الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان14%

الشيعة في الميزان مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 419

الشيعة في الميزان
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 145693 / تحميل: 9708
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

دَرس مِن المَاضِي *

اعتاد كثيرون من خطباء الجوامع والكنائس أن يأمروا بتقوى اللّه، وينهوا عن معصيته، يوجهون هذه الموعظة - في الغالب - إلى المستضعفين الذين يظلمهم الأقوياء ولا يستطيعون أن يظلموا أحداً، فيخوفوهم من نار جهنم تشوي وجوههم وأفئدتهم، كلما نضجت بدلهم غيرها كي يدوم عليهم العذاب الأليم.

أما الأقوياء الطغاة الذين يملكون الاطيان والبنايات، والأثاث والسيارات، ويملأون البنوك والمصارف بما اختلسوه من أقوات العباد فيمجدونهم ويسبحون بحمدهم، ويلتمسون العلل لتبرير عدوانهم،ويعدونهم بجنة عرضها السموات والأرض، وبقصور أضخم من قصورهم في الدنيا، وببساتين أوسع من بساتينهم في هذه الدار، وبحور أجمل من الراقصات والأرتستات اللائي انفقوا عليهن الألوف، وبخمور ألذ وأشهى مما يشربونها في المواخير والحانات.

ومنذ القديم كان وعاظ المساجد يتقربون إلى الملوك والحكام أمثال الطاغية عبد الحميد، والفاسق فاروق يتقربون إليهم بالدعاء لهم في خطب الجمعة بأن يديم اللّه لهم القوة والعز، والغلبة والنصر متجاهلين قول اللّه سبحانه «ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار» وقول الرسول الأعظم «ما ازداد رجل من السلطان قربا إلا ازداد من اللّه بعدا - من أرضى سلطاناً بما سخط اللّه خرج من دين الإسلام».

إن أمثال هؤلاء الوعاظ يهددون ويهولون على المساكين الذين لا يستطيعون حيلة ولا وسيلة ويبشرون المترفين بما أعد اللّه لهم من الثواب الجزيل والأجر

_____________________

* - نشر في جريدة الهدف ٢٣ أيلول سنة ١٩٥٤.

٣٤١

العظيم، إن الواعظ المخلص هو الذي يقف في وجه القوي الظالم يردعه عن ظلم الضعيف، ويجابهه بالحقيقة، بسوء عمله، ويشهر به بين الناس، ويدعو الجماهير على المنابر وفي المحافل لمكافحته وردعه عن الباطل، ويدلهم على من اغتصب حريتهم، واعتدى على كرامتهم ويدفعهم إلى الاستماتة دون حقهم، على الواعظ أن يفهم المظلوم أن واجبه الأول أن يناضل من ظلمه ويحاربه بكل سبيل، يفهمه أن نومه على الضيم يجعله ظالماً بعد أن كان مظلوماً، لأنه بالخنوع والخضوع يشجع الظالم على التمادي في الغي والفساد.

ونقدم أمثلة من الوعاظ المخلصين السابقين الذين تجردوا عن كل غاية إلا النصح والإخلاص للّه والإنسانية عسى أن ينتفع بها وعاظ اليوم:

مر أبو ذر الصحابي الجليل بمعاوية، وهو يبني داره الخضراء، فصاح أبو ذر في وجهه قائلاً: من أين لك هذا يا معاوية ! فإن كنت بنيتها من مال المسلمين فهي الخيانة، وإن كنت بنيتها من مالك فهو الإسراف.

ولما بنى الخليفة الناصر قصر الزهراء بالأندلس بالغ القاضي منذر بن سعيد في تقريعه وترويعه بخطبة على المنبر أمام الجماهير، والخليفة بينهم. ابتدأ القاضي خطبته بقوله تعالى: «أتبنون بكل ريع آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين».

ثم أفضى الخطيب إلى ذكر التبذير والإسراف في أموال الأمة، وتلا قوله سبحانه «أفمن أسس بنيانه على تقوى اللّه ورضوانه خير، أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم، واللّه لا يهدي القوم الظالمين».

وحج المنصور أيام خلافته، فسمع وهو يطوف في البيت، منادياً يرفع صوته، ويقول: اللهم إنا نشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، فطلبه المنصور، وقال له: من تعني. قال: إياك عنيت، فقد حال طمعك بين الناس وحقهم، استرعاك اللّه أمور المسلمين، فجعلت بينك وبينهم حجاباً وحصوناً، واتخذت وزراء ظلمة، وأعواناً فجرة، إن أحسنت لا يعينوك، وإن أسأت لا يردعوك، وقويتهم على ظلم الناس، ولم تأمرهم بإغاثة المظلوم والجائع.

وذات يوم وزع رسول اللّه بعض الفيء على الناس، وأخذ أعرابي نصيبه فاستقله، وبسط يده، وجذب الرسول من ثوبه جذباً شديداً، وقال: يا محمد زدني، فليس هذا المال مالك ولا مال أبيك، واستل عمر سيفه صارخاً دعني يا رسول اللّه أضرب عنقه، فقال الرسول: دعه ان لصاحب الحق مقالاً.

ضرب رسول اللّه بهذا أصدق الأمثال من نفسه، ليعطي الحكام والأقوياء درساً في تقبل النقد

٣٤٢

والمعارضة من كل إنسان، فلا يستصغرون ضعيفاً، ولا يحتقرون فقيراً، فمهما بلغوا من المكانة فإنهم دون النبي قداسة وعظمة، ضرب من نفسه هذا المثل ليعطي الأقوياء هذا الدرس البليغ، وليشجع المستضعفين على المطالبة بحقوقهم، ويجرئهم على من يظن به الإنحراف عن جادة الصواب كائناً من كان، وقال: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقيل له: كيف تنصره ظالماً، قال: بردعه عن الظلم، وفي الحديث إذا عجزت أمتي عن أن تقول للظالم يا ظالم، فقد تودع منها». وفي هذا الحديث يكمن السبب الأول لتأخر الشعوب وفقرها وجهلها واستعبادها وتآمر الأذناب الخونة عليها.

الإسْلام وفكَرة الزّهْد *

تعرضت كتب التاريخ والتراجم لسيرة الملوك والأمراء، وقادة الجيش، ولم تتعرض بالذات لحياة الفقراء الكادحين، ومع ذلك فباستطاعة الباحث أن يتعرف على حياة الجماهير من خلال دراسته لحياة القادة والحكام، لأن حياة هؤلاء وتاريخهم يرتبط ارتباطاً تاماً بالحياة الاجتماعية، وتاريخ المجتمع على أن المؤرخين وأصحاب السير قد ترجموا لعدد كبير من الشعراء ورجال الدين وعلماء اللغة الذين عانوا آلام البؤس والشقاء، ترجموا لهم لأنهم من أهل الذكاء والمعرفة، لا لأنهم من ذوي الفقر والفاقة، فمن هؤلاء:

عبد الوهاب بن علي المالكي كان بقية ذوي الفضل، وقد ضاق به العيش في بغداد فهجرها، ولدى خروجه شيعه خلق كثير من سائر الطوائف، فقال لهم: لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين في كل غداة ما عدلت ببلدكم بلوغ أمنية. ومنهم الاخفش الصغير علي بن سليمان النحوي عاش أياماً على اللفت النيء حتى انتهت به الحال إلى أن مات جوعاً، ومنهم الخليل بن أحمد النحوي العروضي الشهير كان يقيم في خص من أخصاص البصرة لا يقدر على فلسين، والخص خيمة من القصب، ومنهم أبو الطيب الطبري طاهر بن عبد اللّه كان شيخ الشافعية في عصره وبلغ من العمر مائة وستين سنة صحيح العقل والفهم والأعضاء، يفتي ويقضي ويدرس، كان له ولأخيه عمامة وقميص، إذا لبسها هذا جلس الآخر في البيت وإذا أراد غسلها جلسا فيه معاً، وفي ذلك قال الشاعر:

قوم إذا غسلوا ثياب جمالهم

لبسوا البيوت إلى فراغ الغاسل

_____________________

* - نشر في رسالة الإسلام نيسان ١٩٥٤.

٣٤٣

ومنهم السيرافي النحوي الحسن بن عبد اللّه كان ينسج ويأكل من كسب يده، ومنهم الشيخ أبو حامد الأسفرايني، قيل في سيرته: انه إمام المذهب على الإطلاق وشيخ الإسلام والمسلمين قاطبة، وكان يحضر مجلسه ثلاثمائة متفقه، كان هذا الشيخ يشتغل حارساً في الليل لبيوت الناس، ويقرأ ويطالع على ضوء فانوس الحرس، ومنهم الزبيدي محمد بن يحيى تزيد مصنفاته على مائة تصنيف في شتى العلوم والفنون، وقد بلغ به الفقر والجوع أن يضع نواة في حلقه يلوكها ليتعلل بها. ومنهم عبد القادر السهروردي كان يبقى اليوم واليومين لا يذوق الزاد، وكان ينقل الماء بالقربة بأجر زهيد. وكان الشهيد الثاني زين الدين العاملي على علمه ومكانته ينقل الحطب على ظهره إلى أهله لعجزه عن أجرة الخادم، وباع الشيخ عبد المحسن الصوري عمامته ليشتري بثمنها قوت يومه، ويكفي هذا العدد اليسير مثالاً لحياة قادة الفكر وأئمة الدين واللغة البائسين، وتمهيداً لبيان فكرة الزهد وأسبابها.

عاش الخليل في خص من القصب لا يملك فلسين، واشتغل شيخ الإسلام والمسلمين حارساً، ومات الأخفش من الجوع، عاش هؤلاء وأمثالهم في الحرمان وهم يرون أن الأموال تجبى من العامل والفلاح وغيرهما في شرق الأرض وغربها ليبذرها الخونة والمقامرون على الحرام والفسوق، ويمتلكون بها الدور الشاهقة والضياع الواسعة، وكان من نتيجة هذا الوضع الشاذ أن تراكم السخط والاستياء في نفوس الشيوخ المحرومين من الذين قدمنا ذكرهم، والذين لم نأت لهم على ذكر، وعوضاً عن أن يحملهم هذا الاستياء على النضال وجهاد القائمين على الظلم، فقد انقلب في نفوس الكثير إلى يأس من الاصلاح وتبدل الحال وتولد من هذا اليأس فكرة الزهد في الحياة الدنيا، والتهوين من شأنها. وكان لهذه الفكرة خطورتها وتأثيرها في الحياة الاجتماعية بين المسلمين، فكتب علماؤهم في الزهد وأطالوا، ودعوا إليه في المساجد والمحافل، وألبسوه ثوب الدين والقداسة، والزهد بمعنى الاعراض عن طيبات الحياة ليس له مصدر في الكتاب الكريم، ولا في السنة النبوية، وإنما انعكس في أذهان البائسين من فقرهم وفاقتهم، ان أفكار الإنسان ورغباته لا تأتيه عفواً، ولا تهبط عليه من السماء، وإنما تتولد من واقع حياته، والظروف التي تحيط به.

