعبر عن آراء المحدّثين والفقهاء في المعتزلة، وأهل الأهواء والبِدَع على حد تعبير الاسفراييني (١) .

ومع أنّ تلك الخصومات المذهبية التي استمرت قروناً من الزمن قد أضرّت بالمسلمين وأدخلت على العقيدة الإسلامية بعض التشويشات والآراء المستوردة من أصحاب الديانات القديمة كاليهودية والنصرانية وغيرهما، وبسبب ذلك أُحيطت العقيدة بشيءٍ من التعقيد والغموض، ومع ذلك فلا يسعنا أنْ نتجاهل المكاسب التي استفادها المسلمون من هذا الصراع العقائدي ومِن تحكيم العقل والمنطق في تعليل الحوادث وإرجاع الأُمور إلى أسبابها الواقعية، هذا الأُسلوب الجديد الذي أفاد الفكر الإسلامي قوّةً ومرونة على الجدَل والنقاش، فاستطاع أنْ يصمد في وجه أُولئك الغزاة المحاربين للإسلام عن طريق الدسّ في تعاليمه، وتشويش عقائده وتحويرها عن واقعها.

ومهما كان الحال فقد أسرف أنصار المعتزلة في سرد الغنائم والمكاسب التي أضافوها إلى المعتزلة، كما أسرفوا في التشنيع على المحدّثين والفقهاء الذين اتبعوا طريقة إسلافهم في فهم الدين، وتحديد أُصوله وأركانه، كما وقف المحدّثون والفقهاء والأشاعرة منهم نفس الموقف، فقد بالغوا في التشويش عليهم، وأضافوا إليهم من الأفكار والآراء التي لا تدخل في حسابهم، ولا هي من تعاليمهم وحاولوا بشتّى الأساليب أنْ يظهروا بمظهر الحماة للدين والعقيدة، بحيث لولاهم لم يبقَ للإسلام رسم أو وصف.

والواقع الذي لا يُمكن تجاهله أنّ لكلّ من الطرفين حسناته وسيّئاته، فكلاهما قد أفسَد وأدخل على الدين من البِدَع والخرافات ما يشوه وجهه ويسيء الى تعاليمه ومبادئه، كما أصلح من ناحية أُخرى أفادت الفكر وأكسبته قوّة ومرونة في وجه الغزاة والمخرّبين، وتهيّأ لكلا الطرفين بواسطة هذا الصراع الفكري نشر الثقافة الإسلامية، وتأليف الموسوعات العلمية والدينية الغنية بالفكر والعطاء الجزيل الواسع.

ومن المؤسف أنّ الباحثين في تأريخ الفِرَق والمتتبّعين لآثارها من ناقدين ومؤيّدين قد تجاهلوا أئمّة الشيعة، وتلاميذهم الذين رافقوا تلك

____________________

(١) انظر التبصير في الدين ص ١٦٥ و١٦٦.

١٢٦

التطورات الفكرية في القرنين الثاني والثالث، مع أنّهم عاشوا في ذلك الجو العلمي المزدحم بالآراء والأفكار المتضاربة، وكانوا في الطليعة بين علماء ذلك العصر، كما يعترف بذلك حتى أخصامهم، وكانت مجالسهم، وبيوتهم مقصداً لكلّ عالم ومتعلم، ومع ذلك لم يتعرضوا لهم، ولم يذكروا شيئاً عن تلك المواقف التي وقفوها لحماية العقيدة من الخطر الذي أحدَق بها في تلك الفترة من تاريخ الإسلام.

مع أنّ الأئمّة من أهل البيت (عليه السلام) وشيعتهم قد انصرفوا عن كلّ شيء، إلاّ عن خدمة الدين، وحماية عقائده التي جاء بها الرسول (صلّى الله عليه وآله) ونصّ عليها القرآن الكريم من العابثين والمشوّشين، وكانت لهم ولشيعتهم وتلامذتهم أمثال هشام بن الحكّم، ومؤمن الطاق، ومحمّد بن مسلم، ويونس بن عبد الرحمان، وزرارة بن أعين، وأبان بن تغلب، ومحمّد بن عمر، والفضل بن شاذان وغيرهم من العشرات، جولات موفّقة في الدفاع عن العقائد الإسلامية، سلَكوا فيها طريقاً وسَطاً بين المعتزلة والمحدّثين وأنصارهم الأشاعرة، وقد أثبتت كتب الحديث ومؤلّفات الشيعة في عِلم الكلام آراء الإمامية في التوحيد والصفات والتجسيم، والقدر والاختيار، وغير ذلك ممّا يتعلّق بالنبوّة والإمامة والجنّة والنار، وجميع المباحث التي كانت محلاًّ للجدَل والمناظرات بين المسلمين وغيرهم، وبين المسلمين أنفسهم.

وسنعرض قسماً من تلك الآراء في الفصل الذي أعددناه للمقارنة بين آراء الإمامية وغيرهم من الفِرَق الإسلامية، ومنها يتبيّن أنّهم وحدهم الذين وضعوا أُصول العقيدة الإسلاميّة، والذائدون عنها كيد المعتدين، والمفترين  بأُسلوب منطقي يؤيّده العقل، ويتّفق مع الفطرة.

