الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة23%

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 253

  • البداية
  • السابق
  • 253 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 57766 / تحميل: 9937
الحجم الحجم الحجم
الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

أمست جسومهم لقى

ورؤوسهم فوق الرماح

لا تنشئي يا سحب غي‍

‍ثاً ترتوي منه النواحي

فلقد قضى سبط النبي

بكربلا صديان ضاحي

أدمع المدامع رزؤه

ورمى الأضالع بالبراح

فلتلطم الأقوام حزناً

حُرّ أوجهها براح

ولتدرع حلل الأسى

أبداً ولا تصغي للاحي

ساموه إما الموت تح‍

‍ت البيض أو خفض الجناح

عدمت أمية رشدها

وتنكبت نهج الفلاح

فمتى درت أن الحسي‍

‍ن تقوده سلس الجماح

وقال يرثي الحسينعليه‌السلام أيضاً:

أيدري الدهر أي دم أصابا

وأي فؤاد مولعةٍ أذابا

فهلا قطعت أيدي الأعادي

فكم أردت لفاطمة شبابا

وكم خدر لفاطمة مصون

أباحته وكم هتكت حجابا

وكم رزء تهون له الرزايا

ألمّ فالبس الدنيا مصابا

وهيج في الحشى مكنون وجدٍ

له العبرات تنسكب انسكابا

وأرسل من أكف البغي سهما

أصاب من الهداية ما أصابا

أصاب حشى البتول فلهف نفسي

لظام لم يذق يوماً شرابا

قضى فالشمس كاسفه عليه

وبدرالتم في مثواه غابا

وكم من موقف جمّ الرزايا

لو أن الطفل شاهده لشابا

به وقف الحسين ربيط جأش

وشوس الحرب تضطرب اضطرابا

يصول بأسمر لدن سناه

كومض البرق يلتهب التهابا

وبارقه يلوح الموت منها

إذا ما هزها مطرت عذابا

٦١

السيد جواد مرتضى، ينتهي نسبه الشريف إلى الشهيد زين بن علي بن الحسين (ع). ولد في قرية عيتا من أعمال صور - لبنان سنة 1266 ه‍. ودرس مبادئ العلوم على علماء لبنان وارتحل إلى النجف الأشرف لطلب العلوم الدينية والمعارف الربانية فاقام بها ثمانية عشرة سنة كلها بين مفيد ومستفيد، درس الفقه والاصول على أساطين العلماء كالشيخ محمد حسين الكاظمي والشيخ محمد طه نجف، وكان يقضي جلّ أوقاته في الدرس والتدريس ثم سار إلى دمشق - الشام لما تكاملت فيه الكفاءة ولحاجة الناس إلى أمثاله ومنها توجه إلى مسقط رأسه ( عيتا ) فكانت عنده حوزة تدريس حتى تخرّج الكثير من علماء جبل عامل على يده، ولما رأى حاجة أهالي بعلبك إلى أمثاله سار بطلب منهم حتى أقام فيهم مدرساً ومصلحاً ومرشداً وألّف كتاب ( مفتاح الجنات ) وبمساعيه أسس الجامع الكبير المعروف ب‍ جامع النهر ومدرسة بالقرب منه ثم رجع إلى عيتا.

توفي ضحوة يوم الخميس ثاني جمادى الأول سنة 1341 ه‍. ودفن هناك إلى جنب أخيه المرحوم العلامة السيد حيدر مرتضى المتوفى سنة 1336 ه‍. كان لوفاته رنة أسى وحزن عميق وقد اقيمت له مجالس التعزية وذكريات التأبين ورثاء جمع من شعراء عصره.

وقد جمع الاستاذ العلامة السيد عبد المطلب مرتضى جميع ما أُلقي من الشعر في تأبينه وما قاله المؤبنون في مجالس ذكراه وأسماه ب‍ ( شجى العباد في رثاء الجواد ) وطبع في مطبعة العرفان - صيدا سنة 1341 ه‍.

٦٢

قال يمدح السيدة زينب بنت أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في دمشق سنة 1330 ه‍.

حرم لزينب مشرق الاعلام

سام حباه الله بالإعظام

حرم عليه من الجلال مهابة

تدع الرؤوس مواضع الاقدام

في طيه سر الاله محجب

عن كل رائدة من الأوهام

بادي السنا كالبدر في افق السما

متجلياً يزهو بأرض الشام

فإذا حللت بذلك النادي فقم

لله مبتهلاً بخير مقام

في روضة ضربت عليها قبة

كبرت عن التشبيه بالاعلام

يحوي من الدر الثمين جمانة

لمّاعة تعزى لخير إمام

صنو النبي المصطفى ووصيه

وأبو الهداة القادة الأعلام

أسنى السلام عليه ما هبّت صبا

وشدا على الأغصان ورق حمام

وعلى بنيه الغر أعلام الهدى

ما أنهل قطر من متون غمام

٦٣

الحاج مجيد العطار

المتوفى 1342

شهر المحرم فاتك العذر

أوجعت قلب الدين يا شهر

فكأن شيمتك الخلاف على

آل النبي وشانك الغدر

يا شهر هل لك عندهم ترة

أنى وعندك كم لهم وتر

لا ايبضّ يومك بعد نازلة

منها يكاد الدمع يحمرّ

غشيت هلالك منه غاشية

بالطف يكسف عندها البدر

سلب الأهلة بشرها فغدا

أيامها الأعياد والبشر

أيطيب عيش وابن فاطمة

نهبت حشاه البيض والسمر

تالله لا أنساه مضطهداً

حتى يضم عظامي القبر

ومشرداً ضاق الفضاء به

فكأن لا بلد ولا مصر

منع المناسك أن يوديها

بمنى فكان قضاءها النحر

أفديه مستلماً بجبهته

حجراً إذا هو فاته الحجر

أو فاته رمي الجمار فقد

أذكى لهيب فؤاده الجمر

يسعى لاخوان الصفا وهم

فوق الصعيد نسائك جزر

ويطوف حول جسومهم وبه

انتظم المصاب ودمعه نثر

حتى إذا فقد النصير وقد

نزل البلاء وأُبرم الأمر

سئم الدنية أن يقيم بها

لوث الإزار وعيشها نكر

٦٤

وعظ الكتائب بالكتاب وفي

آذانهم من وعظه وقر

فانصاع يسمعهم مهنده

آيات فصل دونها العذر

فأبوا سوى ما سنّه لهم

الأحزاب يوم تتابع الكفر

حتى جرى قلم القضاء بما

بلغ المرام بفتكه شمر

الله أكبر أي حادثة

عظمى تحير عندها الفكر

يا فهر حيّ على الردى فلقد

ذهب الردى بعلاك يا فهر

هذا حسين بالطفوف لقى

بلغت به آمالها صخر

حفّت به أجساد فتيته

كالبدر حين تحفها الزهر

أمن المروءة أن أُسرتَكم

دمهم لآل امية هدر

أمن المروءة أن أرؤسهم

مثل البدور تقلّها السمر

أين الأباء وذي حرائركم

بالطف لا سجف ولا خدر

أسرى على الأكوار حاسرة

بعد الحجال يروعها الأسر(1)

هو الحاج عبد المجيد بن محمد بن ملا أمين البغدادي الحلي الشهير بالعطار، ولد ببغداد في شهر ذي القعدة عام 1282 ه‍. في محلة صبابيغ الآل، وهاجر به وبأبيه جده ملا أمين وهو طفل صغير، فنشأ في الحلة.

وبعد وفاة والده، وبلوغه سن الرشد فتح حانوتاً في سوق العطارين في الحلة، وصار يمتهن بيع العقاقير اليونانية حتى غلب عليه لقب ( العطار ) وقد اتصل بأهل العلم والأدب وأكثر من مطالعة دواوين الشعر وكتب الأدب، حتى استقامت سليقته وتقوّمت ملكته الأدبية، وكانت الحلة آنذاك سوق عكاظ كبير، ومجمع الادباء والشعراء في تلك الحقبة الزاهية من تاريخها، يختلف اليها النابهون والمتأدبون.

__________________

1 - سوانح الافكار ج 3 / 196.

٦٥

قال اليعقوبي: « سألته يوماً وقلت له: عن أي شيخ أخذت، وعلى أي استاذ تخرجت. فقال: على الله »(1) .

ولكن ابنه المرحوم الحاج عبد الحسين أخبرني يوماً، قال: « ان أباه كان قد درس في المدارس الحكومية أيام الحكم العثماني، وانه تخرج فيها، كما أنه كان قد أتقن اللغة التركية والفارسية وتأدب بهما، كما أتقن الفرنسية والعبرية إضافة إلى اللغة العربية، وكان أن عُرضت عليه وظيفة حكومية بدرجة عالية، إبان الحكم العثماني بناءً على ثقافته ودراسته، إلا أنه امتنع عن اشغالها لاعتقاده بعدم جواز التعاون مع حكومة لا تقوم على أساس الإسلام الصحيح، وان ما سيتسلمه من مرتب هو غير حلال ».

وقد كان المترجم له « فائق الذكاء، سريع الخاطر، متوقد الذهن، حاضر البديهة، أجاد في النظم، وأتقن الفارسية والتركية، وترجم عنهما كثيراً(2) كما ترجم كثيراً من مفردات ومثنيات الشعر الفارسي والتركي، إلى العربية شعراً.

وقد امتاز ( رحمه الله ) بسمو أخلاقه وعفه نفسه، ووفائه لأصدقائه، لذا كان حانوته ندوة أدب، ومنتدى فكر، ومدرسة شعر، يختلف اليه الادباء والعلماء، كما يؤمّه الشعراء والمتأدبون ...

ولما ثار الحليون على السلطة التركية 1334 ه‍. وسادت الفوضى فيها خشي المترجم له سوء العاقبة، وخشي هجوم الأتراك لارجاع سلطتهم ثانية، وفتكهم فيها ( كما وقع فعلاً بعد ذلك في واقعة عاكف ) انتقل بأهله الي الكوفة التي كان قد « بنى فيها داراً وعقاراً قبل هذه الحوادث »(3) وأقام فيها حتى

__________________

1 و 3 - البابليات ج 3 / القسم الثاني / ص 69.

2 - طبقات اعلام الشيعة: اغا بزرك الطهراني. وهو « للكرام البررة في القرن الرابع بعد العشرة » ج 1 / ق 3 / 1226.

٦٦

توفي فيها في السادس عشر من ذي القعدة سنة 1342 ه‍. ودفن في النجف الأشرف.

كان ( رحمه الله ) قد تضلع في فن التاريخ، وأتقن منه ألواناً، كان ينظمه ارتجالاً، مما كان يثير استغراب أهل الفن.

قال اليعقوبي: « ولم اشاهد أبرع من المترجم له ولا أبدع منه في هذا الفن، فقد كان ينظم التاريخ الذي يقترح عليه مع ما يناسبه من الأبيات قبله دون اشغال فكرة، أو إعمال روية، كأنه من كلامه المألوف وقوله المتعارف، وله فيه اختراعات لم يسبقه اليها أحد »(1) ، « وقد برع في نظم التواريخ الشعرية وتفوّق في هذا الفن على معاصريه »(2) .

وأكثر شعره ( رحمه الله ) في رثاء آل البيت ومدحهمعليهم‌السلام مما كان يتناقله الخطباء والقراء والذاكرون، لجزالته وسلاسته، وقليل ما يتجاوز ذلك في مناسبات خاصة في تهنئة أو مديح بعض الفضلاء من العلماء، أو ممن تربطه بهم وشائج الاخوة والوفاء.

