خلاصة علم الكلام
0%
مؤلف: الدكتور عبد الهادي الفضيلي
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 339
مؤلف: الدكتور عبد الهادي الفضيلي
تصنيف:
المشاهدات: 28109
تحميل: 7733
توضيحات:
مؤلف: الدكتور عبد الهادي الفضيلي
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 339
مؤلف: الدكتور عبد الهادي الفضيلي
تصنيف:
العقل الحديث.
وليس اساس هذه المشكلة هو تفسير القرآن على المنهج القديم، كما ظن اخي مالك، وكما يذهب اليه اكثر من بحث أمر إعجاز القرآن على وجه من الوجوه.
ولكن الشعر الجاهلي قد صب عليه بلاء كثير، آخرها وأبلغها فساداً وإفساداً ذلك المنهج الذي ابتدعه (مركَليوث) لينسف الثقة به، فيزعم أنه شعر مشكوك في روايته وانه موضوع بعد الاسلام.
وهذا المكر الخفي الذي مكره مركليوث وشيعته وكهنته، والذي ارتكبوا له من السفسطة والغش والكذب ما ارتكبوا كما شهد بذلك رجل من جنسه هو (آربري)، كان يطوي تحت ادلته ومناهجه وحججه إدراكاً لمنزلة الشعر الجاهلي في شأن اعجاز القرآن لا إدراكاً صحيحاً مستبيناً، بل إدراكاً خفياً مبهماً، تخالطه ضغينة مستكينة للعرب والاسلام.
وهذا المستشرق وشيعته وكهنته كانوا أهون شأناً من أن يحوزوا كبيراً بمنهجهم الذي سلكوه، وادلتهم التي احتطبوها لما في تشكيكهم من الزيف والخداع، ولكنهم بلغوا ما بلغوا من استفاضة مكرهم وتغلغله في جامعاتنا، وفي العقل الحديث في العالم الاسلامي، بوسائل أعانت على نفاذهم، ليست من العلم ولا من النظر الصحيح في شيء.
وقد استطاع رجاله من أهل العلم أن يسلكوا الى إثبات صحة الشعر الجاهلي مناهج لا شك في صدقها وسلامتها بلا غش في الاستدلال وبلا خداع في التطبيق وبلا مراء في الذي يسلم به صريح العقل وصريح النقل، الا انهم لم يملكوا بعدُ من الوسائل ما يتيح لهم أن يبلغوا بحقهم ما بلغ اولئك بباطلهم.
وقد ابتليت أنا بمحنة الشعر الجاهلي عندما ذر قرن الفتنة أيام كنت طالباً في الجامعة، ودارت بي الايام حتى انتهيت الى ضرب آخر من الاستدلال على صحة الشعر الجاهلي لا عن طريق روايته وحسب، بل من طريق أخرى هي ألصق بامر اعجاز القرآن.
فاني محصت ما محصت من الشعر الجاهلي حتى وجدته يحمل هو نفسه في نفسه أدلة
صحته وثبوته، إذ تبينت فيه قدرة خارقة على البيان.
وتكشف لي عن روائع كثيرة لا تحد، واذا هو عَلَم فريد منصوب لا في آداب العربية وحدها، بل في آداب الأمم قبل الاسلام وبعد الاسلام.
وهذا الانفراد المطلق، ولا سيما انفراده بخصائصه عن كل شعر بعده من شعر العرب انفسهم، هو وحده دليل كاف على صحته وثبوته.
ولقد شغلني اعجاز القرآن كما شغل العقل الحديث، ولكن شغلني أيضاً هذا الشعر الجاهلي وشغلني اصحابه فأديّ بي طول الاختبار والامتحان والدراسة الى هذا المذهب الذي ذهبت اليه، حتى صار عندي دليلاً كافياً على صحته وثبوته.
