الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان14%

الشيعة في الميزان مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 419

الشيعة في الميزان
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 145691 / تحميل: 9708
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

استنكاره مبدأ النص على خليفة الرسول، وزعمه بأنه بدعة استوردها الشيعة من الخارج، وأن النبي أقر مبدأ الشورى والانتخاب. ثم ناقض نفسه، ورد عليها بنفسه، حيث اعترف في كتاب «يوم الإسلام» بأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أراد أن يكتب في مرضه الذي مات فيه كتاباً يعين من يلي الأمر بعده، فحال عمر دون إرادته. وهذا ما قاله صاحب «فجر الإسلام» بالحرف الواحد في كتابه الأخير «يوم الإسلام» ص ٤١ طبعة ١٩٥٨: «أراد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في مرضه الذي مات فيه أن يعين من يلي الأمر بعده، ففي الصحيحين - البخاري ومسلم - أن رسول اللّه لما احتضر قال: «هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده» وكان في البيت رجال منهم عمر بن الخطاب، فقال عمر: إن رسول اللّه قد غلب عليه الوجع(١) وعندكم القرآن، حسبنا كتاب اللّه، فاختلف القوم، واختصموا فمنهم من قال: قربوا إليه يكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من قال: القول ما قاله عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عندهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم قوموا فقاموا، وترك الأمر مفتوحاً لمن شاء جعل المسلمين طوال عصرهم يختلفون على الخلافة، حتى عصرنا هذا بين السعوديين والهاشميين». وقال في ص ٥٣: «اختلف الصحابة على من يتولى الأمر بعد الرسول، وكان هذا ضعف لياقة منهم، إذ اختلفوا قبل أن يدفن الرسول» مع العلم أن علياً كان مشغولاً بتجهيز النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال في ص ٥٢: «كان مجال الخلاف الأول - أي بين الصحابة - في بيت النبي. والثاني في سقيفة بني ساعدة. وأخيراً تم الأمر لأبي بكر على مضض». وقال في ص ٥٤: «بايع عمر أبا بكر، ثم بايعه الناس، وكان في هذا مخالفة لركن الشورى، ولذلك قال عمر: إنها غلطة وقى اللّه المسلمين شرها، وكذلك كانت غلطة بيعة أبي بكر لعمر».

وقال في ص ٥٨: «وكان أهم ما نقم الناس على عثمان:

١ - طلب منه عبد اللّه بن خالد بن أسيد الأموي صلة، فأعطاه أربعمائة ألف درهم. ٢ - أعاد الحكم بن العاص بعد أن نفاه رسول اللّه، وأعطاه مائة ألف درهم. ٣ - تصدق رسول اللّه بموضع سوق المدينة على المسلمين، فأعطاه عثمان للحارث الأموي. ٤ - أعطى مروان فدكاً، وقد كانت فاطمة طلبتها بعد أبيها، فدفعت عنها. ٥ - حمى المراعي حول المدينة كلها من مواشي المسلمين كلهم إلا عن بني أمية. ٦ - أعطى عبد اللّه بن أبي السرح جميع ما أفاء اللّه من فتح إفريقيا بالمغرب، من غير أن يشرك فيه أحداً من المسلمين.

____________________

(١) في صحيح البخاري ج ٦ ص ٩ طبعة ١٣١٤ هجري «ما شأنه - أي النبي - أهجر؟».

٦١

٧ - أعطى أبا سفيان مائتي ألف ومروان مائة ألف من بيت المسلمين في يوم واحد.

٨ - أتاه أبو موسى الأشعري بأموال كثيرة من العراق، فقسمها كلها في بني أمية.

٩ - تزوج الحارث بن الحكم، فأعطاه مائة ألف من بيت المال.

١٠ - نفى أبا ذررحمه‌الله إلى الربذة، لمناهضته معاوية في كنز الذهب والفضة.

١١ - ضرب عبد اللّه بن مسعود، حتى كسر أضلاعه.

١٢ - عطل الحدود، ولم يرد المظالم، ولم يكف الأيدي العادية.

١٣ - كتب إلى عامله في مصر يأمره بقتل قادة الثورة».

وقال في ص ٥٧: «وكان من أكبر الشخصيات البارزة في محاربته، وتأليب الناس عليه عائشة بنت أبي بكر».

وقال في ص ٦١: «إن قتل عمر وعلي كان حادثة فردية، ومؤامرة جزئية، أما مقتل عثمان فقد كان ثورة شعبية للأقطار الإسلامية» أي أن علياً وعمر لم يقتلهما المسلمون، أما عثمان فقد قتله المسلمون أنفسهم.

وقال في ص ٥٣: «كره كثير من الصحابة أن يجمع بين النبوة والخلافة، ولعلمهم بشدة علي في الحق وعدم تساهله».

ولو عطفنا هذه الأقوال بعضها على بعض جاءت النتيجة كما يلي:

إن مبدأ النص على الخليفة مصدره الأول رسول اللّه دون سواه، وإن الذين خالفوه، وحالوا بينه وبين أن ينص على من يليه في سجل مكتوب لا يقبل التأويل والتبديل هم بالذات الذين خالفوا تلك النصوص غير المكتوبة. قال الشيخ محمد رضا المظفر في كتاب «السقيفة»: «وإذا كانوا في حياته لا يطيعون أمره في هذه السبيل، فكيف إذن بعد وفاته؟».

وإن ترك النص على الخليفة قد فرّق الأمة، ومزق كلمتها، وأوقعها في التطاحن والتناحر إلى آخر يوم. والسبب في ذلك كله هو الخليفة الثاني، ومن آزره في رأيه، وأعانه على منع الرسول أن يكتب لهم كتاباً لا يضلون بعده أبداً.

وإن بيعة أبي بكر وعمر لم تكن بالنص ولا بالشورى، وإنما كانت مجرد

غلطة، ومعنى غلطة أنها على غير الحق. أما عثمان فخالف الإسلام، ولذا ثارت عليه الأقطار الإسلامية بتحريض السيدة عائشة، فكانت الثورة عليه شعبية إسلامية، لا شعوبية، ولا من الشذاذ وقطاع الطرق - كما قيل -.

وإن الأصحاب الذين حالوا بين علي والخلافة إنما فعلوا ذلك لسببين:

٦٢

الأول: إنه شديد في الحق، لا يتساهل به أبداً.

الثاني: التعصب على أهل البيت، حيث كرهوا أن تجتمع في بيت واحد، وهو بيت محمد النبوة والخلافة.

وإذا أبى من أبى تعصباً وعناداً أن يعترف لعلي بالخلافة، لا لشيء إلا لأنه على حق، ومن أهل البيت، فإن الشيعة آمنوا بخلافته، لأنهم يؤمنون بالحق، وأحبوه، لأنهم يحبون النبي وأهل بيته الأطهار.

وبالإجمال فإن ما قاله الإمامية في هذا الباب لا يزيد في حقيقته شيئاً عما قاله أحمد أمين في كتاب «يوم الإسلام» الذي ألفه في أيامه الأخيرة، وبعد أن أقام الدنيا، ولم يقعدها على الإمامية في فجر الإسلام وضحاه. وسبق أن أثبتنا بالأرقام أن من أنكر التقية يقول بها، وأن التهمة بالجفر بمعنى علوم الغيب، وبتحريف القرآن، وما إلى ذاك هي أليق وألصق بمن اتهم وتهجم.

ومن الخير أن نذكر بهذه المناسبة ما قاله الشيخ محمد رضا المظفر في كتاب «السقيفة» ص ٦٦ وما بعدها طبعة ١٩٥٣، قال:

«ما بال عمر بن الخطاب لم يعتقد بهجر أبي بكر حين أوصى له بالخلافة من بعده، مع أن أبا بكر كان مريضاً حين الوصية، حتى أغمي عليه من شدة الوجع، وأثناء تحرير الاستخلاف الذي كان يتولاه عثمان بن عفان، فأتم عثمان النص على عمر دون أن يعلم أبو بكر، خشية أن يدركه الموت قبل الوصية. وحين استفاق أمضى ما كتب عثمان.

لقد علم عمر أن النبي سينص في الكتاب على علي لا محالة، ذلك أنه قال: أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده أبداً، وكان أن سبق وعبّر مثل هذا التعبير في حديث الثقلين، حيث قال: إني تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه ، وعترتي أهل بيتي. لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما أبداً. ففهم عمر ماذا يريد الرسول، ولذا قال: إنه يهجر، أو وجع».

وبالتالي نكرر القول إن ما من شيء تدين به الإمامية إلا وله أساس عند السنة، ولم ينكر هذه الحقيقة إلا جاهل، أو متجاهل يبغي الدس وإيقاظ الفتنة. وقد اعترف أحمد أمين نفسه بذلك، قال في ص ١٨٧:

« هل للمسلمين أن يشتد وعيهم الديني، ويفهموا طول التجارب أنه لم يعد هناك وجه للخلاف بين سني وشيعي وزيدي، وغير ذلك من المذاهب، لأنهم لو رجعوا إلى أصل دينهم ما وجدوا لهذا الخلاف محلاً، ولوجدوا أنه خلاف مصطنع لا خلاف أصيل، وأن الامم الإسلامية في

٦٣

موقفها الحاضر أحوج ما تكون إلى لمّ شعثها، وإصلاح ذات بينها، وتوحيد كلمتها، وهي ترى كيف تهاجم من كل جانب، وكيف يتخذ إسلامها وسيلة من وسائل الكيد لها، وإذا اتحد أهل الباطل على باطلهم، فأولى أن يتحد أهل الحق على حقهم».

وهذا اعتراف صريح من أحمد أمين بأنه كان مخطئاً في فجر الإسلام وضحاه، وأنه اصطنع الخلاف بين السنة والشيعة، دون أن يكون لهذا الخلاف أصل ولا أساس، وأن الجميع على حق، ويجب عليهم أن يتحدوا على حقهم، كما اتحد أهل الباطل على باطلهم.

بَينَ السُّنّة وَالشِّيعَة

كثيراً ما يدور على الألسن هذا السؤال: ما الفرق بين السنة والشيعة، مع العلم بأن الإسلام يجمع الفريقين ؟

الجواب:

يتفق السنة والشيعة على أن الدين عند اللّه الإسلام، وأن الطريق إليه كتاب اللّه، وسنة نبيه، وأن الكتاب هو هذا الذي بين الدفتين دون زيادة أو نقصان، وإن اختلفوا في شيء ففي بعض أسباب النزول، أو في فهم بعض الآيات. واتفقوا أيضاً على وجوب العمل بالسنة النبوية واختلفوا في طريق ثبوتها، وبكلمة لم يختلفوا في النبي، بل عنه كما قال الإمام علي، وهذا الاختلاف في فهم بعض الآيات وفي السبيل التي تثبت بها السنة النبوية انتج الخلاف في بعض الفروق في الأصول والفروع، وحاصلها أن القضايا الدينية تنقسم إلى أصول عقائدية أساسية، ومسائل فرعية تشريعية، وسنبين فيما يلي ما اتفقا عليه، وما اختلفا فيه مما يتصل بالعقائد، أما المسائل التشريعية فنتعرض لمداركها، وللمبادئ التي تستخرج منها، كالكتاب والسنة، وما إليهما، أما المسائل نفسها فلا حصر لها، وقد تعرضنا إلى كثير منها في كتاب «الفقه على المذاهب الخمسة». و«الزواج والطلاق على المذاهب الخمسة». و«الوصايا والمواريث على المذاهب الخمسة».