ولولا وجود الفقراء المعذبين في الأرض، لولا الطمع وظلم الإنسان للإنسان، لو طبق مبدأ التعاون الأخوي، والمساواة دون اعتبار لطبقة أو فرد، لما عرف الناس معنى الزهد، ولما كان للفظه في قواميس اللغة عين ولا أثر، ويكفي للدلالة على هذه الحقيقة زهد الإمام عليعليه‌السلام ، وأبي ذر،

٣٤٤

وغيرهما من أنصار الحق، ودعاة العدالة، قال الإمام: هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل في الحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له في الشبع، وقال أبو ذر: عندما خصه عثمان بمبلغ من المال لا أقبل عطاء لا يعم كل معوز.

أعرض الهداة المتقون من الزهاد عن متاع الحياة وطيباتها لا رغبة عنها، بل احتجاجاً على من استأثر بها، واحتكرها لنفسه دون سواه. أرادوا أن تكون الحياة وخيراتها للجميع، أرادوها اجتماعية عامة لا فردية خاصة، أرادوا القضاء على الفوارق والامتيازات ليعيش الجميع في أمن وسلام، فلا تكالب ولا تطاحن على أرزاق الشعوب، ولا حقد ولا حسد على الرغيف.

زهد الإمام في لذائذ العيش، وهو الحاكم المطلق ليفهم الأجيال أنه ليس لمن يتولى أمور الناس أن يشبع، وفيهم جائع واحد. إن الاعراض عن متاع الحياة مواساة لمن حرم منها، كما فعل الإمام، إن دل على شيء فإِنما يدل على قيمة الحياة وأهميتها لا على احتقارها وازدرائها، وقد ثبت في الحديث الشريف أن حرمة الأموال كحرمة الدماء، فالاعتداء على قوت إنسان اعتداء على دمه وحياته، فكيف بالغاصبين المحتكرين أقوات الشعوب وموارد ثرواتهم !

أما الآيات والروايات التي استدل بها بعض الزهاد، فلا تدل على الترغيب في التقشف والاعراض عن اللذائذ، إِنما تدل على وجوب الزهد في المحرمات، والكف عن السلب والنهب، والخيانة والكذب، على أن يضحي الإنسان بالنفس والمال في سبيل الحق، ولا يؤثر الخبيث على الطيب. قال اللّه سبحانه وتعالى: «وابتغ فيما آتاك اللّه الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا» «ألم تر أن اللّه سخر لكم ما في الأرض» «لا تحرموا طيبات ما أحل اللّه لكم ولا تعتدوا إِن اللّه لا يحب المعتدين».

المُحَرّم هو اعتداء الإنسان على حق أخيه، وتهاونه بنصيبه من هذا الحق.

وقد جاء في الحديث الشريف (ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة، ولا الآخرة للدنيا، ولكن خيركم من أخذ من هذه وهذه - المؤمن القوي خير وأحب إلى اللّه من المؤمن الضعيف).

ولا ريب أن الإنسان يقوى بالمادة، وما تقدمت الإنسانية إِلا بعد أن كشف العلم عن حقيقتها، وسلك بها سبيل الخير والعمار، لا سبيل الشر والدمار.

وبعد، فإن الإسلام دين القوة والعمل، لا دين الرهبانية والكسل.

٣٤٥

ستّة يعرفونَ بسيماهم *

قال الإمام الصادق (ع):

* للمرائي ثلاث علامات: يكسل إِذا كان وحده، وينشط إِذا كان الناس عنده، ويجب أن يحمد بما لم يفعل.

* وللكسلان ثلاث علامات: يتوانى حتى يفرط، ويفرط حتى يضيع، ويضيع حتى يأثم.

* وللمسرف ثلاث علامات: يشتري ما ليس له، ويأكل ما ليس له، ويلبس ما ليس له.

* وللمنافق ثلاث علامات: إِذا حدث كذب، وإِذا وعد أخلف، وإِذا اؤتمن خان.

* وللظالم ثلاث علامات: يعصي مَن فوقه، ويعتدي على من دونه، ويظاهر الظالمين.

* وللحاسد ثلاث علامات: يغتاب إذا غاب، ويتملق إذا شهد، ويشمت بالمصيبة.

ثم قال: ولكل واحدة من هذه العلامات: شعب يبلغ العلم بها أكثر من ألف باب.

ويجمع هذه العلامات وشعبها فقدان الشعور بالواجب الذي يمليه الدين والضمير، وقد توجد هذه العلامات كلها أو بعضها مجتمعة في شخص واحد.

إِن الشعور الوحيد الذي يسيطر على صاحبها، ويدفعه إلى الحركة منفعته الخاصة

_____________________

* - نشر في العرفان نيسان ١٩٥١.

٣٤٦

التي استعمل لأجلها الأساليب، واتخذ من غايته مبرراً للكذب والخيانة والغش والخديعة، ولا وزن للقيم الروحية عنده، إِذ الفضيلة في نظره لا تقاس بمقياس النبل والمروءة، وضميره لا يؤنبه على ما يتنافى وشيئاً من ذلك، وإنما يؤاخذه على أنه لم يكن يحسن سبل الاحتيال التي تحقق انانيته، فمن العبث، والحالة هذه، أن ترغبه في ترك الجريمة مناشداً ومبيناً أن عمله يأباه الدين القويم والخلق الكريم.

لقد كثر المصابون بهذا النقص كثرة عمت جميع الفئات، فإنك تجدهم بين الموظفين والاطباء ورجال الدين والمحامين وفي الشوارع والأسواق، وفي المدارس والمزارع، وفي كل مكان، ولا شيء أدل على هذا الوباء وانتشاره من كثرة التذمر وتراكم الاستياء، فالموظف يشكو من عدم إِنصافه في حين أنه يكسل في عمله حتى يفرط، ويفرط حتى يضيع، والشاب المتعلم يشكو من عدم تقدير الناس لحامل الشهادات «والعبقرية الفذة» ولكنه لا يتورع عن ظلم زميله، فينتقصه إذا غاب، ويشمت به إذا فشل، ورجل الدين يشكو من فساد الاخلاق ولكنه في نفس الوقت يحب أن يحمد بما لم يفعل، وقل مثل ذلك في المحامي والطبيب وما إليهما.

إِن تفشي الرذيلة بهذا النحو يحدث خطراً كبيراً على المجتمع، ويسبب مشاكل اجتماعية عديدة، وإذا عولج الفقر بزيادة الإنتاج، والمرض والجهل في المؤسسات العلمية والصحية، فإن الخلق السيئ لا يعالج بغير الشعور بأن وراء هذه الطبيعة قوة خفية تراقب، وتحاسب، وتثيب، وتعاقب، شريطة أن ينعكس هذا الشعور في الأقوال والأفعال، وتكون هي أثراً من آثاره.

بهذا الإيمان، الإيمان باللّه وحده، وبهذا الشعور، الشعور بالخوف والرجاء تهذب الأخلاق فتموت الرذيلة، وتحيا الفضيلة، وتسود المحبة التي تثمر الثقة المتبادلة، والتعاون المنتج.

يقول بعض الفلاسفة: إن من يفعل حسناً أو يترك قبيحاً بدافع الخوف والرجاء من اللّه سبحانه أو الدولة مثله مثل المجرم، وأحسب أن في هذا القول شيئاً من التسامح، فإن الدوافع والبواعث مهما كان نوعها لا تغير من حقيقة ما هو حسن بالذات أو قبيح بالذات، والذين ينزعون إلى الخير بذاتهم، ويفعلونه من تلقاء أنفسهم أندر من الكبريت الأحمر، فالشعور بأن فاعل الخير عظيم مثاب عند اللّه تعالى، وفاعل الشر حقير معاقب ضرورة أخلاقية اجتماعية له فوائده وثمراته، هذا بالإضافة إلى أنه من أهم أركان الدين، ومن هنا تعرف سر ما جاء في الكتاب العزيز «وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون».

٣٤٧

العمَامة وَرجَال الدّين *

كان اللباس في عهد الرسول ص والخلفاء الراشدين، وأول عهد العباسيين واحداً لا تمييز فيه لأحد على أحد، فلا فرق بين لباس العالم والجاهل، ولا بين رجل الدين وغيره، فالنبي ص وخلفاؤه وأصحابه جميعاً كانوا يلبسون كما تلبس الناس، فكان العالم يُعرف بهديه وآثاره، لا بثيابه ومظاهره.

وأول من غيّر لباس رجال الدين في الإسلام إلى هيئة خاصة هو أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة، وفي المجلد الأول من كتاب المدخل لابن الحاج ص ١٣٧ أن تمييز رجال الدين باللباس عن غيرهم مخالف للسنة، ثم ذكر مفاسد تترتب على هذا التمييز نلخصها بما يلي:

إِن تمييز رجال الدين في اللباس يستدعي - كما رأينا - أن يتزيّا بزيهم من لا أهلية له، فيتقدم ويترأس في المجالس وغيرها على من هو خير منه علماً وخلقاً، وتنخدع العوام بثوبه فيأتمنونه ويسألونه عن أشياء لا يعرف حكمها، ويمنعه زيه ولباسه أن يقول لا أعلم، كي لا يقال: إِنه جاهل ومتطفل يلبس ثوب غيره فيفتي بما لا يعلم، ويحكم بغير ما انزل اللّه سبحانه.

ولو كان لباس العلماء كلباس غيرهم من الناس لم تقع هذه المفاسد، ولعمَّ بهم النفع، وحصلت البركة والراحة والخير على أيديهم، وضرب شاهداً على ذلك ما حكي عن العالم أبي الحسن الزيات كان من عادة هذا العالم الجليل أن يلبس لباس العمال، ويعمل في أرضه كما يعملون، وفي ذات يوم خرج ليعمل في أرضه كعادته، وإذا بالشرطة يأخذونه مع غيره من العمال ليشتغلوا سخرة

_____________________

* - نشر في العرفان تموز سنة ١٩٥٤.

٣٤٨

في بستان السلطان، وكان الشرطة يسمعون باسمه، ولكنهم يجهلون شخصه، وليس عليه ما يدل على علمه ومكانته، فسمع وأطاع، وعمل كغيره، ودخل الوزير البستان يراقب الأعمال، وما أن وقعت عيناه على الشيخ حتى انكب على قدميه يقبلهما ويعتذر، ويقول: من جاء بك يا سيدي، فقال: أعوانكم أيها الظلمة، قال أقلنا يا سيدي، واخرج بسلام، فأبى الشيخ إِلا أن يبقى مع المظلومين، وقال: هؤلاء إخواني، كيف أخرج، وأدعهم في ظلمكم ! قال الوزير: يخرجون معك، فأبى الشيخ، وقال: غداً تعودون بهم إلى السخرة، فأعطاه الوزير أوثق العهود على أن لا يسخر أحداً أبداً، فرضي الشيخ، وخرج هو والعمال.

