خلاصة علم الكلام
0%
مؤلف: الدكتور عبد الهادي الفضيلي
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 339
مؤلف: الدكتور عبد الهادي الفضيلي
تصنيف:
المشاهدات: 28114
تحميل: 7733
توضيحات:
مؤلف: الدكتور عبد الهادي الفضيلي
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 339
مؤلف: الدكتور عبد الهادي الفضيلي
تصنيف:
النبوة
- النبي والنبوة
- عصمة الانبياء
- نبوة نبينا محمد
- اعجاز القرآن
النبوة والنبي
كلمة (نُبوّةُ) مصدر الفعل (نبأ) - المهموز من آخره -، فأصل الكلمة (نبوءة) - بالهمز - ثم خففت بقلب الهمزة واواً وادغامها بالواو الأصلية، كما يقال : مُروءة ومُروّة.
واستدل اللغويون على ذلك بتصغيرها حيث يقال فيها (نُبيئة).
ومعناها - لغة - : الإِنباء والإِخبار - بكسر همزتهما الاولى.
ومنه أخذت النبوة شرعاً إلا أنها قُيّدت بالإِخبار والإِنباء عن اللّه تعالى، وقُصرت على أن يكون المخبر أو المنبئ انساناً.
وسمي الانسان المخبر أو المبلغ عن اللّه تعالى (النبي).
وعرّفه (معجم ألفاظ القرآن الكريم) : «من يصطفيه اللّه من عباده البشر لأن يوحي اليه بالدين والشريعة فيها هداية للناس».
وعرّف النبوة : «منصب النبي وجماع مميزاته وخصائصه التي بها يصير نبياً».
وفي (مجمع البحرين) : «النبي : هو الانسان المخبر عن اللّه بغير واسطة بشر، أعم من أن يكون له شريعة كمحمدصلىاللهعليهوآله أو ليس له شريعة كيحيى (ع)..».
وتعريفه هذا هو تعريف المتكلمين.
و«بقيد (الانسان) يخرج الملك، وبقيد (المخبر عن اللّه) يخرج المخبر عن
غيره، وبقيد (بغير واسطة بشر) يخرج الامام والعالم فانهما مخبران عن اللّه تعالى بواسطة النبي»(١) .
والمميزات والخصائص التي يتم اصطفاء واختيار النبي على اساس منها، هي - باختصار - أن يمثل النبي في شخصيته الانسان في اسمى حالات كماله البدني والخُلقي والعقلي.
وقد اختلف المتكلمون المسلمون في حكم النبوة أو بعث الانبياء من قبل اللّه تعالى الى الناس، على قولين :
١ - الوجوب عقلاً، وهو مذهب المعتزلة.
٢ - الجواز عقلاً، وهو مذهب الاشاعرة.
وحجة المعتزلة :
ان التكاليف الشرعية ألطاف في التكاليف العقلية، بمعنى ان الانسان المكلف متى واظب على الامتثالات الشرعية كان أقرب الى التكاليف العقلية.
وبتعبير آخر :
ان التبليغ الذي يأتي به الانبياء تشريعاً من اللّه يأتي موافقاً لما يحكم به العقل، بمعنى انه لا يمتنع عند العقل.
واللطف واجب لانه هو الذي يحصّل غرض الشارع المكلف.
ومتى لم يجب لزم نقض غرض الشارع المكلف.
«بيان الملازمة :
إن المكلِّف اذا علم أن المكلَّف لا يطيع الا باللطف لا يكلفه بدونه، لأنه لو كلفه بدونه كان ناقضاً لغرضه، فيكون الشأن كمن دعا غيره الى طعام وهو يعلم أنه لا يجيبه
___________________
(١) النافع يوم الحشر ٥٨.
الا أن يستعمل معه نوعاً من التأدب، فاذا لم يفعل الداعي ذلك النوع من التأدب كان ناقضاً لغرضه.
فوجوب اللطف يستلزم تحصيل الغرض»(١) .
ولأن اللطف واجب يكون التكليف الشرعي واجباً أيضاً، وهو «لا يمكن معرفته الا من جهة النبي، فيكون وجود النبي واجباً لأن ما لا يتم الواجب الا به فهو واجب»(٢)
ومذهب المعتزلة هذا، هو مذهب الحكماء أو الفلاسفة، واليه ذهب الاماميون أيضاً.
وخلاصته :
أن طبيعة تكوين الانسان الفرد بما تحمل من نوازع الى الخير ونوازع الى الشر.
وطبيعة التفاعل الاجتماعي بين أفراد الانسان التي تتطلب الوقوف أمام نوازع الانسان الشرية أن تتغلب فتضر بالعلاقة الاجتماعية، ان هذه وتلك تقتضيان وجود نظام مستقيم يحقق العدل في العلاقات الاجتماعية، وفي جميع السلوك الانساني.
