والقصيدة تزيد على الستين بيتاً. وله قصيدة أيضاً في مجموعة الشيخ لطف الله، وأولها:
إنهض إلى أم القرى ومناتها |
وبطيبة طف بي على عرصاتها |
وهي أكثر من سبعين بيتاً.
وله أيضاً:
أسير الهوى ما بال ثغرك مفترا |
أراك بما أولاك مولاك مغتراً |
|
وتختال في ثوب الشبيبة مائساً |
وتطرب في تذكار غادتك الغرا |
|
فدع ذكر من تهوى ولا تطع الهوى |
أما سمعت أذناك بالوقعة الكبرى |
|
أيصبح منك السن ياويك باسماً |
سروراً وتبكي عين فاطمة الزهراء |
|
ألا اطلق عنان العيس واعنف بسيرها |
وإن جئت وادي الطف قف نبك من ذكرى |
|
هناك ترى من نور العرش باسمه |
له كبد حرى وفي بردة حمرا |
تحتوي على 56 بيتاً نقلنا منها هذا المقطع.
السيد علي السيد احمد
بكى بقاني دمه والمدمع |
صب لذكر دمنة ومريع |
|
لم يبق فيها من يجيب داعياً |
ولا يلبي ناشداً ولا يعي |
|
غير اثاف جثم ودونها |
نوء وأشلا وتد ومخدع |
|
فما البكا وما العنا وما الشجى |
وما الضنا على الذي لم ينفع |
|
هلم هات كلما ادخرته |
من مدمع ومن دم وابك معي |
|
على الحسين المستضام والإمام |
بن الإمام الألمعي اللوذعي |
|
السيد السميدع ابن السيد |
السميدع ابن السيد السميدع |
|
الأروع المبجل المعظم المكرم |
الممجد ابن الأروع |
|
واذكر عظيم رزئه فإنه |
بمثله كل الورى لم تسمع |
|
قضى ظماً مع صحبه بكربلا |
ودون السلسبيل المترع |
وفي آخرها:
آل النبي حبكم قد انحنت |
عليه - مذ كونت - عوج أضلعي |
|
إذ حبكم وبغضكم بين الورى |
علامة للنصب والتشيع |
|
وأنتم يوم الحساب عدتي |
لشدتي ومأمني لمفزعي |
|
وهاكم عذراء من نجلكم |
بغير وشي الحب لم تلفع |
|
تحجبت من البها ببرقع |
وهي لقلب الخصم قلب البرقع |
ولي وآبائي وللرحم اشفعوا |
إذ غيركم يوم القضا لم يشفع |
|
عليكم الرحمن صل ما اكتسى |
روض الربيع نسج أيدي الهمع(1) |
وفي مجموعة حسينية في مكتبة الامام الصادق العامة في حسينية آل الحيدري بمدينة الكاظمية على مشرفها أفضل التحية، والمجموعة في قسم المخطوطات - رقم 75 تحتوي على جملة قصائد لشعراء قدماء كلهم من القرن الثاني عشر الهجري، أو قبل ذلك. وقد جاء في آخرها:
وقد فرغت من تحرير هذه المجموعة في مراثي سيدنا ومولانا وإمامنا أبي عبدالله الحسينعليهالسلام . في يوم السابع من شهر جمادي الثانية من شهور سنة 1242. وأنا العبد الجاني محمد شفيع بن محمد بن مير بن عبدالجميل الحسيني غفر الله لهم.
__________________
1 - عن مجموعة المراثي الحسينية بخط محمد شفيع بن محمد بن مير الحسيني سنة 1242 مخطوطة مكتبة الامام الصادق العامة بالكاظمية حسينية آل الحيدري رقم « 7 ».
السيد محمد الشاخوري
أهاجك ربع دارس وطلول |
ترحل منها للفراق خليل(1) |
|
فبت كئيباً ساهر الطرف باكياً |
ودمعك بعد الظاغنين هطول |
|
إذا مر ذكر البان ظلت لبينه |
دموعك في صحن الخدود تسيل |
|
وتشتاق آرام النقا ولطالما |
عراك لذكراها أسى ونحول |
|
أما قد بدا شيب العذار وإنه |
لعمري على قرب الرحيل دليل |
|
أتخدعك الدنيا بريب غرورها |
وأنت لثقل الحادثات حمول |
|
وتستعب اللذات فيها وصفوها |
قليل وأما خطبها فجليل |
|
فإياك والدنيا الغرور فكم بها |
لعمري عزيز صار وهو ذليل |
|
أتاحت لآل المصطفى جمرة الردى |
وليس لهم في العالمين مثيل |
|
فهم بين مسجون قضى في حديده |
وآخر مسموم وذاك قتيل |
|
وأعظم شيء أورث القلب حسرة |
ووجداً مدى الأيام ليس يزول |
|
مصاب بأرض الطف قد جل خطبه |
فكم قمر فيه عراه أفول |
__________________
1 - عن مجموعة الشيخ لطف الله.
غداة قضت من آل احمد عصبة |
لدى الطف شبان لهم وكهول |
|
أناخت بأرض الغاضريات بدنهم |
لهم في ثراها مضجع ومقيل |
|
قضوا ظمأ ما بردوا غلة الظما |
وللوحش من ماء الفرات نهول |
|
ومن بينهم ريحانة الطهر أحمد |
عفير على حر التراب جديل |
|
له جسد أودت به شفر الضبا |
لقى ودم الأوداج منه يسيل |
|
كست جسمه يوم الطفوف سنابك |
بعثيرها في البيد وهي تجول |
|
وحاكت له ريح الصبا بهبوبها |
قميص رغام بالدماء غسيل |
|
على لذة الأيام من بعده العفا |
فما بعده الصبر الجميل جميل |
|
لحى الله عينا تذخر الدمع بعده |
ونفساً إلى قرب السلو تميل |
|
فيا قلب ذب من شدة الوجد والأسى |
ويا عين سحي فالمصاب جليل |
|
بنات رسول الله تسبى حواسراً |
لهن على فقد الحسين عويل |
|
وتبرز من تلك الخدود لواغبا |
وليس لها بعد الحسين كفيل |
|
سوافر لا ستر يغطي رؤوسها |
تنوح ودمع المقلتين همول |
|
نوادب من وجد يكاد لنوحها |
تذوب الرواسي حرقة وتزول |
|
يسير بها في أعنف السير سائق |
ويزجرها حاد هناك عجول |
|
ينادين يا جداه بعدك أظهرت |
علينا حقود جمة وذهول |
|
وصالت علينا عصبة أموية |
نغول نمتها بالسفاح نغول |
|
أيا جد أضحى السبط ملقى على الثرى |
تجر عليه للرياح ذيول |
|
قضى ظمأ والماء جار ودونه |
حدود سيوف لمع ونصول |
|
وساقوا إمام العصر يا جد بينهم |
أسيراً يقاسي الضر وهو عليل |
|
أضر به السير الشديد وسورة |
الحديد وقيد في اليدين ثقيل |
|
أولي الوحي يا من حبهم لوليهم |
أمان، وعن حر الجحيم مقيل |
|
فإن لم تقيلوا نجلكم من ذنوبه |
فليس اليه في النجاة سبيل |
|
أيشقي ويبقى أحمد في ذنوبه |
وأنتم ظلال للأنام ظليل |
الملا كاظم الأزري
المتوفى 1211
من روائعه في الإمام الحسين (ع):
إن كنت في سنة من غارة الزمن |
فانظر لنفسك واستيقظ من الوسن |
|
ليس الزمان بمأمون على أحد |
هيهات أن تسكن الدنيا إلى سكن |
|
لا تنفق النفس إلا في بلوغ مني |
فبائع النفس فيها غير ذي غبن |
|
ودع مصابحة الدنيا فليس بها |
إلا مفارقة السكان للسكن |
|
وكيف يحمد للدنيا صنيع يد |
وغاية البشر فيها غاية الحزن |
|
هي الليالي تراها غير خائنة |
الا بكل كريم الطبع لم يخن |
|
الا تذكرت اياما بها ظعنت |
للفاطميين اظعان عن الوطن |
|
ايام طل من المختار اي دم |
وادميت اي عين من أبي حسن |
|
أعزز بناصر دين الله منفردا |
في مجمع من بني عبادة الوثن |
|
يوصي الأحبة ان لا تقبضوا أبدا |
إلا على الدين في سر وفي علن |
|
وان جرى أحد الأقدار فاصطبروا |
فالصبر في القدر الجاري من الفطن |
|
ثم انثنى للأعادي لا يرى حكما |
إلا الذي لم يدع رأسا على بدن |
|
سقيا لهمته ما كان أكرمها |
في سقي ماضي المواضي من دم هتن |
|
وللظبى نغمات في رؤوسهم |
كأنها الطير قد غنت على فنن |
يا جيرة الغي ان انكرتم شرفي |
فإن واعية الهيجاء تعرفني |
|
لا تفخروا بجنود لا عداد لها |
ان الفخار بغير السيف لم يكن |
|
ومذرقى نبر الهيجاء اسمعها |
مواعظا من فروض الطعن والسنن |
|
لله موعظة الخطي كم وقعت |
من آل سفيان في قلب وفي اذن |
|
كأن أسيافه اذ تستهل دماً |
صفائح البرق حلت عقدة المزن |
|
لله حملته لو صادفت فلكا |
لخر هيكله الأعلى على الذقن |
|
يفري الجيوش بسيف غير ذي ثقة |
على النفوس ورمح غير مؤتمن |
|
وعزمة في عرى الأقدار نافذة |