ثم قال صاحب كتاب المدخل في صفحة ١٣٩ «إِنما عز الفقيه بفهم المسائل وشرحها ومعرفتها، ومعرفة السنن والعمل بها.. ومعرفة البدع وتجنبها.. قال اللّه سبحانه: إِنما يخشى اللّه من عباده العلماء. فجعل خلعة العالم الخشية والورع، ولكن البعض جعل خلعته توسيع الثياب والأكمام وكبرها وحسنها وصقالتها».

قال صاحب البحار في المجلد السادس ص ٢٠٩ طبعة ١٣٢٣ هجرية «كان النبي ص يلبس القلانس تحت العمائم، والعمائم بغير القلانس.. وكانت له عمامة يقال لها السحاب، فوهبها للإمام عليعليه‌السلام وكان ربما طلع فيها الإمام، فيقول النبي ص أتاكم علي في السحاب» ويدل على هذا أن النبي لم يكن يتقيد بزي خاص، ولم يوجب أحد من أئمة الدين على طلاب العلم وشيوخه لباساً معيناً.

وبعد أن أصبحت العمامة شعاراً مقدساً بحكم العادة واستمرارها وجب صيانتها من يد العابثين وضحكة الهازئين، وجب على أهلها الحقيقيين أن يلزموا أولي الأمر بسن قانون يحوطها من الفوضى، ويصونها من جاهل منتحل، ومراء محترف، لو تزيَّا غير الشرطي بزي الشرطي لعاقبه القانون، فهل تأتي الأيام، ونرى لمرجع ديني كبير ما لشرطي صغير من نظام يحفظه ويرعاه، وإِن عجز أهل الدين والعلم الصحيح عن إِيجاد هذا النظام فألف خير لهم وللمجتمع أن يسيروا مكشوفي الرأس، أو يلبسوا الكوفية والعقال من أن يتزيَّا بزيهم الجهلاء والدخلاء.

إِن الدين فوق كل شيء، ولكن ليس له حارس يحرسه، ولا سياج يحفظه، اللهم إِلا صوت الاستعمار يخوفنا من عدوه، ويوصينا بالاحتراس منه، يخاف الاستعمار على الدين من عدو الاستعمار، كأن الدين يوالي الاستعمار ويحالفه، وليس للدين عدو كالاستعمار ولا خصم كالاقطاع، لأنهما يدينان بالغي والفساد، فيكفران باللّه وحقوق الإنسانية ويتخذان من الدخلاء على الدين وسيلة لتحقيق ما يبغيان، وهذا وحده يحتم على رجال الدين الذين هم منه في الصميم

٣٤٩

أن يسلكوا كل سبيل للغربلة والتصفية.

يَوم عَاشُورَاء *

لو آمن الناس بقول قائل: ان الحق للقوة لكان عليهم أن يرموا بكل كتاب مقدس، وبكل تشريع ودستور في عرض البحر.

حيث لا عدل، ولا فضيلة، ولا إيمان إلا بالمادة، والنتيجة الحتمية لهذا المنطق إن الإنسانية والجماد في الميزان سيان.

لو كان الحق للقوة ما كان لشهداء الفضيلة ذكر، ولا لأبطال التحرير فضل، وكان السفاكون الهادمون في كل عصر ومصر كيزيد هم الكون بكامله.

إن يوم عاشوراء لأحد الشواهد الصادقة على أن من تسلح بالمادة وحدها فهو أعزل.

ليس يوم عاشوراء احتجاجاً على يزيد وجيش يزيد فحسب، وإنما هو دليل قاطع على أن من يقف أمام الغاصب الطاغي ساجد الركاب منحني الرأس معفر الجبين يمد إليه يد الذل والاستجداء، دليل على أنه ليس له من الحق شيء، وأنه يستحق الحياة. ألا ترى إذا رآه الرائي قال: شقي بائس، ولم يقل: صاحب حق مهتضم.

إن صاحب الحق يمد إلى حقه يد القوة والعزة، يمدها وهو عالي الرأس ثابت الجنان، ولا يردها إلا قابضة على حقه، أو تقطع مجاهدة في سبيل الحق والعدالة، فإن قطعها في هذا السبيل حياة، وبقاءها ممات، والسلام على الحسين القائل: «إني لا أرى الموت إِلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برماً».

ليس يوم عاشوراء عاطفة مذهبية شيعية نحو الرسول وأهل بيته، عاطفة

_____________________

* - تليت في الكلية العاملية يوم العاشر من المحرم سنة ١٣٧١ هجرية.

٣٥٠

ولدها الضغط على الشيعة، كما زعم الزاعمون، ولكنه تكريم للبطولة والتضحية، وإحياء للجهاد المقدس، واعتزاز بالاباء والكرامة، وإيمان بسلطان العدالة والحرية، وثورة على معاهدة سنة ٣٦ المصرية، وعلى الشركة الأنكلوايرانية، وعلى الاستعمار في تونس وعلى الفساد في جميع البلاد، على كل ظالم مستعمر ومستثمر أموياً كان أم غير أموي.

ليس يوم عاشوراء للشيعة فحسب، ولا للسنة، وإنما هو للناس أجمعين، لأنه جهاد وتضحية، وحق وصراحة، ونور وحكمة، وليس لهذه الفضائل دين خاص، ولا مذهب خاص، ولا وطن خاص، ولا لغة خاصة. هذا هو يوم عاشوراء في حقيقته ومغزاه.

أما زيارة كربلاء وشد الرحال إليها من بلاد نائية فهي تكرار وتأكيد لما يهدف إليه يوم عاشوراء، وإنك واجد تفسير ذلك مكتوباً في القطع المعلقة على قبر الحسين بتلوها الزائر ساعة دخوله الحضرة المقدسة، وخروجه منها، وقد جاء فيها:

«إني سلم لمن سالمكم، وحرب لمن حاربكم محقق لما حققتم مبطل لما ابطلتم، فاسأل اللّه أن يجعلني من خيار مواليكم العاملين بما دعوتم إليه، اهتدي بهديكم، وأن يجعل محياي محيا محمد وآل محمد، ومماتي ممات محمد وآل محمد».

يتلو الزائر هذه الكلمات وأمثالها بقلب خاشع ونفس مطمئنة في بقعة ارتفع فيها صوت الحق ضد الباطل، وخفقت رايات الهدى ضد الضلال، وشع فيها نور العدالة ليمحو ظلام الجور، واريقت دماء زكية لتطهر الأرض من رجس الاستعباد.

لم تعرف الكرة الأرضية في عهد يزيد مناصراً للحق غير هذه البقعة الصغيرة المسماة بأرض كربلاء، يقصدها الزائر ليشهد اللّه والناس على نفسه أنه لا يتبع إلا الحق، ولا يناصر إلا أهله، وأنه عليه يحيا ويموت، يحيا حياة محمد وآل محمد، ويموت ممات محمد وآل محمد.

إذن ليس معنى زيارة كربلاء تأليه الأحجار والأخشاب، وعبادة الأرض والتراب.

هذا شاعر - الجواهري - زار قبر الحسين، وبيّن الغاية من زيارته، والهدف من رحلته، فقال: إني زرت قبر الحسين، وشممت ثراه كي يتسرب إلى نفسي نسيم الاباء والكرامة، ويهب على قلبي ريح الحق والعدالة، وعفرت خدي بالتراب، حيث يضع، وقطع خد الحسين، ولم يخضع لظالم، ولثمت أرضاً وطأها الحسين، لأن خيل الطغاة جالت على صدره وقلبه وظهره وصلبه، ولم يهادن، ولم يمالئ من سلب الشعب حريته، والأمة حقوقها.

شممت ثراك فهب النسيم

نسيم الكرامة من بلقع

٣٥١

وعفرت خدي بحيث استرا

ح خد تفرّى ولم يخضع

ولا يبتغي الزائر الشاعر بعد هذا الدليل دليلاً على قداسة غايته ونبل مقصده، وأي دليل أصدق وأبلغ وأوضح على عظمة بقعة دفن فيها من نثرت السيوف لحمه دون رأيه وضميره، ورفع رأسه على الرمح دون إيمانه وعقيدته، وأطعم الموت خير البنين والأصحاب من الكهول إلى الشباب إلى الرضع دون مبدئه ودعوته.

وماذا أأروع من أن

يكون لحمك وقفاً على المبضع

وأن تتقي دون ما ترتأي

ضميرك بالاسل الشرع

وأن تطعم الموت خير البنين

من الأكهلين إلى الرضع

إن يوم عاشوراء وزيارة كربلاء هما رمز الحرية والمساواة بين الأسود والأبيض، والعربي مع العجمي، والملك وابن الشارع، وانه لا فضل إِلا لمن جاهد وكابد في سبيل هذه المساواة، المساواة في الغرم والغنم، فلا ظالم ومظلوم، ولا جائع ومتخوم، ولا عطشان وريان.

٣٥٢

نحْنُ أعدَاء الظُّلم *

(الملك يبقى مع الكفر، ولا يبقى مع الظلم) نطق بهذه الحكمة العلامة المجلسي في كتابه بحار الأنوار، وهو أحد أئمة الدين الإسلامي.

وإن حوادث التاريخ لتشهد لهذه الحكمة بالحق والصدق. إن الحكم الذي يرتكز على الانساب والوراثة، ومظهر الدين، ورضا الأفراد المقربين لا يلبث حتى يزول، والأساس الثابت للحكم هو ثقة الشعب وولاؤه. وما فاروق عنا ببعيد، فهو من سلالة الملوك والأمراء، وتولد من أبوين مسلمين، وأقر بالشهادتين وكان يحضر في المساجد للصلاة، ويقيم موائد الإفطار في رمضان للصائمين، ويستمع لتلاوة القرآن الكريم.

قال الرسول الأعظم ص مفتخراً: (إني خلقت في زمن الملك العادل) يفخر محمد بعدالة رجل لم يكن على دينه، ولا من بلده ولا لغته من لغته، يفخر به وبزمانه لأنه ساوى بين الناس أجمعين، ورفع ظلم القوي عن الضعيف، وطمع الغني بالفقير، وحال بين استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، وهذي هي دعوة نبي الإخاء والمساواة ورسول المحبة والسلام.

أجل، كان هذا الملك يعبد النيران، ولكنه لم يتقلب هو وأهله وحاشيته في النعيم والهناء، وشعبه يقاسي عذاب البؤس والشقاء، ولم يتحصن بحجاب يطردون عن بابه الضعيف المظلوم، ويرحبون بالقوي الظالم، بهذه المساواة بين الناس كافة كان ذلك المجوسي عظيماً عند الرسول، على ما بينهما من البعد في الدين واللغة والوطن.