ولأن وضع هذا النظام من قبل الانسان لا يأتي مستقيماً محققاً للعدل بسبب نقص الانسان، والنقص لا يوجد الكمال لأن فاقد الشيء لا يعطيه، لا بد اذن من أن يكون وضع النظام من قبل المتصف بالكمال المطلق، وهو اللّه تعالى، لطفاً منه بعباده.
ومن هنا يكون بعث الانبياء الى الناس من قبل اللّه تعالى بما يشرعه من شرائع لتنظيم سلوك الانسان فكرياً وعملياً، لطفاً.
واللطف واجب في الحكمة فتجب البعثة.
والمسألة هذه من المسائل التي تقوم على اساس من فكرة التحسين والتقبيح.
__________________
(١) كشف المراد ٢٥٤.
(٢) م. ن ٢٧٣.
ولأن المعتزلة والامامية ومن سار في خطهما يذهبون الى انهما عقليان قالوا بالوجوب العقلي.
ولأن الاشاعرة ومن تبعهم يذهبون الى أنهما شرعيان قالوا بالجواز، نفياً للوجوب العقلي الذي قال به المعتزلة، لا لأصل الوجوب.
سأل رجل الامام الصادق (ع) السؤال التالي :
من أين اثبت الانبياء والرسل ؟
فأجابه الامام (ع) الجواب التالي :
«إنّا لما أثبتنا أن لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنا، وعن جميع ما خلق.
ولما كان ذلك الصانع حكيماً متعالياً لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسوه فيباشرهم ويباشرونه، ويحاجهم ويحاجونه، ثبت أن له سفراء في خلقه، يعبّرون عنه الى خلقه وعباده، ويدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم.
فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه، والمعبرون عنه عز وجل، وهم الانبياء»(١) .
«وتعرف النبوة بثلاثة أشياء :
أولها : أن لا يقرر ما يخالف العقل كالقول بان الباري تعالى اكثر من واحد.
والثاني : أن تكون دعوته للخلق الى طاعة اللّه والاحتراز عن معاصيه.
والثالث : أن يظهر منه عقيب دعواه النبوة معجزة مقرونة بالتحدي مطابقة لدعواه.
والمعجز ، فعل خارق للعادة يعجز عن أمثاله البشر.
والتحدي : هو أن يقول لأمته : ان لم تقبلوا قولي فافعلوا مثل هذا الفعل»(٢) .
_____________________
(١) التربية الدينية ٣١ ط ٥.
(٢) قواعد العقائد للطوسي ٤٥٥.
عصمة الانبياء
اتفق الجميع على لزوم عصمة الانبياء في أداء الرسالة وتبليغها.
واختلفوا فيما عدا ذلك، والاقوال هي :
١ - العصمة في التبليغ واداء الرسالة فقط.
٢ - العصمة عن صدور المعصية مطلقاً كبيرة كانت أو صغيرة، عمداً كان صدورها أو سهواً، وفي جميع السلوك تبليغاً وغيره. وهو قول الامامية.
٣ - العصمة عن صدور المعصية الكبيرة، عمداً كان صدورها أو سهواً.
ذلك أن صدور الصغيرة - في رأيهم - لا يخل بالعصمة. وهو قول المعتزلة.
٤ - العصمة عن صدور المعصية كبيرة وصغيرة عمداً. أي أن صدور المعصية سهواً لا ينافي العصمة. وهو قول الاشاعرة.
وكما اختلفوا في مدى شمول مفهوم العصمة سعة وضيقاً - كما رأينا - اختلفوا في أمدها على قولين، هما :
١ - العصمة مدة التبليغ وأداء الرسالة فقط، وهو قول أهل السنة.
جاء في (الفرق بين الفرق)(١) : «وقالوا (يعني أهل السنة) بعصمة الانبياء عن الذنوب، وتأولوا ما روي عنهم من زلاتهم على انها كانت قبل النبوة».
٢ - العصمة من الولادة حتى آخر العمر. وهو قول الامامية. قال العلامة الحلي(٢) : «انه (يعني النبي) معصوم من أول عمره الى آخره، لعدم انقياد القلوب الى طاعة من عهد منه في سالف عمره انواع المعاصي : الكبائر والصغائر وما تنفر النفس منه».
__________________
(١) ص ٣٤٣.
(٢) الباب الحادي عشر ٦٣.
وفي بيان حقيقة العصمة يقول الشيخ المفيد(١) : «العصمة : لطف يفعله اللّه تعالى بالمكلف بحيث يمنع من وقوع المعصية وترك الطاعة مع قدرته عليهما».