لو لاقت الموت قادته بلا رسن |
|
حق إذا لم تصب منه العدى غرضا |
رموه بالنبل عن موتورة الضغن |
|
فانقض عن مهره كالشمس عن فلك |
فغاب صبح الهدى في الفاحم الدجن |
|
قل للمقادير قد ابدعت حادثة |
غريبة الشكل ما كانت ولم تكن |
|
امثل شمر اذل الله جبهته |
يلقى حسيناً بذاك الملتقى الخشن |
|
واحسرة الدين والدنيا على قمر |
يشكوا الخسوف من العسالة اللدن |
|
يا سيدا كان بدء المكرمات به |
والشمس تبدأ بالأعلى من القنن |
|
من يكنز اليوم من علم ومن كرم |
كنزا سواك عليه غير مؤتمن |
|
هيهات إن الندى والعلم قد دفنا |
ولا مزية بعد الروح للبدن |
|
لقد هوت من نزار كل راسية |
كانت لابنية الأمجاد كالركن |
|
لله صخرة وادي الطف ما صدعت |
إلا جواهر كانت حلية الزمن |
|
خطب ترى العالم العلوي لان له |
ما العذر للعالم السفلي لم يلن |
|
من المعزي حمى الإسلام في ملك |
من بعده حرم الإسلام لم يصن |
|
يهينك يا كربلا وشي ظفرت به |
من صنعة لامن لايمن صنعة اليمن |
|
لله فخرك ما في جيدة عطل |
ولا بمرآته الأدنى من الدرن |
|
كم خر في تربك النوري بدر تقى |
لولاه عاطلة الإسلام لم تزن |
|
حي من الشوس معتاد وليدهم |
على رضاع دم الأبطال لا اللبن |
|
يجول في مشرق الدنيا ومغربها |
نداهم جولان القرط في الأذن |
من مبلغ سوق ذاك اليوم ان به |
جواهر القدس قد بيعت بلا ثمن |
|
قل للمكارم موتي موت ذي ظمأ |
فقد تبدل ذاك العذب بالأجن |
|
لقد اطلت على الإسلام نائبة |
كقتل هابيل كانت فتنة الفتن |
|
أقول والنفس مرخاة ازمتها |
يقودها الوجد من سهل إلى حزن |
|
مهلا فقد قربت أوقاف منتظر |
من عهد آدم منصور على الزمن |
|
كشاف مظلمة خواض ملحمة |
فياض مكرمة فكاك مرتهن |
|
قرم يقلد حتى الوحش منته |
وابن النجابة مطبوع على المنن |
|
صباح مشرقها مصباح مغربها |
مزيل محنتها من كل ممتحن |
|
أغر لا يتجلى نور سؤدده |
ألا بروض من الدين الحنيف جني |
|
تسعى إلى المرتقى الأعلى به همم |
لا تحتذي منه إلا قنة القنن |
|
يسطو بسيفين من بأس ومن كرم |
يستأصلان عروق البخل والجبن |
|
يا من نجاة بني الدنيا بحبهم |
كأنها البحر لم يركب بلا سفن |
|
طوبى لحظ محبيكم لقد حصلوا |
على نصيب بقرن الشمس مقترن |
|
هل تزدري بي آثامي ولي وله |
بكم إلى درجات العرش يرفعني |
|
أرجوكم ورجاء الأكرمين عني |
حياً وبعد اندراج الجسم في الكفن |
|
يا من بقدرهم الاعلى علت مدحي |
والدر يحسن منظوماً على الحسن |
|
فها كم من شجي البال مغرمة |
عذراء ترفل في ثوب من الشجن |
|
جاءت تهادى من الأزري حالية |
من اجتلى حسنها الفنان يفتتن |
|
ثم الصلاة عليكم ما بدا قمر |
فانجاب عنه حجاب الغارب الدجن |
الملا كاظم الازري
والمشهور بـ ملا كاظم بن محمد بن مهدي الأزري البغدادي يسكن بغداد ومدرسة النجف، صريحاً في الرأي قوي الحجة مهيباً في المطلع، وكان يتمتع بمكانة سامية في كافه الأوساط الأدبية، ولدى جميع الطبقات الشعبية، لم يكن في بغداد أشعر منه منذ نهاية العصر العباسي حتى عهده الذهبي وعاصر من العلماء الأعاظم: السيد مهدي بحر العلوم الطباطبائي، والشيخ جعفر كاشف الغطاء النجفي الكبير، واتصل بالبيوت الشريفة ونادمهم وتروى له نوادر كثيرة منها أن ابن الراوي قال له يوماً في إحدى.
الندوات الأدبية: بلغني عنك انك مجنون، فأجابه الأزري: وبلغني عنك انك مأفون، فان صدق الراوي ففي وفيك، وإن كذب الراوي فلعنة الله على الراوي. ومنها انه قدم النجف الأشرف فاجتمع عليه الأدباء والعلماء ومنهم السيد صادق الفحام واستنشدوه فأنشد من شعره فلم يوفه السيد جعفر حقه بالإستحسان والاجادة، وما زاد على كلمة: موزون - فأنشأ الأزري:
عرضت در نظامي عند من جهلوا |
فضيعوا في ضلام الجهل موقعة |
|
فلم أزل لائماً نفسي أعاتبها |
من باع دراً على الفحام ضيعه |
جاء لقب الأزري من جدهم وهو محمد بن مراد بن المهدي بن إبراهيم بن عبدالصمد بن علي التميمي البغدادي المتوفى في سنة 1162 وهو الذي لقب بالأزري لأنه كان يتعاطى بيع الأزر المنسوجة من القطن والصوف.
وقد نبغ من هذه الأسرة في العلم والأدب عدد ليس بالقليل، وأول لامع منهم هو الشيخ كاظم، فالشيخ محمد رضا، فالشيخ يوسف الأول، فالشيخ مسعود، فالشيخ مهدي، فالمترجم له.
قال السيد الأمين في الأعيان ج 43 ص 101: بيت الأزري بيت أدب وعلم وثراء. ويظهر من ورقة الوقف المشهور الآن بوقف بيت الأزري وبعض الحجج الشرعية القديمة أن أسرة هذا البيت كانت تقطن بغداد منذ أكثر من ثلاثة قرون، اما ما قبل ذلك فلا يعلم عنها شيء. وقد اشتهر من بين أفرادها علمان هما الشيخ كاظم والشيخ محمد رضا.
(نشأة المترجم وحياته)
ولد الشيخ كاظم الازري في بغداد سنة 1143 على الأصح ولم تزل داره التي ولد فيها قائمة في محلة ( رأس القرية ) من بغداد وهي من جملة أوقاف والده التي وقفها عليه وعلى إخوته سنة 1159. وبقي في طفولته مقعداً سبع سنوات ثم مشى.
درس العلوم العربية ومقداراً غير قليل من الفقه والأصول على فضلاء عصره ولكنه ولع بالأدب وانقطع عن متابعة الدرس. وأخذ ينظم الشعر ولم يبلغ العشرين عاماً. كان سريع الخاطر حاضر النكتة وقاد الذهن قوي الذاكرة كما كان محترم الجانب لدى العلماء والوجهاء من أبناء عصره حتى ان السيد مهدي بحر العلوم كان يقدمه على كثيرين من العلماء لبراعته في المناظرة ولطول باعه في التفسير والحديث ولاطلاعه الواسع على التاريخ والسير، وكان قصير القامة مع سمنة فيه، لا يفارقه السلاح ليلاً ونهاراً خشية على نفسه من اعدائه. وفي
سنة الف وماية ونيف وستين من الهجرة حج بيت الله الحرام. وله في حجه قصيدة مطلعها:
انخ المطي فقد وفدت على الحمى |
والثم ثراه محييا ومسلما |
ثم عظم بعدئذ اتصاله بالحاج سليمان بك الشاوي الحميري الذي كانت له الرئاسة المطلقة والكلمة النافذة في بغداد.
وكان الحاج سليمان بك يقدر فضله ويأنس بأدبه الجم ولم يزل يحمي جانبه ويدافع عنه إلى أن توفاه الله. وكانت وفاته حسب المشهور في سنة 1212 ودفن في مقبرة أسرته في الكاظمية غير أن الحجر الذي وجد في داخل السرداب يدل على أن تاريخ وفاته سنة 1201 والله أعلم(1) .
(ادبه وشعره)
استقبل الناس شعر الشيخ كاظم الأزري كفصل الربيع من السنة نسيمه المنعش وأزهاره العبقة. جاء بعد شتاء مجهد طويل لأنه جمع بين جزالة اللفظ وجمال الأسلوب ورصانة التركيب وحسن الديباجة. وفيه جاذبية، فالذي يقرأ قصيدة من شعره لا يتركها حتى ينتهي منها وفيه نشوة كالراح تدفع شاربها إلى المزيد منها ليزداد نشوة وسروراً. وأكثر الخبراء بالأدب يعدون الشيخ كاظم الأزري في طليعة شعراء العراق وذلك في بعض مناحيه الشعرية، ومن فحولهم
__________________
1 - قال الشيخ الطهراني في ( الذريعة ) قسم الديوان: كانت وفاة الشيخ كاظم الأزري 1 ج 1 سنة 1211 - والمدفون بالكاظمية تجاه المقبرة المنسوبة الى الشريف المرتضى، كما وجد بها على لوحة قبره.