أما تواريخه الشعرية، فانها لو جمعت كلها لكانت ديواناً مستقلاً، وسجلاً تاريخياً تؤرخ تلك الحقبة من ذلك الزمن.

فمن ذلك البيتان اللذان ضمنهما (28) تاريخاً في الحساب الأبجدي يؤرخ فيها عمارة تجديد مقام الإمام علي (ع) في الحلة سنة 1316 ه‍:

بباب مقام الصهر مرتقبا نحا

أخو طلب بالبر من علمٍ برا

مقام برب البيت في منبر الدعا

أبو قاسم جرّ الثنا عمها أجرا

وله مثلهما أيضاً في تاريخ زفاف المرحوم السيد أحمد إبن السيد ميرزا صالح القزويني وفيهما (28) تاريخاً وذلك سنة 1318 ه‍:

__________________

1 - البابليات ج 3 - ق 2 - ص 70.

2 - طبقات اعلام الشيعة: « الكرام البررة في القرن الرابع بعد العشرة » ج 1 / ق 3 / 1226.

٦٧

أكرم بخزّان علم أمّ وارده

منكم لزاخر بحر مد آمله

زفت إلى القمر الأسنى بداركم

شمس لوار وزان البشر حامله(1)

« وعلى أثر هذه التواريخ سماه العلامه السيد محمد القزويني ب‍ ( ناسخ التواريخ ) » وقد سماه الآخرون ( شيخ المؤرخين ).

قال اليعقوبي في البابليات: وله مثلهما في السنة نفسها يؤرخ عمارة مقام المهدي في الحلة المعروف بالغيبة، وفيهما (28) تاريخاً:

توقع جميل الأجر في حرم البنا

بفتحك بالنصر العزيز رواقا

بصاحب عصر ثاقب باسمه السنا

نجد اقترابا ما أجار وراقا

وقال يؤرخ الشباك الفضي الذي عمل بنفقة المرحوم الشيخ خزعل أمير المحمّرة على قبر القاسم ابن الإمام موسى الكاظمعليهما‌السلام :

للامام القاسم الطهر

الذي قدس روحا

خزعل خير أمير

أرخوا شاد ضريحا

وله مؤرخاً وفاة العالم الزاهد السيد ياسين ابن السيد طه سنة 1341 ه‍:

يا لسان الذكر ردد أسفا

وأبك عن دمع من القلب مذاب

وانع ياسين وارخ من له

فقدت ياسينها ام الكتاب

__________________

1 - البيتان على النمط التالي:

صدر الأول. عجزه. صدر الثاني. عجزه. مهمل البيت الاول. معجمه. مهمل صدر الأول مع معجم عجزه. معجم صدر الأول مع مهمل عجزه. مهمل البيت الثاني. معجمه. مهمل صدره مع معجم عجزه. معجم صدره. مع مهمل عجزه. مهمل الصدرين. معجم الصدرين. مهمل صدر الأول. مع معجم صدر الثاني. معجم صدر الأول مع مهمل صدر الثاني. مهمل العجزين.

مهمل عجز الأول مع معجم عجز الثاني. معجم عجز الأول مع مهمل عجز الثاني

معجم صدر الأول مع معجم عجز الثاني. مهمل صدر الأول مع معجم عجز الثاني

معجم صدر الأول مع مهمل عجز الثاني. مهمل عجز الأول مع مهمل صدر الثاني

معجم عجز الأول مع معجم صدر الثاني. مهمل عجز الأول مع معجم صدر الثاني

معجم عجز الأول مع مهمل صدر الثاني.

٦٨

وقال يؤرخ موت بعض المعاندين بقوله:

وناع تحمّل إثما كبيرا

غداة نعى آثما أو كفورا

وقد أحكم الله تاريخه

ليصلى سعيرا ويدعو ثبورا

وله في عصا من عوسج اهديت للسيد الجليل السيد محمد القزويني:

وإن عصا من عوسج تورق الندى

وتثمر معروفاً بيمنى محمد

لتلك التي يوم القيامة جده

يذود بها عن حوضه كل ملحد

ومن روائعه ما قاله في احدى زياراته للإمام الحسين (ع) عندما تعلق بضريحه الشريف:

يدي وجناحا فطرس قد تعلقا

بجاه ذبيح الله وابن ذبيحه

فلا عجب أن يكشف الله ما بنا

لأنا عتيقاً مهده وضريحه

وقال مخاطباً للإمامعليه‌السلام :

لمهدك آيات ظهرن لفطرس

وآية عيسى أن تكلّم في المهدِ

لئن ساد في أُمٍّ فأنت ابن فاطم

وان ساد في مهد فأنت أبو المهدي

وفطرس اسم ملك من ملائكة الله قيل قد جاء به جبرائيل إلى النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما بعثه الله لتهنئة النبي بالحسين ليلة ولادته، فتبرك الملك بمهد الحسينعليه‌السلام ومضى يفتخر بأنه عتيق الحسين كما ورد في الدعاء يوم الولادة: وعاذ فطرس بمهده ونحن عائذون بقبره.

وقوله ( وإن ساد في مهدٍ فأنت أبو المهدي ) لئن كان عيسى قد تكلم في المهد صبياً فالحسين أبو أئمة تسع آخرهم المهدي حجة آل محمد والذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً.

وقد ضاع أكثر شعره، حيث أنه كان ممن لا يعنون بجمع أشعاره أو تدوينها، مما نُسيَ أكثره ولم يبق منه غير ما حفظته الصدور، ومما سُجّل

٦٩

له في بعض المجاميع الشعرية الخاصة ممن كانوا يعنون بجمع أدب تلك الفترة مما هو مبعثر الآن في النجف والحلة والهندية وبغداد وكربلاء.

وقد ترجم للحاج مجيدرحمه‌الله في الآثار المطبوعة كثيرون، أشهرهم: الشيخ محمد علي اليعقوبي في ( البابليات ) في ج 3 / القسم الثاني / ص 69 - 82. والشيخ علي الخاقاني في ( شعراء الحلة ) في ج 4 / ص 283 - 299، والشيخ اغا بزرك الطهراني في ( طبقات أعلام الشيعة ) في ج 1 / ق 3 / ص 1226، وقد دوّن هؤلاء نماذج لا بأس بها من شعره يمكن مراجعتها والاغتراف منها. توفي رحمه الله في 17 ذي القعدة سنة 1342 في النجف الأشرف ودفن بها.

ويقول الخاقاني في ( شعراء الحلة ) كان رحمه الله معتدل القامة عريض المنكبين أبيض الوجه مستطيله، اختلط سواد لحيته بالبياض، شعار رأسه ( الكشيدة ) مهيب الطلعة وقوراً له شخصية محبوبة لدى الرأي العام يحب الخير ويبتعد عن الشر يتردد إلى مجالس العلماء ويألف أهل التقوى ويستعمل صدقة السر.

وروى له جملة من تواريخه البديعة وأشعاره الرقيقة منها قصيدته في الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام وأولها:

سل عن الحي ربعه المأنوسا

هل عليه أبقى الزمان أنيسا

واخرى يرثي بها الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ويصف مصرعه بسيف ابن ملجم ليلة 19 من شهر رمضان وأولها:

شهر الصيام به الإسلام قد فجعا

وفي رزيته قلب الهدى انصدعا

وثالثة في الإمام الحسينعليه‌السلام وأولها:

هلّ المحرم والشجا بهلاله

قد أرقّ الهادي بغصة آله

ومن نوادره قوله:

عليٌ من الهادي كشقي يراعة

هما واحد لا ينبغي عدّه اثنين

فما كان من غطش على الخط لايح

فمن شعرات قد توسطن في البين

٧٠

وقال مخمساً والأصل للخليعي - وقد مرت ترجمته:

اراك بحيرة ملأتك رينا

وشتتك الهوى بيناً فبينا

فلا تحزن وقر بالله عينا

إذا شئت النجاة فزر حسينا

لكي تلقى الاله قرير عين

إذا علم الملائك منك عزما

تروم مزاره كتبوك رسما

وحرمت الجحيم عليك حتما

لأن النار ليس تمسّ جسما

عليه غبار زوار الحسين

وله في استجارته بحامي الجار قسيم الجنة والنار حيدر الكرار:

من حمى المرتضى التجأت لحصنٍ

قد حمى منه جانب العز ليث

فحيانا أمناً وجاد بمنٍّ

فهو في الحالتين غوث وغيث

مما لم ينشر من شعر العطار:

ومن تواريخه التي لم تُنشر ما قاله مؤرخاً ولادة السيد محمد طه ابن العلامة السيد حسين السيد راضي القزويني:

يُهني الحسين فتىً زكى ميلادُه

مَن قد أنابَ لدى الثناء وأخلصا

عمّ الوجود ببشرهِ في ساعةٍ

ارختُ « بالتنزيل - طه - خُصّصا »

وقوله في الجوادينعليهما‌السلام ، ( وقد التزم الجناس في القافية ):

لي بالإمامين ( موسى ) و ( الجواد ) غنىً

إن أعوزَ الناس حاجاتٍ إلى الناس

الذاكرين جميل الصُنع إن وعدا

والناسُ للوعد ما فيهم سوى الناسي

وقد شطّرهما العلامة أبو المعز السيد محمد القزويني ارتجالاً بقوله:

( لي بالإمامين ( موسى ) و ( الجود ) غنىً )

إن لم يجد لي زماني عند افلاسي

وفيهما تكمل الحاجات من كثبٍ

( ان أعوزَ الناس حاجاتٍ إلى الناس )

( الذاكرين جميل الصنع إن وعدا )

والنافيين جميع الذل واليأسِ

والمنجزين مواعيداً لفضلهم

( والناس للوعد ما فيهم سوى الناسي )

٧١

ومن تواريخه أيضاً قوله مقرضاً ومؤرخاً « بغية المستفيد في علم التجويد » لأبي المعز السيد محمد القزويني وذلك سنة 1327 ه‍. ( وقد أحسن وأجاد ):

فضّ نجلُ المُعزّ لا فضّ فوهُ

عن رحيق مِن لفظه المختومِ

( عاصمُ ) الذهن في مراعاته مِن

خطأ الفكر، ( نافعُ ) التعليمِ

( مدّ ) كفاً مِن لينها في الندى ( تش‍

‍بعُ ) ( بالوصل ) ( لازم ) ( التفخيمِ )

فصلت للتنزيل أبهى برودٍ

من معاني الترتيل لا من أديمِ

قُلتُ مُذ أرخوا « مقاصدَ كلمٍ

فُصّلت من لدن حكيمٍ عليمِ »(1)

وله مُؤرخاً ولادة المحروس ( هادي ) ابن السيد ( حمد ) آل كمال الدين الحلي سنة ( 1326 ه‍ ):

( حمد ) بن ( فاضل ) أنتَ أعظم عالمٍ

فيه المكارم قد أنارَ سبيلُها

غذتك مِن درّ المعارف فطنةٌ

وعليك من غرر العُلى اكليلها

هي ليلة فيها أتتك بشارةٌ

بولادة ( الهادي ) فعزّ مثيلُها

قد عمّت البشرى بها كل الورى

فلذاك يُحسن أرخوا « تفضيلها »

__________________

1 - نقلاً عن كتاب « الرجال » - المجلد الرابع - مخطوط للسيد جودت القزويني.