العقائد:

إن المسلمين جميعاً يؤمنون باللّه، ونبوة محمد، وبالبعث والحساب، واتفقوا بكلمة واحدة على أن من جحد أصلاً من هذه الأصول الثلاثة فليس من الإسلام في شيء، وأيضاً اتفقوا على أن من أنكر وجوب الصوم والصلاة والحج والزكاة، واستحل شيئاً من المحرمات الضرورية، كالخمر والزنا والسرقة والقمار والكذب وقتل النفس المحرمة، وما إلى ذاك مما ثبت بضرورة الدين، واتفقت

٦٤

عليه كلمة المسلمين فليس بمسلم، حتى ولو قال: «لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه»، لأن إنكار شيء من هذا النوع يستدعي إنكار نبوة محمد وشريعته، وهذه هي المبادئ التي تجمع فرق المسلمين على كثرتهم وتنوع آرائهم.

ثم اختلف السنة(١) والشيعة في أمور، منها ما يتصل بالعقيدة، ومنها يتصل بمبادئ التشريع، فمن الأولى:

معرفة اللّه:

١ - بعد أن اتفق الإمامية والسنة على أن معرفة اللّه واجبة على كل إنسان، بمعنى أن عليه أن يبحث، وينظر إلى الدلائل التي تؤدي به إلى الجزم واليقين بوجود الخالق اختلفوا في مصدر هذا الوجوب: هل هو العقل أو الشرع ؟

قال الإمامية: إن معرفة اللّه تجب بالعقل، لا بالشرع، أي إن العقل هو الذي أوجب على الإنسان أن يعرف خالقه، أما ما جاء في الشرع من هذا الباب كقوله تعالى «فاعلم أنه لا إله إلا هو» فهو بيان وتأكيد لحكم العقل، وليس تأسيساً جديداً من الشارع.

وقال السنة: بل تجب المعرفة بالشرع لا بالعقل، أي أن اللّه وحده هو الذي أوجب على الناس أن يعرفوه.

رؤية اللّه:

٢ - قال بعض السنة: رؤية اللّه ممكنة في الدنيا والآخرة، والبعض قال بإمكانها في الآخرة فقط، بل قال الحنابلة: إنه جسم، ولكن لا كالأجسام.

وقال الإمامية: إن رؤية اللّه محال وغير ممكنة لا في الدنيا ولا في الآخرة.

صفات الباري:

٣ - قال السنة: إن صفات اللّه غير ذاته.

وقال الإمامية: بل هي عينها.

_____________________

(١) نريد من السنة الأشاعرة، لأن السنة الموجودين الآن كلهم أتباع حسن الأشعري.

وقال السنة: إن أفعال اللّه لا تعلل بالأغراض والمقاصد، أي إنه تعالى لا يفعل شيئاً لغاية خاصة، لأنه لا يجب عليه شيء، ولا يقبح منه شيء.

٦٥

وقال الإمامية: إن جميع أفعاله معللة بمصالح تعود على الناس، أو تتعلق بنظام الكون «سبحانك ما خلقت هذا باطلاً».

وقال السنة: كلام اللّه قديم وغير مخلوق.

وقال الإمامية: بل هو حادث ومخلوق.

وقال الإمامية: إن أمر اللّه بالشيء يدل على إرادته له، وإن نهيه عنه يدل على كراهيته للمنهي عنه، ومحال أن يأمر بما يكره، وينهى عما يحب.

وقال السنة: إن اللّه يأمر بما لا يريد، بل ربما أمر بما يكره، وإنه ينهى عما لا يكره، وربما نهى عما يحب.

وقال السنة: الخير والشر من اللّه، وإنه هو الذي فعل ويفعل الظلم والشرك، وجميع القبائح، لأنه خالق كل شيء.

وقال الإمامية: الخير من اللّه، بمعنى أنه أراده وأمر به، ومن العبد أيضاً، لأنه صدر منه باختياره ومشيئته، أما الشر فمن العبد فقط، لأنه فاعله، وليس من اللّه، لأنه نهى عنه، والقبائح يستحيل فعلها على اللّه عز وجل.

وقال السنة: يجوز أن يكلف اللّه الناس بما لا يطيقون، لأنه لا يجب عليه شيء، ولا يقبح منه شيء.

وقال الإمامية: التكليف بغير المقدور ممتنع عقلاً وشرعاً.

وقال الإمامية: الإنسان مخير لا مسير.

وقال السنة: إنه مسير لا مخير.

وقال السنة: إن العقل لا يدرك حسناً ولا قبحاً، وإنما الحسن ما أمر به الشرع، والقبيح ما نهى عنه، ولو أمر بما نهى عنه لصار حسناً، بعد أن كان قبيحاً، أو نهى عما أمر به لصار قبيحاً، بعد أن كان حسناً. ولذا يقولون: هذا حسن، لأن اللّه أمر به، وهذا قبيح، لأنه نهى عنه.

وقال الإمامية: إن العقل يدرك الحسن والقبح مستقلاً عن الشرع، ويقولون: أمر اللّه بهذا، لأنه حسن، ونهى عنه، لأنه قبيح.

وقال الشيعة: إن جميع المسببات ترتبط بأسبابها، فالماء هو الذي يروي والطعام هو الذي يشبع، والنار هي التي تحرق.

وقال السنة: لا سبب إلا اللّه فهو الذي يحدث الري عند الشرب وهو الذي يحدث الشبع عند الأكل، والإحراق عند النار، وقال بعضهم: بتكفير من اعتقد أن اللّه أودع قوة الري في الماء،

٦٦

والإحراق في النار، وما إلى ذاك.

بعثة الأنبياء وعصمتهم:

قال السنة: لا يجب على اللّه أن يبعث أنبياء يبينون للناس موارد الخير والشر، ويجوز أن يتركهم بلا هادٍ ولا مرشد، لأنه لا يجب عليه شيء، ولا يقبح منه شيء.

وقال الإمامية: بل تجب بعثة الأنبياء، لأنهم يقربون الناس إلى الطاعة، ويبتعدون بهم عن المعصية.

وقال السنة: تجوز الذنوب على الأنبياء الكبائر منها والصغائر قبل أن يصبحوا أنبياء، أما بعد النبوة فلا يجوز عليهم الكفر ولا تعمد الكذب، وتجوز عليهم الصغائر عمداً وسهواً، والكبائر سهواً لا عمداً.

وقال الإمامية: الأنبياء معصومون من الذنوب كبيرها وصغيرها، قبل النبوة وبعدها، ولا يصدر عنهم ما يشين لا عمداً ولا سهواً، وإنهم منزهون عن دناءة الآباء، وعهر الأمهات.

الإمامة:

قال السنة: إن الإمام يتعين بالانتخاب، ويكفي أن يبايعه شخص واحد، حتى تتم له البيعة، والعصمة ليست بشرط عندهم في الإمام. وأوجب المالكية والشافعية والحنابلة الصبر على جور الحاكم وظلمه، ومنعوا من الخروج عليه.

وقال الإمامية: يتعين الإمام بنص النبي، أو بنص إمام معصوم، وإن النبي قد نص بالخلافة على علي بعده بلا فاصل وأوجبوا له العصمة، كما أوجبوا الخروج على الحاكم الجائر بقيادة الإمام المعصوم، أو بفتوى المجتهد العادل.

وقال السنة: يجوز أن يتقدم المفضول على الفاضل، وغير الأعلم والأكمل على الأعلم والأكمل.

وقال الإمامية: يجب تقديم الأعلم والأكمل. وقد أبى عمر بن الخطاب أن يساوي في العطاء بين الفاضل والمفضول، علاوة على تقديم الثاني على الأول.

٦٧

هذي هي مجمل الفروق بين السنة والشيعة فيما يتصل بالعقيدة(١) أما الفروق التي ترجع إلى مدارك الأحكام فتتلخص بما يلي:

الكتاب:

اتفقوا جميعاً على أن الكتاب أحد مصادر التشريع، بل هو المصدر الأول، وأيضاً اتفقوا على أن عموماته تخصص بالخبر المتواتر الذي يفيد العلم، وبالخبر المشهور والمفيد للاطمئنان، ومثال

ذلك آيات المواريث بين الأقارب، فإنها تخصص بحديث «لا يرث القاتل» لأنه من الأحاديث المتواترة عند السنة والشيعة، واختلفوا في تخصيص عمومات الكتاب بالخبر الواحد الذي لم يصل إلى حد التواتر أو الشهرة.

قال الحنفية: يطرح الخبر الواحد، ويبقى الكتاب على عمومه.

وقال الإمامية والمالكية والشافعية والحنابلة: الخبر يخصص عمومات الكتاب(٢) .

وفي كتاب «أصول الفقه» للخضري أن الشافعي قال: إن الكتاب ينسخ بالكتاب، ولا ينسخ بالسنة، وقال الجمهور - أي بقية المذاهب -: لا مانع من نسخ الكتاب بالسنة.

وعند الإمامية: أن الكتاب ينسخ بالخبر المتواتر، ولا ينسخ بالخبر الواحد.

وعلى أية حال، فقد اتفق الجميع على عدم العمل بظواهر الكتاب إلا بعد

_____________________

(١) ما نقلناه عن السنة مصدره الجزء الثامن من كتاب المواقف للايجي وشرحه للجرجاني، وشرح التجريد للقوشجي، والمذاهب الإسلامية لأبي زهرة، أما مصادر الإمامية فالتجريد وشرحه، وكشف الفوائد في شرح العقائد، المتن للطوسي، والشرح للعلامة الحلي.

(٢) قال أبو زهرة في كتاب الإمام الصادق: «إن الإمامية مختلفون فيما بينهم في تخصيص الكتاب بالخبر» وقال الميرزا النائيني الإمامي في تقريراته: إن هذه المسألة متفق عليها، وذكرها في كتب الأصول لا تدل على أنها خلافية، وقال الشيخ الخراساني في كفاية الأصول: إن سيرة العلماء والأصحاب على ذلك خلفاً عن سلف.

٦٨

الفحص والرجوع إلى السنة النبوية، ومقابلة الآية المبينة للحكم مع الأحاديث التي وردت في بابه، لأن السنة بيان وتفسير للقرآن.

السنة النبوية:

أجمع المسلمون بكلمة واحدة على أن ما ثبت عن الرسول بطريق اليقين فهو حجة متبعة، تماماً كالقرآن، لقوله تعالى: «ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا».