فأصحابه الذين ذهبوا ودرجوا وتبددت في الثرى أعيانهم رأيتهم في هذا الشعر أحياء يغدون ويروحون، رأيت شابهم ينزو به جهله وشيخهم تدلف به حكمته، ورأيت راضيهم يستنير وجهه حتى يشرق، وغاضبهم تربد سحنته حتى تظلم، ورأيت الرجل وصديقه، والرجل وصاحبته، والرجل الطريد ليس معه أحد، ورأيت الفارس على جواده، والعادي على رجليه، ورأيت الجماعات في مبداهم ومحضرهم، فسمعت غزل عشاقهم، ودلال فتياتهم، ولاحت لي نيرانهم وهم يصطلون، وسمعت أنين باكيهم وهم للفراق مزمعون.
كل ذلك رأيته وسمعته من خلال ألفاظ هذا الشعر، حتى سمعت في لفظ الشعر همس الهامس وبحة المستكين وزفرة الواجد وصرخة الفزع، وحتى مثلوا بشعرهم نصب عيني كأني لم أفقدهم طرفة عين ولم أفقد منازلهم ومعاهدهم ولم تغب عني مذاهبهم في الارض ولا مما أحسوا ووجدوا، ولا مما سمعوا وأدركوا ولا مما قاسوا وعانوا، ولا خفي عني شيء مما يكون به الحي حياً في هذه الارض التي بقيت في التاريخ معروفة باسم (جزيرة العرب).
وهذا الذي أفضيت اليه من صفة الشعر الجاهلي - كما عرفته - أمر ممكن لمن اتخذ لهذه المعرفة اسبابها بلا خلط ولا لبس ولا تهاو ولا ملل.
وهذه المعرفة هي أول الطريق الى دراسة شعر أهل الجاهلية من الوجه الذي يتيح
لنا أن نستخلص منه دلالته على أنه شعر قد انفرد بخصائصه عن كل شعر جاء بعده من شعر أهل الاسلام.
فاذا صح ذلك - وهو عندي صحيح لا أشك فيه - وجب أن ندرس هذا الشعر دراسة متعمقة ملتمسين فيه هذه القدرة البيانة التي يمتاز بها أهل الجاهلية عمن جاء بعدهم، ومستنبطين من ضروب البيان المختلفة التي أطاقتها قوى لغتهم وألسنتهم.
فاذا تم لنا ذلك فمن الممكن القريب يومئذ أن نتلمس في القرآن الذي أعجزهم بيانه خصائص هذا البيان المفارق لبيان البشر»(١) .
وذهب السيد الطباطبائي الى أن القرآن الكريم بصفته معجزة خالدة هو معجز في المعنى كما هو معجز في المبنى، قال في تفسير الآية : (قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) :
وفي الآية تحد ظاهر، وهي ظاهرة في أن التحدي بجميع ما للقرآن من صفات الكمال الراجعة الى لفظه ومعناه لا بفصاحته وبلاغته وحدها، فان انضمام غير أهل اللسان اليهم لا ينفع في معارضة البلاغة شيئاً، وقد اعتنت الآية باجتماع الثقلين واعانة بعضهم لبعض.
على أن الآية ظاهرة في دوام التحدي، وقد انقرضت العرب العرباء أعلام الفصاحة والبلاغة اليوم فلا أثر منهم، والقرآن باق على اعجازه متحدٍّ بنفسه كما كان»(٢) .
وخلاصة ما انتهى اليه مالك بن نبي في دراسته هي :
١ - ان النبوة ظاهرة دينية مستمرة تتكرر بانتظام منذ أول نبي بعث الى البشر حتى خاتمهم نبينا محمدصلىاللهعليهوآله .
واستمرار ظاهرة تتكرر بنفس الكيفية يعتبر شاهداً علمياً يمكن استخدامه لتقرير
____________________
(١) الظاهرة القرآنية - المقدمة ٢٦ - ٣٢.
(٢) الميزان ١٣ / ٢٠١.
مبدأ وجودها بشرط التثبت من صحة هذا الوجود بالوقائع المتفقة مع العقل ومع طبيعة المبدأ.
٢ - وكما أن النبوة ظاهرة دينية إلهية تميزت بخصائصها التي بها تعرف وتنازعها سواها من النبوات عير الالهية.
كذلك الوحي الالهي المدون في الصحف والكتب - هو الآخر - يشكل ظاهرة دينية إلهية اخرى منذ صحف ابراهيم (ع) حتى قرآن محمدصلىاللهعليهوآله ، وقد عبّر عنها ب(الظاهرة القرآنية).