٧٢

الشيخ كاظم سبتي

المتوفى 1342

برغم المجد من مضر سراةُ

سرت تحدو بعيسهم الحداةُ

سرت تطوي الفلا بجبال حلم

تخفّ لها الجبال الراسيات

كرام قوضت فلها ربوع

خلت فغدت تنوح المكرمات

وبانت فالمنازل يوم بانت

طوامس والمدارس دارسات

تحنّ لها وفي الأحشاء نار

تأجج والمدامع واكفات

أطيبة بعدها لا طبت عيشاً

وكنت حمى الورى وهي الحماة

وكنت سما العلى وبنو علي

بدور هدى بافقك ساطعات

أُباة سامها الحدثان ضيماً

ولم تهدأ على الضيم الأباة

أتهجر دار هجرتها فتقوى

وتأنس بالطفوف لهم فلاة

بدت فتأججت حرباً لحرب

ضغائن في الضمائر كامنات

يخوض بها ابن فاطمة غماراً

تظل بها تعوم السابحات

أُصيب وما مضى للحتف حتى

تثلمت الصفاح الماضيات

وقد ألوى عن الدنيا فظلت

تنوح بها عليه النائحات

تعجّ الكائنات عليه حزناً

وحق بأن تعج الكائنات

٧٣

إلى جنب الفرات بنو علي

قضت عطشا ألا غاض الفرات

تسيل دماؤها هدراً وتمسي

تغسّلها الدماء السائلات

وتنبذ في هجير الصيف، عنها

سل الرمضاء وهي بها عراة

* * *

أهاشم طاولتك اميّ حتى

تسل عليك منها المرهفات

فأنتم للمخوف حمى ومنكم

تروع في الخدور مخدرات

أحقاً أن بين القوم جهراً

كريمات النبي مهتكات

بلوعة ذات خدر لو وعتها

لصدعت الجبال الشامخات

الشيخ كاظم سبتي هو أول شاعر ادركته ولا أقول عاصرته فاني لا أتصوره ولم أرَ شخصه لكني أتصور جيداً أني مضيت بصحبة أبي - وكنت في العقد الأول من عمري - إلى مأتم حسيني عقد في دار الخطيب السيد سعيد الفحام بمناسبة تجديد داره الواقعة في محلة المشراق في النجف الأشرف وكان الوقت عصراً، ولما دخلنا الدار وجدناها تغصّ بالوافدين فقال لي أبي: إصعد أنت إلى الطابق العلوي، فكنت في مكان لا يمكنني من الاطلالة على الطابق الأرضي المنعقد فيه المحفل فسمعت خطيباً ابتدأ يهدر بصوته الجهوري ونبراته المتزنة قائلاً: ومن خطبة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام : دار بالبلاء محفوفة وبالغدر معروفة، لا تدوم أحوالها ولا يسلم نُزّالها، أحوال مختلفة وثارات متصرفة، العيش فيها مذموم والأمان منها معدوم إلى آخر الخطبة. ثم حانت مني التفاتة وإذا بصاحب الدار الخطيب الفحام جالس معنا مذهولاً يضرب على فخذه ويردد: ما هذا الافتتاح يا شيخ كاظم، ما هذا الفأل يا شيخ كاظم، وإلى جنبه أحد أقاربه يُهدّء عليه. ولما أتمّ الشيخ خطابه لاموه على هذا الافتتاح والتشاؤم وفعلاً هو معيب، فاعتذر قائلاً: شيء جرى على لساني وكأن كل شيء غاب عني إلا هذه الخطبة فافتتحت بها. وكأن تفؤّله وتشؤمه

٧٤

حقاً فلقد أُصيب الخطيب الفحام بمرض عضّال عجز عنه الأطباء حتى قضى عليه وعمت النكبة جميع من في الدار وأصبحوا كأمس الدابر، ويظهر لي أن الخطيب سبتي كان مؤمناً تتمثل فيه صفات المؤمن الكامل الايمان إذ اني لا أكاد استشهد منبرياً بشيء من شعره إلا ويترحم عليه السامعون، هذا ما حدث أكثر من مرة ليس في محافل النجف خاصة بل في سائر البلدان، وهذا ما يجعلني أعتقد أن له مع الله سريرة صالحة ونية خالصة كما يظهر أن الرجل كان واسع الاطلاع فكثيراً ما كنت أجلس مع ولده الخطيب الأديب الشيخ حسن سبتي واسأله عن مصدر لبعض الأحاديث والروايات فكان أول ما يجبيني به قوله: كان أبي يروي هذا منبرياً. وحفظت له شعراً ورددته مراراً فمنه قوله في التمسك بأهل البيت والحسين خاصة:

يا غافلاً عما يراد به غداً

ويؤول مقترف الذنوب اليه

خذ بالبكاء على الحسين ففي غد

تلقى ثوابك بالبكاء عليه

ترجم له ولده الشيخ حسن في صدر الديوان الموسوم ب‍ ( منتقى الدرر في النبي وآله الغرر ) كما ترجم له الشيخ المصلح كاشف الغطاء وغيرهما وهذا ما جاء في سيرته على قلم مترجميه:

الخطيب الأديب الشيخ كاظم ابن الشيخ حسن ابن الشيخ علي ابن الشيخ سبتي السهلاني الحميري. توفي عنه والده وهو صغير فأودعته امه عند السيد حسن السلطاني الصائغ ليحترف الصياغة ولكنه رغب عن صياغة الذهب والفضة إلى صياغة الكلام ومجلوّ النظام وسرعان ما مالت به نفسه لطلب العلم فأخذ ينتهل منه برغبة وشوق فدرس المقدمات وساعدته لباقته وحسن نبراته على تعاهد الخطابة وارتقاء الأعواد، وكان المنبري ذلك اليوم لا يتعدى غير رواية قصة الحسينعليه‌السلام ومقتله يوم عاشوراء، وإذا بهذا المتكلم يروي خطب الإمام أمير المؤمنين (ع) عن ظهر غيب فعجب الناس واعتبروه فتحاً كبيراً في عالم الخطابة ثم قام يروي السيرة النبوية وسير أهل البيت وربما روى

٧٥

سيرة الأنبياء السابقين وقصصهم فكان بهذه الخطوة يراه الناس مجدداً حيث حفظ وقرأ وهكذا من يحفظ ويقرأ يرونه مجدداً لأنهم كانوا لا يحسنون اكثر من قراءة المقاتل في ذلك الحين سمّي كل من يقوم بقراءة كتاب ( روضة الشهداء ) للشيخ الكاشفي ( روضة خون ) ان يقرأ الروضة، ويمتاز الخطيب المترجم له انه لا يروي إلا الصحيح فلا يروي الأخبار غير المسندة او الضعيفة السند.

وكان المنبريون قبله لا يحسنون اكثر من أن يتناول الواحد منهم كتاب ( روضة الشهداء ) ويقرأه نصاً ثم تطوّرت إلى حفظ ذلك الكتاب ورواية ما فيه فقط كالسيد حسين آل طعمة المتوفى سنة 1270 ه‍. وهو ممن ولد ونشأ ومات بكربلاء المقدسة، وسلسلة نسبه رحمه الله هكذا: حسين بن درويش ابن احمد بن يحيى بن خليفة نقيب الاشراف، ويتصل نسبه بالسيد ابراهيم المجاب بن محمد العابد بن الإمام موسى بن جعفر. وهكذا كان من معاصريه وهو السيد هاشم الفائزي المتوفي سنة 1270 ه‍. ايضا ولد ونشأ وتوفي بكربلاء وهو ابن السيد سلمان ابن السيد درويش ابن السيد احمد ابن السيد يحيى آل طعمة، وكان في اسلوبه لا يخرج عن قصة الحسينعليه‌السلام ومصرعه ومصارع اهل بيته. فجاء خطيبنا الشيخ كاظم وقد تطور منبره إلى رواية سيرة النبي والأئمة وحفظ خطب الإمام فكان انفتاحاً جديداً في المنبر الحسيني.

ولهذه الشهرة التي حازها، طلبه جماعة من وجهاء بغداد وأكابرهم ليسكن هناك، فهاجر اليها سنة 1308 ه‍. وبقي سبع سنين يرقى الأعواد في المحافل الحسينية ويومئذ كانت المحافل تغص بالسامعين فلا اذاعة تشغلهم ولا تلفزيون يلهيهم، وفي سنة 1315 ه‍. ألزمه جماعة من علماء النجف بالعودة للنجف فكان خطيب العلماء وعالم الخطباء يلتذ السامعون بحديثه ويقبلون عليه بلهفةوتشوق ولهم كلمات بحقه تدل على فضله ونبله. ترجم له معاصروه فقالوا: كان مولده في النجف عام 1258 ه‍. والمصادف 1842 م. وشبّ، وهوايته العلم فدرس على الشيخ محمد حسين الكاظمي والشيخ ملا لطف الله المازندراني وأمثالهما.

٧٦

قال صاحب الحصون: فاضل معاصر وأديب محاضر، وشاعر ذاكر، تزهو بوعظه المنابر، إن صعد المنبر خطيباً ضمخ منه طيباً(1) حسن المحاورة، وله ديوان كبير في مراثي الأئمة وفي غير ذلك كثير.

وقال السيد صالح الحلي خطيب الأعواد - وهو المعاصر للمترجم له: الشيخ كاظم هو الرجل الوحيد الذي يقول ويفهم ما يقول.

ترجم له الشيخ السماوي في الطليعة وذكر طائفة من أشعاره ومنها قوله:

أما والحمى يا ساكني حوزة الحمى

وحاميه إن أخنى الزمان وإن جارا

فان أمير المؤمنين مجيركم

وان كنتم حمّلتم النفس أوزارا

ومن يك أدنى الناس يحمي جواره

فكيف لحامي الجار أن يسلم الجارا

وقوله مشطراً البيتين المشهورين:

بزوار الحسين خلطت نفسي

ليشفع لي غداً يوم المعاد

وصرتُ بركبهم أطوى الفيافي

لتحسب منهم عند العداد

فان عدّت فقد سعدت وإلا

فقد أدّت حقوقاً للوداد

وإن ذا لم يعدّ لها ثوابا

فقد فازت بتكثير السواد

وقال مخمساً:

زكا بالمصطفى والآل غرسي

وحبّهم غدا دأبي وانسي

لحشري قد ذخرتهم ورمسي

بزوار الحسين خلطت نفسي

لتحسب منهم عند العداد

نظرت إلى القوافل حيث تتلى

حثثتُ مطيتي والقلب سلا

تبعتُ الركب شوقاً حيث حلا

فان عدت فقد سعدت والا

فقد فازت بتكثير السواد

__________________

1 - اشار الشيخ الى قول محمد بن نصر المعروف بابن القيسراني المتوفى 548 ه‍. يمدح خطيباً:

فتح المنبر صدراً

لتلقيك رحيبا

أترى ضم خطيبا

منك ام ضمخ طيبا

٧٧

وقوله في كرامة للامام موسى الكاظم سنة 1325 ه‍. وقد سقط عامل كان ينقش في أعلى الصحن بقبة الإمام الكاظمعليه‌السلام ، وقد شاهدها الشيخ بعينيه:

إلهي بحب الكاظمين حبوتني

فقويت نفسي وهي واهية القوى

بجودك فاحلل من لساني عقدة

لأنشر من مدح الإمامين ما انطوى

هوى إذ أضاء النور من طوره امرء

كما أن موسى من ذرى الطور قد هوى

ولكن هوى موسى فخرّ إلى الثرى

ولما هوى هذا تعلّق بالهوى

أقول: كنتُ في سنة 1377 ه‍. قد دعيت للخطابة في بغداد بالكرادة الشرقية في حسينية الحاج عبد الرسول علي، وفي ليلة خصصتها للامام الكاظم فتحدثت منبرياً بهذه الكرامة وإذا بأحد المستمعين يبادرني فيقول: انها حدثت معي هذه الكرامة فقلت له: أرجو أن ترويها لي كما جرت، قال: كنت في سنّ العشرين وأنا شغيل واسمي داود النقاش فكنت مع استاذي في أعلى مكان من الصحن الكاظمي ننقش بقبة الامام الكاظم والبرد قارس وقد وقفت على خشبة شُدّ طرفاها بحبلين فمالت بي فهويت فتعلق طرف قبائي بمسمار فانقلع وفقدت احساسي فما أفقتُ إلا والصحن على سعته مملوء بالناس والتصفيق والهتاف يشق الفضاء وخَدَمَة الروضة يحامون عني ويدفعون الناس لئلا تمزق ثيابي وقمت فلم أجد أي ألم وضرر، أقول ونظمها الشيخ السماوي في أرجوزته ( صدى الفؤاد إلى حمى الكاظم والجواد ) وآخرها قوله:

قالوا وقد زيّنت البلادُ

من فرح وابتدأت بغدادُ

طبع ديوانه في النجف عام 1372 ه‍. وعليه تقاريض لجماعة من الفضلاء، كما طبع له ديوان آخر باللغة الدارجة وكله في أهل البيتعليهم‌السلام ولا زال يحفظ ويردد على ألسنة ذاكري الحسين وتعرض نسخة في أسواق الكتب باسم ( الروضة الكاظمية ) أما ديوانه المتقدم ذكره فهو ( منتقى الدرر في النبي وآله الغرر ). أجاب داعي ربه يوم الخميس آخر ربيع الأول سنة 1342 ه‍. ودفن في الصحن الحيدري قرب ايوان العلامة الشيخ الشريعة.

٧٨

الشيخ حمزة قفطان

المتوفى 1342

هواك أثار العيس تقتادها نجد

ويحدو بها من ثائر الشوق ما يحدو

تجافى عن الورد الذميم صدورها

لها السير مرعىً واللغام لها ورد

تمرّ على البطحاء وهي نطاقها

وتعلو على جيد الربى وهي العقد

عليها من الركب اليمانيّ فتية

ينكّر منها الليل ما عرف الودّ

أعدّوا إلى داعي المسير ركابهم

وأعجلهم داعي الغرام فما اعتدوا

تقرّب منهم كل بعد شملّة

عليها فتىً لم يثن من عزمه البعد

وما المرء بالانساب إلا ابن عزمه

إذا جدّ أنسى ذكر آبائه الجد

يردّ الخصوم اللد حتى زمانه

على أن هذا الدهر ليس له ردّ

ويغدو فاما ان يروح مع العلى

عزيز حياة أو إلى موته يغدو

ويغضى ولا يرضى القذى بل عن الكرى

جفوناً عن التهويم أشغلها السهد

الى قوله:

وهل قصرت كف تطول إلى العلى

لها ساعد من شيبة الحمد يمتدّ(1)

__________________

1 - عن شعراء الغري يرويها عن الخطيب الشيخ سلمان الانباري قال: وهي في الامام الحسين (ع).

٧٩

الشيخ حمزة ابن الشيخ مهدي الشهير بقفطان شاعر مطبوع وشخصية مرموقة، ولد بحي واسط سنة 1307 ه‍. ونشأ بها ودرس المقدمات على أخيه الشيخ محمد صالح الذي كفله منذ الصغر ولما وجد في نفسه القابلية هاجر إلى النجف وأكبّ على دراسة العلوم الإسلامية ولازم العلامة الشيخ عبد الحسين الحياوي ينتهل من علومه حتى فرغ من دراسة كفاية الاصول وكتب الفقه الاستدلالي، وفي أثناء تلقي العلوم كان يتعاهد ملكته الشعرية كما درس علمي الحكمة والكلام على السيد عدنان الغريفي فبرع فيهما وساجل جماعة من العلماء الفضلاء أمثال الشيخ جعفر النقدي والشيخ عيسى البصري والسيد عدنان الغريفي فكان لديهم موضع التقدير والاجلال أما الذي استفاد منه فهو الخطيب الشيخ سلمان الأنباري وهو الذي يروي عنه المقطع الأول من القصيدة الحسينية التي هي في صدر الترجمة، وقد جمع له أخوه الشيخ محمد صالح ديواناً حافلاً بروائع الشعر الذي كان قد نشر قسماً منه في الصحف والمجلات التي كانت تصدر آنذاك ومنها مجلة اليقين البغدادية فقد نشرت له عدة قصائد في سنتها الاولى بتاريخ 1341 ه‍. ومنها قصيدة عنوانها: العلم والحجاب، وله اخرى عنوانها راية العز قال فيها:

راية العز شأنها الارتفاع

تتسامى منصورة إذ تُطاع

راية يقرأ المفكر فيها

ما روى مجدنا القديم المضاع

حيّ أعلامنا وحيّ قناها

يوم كانت تندك منها القلاع

يوم كانت بنو معدّ بن

عدنان مهيباً جهادها والدفاع

يوم كان العقاب يخفق في

الجوّ ومنه نسر الأعادي يراع

يوم أردى كسرى وقيصر منه

زجلٌ لا تطيقه الاسماع

ما اكتسى لون خضرة النصر إلا

بعدما احمرّ بالدماء اليفاع

ذاك عصرٌ بنوره ملأ الأرض

التي ضاء في دجاها الشعاع

ذاك عصر النبي والامناء الغرّ

إذ أمرهم مهيب مطاع

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

ومجمل القول أنّ الأشاعرة ومعهم المحدّثون والجبائيّان يرَون وجوب نصب الإمام على الأُمّة، والباقون من المعتزلة: بين مَن يقول بوجوب نصبه على الأُمّة بالنص على ذلك من الله وهُم معتزلة البصرة، وبين مَن يقول بوجوبها على الأُمّة بحكم العقل، وهم البغداديّون من المعتزلة، أمّا الإمامية فكلّهم متّفقون على وجوبها من طريق العقل والشرع، وأنّ اختياره يعود إلى الله وحده؛ لأنّ وجود الإمام لطف من الله، يُقرّبهم من الطاعات، ويصدّهم عن المعاصي والمنكرات، واللطف واجب عليه سبحانه بحكم العقل، وقد عين النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لهم الإمام من بعده بأمرٍ من ربّه، ونصّ عليه بوصفه واسمه، كما تؤكّده النصوص الإسلامية السنّية والشيعية.

وقال المُنكرون لوجوب نصب الإمام على الله سبحانه، بأنّ الإمام وإنْ كان وجوده مُقرّباً من الطاعة ومُبعّداً عن المعاصي، ولكن ذلك لا يكفي في وجوبه عليه سبحانه، لجواز أنْ يكون في نصبه مَفسدة خافية على العباد، وما لم يحصل العلم بانتفائها لا يكفي مجرّد كونه مقرّباً في وجوب نصبه إماماً.

وأُجيبوا بأنّ الإمام إذا كان مُقرّباً من الطاعات لا يكون في نصبه أيّ نوع من أنواع المفاسد، ومجرّد احتمال المفسدة لا يمنع من وجوب تعيين الإمام، هذا بالإضافة إلى أنّ أصحاب هذا الرأي يذهبون إلى وجوب نصبه على الله سبحانه، ولا تخفى عليه المصالح والمفاسد، ولا يُمكن أنْ يُعيّن للناس إماماً مع هذا الفرض.

ومن جملة الشُبَه التي أبداها الأشاعرة حول هذا الموضوع، أنّ الإمام إنّما يكون لطفاً إذا كان متصرّفاً بالأمر والنهي، وكانت أُمور الناس بيده وليس لأئمّتكم هذا الشأن، فما تدعونه لطفاً لا تقولون بوجوبه، وما تقولون بوجوبه ليس لطفاً، ولا سيّما بالنسبة لقولكم في الإمام الغائب، فإنّ وجوده متخفّياً عن الناس لا يتّصل بهم ولا يرونه ليس فيه فائدةٌ لأحدٍ منهم، وهل يمكن أنْ يكون مجرّد وجوده، مع أنّه لا يقوم بأيّ عمَل مقرّباً من الله ومبعّداً عن المعاصي؟

وأجاب الإمامية بأنّ القائلين بوجوب نصب الإمام على الله سبحانه يدّعون بأنّ وجود الإمام الذي اختاره الله مقرّب من الطاعات، واللطف حاصلٌ بمجرّد وجوده؛ لأنّه مستعدٌّ للقيام بجميع مسؤوليّاته على أكمل الوجوه وأتمّها، وعلى الأمّة أنْ ترجع إليه فإذا لم ترجِع تكون هي المسؤولة عن تقصيرها، وليس معنى اللطف إلاّ تسهيل أسباب الطاعة على

٢٠١

العباد، وهذا الأمر يحصل بنصب الإمام، فلو رجعوا إليه واستمعوا لنصائحه وإرشاداته، لم يقَعوا في المعاصي والمنكرات، ولكنّهم قد فوّتوا على أنفسهم بإرادتهم واختيارهم فكانوا من الهالكين.

وعلى كلّ حال لقد تفرّد الإمامية في وجوب نصب الإمام بوصفه واسمه، واحتجّوا بقاعدة اللطف وغيرها من الأدلّة، ومع أنّ المعتزلة يقولون بوجوب اللطف والأصلح على الله سبحانه، ولكنّهم لم يلتزموا بها في المقام، مع العلم بأنّه المورد من جزئياتها، والظاهر أنّ الذي يمنعهم عن الالتزام بها في المقام، هو أنّهم لو قالوا بها في هذه المسألة لزِمَهم أنْ يقولوا بعدم صحّة خلافة المتقدّمين على عليّ (عليه السلام)؛ لأنّ قاعدة اللطف تقتضي أنْ يكون الخليفة منصوصاً عليه من الله سبحانه، وهذه المسألة من أبرَز المسائل التي كانت محلاًّ للجدَل والخصومة بينهم وبين الإمامية، ولا سيّما مع هشام بن الحكَم أحد أعلام الإمامية المعروف بقوّة الحجّة وشدّة الخصومة، وله معهم مواقف حاسمة فيها.

فلقد جاء في كتب الحديث أنّه التقى بعمرو بن عبيد الزعيم الثاني للمعتزلة بعد واصل بن عطاء، وهو يخطب في مسجد البصرة حول الإمامة وآراء المذاهب فيها، ونظراً لأنّ خصومته تنحصر - تقريباً - مع الشيعة في هذه المسألة، فقد هاجمهم وحاول تفنيد آرائهم وأدلّتهم التي يعتمدون عليها في الإمامة، وكان هشام بن الحكَم قد حضر مجلسه يومذاك، فقام إليه وتخطّى تلك الحشود الملتفّة به، وهو شاب لم يتجاوز العشرين من عمره، فسأله عن فوائد الحواسّ الخمس واحدة واحدة وعمرو بن عبيد يجيبه عنها، ثمّ سأله عن فائدة القلب، فقال له: إنّ الله خلقه ليميّز الإنسان به ما يَرِد على بقيّة الجوارح؛ لأنّها قد تشكّ في أشياء ولم تدرك غايتها، وعندما تشتبه في شيء تعرضه عليه فيرشدها إلى خيره أو شرّه.