ولكن أبا حنيفة لم يثبت عنده من أحاديث الرسول إلا سبعة عشر حديثاً، لأنه لا يقبل الحديث إلا إذا رواه جماعة عن جماعة، أو اتفق فقهاء الأمصار على العمل به، أو رواه صحابي، ولم يخالفه فيه أحد. وهذا التشدد في الحديث أدى به إلى تضييق العمل بالسنة، أو طرحها بالنتيجة، والتوسع في العمل بالرأي، سواء أكان الرأي قياساً أم استحساناً أم مصالح مرسلة. «والأمور الظاهرة في فقه أبي حنيفة الحيل الشرعية، وقد أصبحت فيما بعد باباً واسعاً من أبواب الفقه في مذهب أبي حنيفة وغيره من المذاهب، وإن كانت في مذهب أبي حنيفة أظهر»(١) .

ومعنى اقتصار أبي حنيفة على العمل ب١٧ حديثاً فقط أنه في النتيجة لا يعتمد على السنة كمصدر للتشريع، وأن صحيح البخاري ومسلم، وبقية الصحاح المحتوية على مئات الأحاديث ليست بشيء، مع أن الحنفية يعتبرونها، ويعملون بها خلافاً لمبدأ إمامهم أبي حنيفة.

أما ابن حنبل فيأخذ بالحديث الصحيح إن وجده، وإلا فبما أفتى به الصحابة، وإن اختلفوا تخير، وإلا فبالحديث المرسل والضعيف، وإن فقد كل هؤلاء التجأ إلى الرأي من قياس واستصلاح. ولا يعمل به إلا عند الضرورة.

وبهذا يتبين الفرق بين مسلك ابن حنبل، ومسلك أبي حنيفة، فالأول يوسع دائرة الأخبار، ويضيق دائرة الرأي، والثاني على العكس يوسع دائرة الرأي، ويضيق دائرة الأخبار، ومن هنا كان المدى بعيداً بين فقه المذهبين.

أما مالك فوسط بين الاثنين، فهو لا يشترط في الحديث الشهرة كأبي

_____________________

(١) ضحى الإسلام لأحمد أمين ج ٢، والمدخل إلى علم أصول الفقه للدواليبي.

٦٩

حنيفة، ولا يأخذ بالضعيف كما هي الحال عند ابن حنبل، ويعمل بالخبر الواحد بشرط عدالة الراوي، أو أمانته، ولكنه يقدم عمل أهل المدينة على الحديث الصحيح، ويرى أن الناس لهم تبع، وإذا أعوزه عمل أهل المدينة، والحديث الصحيح لجأ إلى الرأي بجميع أقسامه من قياس واستحسان واستصلاح.

أما الشافعي فيأخذ بالحديث إذا رواه ثقة عن ثقة مشهوراً كان أو غير مشهور، وإذا لم يجده عمل بالقياس فقط دون الاستحسان والاستصلاح.

أما الإمامية فيأخذون بكل حديث يرويه الثقات عن رسول اللّه، أو عن أحد أئمتهم الأطهار(١) ويعتقدون أن أقوال الإمام في الشريعة هي عين أقوال جدهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، سواء أأسندها إليه، أم أرسلها بدون إسناد، وأن الكذب والخطأ محال في حقه، وبهذا كان عندهم من الأحاديث ما يغنيهم عن الرأي بشتى أقسامه، قال الشيخ جعفر في كتابه «كشف الغطاء» المسألة السادسة والأربعون: «إن الفقيه - أي الإمامي - لا يحتاج إلى الأدلة الظنية، لأنه في غنى - غالباً - بالآيات القرآنية، والأخبار المتواترة المعنوية والسيرة القطعية المتلقاة خلفاً بعد سلف من زمان الحضرة النبوية والإمامية».

ومن هنا كان الاختلاف بين فقهاء الإمامية أقل وأضيق من الاختلاف بين أئمة المذاهب الأربعة، لأن العمل بالحديث وبالرأي عند الأربعة يختلف سعة وضيقاً، أما الإمامية فهم متفقون على مصادر التشريع ومدارك الفقه.

ورب قائل: إن الإمامية يعدون العقل من الأدلة الفقهية، ويلجأون إليه، حيث يعوزهم النص، وهذا عين العمل بالرأي، أو قريب منه.

الجواب:

إن الفرق بين الرأي الذي يعتمده السنة، وبين العقل الذي يعتمده الإمامية تماماً كالفرق بين الذات والموضوع. فالسني حين يعتمد على الرأي يتخذ من نفسه مشرعاً للأحكام، ويصرف النظر عن المشرع الحق، أما الإمامي حين

_____________________

(١) لا يشترط الإمامية في الراوي أن يكون إمامياً، ويكتفون بصدقه وأمانته سنياً كان أو شيعياً، وقد صرحوا بذلك في جميع كتب الرجال، منها كتاب «تنقيح المقال» للمامقاني قال في ج ١ ص ٢٠٦: «ورد النص عن الإمام أن نأخذ برواية من خالفنا دون ما رآه، وقد لزمنا بذلك العمل بالخبر الموثوق الذي هو في اصطلاح العلماء من كان ثقة غير إمامي».

٧٠

يعتمد العقل فإنه يعتمده كطريق كاشف عن حكم الشرع - مثلاً - السني يحكم بنجاسة النبيذ لمجرد ظنه وحدسه بأن سبب النجاسة هو السكر، دون أن يعتمد في ذلك على نص من الكتاب أو السنة. أما الإمامي فيقول: لا يسوغ لنا أن نستخرج من عند أنفسنا علة النجاسة ما دام الذي حرم الخمر وأوجب نجاستها لم ينص على العلة، أما إذا نص عليها، وقال: الخمرة نجسة، لأنها مسكرة ساغ لنا، والحال هذه، أن نعمم الحكم لكل مسكر، وبدون هذا النص لا يجوز لنا بحال أن نتأول ونتمحل، وإلا اتخذنا لأنفسنا صفة التشريع ووضع الأحكام.

وقد مثل الإمامية لحكم العقل بقضايا عقلية بحتة، كحكمه بقبح الظلم، والإعانة على الاثم، وقبح الكذب الضار، وحسن الصدق النافع، ورد الوديعة، والبراءة الأصلية فيما لا نص فيه، لقبح العقاب بلا بيان، وكتقديم الأهم على المهم، وما إلى ذاك مما يعلم فيه حكم الشرع بالضرورة والبداهة، على أن أكثر القضايا التي استقل العقل بإدراكها قد ورد فيها نص صريح من الشرع مؤكداً لحكم العقل.

الصحابة:

قال السنة: إن الصحابة جميعهم عدول، ولا تطلب تزكيتهم (مسلم الثبوت وشرحه وأصول الفقه للخضري).

وقال الإمامية: إن الصحابة كغيرهم، فيهم الطيب والخبيث، والعادل والفاسق.

واتفق السنة على أن فتوى الصحابي ليست حجة على صحابي مثله، واختلفوا هل هي حجة على غير الصحابي.

قال مالك والشافعي في القديم وابن حنبل في رواية: إن قول الصحابي حجة على غير الصحابي، تماماً كسنة رسول اللّه (مسلم الثبوت وشرحه).

وقال الامامية: إن فتوى الصحابي ليست بحجة على أحد، وإنه من هذه الجهة لا يمتاز في شيء عن غيره.

الاجتهاد:

أقفل السنة باب الاجتهاد مقتصرين على المذاهب الأربعة منذ القرن الرابع الهجري، وما زال مقفلاً عندهم، حتى اليوم، وفي الأيام الأخيرة دعا أفراد من علمائهم إلى فتحه، كالشيخ محمد عبده والشيخ المراغي وشيخ الأزهر فضيلة الشيخ شلتوت.

وباب الاجتهاد مفتوح على مصراعيه عند الإمامية لكل من له الأهلية والكفاءة.

٧١

وأجاز السنة أن يقلد الجاهل في الأحكام الشرعية العالم الميت. وأكثر الإمامية على عدم الجواز.

قال السيد محسن الأمين في الجزء الأول من «أعيان الشيعة»: «إن سد باب الاجتهاد عند السنة أقرب إلى المصلحة ما داموا عاملين بالرأي، لأن العمل به يستدعي تعدد الأقوال، وإشاعة الخلافات والمنازعات، أما فتحه عند الشيعة فلا يستدعي شيئاً من ذلك، لأن مدارك الأحكام عندهم ترتكز على أساس معين ومحدد. وفات السيدرحمه‌الله أن فتحه عند الشيعة جرّأ الكثير من جهالهم على انتحاله كذباً وافتراءً.

وبالمناسبة نذكر محاورة طريفة جرت بين السيد الأمين، وعالم سني بدمشق، قال هذا العالم للسيد: أنا لو علمت مذهب الإمام جعفر الصادق لما عدوته، ولكن لا سبيل إلى العلم به، لأن الشيعة يكذبون في نسبة مذهبهم إليه.

قال له السيد: إن مذهب كل إنسان يعلم من أتباعه، ويؤخذ منهم، فقد علمنا مذهب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله من المسلمين، وعلمنا مذهب أبي حنيفة مما نقله عنه أتباعه الأحناف، وكذلك مذهب الشافعي وأحمد ومالك، فيجب أن يكون الأمر كذلك بالنسبة لمذهب الإمام الصادق.

فقال العالم السني: لا بد من حكَم خارج عن الفريقين.

فقال السيد: إذن نحكّم اليهود والنصارى.

قال السني: كيف تقول هذا ؟

قال السيد: أنت قلته، لا أنا. فبهت وسكت.

التصويت والتخطئة:

قال الإمامية: إن للّه في كل واقعة حكماً معيناً، فمن ظفر به فهو المصيب، وله أجران، أو أكثر. ومن أخطأه فهو المجتهد المخطئ، وله أجر واحد على بحثه واجتهاده.

واختلف السنة فيما بينهم، فقال الشافعي بمقالة الإمامية (اللمع لأبي إسحق الشيرازي الشافعي).

وقال الغزالي في المستصفى ج ٢ ص ٣٦١ سنة ١٣٢٤ هجري: «ذهب بسر المريسي إلى أن الإثم غير محطوط عن المجتهدين في الفروع. فمن أخطأ فهو آثم. وتابعه على هذا ابن علية وأبو بكر الأصم، ووافقه جميع نفاة القياس، ومنهم الإمامية».

٧٢

وغريب هذا الخطأ الفاضح المشين من عالم كالغزالي، فقد ذكر الإمامية في كتب الحديث والفقه والأصول أن المجتهد المخطئ معذور، وفي كتاب «كشف الغطاء» للشيخ جعفر البحث السابع والأربعين ص ٣٩ ما نصه بالحرف «اشتهر على لسان الفريقين - أي السنة والشيعة - رواية أن الفقيه إذا أخطأ كان له حسنة، وإذا أصاب فله عشر».

وقال الغزالي ومالك وأبو حنيفة: ان كل مجتهد مصيب، لأن الحكم الواقعي يتبع ظن المجتهد، ويقال لهؤلاء مصوبة. (المستصفى واللمع والخضري).

وعلى أية حال، فمن نسب إلى جميع السنة القول بالتصويب فقد اشتبه، كما اشتبه الغزالي في نسبته إلى الإمامية القول بأن المجتهد المخطئ آثم.

