الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان14%

الشيعة في الميزان مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 419

الشيعة في الميزان
  • البداية
  • السابق
  • 419 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 145672 / تحميل: 9702
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الميزان

الشيعة في الميزان

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

التي تدور فيها » ١ .

و روي عنه عليه السلام هذا المعنى بلفظ آخر هكذا : « و إنّه و الله ليعلم أنّي أولى بها منّي بقميصي » ٢ .

قال دعبل :

حللت محلاّ يقصر الطرف دونه

و يعجز عنه الطيف أن يتجشّما

و لقد أجاد الناشى‏ء فقال فيه عليه السّلام :

و صارمه كبيعته بخم

مقاصدها من الخلق الرقاب

و لقد أجاد وفائي التستري فيه عليه السلام بالفارسية :

جز بتو آراستن سرير خلافت

نسبت افسر بمستحق فسار است

و روى الكنجي الشافعي في ( مناقبه ) عن سعيد بن المسيب قال : قلت لسعد أبن أبي وقاص : إنّي أريد أن أسألك عن شي‏ء و إنّي أتّقيك . قال : سل عمّا بذالك . فإنّما أنا ابن عمّك . قلت : مقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيكم يوم الغدير . قال : نعم قام فينا بالظهيرة فأخذ بيد علي بن أبي طالب . فقال : « من كنت مولاه فعلي مولاه . اللهمّ وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره » فقال أبو بكر و عمر : أمسيت يا ابن أبي طالب مولى كلّ مؤمن و مؤمنة ٣ .

و روى الجزري في ( اسده ) في وهب بن حمزة مسندا عنه قال : صحبت عليا عليه السّلام من المدينة إلى مكّة . فرأيت منه بعض ما أكره . فقلت : لئن رجعت إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لأشكونك إليه . فلمّا قدمت لقيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقلت : رأيت من عليّ

ــــــــــــــــ

( ١ ) جمهرة اللغة ١ : ٣٠٨ ، مادة ( بطق )

( ٢ ) رواه المفيد في اماليه : ١٥٣ ح ٥ ، المجلس ١٩ ، و لفظه : « قد علم و الله انى اولى الناس بهم مني بقميصي » و رواه غيره أيضا .

( ٣ ) كفاية الطالب : ١٦ .

٢١

كذا و كذا . فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : لا تقل هذا فهو أولى الناس بعدي ١ .

و في ( مروج المسعودي ) : لمّا صرف عليّ عليه السّلام قيس بن سعد بن عبادة عن مصر وجّه مكانه محمّد بن أبي بكر . فلمّا وصل إليها كتب إلى معاوية « من محمّد بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر إلى أن قال فكان أوّل من أجاب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و أناب ، و آمن و صدّق ، و أسلم و سلّم أخوه و ابن عمّه عليّ بن أبي طالب صدّقه بالغيب المكتوم ، و آثره على كلّ حميم ، و وقاه بنفسه كلّ هول ، و حارب حربه و سالم سلمه ، فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات الليل و النهار ، و الخوف و الجزع حتّى برز سابقا لا نظير له في من اتّبعه ، و لا مقارب له في فعله ، و قد رأيتك تساميه ، و أنت أنت ، و هو هو أصدق الناس نيّة ، و أفضل الناس ذرّية ، و خير الناس زوجة ، و أفضل الناس ابن عم ، و أخوه الشاري بنفسه يوم موته ، و عمّه سيد الشهداء يوم احد ، و أبوه الذابّ عن رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و عن حوزته ، و أنت اللعين أبن اللعين ، لم تزل أنت و أبوك تبغيان لرسول الله صلّى اللّه عليه و آله الغوائل ، و تجهدان في إطفاء نور الله . تجمعان على ذلك الجموع ، و تبذلان فيه المال ، و تؤلّبان عليه القبائل . على ذلك مات أبوك و عليه خلفته ، و الشهيد عليك من تدني ، و يلجأ إليك من بقيّة الأحزاب ، و رؤساء النفاق ،

و الشاهد لعلي مع فضله المبين القديم أنصاره الّذين معه الّذين ذكرهم الله و أثنى عليهم من المهاجرين و الأنصار ، و هم كتائب ، و عصائب يرون الحق في اتباعه ، و الشقاء في خلافه . فكيف يا ويلك تعدل نفسك بعليّ عليه السّلام ، و هو وارث رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و وصيّه ، و أبو ولده أوّل الناس له اتّباعا ، و أقربهم به عهدا يخبره بسره ، و يطلعه على أمره ، و أنت عدّوه و ابن عدّوه . فتمتّع في دنياك بباطلك ، و ليمددك ابن العاص في غوايتك إلى أن قال

ــــــــــــــــ

( ١ ) اسد الغابة ٥ : ٩٤ .

٢٢

فكتب إليه معاوية : « من معاوية بن صخر إلى الزاري على أبيه محمّد بن أبي بكر . أمّا بعد ، فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما الله أهله في عظمته و قدرته . و ما اصطفى به رسوله ، مع كلام كثير لك فيه تضعيف ، و لأبيك فيه تعنيف ، ذكرت فيه فضل ابن أبي طالب ، و قديم سوابقه ، و قرابته إلى الرسول ، و مواساته إيّاه في كلّ هول و خوف فكان احتجاجك عليّ و عيبك بفضل غيرك لا بفضلك .

فاحمد ربّا صرف هذا الفضل عنك ، و جعله لغيرك . فقد كنّا و أبوك فينا نعرف فضل ابن أبي طالب و حقّه ، لازما لنا مبروما علينا ، فلمّا اختار الله لنبيّه ما عنده ،

و أتمّ له ما وعده ، و أظهر دعوته و أفلج حجّته ، و قبضه إليه ، كان أبوك و فاروقه أوّل من ابتزه حقّه ، و خالفه على أمره . على ذلك اتفقا و اتّسقا . ثم إنّهما دعواه إلى بيعتهما فأبطا عنهما ، و تلكّأ عليهما ، فهمّا به الهموم ، و أرادا به العظيم ثمّ انّه بايع لهما ، و سلّم لهما ، و أقاما لا يشركانه في أمرهما ، و لا يطلعانه على سرّهما حتّى قبضهما إليه . ثم قام ثالثهما عثمان فهدى بهديهما ، و سار بسيرهما . فعبته أنت ، و صاحبك . حتّى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي ،

فطلبتما له الغوائل ، و أظهرتما عداوتكما حتى بلغتما فيه مناكما . فخذ حذرك يا ابن أبي بكر ، و قس شبرك بفترك . تقصر أن توازي أو تساوي من يزن الجبال بحلمه ، لايلين لمن قسر قناته ، و لا يدرك ذو مقال أناته ، مهّد أبوك مهاده و بنى ملكه و شاده ، فإن يك ما نحن فيه صوابا ، فأبوك أسسّه و نحن شركاؤه ،

و لو لا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب ، و لسلّمنا إليه ، و لكنّا رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا . فأخذنا بمثله . فعب أباك بما بدالك أو دع ذلك ١ .

و رواه نصر بن مزاحم في ( صفّينه ) ، و فيه : « فإن يكن ما نحن فيه صوابا ، فأبوك أوّله ، و إن يك جورا ، فأبوك اسّسه ، و نحن شركاؤه ، و بهديه

ــــــــــــــــ

( ١ ) مروج الذهب ٣ : ١١ ، و النقل بتصرف يسير .

٢٣

أخذنا ، و بفعله اقتدينا و لو لا ما سبقنا إليه أبوك ، ما خالفنا ابن أبي طالب و أسلمنا له ، و لكنّا رأينا أباك فعل ذلك . فاحتذينا بمثاله ، و اقتدينا بفعاله . فعب أباك ما بدا لك أو دع » ١ .

و من العجب أن الطبري قال : لم أجز نقل هذا الكتاب لعدم احتمال العامّة له ٢ . فيقال له : لا يحتمله إلاّ من انسلخ عن الإنسانية ، و جوّز التناقض و التضاد ،

و إنكار المتواترات ، و عدم بطلان الملزوم مع بطلان اللازم في دين الاسلام ،

و لازم صحّة خلافة أبي بكر و عمر و عثمان كون معاوية على الحق و هو هو و عليّ عليه السلام على الباطل و هو هو . أفّ لهم و لما يعبدون من دون اللّه .

و نقل ( طرائف ابن طاووس ) عن ( أنساب البلاذري ) : انّ الحسين عليه السلام لما قتل كتب عبد الله بن عمر إلى يزيد بن معاوية : أما بعد فقد عظمت الرزيّة ،

و جلّت المصيبة ، و حدث في الإسلام حدث عظيم ، و لا يوم كيوم الحسين .

فكتب إليه يزيد : يا أحمق فانّا جئنا إلى بيوت متخذة ، و فرش ممهّدة ، و وسائد منضّدة . فقاتلنا عليها ، فان يكن الحقّ لنا فعن حقّنا قاتلنا ، و ان يكن الحق لغيرنا فأبوك أوّل من سنّ هذا و آثر و استأثر بالحق على أهله ٣ .