ولمّا انتهى بينهما الحديث إلى هذا الحد قال له هشام: إنّ الله لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماماً يكشف لها الحق، وينفي عنها الشك، ويترك هذا الخلق في حيرتهم وضلالهم واختلافهم، بدون إمام يُبيّن لهم ما يختلفون فيه؟! فلَم يستطع عمرو بن عبيد أنْ يردّ عليه بشيء، ولمّا عرفه أدناه من مجلسه، ولم يعد إلى الكلام حتى انصرف عنه.

ومن المعلوم أنّه في مثل هذه المحاورة لم يتخطّ قاعدة اللطف، وإنْ لم ترد باسمها على لسانه؛ لأنّه افترض الإمام بالنسبة إلى الأُمّة كالقلب بالنسبة إلى الإنسان، يرشد الناس إلى الحق والطاعات كما يُرشد القلب الجوارح ويردّها عن حيرتها.

٢٠٢

ولا شكّ، بأنّ هذا النحو من الاستدلال الذي استعمله هشام بن الحكَم مع خصمه المعتزلي قد أخذه عن الأئمّة (عليهم السلام)، فقد جاء عن الإمام جعفر بن محمّد (عليه السلام) أنّه قال له: (لقد نطَق على لسانك روحُ القدس يا هشام)، وبالفعل فإنّ هشاماً في هذه المحاورة كان موفّقاً للغاية، فقد سدّ على خصمه جميع المنافذ، وألزمه بمقالته من حيث لا يشعر.

ومجمل القول أنّ جميع الفِرَق الإسلامية قد خالفت في هذه المسألة، حتى الزيدية، كما يدّعيه بعض الكتّاب في الفِرَق والمذاهب.

وفي أوائل المقالات للمفيد قال: اتفق أهل الإمامة على أنّه لابدّ في كلّ زمان من إمام موجود يحتجّ به الله على عباده المكلّفين، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك، وجوّزوا خلوّ الأزمان الكثيرة من الإمام، وشاركهم الخوارج والزيدية، والمرجئة والعامّة المنتسبون إلى الحديث (١) .

____________________

(١) لقد اعتمدتُ في هذا البحث على المواقف ص ٣٤٦ و٣٤٧، وشرح النهج وشرح التجريد ص ٢٢٧ وأوائل المقالات ص ٨ بالإضافة إلى بعض المصادر الأُخرى

٢٠٣

العصمة

لقد تفرّد الإمامية عن غيرهم من الفِرَق الإسلاميّة في وجوب عصمة الأنبياء والأئمّة جميعهم من الذنوب صغيرها وكبيرها، والسهو والنسيان والخطأ وغير ذلك ممّا يحدث من سائر الناس، قبل بعثة الأنبياء وبعدها، سَواء في ذلك الأحكام وغيرها.

وأكثر المسلمين أثبتوها للأنبياء، ولكنّهم لم يلتزموا بها لهم في جميع الحالات، وعن جميع الذنوب، فالمعتزلة جوّزوا عليهم الصغائر من الذنوب سهواً وتأويلاً، أمّا الأشاعرة فقد جوّزوا عليهم الكبائر والصغائر سهواً إلاّ الكفر والكذب، ووافقهم على ذلك الحشويّة من المحدّثين؛ لأنّ جواز الكذب عليهم يؤدّي إلى إبطال رسالتهم، وإنْ كان المنسوب إلى القاضي أبي

٢٠٤

بكر الباقلاّني جوازه سهواً ونسياناً؛ لأنّ ذلك لا يستلزم جواز كذبهم فيما يخبرون به في حال التفاتهم وتذكرهم.

أمّا الكفر فقد أجمعوا على عصمتهم عنه قبل البعثة وبعدها، ولم يقل بجوازه عليهم سوى الأزارقة من الخوارج، وقد جاء عنهم، أنّه يجوّز على الله أنْ يبعث نبيّاً، يعلم بأنّه سيكفّر بعد بعثته، أمّا بقيّة الذنوب، فما كان منها من الكبائر، فقد منع صدورها منهم الجمهور الأعظم من المسلمين، بما فيهم المعتزلة والأشاعرة، إلاّ أنّ المعتزلة منعوا صدورها منهم بحكم العقل لقاعدة اللطف والأصلح، وغيرهم منع صدورها منهم للنص والإجماع، أمّا صدورها منهم نسياناً، فقد أجازوه عليهم كما أجازوا صدور الصغائر منهم عمداً وسهواً.

والمنسوب إلى الجبائي أنّه أجازها عليهم سهواً لا عمداً، هذا كلّه بعد النبوّة، أمّا قبلها فقد جوز عليهم الأشاعرة وجماعة من المعتزلة الكبائر والصغائر عمداً وسهواً (١) .

وقد استدلّ القائلون بأنّهم معصومون عن الكبائر والصغائر عمداً بالأدلة الكثيرة التي استدلّ بها القائلون بعصمتهم المطلقة، ومجملها أنّه لو صدرت منهم الذنوب لحَرُم اتباعهم فيما يفعلون، مع أنّ الإجماع والنصوص يدلاّن على وجوب متابعتهم في أقوالهم وأفعالهم، ولابدّ من عصمتهم وإلاّ لم تجِز متابعتهم.

ولأنّهم لو أذنبوا لكانوا من جملة الفاسقين الذين لا تُقبل شهادتهم، ومَن لا تقبل شهادته في أُمور الدنيا، لم تقبل في أُمور الدين، ولأنّه لو صدرت منهم المعاصي لكان من اللازم إرشادهم وإرجاعهم إلى الحق، من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك قد يؤدّي إلى إيذائهم واستعمال الشدّة معهم حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

هذا بالإضافة إلى أنّه لو وقعت منهم المعاصي لكانوا من مستحقّي النار؛ لقوله تعالى: ( وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ) ، وكانوا ممّن تعنيهم الآية الكريمة: ( لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) ، وأيضاً لو صدرت منهم المعاصي،

____________________

(١) انظر المواقف ج ٤ ص ٢٦٥.

٢٠٥

لكانوا من الظالمين لأنفسهم، من حيث مخالفتهم للأوامر والنواهي، والظالم لا يصلح للنبوّة، لقوله تعالى: ( لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ، مع أنّ الظالم من أتباع الشيطان وعملائه، والشيطان لا سبيل له على المؤمنين.

قال سبحانه: ( لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) .

إلى غير ذلك من الأدلّة الكثيرة التي استدلّوا بها على عصمة الأنبياء من الكبائر عمداً وسهواً في حال النبوّة، وعن الصغيرة عمداً، وقد أورد الرازي هذه الأدلّة في الأربعين وغيره مِن كتبه، كما أوردها غيره من القائلين بالعصمة المطلقة في جميع الحالات، كما وأنّ القائلين بجواز الكبائر عليهم سهواً في حال نبوّتهم، وجواز الصغائر عليهم عمداً وسهواً في تلك الحالة، قد استدلّوا ببعض الآيات القرآنية التي تدلّ بظاهرها على صدور الذنب من الأنبياء في حال نبوّتهم، كما ورد بالنسبة لآدم، ويوسف وموسى وغيرهم من الأنبياء الذين قصّ الله أحوالهم ببعض الآيات التي تُوهم صدور الذنب منهم (١).

أمّا الشيعة الإمامية فكما ذكرنا، فقد وقفوا من هذه المسألة موقفاً يتناسب مع شرف النبوّة وقداستها، فنزّهوا الأنبياء في جميع أحوالهم عن جميع المعاصي قبل النبوّة وبعدها، واستدلّوا على ذلك - بالإضافة إلى الأدلّة المتقدّمة - بأنّ جواز المعصية عليهم يتنافى مع الغاية التي أُرسلوا من أجلها؛ لأنّ الله سبحانه إنّما أَرسل الرسل لعباده ليعملوا برسالاتهم، ويسيروا على نهجها وهديها قال سُبحانه: ( لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ) ، وإذا جاز على الأنبياء أنّ يخالفوا ما يأمرون به وينهون عنه، لم يحصل الوثوق بأقوالهم ما دامت لا توافق أفعالهم.

ولو جاز عليهم السهو والخطأ في أقوالهم وأفعالهم، لم يعد ما يمنع من وقوعهما منهم في التبليغ عن الله سبحانه.

وإذا جاز عليهم الكذِب في أقوالهم وأخبارهم ضعُفت ثقتهم ومكانتهم من النفوس، فلا تحصل الغاية التي من أجلها أَرسل الله أنبياءه ورُسله.

كما استدلّوا بالإضافة إلى ما تقدّم، بأنّ النبيّ لو فعَل المعاصي تجب

____________________

(١) انظر المواقف ج ٤ ص ٢٦٤ إلى ص ٢٨٠ حيث أورد جميع الآراء في هذه المسألة وأدلّتها.

٢٠٦

إطاعته ومتابعته، لقوله تعالى: ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ) ، ولقوله: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) ، ومن حيث إنّه بفعله أصبح عاصياً تحرم متابعته في ذلك الفعل، ولازم ذلك اجتماع الوجوب والحرمة في حقّ المكلّفين، وأيضاً لزِم أنْ يكون أسوأ حالاً من سائر أفراد البشر؛ لأنّه أكثر معرفة لله منهم وأكثرهم عِلماً بأحكامه، والله سبحانه يعاقب الناس ويحاسبهم على حسب عقولهم ومعرفتهم، ولذا فقد ضاعف الله سبحانه العقاب للعاصيات من نساء النبيّ، قال سبحانه: ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ) .

ومجمل القول أنّ الذي ذهب إليه الشيعة، هو الذي يتناسب مع مقام النبوّة وعظمتها، ويجب أنْ يكون القائم بهذه المهمّة مثالاً للفضيلة بكلّ أنواعها ليسرع الناس إلى تصديقه والعمل بأوامره ونواهيه، وكيف يجوز على الله سبحانه أنْ يُرسل إلى الناس مَن يأمرهم ولا يأتمر وينهاهم ولا ينتهي؟! مع أنّه قد وبّخ مَن كان بهذه الصفة، قال:

( لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) (١).

قال الشيخ المفيد في أوائل المقالات: إنّ جميع الأنبياء معصومون عن الكبائر قبل النبوّة وبعدها، وممّا يستخفّ فاعله من الصغائر كلّها (٢) وأمّا ما كان من صغير لا يستخفّ فاعله فجائز وقوعه منهم قبل النبوّة وعلى غيرِ عمد، وممتنع منهم بعدها، وأضاف إلى ذلك أنّ هذا هو مذهب جمهور الإمامية، والمعتزلة بأسرها تُخالف في ذلك (٣)، وهذه العبارة مِن الشيخ المفيد تؤكّد أنّ المعتزلة لا يلتقون مع الإمامية في مسألة العصمة، وكان على صلة بهم، وله معهم مواقف كثيرة حول الأُصول الإسلاميّة، وقلّما يخلو مجلسه من المناظرات معهم وقد جمع السيّد المرتضى كتاباً أكثره في المناظرات التي كانت تجري بين المفيد وخصومه، وأكثرهم من المعتزلة يوم ذاك، وإنْ كان الذي نقله عنهم مؤلّف المواقف، أنّهم لا يجيزون على

____________________

(١) انظر كشف الحق ونهج الصدق ص ٨١ و٨٢ وشرح التجريد للعلاّمة ص ٢١٧.

(٢) وقد مثّلوا لذلك بسرقة الأشياء الحقيرة، كلقمة من الطعام، أو الأكل في السوق وغير ذلك ممّا يُعَد فاعله خسيساً وضيعاً عند الناس، وعلّلوا استثناء هذا النوع من الصغائر، بأنّه يوجب الاستخفاف به.