رائحة التشيع:

قال لي أحد الإخوان: أصحيح أن السنة يشترطون في الراوي أن لا تكون فيه رائحة التشيع ؟ وهل وجدت في كتبهم مصدراً لهذا القول ؟

قلت له: هذا قول المتعصبين منهم، وليس مبدأ عاماً عند علمائهم.

إن المحققين والمنصفين يشترطون فيما يشترطون للأخذ برواية الراوي أن لا يستحل الكذب في دينه، وكفى. نقل الغزالي في كتاب «المستصفى» عن الشافعي أنه قال: «تقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة، لأنهم يرون الشهادة بالزور لمن وافقهم بالمذهب».

وقال الخضري في كتاب «أصول الفقه» ص ٢١٣ سنة ١٩٣٨: «أما المبتدعون ببدع غير مكفرة فأكثرهم على القول بقبول رواياتهم. وهو المعقول ما داموا لا يدينون بالكذب، ولا نظن هذا معتقداً لأي طائفة من المسلمين، وإن نسب إلى الخطابية أنهم يدينون بالشهادة

٧٣

لمن يوافقهم في الاعتقاد»(١) .

وروى أصحاب الصحاح الستة عن رجال من الشيعة كإبان بن تغلب، وجابر الجعفي، ومحمد بن حازم وعبيد اللّه بن موسى وغيرهم.

وعلى سبيل التفكهة ننقل ما ذكره نظام الدين الأنصاري في كتاب «فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت» المطبوع مع المستصفى سنة ١٣٢٤ هجري. ص ١٤٠ ج ٢، قال:

«أما المبيحون للكذب فلا تقبل روايتهم البتة، لأنهم لما جاز في دينهم على زعمهم الكذب لا يبالون بالارتكاب عليه، ومنهم الروافض الغلاة والإمامية، فإن الكذب فيهم أظهر وأشهر، حتى صاروا مضرب المثل في الكذب، وجوزوا ارتكاب جميع المعاصي. فلا أمان لهم أن يكذبوا على رسول اللّه، ولا هم يبالون بالكذب على رسول اللّه وأصحابه، ومن نظر في كتبهم لم يجد أكثر المرويات إلا موضوعة مفتراة».

وإذا كان أكثر روايات الإمامية كذباً وافتراء، فمعنى ذلك أن التوحيد ونبوة محمد والبعث والنشر سخف وهراء، ووجوب الصوم والصلاة والحج والزكاة سراب وهباء، وتحريم الزنا والكذب والسرقة جهل وعماء، لأن روايات الإمامية جلها في ذلك. تعالى اللّه ورسوله علواً كبيراً.

ولا نعرف فرقة من المسلمين تشددت في تحريم الكذب بعامة، وعلى اللّه والرسول بخاصة كالإمامية. فإنهم حكموا بخروج مستحله من الإسلام، وأخذوا الصدق في تحديد الإيمان، فلقد رووا عن أئمتهم أخباراً تجاوزت حد التواتر «إن الإيمان أن تؤثر الصدق، وإن ضرك على الكذب، وإن نفعك». واختصوا دون سائر الفرق بالقول إن تعمد الكذب على اللّه أو رسوله من المفطرات، وإن على هذا الكاذب القضاء والكفارة، وبالغ جماعة منهم، حيث أوجبوا عليه

_____________________

(١) اختلف السنة في الأخذ برواية الجن فمنهم من أجاز، ومنهم من منع، وأجاز السيوطي للجن أن يرووا عن الإنس، ولم يجز للإنس أن يرووا عن الجن لعدم الثقة بعدالتهم. (انظر كتاب الأشباه والنظائر للسيوطي ص ٢١٤ مطبعة مصطفى محمد بمصر).

٧٤

أن يكفر بالجمع بين عتق رقبة، وصيام شهرين متتابعين، وإطعام ستين مسكيناً.

هذا ما جاء في كتب الإمامية. فمن يكون الكذاب الكفار الإمامية، أو الذي يفتري على الأبرياء الأصفياء ؟!

وغريب أن ينسب إلى الإمامية هذا المتقول استحلال الكذب على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، مع أنه جاء في كتب السنة أنفسهم أن جماعة منهم تعمدوا وضع الأحاديث على لسان رسول اللّه، واحتجوا بأنهم يكذبون تأييداً لدينه، وانتصاراً لشريعته، فكذبهم كان للنبي لا عليه. (أضواء على السنة المحمدية لأبي رية ص ١٠٢ طبعة سنة ١٩٥٨).

وهكذا يستحلون الكذب على رسول اللّه، ثم ينسبونه إلى غيرهم، ويقولون بالتقية، ثم يشنعون على من قال بها، تماماً كما فعلوا في مسألة الجفر وعلم الغيب.

المهدِي المنتَظر

الدين والعقل:

أشاد الإسلام بالعقل وأحكامه، ودعا إلى تحرره من التقاليد والأوهام، ونعى على العرب وغير العرب الذين لا يفقهون ولا يعقلون، ويؤمنون بالسخافات والخرافات، وقد أنزل اللّه في ذلك عشرات الآيات، وتواترت به عن الرسول الأعظم الأحاديث والروايات، وأفرد له علماء المسلمين أبواباً خاصة في كتب الحديث والكلام والأصول.

سؤال:

وتسأل - أيها القارئ - هل معنى إشادة الإسلام بالعقل أنه يدرك صحة كل أصل من أصول الإسلام، وكل حكم من أحكام الشريعة، بحيث إذا حققنا ومحصنا أية قضية دينية في ضوء العقل لصدقها وآمن بها إيمانه بأن الإثنين أكثر من الواحد ؟

الجواب:

كلا. ولو أراد الإسلام هذا من تأييده للعقل لقضى على نفسه بنفسه، ولكان وجوده كعدمه. ولوجب أن يؤخذ الدين من العلماء والفلاسفة، لا من الأنبياء وكتب الوحي. إن للعقل دائرة، وللدين أخرى، وكل منهما يترك للآخر الحكم في دائرته واختصاصه، والإنسان بحاجة إلى الاثنين، حيث لا تتم له السعادة والنجاح إلا بهما معاً.

إن الغرض الأول الذي يهدف إليه الإسلام من الإشادة بالعقل هو أن يؤمن بالإنسان بما

٧٥

يستقل به من أحكام، ولا يصدق شيئاً يكذبه العقل ويأباه. إن العقل لا يدرك كل شيء، وإنما يدرك شيئاً، ولا يدرك شيئاً، والذي يعلم كل شيء هو اللّه وحده. فوجود اللّه وعلمه وحكمته، وإعجاز القرآن الدال على صدق محمد في دعوته، وما إلى ذاك يدركه العقل مستقلاً، ويقدم عليه البرهان القاطع. أما وجود الملائكة والجن، والسير غداً على صراط أدق من الشعرة، وأحدّ من السيف، وشهادة الأيدي، والأرجل على أصحابها، وتطاير الكتب، وسؤال منكر ونكير، ونحو ذلك مما لا يبلغه الإحصاء، وثبت بضرورة الدين، أما هذه فلا تفسر بالعلم، وليس فيه للعقل حكم بالنفي أو الإثبات. إن الدين غير محصور ولا مقصور فيما يدركه العقل، بل يتعداه إلى أمور غيبية يؤمن بوجودها كل من آمن باللّه والرسول واليوم الآخر. ولكن الدين في جميع أحكامه وتعاليمه لا يعلم الناس ما يراه العقل محالاً، أو مضراً،

وبالتالي، فليس كل ما هو حق يجب أن يثبت بطريق العقل، ولا كل ما لم يثبت بالعقل يكون باطلاً - مثلاً - إن مسألة المهدي المنتظر لا يمكن إثباتها بالأدلة العقلية، لا لأنها غير صحيحة، وباطلة من الأساس، بل لأنها ليست من شؤون العقل واختصاصه، إن عجز العقل عن إدراك قضية من القضايا شيء، وكونها حقاً أو باطلاً شيء آخر.

العادة والعقل:

فرق بين ما هو ممتنع الوقوع في نفسه، بحيث لا يمكن أن يقع بحال، حتى على أيدي الأنبياء والأولياء، كاجتماع النقيضين، وجعل الواحد أكثر من اثنين، وبين ما هو ممكن الوقوع في نفسه، ولكن العادة لم تجر بوقوعه، كالأمثلة الآتية، وما كان من النوع الأول يسمى بالمحال العقلي، وما كان من النوع الثاني يسمى بالمحال العادي، وكثير من الناس يخلطون بين النوعين، ويتعذر عليهم التمييز بينهما، فيظنون أن كل ما هو محال عادة هو محال عقلاً.

وإليك الأمثلة: لقد اعتدنا أن لا نرى عودة الأموات إلى هذه الدنيا، وأن يولد الصبي، ولا يكلم الناس ساعة ولادته، وإذا جاع أحدنا لا تنزل عليه مائدة من السماء، وإذا أصابه العمى والبرص لا يشفى بدون علاج، وإذا سبح اللّه وحمده لا تردد الجبال والطير معه التسبيح والتحميد، وإذا أخذ الحديد بيده لا يلين له كالشمع، وإذا سمع منطق الطير لا يفهم منه شيئاً، كما يخفى عليه حديث النمل، ويعجز عن تسخير الجن في عمل المحاريب والتماثيل. ولم يشاهد إنساناً حياً منذ قرون، ولا انقلاب العصا إلى ثعبان، ولا وقوف مياه البحر كالجبال، ولا جلوس الإنسان في النار دون أن يناله أي أذى. فكل هذه، وما إليها لم تجر العادة بوقوعها، ولم يألف

٧٦

الناس مشاهدتها، لذا ظن من ظن أنها مستحيلة في حكم العقل، مع أنها ممكنة عقلاً، بعيدة عادة. بل وقعت بالفعل.

فلقد أخبر القرآن الكريم بصراحة لا تقبل التأويل أن السيد المسيح كلم الناس، وهو في المهد، وأحيا الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص، وأنزل مائدة من السماء وأنه ما زال حياً، وسيبقى حياً إلى يوم يبعثون، وأن النار كانت برداً وسلاماً على إبراهيم، وأن عصا موسى صارت ثعباناً، وأن الحديد لان لداود، وسبح معه الطير والجبال، وأن سليمان استخدم الجان، وعرف لغة الطيور والنمل. إن هذه الخوارق محال بحسب العادة، جائزة في نظر العقل، ولو كانت محالاً في نفسها لامتنع وقوعها للأنبياء وغير الأنبياء. فكذلك بقاء المهدي حياً ألف سنة أو ألوف السنين واختفاؤه عن الأنظار - كما يقول الإمامية - بعيد عبادة، جائز عقلاً، واقع ديناً بشهادة الأحاديث الثابتة عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمن أنكر إمكان وجود المهدي محتجاً بأنه محال في نظر العقل يلزمه أن ينكر هذه الخوارق التي ذكرها القرآن، وآمن بها كل مسلم، ومن اعترف بها يلزمه الاعتراف بإمكان وجود المهدي، والتفكيك تحكم وعناد، إذ لا فرق في نظر العقل بين بقاء المهدي حياً ألوف السنين، وهذه الخوارق من حيث الإمكان وجواز الوقوع، ما دام الجميع من سنخ واحد.