و لازم صحّة خلافة أبي بكر كون قتل يزيد السكّير القمّير للحسين سيّد شباب أهل الجنّة بالتواتر عن النبيّ صلى الله عليه و آله و ابن الرسول صلى الله عليه و آله بقوله جلّ و علا و أبناءنا و أبناءكم ٤ و من أهل بيت العصمة بنصّ القرآن انّما يريد

ــــــــــــــــ

( ١ ) وقعة صفين : ١٢٠ .

( ٢ ) تاريخ الطبري ٣ : ٥٥٧ ، سنة ٣٦ .

( ٣ ) رواه ابن طاووس في الطرائف ١ : ٢٤٨ ح ٣٤٨ ، لكن لم يوجد في ترجمة الامام الحسين عليه السلام و لا يزيد بن معاوية من انساب الاشراف .

( ٤ ) آل عمران : ٦١ .

٢٤

اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيرا ١ حقّا ، و كفاهم بذلك خزيا .

و في ( الطبري ) : لما كتب عبيد اللّه بن زياد مع مالك بن النسير البديّ الكندي إلى الحرّ « جعجع بالحسين حين يبلغك كتابي » نظر إليه أبو الشعثاء الكندي من أصحاب الحسين عليه السلام و قال له : ثكلتك أمّك ماذا جئت فيه ؟ قال :

أطعت إمامي و وفيت بيعتي . قال له أبو الشعثاء : كسبت العار و النار ، قال الله عزّ و جلّ : و جعلناهم أئمّة يدعون إلى النار و يوم القيامة لا ينصرون ٢ .

و في ( الطبري ) : أن الشيعة الّذين كانوا أصحاب جعفر بن محمّد قالوا لزيد بن عليّ لمّا أراد الخروج : ما قولك في أبي بكر و عمر ؟ قال : إنّ أشدّ ما أقول إنّا كنّا أحقّ بسلطان رسول الله صلى الله عليه و آله من الناس أجمعين ، و إنّ القوم استأثروا علينا ، و دفعونا عنه ، و لم يبلغ ذلك عندنا بهم كفرا قالوا : فلم يظلمك هؤلاء إذا كان اولئك لم يظلموك فلم تدعو إلى قتال قوم ليسوا لك بظالمين ؟ ٣ و قولهم عين الحق . فإنّ المؤسس لبني اميّة هم الثلاثة أليس الثاني أحدث شورى لاختيار الثالث ؟ أليست خلافة الثالث عين سلطنة بني اميّة ؟

ثم الظاهر انّ زيدا اتّقى باقي أصحابه ، فروى عنه أيضا انّه سأله رجل عن الرجلين ، فلم يجبه . فلمّا وقع السهم في جبينه دعا الرجل ، و قال : لم يرمني بهذا السهم إلاّ الرجلان ٤ .

و روى محمّد بن الحسن الصفار في ( بصائره ) عن الباقر عليه السلام في قوله جلّ و علا : انّا عرضنا الأمانة على السموات و الأرض و الجبال فأبين أن

ــــــــــــــــ

( ١ ) الاحزاب : ٣٣ .

( ٢ ) تاريخ الطبري ٤ : ٣٠٨ ، سنة ٦١ ، و النقل بتلخيص . و الآية ٤١ من سورة القصص .

( ٣ ) تاريخ الطبري ١٥ : ٤٩٨ ، سنة ١٢٢ ، و النقل بتلخيص .

( ٤ ) روى هذا المعنى الهمداني في الالفاظ الكتابية : ١٤٣ .

٢٥

يحملنها و أشفقن منها و حملها الإنسان انّه كان ظلوما جهولا ١ : الأمانة :

الولاية حملها أبو فلان ، و أبت السماوات و الأرض و الجبال حملها ٢ .

و قال الزبير بن بكار : روى محمد بن اسحق انّ أبا بكر لمّا بويع افتخرت تيم بن مرّة ، و كان عامّة المهاجرين ، و جلّ الأنصار لا يشكّون أن عليّا عليه السّلام هو صاحب الأمر بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله . فقال الفضل بن العباس : يا معشر قريش ،

و خصوصا يا بنى تيم إنّكم إنّما أخذتم الخلافة بالنبوّة ، و نحن أهلها دونكم إلى أن قال و انّا لنعلم انّ عند صاحبنا عهدا هو ينتهي إليه ٣ .

و روى الواقدي في ( شوراه ) كما نقله ابن أبي الحديد عند قوله عليه السّلام :

« و من كلام له عليه السّلام و قد وقع بينه و بين عثمان مشاجرة » عن ابن عباس قال :

شهدت عتاب عثمان لعليّ عليه السّلام إلى أن قال قال عثمان لعلي عليه السّلام : فإن كنت تزعم انّ هذا الأمر جعله رسول الله صلّى اللّه عليه و آله لك ، فقد رأيناك حين توفي نازعت ثم أقررت إلى أن قال فقال له عليّ عليه السّلام : و امّا عتيق و ابن الخطاب . فإن كانا أخذا ما جعله رسول الله صلّى اللّه عليه و آله لي . فأنت أعلم بذلك و المسلمون ٤ .

و روى الزبير بن بكار في ( موفقياته ) و ( الطبري في تاريخه ) في سيرة عمر ، عن عبد الله بن عمر قال : كنت عند أبي يوما ، و عنده نفر من الناس . فجرى ذكر الشعر فقال : من أشعر العرب ؟ فقالوا : فلان و فلان . فطلع ابن عباس . فقال عمر : جاء الخبير . من أشعر الناس يا عبد الله ؟ قال : زهير ابن أبي سلمى . قال :

فأنشدني مما تستجيده له . فقال : انّه مدح قوما من غطفان يقال لهم بنوسنان .

فقال فيهم :

ــــــــــــــــ

( ١ ) الاحزاب : ٧٢ .

( ٢ ) بصائر الدرجات : ٩٦ ح ٣ ، و النقل بالمعنى .

( ٣ ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه ٢ : ٨ ، شرح الخطبة ٦٥ .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٣٧٧ ، شرح الخطبة ١٣٣ .

٢٦

لو كان يقعد فوق الشمس من كرم

قوم بأوّلهم أو مجدهم قعدوا

قوم سنان ابوهم حين تنسبهم

طابوا و طاب من الأولاد ما ولدوا

انس اذا آمنوا جنّ اذا فزعو

مرزؤن بها ليل إذا جهدوا

محسّدون على ما كان من نعم

لا ينزع اللّه عنهم ماله حسدوا

فقال عمر : قاتله اللّه لقد أحسن ، و لا أرى هذا المدح يصلح إلاّ لهذا البيت من هاشم لقرابتهم من رسول اللّه . فقال له ابن عباس : و فّقك اللّه . فلم تزل موفّقا .

قال : يا ابن عباس أتدري ما منع الناس منكم ؟ قال : لا . قال : لكنّي أدري . قال :

ما هو ؟ قال : كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوّة و الخلافة فتجحفوا الناس جحفا ، فنظرت قريش لأنفسها فاختارت ، و وفّقت فأصابت . فقال ابن عباس :

أتميط عنيّ غضبك فأقول ؟ قال : قل ما تشاء . قال : أمّا قولك إن قريشا كرهت فإن الله تعالى قال لقوم ذلك بأنّهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ١ ،

و اما قولك إنّا كنّا نجحف بالخلافة فلو جحفنا بالقرابة ، و لكنّا قوم أخلاقنا مشتقّة من خلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الّذي قال تعالى له : و انّك لعلى خلق عظيم ٢ و قال تعالى له صلّى اللّه عليه و آله : و اخفض جناحك لمن اتّبعك من المؤمنين ٣ و اما قولك : انّ قريشا اختارت فإن الله تعالى يقول : و ربّك يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخيرة ٤ ، و قد علمت انّ اللّه تعالى اختار من خلقه لذلك من اختار . فلو نظرت قريش لنفسها من حيث نظر الله لها لوفّقت و أصابت . فقال عمر : « على رسلك يا ابن عباس . أبت قلوبكم يا بنى هاشم إلاّ غشّا في أمر قريش لا يزول و حقدا عليها لا يحول » .

ــــــــــــــــ

( ١ ) محمد : ٩ .

( ٢ ) القلم : ٤ .

( ٣ ) الشعراء : ٢١٥ .

( ٤ ) القصص : ٦٨ .

٢٧

فقال ابن عباس : « مهلا ، لا تنسب قلوب بني هاشم إلى الغشّ . فإنّ قلوبهم من قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الّذي طهّره اللّه ، و زكّاه ، و هم أهل البيت الّذين قال تعالى فيهم إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيرا ١ و أما قولك : حقدا ، فكيف لا يحقد من غصب شيئه ، و يراه في يد غيره . فقال عمر : « أما أنت يا ابن عباس فقد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك به فتزول منزلتك عندي » قال : و ما هو ؟ اخبرني . فإن يك باطلا فمثلي يميط الباطل عن نفسه ، و إن يك حقّا فإنّ منزلتي عندك لا تزول به . قال عمر : بلغني أنّك لا تزال تقول اخذ هذا الأمر منّا حسدا و ظلما . قال : أمّا قولك حسدا فقد حسد إبليس آدم فأخرجه من الجنّة . فنحن بنو آدم المحسود ، و امّا قولك ظلما فأنت تعلم صاحب الحقّ من هو . ثم قال : ألم تحتجّ العرب على العجم بحقّ رسول اللّه ، و احتجّت قريش على سائر العرب بحقّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ؟ فنحن أحقّ برسول اللّه من سائر قريش . فقال عمر : قم الآن فارجع إلى منزلك . فقام ، فلمّا ولى هتف به عمر أيّها المنصرف إنّي على ما كان منك لراع حقّك . فالتفت ابن عباس فقال : انّ لي عليك ، و على كلّ المسلمين حقّا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فمن حفظه فحقّ نفسه حفظ ، و من أضاعه فحقّ نفسه أضاع . ثم مضى . فقال عمر لجلسائه : و اها لابن عباس ما رأيته لاحى أحدا قط إلاّ خصمه ٢ .