أقول: المقبرة تسمى بمقبرة المرتضى نسبة الى ابراهيم المرتضى ابن الامام الكاظم (ع).
البارزين في المناحي الآخرى. ويصعب التمييز بين قصائده من ناحية السلاسة والطلاوة والرقة والانسجام وهو صاحب الهائية التي تنوف على أكثر من خمسمائة بيت ويعرفها الناس بقرآن الشعر وبالملحمة الكبرى وهذه القصيدة الفذة في بابها هي صدى نفسه الكبيرة الخصب الممرع طبعت على حدة مع تخميسها للشيخ جابر الكاظمي(1) . أما ديوانه فقد عني السيد رشيد السعدي بطبعة سنة 1320. وتلاقفته الأيدي بوقته ولا زال الناس يتطلبونه ويستنسخونه. على أن الديوان لم يستوعب شعره كله بل لايزال عند بعض الحريصين على الأدب قسم منه غير مطبوع. وفي تتمة أمل الآمل: كان فاضلاً متكلماً حكيماً أديباً شاعراً مفلقاً تقدم على جميع شعراء عصره وقال في « التتمة » عن القصيدة الهائية: كانت تزيد على ألف بيت أكلت الأرضة جملة منها كانت النسخة موضوعة في دولاب خوفاً عليها ولما أخرجوها وجدوا جملة منها قد تلف فقدموها إلى السيد صدر الدين العاملي فأخرج منها هذا الموجود اليوم الذي خمسه الشيخ جابر.
وإليك نبذة صغيرة من شعره الذي أصبح يدور على الألسن كالأمثال السائرة: منها قوله:
وما أسفي على الدنيا ولكن |
على ابل حداها غير حاد |
وقوله:
وقد تأتي الخديعة من صديق |
كما تأتي النصيحة من معاد |
__________________
1 - قال الشيخ محمد محرز الدين في ( معارف الرجال ) جاء في هدية الأحباب، عن شيخ الفقهاء صاحب كتاب ( جواهر الكلام ) انه كان يتمنى أن تكون القصيدة الأزرية في صحيفة أعماله، وكتاب الجواهر في صحيفة أعمال الأزري.
وقوله:
إن من كان همه في المعالي |
هجر الظل واستظل الهجيرا |
وقوله:
لا تعجبا لفساد كل صحيحة |
فالناس في زمن كجلد الأجرب |
وقوله:
لا تنوحي إلا علي لديهم |
ما على كل من يموت يناح |
وقوله:
ولسوف يدرك كل باغ بغيه |
المرء ينسى والزمان يؤرخ |
وقوله:
ذريتي أذق حر الزمان وبرده |
فلا خير فيمن عاقة الحر والبرد |
وقوله:
فتيقظ إذا رأيت عيون |
الحظ يقظى ونم إذا الحظ ناما |
وقوله:
ولو كان في الجبن استراحة أهله |
لما سهرت عين القطا وغفى الرند |
أما ملحمته الشهيرة التي استهلها بقوله:
لمن الشمس في قباب قباها |
شف جسم الدجى بروح ضياها |
فقد تضمنت كثيراً من الأمثال والروائع وهي من أروع ما قيل في مدح الرسول الأعظم وعترته الطيبين وهي على جانب كبير من الجزالة والبلاغة وقوة
الاحتجاج وقد طبعت غير مرة مع تخميسها، بالحروف الحجرية أولاً ثم أعيدت مرة بعد مرة.
أقول وان والديوان المشار إليه فيه اغلاط كثيرة وجملة من الأشعار منسوبة له ولم تصح هذه النسبة كالبيتين الواردتين في ديوانه - حرف الراء ص 125.
قالوا حبيبك ملسوع فقلت لهم |
من عقرب الصدغ أم من حية الشعر |
|
قالوا بلى من أفاعي الأرض قلت لهم |
فكيف ترقى أفاعي الأرض للقمر |
وقد أثبتهما الحافظ الدميري في ( حياة الحيوان ) قبل أن يولد الأزري بقرون وذلك في مادة ( العقرب ) ولا يخفى ان وفاة الدميري كانت لسنة 808 ولم يذكر الدميري صاحبهما بل جاء بهما على سبيل الاستشهاد فقال:
وإليك جملة من روائع الأزري في الإمام الحسين (ع):
هي المعالم ابلتها يد الغير |
وصارم الدهر لا ينفك ذا أثر |
|
يا سعد دع عنك دعوى الحب ناحية |
وخلني وسؤال الارسم الدثر |
|
أين الأولى كان اشراق الزمان بهم |
اشراق ناحية الآكام بالزهر |
|
جار الزمان عليهم غير مكترث |
وأي حر عليه الدهر لم يجر |
|
وكم تلاعب بالأمجاد حادثة |
كما تلاعبت الغلمان بالأكر |
|
لا حبذا فلك دارت دوائره |
على الكرام فلم تترك ولم تذر |
|
وان ينل منك مقدار فلا عجب |
هل ابن آدم الا عرضة الخطر |
|
وكيف تأمن من مكر الزمان يدا |
خانت بآل علي خيرة الخير |
|
أفدي القروم الأولى سارت ركائبهم |
والموت خلفهم يسري على الأثر |
|
ما أبرقت في الوغى يوماً سيوفهم |
إلا وفاض سحاب الهام بالمطر |
|
يسطو بكل هلال كل بدر دجى |
بجنح ليل من الهيجاء معتكر |
|
هم الاسود ولكن الوغى اجم |
ولا مخالب غير البيض والسمر |
ثاروا ولولا قضاء الله يمسكهم |
لم يتركوا لبني سفيان من أثر |
|
أبدوا وقائع تنسي ذكر غيرهم |
والوخز بالسمر ينسي الوخز بالأبر |
|
غر المفارق والأخلاق قد رفلوا |
من المحامد في أسنى من الحبر |
|
لله من في فيافي كربلاء ثووا |
وعندهم علم ما يجري من القدر |
|
سل كربلا كم حوت منهم بدور دجى |
كأنها فلك للأنجم الزهر |
|
لم أنس حامية الاسلام منفردا |
صفر الأنامل من حام ومنتصر |
|
رأى قنا الدين من بعد استقامتها |
مغموزة وعليها صدع منكسر |
|
فقام يجمع شملا غير مجتمع |
منها ويجبر كسراً غير منجبر |
|
لم انسه وهو خواض عجاجتها |
يشق بالسيف منها سورة السور |
|
كم طعنة تتلظى من أنامله |
كالبرق يقدح من عود الحيا النضر |
|
وضربة تتجلى من بوارقه |
كالشمس طالعة من جانبي نهر |
|
وواحد الدهر قد نابته واحدة |
من النوائب كانت عبرة العبر |
|
من آل أحمد لم تترك سوابقه |
في كل آونة فخراً لمفتخر |
|
اذا نضى بردة التشكيل عنه تجد |
لاهوت قدس تردى هيكل البشر |
|
ما مسه الخطب الا مس مختبر |
فما رأى منه إلا اشرف الخبر |
|
فأقبل النصر يسعى نحوه عجلا |
مسعى غلام إلى مولاه مبتدر |
|
فأصدر النصر لم يطمع بمورده |
فعاد حيران بين الورد والصدر |
|
يا من تساق المنايا طوع راحته |
موقوفة بين قوليه خذي وذري |
|
لله رمحك اذ ناجى نفوسهم |
بصادق الطعن دون الكاذب الأشر |
|
يا ابن النبيين ما للعلم من وطن |
الا لديك وما للحلم من وطر |
|
يا نيرا راق مرآه ومخبره |
فكان للدهر ملء السمع والبصر |
|
لاقاك منفرداً أقصى جموعهم |
فكنت أقدر من ليث على حمر |
|
صالوا وصلت ولكن أين منك هم |
ألنقش في الرمل غير النقش في الحجر |
|
لم تدع آجالهم إلا وكان لهم |
جواب مصغ لأمر السيف مؤتمر |
|
حتى دعتك من الأقدار أشرفها |
إلى جوار عزيز الملك مقتدر |
فكنت أسرع من لبى لدعوته |
حاشاك من فشل فيها ومن خور |
|
إن يقتلوك فلا عن فقد معرفة |
الشمس معروفة بالعين والأثر |
|
لم يطلبوك بثار أنت صاحبه |
ثار لعمرك لو لا الله لم يثر |
|
أي المحاجر لا تبكي عليك دما |
ابكيت والله حتى محجر الحجر |
|
لهفي لرأسك والخطار يرفعه |
قسرا فيطرق رأس المجد والخطر |
|
قد كنت في مشرق الدنيا ومغربها |
كالحمد لم تغن عنها سائر السور |
|
ما انصفتك الظبى يا شمس دارتها |
إذ قابلتك بوجه غير مستتر |
|
ولا رعتك القنا يا ليث غابتها |
إذ لم تذب لحياء منك أو حذر |
|
كم خضت فيها بيوم الروع معمعة |
ينبو بها غرب حد الصارم الذكر |
|
فعاد خصمك والخذلان يتبعه |
وعدت ترفل في برد من الظفر |
|
اين الظبي والقنا مما خصصت به |
لولا سهام اراشتها يد القدر |
|
أما درى الدهر مذوافاك مقتنصاً |
بأن طائره لولاك لم يطر |
|
يا صفقة(1) الدين لم تنفق بضاعتها(2) |
في كربلاء ولم تربح سوى الضرر |
|
وموسما للوغى في كربلاء جرى |
ببيعة فاز فيها كل متجر |
|
أنظر إلى الدهر قد شلت أنامله |
والعلم ذو مقلة مكفوفة البصر |
|
وأصبحت عرصات العلم دارسة |
كأنها الشجر الخالي من الثمر |
|
يادهر حسبك ما أبديت من غير(3) |
أين الأسود أسود الله من مضر |
|
أمسى الهدى والندى يستصر خان لهم(4) |
والقوم لم يصبحوا إلا على سفر |
|
يا دهر مالك ترمي كل ذي خطر |
عن المناكب بعد العز في الحفر |
|
جررت آل علي في القيود فهل |
للقوم عندك ذنب غير مغتفر |
|
تركت كل كمي من ليوثهم |
فرائساً(5) بين ناب الكلب والظفر |
__________________
1 - واصفقة خ ل
2 - بضاعته خ ل.
