الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان9%

الشيعة في الميزان مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 419

الشيعة في الميزان
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 145645 / تحميل: 9698
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

للشريعة، بل عمل بالشريعة نفسها، على شريطة أن تقدر الضرورة بقدرها، فيكتفي المضطر بما يدفع عنه الضرورة والضيق، وبارتفاع الضرورة يرتفع المسوغ الشرعي والعقلي، ويبقى الشيء على حكمه الأول، ويكون التعدي بغياً وعدواناً «فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إِثم عليه». «فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإِن اللّه غفور رحيم». «وقد فصل لكم ما حرم عليكم إِلا ما اضطررتم إليه».

معنى الاضطرار:

ليس للاضطرار ضابط خاص يرجع إليه الفقيه، وإِنما يختلف باختلاف الأشخاص، والعوامل الخارجية، والدوافع النفسية، فرب حالة تعد اضطراراً بالقياس إِلى إِنسان دون غيره، بل رب حالة تكون اضطراراً لإنسان في مورد ولا تكون اضطراراً له في مورد آخر، ولذا قيل: لكل مقام مقال، ولكل سؤال جواب، ولكل حادث حديث.

وعلى أي الأحوال فليس معنى الاضطرار - في مقامنا هذا - أن يكون الإنسان مجبراً على الفعل، على نحو لا يكون له معه مندوحة إلى الترك، فإن الفعل - والحالة هذه - لا يتصف بحسن أو قبح، ولا يحكم عليه بحل او تحريم، لأنه خارج عن القدرة والاختيار، وإِنما المقصود من الإضطرار أن يكون الإنسان قادراً على الفعل والترك معاً، ولكنه يختار الفعل لعامل خارجي أو دافع نفسي، كمن لا يملك إلا ثوباً واحداً يتستر به، فاضطره الجوع إلى بيعه، ليشتري بثمنه رغيفاً يسد رمقه، ويقيم أوده.

وقد ذكر الفقهاء أسباباً تخفف على المجرم عقاب الجريمة، وأعذاراً تعفي المضطر من كل عقاب، غير أنهم لم ينظموها في مبحث واحد، بل جاءت متفرقة في أبواب الفقه هنا وهناك، ولو جمعت لكانت كتاباً مستقلاً.

٣٢١

اسباب التخفيف:

ومن أسباب التخفيف التي ذكرها الفقهاء: أن الزاني إذا كان أعزب أو متزوجاً يتعذر عليه الوصول إلى زوجته لمرض أو سفر فعقابه الجلد دون الرجم، وإذا كان متزوجاً يمكنه الوصول إلى زوجته ساعة يشاء يعاقب بالرجم، وأن السارق تقطع يده، إذا نقب نقباً، أو كسر قفلاً أو باباً، أما إذا أخذ المال من غير حرز كسرقة الثمرة على الشجرة، أو السرقة من الحقل والبيدر فلا تقطع يده(١) .

الدفاع عن المال والنفس والحريم:

ومن الأعذار التي تعفي المضطر من كل عقاب، الدفاع عن المال والنفس والعرض، ولو أدى الدفاع إلى قتل المعتدي، وعليه جميع المذاهب، قال صاحب المغني ج ٧ «لا أعلم فيه خلافاً» وقال صاحب الجواهر والمسالك «القتل دفاعاً عن النفس والمال لا يوجب قصاصاً. ومن وجد مع زوجته رجلاً يزني بها فله قتلهما معاً، ولا إِثم عليه» وفي الآية الكريمة «ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً» والمعتدي قتل ظالماً لا مظلوماً، وقال الشهيد في المسالك «ألا قوي وجوب الدفاع عن النفس والحريم مع الإمكان، ولا يجوز الإستسلام» أي يجب على الإنسان أن يدافع عن نفسه وحريمه بكل وسيلة، ولو بقتل المعتدي، على شريطة أن يعتمد في الدفاع على الأسهل فالأسهل، كالصياح أولاً، ثم الضرب ثم الجرح، وأخيراً القتل، أما الدفاع عن المال فجائز فعله وتركه.

حاجة المضطر إلى الطعام

ومن الأعذار: حاجة المضطر إلى الطعام، فقد أباح فقهاء المذاهب للجائع الذي يخاف التلف على نفسه أن يتناول كل ما يحفظ به نفسه، ويسد رمقه، فأباحوا له أكل الميتة، والسرقة والنهب والقتل، قال صاحب المغني في باب الصيد والذبائح ج ٨ «إذا لم يجد المضطر إِلا طعاماً لغيره، فإن لم يكن صاحبه مضطراً إليه لزمه بذله للمضطر، فإن لم يفعل فللمضطر أخذه منه، لأنه مستحق له دون مالكه، فإن احتيج في ذلك إلى قتال فله قتاله، فإن قتل المضطر فهو شهيد، وإن آل أخذه إلى قتل صاحب الطعام فدمه هدر لأنه ظالم» وقال صاحب المسالك ج ٢ باب الأطعمة والأشربة: «إن كان المضطر قادراً على صاحب

_____________________

(١) المغني طبعة ثالثة ج ٧ ص ٢٤٨، والجواهر والمسالك باب الحدود.

٣٢٢

الطعام قاتله، فإن قتل المضطر كان مظلوماً، وإن قتل صاحب الطعام فدمه هدر».

ومن الطريف ما ذكره كثير من فقهاء السنة والشيعة وإن المضطر إِن لم يجد إلا نفسه جاز له أن يقطع بعض أعضائه غير الرئيسة التي لا يؤدي قطعها إلى هلاكه، ويأكلها، وأنه إذا وجد إنساناً ميتاً جاز له أن يأكل من لحمه.

وأول ما يختلج في النفس أن الفقهاء قد استوحوا هذا الفرص وأمثاله، من الفقر والحرمان في العصر الذي عاشوا فيه، وإن شأن المضطر في حركاته وسكناته أشبه بشأن الجماد تسيره قوة خارجة عنه، لأنه لا يصغي ولا يمكن أن يصغي لقول: هذا حسن يجب فعله، وذاك قبيح يجب تركه:

وقد التقت النظرية القائلة «إن الفقر ليتحدى كل فضيلة» بنظرية الفقهاء «لا عقاب مع اضطرار» بل هي عينها، وكفى بالفقر عقاباً.

وقال الشيخ محمد الأعسم في منظومة الأطعمة والأشربة(١) :

الفضل للخبز الذي لولاه

ما كان يوماً يعبد الإله

ومن الأمثلة عندنا في جبل عامل «الجوع كافر» ولعل مصدر هذا المثل قول أبي ذر: «إِذا ذهب الفقر إِلى بلد قال له الكفر خذني معك» فقد تجول هذا الصحابي في قرى العامليين - جنوب لبنان - ينذر ويبشر أهله، عندما نفاه عثمان إلى بلاد الشام.

وليس الفقر كفراً فحسب، بل هو الموت الأكبر، كما قال الإمام علي بن أبي طالب ع، موت للعقل والروح والجسم، فلا صحة ولا علم، ولا فضيلة مع فقر، فالجهاد للقضاء على الفقر أفضل من كل جهاد عند اللّه سبحانه، لأنه جهاد في سبيل الإيمان باللّه والعمل بشريعته وأحكامه.

_____________________

(١) الشيخ محمد علي الأعسم عالم من علماء النجف وشعرائها، له منظومات في الفقه والعربية، توفي سنة ١٢٤٧ هجرية.

٣٢٣

اليمين وأحكامها *

وردت اليمين في كلام اللّه سبحانه، كقوله عز وجل: والقرآن، والعصر، والنجم، والتين والزيتون، وما إلى ذلك مما جاء في الكتاب العزيز، ووردت في كلام الأنبياء والأئمة فكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يحلف: والذي نفس أبي القاسم بيده، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، وكان الإمام (ع) يحلف: والذي أصوم وأصلي له، وتجدها في كلام العلماء والجهال، والملوك والصعاليك، وتكاد توجد حيث يوجد ضمير المتكلم، وأكثر ما تكون استعمالاً في كلام التجار والنفعيين.

وعرفت اليمين كتب الشرائع والقوانين، وأطال الفقهاء الكلام في أقسامها وأحكامها وفي الحالف وشروطه، والمحلوف عليه وبه، قال الشيعة الإمامية: لا يتحقق معنى اليمين إِلا إذا كان القسم باللّه وأسمائه الحسنى وصفاته الدالة عليه صراحة، فمن حلف بالقرآن والنبي والكعبة، وما إلى ذلك لا يكون القسم شرعياً، ولا يترتب على مخالفته إِثم ولا كفارة، ولا تُفصل به الدعاوى في المحاكمات، ووافقهم على ذلك أبو حنيفة.

قال الشافعي ومالك وابن حنبل تنعقد اليمين إذا كان الحلف بالمصحف، وتفرد ابن حنبل عن الجميع بأنها تنعقد بالحلف بالنبي(١) وثبت من طريق الشيعة والسنة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: من كان منكم حالفاً فليحلف باللّه أو ليذر. ومن طريق الشيعة أن محمد بن مسلم سأل الإمام الباقر (ع) عن قول اللّه عز وجل: والليل

_____________________

* - نشر في العرفان آذار سنة ١٩٥١.

(١) الدرر شرح الغرر ج ١ باب الإيمان. وميزان الشعراني ج ٢ باب الإيمان.

٣٢٤

إِذا يغشى، والنجم إذا هوى وما أشبه ذلك فقال: إِن للّه عز وجل أن يقسم من خلقه بما شاء. وليس لخلقه أن يقسموا إِلا به.

وتنقسم اليمين إلى أربعة أقسام:

١ - يمين اللغو، وهي التي لا يعتد بها الناس، فلم يقصدوا بها جلب مغنم، ولا دفع مغرم وإنما تدور على ألسنتهم جرياً على المعتاد، كما تقول لمن قال لك: ألا تحبني: بلى واللّه، ولمن قال لك: أرأيت فلاناً أو معك صرف ليرة: لا واللّه، وقولك: فلان رجل طيب واللّه، تقول ذلك من غير قصد اليمين، وليس لهذه اليمين أي أثر عند السنة والشيعة، فصاحبها غير مؤاخذ ولا تجب عليه كفارة سواء أطابق قوله الواقع أم لم يطابق، لأنها ليست بيمين حقيقية، ولا تشبهها في شيء إلا في الصورة والصيغة.

وفي سورة البقرة آية ٢٢٥ «لا يؤاخذكم اللّه باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم، واللّه غفور رحيم».

القسم الثاني: يمين المناشدة، وهي الحلف على إنسان ليفعل أو يترك، وهذه لا أثر لها عند السنة والشيعة لا بالنسبة إلى المقسم، ولا بالنسبة إلى المقسم عليه، وعن الإمام الصادق في رجل أقسم على آخر قال: ليس عليه شيء، إنما أراد إكرامه، وتسمية هذا القسم باليمين ضرب من التجوز.

القسم الثالث: يمين الغموس، وهي الحلف باللّه سبحانه على شيء في الماضي أو الحال مع تعمد الحالف الكذب، وسميت بالغموس لأنها تغمس صاحبها في الذنوب الآثام، وبها تفصل الدعاوى في المرافعات، وتستعملها الناس كثيراً لينفوا عنهم ما نسب اليهم من فعل أو ترك أو لإرضاء المحلوف له، أو ترغيبه كيمين التجار والنفعيين، وهي من أعظم الكبائر مع عدم الصدق، وتكرر النهي عنها في القرآن الحكيم «لا تجعلوا اللّه عرضة لأيمانكم. تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم. لا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل اللّه ولكم عذاب عظيم. ولا تطع كل حلاف مهين. يحلفون باللّه لكم ليرضوكم واللّه ورسوله أحق أن يرضوه إِن كانوا مؤمنين.

٣٢٥

يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا فإِن اللّه لا يرضى عن القوم الفاسقين» والدخل الخيانة، وفي الحديث أن موسى نبي اللّه أمر أن لا يحلفوا باللّه كاذبين وأنا آمركم أن لا تحلفوا باللّه كاذبين ولا صادقين، واتفق السنة والشيعة على أنها توجب الإثم والعقاب ولا توجب الكفارة، لأنها أعظم من أن يكفر عنها إلا الشافعي حيث أوجب التكفير(١) .