و أقول : لله در ابن عباس أدّى حقّ الكلام ، و هل ما قاله لعمر إلاّ عين ما تقوله الإمامية للسنّة من أنّ قريشا ، و في رأسهم صدّيقهم و فاروقهم ، كرهوا ما أنزل اللّه تعالى من استخلاف أمير المؤمنين عليه السّلام فأحبط اللّه أعمالهم ، و أنّهم

ــــــــــــــــ

( ١ ) الاحزاب : ٣٣ .

( ٢ ) رواه الزبير بن بكار في الموفقيات ، و عنه شرح ابن أبي الحديد ٣ : ١٠٦ ، شرح الخطبة ٢٢٦ ، و الطبري في تاريخه ٣ : ٢٨٨ ، سنة ٢٣ ، و النقل بتصرف يسير .

٢٨

علموا من اختاره اللّه تعالى فتركوه عمدا ، و أنه ما كان لهم اختيار الإمام بل لله تعالى كاختيار النبيّ ، و أن أمير المؤمنين ، و أهل بيته عليه السّلام هم الّذين أذهب اللّه عنهم الرجس ، و طهّرهم تطهيرا ، و أن أخلاقهم كأخلاق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قلوبهم كقلبه و أنهم حسدوهم ، و ظلموهم .

و أقول لعمر ، زيادة على ما قال ابن عباس : لم لا تقول : « أصابت قريش و وفّقت في اختيارها » و لو لم يكن فعلها لما كنت أنت و صاحبك تؤمّران على العالم .

و يا للّه من عرّ عمر . تارة ينسب إلى بني هاشم و مغزى كلامه و مرماه أمير المؤمنين عليه السّلام الغشّ ، و قد أخذه عنه معاوية ، و اخرى العجب و الجحف ،

و قد أخذ ذلك عنه ابن الزبير ، فكان لا يصلّى على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في صلاته و خطبته و يقول : لئلا يشمخ أهله بآنافهم . و ثالثة الحرص و أخذه عنه ابن عوف يوم الشورى ، و رابعة الدعابة أخذه ابن النابغة . فكان يزعم ذلك لأهل الشام .

و روى الجوهري في ( سقيفته ) عن ابن عباس قال : تفرّق الناس ليلة الجابية عن عمر . فسار كلّ واحد مع إلفه . ثم صادفت عمر تلك الليلة في مسيرنا فحادثته فشكا إليّ تخلّف عليّ عليه السلام عنه إلى أن قال قال عمر : يا ابن عباس أوّل من ريّثكم عن هذا الأمر أبو بكر أنّ قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة و النبوّة ، قلت : لم ذاك ألم تنلهم خيرا ؟ قال : بلى ، و لكنّهم لو فعلوا لكنتم عليهم جحفا ١ .

قلت : سبحان اللّه إعتقد عمر أنّ خلافة الإسلام بيد جمع أنكروا نبوّة نبي الإسلام حتّى قهرهم بالسيف ، فأسرّوا كفرهم به و أظهروه بعد وفاته .

و روى الزبير بن بكار في ( موفقياته ) عن ابن عباس قال : إني لأماشي

ــــــــــــــــ

( ١ ) السقيفة : ٥٢ ، و النقل بتلخيص .

٢٩

عمر بن الخطاب في سكّة من سكك المدينة إذ قال لي : يا ابن عباس ما أرى صاحبك إلاّ مظلوما . فقلت في نفسي : و اللّه لا يسبقني بها . فقلت : فاردد إليه ظلامته . فانتزع يده من يدي ، و مضى يهمهم ساعة . ثم وقف فلحقته . فقال : يا ابن عباس ما أظنّ منعهم عنه إلاّ انّه استصغره قومه . فقلت في نفسي : هذه شرّ من الاولى . فقلت : و اللّه ما استصغره اللّه و رسوله حين أمراه أن يأخذ براءة من صاحبك . فأعرض عنّي و أسرع . فرجعت عنه ١ .

و في ( فهرست ابن النديم ) : قال هشام بن الحكم : ما رأيت مثل مخالفينا عمدوا إلى من ولاّه اللّه من سمائه فعزلوه ، و إلى من عزله من سمائه فولّوه ٢ .

و روى الزبير بن بكار أيضا في ( الموفّقيات ) : عن ابن عباس قال : كنت عند عمر . فتنفّس نفسا ظننت أنّ أضلاعه قد انفرجت . فقلت له : ما أخرج هذا النفس منك إلاّ هم شديد . فقال أي : و الله يا ابن عباس إنّي افتكرت فلم أدر في من أجعل هذا الأمر من بعدي . ثم قال : لعلّك ترى صاحبك لها أهلا قلت : و ما يمنعه من ذلك مع جهاده و سابقته و قرابته و علمه ، قال : صدقت و لكنّه امرؤ فيه دعابة إلى أن قال قال عمر : من ان وليها يحملهم على كتاب ربّهم و سنّة نبيّهم لصاحبك أما ان ولي أمرهم حملهم على المحجّة البيضاء و الصراط المستقيم ٣ .

قلت : سبحان اللّه مع اعترافه بأنّ أمير المؤمنين عليه السلام لو ولي الأمر يحملهم على كتاب ربّهم و سنّة نبيّهم ، و على المحجّة البيضاء و الصراط المستقيم كيف دبّر الأمر لعثمان الّذي كان يعرف أنّه لو ولي يردّهم إلى

ــــــــــــــــ

( ١ ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه ٣ : ١٠٥ ، شرح الخطبة ٢٢٦ .

( ٢ ) تكملة الفهرس : ٢٢٤ .

( ٣ ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه ٣ : ١٠٦ ، شرح الخطبة ٢٢٦ ، لكن لا عن الزبير بن بكار بل روى حديثا آخر قبل هذا عن موفقيات الزبير بن بكار و النقل بتصرف يسير .

٣٠

الجاهلية الاولى ؟ و كيف لا و ساعة جلوسه في الخلافة جاهر أبو سفيان في محضره : يا بني اميّة تداولوها تداول الكرة فلا جنّة و لا نار .

و أمّا رميه له عليه السلام بالدعابة ، فإنّما كان لأنّه عليه السلام لم يكن مثله عبوسا بصفة الجبّارين ، بل كان بشره في وجهه الّذي هو صفة المؤمنين .

و روى ابو عمر في ( استيعابه ) عن ابن عمر . قال : قال عمر لأهل الشورى : لله درّهم إن ولّوها الأصيلع كيف يحملهم على الحقّ ، و لو كان السيف على عنقه . فقلت : أتعلم ذلك منه و لا تولّيه . قال : إن لم أستخلف فأتركهم ، فقد تركهم من هو خير منّي ١ .

قلت : يالله للجواب ، و لحمق أتباعه ، لكن لا غرو . قال تعالى في فرعون :

فاستخفّ قومه فأطاعوه ٢ ، و لو كان الأمر كما ذكروا من عدم لزوم تعيين النبي لخليفته و تكون بيعة الناس تجعل انسانا إماما يكون من خالفه خارجيا مباح الدم يلزم أن يصير ولي اللّه عدّوا لله ، و بالعكس لو بايع الناس مخالف الأول مع كون عملهما مع اللّه تعالى بعد ذلك عملهما معه جلّ و علا قبل بلا تغيير و لا تبديل ، و لا زيادة و لا نقصان .

و لمّا حارب المهلب مع الخوارج بسولاف من قبل مصعب بن الزبير ثمانية أشهر ثم قتل مصعب بلغ ذلك الخوارج ، و لم يبلغ المهلّب و أصحابه فناداهم الخوارج ألا تخبروننا ما قولكم في مصعب ؟ قالوا : إمام هدى . قالوا :

فهو وليّكم في الدنيا و الآخرة . قالوا : نعم . قالوا : فما قولكم في عبد الملك بن مروان ؟ قالوا : ذلك اللعين ابن اللعين نحن إلى اللّه منه براء ، و هو عندنا أحلّ دما منكم . قالوا : فأنتم منه براء في الدنيا و الآخرة ، قالوا : نعم . كبراءتنا منكم . قالوا :

ــــــــــــــــ

( ١ ) الاستيعاب ٣ : ٦٤ .

( ٢ ) الزخرف : ٥٤ .