3 - عبر خ ل.
4 - بهم خ ل.
5 - فريسة خ ل.
أما ترى علم الاسلام بعدهم |
والكفر ما بين مطوي ومنتشر |
|
من ذاكر لبنات المصطفى مقلا |
قد ولكتها يد الضراء بالسهر |
|
وكيف أسلو لآل الله أفئدة |
يعار منها جناح الطائر الذعر |
|
هذى نجائب للهادي تقلقلها |
ايدي النجائب من بدو ومن حضر |
|
وهذه حرمات الله تهتكها |
خزر الحواجب هتك النوب والخزر |
|
لم انس من عترة الهادي جحاجحة |
يسقون من كدر يكسون من عفر |
|
قد غير الطعن منهم كل جارحة |
الا المكارم في أمن من الغير |
|
هم الأشاوس تمضي كل آونة |
وذكرهم غرة في جبهة السير |
|
من المعزي نبي الله في ملأ |
كانوا بمنزلة الأرواح للصور |
|
أن يتركوا زينة الدنيا فانهم |
من حضرة الملك الأعلى على سرر |
|
وان أبوا لذة الأولى مكدرة |
فقد صفت لهم الأخرى من الكدر |
|
انى تصيب الليالي بعدهم غرضاً |
والقوس خالية من ذلك الوتر |
|
بني أمية لا تسري الظنون بكم |
فان للثأر ليثا من بني مضر |
|
سيفا من الله لم تفلل مضاربه |
يبري الذي هو من دين الإله بري |
|
كم حرمة هتكت فيكم لفاطمة |
وكم دم عندكم للمصطفى هدر |
|
أين المفر بني سفيان من أسد |
لو صاح بالفلك الدوار لم يدر |
|
مؤيد العز يستسقى الرشاد به |
انواء عز بلطف الله منهمر |
|
وينزل الملأ الأعلى لخدمته |
موصولة زمر الأملاك بالزمر |
|
يا غاية الدين والدنيا وبدءهما |
وعصمة النفر العاصين من سقر |
|
ليست مصيبتكم هذي التي وردت |
كدراء أول مشروب لكم كدر |
|
لقد صبرتم على أمثالها كرماً |
والله غير مضيع أجر مصطبر |
|
فهاكم يا غياث الله مرثية |
من عبد عبدكم المعروف بالأزري |
|
يرجو الاغاثة منكم يوم محشره |
وأنتم خير مدخور لمدخر |
|
سمي كاظمكم اهدى لكم مدحاً |
اصفى من الدر بل أنقى من الدرر |
|
حييتم بصلاة الله ما حييت |
يذكركم صفحات الصحف والزبر |
السيد سليمان الكبير
سرت تطوي الوهاد إلى الروابي |
ولا تهوى الهشيم ولا الجوابي |
|
نفور من بنات العيس تفري |
مهامه دونها شيب الغراب |
|
تعير الريح اخفاقاً خفاقاً |
وتغني بالسراب عن الشراب |
|
تريك الجيد قائمة فتلقى |
على خمس تسير من الهباب |
|
تلوح على الربي نسراً وتهوي |
هوي المصلتات إلى الرقاب |
|
تمر على الحزون كومض برق |
تألق بين مركوم السحاب |
|
تخال ذميلها في السهل سرباً |
من الكدري فر من العقاب |
|
وإن وخدت بجرعاء وتلع |
تلوت بينها مثل الحباب |
|
تسيح على الفيافي القفر تطوي |
مفاوز عاريات من ذئاب |
|
تراها إن حدوت لها ظليماً |
تذعر بين هاتيك الشعاب |
|
تعير الريم لفتتها وتضوي |
بأعضاد من التبر المذاب |
|
فإن تشنق لها خرمت أو أن |
لها أسلست تهوى في العذاب |
|
فدعها والمسير فحيث تهوى |
طلاب دونه أعلى الطلاب |
|
إلى ظل الإله وسر قدس |
تلألأ من ذرى أعلى الحجاب |
|
إلى البطل الكمي وبحر جود |
سواحله الندى دون العباب |
|
إلى علم الهدى ومنار فضل |
إلى بحر الندى فصل الخطاب |
إلى نور العلي ومن لديه |
علي وهو في أم الكتاب |
|
صراط مسقيم بل حكيم |
بأمر الله في يوم الحساب |
|
قسيم النار والجنات بين |
الخلائق كلها يوم المئاب |
|
إلى من قال فيه الله بلغ |
لأحمد بعد تعظيم العتاب |
|
وإلا لم تكن بلغت عني |
ولم تك سامعاً فيه جوابي |
|
فقام له بها بغدير خم |
خطيباً معلناً صوت الخطاب |
|
ألا من كنت مولاه فهذا |
له مولى ينوب بكم منابي |
|
فوالي من يواليه وعادي |
معاديه ومن لعداه صابي |
|
بأمر الله قوموا بايعوه |
على نهج الهداية والصواب |
|
فبايعه الجميع وما تأنى |
شريف أو دني أو صحابي |
|
فمنهم مؤمن سراً وجهراً |
ومنهم من ينافق في ارتياب |
|
ومنهم من أبى ويقول جهراً |
نبيكم بها أضحى يحابي |
|
فلما كذبوا المختار فيها |
هوى النجمان يا لك من عجاب |
|
فبرهانان ذانك من إلهي |
لحيدرة فأيهما المحابي |
|
أمن في داره أمسى منيراً |
أم الهاوي لتعجيل العذاب |
|
ومن أفق السما قد خر نجم |
على الشيطان يهوي كالشهاب |
|
لذلك أنزل الرحمن فيه |
لسورة سائل سوء العذاب |
|
له الآيات في الآيات تتلى |
بمحكمها وتأويل الصواب |
|
كيوم أكمل الإسلام فيه |
ونعمته تتم بلا ذهاب |
|
معاجز حارت الأوهام فيها |
فلا تحصى بعد أو حساب |
|
وأن المصطفى للعلم دار |
وحيدر سورها بل خير باب |
|
وكلهم أحمداً جمل وضب |
وخاطب حيدراً خرس الذياب |
|
وثعباناً وليثاً ثم موتى |
رماماً قد بلوا تحت التراب |
|
وشق البدر للهادي وردت |
ذكاء للوصي المستطاب |
حسام الله خافض كل رفع |
من الاشراك من بعد انتصاب |
|
صفاتك معجزات معجزات |
ذوي الألباب توقع في ارتياب |
|
متى راموا حقايقها يضلوا |
عن التوحيد في تيه التصابي |
|
وان يجهلها أبداً ضلالاً |
عن الاسلام بل أي انقلاب |
|
ألا يامحنة الألباب أنى |
بحدك ذو ذكاء فيك صابي |
|
فيالك محنة للخلق عظمى |
ورحمتها ويالك من عذاب |
|
وصاعقة على الأبطال تهوي |
من الآفاق طوراً كالعقاب |
|
وطوراً تحصب الفرسان حصباً |
مبيراً في الذهاب وفي الإياب |
|
بذلت لأحمد نفساً تسامت |
وحزت ببذلها كل الثواب |
|
جزاك الله عنه كل خير |
أبا الحسنين من حصن مهاب |
|
أبا الحسنين يانعم المنادى |
إذا دهم المصاب على المصاب |
|
يعز عليك لو تلقى حسيناً |
رميلاً فوقه يجثو الضبابي |
|
قتيلاً ظامياً والماء أضحى |
مباحاً للذئاب وللكلاب |
|
غسيلاً بالدماء لقاً جريحاً |
على الرمضاء ووايلاه كابي |
|
ولو شاهدت يا مولاي لما |
دهى نسوانه هول المصاب |
|
برزن من الخيام مهتكات |
نوادب بعد صون واحتجاب |
|
تخال نساءه لما تبدت |
شموساً قد برزن من الحجاب |
|
وكل نادب واعظم كربي |
وواذلاه واطول اكتئابي |
|
ثواكل لا تجف لها دموع |
محسرة على حسر الركاب |
|
فذي تنعى عليه بلا قناع |
وذي تبكي عليه بلا نقاب |
|
وهذي نادب واطول حزني |
ووجدي باحتراق وانتحاب |
|
سبايا بين شر الناس تسري |
على قتب مسلبة الثياب |
|
بنات محمد أضحت أسارى |
حيارى بعد سبي واستلاب |
النبوة
- النبي والنبوة
- عصمة الانبياء
- نبوة نبينا محمد
- اعجاز القرآن
النبوة والنبي
كلمة (نُبوّةُ) مصدر الفعل (نبأ) - المهموز من آخره -، فأصل الكلمة (نبوءة) - بالهمز - ثم خففت بقلب الهمزة واواً وادغامها بالواو الأصلية، كما يقال : مُروءة ومُروّة.