_____________________

* - تليت في الكلية العاملية يوم العاشر من المحرم سنة ١٣٧٢ هجرية.

٣٥٣

فالقريب - إذن - من قربته الإنسانية، وإن بعد لغة وديناً وبلاداً، والبعيد من أبعده الطمع والجشع، وإِن قرب ديناً ولغة ووطناً ونسباً، والرجل الصالح العادل من شعر بالتبعات، وتحرر من الشهوات، وقام بواجبه الإنساني بصبر وشجاعة، أما أن يتظاهر بالدين، بالإيمان بالغيب، والمحافظة عليه، والدفاع عنه، ثم يعمل أعمالاً إجراميةً وحشية فإن الحق والدين يبرآن منه، ومن أعماله، فمسلم ومسيحي ومجوسي اسماء تدل على أن هذا الإنسان تولد من أب مسلم أو مسيحي أو مجوسي لا أكثر ولا أقل، وماذا يجدي الانتساب إلى الدين، إذا لم يكن معه حق وعدالة وقد رأينا المستعمر يتخذ من التظاهر بالدين وسيلة لتوطيد أقدامه، وتغطية عدوانه، ويوجد في عصرنا هذا حكام مسلمون، وغير مسلمين، فهل الحاكم المسلم أصلح وأنفع لشعبه من الحاكم غير المسلم !

كان ملك الفرس يعبد النيران، ولكنه لم يفسد في الأرض بعد إِصلاحها، فيحول خيراتها لإبادة العالم، أو يخصص هذه الخيرات بفئة من الفئات وبهذا كان صالحاً عادلاً يفخر الرسول به وبزمانه.

ونحن المسلمين الذين ندين بدين محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله لسنا أعداء دين من الأديان، ولا قومية من القوميات، ولا شعب من الشعوب، ولسنا شعب اللّه المختار كما تزعم الصهيونية لنفسها، وإنما نحن أعداء الظلم والاستعمار والتضليل.

نحن أعداء الصحافة المضللة التي عميت عن بؤسنا وشقائنا، واهتمت بنشر الأزياء، بأخبار الفساتين في باريس. والإعلان عن السيقان الجميلة، ومدينة الملاهي، والكازينو، ولو حسنت نية أربابها وتوخوا الصالح العام، والتوجيه المفيد لنشروا في صحفهم عن كيفية إنتاج الحليب والزبدة في هولندا، وإنتاج الحبوب في أميركا، ووسائل الري في روسيا، وتربية الدواجن في أوروبا.

ونحن في أشد الحاجة إلى هذا التوجيه، إلى الانتفاع بإمكانياتنا المادية، والتحرر من اغلال الامتيازات وقيود الشركات وطوفان البضائع الأجنية.

٣٥٤

لِمَن العِيد ؟ *

كان المجتمع العربي الإسلامي إلى نهاية الحرب الأولى. وقبل أن تقع البلاد العربية فريسة المستعمر يعيش بعقائد ومبادئ يستمدها من دينه الذي كان مصدر معرفته، كما أنه سبيل سعادته وهدايته.

فمناهج التربية كانت توجه نحو القيم الروحية، وتوضع في ضوء أصولها وقواعدها. وكان الفقه الإسلامي يفصل بين الناس في منازعاتهم في المحاكم وغير المحاكم. فالمتعلم من حفظ القرآن، وتعلم العقائد وعلم الكلام، وعرف التفسير والحديث، والقانوني من درس الشريعة الإسلامية، والرجل الطيب من كان سلوكه صورة عن الخلق الإسلامي الصحيح. والخائن من زاغ عن منهج الدين، واستخف بتعاليمه حاكماً كان أو محكوماً.

وكان من نتيجة ذلك أن التعاليم الدينية كانت واضحة في أذهان الناس، متمكنة من نفوسهم، فيعرفون الشيء الذي يأمر به الشرع، أو ينهى عنه، فيخضعون لأمره ونهيه طوعاً لا كرهاً واقتناعاً لا حياء، ويميزون بين الواجب والمحرم والمندوب، فيمتنعون عن السرقة والكذب والزنا والخمر، لأن هذه محرمة، ويؤدون الصلاة والزكاة والحج، لأنها واجبة، ويتصدقون مؤمنين بأن الصدقة سنة ندب إليها الشرع الشريف، هكذا كان المجتمع يواجه الحياة بعقيدة تهديه، وتسدد خطاه، وبدين يهذب من سلوكه وأخلاقه. فكان الفرد وهو في أحسن أوقات النعيم يشعر بالخوف من اللّه، وبحافز يبعثه إلى أن يساءل نفسه: ما هي

_____________________

* - تليت في اجتماع ديني في الزيدانية ببيروت ١٩٥٢ واذيعت في الوقت نفسه من محطة الإذاعة اللبنانية.

٣٥٥

عاقبة النعمة التي وهبني اللّه إياها ؟ هل أثاب عليها أو أعاقب، وماذا سيكون موقفي أمام اللّه إذا سألني عنها ؟ لقد كان الإحساس الديني يلازمه في جميع أحواله، حتى عند المعصية، فسرعان ما يندم ويبالغ في الانابة والتوبة.

وقد أعطانا الاحتلال الأجنبي مجتمعاً جديداً، أعطانا مجتمعاً لا يهتم بالعقائد والأخلاق، ولا يعرف من المبادئ قليلاً ولا كثيراً، وعرف الأجنبي كيف يخلق مجتمعاً أعزل من الضمير والمثل العليا، فوجه اهتمامه قبل كل شيء إلى الشريعة الإسلامية، فأزاحها من المحاكم ودور القضاء، وأحل محلها القانون الوصفي الذي يتلاءم مع أغراضه الاستعمارية، كما ألغى من المدارس كل ما يمت إلى الدين واحياء الضمير بسبب، ووضع منهاج التربية على أساس قتل الروح الوطنية، وإضعاف اللغة العربية، وطلى عقول الناشئة بألفاظ جوفاء تتطاول بها إلى الكراسي والمناصب، ولو أن الأجنبي حين الغى الدين من مناهج التربية أحل محله العلم الذي نجابه به مشاكلنا الاقتصادية لهان الخطر، ولكنه حاول أن يجردنا من الروح والمادة معاً ليبرر استغلاله وجشعه.

أجل هكذا أراد المستعمر أن نكون، أن نعيش في ظلام دامس، وجو مفعم بالغموض بالنسبة للعقائد وآداب السلوك، وقد تم له ما أراد، أو بعض ما أراد، وإِن أردت برهاناً على ذلك فقارن بين احترامنا لشهر الصيام اليوم، واحترامنا له بالأمس، وبين أغنياء المسلمين اليوم، وأغنيائهم بالأمس، فمن بنى هذي المدارس والمساجد ؟ ومن أوقف الأسواق والمخازن في سبيل الخير ؟ وقل لي بربك هل تستطيع أن تجمع قليلاً من المال دون أن تقيم حفلاً برئاسة حاكم أو وزير تنشد بين يديه القصائد الطوال، والخطب الرنانة في المديح والثناء، وتسلك الف سبيل وسبيل، تفعل ذلك مرغماً لأن الغني لا يتبرع لأي عمل خيري إِلا ملقاً لحاكم أو زعيم، أو رغبة في رتبة، أو شهرة. هذي هي أخلاقنا أخلاق تجارية لا دينية، وهذي إِحدى الأسباب للضعف والانحلال، وأي شيء أدل على الضعف من المظاهر يوم العيد الذي سيطل علينا غداً، لمن هو العيد ! ومن هم الذين سيعيدون ويفرحون ؟ هم الأغنياء ونساؤهم وأطفالهم، أما الأرامل والأيتام، والعاطلون عن العمل فلهم الحسرات والتنهدات للأغنياء اللحم والحلوى والفاكهة وللفقراء الجوع والعطش والدموع. للاغنياء الأجواخ والحرير، وللفقراء الأجساد العارية والثياب البالية، للأغنياء القصور والخدم، وللفقراء الأكواخ وحرارة الشمس، للأغنياء السينما والملاهي، وللفقراء الشوارع والرمال، للأغنياء سيارات الكدلك والبويك، وللفقراء الدهس والسب والشتائم !

ألا ليت يوم العيد لا كان انه

يجدد للمحزون حزناً فيجزع

٣٥٦

وإذا كانت الأنظمة الوضعية لم تبدع للإنسانية شيئاً أفضل مما أبدعه الإسلام فعلينا نحن المسلمين أن نضرب أمثلة من أفعالنا، لا من أقوالنا هذه الحقيقة، أن نضرب أمثلة بالتضحية لا بتلاوة القرآن والخطب والأناشيد فحسب. إن هذا ليس بشيء عند اللّه إذا لم يكن سبيلاً إلى تطبيق تعاليم الإسلام الذي حارب فكرة الإنقسام والتفاضل بين الناس على أساس الغنى والفقر، والانساب والمناصب.

نحن لا نريد أن نعيش بالأحلام العقيمة، ونسعد لأن اسمنا مسلمون، وكفى، إننا نكون مسلمين حقاً سعداء حقاً إذا تدبرنا آي الذكر الحكيم، وتعاونا جميعاً على خير هذا الوطن، على أن يكون مجتمعنا في أمن وأمان من الجوع والمرض والجهل. أيكون الإنسان منا مسلماً، وهو لا يستطيع أن يرى أحداً إِلا أصحاب الجاه والمال ولا يحترم إلا زعيماً أو حاكماً. جاء في الحديث الشريف أن الفقراء هم صفوة الخلق، وان من أراد اللّه فليطلبه عند الفقراء، أي من أراد الحق فلا يبحث عنه في المريخ ولا عند أرباب العروش والتيحان، لأنه لا يجده هناك، إنما يجده في العمل الذي يرفع البؤس عن البائسين، والعوز عن المعوزين، يجده في السبيل الذي يطعمهم من جوع ويؤمنهم من خوف. إن حياة اليسر والراحة تعين على طاعة اللّه وعبادته، وتبعد عن محارمه ومعصيته.

وما كان ربك ليهلك القرى وأهلها مصلحون.

٣٥٧

الجشَع *

كان الناس فيما مضى لا يتطلبون من رجل الدين أن يتكلم في أشياء تخرج عن تعاليم مدرسته ودائرة اختصاصه، فإذا خطب أو كتب تناول موضوعات تكاد تنحصر في العبادات والفقه والوصايا العشر، وما إليها، وكان يسند أقواله إلى كتاب منزل، أو نبي مرسل، أو حكم العقل، أو إجماع الأمة، هذا إذا كان من ذوي العلم والتحصيل، وإلا اسندها إلى مصدر غير صحيح، أو أرسلها إرسالاً من غير اسناد معتمداً على اسم الدين وماله من قداسة وهيبة في النفوس، وكانت هذه القداسة وحدها تقوم عند المؤمنين والاتباع مقام التعليل وذكر الدليل، فهي الحجة القاطعة لإثبات الحق في فصل الخصومات، وحل المشكلات.