فالصحف والكتب المنزلة من اللّه تعالى على انبيائه ورسله لانها ظاهرة، لها خصائصها الخاصة بها، ومعالمها التي تعرف بها وتمتاز بها عما سواها من الكتب غير الالهية والأخرى المحرّفة.
٣ - ان المقارنة بين القرآن بغية معرفة أنه حلقة خاتمة في سلسلة ظاهرة الوحي الالهي المدوّن (الظاهرة القرآنية) أو (ظاهرة الكتاب السماوي)، ينبغي أن تعتمد دراسة كتاب النبي الاسرائيلي (أرمياء)، وذلك لأن البروفسور مونتيه montet قد توصل في دراسته للوثائق الدينية في كتابه الموسوم ب(تاريخ الكتاب المقدس) الى تجريد الكتاب المقدس من كل صفات الصحة التاريخية فيما عدا كتاب (ارمياء).
كما أن مجمع أساقفة نيقية قد ألغى كثيراً من أخبار الانجيل مما زرع الشك حول ما تبقى منه.
أما القرآن الكريم فقد امتاز بميزة فريدة هي أنه تنقل منذ نزوله حتى الآن دون أن يتعرض لادنى تحريف أو ريب.
وهذا ما يعطيه الصلاحية لئن يعتمد عليه في المقارنة كوثيقة تاريخية مطلقة الصحة.
وقد انهت المقارنة مالك بن نبي الى النتيجة التي هدف اليها من أن القرآن الكريم
٢٨٥
استمرار لظاهرة الوحي الالهي المدون، كما أن نبوة نبينا محمدصلىاللهعليهوآله استمرار لظاهرة النبوة والبعث الالهي للانبياء والرسل(١) .
______________________
(١) يقرأ : كتاب الظاهرة القرآنية.
الامامة
- الامامة
- العصمة
الامامة
الامامة : - لغة - مصدر على زنة (فِعالة) المضاعف، يقال : أَمَّ القوم وبالقوم يؤُمهم أَمَّاً وإماماً وإمامة، مثل : كتب يكتب كَتْباً وكِتاباً وكتابة.
واسم الفاعل من الفعل (أم يؤم) : (آم)، (أصله آمم) ثم ادغم مثلاه.
ولكن غلب استعمال المصدر فيه فقيل : إمام - بصيغة المذكر - للمذكر والمؤنث، ويجمع على (أيمة) بالياء، و(أئمة) بالهمزة.
ومعناه - معجمياً - : القدوة، أو من يقتدى به في قوله أو فعله، سواء كان محقاً أو مبطلاً.
واستعمل في القرآن الكريم في الامام المحق كما في قوله تعالى : (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) - الانبياء ٧٣ -، وفي الامام المبطل كما في قوله تعالى (فقاتلوا ائمة الكفر) - التوبة ١٢ -
وكلامياً :
عرّف النصير الطوسي الامامة بقوله : «الامامة : رياسة عامة دينية مشتملة على ترغيب عموم الناس في حفظ مصالحهم الدينية والدنياوية وزجرهم عما يضرهم بحسبها»(١) .
____________________
(١) قواعد العقائد ٤٥٧.
وعرفها العلامة الحلي بقوله : «الامامة : رياسة عامة في أمور الدين والدنيا لشخص من الاشخاص نيابة عن النبي - ص -»(١) .
وعرفها العضد الايجي بقوله : «هي خلافة الرسولصلىاللهعليهوآله في إقامة الدين بحيث يجب اتباعه (يعني الامام) على كافة الامة»(٢) .
«وعرفها الماوردي بما نصه : الامامة : موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا»(٣) .
وبالقاء شيء من الضوء على هذه التعاريف المذكورة وأمثالها يتبين لنا أن الشيعة يؤكدون على أن الامامة تشمل في وظيفتها السلطتين : الروحية والزمنية.
وبتعبير قانوني مدني : السلطتين : الدينية والمدنية (السياسة)، وذلك لأن السنة - كما سنرى - قصروا وظيفة الامامة في الشؤون السياسية.
