الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان9%

الشيعة في الميزان مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 419

الشيعة في الميزان
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 145592 / تحميل: 9682
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

دَرس مِن المَاضِي *

اعتاد كثيرون من خطباء الجوامع والكنائس أن يأمروا بتقوى اللّه، وينهوا عن معصيته، يوجهون هذه الموعظة - في الغالب - إلى المستضعفين الذين يظلمهم الأقوياء ولا يستطيعون أن يظلموا أحداً، فيخوفوهم من نار جهنم تشوي وجوههم وأفئدتهم، كلما نضجت بدلهم غيرها كي يدوم عليهم العذاب الأليم.

أما الأقوياء الطغاة الذين يملكون الاطيان والبنايات، والأثاث والسيارات، ويملأون البنوك والمصارف بما اختلسوه من أقوات العباد فيمجدونهم ويسبحون بحمدهم، ويلتمسون العلل لتبرير عدوانهم،ويعدونهم بجنة عرضها السموات والأرض، وبقصور أضخم من قصورهم في الدنيا، وببساتين أوسع من بساتينهم في هذه الدار، وبحور أجمل من الراقصات والأرتستات اللائي انفقوا عليهن الألوف، وبخمور ألذ وأشهى مما يشربونها في المواخير والحانات.

ومنذ القديم كان وعاظ المساجد يتقربون إلى الملوك والحكام أمثال الطاغية عبد الحميد، والفاسق فاروق يتقربون إليهم بالدعاء لهم في خطب الجمعة بأن يديم اللّه لهم القوة والعز، والغلبة والنصر متجاهلين قول اللّه سبحانه «ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار» وقول الرسول الأعظم «ما ازداد رجل من السلطان قربا إلا ازداد من اللّه بعدا - من أرضى سلطاناً بما سخط اللّه خرج من دين الإسلام».

إن أمثال هؤلاء الوعاظ يهددون ويهولون على المساكين الذين لا يستطيعون حيلة ولا وسيلة ويبشرون المترفين بما أعد اللّه لهم من الثواب الجزيل والأجر

_____________________

* - نشر في جريدة الهدف ٢٣ أيلول سنة ١٩٥٤.

٣٤١

العظيم، إن الواعظ المخلص هو الذي يقف في وجه القوي الظالم يردعه عن ظلم الضعيف، ويجابهه بالحقيقة، بسوء عمله، ويشهر به بين الناس، ويدعو الجماهير على المنابر وفي المحافل لمكافحته وردعه عن الباطل، ويدلهم على من اغتصب حريتهم، واعتدى على كرامتهم ويدفعهم إلى الاستماتة دون حقهم، على الواعظ أن يفهم المظلوم أن واجبه الأول أن يناضل من ظلمه ويحاربه بكل سبيل، يفهمه أن نومه على الضيم يجعله ظالماً بعد أن كان مظلوماً، لأنه بالخنوع والخضوع يشجع الظالم على التمادي في الغي والفساد.

ونقدم أمثلة من الوعاظ المخلصين السابقين الذين تجردوا عن كل غاية إلا النصح والإخلاص للّه والإنسانية عسى أن ينتفع بها وعاظ اليوم:

مر أبو ذر الصحابي الجليل بمعاوية، وهو يبني داره الخضراء، فصاح أبو ذر في وجهه قائلاً: من أين لك هذا يا معاوية ! فإن كنت بنيتها من مال المسلمين فهي الخيانة، وإن كنت بنيتها من مالك فهو الإسراف.

ولما بنى الخليفة الناصر قصر الزهراء بالأندلس بالغ القاضي منذر بن سعيد في تقريعه وترويعه بخطبة على المنبر أمام الجماهير، والخليفة بينهم. ابتدأ القاضي خطبته بقوله تعالى: «أتبنون بكل ريع آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين».

ثم أفضى الخطيب إلى ذكر التبذير والإسراف في أموال الأمة، وتلا قوله سبحانه «أفمن أسس بنيانه على تقوى اللّه ورضوانه خير، أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم، واللّه لا يهدي القوم الظالمين».

وحج المنصور أيام خلافته، فسمع وهو يطوف في البيت، منادياً يرفع صوته، ويقول: اللهم إنا نشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، فطلبه المنصور، وقال له: من تعني. قال: إياك عنيت، فقد حال طمعك بين الناس وحقهم، استرعاك اللّه أمور المسلمين، فجعلت بينك وبينهم حجاباً وحصوناً، واتخذت وزراء ظلمة، وأعواناً فجرة، إن أحسنت لا يعينوك، وإن أسأت لا يردعوك، وقويتهم على ظلم الناس، ولم تأمرهم بإغاثة المظلوم والجائع.

وذات يوم وزع رسول اللّه بعض الفيء على الناس، وأخذ أعرابي نصيبه فاستقله، وبسط يده، وجذب الرسول من ثوبه جذباً شديداً، وقال: يا محمد زدني، فليس هذا المال مالك ولا مال أبيك، واستل عمر سيفه صارخاً دعني يا رسول اللّه أضرب عنقه، فقال الرسول: دعه ان لصاحب الحق مقالاً.

ضرب رسول اللّه بهذا أصدق الأمثال من نفسه، ليعطي الحكام والأقوياء درساً في تقبل النقد

٣٤٢

والمعارضة من كل إنسان، فلا يستصغرون ضعيفاً، ولا يحتقرون فقيراً، فمهما بلغوا من المكانة فإنهم دون النبي قداسة وعظمة، ضرب من نفسه هذا المثل ليعطي الأقوياء هذا الدرس البليغ، وليشجع المستضعفين على المطالبة بحقوقهم، ويجرئهم على من يظن به الإنحراف عن جادة الصواب كائناً من كان، وقال: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقيل له: كيف تنصره ظالماً، قال: بردعه عن الظلم، وفي الحديث إذا عجزت أمتي عن أن تقول للظالم يا ظالم، فقد تودع منها». وفي هذا الحديث يكمن السبب الأول لتأخر الشعوب وفقرها وجهلها واستعبادها وتآمر الأذناب الخونة عليها.

الإسْلام وفكَرة الزّهْد *

تعرضت كتب التاريخ والتراجم لسيرة الملوك والأمراء، وقادة الجيش، ولم تتعرض بالذات لحياة الفقراء الكادحين، ومع ذلك فباستطاعة الباحث أن يتعرف على حياة الجماهير من خلال دراسته لحياة القادة والحكام، لأن حياة هؤلاء وتاريخهم يرتبط ارتباطاً تاماً بالحياة الاجتماعية، وتاريخ المجتمع على أن المؤرخين وأصحاب السير قد ترجموا لعدد كبير من الشعراء ورجال الدين وعلماء اللغة الذين عانوا آلام البؤس والشقاء، ترجموا لهم لأنهم من أهل الذكاء والمعرفة، لا لأنهم من ذوي الفقر والفاقة، فمن هؤلاء:

عبد الوهاب بن علي المالكي كان بقية ذوي الفضل، وقد ضاق به العيش في بغداد فهجرها، ولدى خروجه شيعه خلق كثير من سائر الطوائف، فقال لهم: لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين في كل غداة ما عدلت ببلدكم بلوغ أمنية. ومنهم الاخفش الصغير علي بن سليمان النحوي عاش أياماً على اللفت النيء حتى انتهت به الحال إلى أن مات جوعاً، ومنهم الخليل بن أحمد النحوي العروضي الشهير كان يقيم في خص من أخصاص البصرة لا يقدر على فلسين، والخص خيمة من القصب، ومنهم أبو الطيب الطبري طاهر بن عبد اللّه كان شيخ الشافعية في عصره وبلغ من العمر مائة وستين سنة صحيح العقل والفهم والأعضاء، يفتي ويقضي ويدرس، كان له ولأخيه عمامة وقميص، إذا لبسها هذا جلس الآخر في البيت وإذا أراد غسلها جلسا فيه معاً، وفي ذلك قال الشاعر:

قوم إذا غسلوا ثياب جمالهم

لبسوا البيوت إلى فراغ الغاسل

_____________________

* - نشر في رسالة الإسلام نيسان ١٩٥٤.

٣٤٣

ومنهم السيرافي النحوي الحسن بن عبد اللّه كان ينسج ويأكل من كسب يده، ومنهم الشيخ أبو حامد الأسفرايني، قيل في سيرته: انه إمام المذهب على الإطلاق وشيخ الإسلام والمسلمين قاطبة، وكان يحضر مجلسه ثلاثمائة متفقه، كان هذا الشيخ يشتغل حارساً في الليل لبيوت الناس، ويقرأ ويطالع على ضوء فانوس الحرس، ومنهم الزبيدي محمد بن يحيى تزيد مصنفاته على مائة تصنيف في شتى العلوم والفنون، وقد بلغ به الفقر والجوع أن يضع نواة في حلقه يلوكها ليتعلل بها. ومنهم عبد القادر السهروردي كان يبقى اليوم واليومين لا يذوق الزاد، وكان ينقل الماء بالقربة بأجر زهيد. وكان الشهيد الثاني زين الدين العاملي على علمه ومكانته ينقل الحطب على ظهره إلى أهله لعجزه عن أجرة الخادم، وباع الشيخ عبد المحسن الصوري عمامته ليشتري بثمنها قوت يومه، ويكفي هذا العدد اليسير مثالاً لحياة قادة الفكر وأئمة الدين واللغة البائسين، وتمهيداً لبيان فكرة الزهد وأسبابها.

عاش الخليل في خص من القصب لا يملك فلسين، واشتغل شيخ الإسلام والمسلمين حارساً، ومات الأخفش من الجوع، عاش هؤلاء وأمثالهم في الحرمان وهم يرون أن الأموال تجبى من العامل والفلاح وغيرهما في شرق الأرض وغربها ليبذرها الخونة والمقامرون على الحرام والفسوق، ويمتلكون بها الدور الشاهقة والضياع الواسعة، وكان من نتيجة هذا الوضع الشاذ أن تراكم السخط والاستياء في نفوس الشيوخ المحرومين من الذين قدمنا ذكرهم، والذين لم نأت لهم على ذكر، وعوضاً عن أن يحملهم هذا الاستياء على النضال وجهاد القائمين على الظلم، فقد انقلب في نفوس الكثير إلى يأس من الاصلاح وتبدل الحال وتولد من هذا اليأس فكرة الزهد في الحياة الدنيا، والتهوين من شأنها. وكان لهذه الفكرة خطورتها وتأثيرها في الحياة الاجتماعية بين المسلمين، فكتب علماؤهم في الزهد وأطالوا، ودعوا إليه في المساجد والمحافل، وألبسوه ثوب الدين والقداسة، والزهد بمعنى الاعراض عن طيبات الحياة ليس له مصدر في الكتاب الكريم، ولا في السنة النبوية، وإنما انعكس في أذهان البائسين من فقرهم وفاقتهم، ان أفكار الإنسان ورغباته لا تأتيه عفواً، ولا تهبط عليه من السماء، وإنما تتولد من واقع حياته، والظروف التي تحيط به.

ولولا وجود الفقراء المعذبين في الأرض، لولا الطمع وظلم الإنسان للإنسان، لو طبق مبدأ التعاون الأخوي، والمساواة دون اعتبار لطبقة أو فرد، لما عرف الناس معنى الزهد، ولما كان للفظه في قواميس اللغة عين ولا أثر، ويكفي للدلالة على هذه الحقيقة زهد الإمام عليعليه‌السلام ، وأبي ذر،

٣٤٤

وغيرهما من أنصار الحق، ودعاة العدالة، قال الإمام: هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل في الحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له في الشبع، وقال أبو ذر: عندما خصه عثمان بمبلغ من المال لا أقبل عطاء لا يعم كل معوز.

أعرض الهداة المتقون من الزهاد عن متاع الحياة وطيباتها لا رغبة عنها، بل احتجاجاً على من استأثر بها، واحتكرها لنفسه دون سواه. أرادوا أن تكون الحياة وخيراتها للجميع، أرادوها اجتماعية عامة لا فردية خاصة، أرادوا القضاء على الفوارق والامتيازات ليعيش الجميع في أمن وسلام، فلا تكالب ولا تطاحن على أرزاق الشعوب، ولا حقد ولا حسد على الرغيف.

زهد الإمام في لذائذ العيش، وهو الحاكم المطلق ليفهم الأجيال أنه ليس لمن يتولى أمور الناس أن يشبع، وفيهم جائع واحد. إن الاعراض عن متاع الحياة مواساة لمن حرم منها، كما فعل الإمام، إن دل على شيء فإِنما يدل على قيمة الحياة وأهميتها لا على احتقارها وازدرائها، وقد ثبت في الحديث الشريف أن حرمة الأموال كحرمة الدماء، فالاعتداء على قوت إنسان اعتداء على دمه وحياته، فكيف بالغاصبين المحتكرين أقوات الشعوب وموارد ثرواتهم !