٣١

و أنتم له أعداء أحياء و أمواتا . قالوا : نعم . نحن له أعداء كعداوتنا لكم . قالوا : فإنّ إمامكم مصعبا قد قتله عبد الملك ، و نراكم ستجعلون غدا عبد الملك إمامكم و أنتم لا تتبرّؤون منه و تلعنون أباه . قالوا : كذبتم يا أعداء اللّه . فلّما كان من الغد تبيّن لهم قتل مصعب . فبايع المهلّب الناس لعبد الملك . فأتتهم الخوارج فقالوا :

ما تقولون في مصعب ؟ قالوا : يا أعداء اللّه لا نخبركم ما قولنا فيه ، و كرهوا أن يكذّبوا أنفسهم عندهم قالوا : فقد أخبرتمونا أمس أنّه وليّكم في الدنيا و الآخرة ، و أنّكم أولياؤه أحياء و أمواتا ، فأخبرونا ما قولكم في عبد الملك ؟

قالوا : ذاك إمامنا و خليفتنا و لم يجدوا إذ بايعوه بدّا من أن يقولوا هذا القول .

فقالت لهم الأزارقة : يا أعداء اللّه أنتم أمس تتبرؤون منه في الدنيا و الآخرة ،

و تزعمون أنّكم له أعداء أحياء و أمواتا . و هو اليوم إمامكم و خليفتكم ، و قد قتل إمامكم الّذي كنتم تتولّونه ، فأيهما المحق و أيهما المبطل ؟ و أيّهما المهتدي ،

و أيّهما الضالّ ؟ قالوا لهم : يا أعداء اللّه رضينا بذلك إذ كان وليّ أمورنا ،

و نرضى بهذا كما رضينا بذالك . قالوا لهم : لا و الله ، و لكنّكم إخوان الشياطين ،

و أولياء الظالمين ، و عبيد الدنيا .

و أقول للخوارج : إنّ ذلك يلزم عليكم بعد إقراركم بإمامة صديقكم و فاروقكم ، و خروجكم عن الإلتزام بلازمه لكونه واضح البطلان التزام بالتضاد و التناقض ، و خلاف المعقول . فمن أقرّ بملزوم لابد أن يقرّ بلازمه .

و أقول لفاروقهم قولك : « إن لم أستخلفهم فأتركهم فقد تركهم من هو خير منّي » مضحك للثكى . فكيف تركهم فقد أراد كتابة وصيّة و تعيين وصيّه كتابة حتّى لا يمكنك إنكاره ، و كنت تعرف ذلك كما أقررت به في اعتذارك عن منعه . فقلت : ان الرجل ليهجر حسبنا كتاب الله ، مع عدم معرفتك بشي‏ء منه حتّى سخط و أخرجك من عنده .

٣٢

ثم كيف تركتهم ، و قد استخلفت بني امية الشجرة الملعونة في القرآن ١ .

و في ( إيضاح الفضل بن شاذان ) : روى يزيد بن هارون ، عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي قال : قال ابن عباس : لقي رجل من أهل الشام أبي بالجابية فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، فقال : لست للمؤمنين بأمير و هو ذاك و أشار إلى عمر و كان بالقرب و انا و اللّه أحقّ بها منه ، فسمعها عمر . فقال له : أحقّ بها منّي و منك رجل خلّفناه في المدينة يعني عليّا عليه السّلام ٢ .

قلت : نقلنا قصصا عن عمر في قوله عليه السّلام : « و إنّه ليعلم أنّ محلي منها محلّ القطب من الرحى » مع كون المراد به أبا بكر لأنّهما كانا كنفس واحدة ،

و لأنّه إنّما كان هو الناصب لأبي بكر كما اعترف به النظام ، نصبه ليردّ الأمر إليه كما صرّح به أمير المؤمنين عليه السلام مع انّه كان أيّام خلافة أبي بكر شريكه في الخلافة أيضا كما لا يخفى عند من كان له إلمام بالتاريخ .

ثم إنّه كما علم أبو بكر أوّل من تقمّص بها بكونه عليه السلام أولى بها من كلّ أحد كذلك كلّ من تصدّى لها إلى الآخر إلاّ أنّهم تبعوا الأول و تظاهروا به لكونه أسّس لهم رياسة و دنيا عظيمة . فخطب داود بن علي لمّا بويع السفّاح ، و قال :

« لم يصعد هذا المنبر بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حقّا إلاّ عليّ بن أبي طالب و السفّاح » .

و روى الطبري في أحوال المهدي : أنّ أبا عون عبد الملك بن يزيد مرض فعاده المهدي و سأله حاجته . فقال : حاجتي أن ترضى عن عبد الله بن أبي عون و تدعو به . فقد طالت موجدتك عليه . فقال : يا أبا عون إنّه على غير الطريق و على خلاف رأينا و رأيك ، إنّه يقع في الشيخين أبي بكر و عمر و يسيى‏ء القول

ــــــــــــــــ

( ١ ) بالنظر الى قوله تعالى في الاسراء : ٦٠ .

( ٢ ) الايضاح : ٩٠ ، و النقل بتصرف يسير .

٣٣
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الخامس الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

فيهما . فقال أبو عون : هو و اللّه على الأمر الّذي خرجنا عليه ، و دعونا إليه . فإن كان قد بدا لكم فمروا بما أحببتم حتى نطيعكم ١ .

و في ( الأغاني ) عن أبي سليمان الناجي قال : جلس المهدي يوما يعطي قريشا صلات أمر لهم بها و هو ولي عهد . فبدا ببني هاشم ثم بسائر قريش .

فجاء السيّد الحميري ، و دفع إلى الربيع رقعة مختومة و إذا فيها :

قل لابن عباس سميّ محمّد

لا تعطينّ بني عديّ درهما

و احرم بني تيم بن مرّة إنّهم

شرّ البرية آخرا و مقدما

إن تعطهم لا يشكروا لك نعمة

و يكافئوك بأن تذمّ و تشتما

و لئن منعتهم لقد بدؤوكم

بالمنع إذ ملكوا فكانوا أظلما

منعوا تراث محمّد أعمامه

و بنيه و ابنيه عديلة مريما

و تأمّروا من غير أن يستخلفوا

و كفى بما فعلوا هنالك مأثما

لم يشكروا لمحمّد إنعامه

أفيشكرون لغيره ان أنعما

و اللّه منّ عليهم بمحمّد

و كسا الجنوب و أطعما

ثم انبروا لوصيّه و وليّه

بالمنكرات فجرّعوه العلقما

فرمى بها إلى عبيد اللّه الوزير ثم أمر بقطع العطاء فانصرف الناس و أدخل السيّد عليه . فلمّا رآه ضحك ، و قال : قد قبلنا نصيحتك يا إسماعيل . . .

و يأتي كلام الناصر العباسي ٢ .

و أمّا قول أبي بكر في إظهاره الشكّ في احتضاره . فقد قال كما في ( خلفاء ابن قتيبة ) : « ليتني سألته ( أي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ) لمن هذا الأمر من بعده فلا ينازعه فيه أحد » ٣ فيقال له في قوله « ليتني سألته لمن هذا الأمر من بعده » ليت

ــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٦ : ٤٠٠ ، سنة ١٦٩ ، و النقل بتلخيص .

( ٢ ) الأغاني ٧ : ٢٤٣ ، و النقل بتلخيص .

( ٣ ) رواه ابن قتيبة في الإمامة و السياسة ١ : ١٩ ، و الطبري في تاريخه ٢ : ٦٢٠ ، سنة ١٣ ، و غيرهما .

٣٤

صاحبك خلاّه يقول ذلك ، لكن الرزية كلّ الرزية كما قال ابن عباس و كان كلّما ذكر ذلك قال ذلك و يبكي بكاء الثكلى منع صاحبك له عن ذلك مع أنّه يكفي في خزي اتباعه شكّ متبوعهم في أمر نفسه .

و روى محمّد بن يعقوب الكليني عن الأصبغ قال : قال أمير المؤمنين عليه السّلام : ما بال أقوام غيّروا سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ، و عدلوا عن وصيّه لا يتخوّفون أن ينزل بهم العذاب ؟ ثم تلا هذه الآية : ألم تر إلى الذين بدّلوا نعمة اللّه كفرا و أحلّوا قومهم دار البوار جهنّم ١ ثم قال : نحن النعمة الّتي أنعم اللّه بها على عباده ، و بنا يفوز من فاز يوم القيامة ٢ .

هذا . و في ( روضة المناظر ) : اتّفق الملك العادل أبو بكر أخو السلطان صلاح الدين ، و الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين على أخذ دمشق من الملك الأفضل علي بن صلاح الدين ، و حاصراه . فدخل أبو بكر من باب توما ،

و عثمان من باب العرج ، فسار علي إلى صرخد ، و كتب إلى الخليفة الناصر العباسي يشكو من عمّه و أخيه :

مولاي إنّ أبا بكر و صاحبه

عثمان قد أخذا بالجور حقّ علي

فانظر إلى حظّ هذا الأسم كيف لقي

من الأواخر ما لقى من الاوّل

فأجابه الخليفة الناصر العباسي :

غصبوا عليّا حقّه إذ لم يكن

بعد النبّي له بيثرب ناصر

فاصبر فإنّ غدا عليه حسابهم

و ابشر فناصرك الإمام الناصر ٣

« ينحدر » أي : ينهبط .