أما اليوم فقد عم الوعي، وخضع كل شيء للنقد والتساؤل، وبنيت الحياة واشياؤها على العلم، على التجربة والمشاهدة، فأي مبدأ أو قول كائناً من كان قائله لا بد يتناوله البحث والتمحيص، ومن حاول أو يحاول الافلات من النقد والبحث الحر فإنما يقيم الدليل على أنه يبني على غير أساس، ويسير على غير هدى. إن الويل لمن زلت قدمه عن جادة الصواب، وتجاوز حدود الواقع، واستعان بالأوهام والتخيلات.

إن الدعاية الصحيحة أو قل الناجحة هي أن تعلن الواقع بدون مبالغة أو تحريف، أما إعلان ما ليس بواقع فينتج عكس الغرض المطلوب، لهذا لا أذكر شيئاً مما قرأته في كتاب أو سمعته من أفواه الرجال عن فوائد الصوم، لأن الصوم عبادة، والعبادة لا تصاب بالعقول، ولا تفسّر بالأوهام، بل يختصر فيها على ما نطق به

_____________________

* - اذيعت من محطة الإذاعة اللبنانية ونشر في جريدة «الجريدة» في شهر رمضان المبارك سنة ١٩٥٥.

٣٥٨

القرآن الكريم، وثبت في السنة النبوية.

سأتحدث عن الجشع لا عن الصيام، وكلاهما من وحي رمضان المبارك، لأن الشيء يعرف باضداده كما يعرف بنظائره.

جاء في الحديث الشريف عن الرسول الأعظم ص وآله «الجشع أشد من حرارة النار». وهذا حق، لأن النار لا تنفذ إلى أعماق الأرض، بل تقف عند حد لا تتعداه، إن لم تجد ما تأكله، أما الجشع فلا يحده شيء ولا يشبهه شيء يلتهم ما فوق الأرض وما تحتها ولا يبقي لأحد باقية، وربما كانت الحكمة من وجوب الصوم، والعلم عند اللّه، استنكاراً للجشع والطمع، وإثارة النقمة على أهله الذين يحتكرون الأقوات، ويتحكمون بالأسعار، واحتجاجاً على أصحاب القصور التي تقوم حولها بطون خاوية، وأجسام عارية، وعلى الجامعات والمستشفيات التي اسست للاستغلال والمراباة.

قال الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام «إن كنت تريد من الدنيا ما يكفيك فإن أيسر ما فيها يكفيك، وإن كنت تريد ما لا يكفيك، فإن كل ما فيها لا يكفيك» أي أن كل إنسان لو عمل لكفايته وسد حاجته، لما هو ضروري وحيوي لوجوده وحياته، فإن في هذه الأرض الواسعة الخيرة من الأرزاق ما يكفي جميع سكانها بالغاً ما بلغوا. أما لو عمل للربح والسيطرة والظهور فإن كل ما في الدنيا لا يكفي واحداً، لأن اللاكفاية كاللانهاية لا تحد بحد.

لو أخذ العالم بهذه النظرة لما عرف الناس المشاكل، ولاستراح كل بلد من القلاقل والاضطرابات الداخلية والخارجية، ولسرحت الجنود من ثكناتها، وتحولت مصانع الأسلحة إلى صنع الطعام واللباس، ولم يبق أي داع لوسائل القسوة والعنف، لو عمل كل إنسان للكفاية لما وجد فقير، ولما احتاج أحد إلى الصدقات والمبرات.

إن سلوك هذا السراط هو الذي يأخذ بيدنا إلى حيث نريد وكل جهد يبذل لتجنب الأخطاء والويلات لا بد يتحول إلى النقيض إذا انحرفنا عن هذا النهج القويم، قل في تحديد الفضائل والقيم ما شئت أن تقول وتفلسف ما استطعت فإنك لا تجد ولن تجد لقيمك مكاناً في نفس عاقل إذا لم تحمه من جشع المستغلين، وطمع المستثمرين، إن هدف الإنسان في هذه الحياة أن يحياها بعدالة وسلام، لا أن يفلسفها بمواعظ وكلام، ان الرذيلة أن نبقى في مكاننا من الانحطاط، والفضيلة أن تكون لنا عيشة راضية، ومدارك نامية، وأخلاق سامية، والأخلاق السامية في نظر الإسلام ترتكز على التقوى، فإن الاتجاه إليها يتمثل في كل آية من القرآن الكريم، وكل حديث للرسول العظيم، وكل مبدأ من مبادئ الإسلام، وكل حكم من أحكامه.

٣٥٩

وليست التقوى مظاهر وطقوساً تؤدى في المعابد فقط، وإنما هي العمل المنتج، ولا يمكن أن نفهم أو نتصور التقوى مفصولة عن العمل النبيل، ولا يكون العمل نبيلاً إلا إذا كان مقروناً بالإيمان بأن لك مثل ما لغيرك، وعليك مثل ما عليه دون زيادة أو نقصان في المغنم والمغرم.

بهذا الإيمان، الإيمان بالواجب لا بالقوة نكون من المتقين الأخيار، تؤثر الحق على الباطل، والشجاعة على الجبن، والصراحة على المداهنة، والاباء على الذل، ونقول للظالم يا ظالم، وللخائن يا خائن، وللجاهل يا جاهل. بهذا الإيمان نحيا حياة طيبة لا نخاف ظلماً ولا هضماً، وبدونه نحيا حياة الذل والبؤس، وتسود فينا الرذيلة والفجور، والنفاق، والملق «اللّه ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون».

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

لينكل به ، وهذا نص كتابه :

« أما بعد : فانظر عبد الله بن هاشم بن عتبة فشدّ يده الى عنقه ثم ابعث به إليّ ».

ولما وصلت رسالة معاوية الى زياد قام فى طلبه وحينما علم بذلك عبد الله هرب واختفى منه ، وعلم به بعض الأوغاد فجاء الى معاوية ليتقرب إليه فأخبره انه قد اختفى عند امراة مخزومية ، فكتب معاوية الى زياد ما يلي :

« أما بعد : فاذا اتاك كتابي هذا فاعمد الى حي بنى مخزوم ففتشه دارا دارا حتى تأتي الى دار فلانة المخزومية فاستخرج عبد الله بن هاشم المرقال منها ، فاحلق راسه والبسه جبة شعر وقيّده وغل يده الى عنقه واحمله على قتب بغير وطاء ولا غطاء واقدمه إلي ».

وقام زياد ففتش حي بنى مخزوم حتى ظفر بعبد الله فحمله إليه بالكيفية التي ارادها وهو مهان الجانب ، محطم الكيان فوصل الى دمشق في يوم الجمعة وهو يوم القبول الذي اعده معاوية لمقابلة اشراف قريش ووجوه العراقيين ولم يشعر معاوية إلا وابن هاشم قد ادخل عليه فعرفه ولم يعرفه ابن العاص فالتفت معاوية إليه قائلا :

« يا أبا عبد الله ، هل تعرف هذا الفتى؟ » قال : لا.

فقال معاوية هذا الذي يقول أبوه يوم صفين :

إني شريت النفس لما اعتلا

وأكثر اللوم وما أقلا

أعور يبغي أهله محلا

قد عالج الحياة حتى ملا

لا بد أن يفل أو يفلا

أسلهم بذي الكعوب سلا

لا خير عندي في كريم ولى

٣٨١

فبهر ابن العاص وقال متمثلا :

وقد ينبت المرعى على دمن الثرى

وتبقى حزازات النفوس كما هيا

وتذكر ابن العاص مواقف أبيه يوم صفين فقال لمعاوية :

« دونك يا أمير المؤمنين الضب المضب فاشخب اوداجه على أثباجه ولا ترده الى أهل العراق ، فانه لا يصبر على النفاق ، وهم أهل غدر وشقاق ، وحزب ابليس ليوم هيجانه ، وإن له هوى سيوديه ، ورأيا سيطغيه ، وبطانة ستقويه ، وجزاء سيئة سيئة مثلها.

فانبرى إليه عبد الله كالأسد الغضبان مسددا له سهاما من القول غير هياب له قائلا :

« يا عمرو ، إن أقتل فرجل اسلمه قومه ، وأدركه يومه ، أفلا كان هذا منك إذ تحيد عن القتال ونحن ندعوك الى النزال ، وأنت تلوذ بشمال النطاف(1) ، وعقائق الرصاف(2) كالأمة السوداء ، والنعجة القوداء ، لا تدفع يد لامس؟ »

فالتاع ابن العاص ولم يستطع أن يقول شيئا سوى التهديد والتوعيد له قائلا :

« أما والله لقد وقعت في لهازم شدقم(3) للأقران ذي لبد ، ولا أحسبك منفلتا من مخالب أمير المؤمنين ».

فأجابه ابن هاشم غير معتن بتهديده قائلا :

__________________

(1) النطاف : الماء القليل.

(2) العقائق : سهام الاعتذار. والرصاف : الحجارة التي توضع عند مسيل الماء ..

(3) اللهازم : جمع مفرده لهزم وهي الأنياب. والشدقم : الأسد.

٣٨٢

« أما والله يا ابن العاص إنك لبطر فى الرخاء ، جبان عند اللقاء ، غشوم إذا وليت ، هياب إذا لقيت ، تهدر كما يهدر العود المنكوس المقيد بين مجرى الشوك ، لا يستعجل في المدة ، ولا يرتجي في الشدة ، أفلا كان هذا منك إذ غمرك أقوام لم يعنفوا صغارا ، ولم يمزقوا كبارا لهم أيد شداد وألسنة حداد ، يدعمون العوج ، ويذهبون الحرج ، يكثرون القليل ، ويشفون الغليل ، ويعزون الذليل؟ »

فلم يطق ابن العاص جوابا وبقي يفتش في حقيبة مكره عيبا يوصم به عبد الله فلم يجد شيئا سوى افتعال الكذب فقال :

« أما والله لقد رأيت أباك يومئذ تخفق احشاؤه(1) وتبق أمعاؤه وتضطرب أصلاؤه(2) كأنما انطبق عليه ضمد ».

فانبرى إليه عبد الله مجيبا عن بهتانه وكذبه قائلا له :

« يا عمرو ، إنا قد بلوناك ومقالتك فوجدنا لسانك كذوبا غادرا ، خلوت بأقوام لا يعرفونك ، وجند لا يساومونك ، ولو رمت المنطق في غير أهل الشام لجحظ عليك عقلك(3) ، ولتلجلج لسانك ، ولاضطرب فخذاك اضطراب القعود الذي أثقله حمله ».