ومجمل القول أنّ الخصومات العقائدية لم تكن بين الأشاعرة وأتباعهم المحدّثين، وبين المعتزلة فحسب، بل كانت بين هاتين الفئتين وبين الإمامية أيضاً؛ لأنّهم يتخطّون في الغالب آراء الفريقين، غاية ما في الأمر أنّ حدّة الخصام بين الإمامية وغيرهم لم تبلغ الحدّ الذي وصلت إليه بين المعتزلة والمحدّثين وأنصارهم الأشاعرة، و الماتريدية أتباع ابي الحسن الماتريدي الذي يتّفق مع الأشعري في أكثر مناهجه.

وتؤكّد المصادر الموثوقة أنّ الخصومة بين الطرفين بقيَت إلى أوائل القرن الخامس الهجري، وكانت تشتدّ تارة، وتضعف أُخرى حتى جاء

١٢٧

دور القادر العبّاسي، فتدخل رسميّاً لإنهاء هذه المنازعات، ووضَع حدّاً لها بعد أنْ جمَع المحدّثين وأنصارهم من الأشاعرة، فوضعوا كتاباً أسموه (الاعتقاد القادري) يتضمّن ما يجب على المسلم الاعتقاد به من أُصول الدين، كالتوحيد، والصفات، وخلق القرآن وغير ذلك من المسائل التي كانت محلاًّ للخلاف بين الطرفين، ثمّ وقّعه الفقهاء بخطوطهم، وتعهّدت الدولة بنشره بين المسلمين، وحذّرت المخالفين بالعقوبات الصارمة.

وأصدر الخليفة القادر أوامره بعدَم الخوض في المباحث الكلامية وتدريسها، والمناظرات على مذهب الاعتزال (١) وبذلك تمّ القضاء على الاعتزال كمذهب له أنصاره وأتباعه، وأصبحت السيادة المطلقة لمذهب المحدّثين والأشاعرة في العقائد بتأثير السلطة الحاكمة يومذاك، وكان لهذا الانحياز أثره البالغ في انتشار مذهب الأشاعرة، والركود الذي طرأ على الاعتزال، ولولا ذلك لَما استطاع الأشاعرة وأتباعهم الوقوف في طريق المعتزلة، والحدّ من نشاطهم.

وقد أصبح التقليد في الأُصول مفروضاً على جميع المسلمين، وانتهى دور الاجتهاد وتحكيم العقل في أُصول العقائد، كما انتهى دورهما في المسائل الفرعية بعد أنْ أصدر المنتصر العبّاسي مرسوماً بحصر المذاهب الفقهية في الأربعة، التي لا تزال إلى اليوم مرجعاً لأهل السنّة يفتون الناس ويعملون بآراء أُولئك الذين مضى عليهم أكثر من ألف ومِئتي سنة تقريباً، ومن المعلوم أنّ تحمّس الحكّام للأشاعرة والمحدّثين لم يكن بدافع الحرص على الدين، وإنّما هو لإرضاء الجماهير التي كانت تؤيّد الحنابلة والأشاعرة، والتي انحازت إليهم بعد المحنة التي أنزلها بعض الحكّام بهم بواسطة المعتزلة كما ذكرنا في الفصول السابقة.

ومهما كان الحال فالتحجير على العقول، وتحديد صلاحيّاتها يعتبر إساءة إلى العلم وإلى الدين والأُمّة، ولولاها لَما نجحت دعوة الرُسل، ولا تقدّمت الأُمم في جميع نواحي الحياة.

____________________

(١) انظر مقدّمة مقالات الإسلاميين للأشعري بقلم محمّد محيي الدين عبد الحميد ص ٢٧.

١٢٨

الأشاعرة

الأشاعرة إلى عليّ بن إسماعيل المعروف بأبي الحسن الأشعري، وهو الذي وضع أُصول هذا المذهب في سنة ٣٠٠ تقريباً، بعد أنْ انفصل عن أُستاذه محمّد بن عبد الوهاب الجبائي، وناصَر المحدّثين في أكثر آرائهم في أُصول العقائد، وينسب المذهب إليه؛ لأنّه سلَك طريقاً وسَطاً بين المحدّثين الذين يعتمدون على النصوص، ولا يرون للعقل سُلطاناً في مقابلها ويعتمدون على ظواهر الآيات والأحاديث، وبين المعتزلة الذين اعتمدوا على العقل، واعتبروا الوحي مقرّراً لأحكام العقل، ولمّا جاء الأشعري لم يعتمد على العقل مستقلاًّ، ولا وقف مع النصوص والتزم بها وإنْ خالفت العقل، وحاول أنْ يجمع بين الأمرين.

وقد جاء في ترجمته أنّه ولد في البصرة سنة ٢٦٠، وتوفّي سنة ٣٣٣، وينتهي نسبه إلى أبي موسى الأشعري، وقد نشأ ببغداد وتوفّي بها، وأخفى أصحابه قبره خوفاً من أنْ تنبشه الحنابلة؛ لأنّهم حكموا بكفره وأباحوا دمه، وحينما توجّه لدراسة العِلم اتصل بالمعتزلة فلازم الجنائي وبقي معه حوالي أربعين سنة، كان مِن ألصق الناس به، وأشدّهم إيماناً بآرائه وإحصاءً لأقواله، وجرَت بينهما مناظرات في مختلف المواضيع، أدّت إلى انفصاله عنه، ووقوفه بجانب الأخصام الأشدّاء على المعتزلة، وقد سأله يوماً عن حقيقة الطاعة، فقال الجبائي: هي موافقة الإرادة، فقال له: هذا يوجب أنْ يكون الله مطيعاً لعبده إذا أعطاه مراده، فالتزم الجبائي بذلك.