ويقول النصير الطوسي : «العصمة : هي أن يكون العبد قادراً على المعاصي غير مريد لها مطلقاً.
وعدم ارادته أو وجود صارفه يكون من اللّه تعالى لطفاً في حقه، فهو لا يعصي اللّه، لا لعجزه، بل لعدم إرادته، أو لكون صارفه غالباً على ارادته.
فوقوع المعصية منه ممكن بالنظر الى قدرته، وممتنع بالنظر الى عدم ارادته، أو لكون صارفه غالباً على إرادته»(٢) .
ويقول العضد الايجي : «وهي (يعني العصمة) عندنا (يعني الاشاعرة) : أن لا يخلق اللّه فيهم (يعني الانبياء) ذنباً.
وعند الحكماء : ملكة تمنع عن الفجور، وتحصل بالعلم بمثالب المعاصي، ومناقب الطاعات، وتتأكد بتتابع الوحي بالاوامر والنواهي»(٣) .
واستدل لثبوت عصمة بأدلة، منها :
١ - ان النبوة عهد اللّه تعالى، وهو يقول : (لا ينال عهدي الظالمين)، والمعصية ظلم.
٢ - «لو لم يكن الانبياء معصومين لانتفت فائدة البعثة.
واللازم (وهو انتفاء فائدة البعثة) باطل.
فالملزوم ( وهو عدم عصمة الانبياء) مثله، أي باطل أيضاً.
بيان الملازمة :
____________________
(١) النكت الاعتقادية ٤٠٧ - ٤٠٨.
(٢) تلخيص المحصل، رسالة العصمة ٥٢٥.
(٣) المواقف ٣٦٦.
انه اذا جازت المعصية عليهم لم يحصل الوثوق بصحة قولهم لجواز الكذب حينئذٍ عليهم.
واذا لم يحصل الوثوق لم يحصل الانقياد لأمرهم، ونهيهم، فتنتفي فائدة بعثهم، وهو محال»، لان بعثهم فعل اللّه تعالى وهو الحكيم العادل.
٣ - إننا ملزمون باتباع الانبياء لدلالة الاجماع والنقل على وجوب اتباعهم.
فلو كانوا غير معصومين - حسب الفرض - لكان الأمر حينئذ باتباعهم من المحال لانه قبيح.
فيكون صدور الذنب عنهم محالاً، وهو المطلوب(١) .
وبتقرير آخر : «انه لو جاز أن يفعل النبي المعصية أو يخطأ وينسى، وصدر منه شيء من هذا القبيل.
فاما أن يجب اتباعه في فعله الصادر عنه عصياناً أو خطأ.
أو لا يجب.
فان وجب اتباعه فقد جوّزنا فعل المعاصي برخصة من اللّه تعالى، بل أوجبنا ذلك.
وهذا باطل بضرورة الدين والعقل.
وان لم يجب اتباعه فذلك ينافي النبوة التي لا بد أن تقترن بوجوب الطاعة أبداً.
على أن كل شيء يقع منه من فعل أو قول فنحن نحتمل فيه المعصية أو الخطأ فلا يجب اتباعه في شيء من الاشياء فتذهب فائدة البعثة، بل يصبح النبي كسائر الناس ليس لكلامهم ولا لعملهم تلك القيمة العالية التي يعتمد عليها دائماً.
كما لا تبقى طاعة حتمية لاوامره ولا ثقة مطلقة بأقواله وأفعاله»(٢) .
______________________
(١) النافع يوم الحشر ٦٣.
(٢) عقائد الامامية ٨١.
«وما ورد في الكتاب العزيز والاخبار مما يوهم صدور الذنب عنهم فمحمول على ترك الأولى جمعاً بين ما دلّ العقل عليه وبين صحة النقل.
مع أن جميع ذلك قد ذكر له وجوه ومحامل في مواضعه.
وعليك في ذلك بمطالعة كتاب (تنزيه الانبياء) الذي رتبه السيد المرتضى علم الهدى الموسوي (ره) وغيره من الكتب»(١) مثل كتاب (المواقف في علم الكلام) لعضد الدين القاضي الايجي - المقصد الخامس من المرصد الاول من الموقف السادس.
نبوة نبينا محمدصلىاللهعليهوآله
بعد الكلام عن النبوة والانبياء بعامة يتكلم علماء الكلام في نبوة نبينا محمدصلىاللهعليهوآله بخاصة.
فيقولون :
إن النبي محمداًصلىاللهعليهوآله ادّعى النبوة، وظهرت على يديه المعجزات المثبتة لنبوته.