واستدل اللغويون على ذلك بتصغيرها حيث يقال فيها (نُبيئة).
ومعناها - لغة - : الإِنباء والإِخبار - بكسر همزتهما الاولى.
ومنه أخذت النبوة شرعاً إلا أنها قُيّدت بالإِخبار والإِنباء عن اللّه تعالى، وقُصرت على أن يكون المخبر أو المنبئ انساناً.
وسمي الانسان المخبر أو المبلغ عن اللّه تعالى (النبي).
وعرّفه (معجم ألفاظ القرآن الكريم) : «من يصطفيه اللّه من عباده البشر لأن يوحي اليه بالدين والشريعة فيها هداية للناس».
وعرّف النبوة : «منصب النبي وجماع مميزاته وخصائصه التي بها يصير نبياً».
وفي (مجمع البحرين) : «النبي : هو الانسان المخبر عن اللّه بغير واسطة بشر، أعم من أن يكون له شريعة كمحمدصلىاللهعليهوآله أو ليس له شريعة كيحيى (ع)..».
وتعريفه هذا هو تعريف المتكلمين.
و«بقيد (الانسان) يخرج الملك، وبقيد (المخبر عن اللّه) يخرج المخبر عن
غيره، وبقيد (بغير واسطة بشر) يخرج الامام والعالم فانهما مخبران عن اللّه تعالى بواسطة النبي»(١) .
والمميزات والخصائص التي يتم اصطفاء واختيار النبي على اساس منها، هي - باختصار - أن يمثل النبي في شخصيته الانسان في اسمى حالات كماله البدني والخُلقي والعقلي.
وقد اختلف المتكلمون المسلمون في حكم النبوة أو بعث الانبياء من قبل اللّه تعالى الى الناس، على قولين :
١ - الوجوب عقلاً، وهو مذهب المعتزلة.
٢ - الجواز عقلاً، وهو مذهب الاشاعرة.
وحجة المعتزلة :
ان التكاليف الشرعية ألطاف في التكاليف العقلية، بمعنى ان الانسان المكلف متى واظب على الامتثالات الشرعية كان أقرب الى التكاليف العقلية.
وبتعبير آخر :
ان التبليغ الذي يأتي به الانبياء تشريعاً من اللّه يأتي موافقاً لما يحكم به العقل، بمعنى انه لا يمتنع عند العقل.
واللطف واجب لانه هو الذي يحصّل غرض الشارع المكلف.
ومتى لم يجب لزم نقض غرض الشارع المكلف.
«بيان الملازمة :
إن المكلِّف اذا علم أن المكلَّف لا يطيع الا باللطف لا يكلفه بدونه، لأنه لو كلفه بدونه كان ناقضاً لغرضه، فيكون الشأن كمن دعا غيره الى طعام وهو يعلم أنه لا يجيبه
___________________
(١) النافع يوم الحشر ٥٨.
الا أن يستعمل معه نوعاً من التأدب، فاذا لم يفعل الداعي ذلك النوع من التأدب كان ناقضاً لغرضه.
فوجوب اللطف يستلزم تحصيل الغرض»(١) .
ولأن اللطف واجب يكون التكليف الشرعي واجباً أيضاً، وهو «لا يمكن معرفته الا من جهة النبي، فيكون وجود النبي واجباً لأن ما لا يتم الواجب الا به فهو واجب»(٢)
ومذهب المعتزلة هذا، هو مذهب الحكماء أو الفلاسفة، واليه ذهب الاماميون أيضاً.
وخلاصته :
أن طبيعة تكوين الانسان الفرد بما تحمل من نوازع الى الخير ونوازع الى الشر.
وطبيعة التفاعل الاجتماعي بين أفراد الانسان التي تتطلب الوقوف أمام نوازع الانسان الشرية أن تتغلب فتضر بالعلاقة الاجتماعية، ان هذه وتلك تقتضيان وجود نظام مستقيم يحقق العدل في العلاقات الاجتماعية، وفي جميع السلوك الانساني.
ولأن وضع هذا النظام من قبل الانسان لا يأتي مستقيماً محققاً للعدل بسبب نقص الانسان، والنقص لا يوجد الكمال لأن فاقد الشيء لا يعطيه، لا بد اذن من أن يكون وضع النظام من قبل المتصف بالكمال المطلق، وهو اللّه تعالى، لطفاً منه بعباده.
ومن هنا يكون بعث الانبياء الى الناس من قبل اللّه تعالى بما يشرعه من شرائع لتنظيم سلوك الانسان فكرياً وعملياً، لطفاً.
واللطف واجب في الحكمة فتجب البعثة.
والمسألة هذه من المسائل التي تقوم على اساس من فكرة التحسين والتقبيح.
__________________
(١) كشف المراد ٢٥٤.
(٢) م. ن ٢٧٣.
ولأن المعتزلة والامامية ومن سار في خطهما يذهبون الى انهما عقليان قالوا بالوجوب العقلي.
ولأن الاشاعرة ومن تبعهم يذهبون الى أنهما شرعيان قالوا بالجواز، نفياً للوجوب العقلي الذي قال به المعتزلة، لا لأصل الوجوب.
سأل رجل الامام الصادق (ع) السؤال التالي :
من أين اثبت الانبياء والرسل ؟
فأجابه الامام (ع) الجواب التالي :
«إنّا لما أثبتنا أن لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنا، وعن جميع ما خلق.
ولما كان ذلك الصانع حكيماً متعالياً لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسوه فيباشرهم ويباشرونه، ويحاجهم ويحاجونه، ثبت أن له سفراء في خلقه، يعبّرون عنه الى خلقه وعباده، ويدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم.
فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه، والمعبرون عنه عز وجل، وهم الانبياء»(١) .
«وتعرف النبوة بثلاثة أشياء :
أولها : أن لا يقرر ما يخالف العقل كالقول بان الباري تعالى اكثر من واحد.
والثاني : أن تكون دعوته للخلق الى طاعة اللّه والاحتراز عن معاصيه.
والثالث : أن يظهر منه عقيب دعواه النبوة معجزة مقرونة بالتحدي مطابقة لدعواه.
والمعجز ، فعل خارق للعادة يعجز عن أمثاله البشر.
والتحدي : هو أن يقول لأمته : ان لم تقبلوا قولي فافعلوا مثل هذا الفعل»(٢) .
_____________________
(١) التربية الدينية ٣١ ط ٥.
(٢) قواعد العقائد للطوسي ٤٥٥.
عصمة الانبياء
اتفق الجميع على لزوم عصمة الانبياء في أداء الرسالة وتبليغها.
واختلفوا فيما عدا ذلك، والاقوال هي :
١ - العصمة في التبليغ واداء الرسالة فقط.
٢ - العصمة عن صدور المعصية مطلقاً كبيرة كانت أو صغيرة، عمداً كان صدورها أو سهواً، وفي جميع السلوك تبليغاً وغيره. وهو قول الامامية.
٣ - العصمة عن صدور المعصية الكبيرة، عمداً كان صدورها أو سهواً.
ذلك أن صدور الصغيرة - في رأيهم - لا يخل بالعصمة. وهو قول المعتزلة.
٤ - العصمة عن صدور المعصية كبيرة وصغيرة عمداً. أي أن صدور المعصية سهواً لا ينافي العصمة. وهو قول الاشاعرة.
وكما اختلفوا في مدى شمول مفهوم العصمة سعة وضيقاً - كما رأينا - اختلفوا في أمدها على قولين، هما :
١ - العصمة مدة التبليغ وأداء الرسالة فقط، وهو قول أهل السنة.
جاء في (الفرق بين الفرق)(١) : «وقالوا (يعني أهل السنة) بعصمة الانبياء عن الذنوب، وتأولوا ما روي عنهم من زلاتهم على انها كانت قبل النبوة».
٢ - العصمة من الولادة حتى آخر العمر. وهو قول الامامية. قال العلامة الحلي(٢) : «انه (يعني النبي) معصوم من أول عمره الى آخره، لعدم انقياد القلوب الى طاعة من عهد منه في سالف عمره انواع المعاصي : الكبائر والصغائر وما تنفر النفس منه».
__________________
(١) ص ٣٤٣.
(٢) الباب الحادي عشر ٦٣.