وقال الشهرستاني في الملل والنحل: ومن غريب الاتّفاق أنّ أبا موسى الأشعري كان يقرّر رأي حفيده الأشعري في القدر، وقد جرَت بينه وبين عمرو بن العاص مناظرة في القدر، فقال عمرو بن العاص: لو أجد أحداً أُخاصم إليه ربّي، قال أبو موسى: أنا ذلك الشخص، قال عمرو بن العاص: يُقدّر عليّ شيئاً ثمّ يعذّبني عليه؟ قال: نعم! قال عمرو بن العاص: ولِمَ؟ قال: لأنّه لا يظلمك.

ويبدو أنّ أبا الحسن الأشعري بعد أنْ نضج وأحاط بآراء المعتزلة، ونظريّاتهم، كان يقف لأُستاذه موقف الخصم العنيد في أكثر الأحيان، ويروي كتّاب الفِرَق والمذاهب أنّ الخصومة بينهما بلغت أشدّها في مسألة

١٢٩

وجوب الأصلح على الله سبحانه، وكان لا يرى ذلك أبو الحسن الأشعري، فقال له: ما قولك في ثلاثة: مؤمن، وكافر، وصبي؟

قال الجبائي: المؤمن من أهل الدرجات، والكافر من أهل الدركات، والصبي من أهل النجاة.

قال الأشعري: فإنْ أراد الصبي أنْ يرقى إلى أهل الدرجات بعد موته صبياً، هل يمكن ذلك أمْ لا؟

قال الجبائي: لا يمكن ذلك؛ لأنّ المؤمن إنّما نال هذه الدرجات بالطاعة، وليس للطفل مثلها.

قال أبو الحسن الأشعري: للطفل أنْ يقول له: إنّ التقصير ليس منّي، فلو أحييتني كنت أعمَل الطاعات كعمل المؤمن.

فردّ عليه الجبائي: إنّ الله يقول له: كنتُ أعلم أنّك لو بقيت لعصيت، فراعيت مصلحتك، وأمَتك قبل أنْ تنتهي إلى سنّ التكليف.

فقال الأشعري: فللكافر إذن أنْ يقول له: لقد عَلِمت حالي كما علِمت حال الطفل، فهلاّ راعيت مصلحتي مثله، وأمَتني قبل سنّ التكليف؛ كي لا أقع في معصيتك التي نلتُ بها العقاب؟

وعندما وصل النزاع بينهما إلى هذا الحدّ رأى الجبائي نفسه عاجزاً فأعرض عنه (١).

وقد أورَد نظير هذه المحاورة بينهما الأسفراييني، في معرض النقض على المعتزلة القائلين بوجوب الأصلح على الله سبحانه، ويؤكّد جماعة من كتّاب الفِرَق الإسلامية أنّ الأشعري بعد هذه المناظرات التي جرَت بينه وبين أُستاذه الجبائي، قد اعتكف في بيته مدّة طويلة انقطع فيها عن جميع الناس، وتفرّغ للمقارنة بين آراء المعتزلة، وآراء المُحدّثين والفقهاء، وبعد دراسة واسعة لآراء الفريقين ووقف على جوانب النقص فيها، كوّن لنفسه رأياً وخرج على الناس، ودعاهم إلى الاجتماع في مسجد البصرة، وبعد الصلاة وقَف خطيباً بتلك الجماهير المحتشدة، ثمّ قال: أيها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أُعرّفه بنفسي، أنا عليّ بن إسماعيل بن إسحق الأشعري، كنت أقول بخلق القرآن، وأنّ

____________________

(١) انظر الفرق الإسلامية لعليّ الغرابي والمذاهب الإسلامية لأبي زهرة ص ٢٨٦ وانظر تمهيداً لتاريخ الفلسفة لمصطفى عبد الرزّاق ص ٢٩٢.

١٣٠

الله تعالى لا يُرى بالأبصار، وأنّ أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائبٌ مُقلِع عمّا كنتُ أقول، ومتصدّ للردّ على المعتزلة، ومُخرجٌ لفضائحهم، وقد تغيّبت عنكم هذه المدّة ونظرت في الأدلّة فتكافأت عندي، ولم يترجّح عندي شيءٌ على شيء، فاستهديت الله سبحانه وتعالى فأهداني إلى اعتقاد ما أودعته كتبي هذه وانخلعت من جميع ما كنت اعتقد، كما انخلعت من ثوبي هذا.

ثمّ انخلع من ثوبٍ كان عليه، وأبرز للناس ما كتبه في المدّة التي احتجب فيها عن الناس، وكان قد ألّف كتابه (الإبانة) الذي أورد فيه المذهب الذي اتخذه لنفسه، كما ألّف في الموضوع نفسه كتابين آخرين وهما الموجز والمقالات.

وممّا جاء في كتبه التي أبرزها للناس بالإضافة إلى ما تقدّم، أنّ ديانتنا التي ندين بها هي التمسّك بكتاب الله وسنّة رسوله (صلّى الله عليه وآله) وما رُويَ عن الصحابة، والتابعين وأئمّة الحديث، واستطرد يقول: ونحن بذلك معتصمون ولِما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته متّبعون، ولِمَن خالف قوله مجانبون؛ لأنّه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال، وأوضح به المنهاج وقمَع به بِدَع المُبتدعين، وزيغ الزائغين وشكّ الشاكّين (١).