وكل من ادّعى النبوة، وأثبتت المعجزة صحة نبوته فهو نبي حقاً.
وفي هذا الاستدلال ثلاثة امور تتطلب البرهنة عليها، لينهض الاستدلال بالحجية، وهي :
١ - ادعاؤه النبوة.
٢ - ظهور المعجزة على يديه.
٣ - ظهور المعجزة يثبت صحة النبوة.
أما الامر الاول فثابت بالبداهة لاجماع الناس على ذلك وعدم نكرانه من أحد.
والأمر الثاني ثابت بالنقل المتواتر المفيد لليقين.
وفي الامر الثالث قالوا : لو لم تكن المعجزة مثبتة للنبوة، وما كان محمد صادقاً
__________________
(١) النافع يوم الحشر ٦٣ - ٦٤.
بادعائه النبوة، للزم منه اغراء المكلفين من قبل اللّه تعالى باتباع الكاذب، وذلك قبيح لا يفعله ربنا الحكيم العادل.
وأهم معجزاتهصلىاللهعليهوآله : القرآن الكريم.
إعجاز القرآن
انزل اللّه تعالى اكثر من آية قرآنية للاعلان والاعلام بأن القرآن الكريم هو المعجزة الدالة على صحة ادعاء محمد للنبوة، وهو الحجة المثبتة لصحة نبوتهصلىاللهعليهوآله .
وبطلبه من الانس والجن عامة والعرب خاصة مجاراتهم له كان تحديه لهم المقارن لدعواه النبوة.
- قال تعالى : (قل لئن اجتمعت الجن والانس على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) - الاسراء ٨٨ -.
- وقال تعالى : (أم يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون اللّه ان كنتم صادقين فان لم يستجيبوا لكم فاعلموا أن ما انزل بعلم اللّه وألا إله إلا هو فهل انتم مسلمون) - هود ١٣ - ١٤ -.
- وقال تعالى : (وان كنتم في ريب مما أنزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون اللّه ان كنتم صادقين فان لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة اعدت للكافرين) - البقرة ٢٣ - ٢٤ -.
وتتمثل مادة الاعجاز في بلاغة القرآن واسلوبه، في بيانه ونظمه.
ذلك أن لكل اسلوب أدبي خصائصه الفنية التي يفترق ويمتاز بها عما سواه من الاساليب الادبية الاخرى.
وتتمثل كيفية اعجازه بأن من يسمعه أو يقرأه من بلغاء العرب وادبائهم ومتذوقي الوان الفن الادبي العربي يدرك أن اسلوب القرآن الكريم يمتاز بخصائص ترتفع به عن مستوى ما يمكن أن يأتي به أبلغ البلغاء من البشر.
أي أن من يسمعه أو يقرأه «يحكم بانه ليس من كلام البشر، وبذلك يكون دليلاً على أن تاليه عليهم - وهو بشر مثلهم - نبي من عند اللّه مرسل».
«فمن هذا الوجه طولب العرب بالاقرار والتسليم، ومن هذا الوجه تحيرت العرب فيما تسمع من كلام يتلوه عليهم رجل منهم تجده من جنس كلامها لانه نزل بلسانهم - لسان عربي مبين - ثم تجده مبايناً لكلامها».
فهم يتبينون «في نظمه وبيانه انفكاكه من نظم البشر وبيانهم من وجهٍ يحسم القضاء بانه كلام رب العالمين».
ويُستخلص من هذا أمور :
«الاول : ان قليل القرآن وكثيره في شأن الاعجاز سواء.
الثاني : ان الاعجاز كائن في رصف القرآن وبيانه ونظمه، ومباينة خصائصه للمعهود من خصائص كل نظم وبيان في لغة العرب، ثم في سائر لغات البشر، ثم في بيان الثقلين جميعاً : إنسهم وجنهم متظاهرين.
الثالث : ان الذين تحداهم بهذا القرآن قد أوتوا القدرة على الفصل بين الذي هو من كلام البشر والذي هو ليس من كلامهم.
الرابع : ان الذين تحداهم به كانوا يدركون أن ما طولبوا به من الاتيان بمثله، أو بعشر سور مثله مفتريات، هو هذا الضرب من البيان الذي يجدون في انفسهم أنه - خارج من جنس بيان البشر.
الخامس : ان هذا التحدي لم يقصد به الاتيان بمثله مطابقاً لمعانيه، بل أن يأتوا بما يستطيعون افتراءه واختلاقه، من كل معنى أو غرض، مما يعتلج في نفوس البشر.
السادس : ان هذا التحدي للثقلين جميعاً انسهم وجنهم متظاهرين، تحدٍّ ومستمر قائم الى يوم الدين.