أما الآيات والروايات التي استدل بها بعض الزهاد، فلا تدل على الترغيب في التقشف والاعراض عن اللذائذ، إِنما تدل على وجوب الزهد في المحرمات، والكف عن السلب والنهب، والخيانة والكذب، على أن يضحي الإنسان بالنفس والمال في سبيل الحق، ولا يؤثر الخبيث على الطيب. قال اللّه سبحانه وتعالى: «وابتغ فيما آتاك اللّه الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا» «ألم تر أن اللّه سخر لكم ما في الأرض» «لا تحرموا طيبات ما أحل اللّه لكم ولا تعتدوا إِن اللّه لا يحب المعتدين».

المُحَرّم هو اعتداء الإنسان على حق أخيه، وتهاونه بنصيبه من هذا الحق.

وقد جاء في الحديث الشريف (ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة، ولا الآخرة للدنيا، ولكن خيركم من أخذ من هذه وهذه - المؤمن القوي خير وأحب إلى اللّه من المؤمن الضعيف).

ولا ريب أن الإنسان يقوى بالمادة، وما تقدمت الإنسانية إِلا بعد أن كشف العلم عن حقيقتها، وسلك بها سبيل الخير والعمار، لا سبيل الشر والدمار.

وبعد، فإن الإسلام دين القوة والعمل، لا دين الرهبانية والكسل.

٣٤٥

ستّة يعرفونَ بسيماهم *

قال الإمام الصادق (ع):

* للمرائي ثلاث علامات: يكسل إِذا كان وحده، وينشط إِذا كان الناس عنده، ويجب أن يحمد بما لم يفعل.

* وللكسلان ثلاث علامات: يتوانى حتى يفرط، ويفرط حتى يضيع، ويضيع حتى يأثم.

* وللمسرف ثلاث علامات: يشتري ما ليس له، ويأكل ما ليس له، ويلبس ما ليس له.

* وللمنافق ثلاث علامات: إِذا حدث كذب، وإِذا وعد أخلف، وإِذا اؤتمن خان.

* وللظالم ثلاث علامات: يعصي مَن فوقه، ويعتدي على من دونه، ويظاهر الظالمين.

* وللحاسد ثلاث علامات: يغتاب إذا غاب، ويتملق إذا شهد، ويشمت بالمصيبة.

ثم قال: ولكل واحدة من هذه العلامات: شعب يبلغ العلم بها أكثر من ألف باب.

ويجمع هذه العلامات وشعبها فقدان الشعور بالواجب الذي يمليه الدين والضمير، وقد توجد هذه العلامات كلها أو بعضها مجتمعة في شخص واحد.

إِن الشعور الوحيد الذي يسيطر على صاحبها، ويدفعه إلى الحركة منفعته الخاصة

_____________________

* - نشر في العرفان نيسان ١٩٥١.

٣٤٦

التي استعمل لأجلها الأساليب، واتخذ من غايته مبرراً للكذب والخيانة والغش والخديعة، ولا وزن للقيم الروحية عنده، إِذ الفضيلة في نظره لا تقاس بمقياس النبل والمروءة، وضميره لا يؤنبه على ما يتنافى وشيئاً من ذلك، وإنما يؤاخذه على أنه لم يكن يحسن سبل الاحتيال التي تحقق انانيته، فمن العبث، والحالة هذه، أن ترغبه في ترك الجريمة مناشداً ومبيناً أن عمله يأباه الدين القويم والخلق الكريم.

لقد كثر المصابون بهذا النقص كثرة عمت جميع الفئات، فإنك تجدهم بين الموظفين والاطباء ورجال الدين والمحامين وفي الشوارع والأسواق، وفي المدارس والمزارع، وفي كل مكان، ولا شيء أدل على هذا الوباء وانتشاره من كثرة التذمر وتراكم الاستياء، فالموظف يشكو من عدم إِنصافه في حين أنه يكسل في عمله حتى يفرط، ويفرط حتى يضيع، والشاب المتعلم يشكو من عدم تقدير الناس لحامل الشهادات «والعبقرية الفذة» ولكنه لا يتورع عن ظلم زميله، فينتقصه إذا غاب، ويشمت به إذا فشل، ورجل الدين يشكو من فساد الاخلاق ولكنه في نفس الوقت يحب أن يحمد بما لم يفعل، وقل مثل ذلك في المحامي والطبيب وما إليهما.

إِن تفشي الرذيلة بهذا النحو يحدث خطراً كبيراً على المجتمع، ويسبب مشاكل اجتماعية عديدة، وإذا عولج الفقر بزيادة الإنتاج، والمرض والجهل في المؤسسات العلمية والصحية، فإن الخلق السيئ لا يعالج بغير الشعور بأن وراء هذه الطبيعة قوة خفية تراقب، وتحاسب، وتثيب، وتعاقب، شريطة أن ينعكس هذا الشعور في الأقوال والأفعال، وتكون هي أثراً من آثاره.

بهذا الإيمان، الإيمان باللّه وحده، وبهذا الشعور، الشعور بالخوف والرجاء تهذب الأخلاق فتموت الرذيلة، وتحيا الفضيلة، وتسود المحبة التي تثمر الثقة المتبادلة، والتعاون المنتج.

يقول بعض الفلاسفة: إن من يفعل حسناً أو يترك قبيحاً بدافع الخوف والرجاء من اللّه سبحانه أو الدولة مثله مثل المجرم، وأحسب أن في هذا القول شيئاً من التسامح، فإن الدوافع والبواعث مهما كان نوعها لا تغير من حقيقة ما هو حسن بالذات أو قبيح بالذات، والذين ينزعون إلى الخير بذاتهم، ويفعلونه من تلقاء أنفسهم أندر من الكبريت الأحمر، فالشعور بأن فاعل الخير عظيم مثاب عند اللّه تعالى، وفاعل الشر حقير معاقب ضرورة أخلاقية اجتماعية له فوائده وثمراته، هذا بالإضافة إلى أنه من أهم أركان الدين، ومن هنا تعرف سر ما جاء في الكتاب العزيز «وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون».

٣٤٧

العمَامة وَرجَال الدّين *

كان اللباس في عهد الرسول ص والخلفاء الراشدين، وأول عهد العباسيين واحداً لا تمييز فيه لأحد على أحد، فلا فرق بين لباس العالم والجاهل، ولا بين رجل الدين وغيره، فالنبي ص وخلفاؤه وأصحابه جميعاً كانوا يلبسون كما تلبس الناس، فكان العالم يُعرف بهديه وآثاره، لا بثيابه ومظاهره.

وأول من غيّر لباس رجال الدين في الإسلام إلى هيئة خاصة هو أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة، وفي المجلد الأول من كتاب المدخل لابن الحاج ص ١٣٧ أن تمييز رجال الدين باللباس عن غيرهم مخالف للسنة، ثم ذكر مفاسد تترتب على هذا التمييز نلخصها بما يلي:

إِن تمييز رجال الدين في اللباس يستدعي - كما رأينا - أن يتزيّا بزيهم من لا أهلية له، فيتقدم ويترأس في المجالس وغيرها على من هو خير منه علماً وخلقاً، وتنخدع العوام بثوبه فيأتمنونه ويسألونه عن أشياء لا يعرف حكمها، ويمنعه زيه ولباسه أن يقول لا أعلم، كي لا يقال: إِنه جاهل ومتطفل يلبس ثوب غيره فيفتي بما لا يعلم، ويحكم بغير ما انزل اللّه سبحانه.

ولو كان لباس العلماء كلباس غيرهم من الناس لم تقع هذه المفاسد، ولعمَّ بهم النفع، وحصلت البركة والراحة والخير على أيديهم، وضرب شاهداً على ذلك ما حكي عن العالم أبي الحسن الزيات كان من عادة هذا العالم الجليل أن يلبس لباس العمال، ويعمل في أرضه كما يعملون، وفي ذات يوم خرج ليعمل في أرضه كعادته، وإذا بالشرطة يأخذونه مع غيره من العمال ليشتغلوا سخرة

_____________________

* - نشر في العرفان تموز سنة ١٩٥٤.

٣٤٨

في بستان السلطان، وكان الشرطة يسمعون باسمه، ولكنهم يجهلون شخصه، وليس عليه ما يدل على علمه ومكانته، فسمع وأطاع، وعمل كغيره، ودخل الوزير البستان يراقب الأعمال، وما أن وقعت عيناه على الشيخ حتى انكب على قدميه يقبلهما ويعتذر، ويقول: من جاء بك يا سيدي، فقال: أعوانكم أيها الظلمة، قال أقلنا يا سيدي، واخرج بسلام، فأبى الشيخ إِلا أن يبقى مع المظلومين، وقال: هؤلاء إخواني، كيف أخرج، وأدعهم في ظلمكم ! قال الوزير: يخرجون معك، فأبى الشيخ، وقال: غداً تعودون بهم إلى السخرة، فأعطاه الوزير أوثق العهود على أن لا يسخر أحداً أبداً، فرضي الشيخ، وخرج هو والعمال.

ثم قال صاحب كتاب المدخل في صفحة ١٣٩ «إِنما عز الفقيه بفهم المسائل وشرحها ومعرفتها، ومعرفة السنن والعمل بها.. ومعرفة البدع وتجنبها.. قال اللّه سبحانه: إِنما يخشى اللّه من عباده العلماء. فجعل خلعة العالم الخشية والورع، ولكن البعض جعل خلعته توسيع الثياب والأكمام وكبرها وحسنها وصقالتها».

قال صاحب البحار في المجلد السادس ص ٢٠٩ طبعة ١٣٢٣ هجرية «كان النبي ص يلبس القلانس تحت العمائم، والعمائم بغير القلانس.. وكانت له عمامة يقال لها السحاب، فوهبها للإمام عليعليه‌السلام وكان ربما طلع فيها الإمام، فيقول النبي ص أتاكم علي في السحاب» ويدل على هذا أن النبي لم يكن يتقيد بزي خاص، ولم يوجب أحد من أئمة الدين على طلاب العلم وشيوخه لباساً معيناً.

وبعد أن أصبحت العمامة شعاراً مقدساً بحكم العادة واستمرارها وجب صيانتها من يد العابثين وضحكة الهازئين، وجب على أهلها الحقيقيين أن يلزموا أولي الأمر بسن قانون يحوطها من الفوضى، ويصونها من جاهل منتحل، ومراء محترف، لو تزيَّا غير الشرطي بزي الشرطي لعاقبه القانون، فهل تأتي الأيام، ونرى لمرجع ديني كبير ما لشرطي صغير من نظام يحفظه ويرعاه، وإِن عجز أهل الدين والعلم الصحيح عن إِيجاد هذا النظام فألف خير لهم وللمجتمع أن يسيروا مكشوفي الرأس، أو يلبسوا الكوفية والعقال من أن يتزيَّا بزيهم الجهلاء والدخلاء.

إِن الدين فوق كل شيء، ولكن ليس له حارس يحرسه، ولا سياج يحفظه، اللهم إِلا صوت الاستعمار يخوفنا من عدوه، ويوصينا بالاحتراس منه، يخاف الاستعمار على الدين من عدو الاستعمار، كأن الدين يوالي الاستعمار ويحالفه، وليس للدين عدو كالاستعمار ولا خصم كالاقطاع، لأنهما يدينان بالغي والفساد، فيكفران باللّه وحقوق الإنسانية ويتخذان من الدخلاء على الدين وسيلة لتحقيق ما يبغيان، وهذا وحده يحتم على رجال الدين الذين هم منه في الصميم

٣٤٩

أن يسلكوا كل سبيل للغربلة والتصفية.

يَوم عَاشُورَاء *

لو آمن الناس بقول قائل: ان الحق للقوة لكان عليهم أن يرموا بكل كتاب مقدس، وبكل تشريع ودستور في عرض البحر.

حيث لا عدل، ولا فضيلة، ولا إيمان إلا بالمادة، والنتيجة الحتمية لهذا المنطق إن الإنسانية والجماد في الميزان سيان.

لو كان الحق للقوة ما كان لشهداء الفضيلة ذكر، ولا لأبطال التحرير فضل، وكان السفاكون الهادمون في كل عصر ومصر كيزيد هم الكون بكامله.

إن يوم عاشوراء لأحد الشواهد الصادقة على أن من تسلح بالمادة وحدها فهو أعزل.

ليس يوم عاشوراء احتجاجاً على يزيد وجيش يزيد فحسب، وإنما هو دليل قاطع على أن من يقف أمام الغاصب الطاغي ساجد الركاب منحني الرأس معفر الجبين يمد إليه يد الذل والاستجداء، دليل على أنه ليس له من الحق شيء، وأنه يستحق الحياة. ألا ترى إذا رآه الرائي قال: شقي بائس، ولم يقل: صاحب حق مهتضم.

إن صاحب الحق يمد إلى حقه يد القوة والعزة، يمدها وهو عالي الرأس ثابت الجنان، ولا يردها إلا قابضة على حقه، أو تقطع مجاهدة في سبيل الحق والعدالة، فإن قطعها في هذا السبيل حياة، وبقاءها ممات، والسلام على الحسين القائل: «إني لا أرى الموت إِلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برماً».