(٣) انظر أوائل المقالات ص ٣٠.

٢٠٧

الأنبياء الكبائر عمداً، وأنّ ذلك ممتنع منهم عقلاً؛ لأنّه يوجب سقوط هيبتهم من القلوب وانحطاطهم من أعيُن الناس (١).

وعلى كلّ حال فالذي يدّعيه الإمامية في هذه المسألة، هو الذي يتناسب مع مقام النبوّة والرسالة، كما ذكرنا، ويُساعد على تحقيق الأغراض التي بُعِثوا من أجلها؛ لأنّه مكلّف بإصلاح النفوس وتطهيرها من الرذائل، ووضع الحلول الصالحة لمشاكل المجتمع، وإذا كان طاهر النفس صدوقاً أميناً يصدّق أقواله بأفعاله، تسرع النفوس إلى تلبيته والقلوب إلى محبّته، ويكون لأقواله من الآثار ما لا يكون لأقوال العشرات مجتمعين من سائر الناس.

أمّا عصمة الأئمّة فهي من مختصّات الإمامية، ولابدّ من القول بها بعد أنْ قالوا بأنّ نصب الإمام واجب على الله من باب اللطف، كما يجب عليه إرسال الرسُل؛ لأنّه منفّذٌ لما جاء به الرسول وحافظٌ للشرع، وقائمٌ بمهام الرسول كلّها، فلو جاز عليه الخطأ والكذِب لا يحصل الغرض من إمامته، ولأنّ الله جعله إماماً ليهدي الناس إلى الحق، ويصلح أخطاءهم، فلو كان كغيره وجَب على الله أنْ يجعل عليه إماماً يرشده إلى الحق والهدى، وهكذا الكلام بالنسبة إلى الإمام الثاني ولابدّ وأنْ ينتهي الحال إلى إمامٍ لا يجوز عليه الخطأ، وأيضاً لو وقع منه الخطأ لوجَب الإنكار عليه وإرجاعه إلى الحق من باب الأمر بالمعروف، ولَما جاز الاعتماد على أقواله مع أنّه سبحانه قد أمر بإطاعته كما ينصّ على ذلك قوله:

( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) ، ولا تجب إطاعته إلاّ إذا كانت أقواله وأفعاله موافقة لأوامر الله ورسوله.

وممّا يدلّ على عصمة الإمام قوله تعالى لإبراهيم: ( إنّي جاعلك للناس إماماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ، والإمامة عهدٌ من الله فلا يستحقّها الظالم بنصّ الآية، وغير المعصوم ظالم لنفسه ولغيره، والظالم كما يصدق على المتلبّس فعلاً بالمعصية، يصدق على من تلبّس بها في الماضي كما هو الثابت في مباحث المشتق من أُصول الفقه الجعفري، وقد استفاد المتكلّمون الشيعة من هذه الآية مبدأ عاماً في الحاكم الذي يحقّ له أنْ يتولّى أُمور الأُمّة، وهو ليس ببعيد عمّا هو ثابت في القوانين الحديثة،

____________________

(١) انظر المواقف ص ٢٦٤.

٢٠٨

حيث إنّهم يعتبرون كلّ من يرتكب جريمة، أو يعمل عملاً مُشيناً ساقطاً عن الحقوق المدنية كتولّي مناصب الدولة، وغيرهما من الشؤون العامّة (١).

والمراد من العصمة التي يدّعيها الشيعة الإمامية للأئمّة، هي عدَم صدور الكبائر والصغائر منهم عمداً وسهواً، بلا فرْق بين المُشينة وغيرها.

قال المفيد في أوائل المقالات: إنّ الأئمّة معصومون كعصمة الأنبياء، ولا تجوز عليهم صغيرةٌ إلاّ ما قدّمْتُ ذكر جوازه على الأنبياء، ولا يحدث لهم سهوٌ في شيءٍ من الدين، ولا ينسون شيئاً من الأحكام، وعلى هذا المذهب سائر الإمامية إلاّ من شذّ منهم (٢)، ولا يدخل في مفهوم العصمة سلبُ القدرة على المعاصي، ولا كون المعصوم مُلجأ على فعل الطاعات، فإنّ ذلك يستدعي بطلان الثواب والعقاب.

قال صاحب كتاب الياقوت - من قدماء الإمامية ـ: (العصمة لطفٌ يمتنع مَن يختصّ بها من فعل المعصية، لا على وجه القهر بنحوٍ لا تكون له قدرة عليها، بل يكون امتناعه عنها لعدَم الداعي إليها (٣)) .

وليس المراد من عدَم الداعي هو انتفاء القابلية، فإنّ ذلك مرجعه إلى الإلجاء وإنّما المراد منه، أنّ القوّة الخيّرة في الأنبياء والأولياء هي التي تسيطر على شهَوات النفس وأهوائها، مع كونها مقدورةً له.

ولقد بالغ مَن فسّرها باستحالة صدور الذنب؛ لأنّ ذلك يؤدّي إلى الإلجاء، وعدَم استحقاقه للمدح والثواب على أفعاله؛ لأنّها لم تصدر عن إرادة واختيار، هذا بالإضافة إلى أنّها لو كانت بهذا المعنى لم يبقَ لتعلّق النهي بالمحرّمات أثر؛ لأنّ الأفعال المنهي عنها لا تدخل تحت قدرة المعصوم

____________________

(١) انظر شرح التجريد ص ٢٢٧، وكشف الحق ونهج الصدق للعلاّمة ص ٨٥.

(٢) وقد أشار بقوله (إلاّ من شذّ منهم)، إلى الشيخ الصدوق محمّد بن بابويه القمّي، حيث جوّز عليهم السهو والنسيان حتى في الأحكام، كما جوّزه على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) اعتماداً على ما ورد في أحاديث السنّة من سهو النبيّ في الصلاة، وقد روى عنه أبو هريرة أنّه صلّى بالناس العصر ركعتين، وانصرف إلى ناحيةٍ في المسجد، وتبعه الناس وفيهم أبو بكر وعمر، وظنّوا أنّ الصلاة قد قصرت، فلم يجرأ أحد على سؤاله غير رجلٍ يدعى ذا اليدين، فلمّا سأله تذكّر النبيّ ورجَع فأتمّ صلاته من حيث سلّم.

(٣) انظر أوائل المقالات للمفيد.

٢٠٩

بناءً على هذا التفسير.

هذا بالإضافة إلى أنّ الصفات التي منها ينطلق الإنسان إلى المعاصي كالرضا والغضب والشهوة وغير ذلك موجودة في الأئمّة والأنبياء، كما هي في سائر الناس، وجاء في الآية الكريمة: ( إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ) ، ولكن تلك الصفات تسيطر على غيرهم من الناس وتسوقهم إلى معصية الله سبحانه، أمّا الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام)، فمع أنّهم يحبّون ويكرهون ويرضون ويغضبون، ولكن في حدود أوامر الله ونواهيه، فحبّهم للدنيا ومظاهرها وشهَواتها مغلوبٌ دائماً لرضا الله المسيطر على نفوسهم وقلوبهم، الذي حبّب إليهم الإيمان والطاعات، وأبعدهم عن الفسوق والنفاق.

وجاء عن محمّد بن أبي عُمير - أحد تلامذة الأئمّة المقرّبين منهم - أنّه قال: ما سمِعت ولا استفدت من هشام بن الحكم، على طول صحبتي له، أحسن من كلامه في صفة عصمة الإمام، فلقد سألته يوماً من الأيّام عن الإمام أهو معصوم أم لا؟ قال: نعم، قلت له: فما هي العصمة وبماذا تُعرف؟ قال: إنّ جميع الذنوب لها أربعة أوجُه لا خامس لها: الحرْص والحسَد والغضَب والشهوة، وكلّها منتفية عنه، فلا يجوز أنْ يكون حريصاً على هذه الدنيا وهي تحت يده فعلى ماذا يحرص؟ ولا يجوز أنْ يكون حسوداً؛ لأنّ الإنسان إنّما يحسد مَن هو فوقه وليس فوقه أحد، فكيف يحسد من هو دونه؟!

ولا يجوز أنْ يغضب لشيء من أُمور الدنيا، إلاّ أنْ يكون غضبه لله عزّ وجل، فإنّ الله قد فرَض عليه إقامة الحدود، وأنّ لا تأخذه في الله لومةُ لائم، ولا رأفة في دنياه حتى يُقيم حدود الله عزّ وجل، ولا يجوز أنْ يتّبع الشهَوات ويُؤثر الدنيا على الآخرة؛ لأنّ الله عزّ وجل حبّب إليه الآخرة كما حبّب إلينا الدنيا، فهو ينظر إليها كما ننظر إلى الدنيا، فهل رأيت أحداً ترَك وجهاً حسَناً لوجهٍ قبيح، وطعاماً طيّباً لطعامٍ مُر، وثوباً ليّناً لثوبٍ خشِن، ونعمةً باقية لِدُنيا زائلة (١)؟ !

وهُشام بن الحكَم بهذا التحديد لمفهوم العصمة قرّر أنّها لا تكون إلاّ إذا استطاع الإمام أنْ يتغلّب على هذه الأُصول الأربعة، التي تتفرّع عنها جميع المفاسد، ومنها ينطلق الإنسان إلى المعاصي والمنكرات، وليس في كلامه ما يُشير إلى أنّ هذه الأربعة ليست مقدورة له، بل كل ما يدلّ عليه هذا

____________________

(١) انظر هشام بن الحكم للشيخ عبد الله نعمة ص ٢٠٢.

٢١٠

الكلام إنّ الدواعي التي تثير الحسَد والغضب والشهوة والحرص إلى الوقوع في الرذيلة، لا وجود لها عند الإمام (عليه السلام) بمعنى أنّها مغلوبةٌ لقوةِ الخير الموجودة فيه.

ومجمل القول أنّ العصمة ليس لها مفهوم يتخطّى إمكانيّات الإنسان، بنحوٍ يكون هذا المخلوق البشَري إنساناً آخر له طبيعة غير طبائع الناس. إنّ المعصوم في رأي هشام بن الحكَم ورأي جميع الشيعة إنسانٌ يغضب ويرضى ويحزن ويفرَح ويتلذّذ ويتألّم ويحبّ ويكره إلى غير ذلك من صفات الإنسان، وهذه الحالات وإنْ كانت من شأنها أنْ تسيطر على الإنسان، وتسوقه إلى المعاصي والمنكرات واتباع الشهوات والملذّات، إلاّ أنّها في الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) تكون مغلوبة للقوة الخيّرة التي تصرفهم إلى الطاعات وتسيطر على الدواعي التي تحرّك إلى المعصية بنحوٍ تصبح تلك الدواعي معدومةَ التأثير وكأنّها لم تكن.

وقد ذهب الإمامية إلى أنّ الإمام لابدّ وأنْ يكون أفضل الناس وأكملهم؛ لأنّ ترجيحه على غيره وتعيينه إماماً من بين سائر الناس لابدّ وأنْ يكون لأمرٍ لا يوجد في غيره، وإلاّ كان ترجيحه بلا مُرجّح.

ولأنّ تقديم المفضول على الفاضل لا يقرّه العقل؛ لأنّ الأفضل أعرَف بالواقع وأهدى إلى الحق، ومحلّ للثقة والاطمئنان مِِن جميع الطبَقات قال سبحانه: ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) .