وفي هذا الضوء يأتي تعريف الايجي - وهو من أعلام متكلمة السنة - غير موائم لما ذهبوا اليه.
واختلف في الامامة : هل هي من أصول الدين أو من فروعه ؟.
ذهب الى الاول اصحابنا الامامية، قال استاذنا الشيخ المظفر : «نعتقد أن الامامة أصل من أصول الدين»(٤) .
وذهب الى الثاني أهل السنة، قال العضد الايجي : «المرصد الرابع في الامامة ومباحثها : عندنا من الفروع، وإنما ذكرناها في علم الكلام تأسياً بمن قبلنا»(٥) .
__________________
(١) الباب الحادي عشر ٤٦.
(٢) المواقف ٣٩٥.
(٣) الاسلام والخلافة ١٩ نقلاً عن : الاحكام السلطانية ٣.
(٤) عقائد الامامية ٩٣.
(٥) المواقف ٣٩٥.
وقال الآمدي : «واعلم أن الكلام في الامامة ليس من أصول الديانات»(١) .
وكما اختلف في أن الامامة أصل أو فرع، اختلف أيضاً في وجوبها ونفيه.
بمعنى : هل يلزم نصب امام للمسلمين أو لا يلزم ؟ ؟.
فذهب بعض الخوارج الى انها غير واجبة..
وذهب الباقون من الفرق الاسلامية الى وجوبها.
واختلف القائلون بوجوبها في دليله (أعني دليل وجوب نصب الامام) على قولين
١ - ذهب اهل السنة :
الى أن نصب الامام واجب سمعاً لا عقلاً، أي أن دليل الوجوب هو النقل لا العقل.
٢ - ذهب المعتزلة والشيعة :
الى أن نصب الامام واجب عقلاً، أي أن دليل الوجوب دليل عقلي.
ثم اختلف القائلون بالوجوب العقلي في من يجب عليه نصب الامام على قولين :
١ - ذهب المعتزلة الى انه واجب على العقلاء (اي الناس)، ومثلهم في هذا أهل السنة.
٢ - ذهب الامامية والاسماعيلية الى انه واجب على اللّه.
واختلف القائلون بوجوبه على اللّه في الغاية والغرض من الوجوب على قولين هما :
١ - ذهب الامامية : انه لحفظ قوانين الشرع.
٢ - ذهب الاسماعيلية ليكون معرفاً للّه تعالى.
ويمكننا أن نلخص هذه الاقوال بالتالي :
__________________
(١) غاية المرام ٣٦٣.
الامامة او
نصب الامام
غير واجب واجب
على الناس على اللّه
ونخلص من هذه أيضاً الى أن في المسألة قولين رئيسين هما :
١ - ان نصب الامام يتم عن طريق اختيار الناس له. وهو قول المعتزلة والسنة والاباضية.
٢ - ان نصب الامام يتم عن طريق تعيينه بالنص عليه من قبل اللّه تعالى، وهو قول الشيعة.
بيان دليل أهل السنة :
قال العضد الايجي : «وأما وجوبه علينا سمعاً فلوجهين :
الاول : أنه تواتر اجماع المسلمين في الصدر الاول بعد وفاة النبيصلىاللهعليهوآله على امتناع خلو الوقت عن إمام، حتى قال ابو بكر (رضي) في خطبته : (ألا إن محمداً قد مات، ولا بد لهذا الدين ممن يقوم به) فبادر الكل الى قبوله، وتركوا له أهم الاشياء، وهو دفن رسول اللّهصلىاللهعليهوآله .
ولم يزل الناس على ذلك في كل عصر الى زماننا هذا من نصب إمام متبع في كل عصر.
فان قيل : لا بد للاجماع من مستند، ولو كان، لَنُقِلَ، لتوفر الدواعي.
قلنا : استغني عن نقله بالاجماع، أو كان من قبيل ما لا يمكن نقله من قرائن الاحوال التي لا يمكن معرفتها الا بالمشاهدة والعيان لمن كان في زمن النبيصلىاللهعليهوآله .
الثاني : أن فيه دفع ضرر مظنون وأنه واجب إجماعاً.