ليس يوم عاشوراء عاطفة مذهبية شيعية نحو الرسول وأهل بيته، عاطفة

_____________________

* - تليت في الكلية العاملية يوم العاشر من المحرم سنة ١٣٧١ هجرية.

٣٥٠

ولدها الضغط على الشيعة، كما زعم الزاعمون، ولكنه تكريم للبطولة والتضحية، وإحياء للجهاد المقدس، واعتزاز بالاباء والكرامة، وإيمان بسلطان العدالة والحرية، وثورة على معاهدة سنة ٣٦ المصرية، وعلى الشركة الأنكلوايرانية، وعلى الاستعمار في تونس وعلى الفساد في جميع البلاد، على كل ظالم مستعمر ومستثمر أموياً كان أم غير أموي.

ليس يوم عاشوراء للشيعة فحسب، ولا للسنة، وإنما هو للناس أجمعين، لأنه جهاد وتضحية، وحق وصراحة، ونور وحكمة، وليس لهذه الفضائل دين خاص، ولا مذهب خاص، ولا وطن خاص، ولا لغة خاصة. هذا هو يوم عاشوراء في حقيقته ومغزاه.

أما زيارة كربلاء وشد الرحال إليها من بلاد نائية فهي تكرار وتأكيد لما يهدف إليه يوم عاشوراء، وإنك واجد تفسير ذلك مكتوباً في القطع المعلقة على قبر الحسين بتلوها الزائر ساعة دخوله الحضرة المقدسة، وخروجه منها، وقد جاء فيها:

«إني سلم لمن سالمكم، وحرب لمن حاربكم محقق لما حققتم مبطل لما ابطلتم، فاسأل اللّه أن يجعلني من خيار مواليكم العاملين بما دعوتم إليه، اهتدي بهديكم، وأن يجعل محياي محيا محمد وآل محمد، ومماتي ممات محمد وآل محمد».

يتلو الزائر هذه الكلمات وأمثالها بقلب خاشع ونفس مطمئنة في بقعة ارتفع فيها صوت الحق ضد الباطل، وخفقت رايات الهدى ضد الضلال، وشع فيها نور العدالة ليمحو ظلام الجور، واريقت دماء زكية لتطهر الأرض من رجس الاستعباد.

لم تعرف الكرة الأرضية في عهد يزيد مناصراً للحق غير هذه البقعة الصغيرة المسماة بأرض كربلاء، يقصدها الزائر ليشهد اللّه والناس على نفسه أنه لا يتبع إلا الحق، ولا يناصر إلا أهله، وأنه عليه يحيا ويموت، يحيا حياة محمد وآل محمد، ويموت ممات محمد وآل محمد.

إذن ليس معنى زيارة كربلاء تأليه الأحجار والأخشاب، وعبادة الأرض والتراب.

هذا شاعر - الجواهري - زار قبر الحسين، وبيّن الغاية من زيارته، والهدف من رحلته، فقال: إني زرت قبر الحسين، وشممت ثراه كي يتسرب إلى نفسي نسيم الاباء والكرامة، ويهب على قلبي ريح الحق والعدالة، وعفرت خدي بالتراب، حيث يضع، وقطع خد الحسين، ولم يخضع لظالم، ولثمت أرضاً وطأها الحسين، لأن خيل الطغاة جالت على صدره وقلبه وظهره وصلبه، ولم يهادن، ولم يمالئ من سلب الشعب حريته، والأمة حقوقها.

شممت ثراك فهب النسيم

نسيم الكرامة من بلقع

٣٥١

وعفرت خدي بحيث استرا

ح خد تفرّى ولم يخضع

ولا يبتغي الزائر الشاعر بعد هذا الدليل دليلاً على قداسة غايته ونبل مقصده، وأي دليل أصدق وأبلغ وأوضح على عظمة بقعة دفن فيها من نثرت السيوف لحمه دون رأيه وضميره، ورفع رأسه على الرمح دون إيمانه وعقيدته، وأطعم الموت خير البنين والأصحاب من الكهول إلى الشباب إلى الرضع دون مبدئه ودعوته.

وماذا أأروع من أن

يكون لحمك وقفاً على المبضع

وأن تتقي دون ما ترتأي

ضميرك بالاسل الشرع

وأن تطعم الموت خير البنين

من الأكهلين إلى الرضع

إن يوم عاشوراء وزيارة كربلاء هما رمز الحرية والمساواة بين الأسود والأبيض، والعربي مع العجمي، والملك وابن الشارع، وانه لا فضل إِلا لمن جاهد وكابد في سبيل هذه المساواة، المساواة في الغرم والغنم، فلا ظالم ومظلوم، ولا جائع ومتخوم، ولا عطشان وريان.

٣٥٢

نحْنُ أعدَاء الظُّلم *

(الملك يبقى مع الكفر، ولا يبقى مع الظلم) نطق بهذه الحكمة العلامة المجلسي في كتابه بحار الأنوار، وهو أحد أئمة الدين الإسلامي.

وإن حوادث التاريخ لتشهد لهذه الحكمة بالحق والصدق. إن الحكم الذي يرتكز على الانساب والوراثة، ومظهر الدين، ورضا الأفراد المقربين لا يلبث حتى يزول، والأساس الثابت للحكم هو ثقة الشعب وولاؤه. وما فاروق عنا ببعيد، فهو من سلالة الملوك والأمراء، وتولد من أبوين مسلمين، وأقر بالشهادتين وكان يحضر في المساجد للصلاة، ويقيم موائد الإفطار في رمضان للصائمين، ويستمع لتلاوة القرآن الكريم.

قال الرسول الأعظم ص مفتخراً: (إني خلقت في زمن الملك العادل) يفخر محمد بعدالة رجل لم يكن على دينه، ولا من بلده ولا لغته من لغته، يفخر به وبزمانه لأنه ساوى بين الناس أجمعين، ورفع ظلم القوي عن الضعيف، وطمع الغني بالفقير، وحال بين استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، وهذي هي دعوة نبي الإخاء والمساواة ورسول المحبة والسلام.

أجل، كان هذا الملك يعبد النيران، ولكنه لم يتقلب هو وأهله وحاشيته في النعيم والهناء، وشعبه يقاسي عذاب البؤس والشقاء، ولم يتحصن بحجاب يطردون عن بابه الضعيف المظلوم، ويرحبون بالقوي الظالم، بهذه المساواة بين الناس كافة كان ذلك المجوسي عظيماً عند الرسول، على ما بينهما من البعد في الدين واللغة والوطن.

_____________________

* - تليت في الكلية العاملية يوم العاشر من المحرم سنة ١٣٧٢ هجرية.

٣٥٣

فالقريب - إذن - من قربته الإنسانية، وإن بعد لغة وديناً وبلاداً، والبعيد من أبعده الطمع والجشع، وإِن قرب ديناً ولغة ووطناً ونسباً، والرجل الصالح العادل من شعر بالتبعات، وتحرر من الشهوات، وقام بواجبه الإنساني بصبر وشجاعة، أما أن يتظاهر بالدين، بالإيمان بالغيب، والمحافظة عليه، والدفاع عنه، ثم يعمل أعمالاً إجراميةً وحشية فإن الحق والدين يبرآن منه، ومن أعماله، فمسلم ومسيحي ومجوسي اسماء تدل على أن هذا الإنسان تولد من أب مسلم أو مسيحي أو مجوسي لا أكثر ولا أقل، وماذا يجدي الانتساب إلى الدين، إذا لم يكن معه حق وعدالة وقد رأينا المستعمر يتخذ من التظاهر بالدين وسيلة لتوطيد أقدامه، وتغطية عدوانه، ويوجد في عصرنا هذا حكام مسلمون، وغير مسلمين، فهل الحاكم المسلم أصلح وأنفع لشعبه من الحاكم غير المسلم !

كان ملك الفرس يعبد النيران، ولكنه لم يفسد في الأرض بعد إِصلاحها، فيحول خيراتها لإبادة العالم، أو يخصص هذه الخيرات بفئة من الفئات وبهذا كان صالحاً عادلاً يفخر الرسول به وبزمانه.

ونحن المسلمين الذين ندين بدين محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله لسنا أعداء دين من الأديان، ولا قومية من القوميات، ولا شعب من الشعوب، ولسنا شعب اللّه المختار كما تزعم الصهيونية لنفسها، وإنما نحن أعداء الظلم والاستعمار والتضليل.

نحن أعداء الصحافة المضللة التي عميت عن بؤسنا وشقائنا، واهتمت بنشر الأزياء، بأخبار الفساتين في باريس. والإعلان عن السيقان الجميلة، ومدينة الملاهي، والكازينو، ولو حسنت نية أربابها وتوخوا الصالح العام، والتوجيه المفيد لنشروا في صحفهم عن كيفية إنتاج الحليب والزبدة في هولندا، وإنتاج الحبوب في أميركا، ووسائل الري في روسيا، وتربية الدواجن في أوروبا.

ونحن في أشد الحاجة إلى هذا التوجيه، إلى الانتفاع بإمكانياتنا المادية، والتحرر من اغلال الامتيازات وقيود الشركات وطوفان البضائع الأجنية.

٣٥٤

لِمَن العِيد ؟ *

كان المجتمع العربي الإسلامي إلى نهاية الحرب الأولى. وقبل أن تقع البلاد العربية فريسة المستعمر يعيش بعقائد ومبادئ يستمدها من دينه الذي كان مصدر معرفته، كما أنه سبيل سعادته وهدايته.

فمناهج التربية كانت توجه نحو القيم الروحية، وتوضع في ضوء أصولها وقواعدها. وكان الفقه الإسلامي يفصل بين الناس في منازعاتهم في المحاكم وغير المحاكم. فالمتعلم من حفظ القرآن، وتعلم العقائد وعلم الكلام، وعرف التفسير والحديث، والقانوني من درس الشريعة الإسلامية، والرجل الطيب من كان سلوكه صورة عن الخلق الإسلامي الصحيح. والخائن من زاغ عن منهج الدين، واستخف بتعاليمه حاكماً كان أو محكوماً.

وكان من نتيجة ذلك أن التعاليم الدينية كانت واضحة في أذهان الناس، متمكنة من نفوسهم، فيعرفون الشيء الذي يأمر به الشرع، أو ينهى عنه، فيخضعون لأمره ونهيه طوعاً لا كرهاً واقتناعاً لا حياء، ويميزون بين الواجب والمحرم والمندوب، فيمتنعون عن السرقة والكذب والزنا والخمر، لأن هذه محرمة، ويؤدون الصلاة والزكاة والحج، لأنها واجبة، ويتصدقون مؤمنين بأن الصدقة سنة ندب إليها الشرع الشريف، هكذا كان المجتمع يواجه الحياة بعقيدة تهديه، وتسدد خطاه، وبدين يهذب من سلوكه وأخلاقه. فكان الفرد وهو في أحسن أوقات النعيم يشعر بالخوف من اللّه، وبحافز يبعثه إلى أن يساءل نفسه: ما هي

_____________________

* - تليت في اجتماع ديني في الزيدانية ببيروت ١٩٥٢ واذيعت في الوقت نفسه من محطة الإذاعة اللبنانية.

٣٥٥

عاقبة النعمة التي وهبني اللّه إياها ؟ هل أثاب عليها أو أعاقب، وماذا سيكون موقفي أمام اللّه إذا سألني عنها ؟ لقد كان الإحساس الديني يلازمه في جميع أحواله، حتى عند المعصية، فسرعان ما يندم ويبالغ في الانابة والتوبة.

وقد أعطانا الاحتلال الأجنبي مجتمعاً جديداً، أعطانا مجتمعاً لا يهتم بالعقائد والأخلاق، ولا يعرف من المبادئ قليلاً ولا كثيراً، وعرف الأجنبي كيف يخلق مجتمعاً أعزل من الضمير والمثل العليا، فوجه اهتمامه قبل كل شيء إلى الشريعة الإسلامية، فأزاحها من المحاكم ودور القضاء، وأحل محلها القانون الوصفي الذي يتلاءم مع أغراضه الاستعمارية، كما ألغى من المدارس كل ما يمت إلى الدين واحياء الضمير بسبب، ووضع منهاج التربية على أساس قتل الروح الوطنية، وإضعاف اللغة العربية، وطلى عقول الناشئة بألفاظ جوفاء تتطاول بها إلى الكراسي والمناصب، ولو أن الأجنبي حين الغى الدين من مناهج التربية أحل محله العلم الذي نجابه به مشاكلنا الاقتصادية لهان الخطر، ولكنه حاول أن يجردنا من الروح والمادة معاً ليبرر استغلاله وجشعه.