ومن ذلك يتبيّن أنّ الأشعري بعد أنْ اعتكف في بيته خرَج على الناس مناصراً لآراء المحدّثين، وعلى الأخص أحمد بن حنبل الخصم العنيد لمذهب الاعتزال (٢)، ومع ذلك فقد لقيَ من الحنابلة في حياته وبعد وفاته، عنَتاً وتحاملاً عليه وعلى أتباعه ومؤيّدي أفكاره وآرائه، وقد بلَغ بهم الحال أنّهم حاولوا أنْ يمنعوا الخطيب البغدادي المتوفّى سنة ٤٦٣ من دخول المسجد الجامع ببغداد؛ لأنّه كان يرى رأي الأشعري في الأُصول الإسلامية، كما اضطهدوا أكابر الأشاعرة في ذلك القرن ونفوهم من بلادهم.

ووقع بينهم وبين الأشاعرة قتال في شوارع بغداد، كان منشأ تحاملهم

____________________

(١) انظر المذاهب الإسلامية لأبي زهرة ص ٢٦٦ و٢٦٩، ومقدّمة كتاب مقالات الإسلاميّين بقلم محمّد محيي الدين عبد الحميد ص ٢٤.

(٢) كما جاء في كتبه الإبانة والموجز، والمقالات وغيرها.

١٣١

على رجلٍ من شيوخ الأشاعرة يُدعى القشيري، فاضطرّ إلى الخروج من بغداد وهجرها، وكانت اللعنات تنهال على أبي الحسن الأشعري، ونسبوا إليه بعض الآراء الشاذّة ليوجّهوا الرأي العام ضدّهم، ومن ذلك أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) كانت نبوّته في حال حياته، أمّا بعد وفاته فقد انتهت نبوّته (١).

ويعزو بعض الكتّاب والمترجمين هذا الصراع العنيف الذي حدَث بين الأشاعرة والمحدّثين الحنابلة إلى أنّ الأشعري وإنْ تجاهر أوّلاً بالدعوة لمذهبهم، وتأييده لآراء الإمام أحمد شيخ الحنابلة الأوّل وخطَب بذلك على منابر بغداد، إلاّ أنّ دراسته الطويلة على المعتزلة وانطباعاته بمناهجهم واتّباعه لطريقتهم نحواً من ثلاثين عاماً أو أكثر، هذه المدّة الطويلة قد أثّرت على تفكيره تأثيراً عميقاً وعلى جميع اتجاهاته، فلم يستطع أنْ يتحرّر منها، ولذا فإنّه في جميع أبحاثه لم يتعبّد بالحديث وحده، ولا بالعقل وحده، بل حاول أنْ يوفّق بينهما.

ويبدو ذلك واضحاً من آرائه في المسائل التي كانت محلاًّ للخلاف بين المعتزلة والمحدّثين، ومن أمثلة ذلك أفعال الإنسان، فالمعتزلة قد ذهبوا إلى أنّ الإنسان موجدٌ لأفعاله، قال الغزالي في كتابه الأربعين:: إنّ المعتزلة أثبتوا لأنفسهم الاختيار الكلّي، ونسبوا إليه العجز في ضمن ذلك).

والمُحدّثون يدّعون أنّ الأفعال مخلوقة لله سُبحانه، ولا أثر للعبد في ذلك، أمّا الأشعري فقد ذهب إلى أنّ الله قد خلَق الاختيار في العبد بنحو الكسب، والفعل المخلوق لله سبحانه مقارن لاختيار العبد، من غير أنْ يكون للعبد قدرة مؤثّرة في ذلك الاختيار، ولا في مقارنة الفعل له.

فهو مع قوله بأنّ أفعال الإنسان من صنع الله سبحانه يقول بالكسب بهذا النحو ليصحّح الثواب والعقاب، فقد وافق المحدّثين الذين التزموا بظاهر بعض النصوص القرآنية، وخالفهم في القول بخلق الاختيار، وإنْ لم يكن مؤثّراً في إيجاد الأفعال.

ومن ذلك مسألة رؤية الله سبحانه، فالمحدّثون بما فيهم الحشوية

____________________

(١) المصدر السابق ص ٢٦ والحضارة الإسلامية في القرن الرابع الجزء الأوّل ص ٣٦٢ للمستشرق آدم (متز) ترجمة محمّد عبد الهادي.

١٣٢

والمشبّهة قد التزموا بظواهر النصوص التي تُوهم ذلك بدون تأويل أو تصرّف بشيءٍ منها، والمعتزلة تأوّلوها ولم يلتزموا بظاهرها، أمّا الأشعري مع أنّه يقول بها، ولكنّه ذهب إلى أنّها ليست كبقيّة المرئيات التي لابدّ لها من جهة ومكان ولا تكون إلاّ بالمقابلة، بل هي إدراك لا تقتضي تأثيراً في المُدرِك (١) .