السابع : ان ما في القرآن من مكنون الغيب، ومن دقائق التشريع، ومن عجائب آيات اللّه في خلقه، كل ذلك بمعزل عن هذا التحدي المفضي الى الاعجاز، وان كل ما
فيه من ذلك كله يعد دليلاً على أنه من عند اللّه تعالى، ولكنه لا يدل على أن نظمه وبيانه مباين لنظم كلام البشر وبيانهم، وانه بهذه المباينة كلام رب العالمين لا كلام البشر مثلهم»(١) .
ولأن القرآن الكريم المعجزة الخالدة بخلود رسالة محمدصلىاللهعليهوآله ، والمستمرة مع استمرارها، كما هو واضح من الآية الاولى المذكورة في اعلاه، قد يطرح السؤال التالي :
بم يتمثل اعجاز القرآن الكريم الآن، وقد ذهب العرب الفصحاء الذين استقبلوه ايام تنزيله وادركوا بذوقهم الفطري انه كلام اللّه تعالى لسموه في مستوى بيانه ونظمه فوق مستوى كلامهم ؟
وممن أثار هذا التساؤل مالك بن نبي، قال في كتابه (الظاهرة القرآنية) : «ان لكل شعب هواية يصرف اليها مواهبه الخلاقة طبقاً لعبقريته ومزاجه.
فالفراعنة - مثلاً - كان لهم اهتمام بفنون العمارة والرياضيات، يدلنا عليه ما بقي بين أيدينا من آثارهم العظيمة، تلك الآثار التي أثارت اهتمام رجال العلم، مثل الأب (مورو) الذي خصص أحد كتبه لدراسة تصميم الهرم الاكبر، وما يتضمن من نظريات هندسية غريبة وخصائص رياضية وميكانيكية عجيبة.
كما كان اليونان مغرمين بصور الجمال على ما أبدعه فن (فيدياس)، وبآيات المنطق والحكمة على ما جادت به عبقرية (سقراط).
أما العرب في الجاهلية فقد كانت هوايتهم في لغتهم، فلم يقتصروا على استخدامها في ضرورات الحياة اليومية، شأن الشعوب الأخرى. وانما كان العربي يفتن في استخدام لغته، فينحت منها صوراً بيانية لا تقل جمالاً عما كان ينحته فيدياس في المرمر، وما كانت ترسمه ريشة (ليوناردو فانسي) في لوحاته المعلقة في متاحف العالم الكبرى.
فالشعر العربي - كما قال اخي الاستاذ محمود شاكر في مقدمة هذا الكتاب (يعني
__________________
(١) الظاهرة القرآنية : المقدمة للشيخ شاكر ٢٤ - ٢٥.
الظاهرة القرآنية) - : (كان حين انزل اللّه القرآن على نبيهصلىاللهعليهوآله نوراً يضيء ظلمات الجاهلية، ويعكف أهله على بيانه عكوف الوثني للصنم، ويسجدون لآياته سجدة خاشعة لم يسجدوا مثلها لاوثانهم قط، فقد كانوا عبدة البيان قبل ان يكونوا عبدة الاوثان، وقد سمعنا من استخف منهم باوثانهم، ولم نسمع قط منهم من استخف ببيانهم).
هذه صورة الظروف النفسية التي نزل فيها القرآن فكان لاعجازه أن ينفذ الى الأرواح - بصفة عامة في زمن النزول - على هذه السبيل، أي بما ركب في الفطرة العربية من ذوق وبيان.
ثم تغيرت هذه الظروف مع تطورات التاريخ الاسلامي، وفاض طوفان العلوم في أواخر عهد بني أمية والعهد العباسي، فصار ادراك جانب الاعجاز في القرآن بالمعنى الذي حددناه - لغة وإصطلاحاً - من طريق التذوق العلمي، اكثر من أن يكون من طريق الذوق الفطري»(١) .
«وهنا تواجهنا مشكلة الاعجاز في صورتها الجديدة بالنسبة لهذا المسلم - أعني بالنسبة لأغلبية المثقفين ثقافة اجنبية، بل وربما بالنسبة لذوي الثقافة التقليدية في ظروفهم الثقافية والنفسية الخاصة، فلا بد إذن من اعادة النظر في القضية في نطاق الظروف الجديدة التي يمر بها المسلم اليوم، مع الضرورات التي يواجهها في مجال العقيدة والروح.