أجل هكذا أراد المستعمر أن نكون، أن نعيش في ظلام دامس، وجو مفعم بالغموض بالنسبة للعقائد وآداب السلوك، وقد تم له ما أراد، أو بعض ما أراد، وإِن أردت برهاناً على ذلك فقارن بين احترامنا لشهر الصيام اليوم، واحترامنا له بالأمس، وبين أغنياء المسلمين اليوم، وأغنيائهم بالأمس، فمن بنى هذي المدارس والمساجد ؟ ومن أوقف الأسواق والمخازن في سبيل الخير ؟ وقل لي بربك هل تستطيع أن تجمع قليلاً من المال دون أن تقيم حفلاً برئاسة حاكم أو وزير تنشد بين يديه القصائد الطوال، والخطب الرنانة في المديح والثناء، وتسلك الف سبيل وسبيل، تفعل ذلك مرغماً لأن الغني لا يتبرع لأي عمل خيري إِلا ملقاً لحاكم أو زعيم، أو رغبة في رتبة، أو شهرة. هذي هي أخلاقنا أخلاق تجارية لا دينية، وهذي إِحدى الأسباب للضعف والانحلال، وأي شيء أدل على الضعف من المظاهر يوم العيد الذي سيطل علينا غداً، لمن هو العيد ! ومن هم الذين سيعيدون ويفرحون ؟ هم الأغنياء ونساؤهم وأطفالهم، أما الأرامل والأيتام، والعاطلون عن العمل فلهم الحسرات والتنهدات للأغنياء اللحم والحلوى والفاكهة وللفقراء الجوع والعطش والدموع. للاغنياء الأجواخ والحرير، وللفقراء الأجساد العارية والثياب البالية، للأغنياء القصور والخدم، وللفقراء الأكواخ وحرارة الشمس، للأغنياء السينما والملاهي، وللفقراء الشوارع والرمال، للأغنياء سيارات الكدلك والبويك، وللفقراء الدهس والسب والشتائم !

ألا ليت يوم العيد لا كان انه

يجدد للمحزون حزناً فيجزع

٣٥٦

وإذا كانت الأنظمة الوضعية لم تبدع للإنسانية شيئاً أفضل مما أبدعه الإسلام فعلينا نحن المسلمين أن نضرب أمثلة من أفعالنا، لا من أقوالنا هذه الحقيقة، أن نضرب أمثلة بالتضحية لا بتلاوة القرآن والخطب والأناشيد فحسب. إن هذا ليس بشيء عند اللّه إذا لم يكن سبيلاً إلى تطبيق تعاليم الإسلام الذي حارب فكرة الإنقسام والتفاضل بين الناس على أساس الغنى والفقر، والانساب والمناصب.

نحن لا نريد أن نعيش بالأحلام العقيمة، ونسعد لأن اسمنا مسلمون، وكفى، إننا نكون مسلمين حقاً سعداء حقاً إذا تدبرنا آي الذكر الحكيم، وتعاونا جميعاً على خير هذا الوطن، على أن يكون مجتمعنا في أمن وأمان من الجوع والمرض والجهل. أيكون الإنسان منا مسلماً، وهو لا يستطيع أن يرى أحداً إِلا أصحاب الجاه والمال ولا يحترم إلا زعيماً أو حاكماً. جاء في الحديث الشريف أن الفقراء هم صفوة الخلق، وان من أراد اللّه فليطلبه عند الفقراء، أي من أراد الحق فلا يبحث عنه في المريخ ولا عند أرباب العروش والتيحان، لأنه لا يجده هناك، إنما يجده في العمل الذي يرفع البؤس عن البائسين، والعوز عن المعوزين، يجده في السبيل الذي يطعمهم من جوع ويؤمنهم من خوف. إن حياة اليسر والراحة تعين على طاعة اللّه وعبادته، وتبعد عن محارمه ومعصيته.

وما كان ربك ليهلك القرى وأهلها مصلحون.

٣٥٧

الجشَع *

كان الناس فيما مضى لا يتطلبون من رجل الدين أن يتكلم في أشياء تخرج عن تعاليم مدرسته ودائرة اختصاصه، فإذا خطب أو كتب تناول موضوعات تكاد تنحصر في العبادات والفقه والوصايا العشر، وما إليها، وكان يسند أقواله إلى كتاب منزل، أو نبي مرسل، أو حكم العقل، أو إجماع الأمة، هذا إذا كان من ذوي العلم والتحصيل، وإلا اسندها إلى مصدر غير صحيح، أو أرسلها إرسالاً من غير اسناد معتمداً على اسم الدين وماله من قداسة وهيبة في النفوس، وكانت هذه القداسة وحدها تقوم عند المؤمنين والاتباع مقام التعليل وذكر الدليل، فهي الحجة القاطعة لإثبات الحق في فصل الخصومات، وحل المشكلات.

أما اليوم فقد عم الوعي، وخضع كل شيء للنقد والتساؤل، وبنيت الحياة واشياؤها على العلم، على التجربة والمشاهدة، فأي مبدأ أو قول كائناً من كان قائله لا بد يتناوله البحث والتمحيص، ومن حاول أو يحاول الافلات من النقد والبحث الحر فإنما يقيم الدليل على أنه يبني على غير أساس، ويسير على غير هدى. إن الويل لمن زلت قدمه عن جادة الصواب، وتجاوز حدود الواقع، واستعان بالأوهام والتخيلات.

إن الدعاية الصحيحة أو قل الناجحة هي أن تعلن الواقع بدون مبالغة أو تحريف، أما إعلان ما ليس بواقع فينتج عكس الغرض المطلوب، لهذا لا أذكر شيئاً مما قرأته في كتاب أو سمعته من أفواه الرجال عن فوائد الصوم، لأن الصوم عبادة، والعبادة لا تصاب بالعقول، ولا تفسّر بالأوهام، بل يختصر فيها على ما نطق به

_____________________

* - اذيعت من محطة الإذاعة اللبنانية ونشر في جريدة «الجريدة» في شهر رمضان المبارك سنة ١٩٥٥.

٣٥٨

القرآن الكريم، وثبت في السنة النبوية.

سأتحدث عن الجشع لا عن الصيام، وكلاهما من وحي رمضان المبارك، لأن الشيء يعرف باضداده كما يعرف بنظائره.

جاء في الحديث الشريف عن الرسول الأعظم ص وآله «الجشع أشد من حرارة النار». وهذا حق، لأن النار لا تنفذ إلى أعماق الأرض، بل تقف عند حد لا تتعداه، إن لم تجد ما تأكله، أما الجشع فلا يحده شيء ولا يشبهه شيء يلتهم ما فوق الأرض وما تحتها ولا يبقي لأحد باقية، وربما كانت الحكمة من وجوب الصوم، والعلم عند اللّه، استنكاراً للجشع والطمع، وإثارة النقمة على أهله الذين يحتكرون الأقوات، ويتحكمون بالأسعار، واحتجاجاً على أصحاب القصور التي تقوم حولها بطون خاوية، وأجسام عارية، وعلى الجامعات والمستشفيات التي اسست للاستغلال والمراباة.

قال الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام «إن كنت تريد من الدنيا ما يكفيك فإن أيسر ما فيها يكفيك، وإن كنت تريد ما لا يكفيك، فإن كل ما فيها لا يكفيك» أي أن كل إنسان لو عمل لكفايته وسد حاجته، لما هو ضروري وحيوي لوجوده وحياته، فإن في هذه الأرض الواسعة الخيرة من الأرزاق ما يكفي جميع سكانها بالغاً ما بلغوا. أما لو عمل للربح والسيطرة والظهور فإن كل ما في الدنيا لا يكفي واحداً، لأن اللاكفاية كاللانهاية لا تحد بحد.

لو أخذ العالم بهذه النظرة لما عرف الناس المشاكل، ولاستراح كل بلد من القلاقل والاضطرابات الداخلية والخارجية، ولسرحت الجنود من ثكناتها، وتحولت مصانع الأسلحة إلى صنع الطعام واللباس، ولم يبق أي داع لوسائل القسوة والعنف، لو عمل كل إنسان للكفاية لما وجد فقير، ولما احتاج أحد إلى الصدقات والمبرات.

إن سلوك هذا السراط هو الذي يأخذ بيدنا إلى حيث نريد وكل جهد يبذل لتجنب الأخطاء والويلات لا بد يتحول إلى النقيض إذا انحرفنا عن هذا النهج القويم، قل في تحديد الفضائل والقيم ما شئت أن تقول وتفلسف ما استطعت فإنك لا تجد ولن تجد لقيمك مكاناً في نفس عاقل إذا لم تحمه من جشع المستغلين، وطمع المستثمرين، إن هدف الإنسان في هذه الحياة أن يحياها بعدالة وسلام، لا أن يفلسفها بمواعظ وكلام، ان الرذيلة أن نبقى في مكاننا من الانحطاط، والفضيلة أن تكون لنا عيشة راضية، ومدارك نامية، وأخلاق سامية، والأخلاق السامية في نظر الإسلام ترتكز على التقوى، فإن الاتجاه إليها يتمثل في كل آية من القرآن الكريم، وكل حديث للرسول العظيم، وكل مبدأ من مبادئ الإسلام، وكل حكم من أحكامه.

٣٥٩

وليست التقوى مظاهر وطقوساً تؤدى في المعابد فقط، وإنما هي العمل المنتج، ولا يمكن أن نفهم أو نتصور التقوى مفصولة عن العمل النبيل، ولا يكون العمل نبيلاً إلا إذا كان مقروناً بالإيمان بأن لك مثل ما لغيرك، وعليك مثل ما عليه دون زيادة أو نقصان في المغنم والمغرم.

بهذا الإيمان، الإيمان بالواجب لا بالقوة نكون من المتقين الأخيار، تؤثر الحق على الباطل، والشجاعة على الجبن، والصراحة على المداهنة، والاباء على الذل، ونقول للظالم يا ظالم، وللخائن يا خائن، وللجاهل يا جاهل. بهذا الإيمان نحيا حياة طيبة لا نخاف ظلماً ولا هضماً، وبدونه نحيا حياة الذل والبؤس، وتسود فينا الرذيلة والفجور، والنفاق، والملق «اللّه ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون».

٣٦٠

العِلم دين يُدان به *

رأى بعض الغيورين على الدين إعراض الشباب عنه وعن أهله، وإقبالهم على كل جديد مفيد وغير مفيد، فحاول أن يرغبهم في الدين ويقنعهم بأن جديدهم هذا غير جديد، لأن الدين بزعمه قد تحدث عن كل شيء تصريحاً أو تلويحاً، وأشار إلى ما كان ويكون من الآلات والمخترعات الحديثة، ثم أورد هذا الغيور الشواهد على دعواه من آيات قرآنية وأحاديث نبوية حملها على غير محملها، وفسرها بغير حقيقتها، فسر قول القرآن الكريم «ويخلق ما لا تعلمون» بالطيارة والسيارة، وفسر «ويوم تأتي السماء بدخان مبين» بالغازات السامة، وفسر «الكتاب المبين» بالتسجيل الهوائي للاصوات، إذن يصح لنا أن نقول بناء على هذا القياس: أن قول القرآن الحكيم «من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره» إشارة إلى تحطيم الذرة، وان الفقرة الأولى تشير إلى استخدام الذرة في الأغراض السلمية النافعة، والفقرة الثانية تشير إلى استعمالها في الحرب المهلكة المدمرة.

إن هذا التفسير، وإن دل على طيب السريرة وسلامة القصد، فإنه لا يقل ضرراً عن الرجعية والجمود. إن الخير كل الخير ان نقف بالدين عند واقعه وحقيقته، وحسب الدين فضيلة أنه أمر بكل شيء نافع، ونهى عن كل ما فيه شائبة الضرر، حسبه فضيلة أنه حارب الجهل والفقر كما حارب الظلم والكفر.

إن القرآن لم يشر إلى وجود هذه الآلات والمخترعات، ولا إلى وجود اديسون وانشتين، وإلى وجود هتلر وموسيليني ولكنه أعرب بلسان عربي فصيح أن

_____________________

* - أذيعت من محطة الإذاعة اللبنانية ونشرت في مجلة الأحد في شهر رمضان المبارك ١٩٥٥.

٣٦١

« من قتل نفساً بغير نفس.. فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً» وقتل النفس يكون بالسيف ويكون بالجهل والبطالة وخنق الحريات وما إلى ذلك من الوقوف في طريق الحياة والنبوغ، كما أن إحياءها يكون بالعلم وإفساح المجال للعمل وحرية الفكر وظهور النبوغ والعبقريات، وبالنتيجة يكون هتلر وأمثاله من الذين قتلوا الناس جميعاً، وأديسون وانشتين من الذين أحيوهم جميعاً، أجل إن اللّه علم الإنسان ما لم يعلم، حيث وهبه العقل والإدراك، ورفع عنه الحجر والوصاية، ولكنه في نفس الوقت نهاه أن يبخس الناس اشياءهم، ويعيث في الأرض فساداً.

إن العلم قد يكون سلاحاً فتاكاً، وقوة هدامة تدمر الحضارة، وتعود بالإنسانية إلى ظلمة التوحش والبربرية، ووسيلة تخيف الناس على أرواحهم وأموالهم، وتجعلهم في جزع مستمر، وقد يكون العالم قوة منتجة، وأداة لتطور الحياة وتقدمها.