والتفت إليهما معاوية فقطع حديثهما قائلا : « إيها عنكما » ثم أمر باطلاق سراح عبد الله ، فاستاء ابن العاص لهذا العفو ، وانبرى الى معاوية يحرضه على الفتك والبطش به ويذكره مواقف أبيه هاشم في أيام صفين وقد نظم ذلك بأبيات من الشعر قال :

__________________

(1) تخفق : أي تضطرب.

(2) الاصلاء : أواسط الظهر.

(3) جحظ عقله : أي نظر الى رأيه فرأى سوء ما ارتأى.

٣٨٣

أمرتك أمرا حازما فعصيتني

وكان من التوفيق قتل ابن هاشم

أليس أبوه يا معاوية الذي

أعان عليا يوم حز الغلاصم

فلم ينثن حتى جرت من دمائنا

بصفين أمثال البحور الخضارم

وهذا ابنه والمرء يشبه شيخه

ويوشك أن تقرع به سن نادم

فأجابه عبد الله :

معاوي إن المرء عمرا أبت له

ضغينة صدر غشها غير نائم

يرى لك قتلي يا ابن هند وإنما

يرى ما يرى عمرو ملوك الأعاجم

على انهم لا يقتلون أسيرهم

إذا منعت منه عهود المسالم

وقد كان منا يوم صفين نقرة

عليك جناها هاشم وابن هاشم

قضى ما قضى منها وليس الذي مضى

ولا ما جرى إلا كأضغاث حالم

فان تعف عني تعف عن ذي قرابة

وإن تر قتلي تستحل محارمى

واندفع معاوية قائلا :

أرى العفو عن عليا قريش وسيلة

الى الله فى يوم العضيب القماطر

ولست أرى قتل العداة ابن هاشم

بادراك ثاري في لؤي وعامر

بل العفو عنه بعد ما بان جرمه

وزلت به إحدى الجدود العواثر

فكان أبوه يوم صفين جمرة

علينا فأردته رماح نهابر(1)

لقد روع عبد الله وأفزعه معاوية وهو لم يقترف ذنبا سوى ولائه لأمير المؤمنين (ع) الذي جعله ابن هند من أعظم الموبقات والجرائم ، وصرحت بعض المصادر أنه لم يعفو عنه بل أودعه فى ظلمات السجون.

3 ـ عبد الله بن خليفة الطائي.

وعبد الله بن خليفة الطائي ممن عرف بالولاء والإخلاص لأمير المؤمنين

__________________

(1) مروج الذهب 2 / 312 ـ 314 ، وشرح ابن أبي الحديد.

٣٨٤

فقد جاء إليه حينما توجه (ع) الى البصرة فقال له :

« الحمد لله الذي ردّ الحق الى أهله ، ووضعه في موضعه ، فان كره ذلك قوم فقد والله كرهوا محمدا (ص) ونابذوه وقاتلوه ، فرد الله كيدهم في نحورهم وجعل دائرة السوء عليهم ، والله لأجاهد معك في كل موطن تحفظا لحق رسول الله (ص) »(1) .

وقد دلّ حديثه على تبصره في دينه ، وعلى طيب عنصره ، وحسن رأيه ، ولعظيم ايمانه ووفور عقله ، كان من المقربين عند الإمام ومن الذين يستشيرهم في مهام اموره(2) .

وفي محنة حجر كان عبد الله في طليعة أصحابه ومن المعارضين للسياسة الأموية ، ومن المشتركين معه في ثورته ، ولما قبض زياد على حجر وأصحابه أمر شرطته أن يأتوه بعبد الله ، ففتشوا عنه فوجدوه ، فناجزهم عبد الله ، وبعد صراع جرى فيما بينهم لم يتمكن عبد الله على انقاذ نفسه منهم فاستولوا عليه ، فاستنجدت اخته النوار بقومها واسرتها فطلبت نصرة أخيها قائلة :

« يا معشر طيء أتسلمون سنانكم ولسانكم عبد الله بن خليفة؟ » فثار الطائيون على الشرطة فضربوهم وناجزوهم حتى انتزعوا منهم عبد الله فرجعت الشرطة الى زياد وأخبرته بالأمر فاستدعا زعيم طيء وعميدها عدي ابن حاتم فقال له :

« ائتني بعبد الله بن خليفة؟ »

وبعد حديث جرى بينهما أجابه ابن حاتم بمنطق الأحرار قائلا :

« لا والله لا أتاك به أبدا ، أجيئك بابن عمي تقتله؟ والله لو كان

__________________

(1) الفوائد المطبوع على هامش التعليقات ص 202.

(2) نفس المصدر.

٣٨٥

تحت قدمي ما رفعتهما عنه ».

فالتاع زياد وأمر به الى السجن ، ولم يبق بالكوفة يماني ولا ربعي إلا أتوا زيادا فكلموه في شأن عدي ، وأخبروه بعظم شأنه وشرفه ، فاضطر زياد الى اطلاق سراحه ، ولكنه شرط عليه أن يغيب ابن عمه عن الكوفة فوافق عدي على ذلك ، وأمر عبد الله أن يغادر الكوفة ويلحق با ( لجبلين ) ، فغادر عبد الله الكوفة ، وقد سرى الألم العاصف في محياه على بعده عن وطنه وعلى فراقه لأصحابه وأهله ، وقد أرسل الى عدي بعد نفيه قصيدة عصماء يرثي بها حجرا وأصحابه ويذكر فيها ما يعانيه من ألم الفراق فيقول في رثاء حجر :

ولاقى بها(1) حجر من الله رحمة

فقد كان أرضى الله حجر وأعذرا

ولا زال تهطال ملث وديمة

على قبر حجر أو ينادى فيحشرا

فيا حجر من للخيل تدمى نحورها

وللملك المغزى إذا ما تغشمرا(2)

ومن صادع بالحق بعدك ناطق

بتقوى ومن إن قيل بالجور غيرا

فنعم أخو الإسلام كنت وانني

لأطمع أن تؤتى الخلود وتحبرا

وقد كنت تعطي السيف في الحرب حقه

وتعرف معروفا وتنكر منكرا

ثم يسترسل فى رثاء حجر فيذكر صفاته ومواهبه وملكاته ويبكيه أمر البكاء وينتهي في قصيدته الى وصف محنته وبلواه والى ما يلاقيه من الألم والأسى في غربته فيقول :

فها أنا ذا آوي بأجبال طيء

طريدا فلو شاء الإله لغيرا

نفاني عدوي ظالما عن مهاجري

رضيت بما شاء الإله وقدرا

__________________

(1) الضمير يرجع الى مرج عذراء.

(2) تغشمرا : أي أخذ قهرا وظلما.

٣٨٦

وأسلمني قومى بغير جناية

كأن لم يكونوا لي قبيلا ومعشرا

وذكر الطبري وابن الأثير بقية قصيدته التي أعرب فيها عن شجونه وأحزانه ، وظل عبد الله منفيا حتى مات بالجبلين قبل موت زياد(1) .

4 ـ صعصعة بن صوحان :

وصعصعة بن صوحان من سادات العرب وفصحائهم النابهين وخطبائهم المفوهين كان من ذوي الفضيلة والدين ، أسلم على عهد رسول الله (ص) وهو صغير ولم يجتمع به لصغر سنه ، ووفد على عمر وكان يقسم أموال الغنائم وكان مقدارها ألف ألف درهم ففضها على المسلمين وبقيت منها فضلة فاختلفت الصحابة فيها فقام فيهم عمر خطيبا فقال في خطابه :

« أيها الناس ، قد بقيت لكم فضلة بعد حقوق الناس ، فما تقولون فيها؟ »

فانبرى إليه صعصعة منكرا عليه تحيره فى هذه المسألة البسيطة قائلا :

« يا أمير المؤمنين ، إنما تشاور الناس فيما لم ينزل الله فيه قرآنا ، وأما ما أنزل الله به القرآن ووضعه مواضعه فضعه فى مواضعه التي وضعه الله تعالى ».

فاستحسن عمر رأيه وقال له : « صدقت أنت مني وأنا منك » ثم قسم المال بين المسلمين »(2) .

وكان صعصعة من صفوة أصحاب أمير المؤمنين (ع) ومن الملازمين له ، وقال الإمام الصادقعليه‌السلام في حقه : « ما كان مع أمير المؤمنين من يعرف حقه إلا صعصعة وأصحابه »(3) . ومرض صعصعة فعاده (ع) فقال له :

__________________

(1) الطبري 6 / 157 ، الكامل 3 / 241.

(2) الاستيعاب 2 / 189.

(3) التعليقات ص 183.

٣٨٧

« يا صعصعة ، لا تتخذ عيادتي لك أبهة على قومك!! »

ـ بلى والله أعدها منّة من الله وفضلا علي.

ـ إنك إن كنت على ما علمتك فأنت خفيف المؤنة حسن المعونة.

ـ وأنت والله يا أمير المؤمنين بالله عليما وبالمؤمنين رءوفا رحيما(1) .

ولحصافة رأيه ، وسداد منطقه كان الإمام (ع) يرسله فى مهامه فقد أرسله مرة الى معاوية ومعه كتاب منه ، فلما انتهى إليه قال معاوية مشيدا بنفسه ومبررا لأعماله :

« الأرض لله وأنا خليفة الله فما آخذ من مال الله فهو لي وما تركت منه كان جائزا لي ».

وثقل على صعصعة هذا الكلام الملتوي فانبرى إليه مجيبا.

تمنيك نفسك ما لا يكو

ن جهلا معاوي لا تأثم

فتألم معاوية وقال منددا به :

« تعلمت الكلام؟ »

ـ العلم بالتعلم ومن لا يعلم يجهل.

ـ ما أحوجك الى أن أذيقك وبال أمرك.

ـ ليس ذلك بيدك ، ذلك بيد الذي لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها.

ـ من يحول بيني وبينك؟

ـ الذي يحول بين المرء وقلبه.

ـ اتسع بطنك للكلام كما اتسع بطن البعير للشعير.

ـ اتسع بطن من لا يشبع ، ودعا عليه من لا يجمع(2) .

__________________

(1) التعليقات.

(2) مروج الذهب 2 / 342.

٣٨٨

ودلت هذه المحاورة على قوة جنان صعصعة وانه ليس بالرعديد ولا الهياب ، فقد ردّ على معاوية مقالته بالمثل وقابله بالاستخفاف والاستهانة وهو غير خائف من سلطانه.

وخطب معاوية بعد ما تم له الأمر ، فقام إليه صعصعة فعلق على كل جملة من خطابه ، وفيما يلي خطاب معاوية مع رد صعصعة عليه.

قال معاوية :

ـ لو أن أبا سفيان ، ولد الناس كلهم كانوا أكياسا ..

ـ قد ولد الناس كلهم من هو خير من أبي سفيان آدم ، فمنهم الأحمق والكيّس!!

ـ إن أرضنا قريبة من المحشر.

ـ إن المحشر لا يبعد على مؤمن ، ولا يقرب من كافر.