ــــــــــــــــ

( ١ ) إبراهيم : ٢٨ و ٢٩ .

( ٢ ) الكافي ١ : ٢١٧ ح ١ .

( ٣ ) روضة المناظر ٢ : ١٠٦ ، و النقل بتصرف في اللفظ .

٣٥

« عنّي السيل » من سال الماء .

« و لا يرقى » أي : لا يصعد .

« إلى الطير » شبّه عليه السّلام علوه المعنوي بجبل عال لا يقدر الطير من كثرة علوه أن يصعد إليه ، و قال الشاعر

« عال يقصّر دونه اليعقوب »

و اليعقوب ذكر الحجل ، و قال الأعشى :

في مجدل شيّد بنيانه

يزلّ عنه ظفر الطائر

و قال امرؤ القيس :

نيافا تزلّ الطير عن قذفاته

هذا ، و قال كعب الأشقري في فتح يزيد بن المهلّب قلعة نيزك بباد غيس و كانت في غاية الإرتفاع ، و كان نيزك يعظّمها حتّى إذا رآها سجد لها :

نفى نيزكا عن باد غيس و نيزك

بمنزلة أعيى الملوك أغتصابها

محلّقة دون السماء كأنّها

غمامة صيف زلّ عنها سحابها

و لا يبلغ الأروى شماريخها العلى

و لا الطير إلاّ نسرها و عقابها

و ما خوّفت بالذئب ولدان أهلها

و لا نبحت إلاّ النجوم كلابها

نقل الصدوق في ( معاني أخباره ) عن أبي أحمد العسكري قال : معنى قوله عليه السّلام « ينحدر عنّي السيل و لا يرقى إليّ الطير » أنّ الخلافة ممتنعة على غيري ، و لا يتمكّن منها ، و لا تصلح له ١ .

قلت : ما قاله إنّما هو معنى قوله عليه السلام قبل ذلك : « انّ محلي منها محلّ القطب من الرحى » و امّا هذا الكلام فمعناه علوّ مقامه بحيث لا يمكن لأحد أن يناله .

و علو مقامه هو أحد أسباب إعراض الناس عنه عليه السّلام ، قال أبو زيد

ــــــــــــــــ

( ١ ) معانى الاخبار : ٣٦٢ ، و علل الشرائع ١ : ١٥٢ .

٣٦

النحوي : قلت للخليل العروضي : لم هجر الناس عليّا عليه السّلام و قرباه ، من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قرباه ، و موضعه من الإسلام موضعه ؟ فقال : « و اللّه بهر نوره أنوارهم ، و غلبهم على صفو كلّ منهل ، و الناس إلى أشكالهم أميل . أما سمعت قول الأوّل :

و كلّ شكل لشكله ألف

أما ترى الفيل يألف الفيلا ؟ ١

و قال يونس النحوي أيضا قلت للخليل : ما بال أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كأنّهم بنو أمّ واحدة ، و علي كأنّه ابن علّة ؟ قال : تقدّمهم إسلاما ، و بذّهم شرفا و فاقهم علما ، و رجحهم حلما و كثرهم هدى فحسدوه ، و الناس إلى أمثالهم و أشكالهم أميل ٢ .

و في ( عيون المفيد ) : اتفق الناس على النقل عن أمير المؤمنين عليه السّلام رجزه في صفّين :

أنا علي صاحب الصمصامة

و صاحب الحوض لدى القيامة

أخو نبي اللّه ذي العلامة

قد قال إذ عمّمني العمامة

أنت أخي و معدن الكرامة

و من له من بعدي الإمامة ٣

و كيف لا يكون مقامه عليه السلام بذالك الشموخ ، و كتاب اللّه تعالى في تنزيله جعله نفس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و النبي صلّى اللّه عليه و آله جعل في المتواتر عنه يوم احد لمّا قال جبرئيل عليه السلام له صلّى اللّه عليه و آله تعجبا من حمايته عليه السّلام عنه صلّى اللّه عليه و آله نفسه منه عليه السّلام فقال صلّى اللّه عليه و آله لجبرئيل : « كيف لا يواسيني علي ، و هو منّي و أنا منه » كما جعل جبرئيل نفسه منه عليه السّلام كما جعلها منه صلّى اللّه عليه و آله فقال للنبي صلّى اللّه عليه و آله بعد

ــــــــــــــــ

( ١ ) رواه الصدوق في علل الشرائع ١ : ١٤٥ ح ١ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) رواه السروي في مناقبه ٣ : ٢١٣ ، و السائل هنا ايضا ابو زيد .

( ٣ ) رواه عنه الشريف المرتضى في الفصول المختاره ٢ : ٢٣٤ .

٣٧

كلامه ذاك « و أنا منكما » ١ .

« فسدلت » أي : أرخيت .

« دونها » أي : دون الخلافة .

« ثوابا » و الكلام كناية عن إعراضه عنها ، كمن يضرب الحجاب بينه و بين من يعرض عنه .

و في ( إيضاح الفضل ) : قال المأمون لفقهاء العامة : قال عليّ عليه السّلام : قبض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ، و أنا أولى بمجلسه مني بقميصي ، و لكنّي أشفقت أن يرجع الناس كفّارا ٢ .

« و طويت عنها كشحا » قال ابن أبي الحديد : أي : حرمتها قالوا : لأنّ من كان إلى جانبك الأيمن مثلا فطويت كشحك الأيسر فقد ملت عنه و الكشح ما بين الخاصرة و الجنب . و عندي انّهم أرادوا غير ذلك ، و هو أنّ من أجاع نفسه . فقد طوى كشحه كما أنّ من أكل و شبع فقد ملأ كشحه ، فكانّه أراد انّي اجعت نفسي عنها و لم ألتهمها ٣ .

قلت : إنّما يجي‏ء « طوى بطنه » بمعنى الجوع كما في الخبر « و اترك أهل الصفّة تطوى بطونهم » ٤ و أما « طوى كشحه » فلا يجي‏ء إلاّ بمعنى الإعراض إذا عدي بعن كما في كلامه عليه السّلام ، أو بتقديرها كما في قول الشاعر :

أخ قد طوى كشحا

و أبّ ليذهبا

و قال آخر :

و صاحب لي طوى كشحا فقلت له

إنّ انطواءك هذا عنك يطويني

ــــــــــــــــ

( ١ ) رواه جمع كثير منهم ابن هشام في السيرة ٣ : ٤٣ ، و الكليني في الكافي ٨ : ١١٠ ح ٩٠ ، غيرهما .

( ٢ ) لم يوجد في الايضاح ، بل رواه الصدوق في عيون الاخبار ٢ : ١٨٦ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ١ : ٥٠ .

( ٤ ) النهاية ٣ : ١٤٦ ، مادة ( طوي ) .

٣٨

و أمّا إذا عدّي بعلى فبمعنى الإخفاء كما قال زهير في حصين بن ضمضم في حرب داحس و الغبراء .

و كان طوى كشحا على مستكنّة

فلا هو أبداها و لم يتجمجم

و في ( اللسان ) : أراد « بالمستكنّة » عداوة أكنّها في ضميره ١ .

و بالجملة قوله عليه السّلام : « و طويت عنها كشحا » كقوله عليه السّلام : « و سدلت دونها ثوبا » ، كناية عن إعراضه عليه السلام عن الخلافة و تصدّي الأمر ، و ابن أبي الحديد خلط بين طيّ البطن و طيّ الكشح .

ثم طيّ الكشح لا يختصّ بمن كان على أيمنك فطويت أيسرك عنه كما قال ابن أبي الحديد بل يجي‏ء للعكس أيضا بل قوله : فطويت أيسرك عنه غير صحيح . فمن كان على أيمنك تطوى أيمنك أولا عنه إذا أعرضت عنه ، و بطيّ الأيمن يحصل طي الأيسر .

ثم انّه عليه السّلام أعرض عن الخلافة ، و سدل دونها ثوبا ، و طوى عنها كشحا لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أخبره بكيفيّة معاملة الناس معه عليه السّلام بعده فقال له « انّ الامّة ستغدر بك بعدي » ٢ .

و روي انّ الأشعث بن قيس قاله له : ما منعك يا ابن أبي طالب حين بويع أخو بني تيم ، و أخو بني عدي ، و أخو بني أميّة أن تقاتل و تضرب بسيفك ، و أنت لم تخطبنا خطبة مذ كنت قدمت العراق إلاّ قلت فيها قبل أن تنزل عن المنبر « و الله إنّي لأولى الناس ، و ما زلت مظلوما مذ قبض رسول الله » فما يمنعك أن تضرب بسيفك دون مظلمتك ؟

قال : يا ابن قيس إسمع الجواب . لم يمنعني من ذلك الجبن ، و لا كراهة

ــــــــــــــــ

( ١ ) لسان العرب ١٥ : ١٩ ، مادة ( طوي )

( ٢ ) أخرجه الحاكم في المستدرك ٣ : ١٤٠ و ١٤٢ ، و الثقفي ، و عنه تلخيص الشافي ٣ : ٥٠ ٥١ ، و جمع آخر غيرهما .