بيانه : أنا نعلم علماً يقارب الضرورة أن مقصود الشارع فيما شرع من المعاملات والمناكحات والجهاد والحدود والمقاصات واظهار شعار الشرع في الاعياد والجمعات، انما هو مصالح عائدة الى الخلق معاشاً ومعاداً، وذلك لا يتم الا بامام يكون من قبل الشارع يرجعون اليه فيما يعن لهم، فانهم - مع اختلاف الاهواء وتشتت الآراء، وما بينهم من الشحناء - قلما ينقاد بعضهم لبعض، فيفضي ذلك الى التنازع والتواثب، وربما أدّى الى هلاكهم جميعاً، ويشهد له التجربة، والفتنن القائمة عند موت الولاة الى نصب آخر، بحيث لو تمادى لعطلت المعايش، وصار كل أحد مشغولاً بحفظ ماله ونفسه تحت قائم سيفه، وذلك يؤدي الى رفع الدين وهلاك جميع المسلمين.
فان قيل : وفيه اضرار، وأنه منفي بقولهعليهالسلام : (لا ضرر ولا ضرار في الاسلام).
وبيانه من ثلاثة أوجه :
الاول : تولية الانسان على من هو مثله ليحكم عليه فيما يهتدي اليه وفيما لا يهتدي إضرار به لا محالة.
الثاني : قد يستنكف عنه بعضهم كما جرت به العادة، فيفضي الى الفتنة.
الثالث : أنه لا يجب عصمته - كما سيأتي - فيتصور منه الكفر والفسوق، فان لم يعزل أضر بالامة بكفره وفسقه، وان عزل أدى الى الفتنة.
قلنا : الاضرار اللازم من تركه أكثر بكثير، ودفع الضرر الاعظم عند التعارض واجب»(١) .
__________________
(١) المواقف ٣٩٥ - ٣٩٦.
بيان دليل الشيعة :
قال الفاضل المقداد : ان الامامة لطف، وكل لطف واجب على اللّه، فالامامة واجبة على اللّه تعالى.
أما الكبرى فقد تقدم بيانها.
وأما الصغرى فهو أن اللطف - كما عرفت - ما يقرب العبد الى الطاعة ويبعده عن المعصية، وهذا المعنى حاصل في الامامة.
وبيان ذلك : أن من عرف عوايد الدهماء وجرب قواعد السياسة، علم ضرورةً أن الناس اذا كان لهم رئيس مطاع مرشد فيما بينهم يردع الظالم عن ظلمه والباغي عن بغيه وينتصف للمظلوم من ظالمه، ومع ذلك يحملهم على القواعد العقلية والوظائف الدينية ويردعهم عن المفاسد الموجبة لاختلال النظام في امور معاشهم وعن القبائح الموجبة للوبال في معادهم بحيث يخاف كل مؤاخذته على ذلك، كانوا مع ذلك الى الصلاح أقرب ومن الفساد أبعد، ولا نعني باللطف الا ذلك، فتكون الامامة لطفاً وهو المطلوب.
واعلم : أن كل ما دل على وجوب النبوة فهو دال على وجوب الامامة، اذ الامامة خلافة عن النبوة، قائمة مقامها الا في تلقي الوحي الالهي بلا واسطة، وكما أن تلك واجبة على اللّه تعالى في الحكمة، فكذا هذه»(١) .
ويرجع هذا الاختلاف بين المذهبين الشيعي والسني الى مدى سعة وضيق جهة الالتقاء بين النبوة والامامة.
ذلك أن الشيعة يرون أن الامامة في وظيفتها هي امتداد للنبوة، فكما كانت وظيفة النبي تتمثل في ممارسته للسلطتين الدينية والسياسية، وان السلطة السياسية هي من الدين وليست اجتهاداً من النبي لأن النبي - في رأيهم - غير ممكن أن يرجع الى اجتهاد، لأن الاجتهاد عرضة للخطأ، ولأن نتائجه ظنية، والنبي معصوم، والمعصوم لا يخطأ.
مضافاً اليه : أن احكامه التي يقوم بتطبيقها بصفته رئيساً للدولة، أي سياسياً،
__________________
(١) النافع يوم الحشر ٦٧ - ٦٨.