والإسلام يحدد موقف العلم، أو قل يحدد مسؤولية من في أيديهم قوة العلم ووسائله، ويوجب عليهم أن يستخدموه للحياة لا للممات، إن الإسلام يحث على العلم ويرفع من شأن العاملين به، وهم المعنيون بقوله سبحانه «هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون - يرفع اللّه الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات» وقال الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام «العلم دين يدان به». أي أن العلم حق، وعلى كل إنسان أن يدين بالحق، ويعمل به، وإنما يكون العلم حقاً وديناً مقدساً إذا خلقنا خلقاً جديداً ينهض بنا إلى حياة أفضل، كما خلق الإسلام مجتمعاً جديداً في التفكير والمعيشة والسلوك، أما العلم الذي ينتهي بنا إلى سوء المصير فقد تعوذ منه الأنبياء والمصلحون، كما تعوذوا من الشيطان الرجيم، بل تعوذوا من علم لا ضرر فيه ولا نفع، قال الرسول الأعظم ص: أعوذ باللّه من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، فما قولكم بالعلم يتخذ آلة للصوصية ! أما القلب الذي لا يخشع فهو الذي لا يشعر صاحبه بالمسؤولية، ولا يكترث بالدين والوجدان، والنفس التي لا تشبع هي التي تحرص على الاحتكار واحتياز الثروات، وتعمى عن سوء العاقبة والمصير.

٣٦٢

حَديث رَمضَان *

لقد غير العلم فهم الإنسان لحقيقة الحياة، وقضى على كثير من التقاليد والمعتقدات، قضى على المعتقد الذي أقام الخرافة مقام العلم، والأحلام مقام الملموس والمنظور، وفسر الطبيعة وحوادثها باشياء لا تمت إليها بسبب. فسر المرض بلمس الجن، فعالجه بالرقى والتعاويذ، ونسب الفقر إلى القدر، فأوجب الاستسلام له والانقياد، وأسند سلطة الحاكم إلى اللّه، فأمر الناس بالسمع له والطاعة. هذه هي العقيدة التي ناصرها الظلم، وقاومها العلم، ودعمها الاقطاع، وكذبها الوعي، ودللها الاستعمار وخنقها التطور.

أما الدين الذي يحارب الخرافات والأوهام، ويدعو إلى تفسير الطبيعة بأسبابها، ويتصل بحياة الإنسان مباشرة، ويهدف إلى أن تكون الفضيلة عملاً مجسماً يحسه ويشعر به كل فرد فانه يسير مع العلم جنباً لجنب حليفين متناصرين، وهل يحارب العلم ديناً أساسه الدعوة إلى العلم، وحدّه العدالة والمساواة، وهدفه سعادة الإنسانية ورفاهيتها ؟ إن مثل هذا الدين يرفع الإنسان إلى مستوى أعلى، فقد رفع الإسلام قبائل العرب المتوحشة إلى أقصى ما يمكن أن يصلوا إليه من التقدم والحضارة في ذلك العهد، وهذا التاريخ طبع كثيراً من الحضارات بطابع الدين وسماته، فوصف هذه بالحضارة الإسلامية، وتلك بالحضارة المسيحية، وثالثة بالحضارة البوذية، ولو كان العلم يعاند الدين لما كان للحضارة الدينية في التاريخ ذكر، وللكنائس ورجالها في أميركا وأوروبا عين ولا أثر أثر في هذا العصر الذي يجري فيه تيار العلم بأقصى ما يجري تيار في جميع العصور.

يتبين من هذا أن العلم لا يعاند اللاهوت، وأن عدو اللاهوت هو اللاهوتي

_____________________

* - أذيعت من محطة الإذاعة اللبنانية ونشرت في جريدة التلغراف في شهر رمضان المبارك ١٩٥٢.

٣٦٣

الذي يفسر الطبيعة بالخيال والوهم، ويتخذ من أقوال السلف برهاناً على الحقيقة، ولو كذبتها التجربة والعيان، ويحاول إِقناع الناس بأن دينه خير الأديان، وأن طائفته تسعد غداً في جنات النعيم، وسائر الطوائف تشقى بنار الجحيم.

ليست مهمة رجل الدين أن ينظر إلى السماء وحدها، ويغض الطرف عن الأرض التي يعيش فيها، أو ينظر إليها من خلال نفسه وجامعه وكنيسته، فيبشر بدينه، ويهاجم سائر الأديان، ويتعصب لطائفة ضد الطوائف الأخرى، وإنما واجب رجل الدين أولاً وقبل كل شيء أن يتخذ من كل ما عليه مسحة دينية من عمل يؤدى في معبد، أو قول في كتاب مقدس، أو دعاء يكرر في الصلوات وأيام الصيام أداة توجيه وإِرشاده إلى تعاون جميع الطوائف الذين يجمعهم وطن واحد، وآمال واحدة، وأهداف مشتركة، إلى تعاون الجميع على تحقيق هذه الآمال والأهداف، وهدم الفروق والحواجز التي تحول بينها وبينهم، أن يعملوا يداً واحدة على حل ما يعانونه من مشكلات لا يصح الاغضاء عنها، ولا التقصير فيها. إِن الشعب الذي لا يتعاون ابناؤه على ازدهاره ورفع مستواه المادي والروحي لا دين له ولا إيمان.

ليس الدين ذلاً ولا انكساراً وزهداً في الحياة وملذاتها، ولا صلاة وصياماً يذوب له الصائمون، إن الصلاة رمز إلى إيمان المصلي، إيمانه بحق الإنسان وخالقه، وتعبير عن حبه للنظام الذي يحقق الحرية والرخاء للجميع، وانه يتقبل هذا النظام، ويحافظ عليه، ويخضع له بمحض إرادته واختياره. فالصلاة الصحيحة هي ما ينتهي بها المصلي، ويتورع عن كل ما فيه ضرر لنفسه ولغيره، ويأتمر ويفعل كل ما فيه الخير والصلاح له وللمجتمع، وبهذا نجد تفسير الآية الكريمة «ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر».

أما الصيام فقد أمر به الإنجيل قبل أن يأمر به القرآن «كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون» وليست الحكمة من وجوب الصيام أن يتذكر الصائم الجائعين، فيحسن إليهم. ويتصدق عليهم بالقرش والرغيف - كما قيل - ولو كانت هذه فائدة الصيام لوجب الصيام على الأغنياء دون الفقراء، ولكان حقاً على اللّه أن يسلط على الناس حاكماً ظالماً يظلمهم، ويستعبدهم ليتذكروا المظلوم، وينتصروا له من الظالم.

إن قول اللّه سبحانه كتب عليكم الصيام لعلكم تتقون إشارة إلى أن الحكمة من وجوب الصوم، وامتناع الإنسان عن طعامه وشرابه - وهما في بيته ومتناول يده - أن يضبط الصائم نفسه بوازع يردعه عن استغلال الناس واستثمارهم، والتعدي على طعامهم وشرابهم. أن يدرك عملاً لا قولاً ان اطلاق العنان لانانيته واهوائه يجعل أقوات الناس ومقدراتهم رهناً بمقدرته على الاحتكار

٣٦٤

واللعب بالأسواق، وبمهارته في فن الغش والتدليس وفي ذلك خطر كبير عليه وعلى المجتمع. أن يدرك أن حرية الفرد واستقلاله ومصالحه - مهما بالغنا في احترامها - هي دون حرية المجتمع واستقلاله ومصالحه. أن الحر فرداً كان أو مجتمعاً هو من لا يستغل ولا يستغل، لا يستعبد ولا يستعبد. وبالتالي أن يهيِّئ الصائم نفسه بنكران ذاته، وكبح شهواته ليكون عضواً صالحاً في مجتمع يسير في سبيل النجاح والازدهار.

أن الدين أمر بالصوم تحدياً للجوع والعطش، لا رغبة في الجوع والعطش، تحدياً للأهواء التي تفرض على الناس ضريبة الجوع والعطش، وتعيق سير التقدم بجشعها الذي لا يقيد بقيد، ولا ينتهي إلى حد. قال الرسول الأعظم محمد بن عبد اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الصائم من يذر شهوته وطعامه وشرابه لأجل اللّه سبحانه، وقال: كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش. أجل، لأن صيامه لم يحد من طمعه، ولم يرق به إلى احترام الحياة، والإيمان بحقوق الإنسان. وجاء في بعض الأدعية التي يتلوها المؤمنون في شهر رمضان المبارك: اللهم ارزقني الجد والاجتهاد، والقوة والنشاط لما تحب وترضى. والوجل منك، والرجاء لك والتوكل عليك، والثقة بك، والورع عن محارمك، ان الخوف من اللّه سبحانه، والورع عن محارمه، والنشاط لما يرضيه، كل ذلك، إنما يكون بالتحرر من عبودية الهوى، وحب السيطرة والاستئثار، والبعد عن الكسل والخمول، عن سبيل الذين يقامرون بقرش الفقير، ورغيف البائس، ولا عمل لهم سوى الانتقال من مقهى إلى بار، ومن ملهى إلى حانة، إن اللّه لا يحب، ولا يرضى عن مجتمع لا يجد ويجتهد، ولا يكافح ويناضل في سبيل حياة أرقى وأبقى، ولو ملأ الشوارع بالكنائس والجوامع، والفضاء بالأجراس والأذان ان المجتمع الذي يحبه اللّه ورسوله، ويحب اللّه ورسوله هو الذي لا ترى فيه إِلا عاملاً في مصنع، أو زارعاً في حقل، أو راعياً على منحدر جبل، أو سماكاً يجذب شباكه، أو فناناً يرسم على لوحة، أو طبيباً في عيادة، أو عالماً في مختبر، أو أديباً ينقد الأوضاع.

إن مثل هذا المجتمع خليق بأن يعبد اللّه مخلصاً له الدين والصلاة والصيام.

٣٦٥

العيد *

إن الأعياد لا تختص بأمة دون أمة، ولا بدين دون آخر، فنجدها جلية واضحة في تاريخ الأمم والأديان جميعاً. وتنقسم الأعياد إلى دينية وشعبية، وأعياد خاصة ليست بشعبية ولا دينية، بل هي في نظر الأديان بدعة وضلالة، وعند الشعوب سخف وجهالة، كالاحتفال بتتويج ملك ليس له أثر يذكر، ولا منقبة تشكر. والغبطة بمثل هذا العيد لا تتعدى المتوج وأسرته، فإذا زال النفوذ والسلطان، وجاءت الأعياد كانت عليهم عذاباً وحسرات.

ويلاحظ أن العرب يهتمون ويحتفلون بالأعياد الدينية أكثر من الأعياد الشعبية، على عكس الغربيين الذين يهتمون بالأعياد الشعبية أكثر من غيرها، ولعل السر أن الشرق مصدر الأديان، وأن العرب لم يستردوا بعد كامل حقوقهم وسيادتهم، وسالف عزهم ومجدهم.

ومهما يكن فإن الأعياد الدينية تختلف باختلاف البواعث والأسباب، فعيد الميلاد يرمز إلى المودة والرحمة والإنسانية التي دعا إليها السيد المسيح، ومولد النبي من الذكريات الخالدة التي لها أعظم الأثر في تاريخ الإنسانية، فقد كان مولده إِيذاناً بانتهاء عهد الجاهلية والاستبداد، وبزوغ عهد الحضارة والحرية والحكمة من عيد الهجرة النبوية ان يلتفت المسلمون إلى الماضي ليجددوا وحدتهم، ويعملوا يداً واحدة لأنفسهم لا لغيرهم، ويناضلوا بروح التضحية والإخلاص في سبيل مبادئهم القومية، وإرجاع مجدهم، وإحياء تراثهم، ويحرروا بلادهم وعقولهم من كل قيد يعيقهم عن السير في طريق الحرية والحياة.

وهذان العيدان المولد والهجرة لم يكونا معروفين في عهد الرسول، ولا

_____________________

* - أذيعت من محطة الإذاعة اللبنانية في عيد رمضان المبارك ١٩٥٣.

٣٦٦

في عهد خلفائه الراشدين، فالمولد لم يصبح عيداً مقرراً عند المسلمين إلا في القرن الثامن الهجري، وعيد الهجرة تقرر بالأمس في هذا القرن. والحقيقة أن هذين العيدين هما من الأعياد الشعبية عند المسلمين لا من الأعياد الدينية، ولذا لا تجوز فيهما صلاةُ العيد. أما عيد الأضحى والفطر فإنهما من الدين في الصميم، فقد ثبت أن النبي كان يحتفل بهما، ويحتفل معه المسلمون، ويصلون فيهما خلفه صلاةَ العيد.

وعيد الأضحى يهدف إلى توثيق آصرة القربى بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم وديارهم ولغاتهم، ويذكرهم بأنهم أسرة واحدة ينتظم فيها مئات الملايين. وعيد الفطر تحية القيام بالواجب، حيث يجدر بالصائم الذي جاهد شهواته شهراً كاملاً، وانتصرت قوى إِيمانه وعقيدته على أهوائه وميوله أن يعيد عيد النصرِ والفوز، عيدَ انتصارِ النظام على الفوضى، والعقل على العاطفة، عيداً يبتهج فيه لتغلب الحق على الباطل، والمبدأ المقدس على المنافع الخاصة.