٣٩

للقاء ربيّ ، و لكن منعني من ذلك أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و عهده إليّ . أخبرني بما الامّة صانعة بعده . فلم أك بما صنعوا حين عاينته بأعلم به ، و لا أشدّ استيقانا منّي به قبل ذلك . فقلت : يا رسول الله ، فما تعهد إليّ إذا كان ذلك ؟ قال : إن وجدت أعوانا فانبذ إليهم و جاهدهم ، و إن لم تجد أعوانا . فكفّ يدك ، و احقن دمك حتى تجد على إقامة الدين و كتاب الله و سنّتي أعوانا ، و أخبرني أنّ الامة ستخذلني و تبايع غيري ، و أخبرني أنّي منه بمنزلة هارون من موسى ، و أنّ الامّة سيصيرون بعده بمنزلة هارون ، و من تبعه ، و العجل و من تبعه إذ قال له موسى : يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلّوا ألاّ تتّبعن أفعصيت أمري قال يا ابن ام لا تأخذ بلحيتي و لا برأسي إنّي خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل و لم ترقب قولي ١ الخبر ٢ .

و لم يحضر عليه السّلام السقيفة كما حضروا لأمرين :

أحدهما : انّه كان مشتغلا بدفن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فكانوا يقولون له عليه السّلام بعد سماع احتجاجه عليهم : « لو سمعت الأنصار كلامك قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلفت عليك » فكان عليه السّلام يقول : « أ فكنت أدع رسول الله صلّى اللّه عليه و آله في بيته لم أدفنه ،

و أخرج أنازع الناس بسلطانه » ٣ .

و الثاني : أنّ الإمام بمنزلة الكعبة يجب على الناس أن يأتوها لا أن تأتيهم هي .

« و طفقت » طفق : من أفعال الشروع قال تعالى : و طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنّة ٤ .

ــــــــــــــــ

( ١ ) طه : ٩٢ .

( ٢ ) رواه سليم بن قيس في كتابه : ١٢٦ و ١٢٧ .

( ٣ ) رواه الجوهري في السقيفة : ١ ، و ابن قتيبة في الامامة و السياسة ١ : ١٢ ، و النقل بالمعنى .

( ٤ ) الاعراف : ٢٢ .

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

٦ - عبد الرحمن بن أحمد الدشني الحنفي.

٧ - عبد الوهاب الشعراني في كتابه «عقائد الأكابر».

٨ - عطاء اللّه بن غياث الدين في كتابه «روضة الأحباب في سيرة النبي والآل والأصحاب».

٩ - محمد بن محمد البخاري المعروف بخواجة بارسا الحنفي في كتابه «فصل الخطاب».

١٠ - العارف عبد الرحمن في كتابه «مرآة الأسرار».

١١ - الشيخ حسن العراقي.

١٢ - أحمد بن إبراهيم البلاذري في «الحديث المتسلسل».

١٣ - عبد اللّه بن أحمد المعروف بابن الخشاب في كتابه «تواريخ مواليد الأئمة ووفياتهم».

هذي هي مسألة المهدي المنتظر عرضناها على العقل فلم ينكرها، وعلى القرآن الكريم فوجدنا لها اشباهاً ونظائر، وعلى سنة الرسول فكانت هي المصدر الأول، وعلى علماء السنة فألفيناهم مجمعين عليها، ومنهم هؤلاء الذين قالوا: إنه ولد، وإنه حي إلى أن يأذن اللّه، فأين مكان الغرابة والخرافة في قول الإمامية ؟!

وكأني بقائل: ما لك ولهذي الموضوعات التي أكل الدهر عليها وشرب ؟ أليس من الأجدر والأليق بك، وبالصالح العام أن تعرض عن هذه إلى أوضاعنا وضياعنا، إلى الحديث عن الحلول لما نعانيه من مشاكل وآلام.

قلت: أجل، واللّه. نحن في أشد الحاجة إلى الأفعال لا إلى الأقوال. إلى السكوت عما مضى وكان، والاهتمام بما هو كائن ويكون. ولكن ماذا نصنع ؟ ونحن نقرأ بين الحين والحين كتاباً أو مقالاً يكفر الملايين، ويطعنها في أقدس مقدساتها، وينعتها بالجهل والسخف، وأنها لا تصلح للحياة ولا لشيء إلا للسخرية والاستهزاء، وأن التشيع الذي تتمذهب به لا يعد من المذاهب الإسلامية في شيء وإنما هو دين ابتدعه أعداء الإسلام، وخصوم الإنسانية ؟!

ماذا نصنع ؟ هل يجب أن نسكت ونتغاضى عن هذه الهجمات والحملات ؟ هل يحرم علينا الدفاع عن النفس، وبيان الحقيقة، وإبطال التهم الكاذبة التي تزاداد وتتفاقم بالتجاهل والإغضاء ؟! ثم هل يجتمع شمل المسلمين، وتتحد كلمتهم بهذه النزوات والضلالات، أو بإثبات أن ما قاله الإمامية في المهدي وغير المهدي هو من الإسلام في الصميم. وهذي هي المهمة التي يضطلع بها هذا الكتاب.

٨١

الإسلام والإيمان:

الإسلام في اللغة هو التسليم والانقياد ظاهراً، سواء أطابق الواقع أم خالفه، والإيمان هو التصديق في القلب، سواء أأعلنه المؤمن أم أسره.

أما في الشرع فالإسلام هو الإقرار بالشهادتين، أما الايمان فلا بد من إضافة أمور أخرى إلى الإقرار، وهي إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج إلى بيت اللّه الحرام، وفي بعض الأحاديث الإيمان إقرار باللسان، وتصديق في الجنان، وعمل بالأركان، وفي بعضها الآخر الإيمان عمل كله(١) - إذن - الإسلام أعم، والإيمان أخص، فكل مؤمن مسلم، ولا عكس، فقد يكون الإنسان مسلماً حكماً، ولا يكون مؤمناً واقعاً، وهذا ما قاله فخر الدين الرازي عند تفسير قوله تعالى: «وقالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم - ١٤ الحجرات» وقوله تعالى: «فما وجدنا فيها

_____________________

(١) العمل أثر للإيمان، ومسبب عنه، فاطلاق العمل عليه فيه ضرب من التجوز، ولست اتصور بحال ان من لا يعمل يكون مؤمناً، وان خيل إليه، وإلى الفقهاء بأنه مؤمن متهاون.

٨٢

غير بيت من المسلمين - ٣٦ الذاريات».

وبهذا يتبين أن قول النبي بني الإسلام على خمس أراد به الإسلام الخاص المتحد مع الإيمان المستلزم للعمل، والعام كثيراً ما يطلق، ويراد به الخاص.

التشيّع في ثَلاث مَراحِل

قدمنا في الصفحات السابقة أن قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «من كنت مولاه فعلي مولاه» هو السبب الأول لقول من قال بأحقية علي بالخلافة، وأن قوله «علي مع الحق والحق مع علي» سبب للقول بعصمته، وأن قوله «يخرج المهدي ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً» سبب للقول بالمهدي المنتظر، حيث لا يسع المسلم بما هو مسلم أن يتجاهل أقوال نبيه الكريم التي رواها الثقات، وأثبتها أصحاب الصحاح في صحاحهم.

ولكن هذه الأحاديث، وما إليها لا تؤتي ثمارها، ولا تعمل عملها بدون دعاة وحماة يبينونها للناس، ويعملون على بثها ونشرها. فمن هم الذين دعوا إلى التشيع؟ وما هي الأساليب التي استعملوها لبثه ونشره؟

والجواب عن هذا السؤال يستوعب كتاباً ضخماً، لأن رواد التشيع والذابين عنه لا يبلغهم الإحصاء، ولكن نستطيع أن نقسم الدعوة إلى التشيع باعتبار الأدلة التي كان يعتمدها الدعاة إلى ثلاثة أدوار: ويبدأ الدور الأول بوفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وينتهي بانتهاء العصر الأموي. ويبدأ الثاني بعهد الإمام الصادق، أي بأول العهد العباسي. ويمتد إلى عصر الشيخ المفيد المتوفى سنة ٤١٣ هجري، وينتهي هذا الدور بالعلامة الحلي (ت ٧٢٦هجري) الذي وضع أجوبة الشبهات ونقضها بشتى أنواعها في وضعها النهائي، ولم يدع فيها زيادة لمن جاء بعده، ونذكر من كل دور أفراداً - على سبيل المثال لا الحصر - كان لهم الأثر البالغ في بث التشيع ونشره.