ـ إن أرضنا أرض مقدسة.

ـ إن الأرض لا يقدسها شيء ، ولا ينجسها ، إنما تقدسها الأعمال.

ـ عباد الله اتخذوا الله وليّا ، واتخذوا خلفاءه جنة تحرزوا بها.

ـ كيف؟! وقد عطلت السنة ، واخفرت الذمة ، فصارت عشواء مطلخمة ، في دهياء مدلهمة ، قد استوعبتها الأحداث ، وتمكنت منها الانكاث.

فثار معاويه وصاح به :

ـ يا صعصعة ، لإن تقع على ضلعك خير لك من استبراء رأيك ، وإبداء ضعفك ، تعرض بالحسن بن علي ، ولقد هممت أن أبعث إليه ، فأجابه صعصعة قائلا :

« أي والله ، وجدتهم أكرمكم جدودا ، وأحياكم حدودا ، وأوفاكم

٣٨٩

عهدا ، ولو بعثت إليه لوجدته في الرأي أديبا ، وفي الأمر صليبا ، وفى الكرم نجيبا ، يلذعك بحرارة لسانه ، ويقرعك بما لا تستطيع إنكاره!! »

ولسع قوله معاوية فراح يهدده قائلا :

ـ لأجفينك عن الوساد ، ولأشردن بك في البلاد.

ـ والله إن فى الأرض لسعة ، وإن فى فراقك لدعة.

ـ والله لأحبسن عطاءك.

ـ إن كان ذلك بيدك فافعل ، إن العطاء وفضائل النعماء في ملكوت من لا تنفذ خزائنه ، ولا يبيد عطاؤه ، ولا يحيف في قضيته.

ـ لقد استقتلت!!

ـ مهلا ، لم أقل جهلا ، ولم أستحل قتلا ، لا تقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ومن قتل مظلوما كان الله لقاتله مقيما ، يرهقه أليما ، ويجرعه حميما ، ويصليه جحيما(1) ...

وانصرف صعصعة وترك معاوية يتميز غيظا وكمدا ، وعمد بعد ذلك الى سجنه مع جماعة من أصحابه ، وبقوا فى سجنه مدة من الزمن فدخل عليهم قائلا لهم :

« نشدتكم بالله إلا ما قلتم حقا وصدقا ، أي الخلفاء رأيتموني؟ ».

فانبرى إليه عبد الله بن الكواء قائلا :

« لو لا انك عزمت علينا ما قلنا ، لأنك جبار عنيد ، لا تراقب الله فى قتل الأخيار ، ولكنا نقول : قد علمنا أنك واسع الدنيا ضيق الآخرة قريب الثرى ، بعيد المرعى ، تجعل الظلمات نورا والنور ظلمات!! »

فقال معاوية له : « إن الله أكرم هذا الأمر بأهل الشام الذابين عن

__________________

(1) تاريخ ابن عساكر 6 / 425.

٣٩٠

بيضته ، التاركين لمحارمه ، ولم يكونوا كأمثال أهل العراق المنتهكين لمحارم الله ، والمحلين ما حرم الله ، والمحرمين ما أحل الله ».

فأجابه ابن الكواء : « يا ابن أبي سفيان ، إن لكل كلام جوابا ونحن نخاف جبروتك ، فان كنت تطلق السنتنا ذببنا عن أهل العراق بألسنة حداد لا يأخذها فى الله لومة لائم ، وإلا فإنا صابرون حتى يحكم الله ويضعنا على فرجه ».

فقال له معاوية : « لا والله لا يطلق لك لسان ».

وسكت عبد الله فتكلم صعصعة :

« تكلمات يا ابن أبي سفيان فأبلغت ، ولم تقصر عما أردت ، وليس الأمر كما ذكرت ، أنى يكون الخليفة من ملك الناس قهرا ، ودانهم كبرا واستولى بأسباب الباطل كذبا ومكرا!! أما والله مالك في يوم بدر مضرب ولا مرمى وما كنت فيه إلا كما قال القائل : « لا حلي ولا سيري »(1) ولقد كنت أنت وأبوك في العير والنفير ممن أجلب على رسول الله (ص) وإنما أنت طليق ابن طليق أطلقكما رسول الله (ص) فانى تصلح الخلافة لطليق؟ »

وامتلأ قلب معاوية غيظا وكمدا فالتفت إليهم :

« لو لا أني أرجع الى قول أبي طالب حيث يقول :

قابلت جهلهم حلما ومغفرة

والعفو عن قدرة ضرب من الكرم

لقتلتكم »(2) .

وكان صعصعة من جملة الأشخاص الذين طلب لهم الإمام الحسن (ع)

__________________

(1) أصل هذا المثل ( لا حاء ولا ساء ) ومعناه أنه ليس لك فيه أمر ولا نهي ، جاء ذلك في مجمع الأمثال 2 / 158.

(2) مروج الذهب 2 / 341.

٣٩١

من معاوية الأمن وعدم التعرض لهم بسوء ومكروه(1) ولكن معاوية لم يف بذلك فقد روعه وأفزعه وأودعه في سجنه كما روع غيره من زعماء الشيعة ، وصرحت بعض المصادر ان المغيرة نفى صعصعة بأمر معاوية من الكوفة الى الجزيرة أو الى البحرين أو الى جزيرة ابن كافان فمات بها معتقلا منفيا عن وطنه وبلاده وفي رثائه يقول المرزباني(2) :

هلا سألت بني الجارود أي فتى

عند الشفاعة والبان ابن صوحانا

كنا وكانوا كأم أرضعت ولدا

عق ولم نجز بالإحسان إحسانا(3)

5 ـ عدي بن حاتم :

وعدي بن حاتم من أهم الشخصيات الرفيعة الفذة في العراق ، فقد كان قبل الإسلام يتمتع بمجد أصيل وشرف أثيل ، فهو ابن حاتم مضرب المثل في الجود والسخاء ، وبالإضافة الى مجده الموروث فقد كان في الإسلام من ابطال العقيدة ، ومن عيون المؤمنين ، ومن رجال الإسلام البارزين ، وقد تقدم في هامش هذا الكتاب شيء موجز عن ترجمته ، والمهم التعرض الى ما لاقاه من الهوان والاستخفاف من قبل ابن هند لأجل ولائه واخلاصه لأمير المؤمنين (ع) فقد دخل يوما على معاوية فقال له متشمتا به :

__________________

(1) رجال الكشي ص 46.

(2) المرزباني : بفتح الميم وسكون الراء وضم الزاء وفتح الباء الموحدة وهو جد من انتسب إليه من الأعيان جاء ذلك في اللباب 3 / 124 ، وجاء فى وفيات الأعيان 3 / 443 ، أن لفظ المرزبان لفظ فارسي معناه صاحب الحد ، فان مرز معناه الحد وبان معناه صاحب ، وهو في الأصل عندهم اسم لمن كان دون الملك.

(3) الاصابة 2 / 192.

٣٩٢

ـ ما فعلت الطرفات؟(1) .

ـ قتلوا مع علي.

ـ ما أنصفك علي قتل أولادك وأبقى أولاده!!.

ـ ما أنصفك علي إذ قتل وبقيت بعده.

فتألم ابن هند من مقال عدي وقال مهددا له :

« أما إنه قد بقي قطرة من دم عثمان ما يمحوها إلا دم شريف من أشراف اليمن ـ يعني به عديا ـ ».

فانبرى إليه عدي وهو غير مكترث بتهديده قائلا له :

« والله إن قلوبنا التي أبغضناك بها لفي صدورنا ، وإن أسيافنا التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا ، ولئن أدنيت إلينا من الغدر فترا ، لندنين إليك من الشر شبرا ، وإن حز الحلقوم وحشرجة الحيزوم(2) لأهون علينا من أن نسمع المساءة في علي ، فسلم السيف يا معاوية لباعث السيف ».

فراوغ معاوية على عادته وقال :

« هذه كلمات حكم فاكتبوها ».

ثم أقبل عليه يحدثه كأنه لم يخاطبه بشيء(3) ثم قال له :

« صف لي عليا ».

ـ إن رأيت أن تعفيني.

ـ لا أعفيك.

فأخذ عدي في وصف أمير المؤمنين فقال :

__________________

(1) الطرفات : أولاد عدي وهم طريف وطارف وطرفة.

(2) الحيزوم : وسط الظهر.

(3) مروج الذهب 2 / 309.

٣٩٣

« كان والله بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول عدلا ، ويحكم فصلا تتفجر الحكمة من جوانبه ، والعلم من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ويستأنس بالليل ووحشته ، وكان والله غزير الدمعة ، طويل الفكرة ، يحاسب نفسه إذا خلا ، ويقلب كفيه على ما مضى ، يعجبه من اللباس القصير ، ومن المعاش الخشن ، وكان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ، ويدنينا إذا أتيناه ، ونحن مع تقريبه لنا ، وقربه منا لا نكلمه لهيبته ، ولا نرفع أعيننا إليه لعظمته ، فان تبسم فعن اللؤلؤ المنظوم ، يعظم أهل الدين ، ويتحبب الى المساكين ، لا يخاف القوي ظلمه ، ولا ييأس الضعيف من عدله ، فأقسم لقد رأيته ليلة وقد مثل فى محرابه وأرخى الليل سرباله ، وغارت نجومه ، ودموعه تتحادر على لحيته ، وهو يتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين ، فكأني الآن أسمعه وهو يقول :

« يا دنيا ، إليّ تعرضت أم إليّ أقبلت؟ غري غيري لا حان حينك قد طلقتك ثلاثا لا رجعة لي فيك ، فعيشك حقير ، وخطرك يسير ، آه من قلة الزاد ، وبعد السفر ، وقلة الأنيس ».

فوكفت عينا معاوية ، وجعل ينشفهما بكمه وهو يقول :

« يرحم الله أبا الحسن ، كان كذلك ، فكيف صبرك عنه؟ »

ـ كصبر من ذبح ولدها في حجرها فهي لا ترقأ دمعتها ، ولا تسكن عبرتها.

ـ فكيف ذكرك له؟

ـ وهل يتركني الدهر أن أنساه؟(1) ،

وقد دل هذا الحديث على ولاء عدي لأمير المؤمنين ومن أجل ولائه

__________________

(1) المحاسن والمساوي 1 / 32.

٣٩٤

واخلاصه فقد روع وأفزع ، وقد تقدم أن زيادا أودعه في السجن حفنة من الأيام من أجل عبد الله بن خليفة الطائي ولم يراع شخصيته الكريمة ، ومكانته الاجتماعية ، وعظم منزلته ، وإنما فعل ذلك به ليقضي على شيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام .

6 ـ جارية بن قدامة :

ووفد معاوية بن قدامة السعدي على معاوية ، فقال له معاوية :

ـ أنت الساعي مع علي بن أبي طالب ، والموقد النار في شعلك ، تجوس قرى عربية تسفك دماءهم؟

ـ يا معاوية دع عنك عليا ، فما أبغضنا عليا منذ أحببناه ، ولا غششناه منذ صحبناه.