أحاديث المهدي:

ألف علماء الإمامية كتباً خاصة في المهدي، منهم محمد بن إبراهيم النعماني، والصدوق، والشيخ الطوسي، والمجلسي الذي خصص له المجلد الثالث عشر من بحاره، وذكر هؤلاء العلماء وغيرهم كل ما يتصل بالمهدي من الأحاديث النبوية، بخاصة ما جاء في كتب السنة، وبصورة أخص الصحاح الستة، وقد استقصاها السيد محسن الأمين في القسم الثالث من الجزء الرابع من «أعيان الشيعة» طبعة سنة ١٩٥٤، ورغم ثقتي بهؤلاء الأعلام، ويقيني بصدقهم عما ينقلونه عن غيرهم فإني تتبعت بنفسي ما تيسر لي مراجعته من كتب السنة، خشية الاشتباه بالنقل، أو في فهم الحديث وقبوله للتأويل، ولأن القدامى وأكثر الجدد من علمائنا ينقلون عن الكتاب الذي يبلغ المجلدات دون أن يشيروا إلى رقم الصفحة، ولا تاريخ الطبع، حتى ولا اسم المجلد، وربما اكتفوا بالقول «جاء في كتب السنة أو قال السنة».

وأكتفي هنا بنقل ما جاء في ثلاثة كتب من الصحاح الستة(١) لأن لفظ أحاديثها هو بالذات لفظ الأحاديث المروية في كتب الإمامية. قال ابن ماجة في سننه ج ٢ طبعة سنة ١٩٥٣ الحديث رقم ٤٠٨٢:

٧٧

«قال رسول اللّه: إنا أهل بيت اختار اللّه لنا الآخرة على الدنيا، وإن أهل بيتي سيلقون بعدي بلاءً شديداً، وتطريداً، حتى يأتي قوم من قبل المشرق معهم رايات سود، فيسألون الخير فلا يعطونه، فيقاتلون فينتصرون، فيعطون ما سألوا، فلا يقبلونه، حتى يدفعونها إلى رجل من أهل بيتي، فيملأها قسطاً، كما ملئت جوراً».

والحديث رقم ٤٠٨٣:

«قال رسول اللّه: يكون في أمتي المهدي، إن قصر فسبع، وإلا فتسع، تنعم فيه أمتي نعمة لم تنعم مثلها قط، تأتي أكلها، ولا تدخر منه شيئاً، والمال يومئذ كدوس، فيقوم الرجل يقول:

يا مهدي أعطني. فيقول: خذ».

والحديث رقم ٤٠٨٥: «المهدي منا أهل البيت».

والحديث رقم ٤٠٨٦: «المهدي من ولد فاطمة».

والحديث رقم ٤٠٨٧: «نحن بني عبد المطلب سادة أهل الجنة: أنا وحمزة وعلي وجعفر والحسن والحسين والمهدي».

وقال أبو داود السجستاني في سننه ج ٢ طبعة سنة ١٩٥٢ ص ٤٢٢ وما بعدها:

«قال رسول اللّه: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول اللّه ذلك اليوم، حتى

_____________________

(١) كتب الحديث الصحيحة عند السنة: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة.

٧٨

يبعث رجلاً من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً».

وفي حديث آخر: «المهدي مني. يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً، ويملك سبع سنين».

وجاء في صحيح الترمذي ج ٩ طبعة سنة ١٩٣٤ ص ٧٤:

«قال رسول اللّه: لا تذهب الدنيا، حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي».

وفي ص ٧٥: «قال رسول اللّه: يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي، ولو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول اللّه ذلك اليوم، حتى يلي».

وجاء في كتاب «كنور الحقائق» للإمام المناوي المطبوع مع كتاب «الفتح المبين» سنة ١٣١٧ هجري ص ٣: «ابشري يا فاطمة المهدي منك».

هذا المهدي الذي أثبته الإمام المناوي وصحاح السنة، وكثير من مؤلفاتهم هو بالذات المهدي المنتظر الذي قالت به الإمامية، فإذا كان المهدي خرافة وأسطورة فالسبب الأول والأخير لهذه الأسطورة هو رسول اللّه. تعالى اللّه ورسوله علوّاً كبيراً، حتى لفظ «يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً»، حتى هذه الجملة التي عابوها على الإمامية، وسخروا منها ومنهم هي بحروفها للرسول الأعظم، لا للإمامية، فإن يك من ذنب فالنبي هو المسؤول.

حاشا اللّه والرسول.

إن الذين يسخرون من فكرة المهدي إنما يسخرون من الإسلام، ونبي الإسلام، من حيث يشعرون أو لا يشعرون. وينطبق عليهم الحديث الذي نقله صاحب الأعيان في الجزء الرابع عن «فوائد السمطين» لمحمد بن إبراهيم الحموني الشافعي عن النبي «من أنكر خروج المهدي فقد كفر بما أنزل على محمد».

قال بعض المؤلفين: «اخترع الشيعة فكرة المهدي لكثرة ما لاقوه وعانوه من العسف والجور، فسلوا أنفسهم، ومنوها بالمهدي الذي يملأ الأرض عدلاً، وينصفهم من الظالمين والمجرمين».

ولو كان هذا القائل على شيء من العلم بسنة الرسول لما قال هذا، لقد تخيل أشياء لا أصل لها ولا أساس، ثم أعلنها على أنها عين الحق والواقع، ولست أعرف أحداً أجهل وأجرأ على الباطل ممن يكتب في موضوع ديني، ويعطي أحكاماً قاطعة، قبل أن يرجع إلى كتاب اللّه وسنة الرسول، وقبل أن يبحث وينقب عن أقوال العلماء وآرائهم. إن العلم هو معرفة الشيء عن دليله، أما القول بالظن والتخرص، كما فعل الذين أنكروا وجود المهدي فجهالة وضلالة.

٧٩

وبالتالي، فإن الإمامية لولا هذه الأحاديث التي أوردها أصحاب الصحاح لكانوا في غنى عن القول بالمهدي، وبكل ما يتصل به من قريب أو بعيد، ولكن ما العمل، وهم يتلون قوله تعالى «ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا».

وبكلمة لقد أخبر النبي بالمهدي فوجب التصديق به، تماماً كما وجب التصديق بمن سبق من الأنبياء، لأن القرآن الكريم أخبر عنهم.

ورب قائل: إن الأحاديث النبوية التي نقلتها عن صحاح السنة إنما دلت على خروج المهدي في آخر الزمان، دون أن تتعرض من قريب أو بعيد إلى وقت ولادته. إذن فمن الجائز أنه يولد في القرن الذي يخرج فيه، لا أنه قد ولد بالفعل وقبل خروجه بقرون، كما قال الإمامية.

الجواب:

إن القول بخروج المهدي وولادته، وكل ما يتصل به لا مستند له إلا الأحاديث النبوية، غاية الأمر أن خروجه في آخر الزمان ثبت بطريق السنة والإمامية، أما ولادته فقد ثبتت بطريق الإمامية فقط، وليس من الضروري لأن يؤمن المسلم بشيء أن يثبت بطريق الفريقين، وإنما الواجب أن يؤمن بما يثبت عنده، على شريطة أن لا يناهض إيمانه حكم العقل ويصادمه، وقد بينّا أن بقاء المهدي حياً تماماً كالخوارق التي حدثت لإبراهيم وداود وسليمان وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء، لا تتنافى وشيئاً مع حكم العقل بالإمكان، لأنها قد حدثت بالفعل، والدالّ على الوقوع دالّ على الإمكان بالضرورة.

هذا، وإن جماعة من كبار علماء السنة قالوا بمقالة الإمامية، وآمنوا بأن المهدي قد ولد، وأنه ما زال حياً، وقد ذكر السيد الأمين أسماءهم في الجزء الرابع من الأعيان، ونقل الثناء على علمهم والثقة بدينهم عن كثير من المصادر المعتبرة عند السنة، وهم:

١ - كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي في كتابه «مطالب السؤول في مناقب آل الرسول».

٢ - محمد بن يوسف الكنجي الشافعي، في كتابيه «البيان في أخبار صاحب الزمان». و«كفاية الطالب في مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب».

٣- علي بن محمد الصباغ المالكي في كتابه «الفصول المهمة».

٤ - أبو المظفر يوسف البغدادي الحنفي المعروف بسبط ابن الجوزي في كتابه «تذكرة الخواص».

٥ - محيي الدين بن العربي الشهير في كتابه «الفتوحات المكية».

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

٢ ـ( هَلْ كُنتُ إلّا بَشَرًا رَّسُولاً ) ومعناه أنّه بشر مأمور لا يستطيع القيام بالممكن من هذه الاُمور إلّا بإذنه سبحانه، شأن كل رسول في إنجاز رسالته.

وبعبارة اُخرى إنّكم إن كنتم تطلبون هذه الاُمور منّي بما أنا بشر، فالممكن منها خارج عن إطار قدرة البشر، وإن كنتم تطلبون مني بما أنني رسول مبلغ فلا أستطيع التصرف بلا إذن ورخصة منه سبحانه، وعلى كل تقدير فهؤلاء الجهلة المجادلون ما كانوا ليؤمنوا ولو جاءهم النبي بأضعاف ما لم يطلبوا به. قال تعالى:( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إلّا أَن يَشَاءَ اللهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) ( الأنعام / ١١١ ).

والمراد من قوله:( إلّاأَن يَشَاءَ اللهُ ) هو المشيئة القاهرة التي تجبر الناس على الإيمان بالرسالة، وعندئذ لا يقام لمثل هذا الإيمان وزن ولا قيمة(١) .

* * *

٤ ـ طلب طرد الفقراء

روى الثعلبي باسناده عن عبد الله بن مسعود قال: مر الملأ من قريش على رسول الله وعنده صهيب وخباب وبلال وعمّار وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقال: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك أفنحن نكون تبعاً لهم ؟ أهؤلاء الذين منَّ الله عليهم ؟ أطردهم عنك فلعلّك إن طردتهم اتّبعناك، فأنزل الله تعالى:( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ ) (٢) .

__________________

(١) لقد بسطنا الكلام في الجزء الرابع من هذه الموسوعة في تحديد الشروط التي يجب للنبي دونها القيام بالمعجزة وبيّنّاه في مفاد الآيات النافية للإعجاز، لاحظ: ص ٩٥ ـ ١٥٤ من ذلك الجزء.

(٢) مجمع البيان: ج ٤ ص ٣٠٥.

١٨١

قال ابن هشام: وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا جلس في المسجد وجلس إليه المستضعفون من أصحابه: خباب وعمّار وأبو فكيهة يسار مولى صفوان بن اُميّة بن محرث وصهيب وأشباههم من المسلمين، هزأت بهم قريش وقال بعضهم لبعض: هؤلاء أصحابه كما ترون، أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا بالهدى والحق ؟ لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقنا هؤلاء إليه، وما خصّهم الله به دوننا، فأنزل الله تعالى فيهم:( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ *وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَٰؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ *وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الأنعام / ٥٢ ـ ٥٤ )(١) .