لقد كان الاحتفال بعيدي الفطر والأضحى في عصر الإسلام الأول بسيطاً متواضعاً، كان النبي يوسع على عياله يوم العيد، ويأمر أصحابه بالتوسعة على عيالهم، وكان يغتسل ويتطيب ويلبس أجمل ثيابه، ويقول: إِن اللّه جميل يحب الجمال، وقال الإمام جعفر الصادق في تفسير هذه الآية من سورة الأعراف «يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد، وكلوا واشربوا، ولا تسرفوا، إن اللّه لا يحب المسرفين، قل من حرم زينة اللّه التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق» قال: إن معنى الآية تزينوا والبسوا أفخر ثيابكم في الجمعات والأعياد، وكلوا من طيبات ما أحل اللّه، ولا تأكلوا حراماً ولا باطلاً.

لقد استحب القرآن الزينة والأكل والشرب من الحلال الطيب، ونهى عن التبذير والإسراف، لأن المبذرين كانوا إخوان الشياطين، وقرش واحد يؤخذ من غير حل، أو ينفق في معصية اللّه، في الفسق والفجور فهو إِسراف وتبذير ومجاوزة للحدود. وإذا ضممنا الآية التي أمرت بالزينة إلى هذه الآية من سورة النور الموجهة إلى النساء «ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو ابنائهن أو ابناء بعولتهن أو اخوانهن أو ابناء اخوانهن أو ابناء اخواتهن أو نسائهن» إذا ضممنا الآيتين معاً تكون النتيجة أن القرآن أباح للرجال أن يتزينوا إِذا خرجوا إلى المساجد والمحافل في الأعياد وغيرها، أما النساء فلا تباح لهن الزينة في يوم العيد ولا في غير العيد إِلا إذا كانت الزينة للأزواج لا للأجانب، وفي عصرنا هذا تكاد تنعكس الآية عند بعض النساء، فانهن يقابلن الأزواج بثياب المطبخ، وبشعرهن المنفوش، كأنه صوف على غنم، وبالكلام الجاف الموحش، وإِذا أردن الخروج تزين بأفخر الزينة، ولبسن الحلي والحلل، وزججن الحواجب والعيونا، وملأن المحافظ بأنواع المساحيق

٣٦٧

يضعنها على الخدود، وهن سائرات في الشارع، أو راكبات في السيارة. وفي الحديث عن الرسول الأعظم «أيما امرأة تزينت لغير زوجها فعليها لعنة اللّه. إِن خير نسائكم الولود الودود السيّرة العفيفة العزيزة في أهلها الذليلة مع بعلها المتبرجة مع زوجها الحصان على غيره التي تسمع قوله، وتطيع أمره».

وفي أيام الأعياد تتجلى العواطف الزوجية والأبوية والأخوية بأجلى معانيها حتى عند المتشائمين المشككين الذين يعمون عن الأثمار والأزهار، ولا يرون إلا الحنظل والأشواك، وتظهر هذه العاطفة الإنسانية في أبناء القرى أكثر منها في ابناء المدينة، فليس العيد في القرية ملابس وكعكاً وذبائح فحسب، فقبل كل شيء يجتمع أهل القرية في المسجد لصلاة العيد جماعة، ثم يتصافحون ويتعانقون متبادلين كلمات التهاني والدعاء بالخير (كل عام وأنتم بخير) يقولونها بصدق وإخلاص، ويرجون للأعزب أن يروه في العام المقبل عريساً سعيداً، وللمتزوج الذي لم يولد له أن يروا له ولداً مباركاً، ومن استوفى نصيبه من ذلك يتمنون له الخلاص من الذنوب والآثام. وحج بيت اللّه الحرام.

ثم ينتشرون زرافات ووحدانا إلى زيارة المرضى ومعايدتهم وتفقد الفقراء والأيتام فيجمعون لهم المعونة لنفقات العيد، ويبذلون أقصى الجهود لإصلاح ذات البين، فيؤلفون بين عائلتين متباغضتين أو شخصين متحاسدين، وإذا عجز أهل القرية عن التأليف بين القلوب المتنافرة استنجدوا بالقرى المجاورة، فيلبون مسرعين مخلصين، وإذا كان أهل بيت في حزن وحداد على فقد عزيز رغبوا إليهم في ترك الحداد، وتناسي المصاب، وإلا حدّت لأجلهم القربة بكاملها.

ومنذ سنوات كنت أقيم في بعض القرى الواقعة على حدود لبنان الجنوبية، فحدث شجار دام بين عائلتين كبيرتين لأسباب مادية، فحاولت الصلح بينهما فلم أفلح حتى جاء يوم العيد، فأقبل أهل القرية إلى بيتي صباحاً يقدمون لي التهاني كعادتهم في كل عيد، فقلت لهم: إِني حزين لا أقبل التهنئة من أحد أياً كان، وسألوني عن السبب مستغربين، قلت: لا احتفل بالعيد أبداً ما دام في البلد اخصام. فانبرى شيوخ القرية وجمعوا المتخاصمين، وأتوا بهم جميعاً إلي، فتكلمت ورغبت إليهم أن يتصافحوا ويتعانقوا، ففعلوا، وزال ما كان في قلوبهم من غل. وهكذا اتفق أهل القرية الذين ما زالوا على الفطرة الإنسانية الطيبة التي فطرهم اللّه وفطر الناس جميعاً عليها، لا أهل القرية فحسب، وإنما فسد، وأفسد من ساءت تربيته وعلاقاته الاجتماعية.

٣٦٨

ولولا أن تمتد بعض الايدي الأثيمة إلى كثير من القرى تثير فيها الفتنة والشغب لكانت كل قرية كهذه، ويتناسى أهلُها جراحَهم ودماءهم، ويسيرون وراء كل من يتجه بهم إلى النجدة والصالح العام.

إن المشاركة الوجدانية تظهر بأصدق معانيها في ابناء القرية يوم العيد، ويلمسها كل من أقام بينهم، وشهد أعيادهم. أما المدينة فيكاد لا يوجد لهذه المشاركة أثر يذكر لا في أيام الأعياد ولا في غيرها. وليس السبب في هذا التفاوت ما قيل أو يقال بأن القرية صغيرة، وكل واحد من أهلها يرى الآخر صباحاً ومساء، فهم كأهل البيت الواحد، وإنما السبب الحقيقي أن التفاوت في العيش بين أبناء القرى يسير جداً، فلا يوجد فيها كوخ متواضع إلى جانب قصر شامخ، كما هي الحال في المدينة. والغني من أهل القرية من يملك قوته الضروري ولباسه وفراشه، فهم لذلك يشعرون بالمسؤولية، ويجتمعون على النجدة، ويبتهجون بالعيد جميعاً.

أما المدينة ففيها مملكتان منفصلتان انفصالاً تاماً مملكة الغني الكبير الذي يحوز الملايين، ومملكةُ الفقير المعدم الذي لا يملك شيئاً. ومن هنا ضعف الشعور بالمسؤولية، وساءت العلاقة بين الهيئات، واختص الابتهاج والاحتفال بالعيد ومظاهره ورسومه بذوي القوة والغنى والترف. أما الفقير فإِنه يكذب على نفسه ويخدعها يوم العيد، فيبتهجُ ويبتسم متجاهلاً أتعابه وأوجاعه، لأنه لا يَود أن تكون حياته كلها سلسلة من الأحزان والآلام، فهو يفر من الحزن الواقعي إلى الفرح الكاذب، ومن الاتعاب الحقيقية إلى الراحة الوهمية. إِن احتفال البائسين بالأعياد أشبه بالمريض والجائع يلجأ إلى الفن ليخففَ أعباء الواقع.

إن القائلين بأن الابتهاج والسعادة ينبعان من القلب مغالون جداً بل أن ابتهاج القلب وسعادته ينبعان من هذه الأشياء المحسوسة الملموسة القائمة على وجه الأرض، والكامنة في بطنها، والتي لا تستقيم الحياة بدونها أبداً، ولا تتم السعادة إلا بها.

إن العيد السعيد حقاً هو اليوم الذي لا يقل فيه الصادر عن الوارد، والخارج عن الداخل، عيد النهضة الكبرى، نهضةُ الزراعةِ والصناعة، والقضاء على الفقر والبطالة والأمية، وعلى اليد التي تثير التفرقة والفتنة والفساد، وعلى كل مشروع يهدف إلى الاستثمار، والوقوف في سبيل الحرية والحياة.

ربنا هيِّئ لهذا البلد من أمره رشداً وقرب هذا اليوم لنتخذه شعاراً لنهضتنا، وعيداً لأولنا وآخرنا، وما ذاك عليك، ولا على المخلصين من عبادك بعزيز.

٣٦٩

كاشِفُ الغطاء الكبير وَالمصَلّون *

إن من يدعي الإصلاح دينياً كان أو سياسياً لا يكون مصلحاً حتى ينكر ذاته، وينسى شخصيته، فيحاسب نفسه وأهله وولده، وكل من يلوذ به قبل أن يحاسب الناس، وأن من تظاهر بالصلاح والإصلاح، وعمل في الخفاء لحساب شهواته وملذاته فهو مراءٍ منافق، وظالم لئيم.

إن نكران الذات هو الأساس الوحيد الذي يجب أن تبنى عليه دعوة الداعين إلى الخير والصالح العام.

كان المغفور له الشيخ الأكبر جعفر كاشف الغطاء المتوفى في أوائل القرن التاسع عشر المرجع الأول للشيعة، وكان الاقبال عليه عظيماً من جميع الطبقات، وكان الناس يجتمعون الوفاً للصلاة خلفه، وفي ذات يوم تجمع الناس في المكان الذي يصلي فيه الشيخ ينتظرونه كالمعتاد، ولما أبطأ عن ميعاده قام كل واحد إلى صلاته يؤديها منفرداً. ودخل الشيخ فرآهم على هذه الحال، فغاظته هذه النزعة الفردية، وهذا الانحلال، فوبخهم قائلاً: لماذا لم تختاروا رجلاً منكم يؤمكم في الصلاة ؟ ثم قصد رجلاً عادياً يصلي في طرف المسجد، فاقتدى به، وصلى خلفه.

ربما كان تأخير الشيخ عن قصد وعمد، ليرى ما هم صانعون، إذا غاب هو عنهم، فلما رأى شتاتهم وتفككهم أنكر عليهم وضرب لهم من نفسه مثلاً حياً لنكران الذات، واقتدى برجل عادي.

رأى الشيخ من إقبال الناس عليه، وثقتهم به، وتعظيمهم له، ما أخافه،

_____________________

* - نشر في مجلة الأحد سنة ١٩٥٢.

٣٧٠

وأقلقه. خاف، وهو الحارس على الدين ومبادئه، وحامي الشريعة وتعاليمها أن يتوهم متوهم أنه هو وحده الذي يستحق التكريم والتعظيم من دون الناس أجمعين، وإن من عداه ليس أهلاً أن يكون إِماماً للجماعات في الصلاة، ولا في غير الصلاة فحارب هذه الأرستقراطية، وهذا الاحتكار بأفعاله قبل أقواله، وأحيا مبدأ الرسول الأعظم الذي قال: «إن في كل حي نجيباً، وإن شر الناس من أحقر الناس».

أراد الشيخ من اقتدائه برجل عادي أن يخلق الثقة في نفس كل فرد بأنه أهل للإمامة في الصلاة، وقيادة الجماعات في كل عمل نافع، ما دام يذعن للحق، وينكر الباطل، وأن يفهم الناس جميعاً أن القيادة ليست وقفاً على ذوي المناصب والانساب، وأن في السوق والشارع نفوساً طيبة، وقلوباً ذكية تصلح أن تقود جماعة، ويقتدي بها حتى الشيخ الأكبر، والمرجع الأول أمثال كاشف الغطاء.

إن اتباع الشيخ ومقلديه لا يرون غيره أهلاً لهذه الإمامة، فهو وحده القائد، وإِمام الصلاة. ولو كان الشيخ من طلاب الرئاسة ومحبيها، لسره هذا الشعور من الجماهير، وأقرهم عليه، واغراهم به ليغالوا بالاقبال عليه، والاعراض عمن سواه، ولكن الشيخ نظر إلى هذا الشعور بمنظار الدين والواقع لا بانفعاله الذاتي، وانانيته الضيقة، فرأى أن إقرارهم عليه تضليل وخيانة، فردعهم عنه، وأرشدهم إلى الحق مقتدياً برجل عادي إطاعة لواجب الدين والعلم.