ـ ويحك يا جارية!! ما كان أهونك على أهلك إذ سموك جارية!!

ـ أنت يا معاوية كنت أهون على أهلك إذ سموك معاوية(1) !

ـ لا أمّ لك.

ـ أم ما ولدتني(2) ، إن قوائم السيوف التي لقيناك بها بصفين في أيدينا.

ـ إنك لتهددني؟

ـ إنك لم تملكنا قسرة ، ولم تفتحنا عنوة ، ولكن أعطيتنا عهودا ومواثيق ، فان وفيت لنا وفينا ، وإن ترغب الى غير ذلك فقد تركنا وراءنا رجالا مدادا ، وأدرعا شدادا ، وأسنّة حدادا ، فان بسطت إلينا

__________________

(1) وفي رواية ابن عبد ربه ( ما كان أهونك على أهلك إذ سموك معاوية ) وهي الأنثى من الكلاب.

(2) وفي رواية ابن عبد ربه أمي ولدتني للسيوف.

٣٩٥

فترا من غدر ، زلفنا إليك بباع من ختر.

ـ لا كثر الله في الناس من أمثالك.

وتركه جارية والأسى ملأ اهابه(1) ، لقد لقي جارية هذا الهوان ، والتبكيت من أجل ولائه للعترة الطاهرة التي فرض الله مودتها على جميع المسلمين.

ترويع نساء الشيعة :

ولم يقتصر معاوية فى ارهابه واضطهاده على رجال الشيعة وزعمائهم فقد أخذ يتحرى نساءهم فما ذكرت له امرأة منهم ذات مكانة مهمة إلا وبعث خلفها فقابلها بالاستخفاف والاستهانة ، وأدخل الفزع والخوف فى نفسها ، وإذا وفدت عليه امرأة منهم قابلها بالإذلال ، وأظهر لها ما يكنه في نفسه من الحقد والبغض العارم للإمام أمير المؤمنين ولشيعته وها نحن نقدم الى القارئ الكريم أسماء بعض السيدات اللاتي بعث خلفهن ، واللاتي وفدن عليه مع ما جرى بينهن وبينه من الحديث :

1 ـ الزرقاء بنت عدي :

وكانت الزرقاء بنت عدي بن غالب ممن عرفت بالولاء والإخلاص لأمير المؤمنين (ع) ، وكانت من ربات البلاغة والفصاحة والرأي الصائب وكانت في واقعة صفين تدعو الجماهير الى نصرة أمير المؤمنين (ع) وتحرضهم على قتال عدوه ، ولما فجع الإسلام بقتل أمير المؤمنين وانتهى الأمر الى ابن هند كتب الى عامله بالكوفة أن يحمل إليه الزرقاء بنت عدي فبعث بها إليه ، فلما دخلت عليه رحب بها ثم قال لها :

__________________

(1) تأريخ الخلفاء ص 199.

٣٩٦

« هل تعلمين لم بعثت إليك؟ ».

ـ سبحان الله أنّى لي بعلم ما لم أعلم!! وهل يعلم ما فى القلوب إلا الله.

ـ بعثت إليك أن أسألك ألست راكبة الجمل الأحمر يوم صفين بين الصفين توقدين الحرب ، وتحرضين على القتال ، فما حملك على ذلك؟

ـ يا أمير المؤمنين ، إنه قد مات الرأس ، وبتر الذنب ، والدهر ذو غير ، ومن تفكر أبصار ، والأمر يحدث بعده الأمر!!!

ـ صدقت فهل تحفظين كلامك يوم صفين؟

ـ ما أحفظه.

ـ ولكني والله أحفظه لله أبوك لقد سمعتك تقولين : أيها الناس إنكم فى فتنة غشتكم جلابيب الظلم وجارت بكم عن المحجة فيا لها من فتنة عمياء صماء تسمع لناعقها ، ولا تسلس لقائدها ، إن المصباح لا يضيء في الشمس وإن الكواكب لا تنير مع القمر ، وإن البغل لا يسبق الفرس وان الزف(1) لا يوازن الحجر ، ولا يقطع الحديد إلا الحديد ، ألا من استرشدنا أرشدناه ومن استخبرنا أخبرناه ، إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها ، فصبرا يا معشر المهاجرين والأنصار ، فكان قد اندمل شعب الشتات ، والتأمت كلمة العدل ، وغلب الحق باطله ، فلا يعجلن أحد فيقول : كيف العدل وأنى؟ ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، ألا إن خضاب النساء الحناء ، وخضاب الرجال الدماء ، والصبر خير عواقب الأمور ، إيها الى الحرب غير ناكصين ، ولا متشاكسين فهذا يوم له ما بعده.

وبعد ما تلى معاوية كلامها تأثر منه واندفع وهو مغيظ محنق فقال لها :

__________________

(1) الزف : الصغير من الريش.

٣٩٧

« والله يا زرقاء لقد شركت عليا في كل دم سفكه ».

« أحسن الله بشارتك ، وأدام سلامتك ، مثلك من بشر بخير وسر جليسه ».

« وقد سرّك ذلك؟ »

« نعم والله لقد سرني قولك فأنّى لي بتصديق الفعل!؟ »

فتبهر معاوية من اخلاصها لأمير المؤمنين فقال :

« والله لوفاؤكم له بعد موته احبّ إليّ من حبكم له فى حياته ، اذكري حاجتك؟ »

ـ إني قد آليت على نفسي أن لا أسأل أميرا أعنت عليه شيئا أبدا ومثلك أعطى من غير مسألة ، وجاد عن غير طلب.

ـ صدقت.

ثم أقطعها ضيعة وأوصلها وردها الى أهلها(1) .

إنه وإن أكرمها أخيرا ، وأجزل لها العطاء إلا أنه قد روعها وأفزعها أولا وأظهر لها الظفر والغلبة والنصر عليها.

2 ـ أم الخير البارقية :

كانت أم الخير بنت الحريش البارقية من سيدات النساء ومن البليغات البارعات ، وقد عرفت بالولاء والإخلاص لأمير المؤمنين (ع) ، وكانت في واقعة صفين تحرض الجماهير على حرب ابن هند ، وتحفزهم الى الذب عن أمير المؤمنين ونصرته ، وقد تألم معاوية من مواقفها ، وأضمر لها الحقد والعداء ، ولما انحسرت روح الإسلام باستيلائه على زمام الحكم كتب الى واليه على الكوفة يأمره بأن يحمل إليه أم الخير لينتقم منها ، فلما ورد

__________________

(1) بلاغات النساء لطيفور طبع النجف ص 32 صبح الأعشى ، المستطرف.

٣٩٨

الكتاب الى عامله بعثها إليه ، فلما دخلت على معاوية قالت :

« السلام عليك يا أمير المؤمنين ».

ـ وعليك السلام ، وبالرغم والله دعوتنى بهذا الاسم.

ـ مه يا هذا ، فان بديهة السلطان مدحضة لما يجب علمه.

ـ صدقت يا خالة ، وكيف رأيت مسيرك؟

ـ لم أزل في عافية وسلامة حتى أوفدت الى ملك جزل ، وعطاء بذل ، فأنا في عيش أنيق ، عند ملك رفيق.

ـ بحسن نيتي ظفرت بكم وأعنت عليكم.

ـ مه يا هذا ، لك والله من دحض المقال ما تردّى عاقبته.

ـ ليس لهذا أردناك.

ـ إنما أجرى فى ميدانك إذا أجريت شيئا أجريته ، فاسأل عما بدا لك؟

ـ كيف كان كلامك يوم قتل عمار بن ياسر؟

ـ لم أكن والله رويته قبل ، ولا زورته بعد ، وإنما كانت كلمات نفثهن لساني حين الصدمة ، فان شئت أن أحدث لك مقالا غير ذلك فعلت؟

ـ لا أشاء ذلك!!

ثم التفت الى أصحابه فقال لهم : أيكم حفظ كلام أم الخير؟ فانبرى إليه أحدهم فقال له : أنا أحفظه يا أمير المؤمنين كحفظي سورة الحمد فقال له : هاته ، فقال : كأني بها وعليها برد زبيدي كثيف الحاشية وعلى جمل أرمك(1) وقد احيط حولها وبيدها سوط منتشر الضفر وهي كالفحل يهدر في شقشقته تقول :

« يا أيها الناس ، اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ، إن الله

__________________

(1) جمل أرمك : أي لونه كلون الرماد.

٣٩٩

قد أوضح الحق ، وأبان الدليل ، ونوّر السبيل ، ورفع العلم ، فلم يدعكم فى عمياء مبهمة ، ولا سوداء مدلهمة ، فإلى أين تريدون رحمكم الله! أفرارا عن أمير المؤمنين؟ أم فرارا من الزحف؟ أم رغبة عن الإسلام؟ أم ارتدادا عن الحق؟ أما سمعتم الله عز وجل يقول : « ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرون ونبلو أخباركم ».

ثم رفعت رأسها الى السماء وهي تقول : « اللهم قد عيل الصبر ، وضعف اليقين ، وانتشر الرعب ، وبيدك يا رب أزمة القلوب ، فاجمع الكلمة على التقوى ، والّف القلوب على الهدى ، ورد الحق الى أهله ، هلموا رحمكم الله الى الإمام العادل ، والوصي الوفي ، والصديق الأكبر ، إنها احن بدرية ، وأحقاد جاهلية ، وضغائن أحدية ، وثب بها معاوية حين الغافلة ، ليدرك بها ثارات بني عبد شمس ».

ثم قالت : « قاتلوا أئمة الكفر انهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون » صبرا معاشر المهاجرين والأنصار ، قاتلوا على بصيرة من ربكم ، قد لقيتم أهل الشام كحمر مستنفرة ، فرت من قسورة ، لا تدري أين يسلك بها من فجاج الأرض ، باعوا الآخرة بالدنيا ، واشتروا الضلالة بالهدى ، وباعوا البصيرة بالعمى ، وعما قليل ليصبحن نادمين حين تحل الندامة فيطلبون الاقالة إنه والله من ضل عن الحق وقع فى الباطل ، ومن لم يسكن الجنة نزل النار ، أيها الناس إن الأكياس استقصروا عمر الدنيا فرفضوها ، واستبطئوا مدة الآخرة فسعوا لها ، والله أيها الناس لو لا أن تبطل الحقوق ، وتعطل الحدود ، ويظهر الظالمون ، وتقوى كلمة الشيطان لما اخترنا ورود المنايا على خفض العيش وطيبه ، فإلى أين تريدون رحمكم الله؟ عن ابن عم رسول الله (ص) وزوج ابنته وأبي ابنيه؟ خلق من طينته ، وتفرع من

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419