هي أحكام واقعية، بمعنى انها علم يقيني لا مجال للظن فيها، لانها نابعة من انكشاف واقع القضية لديه موضوعاً وحكماً لا من استخدامه وسيلة الاجتهاد التي قد تصيب وقد تخطئ، وذلك لاتصالهصلىاللهعليهوآله بالوحي، وعدم صدور أي سلوك منه لا يلتقي مع ما يوحي به اليه، فهو في الواقع لا يحتاج الى الاجتهاد، لان الاجتهاد طريق موصل الى الحكم لدى من ليس له طريق آخر مأمون العثار والخطأ ومضمون الاصابة والوصول الى الحكم بواقعه وهو طريق الوحي.
كذلك وظيفة الامامة تتمثل في ممارسة الامام للسلطتين الدينية والسياسية.
بينما ذهب أهل السنة الى أن الامامة وظيفة سياسية تعتمد على اجتهاد الامام، كما كان الرسول - كما يرون - يعتمد في سياسته بصفته رئيساً للدولة على اجتهاده، ذلك انهم «فرقوا بين احكام الدين واحكام السياسة، ومالوا الى اعتبار الرسول مجتهداً في الشؤون السياسة وكل ما يتصل بسلطته الزمنية، يقول ابن القيم : السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب الى الصلاح وأبعد عن الفساد، وان لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي، ومن قال لا سياسة الا بما نطق به الشرع فقد غَلَطَ وغَلّطَ الصحابة»(١) .
فالسنة - كما هو واضح مما تقدم - يفصلون بين احكام الدين واحكام السياسة كالذي هو معروف حالياً في الفكر القانوني المعاصر، والذي يوسم ب(نظرية الفصل بين الدين والدولة).
ونخلص من هذا الى أن الشيعة انما قالوا بان وجوب نصب الامام بالنص أو التعيين من اللّه، لأن الامام عندهم امتداد لوظيفة النبوة روحياً وسياسياً، فكما أن النبي يعين من قبل اللّه تعالى كذلك الامام.
أما السنة فلأنهم فصلوا بين السلطتين الروحية والزمنية واعتبروا الامام قائماً بوظيفة النبي الزمنية أو السياسية، وهي تعتمد الاجتهاد، قالوا يتم نصبه عن طريق اختيار الناس له.
____________________
(١) الزيدية ٣٠ ونص ابن القيم منقول عن الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص ٧.
وحاول الدكتور احمد محمد صبحي في كتابه (الزيدية) أن يدافع عن أهل السنة ويدفع عنهم القول بالفصل بين الدين والدولة بقوله : «على أنه من الخطأ تصور موقف أهل السنة فصلاً بين السياسة والدين، وانما هو مجرد تفرقة بين شرعٍ مصدره الكتاب والسنة وسياسةٍ قائمة على الاجتهاد الذي هو بدوره مصدر من مصادر التشريع في الاسلام، ولم يُعرف الفصل التام بين السياسة والدين الا بعد سقوط الخلافة العثمانية، وبتأثير من الفكر السياسي الاوربي»(١) .
والمستغرب من الدكتور صبحي أنه لم يفرق بين المصدر والوسيلة، فاعتد الاجتهاد - وهو وسيلة ينتهجها المجتهد لاستنباط واستخراج الحكم الشرعي من مصدره وهما الكتاب والسنة - مصدراً من مصادر التشريع.
وظني أنه التبس الأمر عليه بين القياس وامثاله من مصادر اخرى غير الكتاب والسنة، وبين الاجتهاد، ولم يدرك أن الاجتهاد طريقة يستخدمها المجتهد لأخذ الحكم من هذه المصادر.
فالقياس والاجماع والاستحسان وأمثالها أمور قائمة في واقها كالكتاب والسنة، والفارق ان من لم يكن مجتهداً لا يقوى على استفادة الحكم منها، وبعكسه من كان مجتهداً فانه يستطيع اذا استعمل اجتهاده أن يستفيد الحكم منها.
وبالاضافة الى ما تقدم استدل كل من الشيعة والسنة بالقرآن الكريم على رأيه في وجوب نصب الامام بالتعيين الالهي أو الاختيار من قبل الناس.