وفي بيان حقيقة العصمة يقول الشيخ المفيد(١) : «العصمة : لطف يفعله اللّه تعالى بالمكلف بحيث يمنع من وقوع المعصية وترك الطاعة مع قدرته عليهما».
ويقول النصير الطوسي : «العصمة : هي أن يكون العبد قادراً على المعاصي غير مريد لها مطلقاً.
وعدم ارادته أو وجود صارفه يكون من اللّه تعالى لطفاً في حقه، فهو لا يعصي اللّه، لا لعجزه، بل لعدم إرادته، أو لكون صارفه غالباً على ارادته.
فوقوع المعصية منه ممكن بالنظر الى قدرته، وممتنع بالنظر الى عدم ارادته، أو لكون صارفه غالباً على إرادته»(٢) .
ويقول العضد الايجي : «وهي (يعني العصمة) عندنا (يعني الاشاعرة) : أن لا يخلق اللّه فيهم (يعني الانبياء) ذنباً.
وعند الحكماء : ملكة تمنع عن الفجور، وتحصل بالعلم بمثالب المعاصي، ومناقب الطاعات، وتتأكد بتتابع الوحي بالاوامر والنواهي»(٣) .
واستدل لثبوت عصمة بأدلة، منها :
١ - ان النبوة عهد اللّه تعالى، وهو يقول : (لا ينال عهدي الظالمين)، والمعصية ظلم.
٢ - «لو لم يكن الانبياء معصومين لانتفت فائدة البعثة.
واللازم (وهو انتفاء فائدة البعثة) باطل.
فالملزوم ( وهو عدم عصمة الانبياء) مثله، أي باطل أيضاً.
بيان الملازمة :
____________________
(١) النكت الاعتقادية ٤٠٧ - ٤٠٨.
(٢) تلخيص المحصل، رسالة العصمة ٥٢٥.
(٣) المواقف ٣٦٦.
انه اذا جازت المعصية عليهم لم يحصل الوثوق بصحة قولهم لجواز الكذب حينئذٍ عليهم.
واذا لم يحصل الوثوق لم يحصل الانقياد لأمرهم، ونهيهم، فتنتفي فائدة بعثهم، وهو محال»، لان بعثهم فعل اللّه تعالى وهو الحكيم العادل.
٣ - إننا ملزمون باتباع الانبياء لدلالة الاجماع والنقل على وجوب اتباعهم.
فلو كانوا غير معصومين - حسب الفرض - لكان الأمر حينئذ باتباعهم من المحال لانه قبيح.
فيكون صدور الذنب عنهم محالاً، وهو المطلوب(١) .
وبتقرير آخر : «انه لو جاز أن يفعل النبي المعصية أو يخطأ وينسى، وصدر منه شيء من هذا القبيل.
فاما أن يجب اتباعه في فعله الصادر عنه عصياناً أو خطأ.
أو لا يجب.
فان وجب اتباعه فقد جوّزنا فعل المعاصي برخصة من اللّه تعالى، بل أوجبنا ذلك.
وهذا باطل بضرورة الدين والعقل.
وان لم يجب اتباعه فذلك ينافي النبوة التي لا بد أن تقترن بوجوب الطاعة أبداً.
على أن كل شيء يقع منه من فعل أو قول فنحن نحتمل فيه المعصية أو الخطأ فلا يجب اتباعه في شيء من الاشياء فتذهب فائدة البعثة، بل يصبح النبي كسائر الناس ليس لكلامهم ولا لعملهم تلك القيمة العالية التي يعتمد عليها دائماً.
كما لا تبقى طاعة حتمية لاوامره ولا ثقة مطلقة بأقواله وأفعاله»(٢) .
______________________
(١) النافع يوم الحشر ٦٣.
(٢) عقائد الامامية ٨١.
«وما ورد في الكتاب العزيز والاخبار مما يوهم صدور الذنب عنهم فمحمول على ترك الأولى جمعاً بين ما دلّ العقل عليه وبين صحة النقل.
مع أن جميع ذلك قد ذكر له وجوه ومحامل في مواضعه.
وعليك في ذلك بمطالعة كتاب (تنزيه الانبياء) الذي رتبه السيد المرتضى علم الهدى الموسوي (ره) وغيره من الكتب»(١) مثل كتاب (المواقف في علم الكلام) لعضد الدين القاضي الايجي - المقصد الخامس من المرصد الاول من الموقف السادس.
نبوة نبينا محمدصلىاللهعليهوآله
بعد الكلام عن النبوة والانبياء بعامة يتكلم علماء الكلام في نبوة نبينا محمدصلىاللهعليهوآله بخاصة.
فيقولون :
إن النبي محمداًصلىاللهعليهوآله ادّعى النبوة، وظهرت على يديه المعجزات المثبتة لنبوته.
وكل من ادّعى النبوة، وأثبتت المعجزة صحة نبوته فهو نبي حقاً.
وفي هذا الاستدلال ثلاثة امور تتطلب البرهنة عليها، لينهض الاستدلال بالحجية، وهي :
١ - ادعاؤه النبوة.
٢ - ظهور المعجزة على يديه.
٣ - ظهور المعجزة يثبت صحة النبوة.
أما الامر الاول فثابت بالبداهة لاجماع الناس على ذلك وعدم نكرانه من أحد.
والأمر الثاني ثابت بالنقل المتواتر المفيد لليقين.
وفي الامر الثالث قالوا : لو لم تكن المعجزة مثبتة للنبوة، وما كان محمد صادقاً
__________________
(١) النافع يوم الحشر ٦٣ - ٦٤.
بادعائه النبوة، للزم منه اغراء المكلفين من قبل اللّه تعالى باتباع الكاذب، وذلك قبيح لا يفعله ربنا الحكيم العادل.
وأهم معجزاتهصلىاللهعليهوآله : القرآن الكريم.
إعجاز القرآن
انزل اللّه تعالى اكثر من آية قرآنية للاعلان والاعلام بأن القرآن الكريم هو المعجزة الدالة على صحة ادعاء محمد للنبوة، وهو الحجة المثبتة لصحة نبوتهصلىاللهعليهوآله .
وبطلبه من الانس والجن عامة والعرب خاصة مجاراتهم له كان تحديه لهم المقارن لدعواه النبوة.
- قال تعالى : (قل لئن اجتمعت الجن والانس على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) - الاسراء ٨٨ -.
- وقال تعالى : (أم يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون اللّه ان كنتم صادقين فان لم يستجيبوا لكم فاعلموا أن ما انزل بعلم اللّه وألا إله إلا هو فهل انتم مسلمون) - هود ١٣ - ١٤ -.
- وقال تعالى : (وان كنتم في ريب مما أنزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون اللّه ان كنتم صادقين فان لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة اعدت للكافرين) - البقرة ٢٣ - ٢٤ -.
وتتمثل مادة الاعجاز في بلاغة القرآن واسلوبه، في بيانه ونظمه.
ذلك أن لكل اسلوب أدبي خصائصه الفنية التي يفترق ويمتاز بها عما سواه من الاساليب الادبية الاخرى.
وتتمثل كيفية اعجازه بأن من يسمعه أو يقرأه من بلغاء العرب وادبائهم ومتذوقي الوان الفن الادبي العربي يدرك أن اسلوب القرآن الكريم يمتاز بخصائص ترتفع به عن مستوى ما يمكن أن يأتي به أبلغ البلغاء من البشر.
أي أن من يسمعه أو يقرأه «يحكم بانه ليس من كلام البشر، وبذلك يكون دليلاً على أن تاليه عليهم - وهو بشر مثلهم - نبي من عند اللّه مرسل».
«فمن هذا الوجه طولب العرب بالاقرار والتسليم، ومن هذا الوجه تحيرت العرب فيما تسمع من كلام يتلوه عليهم رجل منهم تجده من جنس كلامها لانه نزل بلسانهم - لسان عربي مبين - ثم تجده مبايناً لكلامها».
فهم يتبينون «في نظمه وبيانه انفكاكه من نظم البشر وبيانهم من وجهٍ يحسم القضاء بانه كلام رب العالمين».
ويُستخلص من هذا أمور :
«الاول : ان قليل القرآن وكثيره في شأن الاعجاز سواء.
الثاني : ان الاعجاز كائن في رصف القرآن وبيانه ونظمه، ومباينة خصائصه للمعهود من خصائص كل نظم وبيان في لغة العرب، ثم في سائر لغات البشر، ثم في بيان الثقلين جميعاً : إنسهم وجنهم متظاهرين.
الثالث : ان الذين تحداهم بهذا القرآن قد أوتوا القدرة على الفصل بين الذي هو من كلام البشر والذي هو ليس من كلامهم.
الرابع : ان الذين تحداهم به كانوا يدركون أن ما طولبوا به من الاتيان بمثله، أو بعشر سور مثله مفتريات، هو هذا الضرب من البيان الذي يجدون في انفسهم أنه - خارج من جنس بيان البشر.
الخامس : ان هذا التحدي لم يقصد به الاتيان بمثله مطابقاً لمعانيه، بل أن يأتوا بما يستطيعون افتراءه واختلاقه، من كل معنى أو غرض، مما يعتلج في نفوس البشر.
السادس : ان هذا التحدي للثقلين جميعاً انسهم وجنهم متظاهرين، تحدٍّ ومستمر قائم الى يوم الدين.