القسم الرابع: اليمين المنعقدة، وهي الحلف على آت في المستقبل فعلاً كان أم تركاً، وفي ميزان الشعراني ج ٢ باب الأيمان «إن هذه اليمين تنعقد عند الأئمة الأربعة في الطاعة والمعصية والمباح» وفي الدرر ج ١ باب الأيمان «لو حلف إنسان على معصية كعدم الكلام مع أبيه، وترك الصلاة تنعقد اليمين ويحنث ويكفر - والحنث هو عدم العمل بموجب اليمين - ولو قال كل حلال عليَّ حرام فالقياس أن يحنث عند انتهائه من هذه الجملة لأنه تنفس، بل تنعقد اليمين ولو كان الحالف مكرهاً أو مخطئاً كما لو أراد أن يقول اسقني الماء فسبق لسانه وقال واللّه لا أشرب الماء» وفي ميزان الشعراني «لو حلف لا يكلم فلاناً أو ليضربنه مائة سوط تنعقد اليمين ويحنث، أو حلف ليقتلن فلاناً وكان يعلم أنه ميت تنعقد ويحنث مع قول مالك أنه لا يحنث» وفي الجزء الثاني من حاشية الباجوري على شرح الغزي على متن أبي شجاع «لو حلف لا يصلي فصلى تنعقد اليمين ويحنث إلا صلاة الجنازة لأنها لا تسمى صلاة».

وقال الشيعة الإمامية: إِن اليمين لا تنعقد، ولا يكون لها أي أثر إذا كانت على محرم أو مكروه أو ترك مستحب، فمن حلف أن يشرب الخمر أو لا يصلي أو لا يكلم أباه أو زوجته أو ولده أو يقتل إنساناً أو يضربه أو لا يعود مريضاً، وما إلى ذلك تقع اليمين منه لغواً فلا توجب حنثاً ولا كفارة، لأنها حلف على عمل غير مشروع، وتحليل للحرام أو تحريم للحلال أو استكراه لمستحب أو مباح وإنما تكون اليمين صحيحة عند الشيعة لها أثرها الشرعي إذا حلف على عمل واجب أو مستحب أو مباح على الأقل على نحو تعود اليمين بالمصلحة على الحالف أو عدم الضرر، ولو حلف على ترك شيء وكان في صالح الحالف حين الحلف، ثم احتاج إليه تنحل اليمين، ومثاله أن يحلف إنسان على ترك أكل اللحم لغاية صحية، تنعقد اليمين، فإِذا أكل اللحم والحالة هذه يأثم ويكفر، ولو تحسنت

_____________________

(١) ميزان الشعراني ج ٢ باب الأيمان.

٣٢٦

صحته بعد ذلك ، واحتاج إلى أكل اللحم ، تنحل اليمين ، ويصبح في حل منها. فكما أنها لا تنعقد أبداً على ما كان تركه أولى وأرجح، فإنها تنحل بعد انعقادها إذا صار مرجوحاً.

أما كفارة هذه اليمين المنعقدة لو خالف الحالف فعتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، ومن عجز عن ذلك كله فصيام ثلاثة أيام عند جميع المذاهب للآية ٨٩ من سورة المائدة «فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم».

أما يمين البراءة من الحق فحرمتها مؤكدة عند جميع المذاهب سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: أنا بريء من دين محمد إن لم أفعل كذا فما كلمه الرسول حتى مات، وفي الحديث أن من حلف بالبراءة من الحق فقد برئ منه كاذباً كان أو صادقاً. اللهم ما عرفتنا من الحق فحملناه، وما قصرنا عنه فبلغناه.

٣٢٧

نحوَ فِقْه إسْلامي في أسْلوبٍ جَديد *

إن من تتبع آيات الأحكام وأحاديثها، وتدبر معانيها وأسرارها يرى أن التشريع الإسلامي يرتكز على أصول ومبادئ عامة هي:

الحرية، وحقن الدماء، وصيانة الفروج والأموال، واحترام العقائد، وعدم الضرر والحرج، والوفاء بالعهد، وحفظ النظام، وعقوبة الجاني، وتغريم المعتدي، وعدم الغش والخيانة، وإباحة الطيبات، وتحريم الخبائث، ومراعاة العقل والعدل، ودرء المفاسد، وجلب المصالح، وفصل الخصومات بالصلح والحسنى مع الإمكان، وإلا فبالقوة على أساس الحق، والأخذ بالمعرف مع عدم وجود النص المعاكس والمساواة بين الناس جميعاً، وما إلى ذلك مما تستدعيه الحاجة، ويفرضه الظرف، ويقره المنطق السليم.

إن هذه المبادئ هي الأسس الثابتة للتشريع الحديث، والمصادر الأولى التي يستقي منها المشرع العصري أحكامه وأراءه، أسس راسخة لا تتغير بتغير الزمن، ولا تتبدل بتبدل الأحوال، وإنما تتطور الأسباب والحاجات التي تمثل هذه المبادئ. فقبل عصر الآلة كان العرف يعتبر قيوداً وشروطاً في البيع والتجارة لا تتم بدونها، وبعد أن زاد الإنتاج، وتطورت وسائل النقل، واتسعت حدود التجارة وأسبابها براً وبحراً لم تعد تلك القيود مرعية عند العرف، وأصبح التاجر الشرقي يشتري من التاجر الغربي الصفقات الكبرى بهاتف أو برقية، ويتم البيع بينهما قبل استلام المثمن وقبض الثمن، ثم يبيع الشرقي هذه الصفقات بالوسيلة نفسها، فالشرع - والحالة هذه - يلغي الشروط التي كانت معتبرة قبلاً، ويلزم

_____________________

* - نشر في النشرة القضائية أيار ١٩٥١.

٣٢٨

المتابعين بما التزما، والزمتهما به غرفة التجارة، فالمعول شرعاً على العرف الذي يختلف باختلاف الزمن، ولا ينظر إلى الوسائل مهما كان نوعها ما دامت لا تحرم حلالاً، ولا تحلل حراماً، وبهذا نجد تفسير الحديث المشهور «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة» أي أن المفاهيم العامة كالبيع مثلاً بمعناه الشامل كان حلالاً في عهد محمد ص، وسيبقى كذلك إلى يوم القيامة، وإن تطورت أفراده بتطور الزمن.

فأي حكم يتنافى مع مبدأ من هذه المبادئ فهو محل للاعتراض والطعن، ولا يسوغ نسبته إلى الإسلام وشريعته، وإن كان الحاكم به مرجع المؤلفين قديماً وحديثاً، وشيخ المجتهدين علماً وورعاً، بل إذا كان الحديث مخالفاً لهذه المبادئ يجب إهماله أو صرفه عن ظاهره، وإن كان راويه من السابقين الأولين، حيث ثبت بطريق السنة والشيعة أن النبي أمر أن يعرض ما روي عنه على كتاب اللّه، فما وافقه فهو قائله، وما خالفه لم يقله(١) .

وعلى الرغم من إيمان فقهاء السنة والشيعة بهذه المبادئ العامة، واعترافهم بأن الشريعة الإسلامية ترتكز عليها، وتستنير بضوئها فإنك تجد في كتبهم أحكاماً لا تتفق مع مبدأ من مبادئ الإسلام، وقد تجاوزت هذه الأحكام حد الإحصاء. نقدم بعضها بين يدي القارئ ليكون شاهداً على ما نقول منها: ما أجمع عليه فقهاء الشيعة أنه إذا كانت عين في يد إنسان فأقرّ بها لآخر، ثم أقرّ بها لغيره، كما لو قال: هي لزيد، بل هي لعمر وجب على المقر أن يدفع العين للأول، وثمنها بكامله للثاني، لأنه ساوى بينهما في الإقرار. يعطي العين للأول لتقدم الإقرار له وثمنها للثاني، لأنه أحال بينه وبين حقه. وهذه «الحيلولة» بمنزلة التلف(٢) . ان مثل هذا الحكم ضرر فاحش على المقر، حيث حكم عليه بأكثر مما ثبت في الواقع، وأن أحد المحكوم لهما أخذ منه ما لا يستحقه ظلماً وعدواناً بحكم القضاء.

ومنها: ما أجمع عليه فقهاء الشيعة أيضاً أنه إذا ظلم قوي عاملاً فحبسه حائلاً

_____________________

(١) كتاب فرائد الأصول للشيخ الأنصاري من الشيعة، وكتاب فجر الإسلام نقلاً عن الموافقات للشاطبي من السنة.

(٢) كتاب الجواهر، باب الاقرار، وجميع كتب الفقه للشيعة.

٣٢٩

بينه وبين عمله الذي يدر عليه وعلى عياله القوت قالوا: إن القوي آثم يستحق الذم والعقاب، ولكن لا يجوز الحكم عليه بالمبلغ الذي فوته على العامل أي لا يحكم عليه بالعطل والضرر «أما لو غصب دابة ضمن منافعها سواء استوفاها الغاصب أم لا»(١) مستندين في ذلك إلى أن العامل نفسه إنسان حر لا يتقوم بمال، فمنافعه كذلك، بخلاف الدابة فإنها تتقوم هي ومنافعها بالمال(٢) . وهذا الحكم يتنافى مع مبدأ الحرية واحترام الأنفس والأموال. والعرف لا يرى أدنى تفاوت بين حبس عامل لو ترك حراً لحصل على المال، وبين التعدي على ماله الحاصل.

ومنها: ما ذكره صاحب المسالك، وصاحب الجواهر من فقهاء الشيعة في باب الطلاق «إذا كرهت المرأة زوجها، وأرادت انفساخ عقد الزواج، فارتدت عن الإسلام انفسخ العقد وبانت منه. فاذا رجعت بعد ذلك إلى الإسلام قبل منها وتمت الحيلة» ومثل هذا الاحتيال على الدين لتحقق الأهواء والشهوات لا يقره عقل ولا شرع سماوي أو وضعي(٣) .

ومنها: ما جاء في كتاب الميزان للشعراني من السنة (ج ٢) باب الصيد والذباحة: أن ابن حنبل قال (لا يحل صيد الكلب الأسود - ووجهة صاحب الكتاب - بأنه شيطان، وصيد الشيطان رجس، لأنه لا كتاب له، ولو كان له كتاب لحل صيده) وفي باب الشهادات من الكتاب المذكور نقلاً عن ابن حنبل أيضاً: أنه لا تقبل شهادة البدوي على القروي.

وفي كتاب الفقه على المذاهب الأربعة (ج ٤ ص ٢٨٩) (إذا أراد رجل أن يقول لزوجته: أنت ظاهر، فسبق لسانه، وقال: أنت طالق يحكم القاضي بصحة الطلاق.

_____________________

(١) كتاب الوسيلة الكبرى، باب الغصب للسيد أبو الحسن.

(٢) كتاب الجواهر باب الغصب.

(٣) عرضت لي هذه الحادثة حين كنت قاضياً في محكمة بيروت الشرعية. كرهت امرأة زوجها وطلبت منه الطلاق فامتنع، فأشار عليها بعضهم بالارتداد، فارتدت عن الإسلام إلى النصرانية، وسجلت ارتدادها عند المحافظ وفي دائرة الاحصاء وقدمت لي طلباً بفسخ الزواج، فأصدرت قراراً بتاريخ ١٩ شباط سنة ١٩٤٩ برد طلبها وبقاء الزواج فاستأنفت قراري فأصدرت محكمة الاستئناف الشرعية قراراً بتاريخ ٨ كانون الأول سنة ١٩٤٩ بفسخ الزواج بينها وبين زوجها، وبعد هذا القرار رجعت إلى الإسلام وتزوجت غيره وتمت الحيلة.

٣٣٠

وفي كتاب الذخائر الأشرفية لابن الشحنة الحنفي باب النكاح «إذا علق رجل طلاق امرأته على رؤية شيء، وقد كانت حاملاً، فخرج إلى السوق، ورأى ذلك الشيء ووضعت امرأته حملها، وعندما رجع إلى بيته وجدها متزوجة برجل آخر فيصح الطلاق من الزوج، والزواج من الآخر».