٣٧١

السّيّد محسِن الأمِين *

ربما يتساءل الناس إِذا كان لم يعد للدين وزن ولا أثر في النفوس في هذا العصر فمن أين هذه العظمة للأمين المحسن، وهو رجل الدين الأول، ورئيس العلماء الأكبر ! وما هذا الدوي الهائل الذي كنا نسمعه خلف جثمانه، وهذا السيل الجارف من الشعب والحكومة في سوريا ولبنان حول الجثمان وخلفه وأمامه، هذا الحشد الذي ضم جميع الهيئات الدينية والسياسية والشعبية كبارها وصغارها من جميع الطوائف والأديان، ولماذا ملأت الصحف في الأقطار الغربية أعمدتها على الصفحات الأولى تشيد بعظمة الفقيد تعدد فضائله ومناقبه ! وما سبب هذه الهزة العنيفة التي زلزلت العالم العربي والإسلامي عندما سمع نبأ وفاته !

أجل لقد غيرت التطورات الأخيرة كثيراً من الأفكار والاتجاهات، وكشفت الغطاء عن كل مموه زائف، ولكنها عجزت عن مقاومة الحق الذي يتمثل بشخصية الفقيد، فأرغمت على الاعتراف بسلطانه، والنزول على حكمه.

اعتمد الفقيد على العمل والاخلاص لا على الرياء والتضليل، ولا على الأنساب والألقاب، وهل يفخر بأكفان الأموات وترابهم غير الحقير الأعزل من سلاح الحياة، انتسب الفقيد إلى حقيقة الدين وجوهره لا إلى اسمه ومظهره، فانتسب إليه العلم والدين فهذي المدرسة المحسنية مضى على خدمتها للعلم والإنسانية نصف قرن، وهذي المؤلفات تعد بالعشرات، وهذا كتاب الأعيان من أعظم وأضخم ما تركت أمة من تراث خالد وهذا الجهاد المستمر لتوحيد الكلمة، وجمع الصفوف، وهذا الكفاح لكل مستعمر ومستثمر، خلال اصطفى لها اللّه أمينه

_____________________

* - نشر في العرفان أيار سنة ١٩٥٢.

٣٧٢

المحسن.

إن الكثير منا يملك العلم والذكاء، ولكن ماذا يجدي العلم والذكاء إِذا أديا إلى لغو لا خير فيه ! وماذا يجدي الجاه والمال إِذا كانا سبباً للتحاسد والتباغض ! بل ماذا تجدي الهجرة إلى النجف والأزهر واكسفورد والسوربون إذا لم تكن لغايات إنسانية ولم تدفع بالحياة إلى التقدم وكيف تتقدم بنا الحياة أو نتقدم بها، إذا كنا نجهل الحياة، وتستعبدنا الشهوات !.

لقد انبعثت نفس الفقيد من صميم العصر الذي عاش فيه، وتجرد عن ذاته وغايته، فكان كفوءاً لكل ما ألقي عليه من مسؤوليات، تسعين عاماً من حياته قضاها مجاهداً في سبيل العلم والخير مدافعاً عن الحق دفاع من لا يبغي حطاماً، ولا يخشى سلطاناً، فكان في عاملة والعراق ودمشق لا وزن عنده إلا للحق، ولا فضل إلا لعامل على خير الوطن والصالح العام كائناً من كان سنياً أم شيعياً، مسلماً أم غير مسلم، وهذه هي السبيل الواضحة التي يصل منها الإنسان إلى العظمة المطلقة التي تتخطى حدود الأمصار والأديان، لأنها كالشمس فوق الحدود جميعاً، لقد كان الإنسان إنساناً قبل أن يكون شرقياً أو غربياً، وقبل أن يكون مسلماً أو نصرانياً، وهكذا العظمة وحب الخير لا يجنسان جغرافياً ولا تاريخياً ولا دينياً، ولا هوية لهما غير حقيقة الإنسان بمعناه الشامل، إن الزمان والمكان لا يغيران شيئاً من حقيقة الإنسان، وإِنما هما ظرفان لما يقوم به من أعمال، وأن معنى الدين هو الشعور بالمسؤولية تجاه أخيك الإنسان، ومعنى الإيمان هو إخضاع حياتك لهذا الشعور، أن المسيح لا يريد النصراني الماروني أو الرومي وإنما يريد النصراني الإنساني، ومحمد لا يريد المسلم السني أو الشيعي، وإنما يريد المسلم الإنساني، هكذا فهم الفقيد الإسلام والإيمان فأخضع حياته لهذا الشعور، وبهذا كان عظيماً عند المسيحيين كافة والمحمديين كافة.

وربما يتساءل المرء: كيف اجتمعت هذه العظمة مع تلك الحياة المتواضعة التي كان يحياها الفقيد والبساطة في مظاهره كلها في مأكله وملبسه ومسكنه، فلا بواب ولا حجاب، ولا سيارة فخمة، وبناية ضخمة، وقد رأيته، وأنا جار له في الشياح واقفاً في دكان قصاب يشتري اللحم ويحمله بيده إلى أهله، ورأيته منفرداً متثاقلاً يدفع بجسمه المريض المتهدم يزور العمال البائسين في بيوتهم، فيجلس إليهم ويطايبهم، ويسمع منهم، ويستمعون إليه، قد يتساءل المرء: أهذا حقاً هو الذي احتشدت الأمة بقضها وقضيضها خلف جثمانه ! أهذا حقاً هو الذي كان بالأمس يحمل اللحم بيده ! أهذا حقاً هو الذي كان يمشي وحيداً في الشارع، ويجلس على الحصير مع البائس والفقير ! نعم هو هو !

٣٧٣

وهذا الرسول الأعظم الذي قرن اسمه باسم اللّه فيه الصلاة، وعلى المنابر والمآذن، ودانت بأقواله ملايين الملايين في مشارق الأرض ومغاربها هو الذي كان يخصف نعله، ويرقع ثوبه بيده ويعقل البعير، ويقطع اللحم، ويحلب الشاة، ويطحن مع الخادم، ويجلس على الأرض مع الأسود والأبيض، وهكذا كان الرسول الأعظم، وهكذا اقتدى به سليله المحسن الكبير، وما هذا الاحتقار للمادة إِلا مظهر الكمال، والاعتداد بسلامة النفس، الاعتداد بالعلم والنزاهة والعمل والإخلاص وحيثما وجدت الترف والزينة وجدت الاستغلال والخيانة، وحيثما وجدت التواضع وجدت الحق والصدق.

كان مسجد الرسول الأعظم في عهده وعهد الخلفاء الراشدين هو البرلمان والسراي الكبير وقصر العدل، ولم يكن هذا الجامع سوى قليل من الطين وسعف النخل ولكن منه انبعثت القوة التي حطمت تاج كسرى وقيصر، ومنه شع النور الذي ملأ الآفاق والأكوان، وبه سادت الفضيلة على الرذيلة، وتغلب الضعيف المحق على القوي المبطل. أما القصور الشامخة أما ناطحات السحاب فأساسها البغي والاستثمار وحيطانها التحاسد والتباغض، وسقفها الطمح والجشع، وأثاثها العجب والرياء، من سكنها أغوته، ومن اغتر بها أردته، والسلام على أمير المؤمنين حيث وصف المخلصين «عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم» والعكس بالعكس.

أنكر أهل الجاهلية الرسول الأعظم، لأنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ولا يملك كنزاً ولا بستاناً أهذا الذي بعثه اللّه رسولاً ؟ «وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إِليه ملك فيكون معه نذيراً أو يلقى إِليه كنز أو تكون له جنة» ولو كان محمد ص في هذا العصر لقال له البعض: كيف تكون نبياً، وأنت لا تملك سيارة!

وما تجلت هيبة الحق في شيء، كما تجلت في حياة متواضعة وزهد في زخرف الأرض وزينتها، كان للفقيد - الذي لا يملك سيارة - صور للهيبة والجلال تتعدد بتعدد من ارتدى عمة مثل عمته، ولبس جبة وقفطاناً كما لبس. وقد أعار لكل واحد صورة أكسبته احتراماً وتقديراً حتى إِذا ذهب الأصيل ذهبت تلك الصورة عن الدخيل، واسترد المستعار، وبرز الجميع عراة إِلا من لبس ثوبه من غزله، وحاكه على نوله.

* * *

إلى هنا أكتفي بجمع ما تألف منه هذا الكتاب، وهو جزء مما نشرت وأذعت في مدة تقرب من عشرين عاماً، وأؤمل أن يوفقني اللّه سبحانه لجمع الجزء الباقي في مستقبل الأيام.

٣٧٤

وأسأل القارئ المعذرة عما يجد من أخطاء لم يتهيأ لي التحرز عنها حين وقوعها، وما على الإنسان من غضاضة في خطأ غير مقصود يرجع عنه عند ظهور الصواب، والسلام على الإمام علي بن أبي طالب حيث قال «ليس كل من رمى أصاب» واللّه سبحانه من وراء القصد، وهو العالم بصدق النية، وطيب السريرة.

الاثنَا عشريَّة وَأهل البيَت (ع)

الاثنَا عشريَّة

الاثنا عشرية نعت يطلق على الشيعة الإمامية القائلة باثني عشر إماماً تعيّنهم بأسمائهم.

تمهيد: واجه الإسلام ما واجهته سائر الأديان من التقسيم إلى فرق، ثم تقسيم كل فرقة، على مرّ الّزمن، إلى فرق.. وفي التاريخ العديد من الشواهد على ذلك «ولو شاء ربك لجعل النَّاس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين» (هود - ١١٨) ولا يقف هذا الاختلاف على الطوائف وأهل الأديان بعضها مع بعض.

بل يتعداها إلى اتباع الدين الواحد. ولا نعرف أهل دين أجمعوا على عقيدة واحدة من جميع جهاتها، دون أن يتفرّقوا شيَعاً وأحزاباً. ورغم هذا الشتات والنزاع - وربما الحرب والصراع - فإن بين الفرق من كل طائفة قاسماً مشتركاً يجمع شملها.

ويربطها بالدّين الأصيل، وإلا لم تكن فرقاً لدين واحد، فلا بد لكل فرقة أن تأخذ بنصيب من دينها، أمّا مقدار هذا النصيب، وأيّ الفرق أكثر ملاءمة للأصل والمصدر فلا يعرف من كثرة الأتباع وقوّتهم، وسلطانهم.

الفرق الإسلامية

والذي نراه ونرجّحه أن أسباب الإختلاف والتعدّد في الفرق الإسلامية، على ما بينها من رابط قويّ أو ضعيف، هي واحدة تتّحد مفهوماً، وتختلف مصداقاً. ومن هذه الأسباب أن الذين انتموا إلى الدّين، عند بدايته، منهم من انتمى إليه حقاً وصدقاً، ومنهم من انتمى إليه شكلاً وظاهراً ابتغاء ما يجنيه من وراء هذا الانتماء، تماماً كما ينتمي كثيرون إلى حزب من الأحزاب لمنافع شخصية.

٣٧٥

ومنها أن التعاليم التي أتى بها النبيّ لم تطبق بكاملها في عهده وحياته. ولمّا جاء دور تطبيقها والعمل بها، نظر إليها كلّ من زاويته الخاصّة، وواقع بيئته، ومنطق عقله. هذا وإنّ كثيراً من التعاليم المنسوبة إلى النبيّ لم ينطق بها صراحة، وإنّما استنبطها الأتباع من إيماءة أو تصرّف، أو من شيء لا يمتّ إليه بسبب. بل اختلفوا في الأحكام التي طبقها النبي، وعمل بها. فلقد توضأ مئات المرات أمام ألوف من المسلمين، ومع هذا اختلف السنّة والشيعة في صورة الوضوء، وادعت كل فرقة أنها هي التي تتوضأ بوضوئه دون غيرها.

ومنها أن فئة من الأتباع قد تثق برجل ثقة عمياء، وتواليه ولاء دين وعقيدة وأخرى تتّهمه وتهاجمه.

الخلافة

لهذه الأسباب ولغيرها افترق المسلمون إلى فرق وشيع. وقامت بينهم حدود وحواجز، وأهمّها مسألة الخلافة وما يتّصل بها، بخاصة الطريق الذي يعين الخليفة بعد الرسول، وهل هو النصّ من الرسول، أو اختيار الوجهاء والأعيان ؟ قال الشيعة بالأول، وقال السنة بالثاني. وآمن كل بما رأى، وأصبح إيمانه هذا جزءاً من عقيدته ونظامها. وهذا - كما ترى - اختلاف في المنهج والطريق المثبت للخلافة، لا في أصل الخلافة: فالقول بأنها من عقيدة الشيعة خطأ. ما دام الكلّ متفقين على أصل الفكرة، وأنها تستند إلى الدين باعتبارها رئاسة عامة في الدين والدنيا نيابة عن الرسول باتفاق الجميع، إذن ليست الخلافة، من حيث الفكرة، شيعيّة فقط، أو سنّية فقط وإنما هي عقيدة لجميع المسلمين.

أجل، إن فكرة النص من النبي على الخليفة شيعية لأن السنّة لا يقولون بها، كما أن فكرة الانتخاب سنّية لأن الشيعة لا يقولون بها.