وهذا الشرط من مختصّات الإمامية، فالأشاعرة والمحدّثون من أهل السنّة وأكثر المعتزلة، وإنْ ذهبوا إلى أنّ المتقدّم من الخلفاء الأربعة أفضل من المتأخّر اعتماداً على بعض المرويّات عندهم (١) إلاّ أنّهم لا يعتبرون الأفضلية شرطاً في الخلافة؛ لأنّ أمر الإمام عندهم يرجع إلى الأُمّة وحدها وليس لله أمرٌ أو نهي في ذلك، فهي التي تقرّر مصيرها وتختار مَن تراه.

____________________

(١) فلقد رووا أنّ الرسول (صلّى اّلله عليه وآله) قال: ما ينبغي لقومٍ فيهم أبو بكر أنْ يتقدّم عليه غيره، وأنّه قال: ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيّين والرُسُل على رجلٍ أفضل من أبي بكر، وأنّ الآية الكريمة ( وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ) نزَلَت في أبي بكر.

كما رووا في عمر بن الخطّاب وعثمان بن عفّان أحاديث تنصّ على أفضليّتهما على سائر الخلق.

٢١١

وأمّا المعتزلة، فقد ذهَب المتقدّمون منهم كعمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، وإبراهيم بن سيار المعروف بالنظّام، وعمرو بن بحر الجاحظ، وثمامة بن أشرس، وهشام بن عمر الغوطي، ويوسف بن عبد الله الشحّام، وغيرهم من معتزلة البصرة إلى أنّ أبا بكر أفضل من غيره، وقد ذكرنا سابقاً أنّ عمرو بن عبيد كان يدّعي أنّ عليّاً قد فسَق بسبب القتال الذي دار بينه وبين أهل البصرة وأهل الشام، بينما كان يرى زميله واصل بن عطاء فسق أحد اثنين عليّ ومعاوية، ولا يجيز لهما شهادةً على باقة بقل، أمّا الباقون من المعتزلة وهُم معتزلة بغداد، فقد ادعى ابن أبي الحديد في شرح النهج أنّهم يقولون بأفضليّة عليّ (عليه السلام) عن أبي بكر وعثمان وأنّ الأفضلية ليست من شروط الخلافة (١).

ويؤكّد الشيخ أبو زهرة أنّ الزيدية وعلى رأسهم الإمام زيد بن عليّ يرون هذا الرأي، وينكرون النصّ على عليّ (عليه السلام) (٢) وقد ذكرنا سابقاً في حديثنا عن الزيدية، أنّ المنسوب إلى زيد بن عليّ لا تؤيّده النصوص التاريخية، وقد نصّ المسعودي في مروج الذهب، وأبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميّين أنّ الجارودية أتباع زياد بن المنذر الجارود، وهم الفرقة الأُولى من الزيدية الذين عاصروا زيداً، هؤلاء كانوا يذهبون إلى النص على عليّ (عليه السلام) وقد نصّ هو على إمامة ولَدَيه الحسن والحسين (عليهما السلام)، والناس قد ضلّوا بعدولهم عنه (٣).

وزياد بن المنذر كان من المعاصرين لزيد بن عليّ، ولم يكن بعيداً عنه وعلى تقدير أنّه كان من القائلين بإمامته، فلابدّ وأنْ يكون قد استوحى شروط الإمامة ووظائف الإمام منه، ومن المستبعد أنْ يُخالف رأيه في إمامة جدّه عليّ (عليه السلام).

وقد أثبتنا سابقاً أنّ زيداً لم يخرج في مبادئه وآرائه عن المخطّط الذي رأسه آباؤه لشيعتهم وأتباعهم، ولم يكن في ثورته على الأمويّين داعياً لنفسه، ولا مخالفاً للأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام).

ومن مجموع ما تقدّم يتبيّن أنّ المسلمين على اختلاف فِرَقهم ومذاهبهم متّفقون على أنّه لابدّ للمسلمين من إمام يقوم مقام الرسول (صلّى الله عليه وآله) في تنظيم

____________________

(١) انظر شرح النهج لابن أبي الحديد المجلّد الأوّل ص ١٣.

(٢) انظر الإمام زيد ص ١٨٨ و١٨٩.

(٣) انظر مقالات الإسلاميّين ج ١ ص ١٣٣، ومروج الذهب للمسعودي.

٢١٢

أُمورهم وإقامة الحدود وتنفيذ الأحكام، وغير ذلك من المصالح التي لابدّ من رعايتها، ولم يُخالف بذلك سوى العجاردة من الخوارج، ومحلّ الخلاف بينهم في أنّ نصبه واجب على الله كما يدّعي الإمامية، أو على الأُمة بحكم العقل كما يدّعي القسم الأكبر من المعتزلة، أو بطريق النقل كما يدّعي الأشاعرة وبعض المعتزلة، كما تبيّن أنّ الإمامية يُخالفون جميع الفِرَق في مسألتي العصمة والأفضلية، واعتبروهما وصفين لازِمَين للإمام، أمّا أهل السنّة فقد ذهبوا إلى أنّ الإمام لا يكون إماماً شرعياً إلاّ بشروطٍ أربعة:

الأوّل: أنْ يكون قرشيّاً، واحتجّوا لذلك ببعض المرويّات عن الرسول في فضل قريش، واختصاصهم بهذا الأمر، فلقد رووا عنه أنّه قال: لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقيَ فيهم اثنان، وروى معاوية بن أبي سفيان عنه أنّه قال: إنّ هذا الأمر في قريش لا يُعاديهم أحد إلاّ أكبّه الله على وجهه، وقد خالف في ذلك الخوارج وجماعة من المعتزلة، وجوّزوا إمامة المَوالي والعبيد، كما ذكرنا سابقاً.

وعلى كلّ حال فالنصوص التي أوردها المحدّثون والأشاعرة لانحصار الخلافة في القرشيّين ليست واردة في مقام الجعل، ولا يُستفاد منها تأسيسَ أصلٍ عام لتكون مرجعاً في هذه المسألة، وكلّ ما يُستفاد منها الأخبار عمّا سيقع في المستقبل، فلا تصلح دليلاً على أنّها حقٌّ من حقوقهم، ولا محلّ لهذا الشرط عند الإمامية؛ لأنّها من الحقوق المجعولة لعليّ ووُلْده على مذهبهم، كما لا محلّ له عند الزيدية، لاختصاصها بولد فاطمة (عليها السلام) كما هو المنسوب إليهم، ولأنّها بالنصّ من الله عند الشيعة، والله أعلم حيث يجعل رسالته.

الشرط الثاني: البيعة العامّة التي تشمل الموجّهين من أهل الرأي والعلماء، والجنود والجمهور الأعظم من المسلمين، ولابدّ فيها من الرضا والاختيار، فلا تنعقد مع الإكراه والإجبار، وهي معاهدة قائمة بين الشعب والحاكم المختار، فعلى الشعب أنْ يسمع ويطيع، وعلى الحاكم أنْ يقيم الحدود والفرائض ويسير على النهج المستفاد من الكتاب والسنّة، وهؤلاء يدّعون بأنّ الصحابة والبقيّة من المسلمين قد تسابقوا إلى بيعة أبي بكر، ولم يتخلّف أحد من أولي الرأي والصحابة عنه (١)، مع أنّ الحوادث التي رافقت بيعة أبي بكر تؤكّد أنّ المتخلّفين عنه كانوا من أبرز صحابة الرسول، وأقربهم إليه، وقد تصلّبوا في موقفهم بالرغم من موجة الإرهاب التي رافقت

____________________

(١) انظر المذاهب الإسلامية لأبي زهرة ص ١٣٢ والمواقف ص ٣٥٠.

٢١٣

استخلافه في بداية الأمر، كما ذكرنا في الفصل الأول من هذا الكتاب.

وجاء في المواقف أنّ إجماع أهل الحلّ والعقد، لم يقم عليه دليل من العقل أو السمع، فيكفي فيها الواحد والاثنان، ويجب أتّباع الإمام على أهل الإسلام، وذلك لعلمنا أنّ الصحابة مع صلابتهم في الدين قد اكتفوا بذلك، فقد عقدها أبو بكر لعمر، وعبد الرحمان بن عوف لعثمان، ولم يشترطوا اجتماع مَن في المدينة (١).

الشرط الثالث: الشورى، والمراد بها أنْ يكون اختياره نتيجةً للتشاور وتمحيص الآراء بنحوٍ لا تستقل بتعيينه فِئة دون أُخرى ولا فرد أو أفراد مخصوصون، وقد ادعوا أنّ استخلاف أبي بكر وعمر وعثمان كان نتيجةً لتداول المسلمين فيما بينهم، واتّفاقهم على هؤلاء الأشخاص (٢)، مع أنّه من الثابت تاريخيّاً أنّ أبا بكر عيّن عمر بن الخطّاب في حياته، وفرضه على المسلمين فرضاً، واعترضه جماعة فلَم يتراجع، كما وأنّ عمر بن الخطّاب جعل أمرها لواحد من ستّة أشخاص، ولم يترك لهم الاختيار المطلق، بل وضَع لهم القيود والشروط التي تنتهي بها إلى الشخص الذي أراده، وقد وقع الأمر كذلك، حينما رفض عليّ (عليه السلام) التقيّد برأي الشيخين أبي بكر وعمر.

الشرط الرابع: أنْ يكون الخليفة عادلاً لا يندفع مع أهوائه، ولا يؤثّر أحداً على آخر لهوى في نفسه، يعامل الناس بالعدل ولو كانوا من أعدائه، ويطبّق القانون على الجميع بدون محاباةٍ لأحد، ومع أنّهم يعتبرون هذا الشرط في الحاكم، فقد ذهبوا إلى أنّه لو خرَج على القانون الإسلامي فلا يجوز الخروج عليه، ولو كان ظالماً فاسقاً، وأنّ طاعته أولى من الخروج عليه، وقال أحمد بن حنبل: لا يجوز الخروج على الأُمراء بالسيف وأنْ جاروا، وإلى ذلك ذهب مالك في موطئه، والشافعي في كتبه، وقد رووا عن الرسول (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: (مَن ولّي عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصيته، ولا ينزعنّ يداً عن طاعة) ، وأنّه قال: (أفضل الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمّة المسلمين) .

أمّا الإمامية وبعض المعتزلة والخوارج، فإنّهم يرَون جهاده إذا خرَج

____________________

(١) انظر ص ٣٥٣ من الكتاب المذكور.

(٢) انظر المذاهب الإسلامية، ص ١٥٣ والمواقف ص ٣٥٣.

٢١٤

على المبادئ الإسلامية واجباً، ولا يجوز السكوت عليه إذا أمكَن مقاومته ولو أدّى إلى إراقة الدماء، وعند الإمامية أنّ جهاد الظالمين من أفضل الطاعات وأكثرها ثواباً وأجراً، ومرويّاتهم عن الأئمّة تؤكّد وجوب جهادهم ومقاومتهم، وهذا المبدأ من الضرورات عند الشيعة كما وأنّ القرآن الكريم لم يجعل للظالمين سلطاناً على أحدٍ من الناس، قال تعالى: ( لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ) .

وفي الآية من سورة التوبة: ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ ) .