إن هذه الأحكام وأمثالها التي يجدها المتبع في كتب الفقه لرجال الدين لا تعتمد على غير الحدس والاقيسة الباطلة، فمن الخطأ نسبتها إلى شريعة خالدة ذات مبادئ صحيحة ثابتة كالشريعة الإسلامية، إن هذا النوع من الأحكام لا يجوز بقاؤه بحال من الأحوال في كتب الفقه الإسلامي التي يقدسها الأستاذ والطالب، ويعتمد عليها المرجع الأكبر في علمه وعمله.

لقد آن لقادة الدين في النجف والأزهر أن يصفوا الحساب مع هذه الكتب، فيدرسوها دراسة علمية صحيحة، ويختاروا منها ما يتفق مع حاجاتنا الاجتماعية والاقتصادية، ومع المبادئ العامة للتشريع الإسلامي، ويظهروا ما في بطونها من كنوز وفوائد لا نجدها في قانون قديم وحديث، ويهملوا هذه السخافات التي تعود بنا إلى عهد الجهل، ودور الوحشية، وتعوقنا عن التفكير في مسايرة الحياة وأطوارها.

اعتمد التشريع الإسلامي في بدايته على الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وكان هذان الأصلان يومذاك كافيين وافيين باغراض الحياة الساذجة البسيطة في عهد الرسول، وبعد أن تطورت الحياة، وفوجئ المسلمون بأمور لا يعرفون عنها وعن أحكامها كثيراً أو قليلاً، ورأى فقهاؤهم أن الجمود عند نصوص الكتاب والسنة لا يزيل جهالة، ولا يرشد إلى هداية لجأوا إلى أصول أخرى للتشريع غير الكتاب والسنة، فقال السنة: عندنا القياس، وقال الشيعة: عندنا العقل، ولكن الكثيرين منهم وخاصة «المتأخرين» دونوا أحكاماً تتنافى مع روح التشريع الإسلامي ومبادئه العامة، ولا يؤيدها قياس صحيح أو عقل سليم.

يجب على الفقيه إذا عرضت له مسألة من المسائل أن يستخرج حكمها - قبل كل شيء - من آيات الأحكام وأحاديثها الثابتة على أن يراعي في تخريج الحكم المبادئ العامة للتشريع فإذا وجد آية أو رواية تتنافى بظاهرها مع مبدأ منها وجب أن يصرفها عن ظاهرها، ويؤولها بما يتفق مع العقل والمنطق، وإذا فقد النص من الكتاب والسنة تتبع أقوال الفقهاء، فإن وجد لها أثراً في كلامهم نظر إلى دليلهم غير مقلد لأحد في أصل أو فرع كائناً من كان، فإن كان معقولاً وكفيلاً

٣٣١

بالغاية المنشودة من الشرع عمل به، وإن لم يجد لمسألته أثراً في كتبهم، أو وجد حكمها من النوع الذي نقلناه، اعرض غير مكترث بالمتون والشروح والحواشي، ورجع إلى عقله واجتهاده، وركز حكمه على مبادئ التشريع مسترشداً بالقواعد العامة التي قررها العقل، ووضعت لحل المشكلات والمعضلات. يجب أن نسترشد بكل قاعدة وأصل وضع لرفع مستوى التشريع سواء أكان واضعه شيخاً قديماً أو جديداً، ما دام الأصل يتفق مع منطق العقل، وروح الشرع.

نحن نعتقد أن الشريعة الإسلامية شريعة خالدة تمتاز بروح المرونة، والتطور مع كل عصر، وأن الشرائع الحديثة قد اقتبست الكثير من أحكامها. ولكن هذا لا يمنعنا من إعلان الحق بأن فيها إلى جانب ذلك أحكاماً دخيلة ابتدعها التعصب والجهل، وأنها في أشد الحاجة إلى التقليم والتطعيم، وهذا لا يحط من شأنها، ولا ينزلها عن عرشها، فهذه أرقى القوانين الحديثة التي هي نتيجة التفكير العميق، والدراسة الصحيحة ما زالت معرضاً للتعديل والتبديل، والزيادة والنقصان، فأحرى أن يعرض ذلك لما في كتب الفقه التي مضى عليها قرون عديدة، وهي على وضعها وطبعها، وترتيبها وتبويبها، مع أن أصحابها لا يعلمون الغيب، ولا يتنزهون عن الخطأ.

وضع الفقهاء كتباً، وبوبوا أبواباً خاصة للأمور الاجتماعية والاقتصادية كالزواج والطلاق، والتجارة والاجارة، وأكثروا فيها من الفروع والقروض، ومع هذا كثيراً ما تعرض لنا مسائل من هذه الأبواب نجهل حكمها، فنرجع إلى كتبهم وأبوابهم باحثين عن الحكم فلا نجد له أثراً في فروعهم وفروضهم على كثرتها، فكيف بما لم يفردوا له باباً مستقلاً، ولا عنواناً خاصاً كالملاحة والتجارة البحرية ونظم البريد التي هي من صميم الحياة، والتي وضع لها المشرع العصري قوانين في مجلد ضخم يبلغ مئات الصفحات.

لقد تطورت الحياة، وتعددت شؤونها واحداثها، ولم يبق شيء حقير أو خطير على ما كان عليه في عهد الفقهاء السالفين، فمن المستحيل أن تبقى الأحكام جامدة راكدة، وموضوعاتها في تغير مستمر، ان الحكم متفرع من موضوعه فيثبت بثبوته وينتفي بانتفائه ويتطور بتطوره.

٣٣٢

مَعرَكة في الأزهَر * بين المجددين والمحافظين

قامت في الجمهورية المصرية معركة عنيفة حول الأزهر ومشاكله، واستمرت شهرين على التقريب. يضم الأزهر من العلماء والطلاب ما يربو على العشرين ألفاً، كما أن ميزانيته تربو بكثير على المليون من الجنيهات.

وسبب المعركة أن الاستاذ خالد محمد خالد وجه إلى الشيخ عبد الرحمن تاج على أثر توليه مشيخة الأزهر ستة خطابات مفتوحة يحثه فيها على أن يسير بالأزهر إلى الامام. وأن لا يبقى ما كان فيه على ما كان، وحركت خطابات الاستاذ خالد أفراداً من داخل الأزهر وخارجه، فناصره فريق، وعارضه فريق. ورأيت أن الخص لقراء العرفان أقوال الطرفين، لما فيها من فائدة ومتعة، ولما للأزهر من قدر ومكانة في نفوس القريبين والبعيدين.

يعتقد الأستاذ خالد أن الأزهر عقدة التنفس للمصريين وغيرهم من العرب والمسلمين وانه إنما وجد لخير العروبة والإسلام، ولكن الكثير من شيوخه لم يفهموا هذه الرسالة، أو فهموها ولم يعملوا لها، بل تاجروا بالإسلام بغير مبرر، وباعوه بغير ثمن، وقد أزاح الاستاذ خالد الستار عن بعض ما يعانيه الأزهر من الأدواء، وقدم الحلول لعلاجها واستئصالها.

من هذه الأدواء أن بعض حملة العمائم ينعقون مع كل ناعق لا يردعهم رادع من دين أو عقل. ففي عام ١٩٥١ جاء إلى مصر مدير أقلام المخابرات الإنكليزية في الشرق الأوسط، واستحصل من شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية ووكيل الأزهر على فتوى بأن الإسلام يحرم تحديد الملكية. وفي عام ١٩٣٧

_____________________

* - نشر في العرفان نيسان ١٩٥٤.

٣٣٣

كان الاستاذ يدرس في الأزهر عند أحد الشيوخ، وكان هذا الشيخ يمقت الإمام الراحل المراغي، ويلتمس له العثرات ليحدث تلاميذه بها، وذات يوم رأى التلاميذ شيخهم هذا يقبل يد المراغي، وينحني له كأنه في ركوع، وفي أثناء الدرس سأل التلاميذ شيخهم عن تلك المودة والخضوع، فأجاب الشيخ: يا أبنائي «نقبلها ونلعنها» وقد تأكد التلاميذ فيما بعد أن «نقبلها ونلعنها» قاعدة مطردة يلتزمها معظم شيوخ الأزهر. وفي عام ١٩٣٦ كان الاستاذ خالد يدرس كتاباً كبيراً في الفقه يضم بين دفتيه حشداً من المسائل التافهة، منها «مسألة» من صلى وهو يحمل قربة فساء، فهل تصلح صلاته أم تكون باطلة، ويذكر مثلاً آخر من كتاب التوحيد الذي يدرسه طلاب كلية أصول الدين في الأزهر. قال صاحب هذا الكتاب «لا يجوز عزل الإمام بالفسق والخروج عن طاعة اللّه، ولا بالظلم والجود على عباد اللّه. لأنه قد ظهر الفسق، وانتشر الجور من الائمة والأمراء بعد الخلفاء الراشدين، وكان السلف ينقادون لهم. ولا يرون الخروج عليهم».

ويوم ابتدع فاروق لنفسه نسباً كاذباً برسول اللّه ص قام خطباء المساجد يسألون اللّه أن يوفق مليكهم المعظم ويرعاه، وقال بعض الشيوخ: «لقد علم اللّه أن مليكنا الصالح من سلالة نبيه الكريم، فألهم والده العظيم أن يختار له اسماً قريباً من النبوة ألا وهو الفاروق» وبعد أن ذهب فاروق هذا وقف شيخ من العلماء بين يدي اللواء محمد نجيب فحوقل وبسمل وقال إن فرعون (أي فاروق) علا في الأرض، وجعل أهلها شيعاً.

واجتمعت مرة لجنة الفتاوى بالأزهر، وقررت إِخراج أبي ذر من الإسلام، وظهرت الصحف تحمل طعن العمائم فيه لأن المصلحين والجائعين يستشهدون بأقوال هذا الصحابي الجليل، ونشرت جريدة الأهرام حديثاً لشيخ الأزهر السابق. قال فضيلته: إن الشعب الروسي شقي وتعس، ونظامه الاقتصادي فاشل، والبطالة متفشية، والعمال ساخطون. مع أن هذا الشيخ لو سئل عن حي الزمالك لما عرف أين يقع !

وخاطب الأستاذ خالد شيخ الأزهر قائلاً: أن مهمتك تبدأ من الأجابة على هذا السؤال: هل الأزهر مقبرة أم جامعة ؟ فإِذا كان مقبرة فليبق كما هو، وإِذا كان جامعة فليمض على الدرب الذي خطته الحياة للجامعات. ثم يلتفت ويقول: ان الأزهر في الحقيقة أكثر من جامعة، إِنه غدة تفرز للناس في بلادنا ما لا غنى عنه، وقد خرج في القديم رجالاً لا يستوحون في أعمالهم وأقوالهم غير الدين والعلم. دخل الخديو مرة على شيخ يلقي درسه في فناء الأزهر وقد تحلق الطلاب حوله

٣٣٤

على الحصير، وبسط الشيخ ساقه بسبب مرض بها، فوقف الخديو على الحلقة، فلم يتحول الشيخ من مكانه، ولم يجمع ساقه الممدودة في وجه الخديو، ويعجب الخديو بهذا الشيخ البسيط، ويأمر له بنفحة من المال، فيردها الشيخ قائلاً للرسول: قل لأفندينا: ان الذي يمد رجله لا يمد يده. وعندما توفي الشيخ محمد عبده أرسل الخديو رسولاً إلى شيخ الأزهر يبلغه أن يمتنع هو والعلماء عن تشييع جنازة الإمام، فيلتفت إلى أبناء الأزهر، ويقول على مسمع من رسول الخديو: هيا يا مشايخ إِلى تشييع الجنازة، فيبهت الرسول، ويقول للشيخ: ألا تمتثل رغبة أفندينا ! فيجيب الشيخ في غضب صاعق: ان اللّه وحده هو أفندينا.