وهكذا في أكثر المباحث حاول أنْ يوفّق بين العقل والنقل، هذا المسلك الذي سلكه الأشعري في أبحاثه وإنْ كان من حيث النتائج يلتقي مع المحدّثين، إلاّ أنّ اعتماده على العقل في التوصّل إلى هذه النتائج لم يُرضِ المحدّثين، وسبب له تلك الهجَمات العنيفة التي قام بها المحدّثون، وعلى الأخص الحنابلة، وجعلتهم يعتقدون بأنّ الأشعري لم يتحرّر من مذهب الاعتزال ولا تزال آثاره تسيطر على تفكيره، وتبرز في المنهج الذي اعتمده لإثبات آرائه التي أعلن عنها لأكثر من مناسبة، لذلك فقد لقي مذهب أبي الحسن الأشعري مقاومة من المحدّثين بالرغم من وقوفه بجانبهم ضدّ الاعتزال وأتباعه، وأصبح هدفاً لطعنات المعتزلة والمحدّثين معاً، وبالرغم من كلّ ذلك فقد ذاع وانتشر ولا سيّما بعد مساندة الحكّام له، ووقوفهم بجانبه.

وقد ذكرنا سابقاً أنّ الدولة تدخّلت رسمياً في ذلك وفرضت آراءه على الناس بالقوّة، وأصدر الخليفة القادر العبّاسي مرسوماً توعّد فيه المعتزلة بالعقوبات الصارمة إنْ أصرّوا على تدريسه مذهبهم أو ناظروا أحداً فيه، وقد لقّبه العلماء بإمام أهل السنّة والجماعة؛ لأنّه تولّى الدفاع عن الأُصول الإسلاميّة، وحامى عنها من غير أنْ يتخطّى آراء المحدّثين والفقهاء في أكثر مبادئه، وقد وجّه الأشعري بياناً إلى الناس يُحدّد فيه عقيدته، وما يجب الإيمان فيه، وجاء فيه أنّه يقرّ بالله ورسوله وبما رواه الثقات عنه، وأنّه واحدٌ أحدٌ لم يتّخذ صاحبةً ولا ولداً، وأنّ ما جاء به الرسول والكتاب من قيام الساعة، ووجود الجنّة والنار والبعث واقعٌ لا محالة، وأنّ الله قد استوى على عرشه، وأنّ له وجهاً ويداً وعيناً وسمعاً وبصراً، وأنّ كلامه قديمٌ غير مخلوق، وأنّ أحداً لم يستطع أنْ يفعل شيئاً

____________________

(١) انظر الملل والنحل للشهرستاني ص ١٣٥ و١٣٦.

١٣٣

قبل أنْ يفعله الله، وأعمال العباد كلّها مخلوقة ومقدورة له، وأنّه لو أصلح العباد لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين، وكلّ شيء بقضاء الله وقدره سَواء كان خيراً أم شرّاً، وأنّ مَن قال بخلق القرآن كان كافراً، وأنّه يُرى بالأبصار يوم القيامة كما يُرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون دون الكافرين، وأنّ الإيمان قولٌ وعمَل يزيد وينقص والإمامة بعد الرسول على الترتيب الذي جرَت عليه من بعده (١) .

لقد ظهر أبو الحسن الأشعري بأُسلوبٍ جديد حاول فيه أنْ يقرّب بين العقل والحديث، فأثار إعجاب الذين جاؤوا من بعده وتقديرهم، وتبنّى مذهبه وطريقته جماعة من الفقهاء؛ لأنّه لم يُخالف السلَف من المحدّثين في آرائهم، ولم يتّخذ لنفسه مذهباً يُخالف من سبقه منهم، وأصبح كلُّ من سلَك سبيله واتبع طريقته أشعرياً، حتى قيل: إنّ عقيدته اجتمع عليها الشافعية والمالكية والحنابلة والأحناف (٢).

ومن مشاهير الفقهاء والمتكلّمين الذين تابعوه وتعصّبوا لآرائه أبو بكر محمّد بن الطيّب الباقلاّني وقال عنه ابن العماد الحنبلي: إنّه كان أُصولياً أشعرياً، ومجدّداً للدين على رأس المِئة الرابعة، وقد صنّف في الردّ على الفِرَق الضالّة، وأنّه كان ورِعاً لم تحفظ عنه زلّة ولا نقيصة، وكان يستدلّ على أنّ لله وجهاً ويداً بالآيات التي نصّت على ذلك، فهو من ناحية يقف مع الآيات المثبتة له الجوارح، ومن ناحية أُخرى يرى أنّ يده ووجهه لا يجب أنْ يكونا كجوارح مخلوقاته، وكان يدافع القائلين بأنّه في كل مكان، ويذهب بأنّه مستو على عرشه، ويحتجّ لذلك بأنّه لو كان في كلّ مكان، لزِم أنْ يكون في بطن الإنسان وفمه وجميع أجزاء بدنه، وأنْ يزيد بزيادة الأمكنة وينقص بنقصانها (٣).

أمّا فيما يتعلّق بخلق الأفعال، فكان يقرّر أنّ الأفعال مخلوقة لله ولا شأن للعبد في ذلك وقد خلق الله فيه الاختيار، وهو وإنْ لم يكن مؤثّراً

____________________

(١) انظر ما ذكرناه عن عقيدة الأشعري في المجلّد الرابع من المواقف ص٤٠٠، والملل والنحل ص١٣٢ وما بعدها، والتبصير في الدين في الفصل الذي عقده لاعتقادات أهل السنّة والجماعة ص١٣٥، والمذاهب الإسلامية ص١٧١ و١٧٢.