وقد ذكر في شأن نزول الآية وجه آخر يناسب كونها مدنيّة لا مكيّة، علماً بأنّ جميع آيات السورة مكيّة وهذا يبعد أن تكون هذه الآية وحدها مدنيّة مع أنّ لحن الآية يناسب كونها مكّية.

ومثله قوله سبحانه:( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) ( الكهف / ٢٨ ).

والسورة مكيّة ومفاد الآية يشبه مفاد الآيات المكيّة، وقد ذكر في شأن نزولها أيضاً ما يعرب عن كونها مدنيّة، وإليك النص الدال على ذلك:

روى السيوطي في الدر المنثور: جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصين الفزاري فوجدا النبي قاعداً مع بلال وصهيب وعمّار وخباب في اُناس ضعفاء من المؤمنين فلمّا رأوهم حقّروهم، فأتوه فخلوا به فقالوا: إنّا نحب أن تجعل

__________________

(١) السيرة النبويّة، لابن هشام: ج ١ ص ٣٩٢ و ٣٩٣.

١٨٢

لنا منك مجلساً تعرف لنا العرب به فضلاً، فإنّ وفود العرب ستأتيك فنستحيي أن ترانا العرب قعوداً مع هؤلاء الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمه معنا فإذا نحن فرغنا فلتقعد معهم إن شئت، قال نعم، قالوا: فاكتب لنا عليك بذلك كتاباً، فدعا بالصحيفة ودعا عليّا ليكتب ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبرئيل بهذه الآية:( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ) إلى قوله( فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) فألقى رسول الله الصحيفة من يده، فأتيناه وهو يقول:( سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) فكنّا نقعد معه، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله:( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) قال: فكان رسول الله يقعد معنا بعد فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم(١) .

يقول العلّامة الطباطبائي في هذا الصدد: « إستفاضت الروايات على نزول سورة الأنعام دفعةً، هذا والتأمل في سياق الآيات لا يبقي ريباً أنّ هذه الروايات إنّما هي من قبيل ما نسمّيه تطبيقاً، بمعنى أنّهم وجدوا مضامين بعض الآيات تقبل الإنطباق على بعض القصص الواقعة في زمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فعدّوا القصّة سبباً لنزول الآية لا بمعنى أنّ الآية انّما نزلت وحدها دفعة لحدوث تلك الواقعة ورفع الشبهة الطارئة من قبلها، بل بمعنى أنّ الآية يرتفع بها ما يطرء من قبل تلك الواقعة من الشبهة كما ترفع بها الشبه الطارئة من قبل سائر الوقائع من أشباه الواقعة ونظائرها كما يشهد بذلك ما ترى في هذه الروايات الثلاث الواردة في سبب نزول قوله:( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ ) الآية، فإنّ الغرض فيها واحد لكن القصص مختلفة في عين أنّها متشابهة فكأنهم جاءوا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واقترحوا عليه أن يطرد عنه الضعفاء كرّة بعد كرّة وعنده في كل مرّة عدّة من ضعفاء المؤمنين وفي مضمون الآية إنعطاف إلى هذه الإقتراحات أو بعضها(٢) .

__________________

(١) الدر المنثور: ج ٣ ص ١٣، ونقله في مجمع البيان عند تفسير الآيتين فلاحظ.

(٢) الميزان: ج ٧ ص ١١٠ بتصرّف يسير.

١٨٣

ويضيف قائلاً: « إنّ ما اقترح المشركون على النبي نظير ما اقترحه المستكبرون من سائر الأمم على رسلهم من أن يطردوا عن أنفسهم الضعفاء والفقراء من المؤمنين تعزّزاً وتكبّرا وقد حكى الله سبحانه عن قوم نوح فيما حكى من محاجّتهعليه‌السلام حجاجاً يشبه ما في هذه الآيات من الحجاج قال تعالى:( فَقَالَ المَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إلّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ) إلى أن قال:( وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُم مُّلاقُو رَبِّهِمْ وَلَٰكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ *وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) ( هود / ٢٧ و ٢٩ و ٣٠ )(١) .

__________________

(١) الميزان: ج ٧ ص ١١٠ بتصرّف يسير.

١٨٤

د ـ تعذيب النبيّ وأصحابه

قد كان إيقاع الأذى على الدعاة المصلحين من سنن المجتمعات الجاهلية حيث قد كان أهلها يخالونهم أعداء لأنفسهم ومصالحهم فكانوا يقابلونهم بالإيذاء والشتم والضرب والقتل فلم يكن النبي فيما لاقاه من الأذى والسب والتنكيل به وبأصحابه بدعاً من الاُمور.

وقد أدار المشركون رحى الشر عليهم طيلة لبثهم في مكة فجاء الوحي يحثّهم على الصبر والثبات بتعابير وأساليب مختلفة وإليك توضيح ذلك:

١ ـ نزل الوحي مسلّياً بقوله:( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ المُرْسَلِينَ ) ( الأنعام / ٣٤ ) وقوله:( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلّا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) ( النحل / ١٢٧ ).

٢ ـ ومحفزاً تارة اُخرى بتذكيرهصلى‌الله‌عليه‌وآله بجَلَد أولى العزم في إداء رسالاتهم بقوله:( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ) ( الأحقاف / ٣٥ ).

٣ ـ وثالثة داعياً لهصلى‌الله‌عليه‌وآله تفويض الأمر إلى الله والتريّث حتى يأتي موعده بقوله:( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ) ( يونس / ١٠٩ ).

٤ ـ ورابعاً مروّضا لهصلى‌الله‌عليه‌وآله في قبال ما يكال إليه من

١٨٥

صنوف الايذاء بقوله:( وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً ) ( المزمل / ١٠ ).

٥ ـ وخامساً منبّهاً لهصلى‌الله‌عليه‌وآله بتجنب ما وقع فيه النبيّ يونس بقوله سبحانه:( وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ ) ( القلم / ٤٨ ).

فهذه الآيات ونظائرها تعرب عن عظم درجة الايذاء والوصب الذي عاناه النبي في سبيل إرساء قواعد دعوته حيث قابلها برحابة صدر وسعة نفس، وعلى الرغم من كل ذلك فلم تتحرك شفتاه بطلب إنزال العذاب عليهم. سواء عندما كان في مكة أم بعد مغادرتها إلى المدينة فكان يقابل تزمّت قومه وعنادهم بالحكمة والموعظة الحسنة ما وجد لذلك سبيلاً.

المضطهدون في صدر البعثة

وقد جاء في كتب السيرة أسماء الذين عذّبوا بيد قريش من صحابة النبي الأكرم وعلى رأسهم « ياسر » و « سميّة » أبوا عمّار، و « صهيب » و « بلال » و « خباب » وقد اُستشهد أبو عمّار واُمّ عمّار بتعذيب المشركين وأمّا عمّار فقد أعطاهم بلسانه ما أرادوا منه وبقي قلبه مطمئن بالإيمان وعندما جاء خبر تعذيب قريش لنبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يزل يلهج بهم ويدعو لهم ويقول: إصبروا آل ياسر موعدكم الجنّة، ويقول: أبشروا آل ياسر موعدكم الجنّة، ويقول: أللّهم اغفر لآل ياسر وقد فعل.

يقول ابن هشام: وكان بنو مخزوم يخرجون بعمّار وأبيه واُمّه وكانوا أوّل أهل بيت في الإسلام إذا حميت الظهيرة يعذّبونهم برمضاء مكّة فيمر بهم رسول الله فيقول: صبراً آل ياسر موعدكم الجنّة. صبراً آل ياسر فإنّ مصيركم إلى الجنّة(١) .

__________________

(١) سيرة ابن هشام: ج ١ ص ٣١٩ ـ ٣٢٠.

١٨٦

يروي أبو نعيم عن عثمان بن عفان قال: لقيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالبطحاء فأخذ بيدي فانطلقت معه، فمرّ بعمّار واُمّ عمار وهم يعذّبون، فقال: صبراً آل ياسر فإنّ مصيركم إلى الجنّة.

وروى أيضاً عن مجاهد: أوّل من أظهر الإسلام سبعة، فعدّ منهم عمّار وسميّة ـ اُمّ عمّار ـ.

وكانوا يلبسونهم أدراع الحديد ثمّ يسحبونهم في الشمس فبلغ منهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ من حر الحديد والشمس، فلمّا كان من العشيّ أتاهم أبوجهل ـ لعنه الله ـ ومعه حربة فجعل يشتمهم ويوبّخهم(١) .

ثمّ إنّ المشركين أصابوا عمّار بن ياسر فعذّبوه ثمّ تركوه ( لأنّه أعطاهم ما يطلبون ) فرجع إلى رسول الله فحدّثه بالذي لقي من قريش.

وفي رواية: أخذ بنو المغيرة فغطّوه في بئر ميمون وقالوا: أكفر بمحمّد، فتابعهم على ذلك وقلبه كاره.

وفي رواية ثالثة: أخذ المشركون عمّار بن ياسر فعذّبوه حتى باراهم في بعض ما أرادوا، فشكى ذلك إلى النبي، فقال النبي: كيف تجد قلبك ؟ قال: مطمئناً بالإيمان، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : فإن عادوا فعد، فنزل قوله سبحانه:( مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( النحل / ١٠٦ ).

فأخبر الله سبحانه أنّه من كفر بعد إيمانه فعليه غضب من الله وله عذاب أليم، وأمّا من أكره وتكلّم بها لسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوّه فلا حرج عليه، لأنّ الله سبحانه إنّما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم(٢) .

__________________

(١) حلية الأولياء: ج ١ ص ١٤٠.

(٢) تفسير الطبري: الجزء ١٤، ص ١٢٢.

١٨٧

لقد تطرّق إلى بعض القلوب أنّ عمّاراً كفر، فقال النبي: إنّ عمّاراً مِلئ إيماناً من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه، وجاء عمّار إلى رسول الله وهو يبكي، فقال: ما وراءك ؟ فقال: شر يا رسول الله، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، فجعل رسول الله يمسح عينيه ويقول: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت، وأضاف الطبرسي أنّ ياسراً وسميّة أبوي عمّار أوّل شهيدين في الإسلام(١) .

إنّ الأساليب التي أنتهجتها وتبنّتها قريش لشل حركة تقدم الدعوة النبويّة لـمّا أضحت فاشلة، إضطرّت إلى اللجوء إلى أسلوب آخر وهو اثارة الضوضاء والضجيج، للحيلولة دون بلوغ القرآن إلى مسامع الناس.

إثارة الضوضاء عند تلاوة النبي للقرآن

كان القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى للنبي وكانت العرب تعرف بفطرتها أنّه كلام فوق كلام البشر، وأنّ له لحلاوة وأنّ عليه لطلاوة وأنّ أعلاه لمثمر وأنّ أسفله لمغدق وأنّه يعلو وما يعلى عليه(٢) .