وعلى رغم ما يبدو في القضية من تعقد، بسبب موقفنا التقليدي إزاءها فاني أعتقد أن مفتاحها موجود في قوله تعالى : (قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن اتبع إلا ما يوحى اليّ)، فاذا اعتبرنا هذه الآية على أنها حجة يقدمها القرآن للنبي كي يستخدمها في جداله المشركين فلا بد أن نتأمل محتواها المنطقي من ناحيتين :
فهي تحمل أولاً اشارة خفية الى أن تكرار الشيء في ظروف معينة يدل على صحته، أي أن سوابقه في سلسلة معينة تدعم حقيقته ك(ظاهرة) بالمعنى الذي يسبغه
__________________
(١) الظاهرة القرآنية ٦٢ - ٦٤.
التحديد العلمي على هذه الكلمة. فالظاهرة : هي (الحدث الذي يتكرر في نفس الظروف مع نفس النتائج).
وهي تحمل في مدلولها ثانياً ربطاً واضحاً بين الرسل والرسالات خلال العصور، وان الدعوة المحمدية يجري عليها أمام العقل ما يجري على هذه الرسالات.
ومن هذا نستخلص أمرين :
١ - انه يصح أن ندرس الرسالة المحمدية في ضوء ما سبقها من الرسالات.
٢ - كما يصح أن ندرس هذه الرسالات في ضوء رسالة محمدصلىاللهعليهوآله على قاعدة أن (حكم العام ينطبق على الخاص قياساً، وحكم الخاص ينطبق على العام استنباطاً).
ولا مانع اذن من أن نعيد النظر في معنى (الاعجاز) في ضوء منطق الآية الكريمة.
وحاصل هذا : اننا اذا اعتبرنا الاشياء في حدود الحدث المتكرر أي في حدود الظاهرة، فالاعجاز هو :
١ - بالنسبة الى شخص الرسول : الحجة التي يقدمها لخصومه ليعجزهم بها.
٢ - وهو بالنسبة الى الدين : وسيلة من وسائل تبليغه.
وهذان المعنيان للاعجاز يضيفان على مفهومه صفات معينة :
أولاً : ان الاعجاز - ك(حجة) - لا بد أن يكون في مستوى ادراك الجميع، والا فاتت فائدته، اذ لا قيمة منطقية لحجة تكون فوق ادراك الخصم، فهو ينكرها عن حسن نية أحياناً.
ثانياً : ومن حيث كونه وسيلة لتبليغ دين : أن يكون فوق طاقة الجميع.
ثالثاً : ومن حيث الزمن : أن يكون تأثيره بقدر ما في تبليغ الدين من حاجة اليه.
وهذه الصفة الثالثة تحدد نوع صلته بالدين الصلة التي تختلف من دين الى آخر باختلاف ضرورات التبليغ.
فهذا هو المقياس العام الذي نراه ينطبق على معنى الاعجاز في كل الظروف المحتملة بالنسبة الى الاديان المنزلة.
فاذا قسنا به في نطاق رسالة موسى (ع) - مثلاً - نرى أن اللّه اختار لهذا الرسول معجزتي اليد والعصا.
واذا تأملناهما وجدناهما ك(حجة) يدعم اللّه بها نبيه يتصفان بانهما :
١ - ليستا من مستوى العلم الفرعوني الذي كان من اختصاص اشخاص معدودين يكوّنون هيئة الكهنوت، بل كانت المعجزة في كلتا صورتيها من مستوى السحر الذي يقع أثره في ادراك الجميع عن طريق المعاينة الحسية دون اجهاد فكر.
٢ - هاتان المعجزتان تتصلان بتاريخ الدين الموسوي لا بجوهره، إذ ليس لليد أو العصا صلة بمعاني هذا الدين ولا بتشريعه، فهما على هذا مجرد توابع للدين، لا من صفاته الملازمة له.
٣ - ودلالة هاتين المعجزتين على صحة الدين محدودة بزمن معين إذ لا نتصور مفعول اليد والعصا كحجة الا في الجيل الذي شاهدهما أو الجيل الذي بلغته تلك الشهادة بالتواتر من التابعين وتابعي التابعين، أي أن مفعوله لا يكون الا في زمن محدد لحكمة ارادها اللّه.
ولو فكرنا في هذه الحكمة لوجدناها انها تتفق مع حقائق نفسية وحقائق تاريخية سجلها الواقع فعلاً، هي :
أولاً : ان القوم الذين يدينون اليوم بدين موسى - أي اليهود - يفقدون - لاسباب نفسية لا سبيل لشرحها هنا - نزعة التبليغ بحيث لا يشعرون بضرورة تبليغ دينهم الى غيرهم من الامم - أي الاميين كما يقولون - حتى اننا اذا استخدمنا لغة الاجتماع قلنا : ان الاعجاز قد ألغاه في هذا الدين عدم الحاجة اليه.