(٢) انظر تمهيد لتاريخ الفلسفة لمصطفى عبد الرزّاق ص ٢٩٢.

(٣) انظر المجلّد الثالث من شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي ص ١٦٩ و١٧٠.

١٣٤

في إيجاد الفعل، إلاّ أنّه مؤثّر في حالات الفعل الخارجة عن حقيقته، ومثل لذلك بما لو ضرَب إنسانٌ يتيماً، فالضرب من فعل الله، أمّا كونه تأديباً أو إيذاءً فهو من آثار اختيار العبد، وبذلك يصح الثواب والعقاب، وتوفّي الباقلاّني سنة٤٠٣ (١).

ومن الفقهاء المناصرين له إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجويني، الفقيه الشافعي الملقّب بضياء الدين، وكان على رأي الأشعري في أُصول العقائد، ومُتّبعاً لطريقته في الاعتماد على العقل والنقل، وجاء في رسالته النظامية أنّ البعض ذهبوا إلى تأويل آيات الكتاب، وذهب أئمّة السلَف إلى الكفاف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب، والذي نرتضيه وندين به هو اتّباع سلَف الأئمّة؛ لأنّ إجماعهم حجّة متّبعة وعليه تستند الشريعة، وأضاف إلى ذلك، فحقّ على كلّ ذي دِين أنْ يعتقد تنزيه الباري عن صفات المُحدّثين، ولا يخوض في تأويل المشكلات، ويكل معناها إلى الرب.

وقد وصفه ابن العماد الحنبلي بأنّه من المشاهير في مختلف العلوم، بارعاً في المذاهب والمناظرة، وتولّى أمر التدريس بعد والده، وهاجر إلى بغداد على أثر الفِتَن التي قامت بين الأشاعرة والمُبتَدِعة على حدِّ تعبير ابن العماد، وتولّى التدريس فيها وكانت وفاته سنة ٤٧٨ (٢).

وقد عدّ منهم الشيخ أبو زهرة الغزالي المتوفّى سنة ٥٠٥، والبيضاوي المتوفّى سنة ٧٠١، وعدّ منهم مصطفى عبد الرزّاق أبا بكر محمّد بن الحسن بن فورك، والشيخ إبراهيم بن محمّد بن مهران الأسفراييني، وأبا الفتح الشهرستاني، وفخر الدين بن الحسين الرازي وغيرهم وأضاف إلى ذلك أنّ الأيّوبيّين هم الذين نشروا مذهب الأشعري في مصر وغيرها، من بلاد الإسلام (٣).

وقد أورد مؤلّف طبقات الأشاعرة في كتابه (الطبقات) عدداً كبيراً ممّن ناصروا المحدّثين على المعتزلة، ولا يعنينا استقصاء أحوالهم ومدى موافقتهم للأشعري في آرائه ومخالفتهم له، لأنّ كتابنا قد وضعناه للمقارنة

____________________

(١) انظر المواقف الجزء الثامن ص ١٤٧ والمجلّد الأوّل من الملل والنحل ص ١٣٣.

(٢) انظر المجلد الثالث من الشذرات ص ٣٥٩.

(٣) انظر تمهيد لتاريخ الفلسفة ص ٢٩٢.

١٣٥

بين آراء الإمامية من جهة وآراء غيرهم من المعتزلة والأشاعرة من جهة أُخرى؛ لأنّا وجدنا جماعة من الكتّاب القدامى والمحدّثين، ومن المستشرقين الأجانب يخلطون أحياناً بين الإمامية والمعتزلة، من حيث وحدة العقيدة، ويُغالي بعضهم فيدّعي أنّ التشيّع كان عالة على المعتزلة، وأسرَف آخرون فعدوا جماعة ممّن ركّزوا العقيدة الشيعية ومحّصوها تمحيصاً دقيقاً من المعتزلة، وقد أصبحت كتبهم وآراؤهم في أُصول الإمامية هي الوجه الصحيح للمبادئ التي ينظر الشيعة من خلالها إلى آراء أهل البيت ومذاهبهم في الأُصول التي يجب على المسلم أنْ يؤمن بها.

ومن هؤلاء من عاش في القرن الثالث المتّصل بعصر الأئمّة (عليهم السلام)، ولم يكن بينهم وبين الذين رَوَوا عن الأئمّة بلا واسطة أكثر من واسطتين، هؤلاء مع أنّهم ينادون ويؤكّدون لأكثر من مناسبة واحدة، أنّ مذهب الإمامية مستقلٌّ بنفسه ومستوحى من تعاليم الأئمّة (عليهم السلام) وإرشاداتهم، ولم يكن في حال من الأحوال تابعاً لمذهبٍ آخر.

والشواهد الكثيرة تنصّ على أنّ غيره قد استمدّ منه واعتمد عليه، ومع ذلك كلّه فالكتّاب يُرسلون هذه الادّعاءات بدون أيّ شاهد أو دليل، ويعتبرون هؤلاء بأشخاصهم وأعيانهم من أعلام المعتزلة زوراً وبهتاناً.