السابع : ان ما في القرآن من مكنون الغيب، ومن دقائق التشريع، ومن عجائب آيات اللّه في خلقه، كل ذلك بمعزل عن هذا التحدي المفضي الى الاعجاز، وان كل ما
فيه من ذلك كله يعد دليلاً على أنه من عند اللّه تعالى، ولكنه لا يدل على أن نظمه وبيانه مباين لنظم كلام البشر وبيانهم، وانه بهذه المباينة كلام رب العالمين لا كلام البشر مثلهم»(١) .
ولأن القرآن الكريم المعجزة الخالدة بخلود رسالة محمدصلىاللهعليهوآله ، والمستمرة مع استمرارها، كما هو واضح من الآية الاولى المذكورة في اعلاه، قد يطرح السؤال التالي :
بم يتمثل اعجاز القرآن الكريم الآن، وقد ذهب العرب الفصحاء الذين استقبلوه ايام تنزيله وادركوا بذوقهم الفطري انه كلام اللّه تعالى لسموه في مستوى بيانه ونظمه فوق مستوى كلامهم ؟
وممن أثار هذا التساؤل مالك بن نبي، قال في كتابه (الظاهرة القرآنية) : «ان لكل شعب هواية يصرف اليها مواهبه الخلاقة طبقاً لعبقريته ومزاجه.
فالفراعنة - مثلاً - كان لهم اهتمام بفنون العمارة والرياضيات، يدلنا عليه ما بقي بين أيدينا من آثارهم العظيمة، تلك الآثار التي أثارت اهتمام رجال العلم، مثل الأب (مورو) الذي خصص أحد كتبه لدراسة تصميم الهرم الاكبر، وما يتضمن من نظريات هندسية غريبة وخصائص رياضية وميكانيكية عجيبة.
كما كان اليونان مغرمين بصور الجمال على ما أبدعه فن (فيدياس)، وبآيات المنطق والحكمة على ما جادت به عبقرية (سقراط).
أما العرب في الجاهلية فقد كانت هوايتهم في لغتهم، فلم يقتصروا على استخدامها في ضرورات الحياة اليومية، شأن الشعوب الأخرى. وانما كان العربي يفتن في استخدام لغته، فينحت منها صوراً بيانية لا تقل جمالاً عما كان ينحته فيدياس في المرمر، وما كانت ترسمه ريشة (ليوناردو فانسي) في لوحاته المعلقة في متاحف العالم الكبرى.
فالشعر العربي - كما قال اخي الاستاذ محمود شاكر في مقدمة هذا الكتاب (يعني
__________________
(١) الظاهرة القرآنية : المقدمة للشيخ شاكر ٢٤ - ٢٥.
الظاهرة القرآنية) - : (كان حين انزل اللّه القرآن على نبيهصلىاللهعليهوآله نوراً يضيء ظلمات الجاهلية، ويعكف أهله على بيانه عكوف الوثني للصنم، ويسجدون لآياته سجدة خاشعة لم يسجدوا مثلها لاوثانهم قط، فقد كانوا عبدة البيان قبل ان يكونوا عبدة الاوثان، وقد سمعنا من استخف منهم باوثانهم، ولم نسمع قط منهم من استخف ببيانهم).
هذه صورة الظروف النفسية التي نزل فيها القرآن فكان لاعجازه أن ينفذ الى الأرواح - بصفة عامة في زمن النزول - على هذه السبيل، أي بما ركب في الفطرة العربية من ذوق وبيان.
ثم تغيرت هذه الظروف مع تطورات التاريخ الاسلامي، وفاض طوفان العلوم في أواخر عهد بني أمية والعهد العباسي، فصار ادراك جانب الاعجاز في القرآن بالمعنى الذي حددناه - لغة وإصطلاحاً - من طريق التذوق العلمي، اكثر من أن يكون من طريق الذوق الفطري»(١) .
«وهنا تواجهنا مشكلة الاعجاز في صورتها الجديدة بالنسبة لهذا المسلم - أعني بالنسبة لأغلبية المثقفين ثقافة اجنبية، بل وربما بالنسبة لذوي الثقافة التقليدية في ظروفهم الثقافية والنفسية الخاصة، فلا بد إذن من اعادة النظر في القضية في نطاق الظروف الجديدة التي يمر بها المسلم اليوم، مع الضرورات التي يواجهها في مجال العقيدة والروح.
وعلى رغم ما يبدو في القضية من تعقد، بسبب موقفنا التقليدي إزاءها فاني أعتقد أن مفتاحها موجود في قوله تعالى : (قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن اتبع إلا ما يوحى اليّ)، فاذا اعتبرنا هذه الآية على أنها حجة يقدمها القرآن للنبي كي يستخدمها في جداله المشركين فلا بد أن نتأمل محتواها المنطقي من ناحيتين :
فهي تحمل أولاً اشارة خفية الى أن تكرار الشيء في ظروف معينة يدل على صحته، أي أن سوابقه في سلسلة معينة تدعم حقيقته ك(ظاهرة) بالمعنى الذي يسبغه
__________________
(١) الظاهرة القرآنية ٦٢ - ٦٤.
التحديد العلمي على هذه الكلمة. فالظاهرة : هي (الحدث الذي يتكرر في نفس الظروف مع نفس النتائج).
وهي تحمل في مدلولها ثانياً ربطاً واضحاً بين الرسل والرسالات خلال العصور، وان الدعوة المحمدية يجري عليها أمام العقل ما يجري على هذه الرسالات.
ومن هذا نستخلص أمرين :
١ - انه يصح أن ندرس الرسالة المحمدية في ضوء ما سبقها من الرسالات.
٢ - كما يصح أن ندرس هذه الرسالات في ضوء رسالة محمدصلىاللهعليهوآله على قاعدة أن (حكم العام ينطبق على الخاص قياساً، وحكم الخاص ينطبق على العام استنباطاً).
ولا مانع اذن من أن نعيد النظر في معنى (الاعجاز) في ضوء منطق الآية الكريمة.
وحاصل هذا : اننا اذا اعتبرنا الاشياء في حدود الحدث المتكرر أي في حدود الظاهرة، فالاعجاز هو :
١ - بالنسبة الى شخص الرسول : الحجة التي يقدمها لخصومه ليعجزهم بها.
٢ - وهو بالنسبة الى الدين : وسيلة من وسائل تبليغه.
وهذان المعنيان للاعجاز يضيفان على مفهومه صفات معينة :
أولاً : ان الاعجاز - ك(حجة) - لا بد أن يكون في مستوى ادراك الجميع، والا فاتت فائدته، اذ لا قيمة منطقية لحجة تكون فوق ادراك الخصم، فهو ينكرها عن حسن نية أحياناً.
ثانياً : ومن حيث كونه وسيلة لتبليغ دين : أن يكون فوق طاقة الجميع.
ثالثاً : ومن حيث الزمن : أن يكون تأثيره بقدر ما في تبليغ الدين من حاجة اليه.
وهذه الصفة الثالثة تحدد نوع صلته بالدين الصلة التي تختلف من دين الى آخر باختلاف ضرورات التبليغ.
فهذا هو المقياس العام الذي نراه ينطبق على معنى الاعجاز في كل الظروف المحتملة بالنسبة الى الاديان المنزلة.
فاذا قسنا به في نطاق رسالة موسى (ع) - مثلاً - نرى أن اللّه اختار لهذا الرسول معجزتي اليد والعصا.
واذا تأملناهما وجدناهما ك(حجة) يدعم اللّه بها نبيه يتصفان بانهما :
١ - ليستا من مستوى العلم الفرعوني الذي كان من اختصاص اشخاص معدودين يكوّنون هيئة الكهنوت، بل كانت المعجزة في كلتا صورتيها من مستوى السحر الذي يقع أثره في ادراك الجميع عن طريق المعاينة الحسية دون اجهاد فكر.
٢ - هاتان المعجزتان تتصلان بتاريخ الدين الموسوي لا بجوهره، إذ ليس لليد أو العصا صلة بمعاني هذا الدين ولا بتشريعه، فهما على هذا مجرد توابع للدين، لا من صفاته الملازمة له.
٣ - ودلالة هاتين المعجزتين على صحة الدين محدودة بزمن معين إذ لا نتصور مفعول اليد والعصا كحجة الا في الجيل الذي شاهدهما أو الجيل الذي بلغته تلك الشهادة بالتواتر من التابعين وتابعي التابعين، أي أن مفعوله لا يكون الا في زمن محدد لحكمة ارادها اللّه.
ولو فكرنا في هذه الحكمة لوجدناها انها تتفق مع حقائق نفسية وحقائق تاريخية سجلها الواقع فعلاً، هي :
أولاً : ان القوم الذين يدينون اليوم بدين موسى - أي اليهود - يفقدون - لاسباب نفسية لا سبيل لشرحها هنا - نزعة التبليغ بحيث لا يشعرون بضرورة تبليغ دينهم الى غيرهم من الامم - أي الاميين كما يقولون - حتى اننا اذا استخدمنا لغة الاجتماع قلنا : ان الاعجاز قد ألغاه في هذا الدين عدم الحاجة اليه.