ثانياً : ان مشيئة اللّه قد قدرت أن يأتي عيسى رسولاً من بعد موسى، واتي الدين الجديد لينسخ الدين السابق، فينسخ طبعاً جانب الاعجاز فيه حيث تزول الحجة بزوال
ضرورتها التاريخية.
ثم اتى عيسى بالدين الجديد وبما يتطلب هذا الدين من وسائل لتبليغه، أي بما يتطلب من حجة فاتى باعجازه الخاص بالمعنى المحدد لغة واصطلاحاً كما سبق، فكان لعيسى إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى باذن اللّه.
ولسنا بحاجة ان نكرر بالنسبة الى الدين الجديد ما قدمنا من اعتبارات عامة بالنسبة الى خصائص الاعجاز في الدين السابق حيث ان القضية تتعلق هنا وهناك بالتركيب النفسي الذي عليه الانسان من حيث هو انسان يدرك الأشياء بعقله مع ما في عقله من عجز عن ادراك حقيقة الدين مباشرة ان لم يكن هناك حجة خاصة تسند تلك الحقيقة لدى عقله في صورة اعجاز.
فالاسباب تتكرر وانما يتغير شكلها نظراً لما حدث من تطور في الظروف النفسية والاجتماعية حول الدين الجديد في البيئة التي ينشر فيها عيسى دعوته، تلك البيئة التي تشع عليها الثقافة اليونانية والرومانية.
ولكن دلالة ما أوتي عيسى من إعجاز ستزول أيضاً مع زوال موضوعها ولنفس الأسباب التي ألغت جانب الاعجاز في دين موسى حيث يأتي بعد عيسى رسول جديد ودين جديد يلغيان الدين السابق دين عيسى (ع) فيلغي ضرورة التدليل على صحة الانجيل.
وهكذا تأتي رسالة الرسول الأمين، ولكنها تتسم بصفة خاصة عما سبقها من الرسالات اذ أنها الحلقة الأخيرة في سلسلة البعث.
ويأتي محمد (خاتم الأنبياء) كما ينوه بذلك القرآن، ويشهد به مرور الزمن منذ اربعة عشر قرناً.
وما كانت هذه الميزة التاريخية في الدين الجديد، دون أن يكون أثرها في كل خصائصه وفي نوع إعجازه على وجه الخصوص حيث إن حاجة التبليغ ستبقى مستمرة فيه، سواء من الناحية النفسية لأن كل مسلم - بعكس اليهودي - يحمل في نفسه (مركب التبليغ)، أم من الناحية التاريخية، لأن الدين الجديد - الاسلام - سيكون دين آخر
الزمن، أي الدين الذي لا يعقبه دين سماوي آخر، بل ولا يأتي دين بعده بصور مطلقة، كما تشهد بذلك القرون، حتى ان حاجة الاسلام الى وسائل تبليغه ستبقى ملازمة له من جيل الى جيل، ومن جنس الى جنس، لا يلغيها شيء في التاريخ، وهذا يعني ان هذه الوسائل يجب ألا تكون مثل الاديان الأخرى، مجرد توابع يتركها الدين في الطريق عبر التاريخ بعد مرحلة التبليغ مثل اليد عند موسى او عصاه التي لم يبق لها أثر حتى في متاحف العالم، كما بقيت عصا (توت عنخ آمنون) الذهبية.
وعليه يجب أن يكون إعجاز القرآن صفة ملازمة له عبر العصور والاجيال، وهي صفة يدركها العربي في الجاهلية بذوقه الفطري كعمر (رض) أو الوليد بن المغيرة، أو يدركها بالتذوق العلمي كما فعل الجاحظ في منهجه الذي رسمه لمن جاء بعده.
ولكن المسلم اليوم قد فقد فطرة العربي الجاهلي وامكانيات عالم اللغة في العصر العباسي.
وبرغم هذا فان القرآن لم يفقد بذلك جانب الاعجاز لأنه ليس من توابعه، بل هو من جوهره.
وانما اصبح المسلم مضطراً الى أن يتناوله في صورة اخرى بوسائل اخرى، فهو يتناول الآية من حيث تركيبها النفسي الموضوعي اكثر مما يتناولها من ناحية العبارة، فيطبق في دراسة مضمونها طرق التحليل الباطن.
واذا كانت هذه الضرورة ملحة بالنسبة للمسلم الذي حاول تعقيد عقيدته على اساس ادراك شخصي لقيمة القرآن ككتاب منزل فانها أكثر إلحاحاً بالنسبة لغير المسلم الذي يتناول القرآن كموضوع دراسة أو مطالعة.
فهذه في مجملها الاسباب التي دعتنا الى تطبيق التحليل النفسي بخاصة لدراسة القرآن كظاهرة»(١) .