وبعد أن أناط السنّة تعيين الخليفة بانتخاب الوجهاء خاصة، وهم الذين عبّروا عنهم «بأهل الحلّ والعقد» قالوا مبرّرين رأيهم هذا إن الجماعة - أي الوجهاء - منزّهون ومعصومون عن الخطأ، وإن اللّه يهديهم إلى الحقّ والصواب، لحديث «لا تجتمع أمتي على ضلالة» ولما رواه البخاري في «صحيحه» (٩: كتاب الأحكام) من أن النبيّ قال: «من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر،

فإنّه ما أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية».

٣٧٦

وردّ الشيعة هذا الحديث، وكلّ حديث يتضمّن عصمة الجماعة، لأنَّها قد تخطئ بل جاء في الآية ١٨٧ من «الأعراف» «ولكن أكثر الناس لا يعلمون» فبالأولى القلّة وإن كانوا «أهل الحلّ والعقد».

هذا، إلى أن السنّة والشيعة متفقون قولاً واحداً على أن أيّ حديث يأتي من الرّسول يجب أن يعرض أولاً على «كتاب اللّه» فإن تناقض معنى أحدهما مع معنى الآخر، وجب طرح الحديث وإهماله. وليس من شك أنّ بين قوله «ولكن أكثر الناس لا يعلمون» وبين حديث عصمة الجماعة تناقضاً ظاهراً، فيجب طرحه وإهماله.

وأيضاً: بعد أن أناط الشِّيعة تعيين الخليفة بنصّ النبيّ عليه اسماً وعيناً قالوا مستدلين على ذلك: «إن محمداً نصّ على علي بن أبي طالب (ع) باسمه وعينه ونسبه، وعقد له الخلافة على المسلمين من بعده، وأمرهم بالسمع والطاعة له، وأعلمهم أن طاعته طاعة اللّه ورسوله» ونقل الشيعة عن ج ١ من «مسند» الإمام أحمد بن حنبل وج ٢ من «تاريخ» الطبري، وجلد ٢ من «تاريخ» ابن الأثير، وج ٣ من «مستدرك» «الصحيحين» للنيسابوري ومن «السيرة الحلبية» نقلوا عن هذه الكتب وغيرها.

إن محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله حين نزلت عليه هذه الآية: «وأنذر عشيرتك الأقربين» ٢٦ (الشعراء) (٢١٤)، جمع عشيرته في بيته. وبعد أن أكلوا من مائدته، قال لهم مشيراً إلى علي (ع): هذا أخي ووصيّي وخليفّتي فيكم، فاسمعوا له، وأطيعوا. وعلّق الأستاذ محمد عبد اللّه عنان المصري، في كتابه على ذلك «تاريخ الجمعيّات السريّة»: فقال: من الخطأ أن يقال إن الشيعة إنما ظهروا لأول مرّة عند انشقاق الخوارج، بل كان بدء الشيعة وظهورهم في عصر الرّسول، حين أمر بإنذار عشيرته بهذه الآية: «وأنذر عشيرتك الأقربين» ثم ساق الحديث إلى نهايته.

ووضع علماء الشيعة الاثني عشرية العديد من الكتب في النصّ على عليعليه‌السلام ، وجمعوا فيها الآيات والأحاديث من طرق السنة والشيعة.

من هذه الكتب «الشافي» للمرتضى، «ونهج الحق» للعلامة الحلّي، والجزء الثاني «من دلائل الصدق» للمظفّر، «ونقض الوشيعة» والجزء الأول من «أعيان الشيعة» للسيّد الأمين، و«المراجعات» لشرف الدّين، «والغدير» للأميني.

٣٧٧

وممّا قدّمناه نستخلص:

أولاً - إن فكرة العصمة لم يقل بها الشيعة وحدهم، فإن السنّة يقولون بها أيضاً، والاختلاف بينهم في التطبيق فقط. فالسنّة يجعلونها للجماعة، والشيعة للإمام المنصوص عليه، فنسبة الفكرة من حيث هي إلى الشيعة دون السنّة خطأ واشتباه، تماماً كما هي الحال في فكرة الخلافة من حيث هي، ونسبتها إلى الشيعة دون غيرهم.

ثانياً - إنّ فكرة النصّ على عليعليه‌السلام بالذات هي فكرة دينية إسلامية تستند إلى الكتاب والسنة، وليست فكرة سياسية - كما قيل - ترتكز على حق الوراثة في الحكم، ولا فكرة عاطفية صرف، لا مصدر لها إلا قرابة النسب والسبب بين محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثالثاً - إن مبدأ النص على عليعليه‌السلام بالخلافة فارق أساسي، وحاجز منيع بين السنة والشيعة. وقد كان له المقام الأول في الإيمان والعقيدة، وتعدد الفرق الإسلامية، والتأثير البالغ في السياسة، والفلسفة، وعلم الكلام، وفي الفقه، وفي التفسير والحديث، والتصوف، والأدب الإسلامي في جميع مراحله، بل والأساطير التي يبرأ منها الكتاب والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعلي وأبناؤهعليهم‌السلام ، والمحقون من شيعتهم. قال الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام : «ما شيعتنا إلا من يقول علينا حقّاً».

بدء التشيع:

قال الشيعة: إن رسول اللّه هو الذي غرس بذرة التشيع لعليعليه‌السلام بالنص عليه، وبالمدح والثناء بما لم يثن به على غيره من الأصحاب.

كقوله: «يا علي، لا يحبّك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق» وقوله: «علي مع الحق، والحق مع علي» بل هو الذي أطلق على أتباع عليعليه‌السلام

لفظ الشيعة، وأسماهم بهذا الاسم، حيث قال له: «يا أبا الحسن أنت وشيعتك في الجنة» وقال: «تأتي أنت وشيعتك راضين مرضيين» نقل الشيعة هذا الحديث عن كتاب «الصواعق المحرقة» لابن حجر الشافعي.

وظهرت هذه البذرة أوّل ما ظهرت حين توفي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبويع أبو بكر بالخلافة، حيث امتنع عليعليه‌السلام ، ومعه شيعته وأنصاره، واستمرّوا ممتنعين عن البيعة ستة أشهر كاملة. ذكر هذا المؤرخون والكتّاب القدامى والجدد.

وآخرهم الكاتب المصري أحمد عباس صالح، فقد نشر مقالاً متسلسلاً بعنوان «اليمين والثورة» في مجلة الكاتب القاهرية. وممّا قاله في عدد يناير «كانون الثاني» ١٩٦٥: إنّ غالبية المسلمين

٣٧٨

حين توفي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كانوا مع الاتجاه الذي يمثله علي بن أبي طالبعليه‌السلام وأصحابه. لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان زعيم هذا الاتجاه، وواضع مبادئه الأساسية وقال في عدد فبراير «شباط» ١٩٦٥: «كان حزب كبير من أحزاب المسلمين يعتقدون أن علياًعليه‌السلام كان أولى بالخلافة من أبي بكر وعمر».

وأخذت بذرة التشيع تنمو وتعلو، وتواصل نموها وعلوها مع الزمن، والحركات الاجتماعية الإصلاحية في الإسلام، حتى أصبحت عقيدة الأصحاب والرواد الأول، والصالحين والمخلصين. ذلك أن علياً كان يسير على الطريق التي رسمها الرسول. قال المسعودي في مروج الذهب: كان مع علي في صفين تسعون ألفاً، فيهم ألفان وثمانمائة من أصحاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

الخلفاء الاثنا عشر

روى السنة والشيعة عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: إن الخلافة في قريش وإن عدد الخلفاء اثنا عشر خليفة، فقد جاء في صحيح البخاري ج ٩ كتاب الأحكام ما نصه بالحرف: «قال رسول اللّه: لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان.. ويكون اثنا عشر أميراً». وقال ابن حجر العسقلاني، وهو يشرح هذا الحديث في كتاب فتح الباري ج ١٣ ص ١٨٣ طبعة ١٣٠١ هجري: «كم يملك هذه الأمة من خليفة؟. فقال: اثنا عشر، كعدة نقباء بني إسرائيل».

ولم يخالف في ذلك إلا الخوارج، فإنهم قالوا: ليست الخلافة في قريش، بل الناس فيها سواء.

وبعد أن اتفق السنة والشيعة على أن الخلافة لا تكون إلا في قريش، قال الشيعة وأفضل قريش بنو هاشم، لما رواه مسلم في صحيحه ج ٢ بعنوان كتاب الفضائل أن النبي قال: «إن اللّه اصطفى كنانة من إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم». وأيضاً روى مسلم في الكتاب المذكور بعنوان فضائل علي بن أبي طالب أن النبي «قال: أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي، فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب اللّه، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب اللّه، واستمسكوا به، وأهل بيتي أذكركم اللّه في أهل بيتي» كررها ثلاثاً.

وقال الشيعة: فإذا جمعنا بين الأحاديث الثلاثة، في قريش، «والاصطفاء، والثقلين» وعطفنا بعضها على بعض جاءت النتيجة أن الخلافة في أهل بيت رسول اللّه، وهم علي وبنوه.

فالسنة يتفقون مع الشيعة في أن الخلافة لا بد منها، وأنها في قريش دون غيرهم وأن عدد الأئمة اثنا عشر إماماً ويختلفون معهم في أمرين: الأول في حصر الخلافة بالهاشميين، وبصورة أخص بعلي وبنيه. الثاني في تعيين الأئمة الاثني عشر بأسمائهم وأنسابهم، يختلفون في هذين، أما

٣٧٩

أصل فكرة الاثني عشرية فمحل وفاق بين السنة والشيعة الاثني عشرية، وعلى هذا تكون فكرة إسلامية تعم الطرفين، لا سنية فقط، ولا شيعية فقط، تماماً كفكرة العصمة وفكرة الخلافة من حيث المبدأ والقاعدة.

أما السبب لتسمية هذه الفرقة من الشيعة بالاثني عشرية دون غيرها، مع العلم بأن السنة يؤمنون بالأئمة ال ١٢ فهو أن هذه الفرقة قد أجمعت على تعيين ال ١٢ بأسمائهم وأعيانهم، واختلف السنة في ذلك. فمنهم من قال: إن ال ١٢ لم يخلقوا بعد، وسيخلقون، ويملكون بعد ظهور المهدي المنتظر ووفاته، ومنهم من قال: «إن المراد بال ١٢ غير أصحاب الرسول لأن حكم أصحابه يرتبط بحكمه. إذن، كل الأئمة الاثني عشر من بني أمية ما عدا عثمان ومروان، لأنهما صحابيان. وعليه يكون أول الأئمة الذين عناهم النبي يزيد بن معاوية، ثم ابنه معاوية،

ثم عبد الملك، وأولاده الأربعة: الوليد، وسليمان، ويزيد، وهشام وعمر بن عبد العزيز، والوليد بن يزيد، ويزيد بن الوليد، وأخوه إبراهيم، ومروان الحمار. ومنهم من قال: هم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاوية، وولده يزيد، وعبد الملك، وأولاده الأربعة، وعمر بن عبد العزيز. ومنهم من قال: المراد وجود ١٢ إماماً في مدة الإسلام، حتى يوم القيامة، وإن لم تتوال أيامهم إلى غير ذلك (فتح الباري للعسقلاني ج ١٣ ص ١٨٣ وما بعدها طبعة سنة ١٣٠١ هجري).

الفرقة الاثنا عشرية

قدمنا أن بذرة التشيع غرست في عهد الرسول، وظهرت حين بويع أبو بكر، ونمت وعلت يوم صفين، ففرقة علي هي أولى الفرق الإسلامية على الإطلاق، تكونت في حياته، وبقيت ثابتة على ولائه إلى أن قتل، فافترقت بعده إلى فرق، وباد أكثر هذه الفرق، وذهب مع الزمن، ومنها ما هي ثابتة قائمة، حتى اليوم، وستبقى إلى آخر يوم، رغم الحملات والمحاولات لمحوها وإبادتها وهكذا جميع الفرق، أية فرق تنطبق عليها قاعدة تنازع البقاء، وبقاء الأصلح، تماماً كأغصان الشجرة، تتفرع عن أصل واحد، فينمو، ويمتد في النمو، ويحمل من الأزهار والثمار ما يصلح للبقاء والاستمرار، والذي لا يصلح لها يذبل ويجف وينتهي إلى السقوط والضياع.

ومن فرق الشيعة البائدة فرقة قالت: إن علياً لم يقتل ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً.

وفرقة قالت بإمامة ولده محمد بن الحنفية من بعده وهم المعروفون بالكيسانية.

ومن الفرق الباقية حتى اليوم الاثنا عشرية التي لزمت القول بإمامة الحسن بن علي بعد أبيه، لأن النبي نص عليه، وعلى أخيه الحسين بقوله: «ولداي هذان إمامان قاما أو قعدا» وبهذا النص انتقلت الإمامة بعد الحسن إلى أخيه الحسين، ثم اوصى بها الحسين إلى ولده علي زين العابدين،

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419