هكذا وصف القرآن بعض أعداء النبي، وقد كانت الشباب من قريش وغيره يدركون حلاوة القرآن بذوقهم السليم فيندفعون إلى الإعتناق به حيث كان القرآن يأخذ بمجامع قلوبهم ويوردهم المنهل العذب من الإيمان، فلم ير أعداء النبي بدّاً من نهي العرب عن الاستماع إليه وقد كان النبي يجهر بالقرآن في الأشهر الحرم في المسجد الحرام، فاحتالوا بالمكاء والتصفير والتخليط في المنطق على رسول الله حتى لا يسمع صوته ولا يعلم كلامه، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) ( فصّلت / ٢٦ ). حتى يصدّوا بذلك

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٣ ص ٣٨٨.

(٢) اقتباس من كلام الوليد بن المغيرة، راجع مجمع البيان: ج ٥ ص ٣٨٧، والسيرة النبويّة: ج ٥ ص ٣٨٢.

١٨٨

من اَراد استماعه، فإذا لم يسمع ولم يفهم لا يتبعه فيغلبون بذلك محمداً(١) . فأوعدهم الله سبحانه بقوله:( فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ولقد تحقّق وعده سبحانه في الدنيا يوم بدر فقتل منهم من قتل وأسر منهم من اُسر، فنالوا جزاء أعمالهم، وبقي عليهم العذاب الأكبر الذي يجزون به في يوم البعث. يقول سبحانه:( ذَٰلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ) ( فصّلت / ٢٧ و ٢٨ ).

العذر الأخير للإمتناع عن قبول الدعوة

وأقصى ما كان عند قريش من العذر لتبرير عملهم وعدم إعتناقهم لدين النبي، هو أنّهم كانوا يخافون من مشركي الجزيرة العربيّة حيث إنّهم كانوا على خلاف التوحيد بل على عبادة الأصنام، فقالوا: لو اعتنقنا دين محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ورفضنا الأصنام والأوثان، لثار الجميع علينا، وهذا ما يحكيه عنهم قوله سبحانه:( وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ) ( القصص / ٥٧ ) والآية تعطي أنّهم كانوا واقفين على أنّ دين النبي حقٌّ ولكن الذي منعهم عن اتباع الهدى مخافة أن تتخطّفهم العرب من أرضهم وليس لهم طاقة بهم(٢) .

فردّه الوحي بأنّ الله سبحانه جعل بهم مكّة دار أمن وأمان ودفع ضرّ الناس عنهم عندما كانوا مشركين فإذا آمنوا واعتنقوا دين الله يعمّهم الأمن والسلامة أيضاً لأنّهم في حالة الإيمان أقرب إلى الله سبحانه من حالة الكفر، فالخالق الذي قطع أيدي الأشرار عن بلدهم قادر في كلتا الحالتين، وإليه يشير قوله سبحانه:( أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَٰكِنَّ

__________________

(١) تفسير الطبري: الجزء ٢٤ ص ٧٢.

(٢) التخطّف: أخذ الشيء على وجه الإضطراب من كل وجه، والمصطلح الدارج هو الإختطاف.

١٨٩

أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ( القصص / ٥٧ ).

كان على هؤلاء أن يعتبروا بأقوام متمرّدين الذين أعطوا المعيشة الواسعة، فلم يعرفوا حق النعمة وكفروا فعمّهم الهلاك وهذه ديار عاد وثمود وقوم لوط صارت خالية عن أهلها وهي قريبة منهم، فإنّ ديار عاد إنّما كانت بالأحقاف وهو موضع بين اليمن والشمال وديار ثمود بوادي القرى، وديار لوط بسدوم وكانت قريش تمر بهذه المواضع في تجارتها، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ (١) مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إلّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ) ( القصص / ٥٨ ).

هذا آخر ما كان عندهم من المبرّرات لعدم الإيمان بالدّعوة.

خرافة الغرانيق

كان اللازم علينا ضرب الصفح عن تناول هذه الخرافة التاريخية بالبحث لأَنّا قد اعتمدنا في سرد حوادث السيرة النبوية وفق ما ورد في القرآن الكريم، فما جاء في خلال آياته نذكره وما لم يرد نتركه إلى كتب السيرة والتاريخ، غير أنّ هذه القصة لـمّا الصقت بساحة القرآن الكريم القدسيّة بالإستناد إلى بعض الآيات الموهمة لذلك كذباً وزوراً، فصارت ذريعة في الآونه الأخيرة بيد أعداء الدين من المستشرقين ك‍ « بروكلمان » في كتاب تاريخ الشعوب الإسلامية، ص ٣٤، وكتاب « الإسلام » لفرويد هيوم، لزم علينا التطرّق لتلك الخرافة وتحليلها تحليلاً علميّاً مؤيّداً بالبرهان الرصين والحجّة الدّامغة حتى لا يبقى لمشكك شكّ ولا لمريب ريب إلّا من أخذته العصبية العمياء فإنّها داء لا علاج له، خصوصاً ما نشاهده في المؤامرة الأخيرة التي حاكتها بريطانيا وغيرها من أذناب الكفر العالمي حيث زمّروا وطبّلوا لكتاب « الآيات الشيطانية » لمؤلّفه « سلمان رشدي » ومنحوا له جائزة أدبية في ذلك المجال، والرجل

__________________

(١) البطر: الطغيان عن النعمة.

١٩٠

هندي الأصل بريطاني الجنسيّة والدراسة وقد ترجم الكتاب بإيعاز من الدول المستعمرة إلى أكثر اللغات العالميّة مع أنّه ليس بكتاب أدبي ولا علمي ولا تاريخي، بل أشبه بأضغاث أحلام نسجها الخيال وروّج لها الإستعمار، وإليك القصّة على وجه الإجمال:

« جلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ناد من أندية قريش كثير أهله فتمنّى يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه، فأنزل الله عليه:( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ *مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ ) فقرأه رسول الله حتى إذا بلغ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّىٰ *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَىٰ ) ألقى عليه الشيطان كلمتين:

« تِلْكَ الغَرَانِيقُ العُلَى وَإِنَّ لَشَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْجَى » فتكلّم بها ثمّ مضى فقرأ السورة كلّها فسجد في آخر السورة وسجد القوم جميعاً معه، ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود، فرضوا بما تكلّم به، وقالوا: قد عرفنا أنّ الله يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق ولكنّ آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، إذ جعلت لها نصيباً، فنحن معك. قالا ( محمد بن كعب القرظي ومحمد ابن قيس ): فلمّا أمسى أتاه جبرئيلعليه‌السلام فعرض عليه السورة فلمّا بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه، قال: ما جئتك بهاتين، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إفتريت على الله وقلت على الله ما لم يقل !! فأوحى الله عليه:( كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ) . فما زال مغموماً مهموماً حتّى نزلت عليه:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( الحج / ٥٢ )، قال فسمع من كان من المهاجرين بأرض الحبشة: إنّ أهل مكّة قد أسلموا كلّهم، فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا: هم أحبّ إلينا، فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما يلقي الشيطان »(١) .

__________________

(١) تفسير الطبري: الجزء ١٧، ص ١٣١.

١٩١

وتحقيق القوم في تلك القصّة يتوقّف على البحث عن سند الرواية التي أوردها الطبري في تفسيره والسيوطي في الدر المنثور أوّلاً، ودراسة متنها وعرضه على العقل والقرآن ثانياً لكي يتجلّى الحق بأجلى مظاهره.

تحليل سند الرواية

إنّ هذه الروايات لا يمكن الإحتجاج بها لوجهين:

الأوّل: إنّ أسانيدها تنتهي إلى التابعين الذين لم يدركوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

من أمثال:

١ ـ محمد بن كعب القرظي ٢ ـ محمد بن قيس ٣ ـ أبو العالية ٤ ـ سعيد بن جبير ٥ ـ الضحّاك ٦ ـ ابن شهاب.

ولم يدرك واحد منهم النبي قطّ وهم قد ساقوا القصّة من دون أن يذكروا الواسطة بينهم وبينه، وإليك نصوص علماء الرجال في حقّهم:

الف ـ محمد بن كعب القرظي

قال ابن حجر: قال العجلي: مدني تابعي ...، وقال البخاري: إنّ أباه كان ممّن لم يَثْبُت يوم قريظة فترك، وما نقل من قتيبة من أنّه ولد في عهد النبي لا حقيقة له. إنّما الذي ولد في عهده، هو أبوه، وقد ذكروا انّه كان من سبي قريظة ممّن لم يحتلم ولم ينبت فخلّوا سبيله، حكي ذلك البخاري في ترجمة محمد، ويدلّ على ذلك إنّه مات سنة ١٠٨ ه‍ ق وقيل: ١١٧ ه‍ ق وهو ابن ثمان وسبعين سنة، وجاء عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من طرق أنّه قال: يخرج من أحد الكاهنين رجل يدرس القرآن دراسة لا يدرسها أحد يكون بعده. قال ربيعة: فكنّا نقول: هو محمد بن كعب، والكاهنان قريظة والنضير ـ إلى أن يقول ـ:

١٩٢

... فكان يقص في المسجد فسقط عليه وعلى أصحابه سقف، فمات هو وجماعة معه(١) .

ب ـ محمد بن قيس

وهو محمد بن قيس المدني قاض عمر بن عبد العزيز، روى عن أبي هريرة وجابر، ويقال: مرسل، توفّي أيام الوليد بن يزيد. روى عنه أبو معشر ـ قال ابن معين: ليس بشيء لا يروى عنه(٢) .

ج ـ ابن شهاب

وهو محمد بن مسلم الزهري ـ كان يدلّس في النادر ـ وهو أحد التابعين بالمدينة، وقال ابن حجر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب ابن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري وكنيته أبو بكر وهو من رؤوس الطبقة الرابعة مات سنة خمس وعشرين [ بعد المائة ] وقيل قبل ذلك بسنة أو سنتين(٣) .

د ـ أبو العالية

وهو رفيع بن مهران الرياحي أدرك الجاهلية وأسلم بعد وفاة النبي بسنتين ودخل على أبي بكر وصلّى خلف عمر حتى قيل: إنّه أدرك عليّاً ولم يسمع منه(٤) .

__________________

(١) تهذيب التهذيب: ج ٩ ص ٤٢١.

(٢) تهذيب التهذيب: ج ٩ ص ٤١٤.

(٣) ميزان الإعتدال: ج ٤ ص ٤٠، وتقريب التهذيب: ج ٢ ص ٢٠٧، ووفيات الاعلام: ج ٤ برقم ٥٦٣.

(٤) تهذيب التهذيب: ج ٣ ص ٣٨٤.

١٩٣

ه‍ ـ سعيد بن جبير

فهو سعيد بن جبير الكوفي روى عن ابن عباس وابن الزبير وغيره، قتله الحجّاج صبراً سنة ٩٥(١) .