دليل السنة :
استدل أهل السنة بقوله تعالى : (وأمرهم شورى بينهم) - الشورى ٣٨ -.
والشورى - لغة - اسم من المشاورة، يقال : شورى ومشاورة وتشاور ومَشُوْرَةَ - بضم الشين وسكون الواو - ومَشْوَرَة - بسكون الشين وفتح الواو -.
وتعني المفاوضة في الكلام بمراجعة البعض الى البعض لاستخراج الرأي.
____________________
(١) ص ٣٠.
وهي من قولهم (شرت العسل) اذا اتخذته من موضعه واستخرجته منه.
وتطلق أيضاً على الأمر الذي يتشاور فيه، يقال : (صار هذا الشيء شورى بين القوم) اذا تشاوروا فيه.
وذكر في سبب نزول الآية الكريمة أن الانصار كانوا قبل قدوم النبيصلىاللهعليهوآله المدينة المنورة اذا أرادوا أمراً تشاوروا فيه ثم عملوا عليه، فمدحهم اللّه تعالى به.
وتقرير الاستدلال بها :
أن الآية الكريمة مطلقة لأن مورد النزول هنا ليس بقرينة مقيدة.
والاطلاق يقتضي حملها على كل أمر يطلب فيه التشاور ما عدا الاحكام والحدود الشرعية لانها خارجة بالتخصص لدليل العقل القاضي بان عدم خروجها من هذا الاطلاق يستلزم إلغاء تشريعها.
ولأن الخلافة لم يرد فيها نص شرعي يبين كيفيتها وشروطها ومواصفاتها تندرج تحت ما يطلب فيه المشورة أو الشورى.
والذي يلاحظ على هذا الاستدلال :
١ - ان الآية ليست في مقام التشريع، وانما هي في مقام بيان أهمية وقيمة التشاور في الامور العامة التي تتطلب ذلك.
وهذا يقتضينا عدم الأخذ بها اذا كان في القرآن الكريم ما يفاد منه تشريع الخلافة كما في الآية الآتية التي استدل بها الشيعة على ذلك.
٢ - ان الآية لم تبين من الذين يقتضي أن يقوموا بمهمة التشاور، وعليه لا بد من الاحتياط المبرئ لذمة المكلف من مسؤولية التكليف والخروج من عهدتها بجمع كل الاطراف المعنية وادخالها في عملية التفاوض والتشاور.
وهذا ما لم يتحقق تاريخياً منذ اختيار اول خليفة حتى عهدنا الحاضر، والامر من الوضوح بمكان لا يفتقر معه الى إقامة دليل.
دليل الشيعة :
واستدل الشيعة بقوله تعالى : (واذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال اني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) - البقرة ١٢٤ -.
وتقرير الاستدلال بالآية الكريمة :
١ - أن الآية صريحة في ان الامامة لا تكون لأحد الا بجعل من اللّه تعالى، أي بتعيين منه.
٢ - ان الامامة عهد اللّه، أي مسؤولية إلهية مهمة فلا تناط الا بمن لديه أهلية القيام بها، وهي أن يكون غير ظالم لنفسه أو لغيره، وهذا لا يتحقق الا اذا كان الامام معصوماً، لأن العصمة ملكة ثابتة ودائمة، وبعكسها العدالة فانها قابلة للحدوث والتجدد، ففي حالة زوالها تزول معها الامامة، لأن المشروط عدم عند عدم شرطه.
وجاء في بعض تفسيرات الآية : أن المراد بالامامة هنا النبوة، ورده السيد الطباطبائي بقوله: قوله تعالى : (اني جاعلك للناس إماماً) أي مقتدى يقتدي بك الناس، ويتبعونك في أقوالك وأفعالك.
فالامام هو الذي يقتدي ويأتم به الناس، ولذلك ذكر عدة من المفسرين أن المراد به النبوة، لأن النبي تقتدي به أمته في دينهم، قال تعالى : (وما ارسلنا من رسول الا ليطاع باذن اللّه) - النساء ٦٣ -، لكنه في غاية السقوط.