الدور الأول:

إن انتشار الإسلام وامتداده إلى شرق الأرض وغربها لا يستند إلى الفتوحات

٨٣

الإسلامية، وقوة المسلمين فحسب(١) وإنما يستند أولاً وقبل كل شيء إلى مبادئه الإنسانية، وشريعته السهلة السمحة، ولولاها لم يكتب له النجاح والبقاء، حتى اليوم، وإلى آخر يوم، وكذلك مبدأ التشيع فإنه مدين في نجاحه واستمراره إلى كتاب اللّه وسنة الرسول، لا إلى هيئة من الهيئات، أو فرد من الأفراد، فمن دعا إليه تسلح بكتاب اللّه وسنة نبيه، ومن اعتنقه اعتنقه طاعة للّه ورسوله. ومن هنا اعتمد دعاة التشيع أول ما اعتمدوا على ما جاء في كتاب اللّه سبحانه بحق

علي خاصة، كقوله تعالى «إنما وليّكم اللّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون - ٥٥ المائدة» وغيرها من الآيات التي بحق علي خاصة، كقوله تعالى «إنما وليكم اللّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون - ٥٨ المائدة» وغيرها من الآيات التي ذكرناها في كتاب «علي والقرآن»، واعتمدوا على ما نزل في أهل البيت عامة، كآية التطهير، وآية المودة، وآية المباهلة، وعلى الأحاديث النبوية، كحديث الغدير، وحديث المنزلة، وحديث مدينة العلم، وحديث المؤاخاة، وما إليه وإذا تعدوا الآيات والأحاديث فإلى فضائل الإمام، كزهده، وعلمه، وشجاعته، وسبقه إلى الإسلام، وجهاده، وتصلبه في جانب اللّه.

وكانت مظاهر التشيع في هذا الدور غاية في الوضوح، غاية في البساطة، فلا عيد غدير، ولا شهادة أن علياً ولي اللّه في الأذان، لا شيء سوى الإيمان بأن الخلافة بعد الرسول حق إلهي لعلي بن أبي طالب، وكان أول من أعلن هذا الحق ودعا إليه السيدة فاطمة أم الحسنين أعلنته في خطبتها الأولى بالمسجد الجامع، وفي خطبتها الثانية ببيتها على نساء المهاجرين والأنصار، وقد أبنا ذلك في كتاب مع «بطلة» كربلاء وقلنا: إن الغاية الأولى من كلتا الخطبتين أن تعلن للأجيال حق بعلها في خلافة أبيها، وإن المطالبة بفدك كانت وسيلة لهذه الغاية.

______________________

(١) لم تكن الغاية من تلك الفتوحات التبشير بالإسلام، والدعوة إلى اللّه - فيما نعتقد - وإنما كانت من أجل سيطرة المسلمين، وامتداد سلطانهم وايجاد أرض يعيشون فيها أغنى من أرضهم، وتربة أخصب من تربتهم. ولكن عظمة الإسلام بشرت بنفسها لنفسها في جميع أدوار التاريخ، بخاصة في هذا العصر الذي ينهش المسلمون بعضهم بعضاً، وبصورة أخص حكامهم الذين أعانوا قوى الشر والعدوان عليهم وعلى دينهم وبلادهم، ولولا ما في الإسلام من قوة ومناعة لكان المنتمون إليه من أقوى عوامل القضاء عليه.

٨٤

أجل، منذ اليوم الأول لفاجعة كربلاء، والشيعة يتوافدون إلى زيارة قبر الحسين، ويقيمون المآتم الحسينية، وإن لم تكن على الشكل الذي عليه الآن، وأول من زار الضريح المقدس الصحابي المعروف جابر بن عبد اللّه الأنصاري، مع جماعة من الشيعة، وأول من رثاه أبو باهل الجمحي، قال كرد علي في الجزء السادس من كتاب «خطط الشام» ص ٢٥٦ طبعة ١٩٢٨:

«تجتمع الشيعة في أيام عاشوراء، فتقيم المآتم على الحسين بن علي شهيد كربلاءعليه‌السلام ، وعهدهم بذلك بعيد يتصل بعصر الفاجعة، وأول من رثاه أبو باهل الجمحي بقصيدة يقول فيها:

تبيت النشاوى من أمية نوماً

وبالطف قتلى ما ينام حميمها

والظاهر من سيرة ديك الجن الحمصي في كتاب «الأغاني» أن هذه الاجتماعات للمآتم كانت معروفة في زمانه. ثم أن بني بويه أيام دولتهم عنوا بها مزيد العناية، ولا تزال إلى اليوم تقام في جميع أقطار الشيعة، وليست هي من الفروض، كما يتوهم، بل يستحبونها، لأنها تصدر عن ولاء ومحبة. وقد تطرف بعض العجم، فأبدعوا فيها بدعاً يمقتها اللّه والناس، من ضرب أنفسهم بالمدى، وإسالة الدماء على أثوابهم، وعمل ما يسمونه الشبيه، وقد مقته العلماء من الشيعة، ولم تذعن لهم به العامة في كثير من البلدان التي استحكمت فيها هذه العادة».

ومن الدعاة الأول للتشيع جميع بني هاشم، وعلى رأسهم العباس عم الرسول، وكثير من الأصحاب، وقد ذكرنا أسماءهم فيما سبق، وكان أشهرهم وأكثرهم حماساً أربعة: سلمان، وأبو ذر، وعمار، والمقداد، فقد أولوا الدعاء لعلي اهتماماً بالغاً، وعناية خاصة، ونظروا إلى خلافته كركن من أركان الإسلام، وشرط لقوة المسلمين واجتماع شملهم، وتوحيد كلمتهم، ولم يشكوا لحظة في أن انصرافها عن علي إلى غيره مخالفة صريحة لنصوص الكتاب والسنة، ومعصية اللّه ورسوله.

سلمان الفارسي:

وكان سلمان من رؤوس أصحاب رسول اللّه، وأثنى عليه النبي بأحاديث

رواها السنة والشيعة، منها «سلمان منا أهل البيت» وقد نظم هذا الحديث أبو فراس الهمداني بقوله:

كانت مودة سلمان لهم رحما

ولم تكن بين نوح وابنه رحم

وهو الذي أشار على النبي بحفر الخندق في وقعة الأحزاب، وكان أميراً على زهاء ثلاثين ألفاً من المسلمين في المدائن، وكان يخطب الناس في عباءة يفترش بعضها، ويجعل البعض الآخر غطاء.

٨٥

وكان لا يأكل إلا من عمل يده، وإذا خرج عطاؤه، وهو خمسة آلاف، فرقه بكامله، وقال حين توفي الرسول: «أيها الناس قدموا من هو أقرب إلى رسول اللّه، وأعلم بكتاب اللّه، وسنة نبيه، ومن قدمه النبي في حياته، وأوصاكم به عند وفاته. ألا إن لكم منايا تتبعها بلايا، وإن عند علي بن أبي طالب علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب». توفي سلمان بالمدائن سنة ٣٦ هجري. وكتبت له ترجمة مطولة في كتاب «مع علماء النجف».

أبو ذر:

أبو ذر الصحابي الجليل الذي قال فيه النبي: «ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر، يعيش وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده، ويدخل الجنة وحده» وكان رابع المسلمين أو خامسهم، وقد نفي وشرد ونكل به، لإيمانه وإخلاصه، وقال حين بويع أبو بكر: «يا معشر قريش: تركتم قرابة رسول اللّه، واللّه ليرتد جماعة من العرب، ولتشكن في هذا الدين، ولو جعلتم الأمر في أهل بيت نبيكم ما اختلف عليكم سيفان، واللّه لقد صارت لمن غلب، ولتطمحن إليها عين من ليس من أهلها، وليسفكن في طلبها دماء كثيرة. إن علياً هو الصديق الأكبر، وهو الفاروق بعد رسول اللّه يفرق بين الحق والباطل، وهو يعسوب الدين، والمال يعسوب الظلمة». مات أبو ذر طريداً منفياً سنة ٣٢ هجري. وتكلمت عنه مطولاً في كتاب «مع علماء النجف».

عمار بن ياسر:

من السابقين الأولين، هاجر الهجرتين: إلى الحبشة والمدينة، وصلى القبلتين، وشهد بدراً وأحداً، وبيعة الرضوان، وجميع المشاهد مع رسول اللّه، وأسلم عمار وأخوه عبد اللّه، وأبوه ياسر، وأمه سمية حين كان المسلمون مستضعفين في مكة، فكانت قريش تأخذ ياسراً وزوجته سمية، وولديهما عماراً وعبد اللّه، وتلبسهم أدراع الحديد، وتلقيهم في الشمس، حتى يبلغ منهم الجهد كل مبلغ، وربطت قريش سمية بين بعيرين، وطعنها أبو جهل في قلبها، فقتلها، وهي تأبى إلا الإسلام، وقتلوا زوجها ياسراً، فكانا أول شهيدين في الإسلام.

وجاءت في مدح عمار أحاديث كثيرة، منها قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عمار جلدة بين عيني، ومنها: ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ، ويدعونه إلى النار، ومنها: كم ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على اللّه لأبر قسمه، منهم عمار، إلى غير ذلك، وقال يوم البيعة لأبي بكر: «يا معشر قريش ويا معشر المسلمين إن أهل بيت نبيكم أولى به - أي بالنبي - وأحق بأثره، وأقوم

٨٦

بأمور الدين، وأحفظ لملته، وأنصح لأمته، فردوا الحق إلى أهله قبل أن يضرب حبلكم، ويضعف أمركم، ويظهر شتاتكم، وتعظم الفتنة بكم، ويطمع فيكم عدوكم، فقد علمتم أن بني هاشم أولى بهذا الأمر منكم، وعلي أقرب إلى نبيكم، وهو من بينكم وليكم بعهد اللّه ورسوله».