ومجمل القول أنّ الأشاعرة والمُحدّثين والفقهاء وفريقاً من المعتزلة مع أنّهم يشترطون عدالة الحاكم، يقولون بأنّ ولايتهِ ماضية حتى ولو كان فاسقاً ظالماً جائراً، فلا يجوز الخروج عليه ولو توفّرت القوّة الكافية لإراحة العباد منه، ولا فَرْقَ عندهم بين الخليفة المختار، وبين مَن استولى على الأُمور بالقوّة والغلَبة أمثال يزيد بن معاوية وغيره من الحكّام الجائرين، والخارجين في سيرتهم على المبادئ الإسلامية، ونصوص القرآن؛ لأنّ الخروج عليه يؤدّي إلى الفتنة وإراقة الدماء، ولأنّ الصبر عليه أولى من الدخول في فتنةٍ جديدة، ولو ترتّب على بقائه إراقة الدماء وانتهاك الحُرُمات.

الجنّة والنار

لقد اتفق الأشاعرة والمحدّثون وعبد السلام الجبائي، وبشر بن المعتمر وأبو الحسين البصري، على أنّ الجنّة والنار مخلوقتان، واستدلّوا على ذلك بالآيات الكريمة التي تنصّ على وجودهما، ومن ذلك الآيات التي تنصّ على أنّ آدم وحوّاء قد سكنا الجنّة وأكلا من ثمارها، قال تعالى: ( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ

٢١٥

الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ) .

وذهب أكثر المعتزلة إلى أنّهما سيُخلقان يوم يَحشر الله الناس للجزاء، لعدَم الفائدة من خلقهما قبل ذلك اليوم، كما استدلّوا أيضاً بقوله تعالى:

( أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ) ، والجمع بين هذه الآية وقوله تعالى: ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ ) ، حيث إنّ مفاد الأوّل أنّ مأكولها دائم، والثانية تفيد أنّ لا شيء يسلم من الفناء، فلو قلنا بأنّهما مخلوقتان لزِم تناقض الآيتين، فلابدّ وأنْ نلتزم بعدم وجودهما فعلاً، وأنّهما سيوجدان في يوم الجزاء.

وأجاب الأشاعرة عن هذه الشبهة، إنّ دوام أُكلها لا يُراد منه دوام الشيء بعينه، ليحصل التعارض بين الآيتين المذكورتين؛ لأنّ الشيء الشخصي إذا أكلته النار لا يتّصف بالبقاء، وإنّما يُراد به الدوام النوعي، أي كلّما أكلت شيئاً يحل محلّه شيء آخر، وبهذا الاعتبار يستمر أُكلها، ويتحقّق المراد من الآية الثانية.

واستدلّوا أيضاً بقوله تعالى: ( وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) ، وكون السموات والأرض عرضاً لها لا يتصوّر إلاّ بعد فناء العالم بأسره، وإلاّ لزِم تداخل الأجسام بعضها ببعض؛ لأنّ وجودَ جرمٍ في جرمٍ بمقداره، يقتضي كون الجُرمين واحداً أو وجود الخلاء بينهما.

والجواب أنّ الآية في مقام التشبيه، والمراد أنّ عرضها كعرض السموات والأرض، بدليل ورود هذا التشبيه في بعض الآيات الأخرى، وليس المراد أنّ السموات والأرض عرضاً لها بنحو تكون الجنّة خالية فيهما، ويلزم بناء على ذلك أنّ تكون المخلوقات الموجودة فيهما، يلزم أنْ تكون في الجنّة بناء على وجودها فيهما.

أمّا الإمامية فقد اجمعوا على خلقهما، قال العلاّمة في شرح التجريد: وقد دلّ السمع على أنّ الجنّة والنار مخلوقتان الآن وجميع المعارضات متأوّلة، والنصوص التي تصرّح بوجودهما تبلغ حدّ التواتر.

وجاء في أوائل المقالات، أنّ الإجماع قائم على أنّهما مخلوقتان، بالإضافة إلى الأخبار الكثيرة، وقد خالَف في ذلك الخوارج والمعتزلة وبعض الزيدية، واستطرد يقول: إنّ المتأخّرين من المعتزلة كأبي هاشم يدّعون أنّ خلقهما عبَث قبل المحشر، والله لا يعبث في فعله (١) .

____________________

(١) انظر شرح التجريد ص ٢٧٠ وأوائل المقالات ص ١٠٣، والمواقف ص ٣٠١.

٢١٦

وقد دلّت النصوص من القرآن والحديث على وجودهما، فمِن النصوص القرآنية قوله تعالى: ( هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) ، وفي كثير من الآيات ورَد التعبير عنهما بصيغة الماضي التي تدلّ على وجودهما كقوله: ( أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) ، وقوله في آيةٍ أُخرى: ( أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) ، وغير ذلك من الآيات الكثيرة التي تؤكّد وجودهما.

وجاء في رواية عبد السلام بن صالح الهِرَوِي، المعروف بأبي الصلْت، أنّ رسول الله قد دخل الجنّة ورأى النار حينما عرَج إلى السماء، قال أبو الصلْت: فقلت للإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام): أهُما اليوم مخلوقتان؟ قال: (نعم، وأنّ رسول الله قد دخل الجنّة ورأى النار). قال: فقلت له: إنّ قوماً يقولون إنّهما مقدّرتان وغير مخلوقتين. فقال (عليه السلام): (ما أُولئك منّا ولا نحن منهم، من أنكَر خلق الجنّة والنار فقد كذّب النبيّ وكذّبنا، وليس مِن ولايتنا على شيء، ويُخلّد في نار جهنّم) (١) .

____________________

(١) انظر الاحتجاج للطبرسي ص ٢٢٢.

٢١٧

الشفاعة

لقد ورَد ذكر الشفاعة في بعض آيات الكتاب الكريم، ووَرَدت جملة من الأحاديث عن الرسول (صلّى الله عليه وآله) مؤكِّدة لِما جاء في القرآن، ولأجل ذلك فقد ذهب الإمامية إلى أنّ النبيّ والأئمّة يشفعون، يوم يقوم الناس للحساب، لبعض المؤمنين ممّن ارتكبوا بعض المخالفات، وقد دلّت النصوص على أنّ الله يقبل شفاعتهم، منها ما جاء عن الرسول أنّه قال: (ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمتي)، وجاء عن الإمام محمّد الباقر (عليه السلام) أنّه قال: (إنّ قوله تعالى: ( فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) يدلّ على الشفاعة وذلك أنّ أهل النار لو لم يرَوا يوم القيامة

٢١٨

شافعين يشفعون لبعض من استحقّوا العقاب، فيشفعون ويخرجون بشفاعتهم من النار، أو يُعفَون منها بعد الاستحقاق لما عظمت حسراتهم، ولا صدر عنهم هذا المقال، ولكنّهم لمّا رأوا شافعاً يشفع فيُشفّع، وصديقاً حميماً يشفع لصديقه عظمت حسراتهم عند ذلك، فقالوا: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم) (١).

وجاء في أوائل المقالات للشيخ المفيد: اتفقت الإمامية أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر من أُمّته، وأنّ أمير المؤمنين يشفَع في أصحاب الذنوب من شيعته، وأنّ أئمّة آل محمّد (عليه السلام) يشفعون كذلك ويُنجّي الله بشفاعتهم كثيراً من الخاطئين، ووافقهم على ذلك المرجئة وجماعة من المحدّثين.

وجاء عن الرسول (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: (إنّي أشفع يوم القيامة فأُشفّع، ويشفع عليّ فيُشفّع، وأنّ أدنى المؤمنين شفاعة يوم القيامة يشفع في أربعين من إخوانه)، وأجمعت المعتزلة على خلافهم، وزعَمت أنّ شفاعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) للمطيعين دون العاصين، وأنّه لا يشفع في مستحقّ العقاب من الخلق أجمعين (٢).

وقال في المواقف: إنّ المسلمين قد اتّفقوا على الشفاعة، ولكنّهم قد اختلفوا في المشفوع له، فالمحدّثون والأشاعرة والإمامية، ذهبوا إلى أنّها لأهل الكبائر من المسلمين، أمّا المعتزلة فقد ذهبوا إلى أنّها لزيادة ثواب المؤمنين المستحقّين للجنّة، واستدلّوا على أنّها ليست ماحية للذنوب عن العُصاة بقوله تعالى: ( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ) وبقوله: ( وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ) وبقوله: ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) ، إلى غيره ذلك من الآيات الظاهرة في أنّ الإنسان لا ينفعه إلاّ عمله وإطاعته لله سبحانه.

وجاء عن أبي الحسن الخيّاط - أحد أعلام المعتزلة - أنّه كان يحتجّ على القائلين بالشفاعة بقوله تعالى: ( أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ

____________________

(١) انظر الفصول المختارة من كتاب العيون والمحاسن للمفيد ص ٥٢.

(٢) انظر أوائل المقالات ص ٥١ و ٥٣.

٢١٩

مَنْ فِي النَّارِ ) ، قال: إّن الآية تنصّ على أنّ من استحقّ العذاب لا يُمكن للرسول أنْ ينقذه من جهنّم، وقال المفيد في جوابه: إنّ القائلين بالشفاعة لا يدّعون بأنّ الرسول هو المُنقذ للمستحقّين النار، وإنّما الذي يدّعونه أنّ الله سبحانه ينقذهم منها إكراماً لنبيّه والطيّبين من أهل بيته (عليهم السلام).

هذا بالإضافة إلى أنّ مَن حقّت عليهم كلمة العذاب هُم الكفّار، وليس في المسلمين مَن يدّعي أنّ الرسول وغيره يشفعون لهم (١)، وأمّا بقية الآيات التي استدلّ بها المعتزلة على إبطال الشفاعة، فقد أجاب القائلون بالشفاعة عنها، بأنّها مختصّة بالكفّار كما تدلّ على ذلك أكثر التفاسير، ولابدّ من حملها على ذلك، بعد ملاحظة النصوص الكثيرة التي تؤكّد أنّ النبيّ والأئمّة يشفعون للمذنبين من المؤمنين.

وقال في شرح التجريد: إنّ قوله تعالى: ( مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ ) لا يدلّ على نفي الشفاعة؛ لأنّ نفي المُطاع لا يستلزم نفي المُجاب؛ وذلك لأنّ المراد من الشفاعة غنّ النبيّ مثلاً يرجو الله في العفو عن بعض المذنبين فيُجاب إلى ذلك، ولا يكون بذلك مطاعاً، والآية لا تدلّ على أكثر مِن أنّ الظالم ليس له شفيعٌ مطاع، والقائلون بالشفاعة لا يدّعون ذلك (٢).

هذا بالإضافة إلى أنّ قوله تعالى: ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى ) ، يقرّ مبدأ الشفاعة لِمَن ارتضاه الله، وأهل الذنوب لا يخرجون عن الإيمان بذنوبهم، ولا سيّما إذا ندموا على فعلها، وقد جاء عن محمّد بن أبي عُمير أنّ الإمام موسى بن جعفر قال: (حدّثني أبي عن آبائه عن عليّ (عليه السلام) أنّه قال: سمِعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي)، فأما المحسنون منهم فما عليهم من سبيل، ثمّ قال: مَن سرّته حسنة وساءته سيّئة فهو مؤمن، ومَن لم يندَم على ذنبٍ ارتكبه فليس بمؤمن ولم تجِب له الشفاعة) (٣).

على أنّه لو كان المراد منها زيادة الثواب كما يدّعيه المعتزلة، لزِم أنْ يكون جميع المؤمنين شُفَعاء للنبيّ (صلّى الله عليه وآله)؛ لأنّهم يطلبون له من الله ذلك.

____________________

(١) انظر الفصول المختارة ص ٥٠.

(٢) انظر شرح التجريد ص ٢٦٣، والمواقف ص ٢١٣.

(٣) انظر توحيد الصدوق ص ٤١٩.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253