أما أولاً ، فلأن قوله : (إماماً) مفعول ثانٍ لعامله الذي هو قوله : (جاعلك) واسم الفاعل لا يعمل اذا كان بمعنى الماضي، وانما يعمل اذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال، فقوله : (اني جاعلك للناس إماماً) وعدله -عليهالسلام - بالامامة في ما سيأتي، مع أنه وحي لا يكون الا مع نبوة، فقد كان (ع) نبياً قبل تقلده الامامة، فليست الامامة في الآية بمعنى النبوة (ذكره بعض المفسرين).
وأما ثانياً : فلأنا بيّنا في صدر الكلام : أن قصة الامامة انما كانت في أواخر عهد ابراهيم (ع) بعد مجيء البشارة له باسحق واسماعيل، وانما جاءت الملائكة بالبشارة في
مسيرهم الى قوم لوط وإهلاكهم، وقد كان ابراهيم حينئذٍ نبياً مرسلاً، فقد كان نبياً قبل أن يكون إماماً، فامامته غير نبوته»(١) .
وفي حديث الامام الصادق (ع) : «وقد كان ابراهيم نبياً وليس بامام حتى قال اللّه : (اني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) من عَبَدَ صنماً أو وثناً لا يكون إماماً»(٢) . وذلك تطبيقاً منهعليهالسلام للآية الكريمة : (ان الشرك لظلم عظيم) - لقمان ١٣ -.
ولان ابا بكر الصديق (رض) كان قبل اسلامه مشركاً لا يكون - كما يرون - مؤهلاً للامامة الالهية.
ومن هنا كان النص من اللّه تعالى على الامام علي (ع) لانه لم يسبق منه شرك أو ظلم لنفسه بالشرك أو بغيره.
وما دمنا وصلنا الى هذا لا بأس بصرف عنان البحث الى ذكر أدلة كل من الطرفين على الامام الخاص بعد النبيصلىاللهعليهوآله .
أدلة السنة على إمامة ابي بكر :
١ - النص الجلي :
استدل السنة الذين يرون أن النبي نص على أبي بكر نصاً جلياً بالحديث المشهور وهو :
(ان امرأة أتت الى النبيصلىاللهعليهوآله لتسأله أمراً من الامور فأجابها وطلب منها أن ترجع اليه متى أرادت، فقالت : أرأيتَ أن جئتُ فلم أجدك ؟ قال : ان لم تجديني فاتي ابا بكر).
وبالحديث الآخر :
_____________________
(١) الميزان ١ / ٢٧٠ - ٢٧١.
(٢) مجمع البحرين ١ / ٤٠٦.
(اقتدوا باللذين من بعدي : ابي بكر وعمر).
وبحديث ابي هريرة :
(قال : سمعت رسول اللّهصلىاللهعليهوآله قال : بينما أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو، فنزعت منها ما شاء اللّه، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوباً أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، واللّه يغفر له ضعفه، ثم استحالت غرباً، فأخذها عمر بن الخطاب، فلم أر عبقرياً من الناس ينزع نزع عمر حتى ضرب الناس بعطن).
٢ - النص الخفي :
واستدل أهل السنة الذين يذهبون الى أن إمامة أبي بكر ثبتت بالنص الخفي بالواقعة المشهورة، وهي :
«ان الرسول في اثناء مرضه أمر أن يؤم ابو بكر المسلمين في الصلاة، والصلاة هي الامامة الصغرى.
فأولى به ان يكون هو صاحب الامامة الكبرى إمامة المسلمين دنيا وديناً».
ويؤخذ عليهما :
أن الاستدلال بالنص يتنافى وما ذهب اليه جمهورهم من أن النبيصلىاللهعليهوآله لم يستخلف، ولم ينص على أحد بالخلافة.
وعليه :
لا ريب في أنها اختلقت ليعارض بها النصوص الواردة في استخلاف علي والنص عليه من قبل النبيصلىاللهعليهوآله بالامامة.
٣ - الشورى :
وهو رأي جمهور أهل السنة الذين يذهبون الى أن رسول اللّه ترك أمر الامامة لاجتهاد المسلمين.
«ورأى المسلمون أن أبا بكر هو ثاني اثنين إذ هما في الغار، وأول من آمن من