لقد ذكرنا سابقاً أنّ الشيعة هم الفرقة الأُولى التي يتّصل تاريخها بتاريخ الإسلام، قبل أنْ تحدث هذه المذاهب بأكثر من قرنٍ ونيف تقريباً، وقد جاهدوا في سبيل تركيز العقيدة الإسلامية في نفوس المسلمين، وتكلّموا في التوحيد والصفات والقضاء والقدر، وغير ذلك ممّا يتّصل بالأُصول الإسلامية قبل أنْ يولد الاعتزال، وقبل أنْ يتكلّم بها أحد من المسلمين، وسنضع بين يدَي القرّاء أمثلة من آرائهم في المواضيع التي كانت موضع خلاف بين المعتزلة من جهة، والمحدّثين وأتباعهم الأشاعرة من جهة أُخرى، ومنها يتبيّن أنّهم لم يكونوا في جميع حالاتهم عيالاً على أحد، ولا تَبَعاً لغير أئمّتهم في الأُصول والفروع.

وأكبر شاهد على ذلك إنّهم يلتقون بالمرجئة أحياناً في بعض الآراء، كما يلتقون بالأشاعرة والمعتزلة أحياناً أُخرى، ويستقلّون استقلالاً كاملاً في بعض الآراء، ويتخطّون جميع الفِرَق والمذاهب حيناً آخر، وهذا ممّا يؤكّد استقلالهم في تفكيرهم وعدم تبعيتهم لأحد، كما هو الحال في المذاهب الأُخرى التي تلتقي في بعض الآراء، وتستقل كلُّ فرقة عن الأُخرى في بعضها الآخر.

ومجمل القول أنّ الخلاف العقائدي بين المسلمين الذي اشتدّ في القرن

١٣٦

الثاني، بعد أنْ برزت معالمه في الشطر الأخير من القرن الأوّل، هذا الخلاف تكوّنت منه الفِرَق الثلاث: المرجئة، والمعتزلة، والأشاعرة، أمّا الإمامية فتاريخهم يتّصل بتاريخ الإسلام ويرتبط به ارتباطاً وثيقاً منذ نشأته - كما ذكرنا في الفصل الأوّل من هذا الكتاب - ولا ترتكز فكرة الإمامية على شيءٍ من الخلافات العقائدية كغيرها من المذاهب، وإذا أثبت تاريخهم أنّهم كانوا أبرز مِن غيرهم في تلك الخصومات والجولات الفكرية؛ فذاك لأنّهم مارسوا الحياة الفكرية أكثر من غيرهم، وكانوا هدَفاً للهجَمات العنيفة التي كانت تستهدف القضاء عليهم، وتستبيح في سبيل هذه الغاية كلّ السبل، ممّا دعاهم إلى الوقوف في وجه تلك الهجَمات التي كانت توجّه إليهم من هنا وهناك بشتّى الأساليب.

هذا بالإضافة إلى أنّ الأئمّة من أهل البيت قد رافقوا جميع هذه التطوّرات الفكرّية التي برزت في تاريخ الفكر الإسلامي في تلك الفترة من تاريخهم، وبلا شكّ كان يهمّهم أكثر من أيّ فئة من الناس أنْ تبقى للعقيدة الإسلامية قداستها وسمّوها، فكانت حلقاتهم العلمية لا تخلو من مناظر ومستعلم ومدون، وأكثر ما كان يعنيهم أنْ يرتدّ أُولئك الغزاة بكيدهم خاسرين، وأنْ لا تتسرّب انحرافات المعتزلة وجمود المحدّثين والفقهاء، إلى أذهان المسلمين فتحتلّ قلوبهم وعقولهم وبالتالي تبرز المبادئ الإسلامية بصورة مشوهة يستغلّها أعداء الإسلام للدسّ والافتراء.

ومهما كان الحال، فقد أصبحت آراء تلك الفئات مذاهب لأهل السنّة، وإنْ كان الأشعري يمثّل رأي الجمهور الأعظم منهم، منذ أنْ فرضت الدولة العبّاسية آراءه في العقائد على المسلمين بقوّة السلطان، وفرضت الرقابة على المعتزلة في مناظراتهم ومجالسهم، وأصبح أكثر المسلمين على رأي الأشعري في عقائدهم، ولم يشذّ عنه سوى الحشويّة، وهم القائلون بأنّ الله سبحانه جسم من لحمٍ ودم، وله أعضاء وجوارح تجوّز عليه المصافحة والملامسة والمعانقة، وأثبتوا له كلّ ما هو للبشَر وأسرف بعضهم فقال: أعفوني عن الفرْج واللحية وسلوني عمّا شئتم (١)، وفي القرن الرابع الهجري ظهَر جماعة من الفقهاء والمحدّثين، غلَب عليهم اسم السلفيّين،

____________________

(١) انظر المواقف المجلّد الرابع ص ٣٩٩.

١٣٧

وانتحلوا هذا الاسم لأنفسهم بحجّة أنّهم جاؤوا لإحياء آراء السلَف من الفقهاء والمحدّثين، وادعوا أنّهم يمثّلون مذهب الإمام أحمد بن حنبل شيخ الحنابلة، وقد بالغوا في الإنكار والتشنيع من آراء وأفكار.