ومن الذين ناصروا الأستاذ خالداً في ثورته، ورجا أن لا يخمد لهبها الشيخ حمد حبش من علماء الأزهر ومدرس بأحد معاهده قال: طالما خالجتني المعاني التي تناول شرحها وعلاجها الأستاذ خالد، لكنني كنت أجبن من أن أجهر بها. وذكر مأساة حصلت له. قال: زارني أحد المفتشين وأنا أدرس في بعض المدارس الدينية، فسأل الطلبة في نواقض الوضوء هذا السؤال: رجل من غير دبر، وفتحنا له فتحة في بطنه فما الحكم ! وناصره الأستاذ موسى جلال، ونقل صورة لعالم يحمل الشهادة العالمية من الأزهر قال: جرت مسابقة لوظيفة الإمامية في عهد مصطفى عبد الرزاق حين كان وزيراً للأوقاف، وكان من ضمن الأسئلة هذا السؤال «ماذا تعرف عن قرطبة ؟» فأجاب الشيخ بخط يده ما نصه بالحرف «قرطبة على وزن فعللة، وهي امرأة صحابية جليلة تزوجت صحابياً جليلاً، وانجبت منه تابعين وأتباع التابعين».

أما الذين لم ترق لهم أقوال الأستاذ خالد، وتصدوا للرد عليه فكلمات بعضهم تنبئ بانهم من فصيلة شيخ قرطبة أم التابعين وأتباعهم، وإليك هذه الجملة من تلك الردود «أتى الأستاذ خالد بأمثلة يظن أنها تزري بكتب الفقه من مسائل الطلاق، على أن عين البصير لا ترى هزءاً في ذلك وأي عجب في الصورة التي أبرزها الكاتب - أي خالد - في قول من قال لزوجته «ان لم اقتلك فأنت طالق» أليس يجوز أن يقولها قائل: فهو ان قتل كان قاتلاً، وإن لم يقتل كان مطلقاً».

٣٣٥

أما الآراء التي قدمها الأستاذ خالد، ورآها شافية للأزهر من أدواته، ووافية للسير به في سبيل الحياة والتقدم فتتلخص بأن تتكون لجان تعكف على مراجعة جميع مناهج وكتب التعليم بالأزهر، وتراجع الكتب الدينية المعروضة للثقافة العامة من تفسير وتصوف وسيرة، وتعد قائمة بما لا يتفق منها مع العقل، وتضع اللجان مؤلفاً جديداً يحتوي على خطب تذاع على ملايين المسلمين تكشف لهم النقاب عن الخرافات الدينية، وتنظر اللجان في دراسة الفقه الإسلامي على أن مصدره الكتاب والسنة فقط لا المذاهب الأربعة ولا غيرها.

هذي خلاصة لتلك الخطابات المفتوحة التي وجهها الأستاذ خالد محمد خالد إلى شيخ الأزهر، وما دار حولها من الرد والتأييد، وهي تدل على الوعي والرغبة في أن لا يتخلف الأزهر الشريف عن ركب الحياة السائر دائماً إلى الأمام(١) .

_____________________

(١) المصدر جريدة الجمهورية المصرية العدد ٩ و١٠ و١٢ و١٤ و١٥ و١٧ كانون الثاني ١٩٥٤ والعدد ٦ و٧ و١٠ و١٧ و٢١ و٢٤ شباط ١٩٥٤.

٣٣٦

هَلْ أبو ذرّ اِشتِراكي ؟ *

من الآراء السائدة أن أبا ذر الغفاري ممن آمن بالاشتراكية ودعا إليها وأنه لاقى من جراء ذلك أنواع العذاب، أما سبب هذا الرأي فيعود إلى كفاح هذا الصحابي الجليل في سبيل تنفيذ مبدأ الإسلام ومحاربة البؤس والشقاء.

لم يكن أبو ذر فيلسوفاً ولا صاحب مذهب خاص، بل كان رجلاً ساذجاً عاش في البادية يرعى الماعز والغنم، ثم صحب الرسول الأعظم وأخذ عنه تعاليم الإسلام، فآمن بها، ودعا إليها، فهو لا يعتمد في إيمانه ودعوته على غير الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.

على هذا الأساس، أساس روح الإسلام ومبادئه حارب أبو ذر قيام الترف والنعيم إلى جانب البؤس والشقاء ونادى بأعلى صوته: لا يحل للإنسان أن يتمتع بثروة لا يحصيها العد والحساب، وجاره جائع يعجز عن القوت، ومريض لا يستطيع التطبيب، وجاهل لا يجد السبيل إلى التعليم.

وإذا دفع الأغنياء من أموالهم ما يسد هذا الفراغ، بحيث تتيسر السبيل إلى الرغيف والدواء والدرس لطلابها فلهم أن يكسبوا الأموال ويجمعوها من حل ويتصرفوا بها كما يريدون ويشتهون ما دامت تصرفاتهم لا تضر بصالح الأفراد ولا الجماعات.

ومن تفهم الإسلام وأخلص له، إخلاص أبي ذر حرم على الإنسان أن يتقلب في نعيم الثراء وأخوه يعذب في جحيم الشقاء، أما إذا كان أخوه في عيشة راضية أو مستور الحال فإن النعيم مباح بل مستحب لكل من وجد السبيل إليه قال تعالى

_____________________

* - نشر في جريدة الجهاد ١٩٥٢.

٣٣٧

في سورة الأعراف آية ٣٢ و٣٣ «قل: من حرم زينة اللّه التي أخرج لعباده. والطيبات من الرزق. قل: إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي».

إن هذه الآية الكريمة أباحت للإنسان أن يحيا في نعيم الطيبات ويظهر بمظاهر الابهة والزينة، بل أنكر اللّه على من حرم ذلك، لأن التحريم ينافي الحكمة من خلق الزينة والطيبات التي أخرجها اللّه لعباده، وحرمت الفواحش والخلاعة وانتهاك الأعراض والحرمات، والإثم والبغي.

وعلى هذه الآية يرتكز تشريع القوانين والأحكام الدينية، فتطلق للفرد حريته وسعادته ومواهبه ولا تكون الحكومة ولا غيرها وصياً ولا ولياً عليه، وإنما تكون رقيباً ومحاسباً ورادعاً له عن الإثم والبغي، عن الاضرار بالغير والتعدي على حقوق الناس، كي لا يعيش إنسان على حساب إنسان.

إن للفرد وجوداً مستقلاً عن غيره، ووجوداً بوصف كونه جزءاً من الجماعة، له حقوقه المادية والأدبية.

ليس للإسلام مذهب خاص يسمى الاشتراكية أو الديمقراطية وإنما هو دين وشرع يدعو إلى العدالة الاجتماعية والمحبة والمساواة يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وقد تلتقي هذه الدعوة من بعض جهاتها مع المذاهب المادية والآراء الفلسفية، وتفترق عنها من جهات أخرى ولا تعني هذه الملاءمة أن تلك الدعوة هي عين هذا المذهب وحقيقته.

وكثيراً ما يحسن الإنسان بذكائه وصفاء فطرته بمعنى من المعاني فيعبر عنه في معرض حديثه بأسلوب ساذج عادي ثم يقرر هذا المعنى كحقيقة علمية جاءت نتيجة لدرس العلماء وتجاربهم، كقول أبي ذر «إذا ذهب الفقر إلى بلد قال الكفر: خذني معك» فقد اثبت العلم أن سلوك الإنسان وليد لحالاته وظروفه فإذا كان جائعاً لم ينتفع بالحكمة الصالحة والموعظة الحسنة، لأنه يفكر ببطنه لا بعقله ومثل هذا الحس الصائب لا يصح أن نسميه مذهباً في الأخلاق، ونظرية في العلوم التي هي نتيجة البحث والاقيسة والاستنتاج.

إن أبا ذر صحابي، مثله مثل أي صحابي آمن باللّه ورسوله، وبالإسلام ومبادئه ولكنه يمتاز عن غيره بالزهد والجهر بالحق، وهاتان الميزتان هما السبب الوحيد لنسبة الاشتراكية إلى أبي ذر.

٣٣٨

كان لأبي ذر زوجة سوداء وكان يرحمها ويرفق بها، وكان أصحابه ينصحونه ويلحون عليه بأن يتزوج غيرها فلا يقبل منهما النصح، وكان إذا وزع العطاء على المسلمين أخذ عطاءه وانفقه على الفقراء وكانت له غنيمات يرعاها بنفسه، ويحلبها بيده، فيبدأ بجيرانه وأضيافه إذا كان عنده رغيفان أعطى أحدهما لذي حاجة، وكان لا يقبل عطاء من حاكم ولا من غيره إلا إذا كان العطاء عاماً. أرسل إليه عثمان مائتي دينار فجاء الرسول، وقال له: هذه من عثمان، وهو يقول لك: إنها من صلب ماله ما خالطها حرام، فقال له أبو ذر: هل أعطى أحداً من المسلمين مثلما أعطاني ؟ قال كلا، فقال أبو ذر: إذهب أنت والدراهم، إنما أنا رجل من المسلمين يسعني ما يسعهم ولست في حاجة إلى المال، فقال له الرسول:

أصلحك اللّه إني لا أرى في بيتك كثيراً ولا قليلاً !

فرفع أبو ذر الوسادة وأراه قرصين من خبز الشعير، وقال للرسول: بل عندي هذان وإني لغني بهما وبثقتي باللّه وإيماني بالحق.

يمقت أبو ذر الاحتكار بشتى انواعه ومعانيه حتى الهدايا، فإنها لا تحل له ولا لغيره إذا لم تكن عامة شاملة للجميع، وهو غني بكوز الماء والشعير لأنهما وسيلة تيسر له الوصول إلى هدفه الأسمى وعقيدته المثلى.

أما صراحة أبي ذر فقد جرت عليه الويلات وسببت له الضرب والبؤس والتشريد، عندما أسلم أبو ذر كان عدد المسلمين لا يزيد على أربعة، فتعرض لصناديد قريش، وجهر بالإسلام وتحداهم منادياً بأعلى صوته: لا إِله إِلا اللّه، محمد رسول اللّه. فضربوه حتى كاد يقضى عليه لولا أن يكفهم عنه العباس بن عبد المطلب، ثم عاود فعاودوا الضرب والعذاب. ولما رأى النبي ص أن أبا ذر معرض للقتل، لأن طبعه يأبى السكوت عن الباطل أمره أن يلتحق بأهله حتى إذا كثر المسلمون أتاه.

ولما توفي النبي ص، ورأى أبو ذر الأموال في عهد الخليفة الثالث يبذرها الأقربون هنا وهناك، والناس يقتلهم الجوع والبؤس ثارت ثورته وجن جنونه وصاح في وجه السلطان وفي كل مكان: جمعتم الأموال من الناس فيجب أن تنفقوها على الناس فطرد، ونفي ومات في الصحراء وحيداً، بعد أن مضت عليه ثلاثة أيام لم يطعم فيها شيئاً، هذا والكثير من زملائه الذين هم دونه سابقة ومنزلة عند الرسول يتدفق عليهم الذهب والفضة وتزخر حياتهم بالنعيم وأطايب العيش، وهذي سبيل الإثم والبغي ما تزال، ولن تزال متبعة ما وجد الباطل أنصاراً.

٣٣٩

اصطدم أبو ذر بأصحاب السيادة والثروة لا لأنه يطلب سلطاناً ومالاً، بل لأنه لا يريد أن يقوم الترف والبذخ إلى جنب الفقر والبؤس.

لم يكن أبو ذر صاحب مذهب خاص أو رأي جديد، صحب الرسول وآمن بدعوته على أنها وحي من اللّه سبحانه، وتفهمها على أساس العدل بين الناس أجمعين، فلا تابع ومتبوع، وسيد ومسود، وكرس حياته لتحقيق هذه الدعوة والظفر بها ولم يتخذها كغيره وسيلة للجاه والعيش، فكان ذلك سبباً لأن يتخذ المصلحون من شخصيته هادياً لسلوكهم ورائداً لأهدافهم.

وأي إنسان أدرك الدين على حقيقته كما بشر به الرسل والأنبياء، أدركه على أنه رسالة إنسانية تجاوزت حدود الفردية والعنصرية والإقليمية والطائفية وإن هذه الرسالة غاية تقصد لذاتها لا وسيلة وأداة للميول والشهوات، وأخلص لها إخلاص أبي ذر يكون كأبي ذر قدوة صالحة لكل مصلح ومثلاً أعلى لكل مؤمن.

ليس رجل الدين من نطق بالحكمة وحفظ الأصول والفروع، ولا من آمن بالأساطير والعفاريت والسحر والتخريف فالأول مشعوذ محترف يقلده الجاهلون باسم العلم والمعرفة، والثاني جاهل مخرف يحترمونه باسم الإيمان والقداسة، ولا شيء أعظم من خطرهما على الدين، إذ يبقى بلا قائد ولا رائد، هذا هو السر في ضعف العقيدة الدينية وانصراف الناس عن الدين وأهله.