و ـ الضحّاك

وهو الضحّاك بن عثمان. قال أبو زرعة: ليس بقوي، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. مات بالمدينة سنة ثلاث وخمسين(٢) .

هؤلاء الذين ينتهي إليهم السند كلّهم تابعون، نعم رواه الطبري أيضاً عن ابن عباس فهو ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ـ مات سنة ثمان وستين بالطائف وهو أحد المكثرين من الصحابة، ولكنّه لم يكن حاضراً في زمن القصة بل لم يكن متولّداً فيه ( لأنّ تاريخها يرجع إلى السنة الخامسة من البعثة وهو ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ) فتكون روايته مقطوعة.

وعلى كل تقدير فكل ما رواه الطبري في هذا المجال مراسيل أو مقطوعات لا يمكن الإحتجاج بها.

الثاني: إنّ الأسانيد تشتمل على رجال ضعاف لا يمكن الإحتجاج بهم سوى طريق سعيد بن جبير وقد عرفت أنّه أيضاً مرسل.

هذا ما لدى الطبري في تفسيره وأمّا ما نقله السيوطي فلا يقصر عمّا نقله الطبري في الضعف والإرسال، وقد رواه عن « أبي صالح » وأبي بكر بن عبد الرحمان ابن الحارث و « السدى » أيضاً.

__________________

(١) تهذيب التهذيب: ج ٤ ص ١١.

(٢) تهذيب التهذيب: ج ٤ ص ٤٤٧.

١٩٤

أمّا الأوّل فهو مشترك بين ١٩ شخصاً لم يرو واحد منهم عن النبي فالجلّ لولا الكل تابعون(١) .

وأمّا الثاني فهو أبو بكر بن عبد الرحمان بن الحارث ولد في خلافة عمر(٢) .

وأمّا الثالث فهو محمد بن مروان تابعي. قال ابن معين: ليس بثقه، قال ابن نمير: ليس بشيء وكان كذّاباً(٣) .

نعم رواه أيضاً عن سعيد بن جبير وابن عباس وقد عرفت حالهما، ورواه عن السدي وهو أيضاً تابعي.

مضافاً إلى إشتمال الإسناد على رجال ضعاف، وأمّا ما ذكره السيوطي من أنّه أخرج الطبراني والبزاز وابن مردويه والضياء في المختار بسند رجاله ثقات من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس فهو غير صحيح لما عرفت من أنّ المرسل والمقطوع لا يوصفان بالصحة على الإطلاق ولو وصفا بالصحّة فالمراد هو الصحّة النسبية، فلا يحتج بها.

إنّ علماء الإسلام وأهل العلم والدراية من المسلمين، قد أشبعوا هذه الرواية نقضاً وردّاً وإبراماً فوصفها السيد مرتضى: بأنّها خرافة وضعوها(٤) .

وقال النسفي عند القول بها: غير مرضي. وقال الخازن في تفسيره: إنّ العلماء وهّنوا أصل القصّة ولم يروها أحد من أهل الصحّة، ولا أسندها ثقة بسند صحيح، أو سليم متّصل، وإنّما رواها المفسّرون والمؤرّخون المولعون بكل غريب، الملفّقون من الصحف كل صحيح وسقيم، والذي يدل على ضعف هذه القصّة اضطراب رواتها وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها(٥) .

__________________

(١) راجع تهذيب التهذيب: ج ١٢ ص ١٣٠ ـ ١٣١.

(٢) تهذيب التهذيب: ج ١٢ ص ١٣٠ ـ ١٣٣.

(٣) تهذيب التهذيب: ج ٩ ص ٤٣٦ برقم ٧١٩.

(٤) تنزيه الأنبياء: ص ١٠٩.

(٥) الهدى إلى دين المصطفى: ج ١ ص ١٣٠.

١٩٥

وقال القاضي عياض: إنّ هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحّة ولا رواه ثقة بسنده سليم متصل، وإنّما أولع به المفسّرون، والمؤرّخون، المولعون بكل غريب، والمتلقّفون من الصحف كل صحيح وسقيم، وصدق القاضي بكر بن العلا المالكي حيث قال: لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير، وتعلّق بذلك الملحدون مع ضعف نقلته، واضطراب رواياته، وانقطاع أسناده واختلاف كلماته(١) .

وقال أمين الإسلام الطبرسي: أمّا الأحاديث المروية في هذا الباب فهي مطعونة ومضعّفة عند أصحاب الحديث، وقد تضمّنت ما ينزّه الرسل عنه، فكيف يجوز ذلك على النبي وقد قال سبحانه:( كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ) وقال:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَىٰ ) .

وأقصى ما يمكن أن يقال: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لما تلا سورة والنجم وبلغ إلى قوله:( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّىٰ *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَىٰ ) علمت قريش من عادته أنّه كان يعيبها، قال بعض الحاضرين من الكافرين: ( تِلْكَ الغَرَانِيقُ العُلَى ) فظنّ الجهّال أن ذلك من قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

وقال السيّد الطباطبائي: إنّ الأدلّة القطعيّة على عصمته تكذّب متنها، وإن فرضت صحّة سندها، فمن الواجب تنزيه ساحته المقدّسة عن مثل هذه الخطيئة، مضافاً إلى أنّ الرواية تنسب إليه أشنع الجهل وأقبحه فقد تلا « تِلْكَ الغَرَانِيقُ العُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى » وجهل أنّه ليس من كلام الله، ولانزل به جبرئيل، وجهل أنّه كفر صريح يوجب الإرتداد، ودام على جهله، حتى سجد وسجدوا في آخر السورة، ولم يتنبّه ثمّ دام على جهله حتى نزل عليه جبرئيل، وأمره أن يعرض عليه السورة فقرأها عليه وأعاد الجملتين وهو مصرّ على جهله، حتى أنكره عليه جبرئيل، ثمّ أنزل عليه آية تثبت نظير هذا الجهل الشنيع والخطيئة الفاضحة لجميع الأنبياء

__________________

(١) الشفاء: ج ٢ ص ١٢٦.

(٢) الطبرسي مجمع البيان: ج ٤ ص ٦١ و ٦٢.

١٩٦

والمرسلين وهي قوله:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) .

لو جاز مثل هذا التصرّف من الشيطان في لسانه بالقائه جملة أو جملتين، في ثنايا الوحي، لارتفع الأمن عن الكلام الإلهي، فكان من الجائز حينئذ أن تكون بعض الآيات القرآنية من إلقاء الشيطان فيلقي نفس هذه الآية( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ) فيضعه في لسان النبي وذكره، فيحسبها من كلام الله الذي نزل به جبرئيل كما حسب حديث الغرانيق كذلك ـ إلى أن قال ـ وبذلك يرتفع الإعتماد والوثوق بكتاب الله من كل جهة، وتلغى الرسالة والدعوة النبويّة بالكليّة جلّت ساحة الحق من ذلك(١) .

هذا كلّه راجع إلى اسناد الرواية وكلمات العلماء بشأنه، وأمّا ما يرجع إلى متنها فنشير إلى أمرين كل واحد كاف لإبطال الرواية:

تحليل متن الرواية

١ ـ إنّ هذه الروايات أجمعت على أنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله قرأ سورة والنجم فلمّا بلغ إلى قوله( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّىٰ *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَىٰ ) وسوس إليه الشيطان بهاتين الجملتين ثمّ مضى في التلاوة حتى إذا بلغ آية السجدة في آخر السورة، سجد وسجد معه المشكرون.

فنقول: إنّ الذين كانوا في المسجد كانوا على قدر من الوعي والدراية فكيف يعقل منهم أنّهم سمعوا هاتين الجملتين، اللتين تتضمّنان مدح أصنامهم وأوثانهم، وغاب عن سمعهم ما يتضمّن التنديد والازراء بشأن آلهتهم، فإنّه قد جاء بعد هاتين الجملتين المدّعيتين قوله سبحانه:( إِنْ هِيَ إلّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إلّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن

__________________

(١) الطباطبائي، الميزان: ج ١٤ ص ٤٣٥ و ٤٣٦.

١٩٧

رَّبِّهِمُ الهُدَىٰ ) ( النجم / ٢٣ ).

فهل يتعقّل أن ينسب إلى أوتاد الفصاحة والبلاغة أنّهم أقنعوا بهاتين الجملتين، وفاتهم ما تضمّنته الآيات الكثيرة التي أعقبتها.

فهذه حجة بالغة على أنّ واضع القصة كان غافلاً عن تلك الآيات التي ترد على هاتين الجملتين بصلابة.

٢ ـ إنّ وجود التناقض في طيّات الرواية من جهات شتّى دليل واضح على كونها مختلقة حاكتها أيدي القصّاصين.

وأمّا بيان ذلك التناقض فمن وجوه:

أ ـ تروي الروايات أنّ النبي والمسلمين والمشركين سجدوا إلّا الوليد ابن المغيرة فإنّه لم يتمكّن من السجود لشيخوخته، وقيل: مكانه سعيد بن العاص، وقيل: كلاهما، وقيل: اُميّة بن خلف، وقيل: أبو لهب، وقيل: المطّلب.

ب ـ تضمّن بعضها أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قرأها وهو قائم يصلّي، وتضمّن البعض الآخر أنّه قرأها بينما هو جالس في نادي قومه.

ج ـ يقول بعضها: حدّث بها نفسه، وآخر: جرت على لسانه.

د ـ يقول بعضها: انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تنبّه لها حين تلاوتها، والآخر: انّه لم يتنبّه إلى المساء حتى جاء إليه جبرئيل فعرضها عليه ثمّ تبيّن له الخطأ، إلى غير ذلك من وجوه التناقض التي يقف عليها المتتبع عند التأمّل وامعان النظر في متون الروايات المختلفة التي جمعها ابن جرير والسيوطي في تفسيرهما.

فحصيلة الكلام: إنّ الرواية بشتّى طرقها وصورها لا تصحّ الإحتجاج بها لكون إسنادها مراسيل ومقاطيع من جانب، وكونها متضاربة المضمون من جانب آخر، والذي يسقط الرواية عن الحجّية أنّها تنتهي إلى قصّاصين نظير محمد بن كعب

١٩٨

القرظي ومحمد بن قيس، وهما مولعان بذكر كل صحيح وسقيم في أنديتهم ومجالسهم، لأنّ لكل غريب لذّة، ليس في غيره، خصوصاً أنّ محمد بن كعب ابن بيت يهودي أباد النبي قبيلته، ولم يبق منه إلّا نفراً قليلاً، فمن المحتمل جداً أنّه حاكها على نول الوضع لينتقم من النبي الأكرم وليشوِّه عصمته، والآفة كل الآفة من هؤلاء المستسلمين مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه.

ثمّ إنّ الآية التي زعمت الرواية أنّها نزلت في تلك الواقعة أعني قوله سبحانه:

( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( الحج / ٥٢ ). وقد فرغنا من تفسيره في هذه الموسوعة عند البحث عن عصمة الأنبياء فلا نعيد(١) .

__________________

(١) مفاهيم القرآن: ج ٤ ص ٣٤٨ ـ ٤٥٠.

١٩٩
٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419