وذهب هؤلاء إلى أنّ العقائد إنّما تؤخذ من الكتاب والسنّة، ولا سبيل للعقل في تأويل الآيات وتفسيرها، حتى ولو كانت منافية لأحكام العقل (١)، وهذان الفريقان وإنْ أعلنا الحرب على الأشعري بلا هوادة، إلاّ أنّهما يتّفقان معه من حيث النتائج، وكلاهما يتمسّك بظواهر الكتاب ولا يرى مسوّغاً لتأويلها، ويذهب إلى ما يقتضيه الظاهر منها، ولكنّ الأشعري يحاول التوفيق بين ظاهرها وأحكام العقل كما يبدو ذلك من معالجته لمسألة الجبر والاختيار، وجواز الرؤية على الله سُبحانه وثبوت الصفات له وغير ذلك من المسائل التي تباينت فيها آراء المعتزلة والفقهاء والمحدّثين.

أمّا السلفيّون والحشوية فيدّعون أنّ العقل لا مسرح له في هذه الميادين، وما عليه إلاّ التصديق والإذعان بكلّ ما جاء في الكتاب السنّة، وعلى أيّ الأحوال فالأمامية منذ نشأتهم مستقلّون عن غيرهم في تفكيرهم وإنتاجهم وآرائهم في الأُصول والفروع؛ لأنّهم رافقوا جميع المراحل التي مرّ بها المسلمون، والتطوّرات الفكرية التي فرضتها الظروف المحيطة بالإسلام منذ أقدم المراحل، وسنعرض آراء هذه الفِرَق الثلاثَ ونقارن بينها لإثبات هذه الحقيقة.

____________________

(١) انظر المذاهب الإسلامية ص ٢١٥ و٢١٦.

١٣٨

الفصل الخامس: في المذاهب والمعتقدات

الأُصول التي تجمع المعتزلة

لقد أجمع كتّاب الفِرَق والمذاهب الإسلامية، أنّ أركان الاعتزال تتألّف من خمسة أجزاء: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنّ من آمن بهذه الأُصول الخمسة كان معتزليّاً، مهما بلغ الخلاف بالرأي مع غيره من علمائهم ومفكّريهم، ومَن خالف في واحد من هذه الخمسة لا يكون منهم، ولا يتحمّلون إثمه، ولا تلحقهم تبعته على حدّ تعبير بعض الكتّاب (١).

____________________

(١) انظر الانتصار لابن الخياط المعتزلي المتوفّى سنة ٢٩٠ والمواقف المجلّد الرابع وغيرهما من كُتب الفِرَق والمذاهب الإسلامية.

١٣٩

وقد ذكرنا سابقاً أنّ الإيجي في المواقف، والسيّد شريفاً، الإسفراييني وغيرهم، قد عدّوا من فِرَق المعتزلة عشرين فِرقة، وهذه الفِرَق بعد التتبّع لآرائها لا تتّفق في أكثر تلك الآراء المنسوبة إليها، ولكن هذا الخلاف البارز بين تِلك الفِرَق لم يمنَع من صدق الاعتزال على كلّ واحدة منها، لأنّها تتّفق على الأُصول الخمسة.

فالتوحيد وهو الأصل الأوّل عندهم وعند جميع المسلمين، وبدونه لا يكون الإنسان مسلماً ولو آمن بجميع الأُصول والفروع، لا يختلف في مفهومه عمّا يقول به جميع المسلمين، وفي مقالات الإسلاميّين للأشعري، أنّ التوحيد عند المعتزلة هو أنّه واحد أحد ليس كمثله شيء، سميعٌ بصير، ليس بجسمٍ ولا بشبح ولا جثّة ولا صورة ليس له لون أو طعم أو رائحة، وليس فيه حرارة ولا رطوبة أو يبوسة، لا عمق له ولا اجتماع أو افتراق، لا يتحرّك ولا يسكن، وليس بذي أبعاض وأجزاء وجوارح وأعضاء، لا يجري عليه زمان، ولا تجوز عليه العُزلة ولا الحلول في الأماكن، ولا يُوصَف بشيءٍ من صِفات الخلْق الدالّة على حدوثهم، ولا تُحيط به الأقدار ولا تحجبه الأستار، ولا يشبه الخلْق بوجهٍ من الوجوه، شيء لا كالأشياء، عالمٌ قادرٌ حي، لا كالعلماء القادرين الإحياء، إلى غير ذلك من الصفات السلبية والوجودية التي أثبتوها لذاته سبحانه (١).

وتحديد التوحيد بهذه الأوصاف يتّفق مع التوحيد عند الإمامية، ويلتقون التقاء كلياً معهم، ولكن ذلك لا يعني أنّهم عيال على المعتزلة في ذلك؛ لأنّ مذهب الاعتزال، كانت بذرته في أواخر العصر الأموي، ولكنّه لم يصبح مذهباً له شأن ووجود إلاّ في العصر العبّاسي، ومعلوم أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قد طرَق هذا الموضوع وحدّد معنى التوحيد، بمثل ما جاء عن المعتزلة، قبل ظهور مذهب الاعتزال بأكثر من خمسين عاماً، وجاء أولاده من بعده الذين تخرجوا من مدرسته، ومن ذلك الفيض الإلهي الموروث لقّنوا أتباعهم وشيعتهم أنواع العلوم والمعارف، كما ورّثوه عن آبائهم، ومن وحي القرآن وسنّة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وإذا كان التوافق في الرأي والعقيدة يقتضي التبعية كما يدّعي الكتاب العرب، والأجانب، فمن اللازم أنّ يكون المتأخّر تبعاً للمتقدّم وعيالاً عليه، ويجد المتتبّع للآثار

____________________

(١) انظر مقالات الإسلاميين للأشعري ص ٢١٦.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253