٣٤٠

دَرس مِن المَاضِي *

اعتاد كثيرون من خطباء الجوامع والكنائس أن يأمروا بتقوى اللّه، وينهوا عن معصيته، يوجهون هذه الموعظة - في الغالب - إلى المستضعفين الذين يظلمهم الأقوياء ولا يستطيعون أن يظلموا أحداً، فيخوفوهم من نار جهنم تشوي وجوههم وأفئدتهم، كلما نضجت بدلهم غيرها كي يدوم عليهم العذاب الأليم.

أما الأقوياء الطغاة الذين يملكون الاطيان والبنايات، والأثاث والسيارات، ويملأون البنوك والمصارف بما اختلسوه من أقوات العباد فيمجدونهم ويسبحون بحمدهم، ويلتمسون العلل لتبرير عدوانهم،ويعدونهم بجنة عرضها السموات والأرض، وبقصور أضخم من قصورهم في الدنيا، وببساتين أوسع من بساتينهم في هذه الدار، وبحور أجمل من الراقصات والأرتستات اللائي انفقوا عليهن الألوف، وبخمور ألذ وأشهى مما يشربونها في المواخير والحانات.

ومنذ القديم كان وعاظ المساجد يتقربون إلى الملوك والحكام أمثال الطاغية عبد الحميد، والفاسق فاروق يتقربون إليهم بالدعاء لهم في خطب الجمعة بأن يديم اللّه لهم القوة والعز، والغلبة والنصر متجاهلين قول اللّه سبحانه «ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار» وقول الرسول الأعظم «ما ازداد رجل من السلطان قربا إلا ازداد من اللّه بعدا - من أرضى سلطاناً بما سخط اللّه خرج من دين الإسلام».

إن أمثال هؤلاء الوعاظ يهددون ويهولون على المساكين الذين لا يستطيعون حيلة ولا وسيلة ويبشرون المترفين بما أعد اللّه لهم من الثواب الجزيل والأجر

_____________________

* - نشر في جريدة الهدف ٢٣ أيلول سنة ١٩٥٤.

٣٤١

العظيم، إن الواعظ المخلص هو الذي يقف في وجه القوي الظالم يردعه عن ظلم الضعيف، ويجابهه بالحقيقة، بسوء عمله، ويشهر به بين الناس، ويدعو الجماهير على المنابر وفي المحافل لمكافحته وردعه عن الباطل، ويدلهم على من اغتصب حريتهم، واعتدى على كرامتهم ويدفعهم إلى الاستماتة دون حقهم، على الواعظ أن يفهم المظلوم أن واجبه الأول أن يناضل من ظلمه ويحاربه بكل سبيل، يفهمه أن نومه على الضيم يجعله ظالماً بعد أن كان مظلوماً، لأنه بالخنوع والخضوع يشجع الظالم على التمادي في الغي والفساد.

ونقدم أمثلة من الوعاظ المخلصين السابقين الذين تجردوا عن كل غاية إلا النصح والإخلاص للّه والإنسانية عسى أن ينتفع بها وعاظ اليوم:

مر أبو ذر الصحابي الجليل بمعاوية، وهو يبني داره الخضراء، فصاح أبو ذر في وجهه قائلاً: من أين لك هذا يا معاوية ! فإن كنت بنيتها من مال المسلمين فهي الخيانة، وإن كنت بنيتها من مالك فهو الإسراف.

ولما بنى الخليفة الناصر قصر الزهراء بالأندلس بالغ القاضي منذر بن سعيد في تقريعه وترويعه بخطبة على المنبر أمام الجماهير، والخليفة بينهم. ابتدأ القاضي خطبته بقوله تعالى: «أتبنون بكل ريع آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين».

ثم أفضى الخطيب إلى ذكر التبذير والإسراف في أموال الأمة، وتلا قوله سبحانه «أفمن أسس بنيانه على تقوى اللّه ورضوانه خير، أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم، واللّه لا يهدي القوم الظالمين».

وحج المنصور أيام خلافته، فسمع وهو يطوف في البيت، منادياً يرفع صوته، ويقول: اللهم إنا نشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، فطلبه المنصور، وقال له: من تعني. قال: إياك عنيت، فقد حال طمعك بين الناس وحقهم، استرعاك اللّه أمور المسلمين، فجعلت بينك وبينهم حجاباً وحصوناً، واتخذت وزراء ظلمة، وأعواناً فجرة، إن أحسنت لا يعينوك، وإن أسأت لا يردعوك، وقويتهم على ظلم الناس، ولم تأمرهم بإغاثة المظلوم والجائع.

وذات يوم وزع رسول اللّه بعض الفيء على الناس، وأخذ أعرابي نصيبه فاستقله، وبسط يده، وجذب الرسول من ثوبه جذباً شديداً، وقال: يا محمد زدني، فليس هذا المال مالك ولا مال أبيك، واستل عمر سيفه صارخاً دعني يا رسول اللّه أضرب عنقه، فقال الرسول: دعه ان لصاحب الحق مقالاً.

ضرب رسول اللّه بهذا أصدق الأمثال من نفسه، ليعطي الحكام والأقوياء درساً في تقبل النقد

٣٤٢

والمعارضة من كل إنسان، فلا يستصغرون ضعيفاً، ولا يحتقرون فقيراً، فمهما بلغوا من المكانة فإنهم دون النبي قداسة وعظمة، ضرب من نفسه هذا المثل ليعطي الأقوياء هذا الدرس البليغ، وليشجع المستضعفين على المطالبة بحقوقهم، ويجرئهم على من يظن به الإنحراف عن جادة الصواب كائناً من كان، وقال: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقيل له: كيف تنصره ظالماً، قال: بردعه عن الظلم، وفي الحديث إذا عجزت أمتي عن أن تقول للظالم يا ظالم، فقد تودع منها». وفي هذا الحديث يكمن السبب الأول لتأخر الشعوب وفقرها وجهلها واستعبادها وتآمر الأذناب الخونة عليها.

الإسْلام وفكَرة الزّهْد *

تعرضت كتب التاريخ والتراجم لسيرة الملوك والأمراء، وقادة الجيش، ولم تتعرض بالذات لحياة الفقراء الكادحين، ومع ذلك فباستطاعة الباحث أن يتعرف على حياة الجماهير من خلال دراسته لحياة القادة والحكام، لأن حياة هؤلاء وتاريخهم يرتبط ارتباطاً تاماً بالحياة الاجتماعية، وتاريخ المجتمع على أن المؤرخين وأصحاب السير قد ترجموا لعدد كبير من الشعراء ورجال الدين وعلماء اللغة الذين عانوا آلام البؤس والشقاء، ترجموا لهم لأنهم من أهل الذكاء والمعرفة، لا لأنهم من ذوي الفقر والفاقة، فمن هؤلاء:

عبد الوهاب بن علي المالكي كان بقية ذوي الفضل، وقد ضاق به العيش في بغداد فهجرها، ولدى خروجه شيعه خلق كثير من سائر الطوائف، فقال لهم: لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين في كل غداة ما عدلت ببلدكم بلوغ أمنية. ومنهم الاخفش الصغير علي بن سليمان النحوي عاش أياماً على اللفت النيء حتى انتهت به الحال إلى أن مات جوعاً، ومنهم الخليل بن أحمد النحوي العروضي الشهير كان يقيم في خص من أخصاص البصرة لا يقدر على فلسين، والخص خيمة من القصب، ومنهم أبو الطيب الطبري طاهر بن عبد اللّه كان شيخ الشافعية في عصره وبلغ من العمر مائة وستين سنة صحيح العقل والفهم والأعضاء، يفتي ويقضي ويدرس، كان له ولأخيه عمامة وقميص، إذا لبسها هذا جلس الآخر في البيت وإذا أراد غسلها جلسا فيه معاً، وفي ذلك قال الشاعر:

قوم إذا غسلوا ثياب جمالهم

لبسوا البيوت إلى فراغ الغاسل

_____________________

* - نشر في رسالة الإسلام نيسان ١٩٥٤.

٣٤٣

ومنهم السيرافي النحوي الحسن بن عبد اللّه كان ينسج ويأكل من كسب يده، ومنهم الشيخ أبو حامد الأسفرايني، قيل في سيرته: انه إمام المذهب على الإطلاق وشيخ الإسلام والمسلمين قاطبة، وكان يحضر مجلسه ثلاثمائة متفقه، كان هذا الشيخ يشتغل حارساً في الليل لبيوت الناس، ويقرأ ويطالع على ضوء فانوس الحرس، ومنهم الزبيدي محمد بن يحيى تزيد مصنفاته على مائة تصنيف في شتى العلوم والفنون، وقد بلغ به الفقر والجوع أن يضع نواة في حلقه يلوكها ليتعلل بها. ومنهم عبد القادر السهروردي كان يبقى اليوم واليومين لا يذوق الزاد، وكان ينقل الماء بالقربة بأجر زهيد. وكان الشهيد الثاني زين الدين العاملي على علمه ومكانته ينقل الحطب على ظهره إلى أهله لعجزه عن أجرة الخادم، وباع الشيخ عبد المحسن الصوري عمامته ليشتري بثمنها قوت يومه، ويكفي هذا العدد اليسير مثالاً لحياة قادة الفكر وأئمة الدين واللغة البائسين، وتمهيداً لبيان فكرة الزهد وأسبابها.

عاش الخليل في خص من القصب لا يملك فلسين، واشتغل شيخ الإسلام والمسلمين حارساً، ومات الأخفش من الجوع، عاش هؤلاء وأمثالهم في الحرمان وهم يرون أن الأموال تجبى من العامل والفلاح وغيرهما في شرق الأرض وغربها ليبذرها الخونة والمقامرون على الحرام والفسوق، ويمتلكون بها الدور الشاهقة والضياع الواسعة، وكان من نتيجة هذا الوضع الشاذ أن تراكم السخط والاستياء في نفوس الشيوخ المحرومين من الذين قدمنا ذكرهم، والذين لم نأت لهم على ذكر، وعوضاً عن أن يحملهم هذا الاستياء على النضال وجهاد القائمين على الظلم، فقد انقلب في نفوس الكثير إلى يأس من الاصلاح وتبدل الحال وتولد من هذا اليأس فكرة الزهد في الحياة الدنيا، والتهوين من شأنها. وكان لهذه الفكرة خطورتها وتأثيرها في الحياة الاجتماعية بين المسلمين، فكتب علماؤهم في الزهد وأطالوا، ودعوا إليه في المساجد والمحافل، وألبسوه ثوب الدين والقداسة، والزهد بمعنى الاعراض عن طيبات الحياة ليس له مصدر في الكتاب الكريم، ولا في السنة النبوية، وإنما انعكس في أذهان البائسين من فقرهم وفاقتهم، ان أفكار الإنسان ورغباته لا تأتيه عفواً، ولا تهبط عليه من السماء، وإنما تتولد من واقع حياته، والظروف التي تحيط به.

ولولا وجود الفقراء المعذبين في الأرض، لولا الطمع وظلم الإنسان للإنسان، لو طبق مبدأ التعاون الأخوي، والمساواة دون اعتبار لطبقة أو فرد، لما عرف الناس معنى الزهد، ولما كان للفظه في قواميس اللغة عين ولا أثر، ويكفي للدلالة على هذه الحقيقة زهد الإمام عليعليه‌السلام ، وأبي ذر،

٣٤٤

وغيرهما من أنصار الحق، ودعاة العدالة، قال الإمام: هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل في الحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له في الشبع، وقال أبو ذر: عندما خصه عثمان بمبلغ من المال لا أقبل عطاء لا يعم كل معوز.

أعرض الهداة المتقون من الزهاد عن متاع الحياة وطيباتها لا رغبة عنها، بل احتجاجاً على من استأثر بها، واحتكرها لنفسه دون سواه. أرادوا أن تكون الحياة وخيراتها للجميع، أرادوها اجتماعية عامة لا فردية خاصة، أرادوا القضاء على الفوارق والامتيازات ليعيش الجميع في أمن وسلام، فلا تكالب ولا تطاحن على أرزاق الشعوب، ولا حقد ولا حسد على الرغيف.