ولكن الشيخ محمود شاكر يذهب الى ان الاعجاز القرآني لا يزال كما كان مرتبطاً
______________________
(١) الظاهرة القرآنية ٦٦ - ٧١.
بالاسلوب البياني والنظم البلاغي، وسيبقى هكذا، لأن المقارنة بين الاسلوب القرآني واساليب العرب في انتاجهم الأدبي ممكنة وجارية حتى الآن، وذلك لبقاء الشعر الجاهلي الذي يمثل قمة النضج للاسلوب الادبي العربي قائماً عندنا ومدوناً وفي متناول المراجعة.
قال : «فاذا صح أن الاعجاز كائن في رصف القرآن ونظمه وبيانه بلسان عربي مبين وأن خصائصه مباينة للمعهود من خصائص كل نظم وبيان تطيقه قوى البشر في بيانهم، لم يكن لتحديهم به معنى الا أن تجتمع لهم وللغتهم صفات بعينها :
أولها : ان اللغة التي نزل بها القرآن معجزاً، قادرة بطبيعتها هي، أن تحتمل هذا القدر الهائل من المفارقة بين كلامين :
كلام هو الغاية في البيان فيما تطيقه القوى.
وكلام يقطع هذه القوى ببيان ظاهر المباينة له من كل الوجوه.
ثانيها : أن أهلها قادرون على ادراك هذا الحجاز الفاصل بين الكلامين.
وهذا ادراك دال على أنهم قد أوتوا من لطف تذوق البيان، ومن العلم باسراره ووجوهه قدراً وافراً يصح معه أن يتحداهم بهذا القرآن، وأن يطالبهم بالشهادة عند سماعه أن تاليه عليهم نبي من عند اللّه مرسل.
ثالثها : ان البيان كان في أنفسهم أجلّ من أن يخونوا الأمانة فيه، أو يجوزوا عن الانصاف في الحكم عليه.
فقد قرّعهم وعيّرهم وسفّه احلامهم وأديانهم، حتى استخرج أقصى الضراوة في عداوتهم له.
وظل مع ذلك يتحداهم، فنهتهم أمانتهم على البيان عن معارضته ومناقضته.
وكان أبلغ ما قالوه : «وقد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا».. ولكنهم كفوا ألسنتهم فلم يقولوا شيئاً.
هذه واحدة.
واخرى : انه لم ينصب لهم حكماً، بل خلّى بينهم وبين الحكم على ما يأتون به معارضين له ثقة بانصافهم في الحكم على البيان، فهذه التخلية مرتبة من الانصاف لا تدانيها مرتبة.
رابعها : ان الذين اقتدروا على مثل هذه اللغة، وأتوا هذا القدر من تذوق البيان، ومن العلم باسراره، ومن الامانة عليه، ومن ترك الجور في الحكم عليه، يوجب العقل أن يكونوا كانوا قد بلغوا في الاعراب عن انفسهم بألسنتهم المبينة عنهم مبلغاً لا يدانى.
وهذه الصفات تفضي بنا الى التماس ما ينبغي أن تكون عليه صفة كلامهم، إن كان بقي من كلامهم شيء، فالنظر المجرد أيضاً يوجب أمرين في نعت ما خلفوه :
الاول : أن يكون ما بقي من كلامهم شاهداً على بلوغ لغتهم غاية من التمام والكمال والاستواء حتى لا تعجزها الابانة عن شيء مما يعتلج في صدر كل مبين منهم.
الثاني : أن تجتمع فيه ضروب مختلفة من البيان، لا يجزئ أن تكون دالة على سعة لغتهم وتمامها، بل على سجاحتها أيضاً، حتى تلين لكل بيان تطيقه ألسنة البشر على اختلاف ألسنتهم.
فهل بقي من كلامهم شيء يستحق أن يكون شاهداً على هذا، ودليلاً.
نعم، بقي (الشعر الجاهلي).
واذن. ! اذن ينبغي أن نعيد تصور المشكلة وتصور المشكلة وتصويرها، فان النظر المجرد والمنطق المتساوق والتمحيص المتتابع، كل ذلك قد أفضى بنا الى تجريد معنى (اعجاز القرآن) مما شابه وعلق به، حتى خلص لنا أنه من قبل النظم والبيان.
ثم ساقنا الاستدلال الى تحديد صفة القوم الذين تحداهم، وصفة لغتهم، ثم خرج بنا الى طلب نعت كلامهم، ثم التمسنا الشاهد والدليل على الذي أدانا اليه النظر، فاذا هو (الشعر الجاهلي).
واذن، فالشعر الجاهلي هو اساس مشكلة (اعجاز القرآن) كما ينبغي أن يواجهها