ثانياً : ان مشيئة اللّه قد قدرت أن يأتي عيسى رسولاً من بعد موسى، واتي الدين الجديد لينسخ الدين السابق، فينسخ طبعاً جانب الاعجاز فيه حيث تزول الحجة بزوال
ضرورتها التاريخية.
ثم اتى عيسى بالدين الجديد وبما يتطلب هذا الدين من وسائل لتبليغه، أي بما يتطلب من حجة فاتى باعجازه الخاص بالمعنى المحدد لغة واصطلاحاً كما سبق، فكان لعيسى إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى باذن اللّه.
ولسنا بحاجة ان نكرر بالنسبة الى الدين الجديد ما قدمنا من اعتبارات عامة بالنسبة الى خصائص الاعجاز في الدين السابق حيث ان القضية تتعلق هنا وهناك بالتركيب النفسي الذي عليه الانسان من حيث هو انسان يدرك الأشياء بعقله مع ما في عقله من عجز عن ادراك حقيقة الدين مباشرة ان لم يكن هناك حجة خاصة تسند تلك الحقيقة لدى عقله في صورة اعجاز.
فالاسباب تتكرر وانما يتغير شكلها نظراً لما حدث من تطور في الظروف النفسية والاجتماعية حول الدين الجديد في البيئة التي ينشر فيها عيسى دعوته، تلك البيئة التي تشع عليها الثقافة اليونانية والرومانية.
ولكن دلالة ما أوتي عيسى من إعجاز ستزول أيضاً مع زوال موضوعها ولنفس الأسباب التي ألغت جانب الاعجاز في دين موسى حيث يأتي بعد عيسى رسول جديد ودين جديد يلغيان الدين السابق دين عيسى (ع) فيلغي ضرورة التدليل على صحة الانجيل.
وهكذا تأتي رسالة الرسول الأمين، ولكنها تتسم بصفة خاصة عما سبقها من الرسالات اذ أنها الحلقة الأخيرة في سلسلة البعث.
ويأتي محمد (خاتم الأنبياء) كما ينوه بذلك القرآن، ويشهد به مرور الزمن منذ اربعة عشر قرناً.
وما كانت هذه الميزة التاريخية في الدين الجديد، دون أن يكون أثرها في كل خصائصه وفي نوع إعجازه على وجه الخصوص حيث إن حاجة التبليغ ستبقى مستمرة فيه، سواء من الناحية النفسية لأن كل مسلم - بعكس اليهودي - يحمل في نفسه (مركب التبليغ)، أم من الناحية التاريخية، لأن الدين الجديد - الاسلام - سيكون دين آخر
الزمن، أي الدين الذي لا يعقبه دين سماوي آخر، بل ولا يأتي دين بعده بصور مطلقة، كما تشهد بذلك القرون، حتى ان حاجة الاسلام الى وسائل تبليغه ستبقى ملازمة له من جيل الى جيل، ومن جنس الى جنس، لا يلغيها شيء في التاريخ، وهذا يعني ان هذه الوسائل يجب ألا تكون مثل الاديان الأخرى، مجرد توابع يتركها الدين في الطريق عبر التاريخ بعد مرحلة التبليغ مثل اليد عند موسى او عصاه التي لم يبق لها أثر حتى في متاحف العالم، كما بقيت عصا (توت عنخ آمنون) الذهبية.
وعليه يجب أن يكون إعجاز القرآن صفة ملازمة له عبر العصور والاجيال، وهي صفة يدركها العربي في الجاهلية بذوقه الفطري كعمر (رض) أو الوليد بن المغيرة، أو يدركها بالتذوق العلمي كما فعل الجاحظ في منهجه الذي رسمه لمن جاء بعده.
ولكن المسلم اليوم قد فقد فطرة العربي الجاهلي وامكانيات عالم اللغة في العصر العباسي.
وبرغم هذا فان القرآن لم يفقد بذلك جانب الاعجاز لأنه ليس من توابعه، بل هو من جوهره.
وانما اصبح المسلم مضطراً الى أن يتناوله في صورة اخرى بوسائل اخرى، فهو يتناول الآية من حيث تركيبها النفسي الموضوعي اكثر مما يتناولها من ناحية العبارة، فيطبق في دراسة مضمونها طرق التحليل الباطن.
واذا كانت هذه الضرورة ملحة بالنسبة للمسلم الذي حاول تعقيد عقيدته على اساس ادراك شخصي لقيمة القرآن ككتاب منزل فانها أكثر إلحاحاً بالنسبة لغير المسلم الذي يتناول القرآن كموضوع دراسة أو مطالعة.
فهذه في مجملها الاسباب التي دعتنا الى تطبيق التحليل النفسي بخاصة لدراسة القرآن كظاهرة»(١) .
ولكن الشيخ محمود شاكر يذهب الى ان الاعجاز القرآني لا يزال كما كان مرتبطاً
______________________
(١) الظاهرة القرآنية ٦٦ - ٧١.
بالاسلوب البياني والنظم البلاغي، وسيبقى هكذا، لأن المقارنة بين الاسلوب القرآني واساليب العرب في انتاجهم الأدبي ممكنة وجارية حتى الآن، وذلك لبقاء الشعر الجاهلي الذي يمثل قمة النضج للاسلوب الادبي العربي قائماً عندنا ومدوناً وفي متناول المراجعة.
قال : «فاذا صح أن الاعجاز كائن في رصف القرآن ونظمه وبيانه بلسان عربي مبين وأن خصائصه مباينة للمعهود من خصائص كل نظم وبيان تطيقه قوى البشر في بيانهم، لم يكن لتحديهم به معنى الا أن تجتمع لهم وللغتهم صفات بعينها :
أولها : ان اللغة التي نزل بها القرآن معجزاً، قادرة بطبيعتها هي، أن تحتمل هذا القدر الهائل من المفارقة بين كلامين :
كلام هو الغاية في البيان فيما تطيقه القوى.
وكلام يقطع هذه القوى ببيان ظاهر المباينة له من كل الوجوه.
ثانيها : أن أهلها قادرون على ادراك هذا الحجاز الفاصل بين الكلامين.
وهذا ادراك دال على أنهم قد أوتوا من لطف تذوق البيان، ومن العلم باسراره ووجوهه قدراً وافراً يصح معه أن يتحداهم بهذا القرآن، وأن يطالبهم بالشهادة عند سماعه أن تاليه عليهم نبي من عند اللّه مرسل.
ثالثها : ان البيان كان في أنفسهم أجلّ من أن يخونوا الأمانة فيه، أو يجوزوا عن الانصاف في الحكم عليه.
فقد قرّعهم وعيّرهم وسفّه احلامهم وأديانهم، حتى استخرج أقصى الضراوة في عداوتهم له.
وظل مع ذلك يتحداهم، فنهتهم أمانتهم على البيان عن معارضته ومناقضته.
وكان أبلغ ما قالوه : «وقد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا».. ولكنهم كفوا ألسنتهم فلم يقولوا شيئاً.
هذه واحدة.
واخرى : انه لم ينصب لهم حكماً، بل خلّى بينهم وبين الحكم على ما يأتون به معارضين له ثقة بانصافهم في الحكم على البيان، فهذه التخلية مرتبة من الانصاف لا تدانيها مرتبة.
رابعها : ان الذين اقتدروا على مثل هذه اللغة، وأتوا هذا القدر من تذوق البيان، ومن العلم باسراره، ومن الامانة عليه، ومن ترك الجور في الحكم عليه، يوجب العقل أن يكونوا كانوا قد بلغوا في الاعراب عن انفسهم بألسنتهم المبينة عنهم مبلغاً لا يدانى.
وهذه الصفات تفضي بنا الى التماس ما ينبغي أن تكون عليه صفة كلامهم، إن كان بقي من كلامهم شيء، فالنظر المجرد أيضاً يوجب أمرين في نعت ما خلفوه :
الاول : أن يكون ما بقي من كلامهم شاهداً على بلوغ لغتهم غاية من التمام والكمال والاستواء حتى لا تعجزها الابانة عن شيء مما يعتلج في صدر كل مبين منهم.
الثاني : أن تجتمع فيه ضروب مختلفة من البيان، لا يجزئ أن تكون دالة على سعة لغتهم وتمامها، بل على سجاحتها أيضاً، حتى تلين لكل بيان تطيقه ألسنة البشر على اختلاف ألسنتهم.
فهل بقي من كلامهم شيء يستحق أن يكون شاهداً على هذا، ودليلاً.
نعم، بقي (الشعر الجاهلي).
واذن. ! اذن ينبغي أن نعيد تصور المشكلة وتصور المشكلة وتصويرها، فان النظر المجرد والمنطق المتساوق والتمحيص المتتابع، كل ذلك قد أفضى بنا الى تجريد معنى (اعجاز القرآن) مما شابه وعلق به، حتى خلص لنا أنه من قبل النظم والبيان.
ثم ساقنا الاستدلال الى تحديد صفة القوم الذين تحداهم، وصفة لغتهم، ثم خرج بنا الى طلب نعت كلامهم، ثم التمسنا الشاهد والدليل على الذي أدانا اليه النظر، فاذا هو (الشعر الجاهلي).
واذن، فالشعر الجاهلي هو اساس مشكلة (اعجاز القرآن) كما ينبغي أن يواجهها