زهد الإمام في لذائذ العيش، وهو الحاكم المطلق ليفهم الأجيال أنه ليس لمن يتولى أمور الناس أن يشبع، وفيهم جائع واحد. إن الاعراض عن متاع الحياة مواساة لمن حرم منها، كما فعل الإمام، إن دل على شيء فإِنما يدل على قيمة الحياة وأهميتها لا على احتقارها وازدرائها، وقد ثبت في الحديث الشريف أن حرمة الأموال كحرمة الدماء، فالاعتداء على قوت إنسان اعتداء على دمه وحياته، فكيف بالغاصبين المحتكرين أقوات الشعوب وموارد ثرواتهم !

أما الآيات والروايات التي استدل بها بعض الزهاد، فلا تدل على الترغيب في التقشف والاعراض عن اللذائذ، إِنما تدل على وجوب الزهد في المحرمات، والكف عن السلب والنهب، والخيانة والكذب، على أن يضحي الإنسان بالنفس والمال في سبيل الحق، ولا يؤثر الخبيث على الطيب. قال اللّه سبحانه وتعالى: «وابتغ فيما آتاك اللّه الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا» «ألم تر أن اللّه سخر لكم ما في الأرض» «لا تحرموا طيبات ما أحل اللّه لكم ولا تعتدوا إِن اللّه لا يحب المعتدين».

المُحَرّم هو اعتداء الإنسان على حق أخيه، وتهاونه بنصيبه من هذا الحق.

وقد جاء في الحديث الشريف (ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة، ولا الآخرة للدنيا، ولكن خيركم من أخذ من هذه وهذه - المؤمن القوي خير وأحب إلى اللّه من المؤمن الضعيف).

ولا ريب أن الإنسان يقوى بالمادة، وما تقدمت الإنسانية إِلا بعد أن كشف العلم عن حقيقتها، وسلك بها سبيل الخير والعمار، لا سبيل الشر والدمار.

وبعد، فإن الإسلام دين القوة والعمل، لا دين الرهبانية والكسل.

٣٤٥

ستّة يعرفونَ بسيماهم *

قال الإمام الصادق (ع):

* للمرائي ثلاث علامات: يكسل إِذا كان وحده، وينشط إِذا كان الناس عنده، ويجب أن يحمد بما لم يفعل.

* وللكسلان ثلاث علامات: يتوانى حتى يفرط، ويفرط حتى يضيع، ويضيع حتى يأثم.

* وللمسرف ثلاث علامات: يشتري ما ليس له، ويأكل ما ليس له، ويلبس ما ليس له.

* وللمنافق ثلاث علامات: إِذا حدث كذب، وإِذا وعد أخلف، وإِذا اؤتمن خان.

* وللظالم ثلاث علامات: يعصي مَن فوقه، ويعتدي على من دونه، ويظاهر الظالمين.

* وللحاسد ثلاث علامات: يغتاب إذا غاب، ويتملق إذا شهد، ويشمت بالمصيبة.

ثم قال: ولكل واحدة من هذه العلامات: شعب يبلغ العلم بها أكثر من ألف باب.

ويجمع هذه العلامات وشعبها فقدان الشعور بالواجب الذي يمليه الدين والضمير، وقد توجد هذه العلامات كلها أو بعضها مجتمعة في شخص واحد.

إِن الشعور الوحيد الذي يسيطر على صاحبها، ويدفعه إلى الحركة منفعته الخاصة

_____________________

* - نشر في العرفان نيسان ١٩٥١.

٣٤٦

التي استعمل لأجلها الأساليب، واتخذ من غايته مبرراً للكذب والخيانة والغش والخديعة، ولا وزن للقيم الروحية عنده، إِذ الفضيلة في نظره لا تقاس بمقياس النبل والمروءة، وضميره لا يؤنبه على ما يتنافى وشيئاً من ذلك، وإنما يؤاخذه على أنه لم يكن يحسن سبل الاحتيال التي تحقق انانيته، فمن العبث، والحالة هذه، أن ترغبه في ترك الجريمة مناشداً ومبيناً أن عمله يأباه الدين القويم والخلق الكريم.

لقد كثر المصابون بهذا النقص كثرة عمت جميع الفئات، فإنك تجدهم بين الموظفين والاطباء ورجال الدين والمحامين وفي الشوارع والأسواق، وفي المدارس والمزارع، وفي كل مكان، ولا شيء أدل على هذا الوباء وانتشاره من كثرة التذمر وتراكم الاستياء، فالموظف يشكو من عدم إِنصافه في حين أنه يكسل في عمله حتى يفرط، ويفرط حتى يضيع، والشاب المتعلم يشكو من عدم تقدير الناس لحامل الشهادات «والعبقرية الفذة» ولكنه لا يتورع عن ظلم زميله، فينتقصه إذا غاب، ويشمت به إذا فشل، ورجل الدين يشكو من فساد الاخلاق ولكنه في نفس الوقت يحب أن يحمد بما لم يفعل، وقل مثل ذلك في المحامي والطبيب وما إليهما.

إِن تفشي الرذيلة بهذا النحو يحدث خطراً كبيراً على المجتمع، ويسبب مشاكل اجتماعية عديدة، وإذا عولج الفقر بزيادة الإنتاج، والمرض والجهل في المؤسسات العلمية والصحية، فإن الخلق السيئ لا يعالج بغير الشعور بأن وراء هذه الطبيعة قوة خفية تراقب، وتحاسب، وتثيب، وتعاقب، شريطة أن ينعكس هذا الشعور في الأقوال والأفعال، وتكون هي أثراً من آثاره.

بهذا الإيمان، الإيمان باللّه وحده، وبهذا الشعور، الشعور بالخوف والرجاء تهذب الأخلاق فتموت الرذيلة، وتحيا الفضيلة، وتسود المحبة التي تثمر الثقة المتبادلة، والتعاون المنتج.

يقول بعض الفلاسفة: إن من يفعل حسناً أو يترك قبيحاً بدافع الخوف والرجاء من اللّه سبحانه أو الدولة مثله مثل المجرم، وأحسب أن في هذا القول شيئاً من التسامح، فإن الدوافع والبواعث مهما كان نوعها لا تغير من حقيقة ما هو حسن بالذات أو قبيح بالذات، والذين ينزعون إلى الخير بذاتهم، ويفعلونه من تلقاء أنفسهم أندر من الكبريت الأحمر، فالشعور بأن فاعل الخير عظيم مثاب عند اللّه تعالى، وفاعل الشر حقير معاقب ضرورة أخلاقية اجتماعية له فوائده وثمراته، هذا بالإضافة إلى أنه من أهم أركان الدين، ومن هنا تعرف سر ما جاء في الكتاب العزيز «وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون».

٣٤٧

العمَامة وَرجَال الدّين *

كان اللباس في عهد الرسول ص والخلفاء الراشدين، وأول عهد العباسيين واحداً لا تمييز فيه لأحد على أحد، فلا فرق بين لباس العالم والجاهل، ولا بين رجل الدين وغيره، فالنبي ص وخلفاؤه وأصحابه جميعاً كانوا يلبسون كما تلبس الناس، فكان العالم يُعرف بهديه وآثاره، لا بثيابه ومظاهره.

وأول من غيّر لباس رجال الدين في الإسلام إلى هيئة خاصة هو أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة، وفي المجلد الأول من كتاب المدخل لابن الحاج ص ١٣٧ أن تمييز رجال الدين باللباس عن غيرهم مخالف للسنة، ثم ذكر مفاسد تترتب على هذا التمييز نلخصها بما يلي:

إِن تمييز رجال الدين في اللباس يستدعي - كما رأينا - أن يتزيّا بزيهم من لا أهلية له، فيتقدم ويترأس في المجالس وغيرها على من هو خير منه علماً وخلقاً، وتنخدع العوام بثوبه فيأتمنونه ويسألونه عن أشياء لا يعرف حكمها، ويمنعه زيه ولباسه أن يقول لا أعلم، كي لا يقال: إِنه جاهل ومتطفل يلبس ثوب غيره فيفتي بما لا يعلم، ويحكم بغير ما انزل اللّه سبحانه.

ولو كان لباس العلماء كلباس غيرهم من الناس لم تقع هذه المفاسد، ولعمَّ بهم النفع، وحصلت البركة والراحة والخير على أيديهم، وضرب شاهداً على ذلك ما حكي عن العالم أبي الحسن الزيات كان من عادة هذا العالم الجليل أن يلبس لباس العمال، ويعمل في أرضه كما يعملون، وفي ذات يوم خرج ليعمل في أرضه كعادته، وإذا بالشرطة يأخذونه مع غيره من العمال ليشتغلوا سخرة

_____________________

* - نشر في العرفان تموز سنة ١٩٥٤.

٣٤٨

في بستان السلطان، وكان الشرطة يسمعون باسمه، ولكنهم يجهلون شخصه، وليس عليه ما يدل على علمه ومكانته، فسمع وأطاع، وعمل كغيره، ودخل الوزير البستان يراقب الأعمال، وما أن وقعت عيناه على الشيخ حتى انكب على قدميه يقبلهما ويعتذر، ويقول: من جاء بك يا سيدي، فقال: أعوانكم أيها الظلمة، قال أقلنا يا سيدي، واخرج بسلام، فأبى الشيخ إِلا أن يبقى مع المظلومين، وقال: هؤلاء إخواني، كيف أخرج، وأدعهم في ظلمكم ! قال الوزير: يخرجون معك، فأبى الشيخ، وقال: غداً تعودون بهم إلى السخرة، فأعطاه الوزير أوثق العهود على أن لا يسخر أحداً أبداً، فرضي الشيخ، وخرج هو والعمال.

ثم قال صاحب كتاب المدخل في صفحة ١٣٩ «إِنما عز الفقيه بفهم المسائل وشرحها ومعرفتها، ومعرفة السنن والعمل بها.. ومعرفة البدع وتجنبها.. قال اللّه سبحانه: إِنما يخشى اللّه من عباده العلماء. فجعل خلعة العالم الخشية والورع، ولكن البعض جعل خلعته توسيع الثياب والأكمام وكبرها وحسنها وصقالتها».

قال صاحب البحار في المجلد السادس ص ٢٠٩ طبعة ١٣٢٣ هجرية «كان النبي ص يلبس القلانس تحت العمائم، والعمائم بغير القلانس.. وكانت له عمامة يقال لها السحاب، فوهبها للإمام عليعليه‌السلام وكان ربما طلع فيها الإمام، فيقول النبي ص أتاكم علي في السحاب» ويدل على هذا أن النبي لم يكن يتقيد بزي خاص، ولم يوجب أحد من أئمة الدين على طلاب العلم وشيوخه لباساً معيناً.

وبعد أن أصبحت العمامة شعاراً مقدساً بحكم العادة واستمرارها وجب صيانتها من يد العابثين وضحكة الهازئين، وجب على أهلها الحقيقيين أن يلزموا أولي الأمر بسن قانون يحوطها من الفوضى، ويصونها من جاهل منتحل، ومراء محترف، لو تزيَّا غير الشرطي بزي الشرطي لعاقبه القانون، فهل تأتي الأيام، ونرى لمرجع ديني كبير ما لشرطي صغير من نظام يحفظه ويرعاه، وإِن عجز أهل الدين والعلم الصحيح عن إِيجاد هذا النظام فألف خير لهم وللمجتمع أن يسيروا مكشوفي الرأس، أو يلبسوا الكوفية والعقال من أن يتزيَّا بزيهم الجهلاء والدخلاء.

إِن الدين فوق كل شيء، ولكن ليس له حارس يحرسه، ولا سياج يحفظه، اللهم إِلا صوت الاستعمار يخوفنا من عدوه، ويوصينا بالاحتراس منه، يخاف الاستعمار على الدين من عدو الاستعمار، كأن الدين يوالي الاستعمار ويحالفه، وليس للدين عدو كالاستعمار ولا خصم كالاقطاع، لأنهما يدينان بالغي والفساد، فيكفران باللّه وحقوق الإنسانية ويتخذان من الدخلاء على الدين وسيلة لتحقيق ما يبغيان، وهذا وحده يحتم على رجال الدين الذين هم منه في الصميم

٣٤٩

أن يسلكوا كل سبيل للغربلة والتصفية.

يَوم عَاشُورَاء *

لو آمن الناس بقول قائل: ان الحق للقوة لكان عليهم أن يرموا بكل كتاب مقدس، وبكل تشريع ودستور في عرض البحر.

حيث لا عدل، ولا فضيلة، ولا إيمان إلا بالمادة، والنتيجة الحتمية لهذا المنطق إن الإنسانية والجماد في الميزان سيان.

لو كان الحق للقوة ما كان لشهداء الفضيلة ذكر، ولا لأبطال التحرير فضل، وكان السفاكون الهادمون في كل عصر ومصر كيزيد هم الكون بكامله.

إن يوم عاشوراء لأحد الشواهد الصادقة على أن من تسلح بالمادة وحدها فهو أعزل.

ليس يوم عاشوراء احتجاجاً على يزيد وجيش يزيد فحسب، وإنما هو دليل قاطع على أن من يقف أمام الغاصب الطاغي ساجد الركاب منحني الرأس معفر الجبين يمد إليه يد الذل والاستجداء، دليل على أنه ليس له من الحق شيء، وأنه يستحق الحياة. ألا ترى إذا رآه الرائي قال: شقي بائس، ولم يقل: صاحب حق مهتضم.

إن صاحب الحق يمد إلى حقه يد القوة والعزة، يمدها وهو عالي الرأس ثابت الجنان، ولا يردها إلا قابضة على حقه، أو تقطع مجاهدة في سبيل الحق والعدالة، فإن قطعها في هذا السبيل حياة، وبقاءها ممات، والسلام على الحسين القائل: «إني لا أرى الموت إِلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برماً».

ليس يوم عاشوراء عاطفة مذهبية شيعية نحو الرسول وأهل بيته، عاطفة

_____________________

* - تليت في الكلية العاملية يوم العاشر من المحرم سنة ١٣٧١ هجرية.

٣٥٠

ولدها الضغط على الشيعة، كما زعم الزاعمون، ولكنه تكريم للبطولة والتضحية، وإحياء للجهاد المقدس، واعتزاز بالاباء والكرامة، وإيمان بسلطان العدالة والحرية، وثورة على معاهدة سنة ٣٦ المصرية، وعلى الشركة الأنكلوايرانية، وعلى الاستعمار في تونس وعلى الفساد في جميع البلاد، على كل ظالم مستعمر ومستثمر أموياً كان أم غير أموي.

ليس يوم عاشوراء للشيعة فحسب، ولا للسنة، وإنما هو للناس أجمعين، لأنه جهاد وتضحية، وحق وصراحة، ونور وحكمة، وليس لهذه الفضائل دين خاص، ولا مذهب خاص، ولا وطن خاص، ولا لغة خاصة. هذا هو يوم عاشوراء في حقيقته ومغزاه.

أما زيارة كربلاء وشد الرحال إليها من بلاد نائية فهي تكرار وتأكيد لما يهدف إليه يوم عاشوراء، وإنك واجد تفسير ذلك مكتوباً في القطع المعلقة على قبر الحسين بتلوها الزائر ساعة دخوله الحضرة المقدسة، وخروجه منها، وقد جاء فيها:

«إني سلم لمن سالمكم، وحرب لمن حاربكم محقق لما حققتم مبطل لما ابطلتم، فاسأل اللّه أن يجعلني من خيار مواليكم العاملين بما دعوتم إليه، اهتدي بهديكم، وأن يجعل محياي محيا محمد وآل محمد، ومماتي ممات محمد وآل محمد».

يتلو الزائر هذه الكلمات وأمثالها بقلب خاشع ونفس مطمئنة في بقعة ارتفع فيها صوت الحق ضد الباطل، وخفقت رايات الهدى ضد الضلال، وشع فيها نور العدالة ليمحو ظلام الجور، واريقت دماء زكية لتطهر الأرض من رجس الاستعباد.

لم تعرف الكرة الأرضية في عهد يزيد مناصراً للحق غير هذه البقعة الصغيرة المسماة بأرض كربلاء، يقصدها الزائر ليشهد اللّه والناس على نفسه أنه لا يتبع إلا الحق، ولا يناصر إلا أهله، وأنه عليه يحيا ويموت، يحيا حياة محمد وآل محمد، ويموت ممات محمد وآل محمد.

إذن ليس معنى زيارة كربلاء تأليه الأحجار والأخشاب، وعبادة الأرض والتراب.

هذا شاعر - الجواهري - زار قبر الحسين، وبيّن الغاية من زيارته، والهدف من رحلته، فقال: إني زرت قبر الحسين، وشممت ثراه كي يتسرب إلى نفسي نسيم الاباء والكرامة، ويهب على قلبي ريح الحق والعدالة، وعفرت خدي بالتراب، حيث يضع، وقطع خد الحسين، ولم يخضع لظالم، ولثمت أرضاً وطأها الحسين، لأن خيل الطغاة جالت على صدره وقلبه وظهره وصلبه، ولم يهادن، ولم يمالئ من سلب الشعب حريته، والأمة حقوقها.

شممت ثراك فهب النسيم

نسيم الكرامة من بلقع

٣٥١

وعفرت خدي بحيث استرا

ح خد تفرّى ولم يخضع

ولا يبتغي الزائر الشاعر بعد هذا الدليل دليلاً على قداسة غايته ونبل مقصده، وأي دليل أصدق وأبلغ وأوضح على عظمة بقعة دفن فيها من نثرت السيوف لحمه دون رأيه وضميره، ورفع رأسه على الرمح دون إيمانه وعقيدته، وأطعم الموت خير البنين والأصحاب من الكهول إلى الشباب إلى الرضع دون مبدئه ودعوته.

وماذا أأروع من أن

يكون لحمك وقفاً على المبضع

وأن تتقي دون ما ترتأي

ضميرك بالاسل الشرع

وأن تطعم الموت خير البنين

من الأكهلين إلى الرضع

إن يوم عاشوراء وزيارة كربلاء هما رمز الحرية والمساواة بين الأسود والأبيض، والعربي مع العجمي، والملك وابن الشارع، وانه لا فضل إِلا لمن جاهد وكابد في سبيل هذه المساواة، المساواة في الغرم والغنم، فلا ظالم ومظلوم، ولا جائع ومتخوم، ولا عطشان وريان.

٣٥٢

نحْنُ أعدَاء الظُّلم *

(الملك يبقى مع الكفر، ولا يبقى مع الظلم) نطق بهذه الحكمة العلامة المجلسي في كتابه بحار الأنوار، وهو أحد أئمة الدين الإسلامي.

وإن حوادث التاريخ لتشهد لهذه الحكمة بالحق والصدق. إن الحكم الذي يرتكز على الانساب والوراثة، ومظهر الدين، ورضا الأفراد المقربين لا يلبث حتى يزول، والأساس الثابت للحكم هو ثقة الشعب وولاؤه. وما فاروق عنا ببعيد، فهو من سلالة الملوك والأمراء، وتولد من أبوين مسلمين، وأقر بالشهادتين وكان يحضر في المساجد للصلاة، ويقيم موائد الإفطار في رمضان للصائمين، ويستمع لتلاوة القرآن الكريم.

قال الرسول الأعظم ص مفتخراً: (إني خلقت في زمن الملك العادل) يفخر محمد بعدالة رجل لم يكن على دينه، ولا من بلده ولا لغته من لغته، يفخر به وبزمانه لأنه ساوى بين الناس أجمعين، ورفع ظلم القوي عن الضعيف، وطمع الغني بالفقير، وحال بين استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، وهذي هي دعوة نبي الإخاء والمساواة ورسول المحبة والسلام.

أجل، كان هذا الملك يعبد النيران، ولكنه لم يتقلب هو وأهله وحاشيته في النعيم والهناء، وشعبه يقاسي عذاب البؤس والشقاء، ولم يتحصن بحجاب يطردون عن بابه الضعيف المظلوم، ويرحبون بالقوي الظالم، بهذه المساواة بين الناس كافة كان ذلك المجوسي عظيماً عند الرسول، على ما بينهما من البعد في الدين واللغة والوطن.

_____________________

* - تليت في الكلية العاملية يوم العاشر من المحرم سنة ١٣٧٢ هجرية.

٣٥٣

فالقريب - إذن - من قربته الإنسانية، وإن بعد لغة وديناً وبلاداً، والبعيد من أبعده الطمع والجشع، وإِن قرب ديناً ولغة ووطناً ونسباً، والرجل الصالح العادل من شعر بالتبعات، وتحرر من الشهوات، وقام بواجبه الإنساني بصبر وشجاعة، أما أن يتظاهر بالدين، بالإيمان بالغيب، والمحافظة عليه، والدفاع عنه، ثم يعمل أعمالاً إجراميةً وحشية فإن الحق والدين يبرآن منه، ومن أعماله، فمسلم ومسيحي ومجوسي اسماء تدل على أن هذا الإنسان تولد من أب مسلم أو مسيحي أو مجوسي لا أكثر ولا أقل، وماذا يجدي الانتساب إلى الدين، إذا لم يكن معه حق وعدالة وقد رأينا المستعمر يتخذ من التظاهر بالدين وسيلة لتوطيد أقدامه، وتغطية عدوانه، ويوجد في عصرنا هذا حكام مسلمون، وغير مسلمين، فهل الحاكم المسلم أصلح وأنفع لشعبه من الحاكم غير المسلم !

كان ملك الفرس يعبد النيران، ولكنه لم يفسد في الأرض بعد إِصلاحها، فيحول خيراتها لإبادة العالم، أو يخصص هذه الخيرات بفئة من الفئات وبهذا كان صالحاً عادلاً يفخر الرسول به وبزمانه.

ونحن المسلمين الذين ندين بدين محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله لسنا أعداء دين من الأديان، ولا قومية من القوميات، ولا شعب من الشعوب، ولسنا شعب اللّه المختار كما تزعم الصهيونية لنفسها، وإنما نحن أعداء الظلم والاستعمار والتضليل.

نحن أعداء الصحافة المضللة التي عميت عن بؤسنا وشقائنا، واهتمت بنشر الأزياء، بأخبار الفساتين في باريس. والإعلان عن السيقان الجميلة، ومدينة الملاهي، والكازينو، ولو حسنت نية أربابها وتوخوا الصالح العام، والتوجيه المفيد لنشروا في صحفهم عن كيفية إنتاج الحليب والزبدة في هولندا، وإنتاج الحبوب في أميركا، ووسائل الري في روسيا، وتربية الدواجن في أوروبا.

ونحن في أشد الحاجة إلى هذا التوجيه، إلى الانتفاع بإمكانياتنا المادية، والتحرر من اغلال الامتيازات وقيود الشركات وطوفان البضائع الأجنية.

٣٥٤

لِمَن العِيد ؟ *

كان المجتمع العربي الإسلامي إلى نهاية الحرب الأولى. وقبل أن تقع البلاد العربية فريسة المستعمر يعيش بعقائد ومبادئ يستمدها من دينه الذي كان مصدر معرفته، كما أنه سبيل سعادته وهدايته.

فمناهج التربية كانت توجه نحو القيم الروحية، وتوضع في ضوء أصولها وقواعدها. وكان الفقه الإسلامي يفصل بين الناس في منازعاتهم في المحاكم وغير المحاكم. فالمتعلم من حفظ القرآن، وتعلم العقائد وعلم الكلام، وعرف التفسير والحديث، والقانوني من درس الشريعة الإسلامية، والرجل الطيب من كان سلوكه صورة عن الخلق الإسلامي الصحيح. والخائن من زاغ عن منهج الدين، واستخف بتعاليمه حاكماً كان أو محكوماً.

وكان من نتيجة ذلك أن التعاليم الدينية كانت واضحة في أذهان الناس، متمكنة من نفوسهم، فيعرفون الشيء الذي يأمر به الشرع، أو ينهى عنه، فيخضعون لأمره ونهيه طوعاً لا كرهاً واقتناعاً لا حياء، ويميزون بين الواجب والمحرم والمندوب، فيمتنعون عن السرقة والكذب والزنا والخمر، لأن هذه محرمة، ويؤدون الصلاة والزكاة والحج، لأنها واجبة، ويتصدقون مؤمنين بأن الصدقة سنة ندب إليها الشرع الشريف، هكذا كان المجتمع يواجه الحياة بعقيدة تهديه، وتسدد خطاه، وبدين يهذب من سلوكه وأخلاقه. فكان الفرد وهو في أحسن أوقات النعيم يشعر بالخوف من اللّه، وبحافز يبعثه إلى أن يساءل نفسه: ما هي

_____________________

* - تليت في اجتماع ديني في الزيدانية ببيروت ١٩٥٢ واذيعت في الوقت نفسه من محطة الإذاعة اللبنانية.

٣٥٥

عاقبة النعمة التي وهبني اللّه إياها ؟ هل أثاب عليها أو أعاقب، وماذا سيكون موقفي أمام اللّه إذا سألني عنها ؟ لقد كان الإحساس الديني يلازمه في جميع أحواله، حتى عند المعصية، فسرعان ما يندم ويبالغ في الانابة والتوبة.

وقد أعطانا الاحتلال الأجنبي مجتمعاً جديداً، أعطانا مجتمعاً لا يهتم بالعقائد والأخلاق، ولا يعرف من المبادئ قليلاً ولا كثيراً، وعرف الأجنبي كيف يخلق مجتمعاً أعزل من الضمير والمثل العليا، فوجه اهتمامه قبل كل شيء إلى الشريعة الإسلامية، فأزاحها من المحاكم ودور القضاء، وأحل محلها القانون الوصفي الذي يتلاءم مع أغراضه الاستعمارية، كما ألغى من المدارس كل ما يمت إلى الدين واحياء الضمير بسبب، ووضع منهاج التربية على أساس قتل الروح الوطنية، وإضعاف اللغة العربية، وطلى عقول الناشئة بألفاظ جوفاء تتطاول بها إلى الكراسي والمناصب، ولو أن الأجنبي حين الغى الدين من مناهج التربية أحل محله العلم الذي نجابه به مشاكلنا الاقتصادية لهان الخطر، ولكنه حاول أن يجردنا من الروح والمادة معاً ليبرر استغلاله وجشعه.

أجل هكذا أراد المستعمر أن نكون، أن نعيش في ظلام دامس، وجو مفعم بالغموض بالنسبة للعقائد وآداب السلوك، وقد تم له ما أراد، أو بعض ما أراد، وإِن أردت برهاناً على ذلك فقارن بين احترامنا لشهر الصيام اليوم، واحترامنا له بالأمس، وبين أغنياء المسلمين اليوم، وأغنيائهم بالأمس، فمن بنى هذي المدارس والمساجد ؟ ومن أوقف الأسواق والمخازن في سبيل الخير ؟ وقل لي بربك هل تستطيع أن تجمع قليلاً من المال دون أن تقيم حفلاً برئاسة حاكم أو وزير تنشد بين يديه القصائد الطوال، والخطب الرنانة في المديح والثناء، وتسلك الف سبيل وسبيل، تفعل ذلك مرغماً لأن الغني لا يتبرع لأي عمل خيري إِلا ملقاً لحاكم أو زعيم، أو رغبة في رتبة، أو شهرة. هذي هي أخلاقنا أخلاق تجارية لا دينية، وهذي إِحدى الأسباب للضعف والانحلال، وأي شيء أدل على الضعف من المظاهر يوم العيد الذي سيطل علينا غداً، لمن هو العيد ! ومن هم الذين سيعيدون ويفرحون ؟ هم الأغنياء ونساؤهم وأطفالهم، أما الأرامل والأيتام، والعاطلون عن العمل فلهم الحسرات والتنهدات للأغنياء اللحم والحلوى والفاكهة وللفقراء الجوع والعطش والدموع. للاغنياء الأجواخ والحرير، وللفقراء الأجساد العارية والثياب البالية، للأغنياء القصور والخدم، وللفقراء الأكواخ وحرارة الشمس، للأغنياء السينما والملاهي، وللفقراء الشوارع والرمال، للأغنياء سيارات الكدلك والبويك، وللفقراء الدهس والسب والشتائم !

ألا ليت يوم العيد لا كان انه

يجدد للمحزون حزناً فيجزع

٣٥٦

وإذا كانت الأنظمة الوضعية لم تبدع للإنسانية شيئاً أفضل مما أبدعه الإسلام فعلينا نحن المسلمين أن نضرب أمثلة من أفعالنا، لا من أقوالنا هذه الحقيقة، أن نضرب أمثلة بالتضحية لا بتلاوة القرآن والخطب والأناشيد فحسب. إن هذا ليس بشيء عند اللّه إذا لم يكن سبيلاً إلى تطبيق تعاليم الإسلام الذي حارب فكرة الإنقسام والتفاضل بين الناس على أساس الغنى والفقر، والانساب والمناصب.

نحن لا نريد أن نعيش بالأحلام العقيمة، ونسعد لأن اسمنا مسلمون، وكفى، إننا نكون مسلمين حقاً سعداء حقاً إذا تدبرنا آي الذكر الحكيم، وتعاونا جميعاً على خير هذا الوطن، على أن يكون مجتمعنا في أمن وأمان من الجوع والمرض والجهل. أيكون الإنسان منا مسلماً، وهو لا يستطيع أن يرى أحداً إِلا أصحاب الجاه والمال ولا يحترم إلا زعيماً أو حاكماً. جاء في الحديث الشريف أن الفقراء هم صفوة الخلق، وان من أراد اللّه فليطلبه عند الفقراء، أي من أراد الحق فلا يبحث عنه في المريخ ولا عند أرباب العروش والتيحان، لأنه لا يجده هناك، إنما يجده في العمل الذي يرفع البؤس عن البائسين، والعوز عن المعوزين، يجده في السبيل الذي يطعمهم من جوع ويؤمنهم من خوف. إن حياة اليسر والراحة تعين على طاعة اللّه وعبادته، وتبعد عن محارمه ومعصيته.

وما كان ربك ليهلك القرى وأهلها مصلحون.

٣٥٧

الجشَع *

كان الناس فيما مضى لا يتطلبون من رجل الدين أن يتكلم في أشياء تخرج عن تعاليم مدرسته ودائرة اختصاصه، فإذا خطب أو كتب تناول موضوعات تكاد تنحصر في العبادات والفقه والوصايا العشر، وما إليها، وكان يسند أقواله إلى كتاب منزل، أو نبي مرسل، أو حكم العقل، أو إجماع الأمة، هذا إذا كان من ذوي العلم والتحصيل، وإلا اسندها إلى مصدر غير صحيح، أو أرسلها إرسالاً من غير اسناد معتمداً على اسم الدين وماله من قداسة وهيبة في النفوس، وكانت هذه القداسة وحدها تقوم عند المؤمنين والاتباع مقام التعليل وذكر الدليل، فهي الحجة القاطعة لإثبات الحق في فصل الخصومات، وحل المشكلات.

أما اليوم فقد عم الوعي، وخضع كل شيء للنقد والتساؤل، وبنيت الحياة واشياؤها على العلم، على التجربة والمشاهدة، فأي مبدأ أو قول كائناً من كان قائله لا بد يتناوله البحث والتمحيص، ومن حاول أو يحاول الافلات من النقد والبحث الحر فإنما يقيم الدليل على أنه يبني على غير أساس، ويسير على غير هدى. إن الويل لمن زلت قدمه عن جادة الصواب، وتجاوز حدود الواقع، واستعان بالأوهام والتخيلات.

إن الدعاية الصحيحة أو قل الناجحة هي أن تعلن الواقع بدون مبالغة أو تحريف، أما إعلان ما ليس بواقع فينتج عكس الغرض المطلوب، لهذا لا أذكر شيئاً مما قرأته في كتاب أو سمعته من أفواه الرجال عن فوائد الصوم، لأن الصوم عبادة، والعبادة لا تصاب بالعقول، ولا تفسّر بالأوهام، بل يختصر فيها على ما نطق به

_____________________

* - اذيعت من محطة الإذاعة اللبنانية ونشر في جريدة «الجريدة» في شهر رمضان المبارك سنة ١٩٥٥.

٣٥٨

القرآن الكريم، وثبت في السنة النبوية.

سأتحدث عن الجشع لا عن الصيام، وكلاهما من وحي رمضان المبارك، لأن الشيء يعرف باضداده كما يعرف بنظائره.

جاء في الحديث الشريف عن الرسول الأعظم ص وآله «الجشع أشد من حرارة النار». وهذا حق، لأن النار لا تنفذ إلى أعماق الأرض، بل تقف عند حد لا تتعداه، إن لم تجد ما تأكله، أما الجشع فلا يحده شيء ولا يشبهه شيء يلتهم ما فوق الأرض وما تحتها ولا يبقي لأحد باقية، وربما كانت الحكمة من وجوب الصوم، والعلم عند اللّه، استنكاراً للجشع والطمع، وإثارة النقمة على أهله الذين يحتكرون الأقوات، ويتحكمون بالأسعار، واحتجاجاً على أصحاب القصور التي تقوم حولها بطون خاوية، وأجسام عارية، وعلى الجامعات والمستشفيات التي اسست للاستغلال والمراباة.

قال الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام «إن كنت تريد من الدنيا ما يكفيك فإن أيسر ما فيها يكفيك، وإن كنت تريد ما لا يكفيك، فإن كل ما فيها لا يكفيك» أي أن كل إنسان لو عمل لكفايته وسد حاجته، لما هو ضروري وحيوي لوجوده وحياته، فإن في هذه الأرض الواسعة الخيرة من الأرزاق ما يكفي جميع سكانها بالغاً ما بلغوا. أما لو عمل للربح والسيطرة والظهور فإن كل ما في الدنيا لا يكفي واحداً، لأن اللاكفاية كاللانهاية لا تحد بحد.

لو أخذ العالم بهذه النظرة لما عرف الناس المشاكل، ولاستراح كل بلد من القلاقل والاضطرابات الداخلية والخارجية، ولسرحت الجنود من ثكناتها، وتحولت مصانع الأسلحة إلى صنع الطعام واللباس، ولم يبق أي داع لوسائل القسوة والعنف، لو عمل كل إنسان للكفاية لما وجد فقير، ولما احتاج أحد إلى الصدقات والمبرات.

إن سلوك هذا السراط هو الذي يأخذ بيدنا إلى حيث نريد وكل جهد يبذل لتجنب الأخطاء والويلات لا بد يتحول إلى النقيض إذا انحرفنا عن هذا النهج القويم، قل في تحديد الفضائل والقيم ما شئت أن تقول وتفلسف ما استطعت فإنك لا تجد ولن تجد لقيمك مكاناً في نفس عاقل إذا لم تحمه من جشع المستغلين، وطمع المستثمرين، إن هدف الإنسان في هذه الحياة أن يحياها بعدالة وسلام، لا أن يفلسفها بمواعظ وكلام، ان الرذيلة أن نبقى في مكاننا من الانحطاط، والفضيلة أن تكون لنا عيشة راضية، ومدارك نامية، وأخلاق سامية، والأخلاق السامية في نظر الإسلام ترتكز على التقوى، فإن الاتجاه إليها يتمثل في كل آية من القرآن الكريم، وكل حديث للرسول العظيم، وكل مبدأ من مبادئ الإسلام، وكل حكم من أحكامه.

٣٥٩

وليست التقوى مظاهر وطقوساً تؤدى في المعابد فقط، وإنما هي العمل المنتج، ولا يمكن أن نفهم أو نتصور التقوى مفصولة عن العمل النبيل، ولا يكون العمل نبيلاً إلا إذا كان مقروناً بالإيمان بأن لك مثل ما لغيرك، وعليك مثل ما عليه دون زيادة أو نقصان في المغنم والمغرم.

بهذا الإيمان، الإيمان بالواجب لا بالقوة نكون من المتقين الأخيار، تؤثر الحق على الباطل، والشجاعة على الجبن، والصراحة على المداهنة، والاباء على الذل، ونقول للظالم يا ظالم، وللخائن يا خائن، وللجاهل يا جاهل. بهذا الإيمان نحيا حياة طيبة لا نخاف ظلماً ولا هضماً، وبدونه نحيا حياة الذل والبؤس، وتسود فينا الرذيلة والفجور، والنفاق، والملق «اللّه ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون».

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419