وحضر عمار مع الإمام حرب الجمل وصفين، وفيها استشهد وكانت سنة ٣٧ هجري، ومن أقواله يوم صفين:

سيروا إلى الأحزاب أعداء النبي

سيروا فخير الناس أتباع علي

هذا أوان طاب سل المشرقي

وقودنا الخيل وهز السمهري

المقداد:

كان من السابقين إلى الإسلام، وحضر بدراً مع رسول اللّه، وسائر المشاهد، وحين شاور النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه في وقعة بدر قال له المقداد: لا نقول لك ما قال بنو إسرائيل لموسى «فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون» بل نقول: لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضى وشوك الهراس لخضناه معك». وقال الإمام الصادق: لم يتغير المقداد منذ قبض رسول اللّه، حتى فارق الدنيا طرفة عين. وقال لعلي يوم السقيفة: إن أمرتني لأضربن بسيفي، وإن أمرتني كففت. فقال له: أكفف.

وقال يوم بويع عثمان: «وا عجباً من قريش، واستئثارهم هذا الأمر من أهل البيت معدن الفضيلة، ونجوم الأرض، ونور البلاد، وأن منهم رجلاً - أي علياً - ما رأيت بعد رسول اللّه أولى بالحق ولا أقضى بالعدل والأمر بالمعروف منه». مات في خلافة عثمان بن عفان،وحضر جنازته، وأثنى عليه، فأنشد الزبير:

لا ألفينك بعد الموت تندبني

وفي حياتي ما زودتني زادا

فقال عثمان: يا زبير تقول هذا؟! أتراني أحب أن يموت مثل هذا من أصحاب رسول اللّه، وهو علي ساخط؟!

٨٧

ومن رؤوس الدعاة في هذا الدور حجر بن عدي، وميثم التمار، وكميل بن زياد، وعمر بن الحمق، ورشيد الهجري، وجويرية بن مسعد العبدي، وجمعيهم قتلوا على التشيع، ومنهم أيضاً سليمان بن صرد الخزاعي الذي استشهد في ثورته على قتلة الإمام سيد الشهداء، ومنهم مالك الأشتر، ومحمد بن أبي بكر، وقيس بن سعد، والمسيب بن نجية، وغيرهم كثير، وقد ازدادوا وكثروا بعد وقعة الطف.

وبديهة أن قوة الدعوة وضعفها يدوران على الظروف والمناسبات، ومن هنا كانت الدعوة بطيئة جداً في عهد الخليفتين أبي بكر وعمر، وسريعة في عهد الخليفة الثالث، لأن سيرة عثمان أعانت على نجاح الدعوة إلى التشيع، ومكنت لها في النفوس، ومضى التشيع قدماً في خلافة الإمام علي، وفي حكم معاوية، ولم تعقه المذابح والفظائع عن التقدم، بل على العكس زادته قوة وانتشاراً بخاصة حادثة كربلاء، قال الدكتور طه حسين في كتاب «علي وبنوه»: «عظم أمر الشيعة في الأعوام الأخيرة من حكم معاوية، وانتشرت دعوتهم أي انتشار في شرق البلاد الإسلامية، وفي جنوب بلاد العرب، ومات معاوية حين مات، وكثير من الناس، وعامة أهل العراق بنوع خاص يرون بغض بني أمية، وحب أهل البيت لأنفسهم ديناً».

وقال المستشرق فلهوزن يصف جيش التوابين الذي تجمع للأخذ بثارات الحسين، قال: «وكانوا مدفوعين بدافع الضمير الديني لا العواطف»(١) .

_____________________

(١) كتاب «الخوارج والشيعة» ص ١٨٩ طبعة سنة ١٩٥٨

٨٨

ويظهر من كلام السيد محسن الأمين أن الشيعة في هذا الدور كان يطلق عليهم اسم الشيعة، واسم العلويين معاً، ثم اختفى اسم العلويين في عهد العباسيين، وبقى اسم الشيعة، قال في القسم الأول من الجزء الأول ص ١٢ سنة ١٩٦٠:

«وعن كتاب الزينة تأليف أبي حاتم سهل بن محمد السجستاني المتوفى سنة ٢٠٥ هجري. أن لفظ الشيعة على عهد رسول اللّه كان لقب أربعة من الصحابة: سلمان الفارسي، وأبي ذر، والمقداد بن الأسود، وعمار بن ياسر «١هجري» ثم بعد مقتل عثمان وقيام معاوية وأتباعه في وجه علي، وإظهار الطلب بدم عثمان، واستمالته عدداً عظيماً إلى ذلك صار أتباعه يعرفون بالعثمانية، وهم من يوالون عثمان، ويبرؤون من علي. وصار أتباع علي يعرفون بالعلوية، مع بقاء إطلاق اسم الشيعة عليهم، واستمر ذلك مدة ملك بني أمية، وفي دولة بني العباس نسخ اسم العلوية والعثمانية، وصار في المسلمين اسم الشيعة، واسم السنة إلى يومنا هذا».

وبالتالي فإن دعاة التشيع الذين عملوا وناضلوا لبثه ونشره في هذا الدور اعتمدوا أول ما اعتمدوا على عظمة الإمام، وفضائله، وعلى ما نزل في مدحه والثناء عليه من الآيات القرآنية، وما ثبت من الأحاديث النبوية، وكانت خصائص الإمام وسجاياه والميزات التي يتمتع بها أداة فعالة لانتشار المذهب، فلقد مهدت الطريق للمبشرين، وفتحت الباب واسعاً أمامهم ولم يكونوا بحاجة الى الكذب ووضع الأخبار والأحاديث على لسان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما فعل غيرهم حين أراد أن يقاتل كل فضيلة ثبتت لعلي بفضيلة مفتعلة لأبي بكر وعمر وعثمان. كقول من قال: إن حديث «أنا مدينة العلم وعلي بابها» لا يعرفه على التمام إلا من كان في صدر الإسلام، لأن النبي قال: «أنا مدينة العلم، وأبو بكر أساسها، وعمر حيطانها، وعثمان سقفها، وعلي بابها»(١) .

المختار:

ظهر المختار بن أبي عبيد الثقفي في هذا الدور، لأنه ولد في السنة الأولى من هجرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان فطناً ذكياً. قتل أبوه في إحدى المعارك، وهو ابن

___________________________

(١) اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي ج ١ ص ٣٣٦

٨٩

ثلاثة عشر عاماً، فانضم إلى عمه سعد بن مسعود، وكان عمه هذا من أصحاب الإمام علي بن أبي طالب، وحضر معه وقعة الجمل وصفين، وولاه الإمام على المدائن.

ولا يحدثنا التاريخ بشيء عن حياة المختار في خلافة الإمام، ولا في عهد معاوية بن أبي سفيان، سوى ما قيل: إن معاوية حين ولى المغيرة بن شعبة على الكوفة تركها المختار، حتى أتى المدينة المنورة. وحين هلك معاوية، وقام ولده يزيد كان المختار في الكوفة، ولما دخلها مسلم بن عقيل سفيراً للحسين نزل في بيت المختار، واختلفت الشيعة إليه في هذا البيت، فقبض ابن زياد على المختار، وضرب وجهه بالسوط، حتى أدماه، وأصاب عينه فقشرها، ثم ألقي به في السجن، وبقي فيه، حتى انتهت كارثة كربلاء، فاستشفع به صهره زوج أخته عبد اللّه بن عمر عند يزيد، فأطلق سراحه، وترك الكوفة متوجهاً إلى الحجاز.

وبعد أن هلك يزيد، ودعا ابن الزبير إلى نفسه بايعه المختار، مع علمه بأنه عثماني العقيدة. وعاد المختار بعد هذه البيعة إلى الكوفة. «وجعل يظهر البكاء على الطالبيين وشيعتهم، والحنين والجزع، ويحث على أخذ الثأر لهم، والمطالبة بدمائهم، فمالت إليه الشيعة، وسار إلى قصر الإمارة، وأخرج الوالي ابن مطيع، وغلب على الكوفة، وابتنى لنفسه داراً، واتخذ بستاناً أنفق عليه أموالاً عظيمة، أخرجها من بيت المال. وكتب إلى ابن الزبير أن يحسب له بما أنفقه من بيت المال، فأبى ابن الزبير، فخلع المختار طاعته، وجحد بيعته.

وكتب كتاباً إلى علي بن الحسين يريده على أن يبايع له، ويقول بإمامته، ويظهر دعوته، وأنفذ إليه مالاً كثيراً، فأبى علي أن يقبل ذلك، أو يجيبه على كتابه، وسبه على رؤوس الملأ في مسجد رسول اللّه، وأظهر كذبه وفجوره، ودخوله على الناس بإظهار الميل إلى أبي طالب، ولما يئس المختار منه كتب إلى محمد بن الحنفية يريده على مثل ذلك، فأشار عليه علي بن الحسين أن لا يجيبه إلى شيء. (المسعودي ج ٣ ص ٨٣ سنة ١٩٤٨).

وبعد أن استقل المختار بالكوفة أخذ يطارد قتلة الحسين، ويقتلهم الواحد تلو الآخر تلبية لرغبات الشيعة الذين صمموا على الأخذ بالثأر، والانتقام من

كل من اشترك في موقعة كربلاء، بخاصة الأشراف، والرؤوس الكبار، وقد هرب جماعة من هؤلاء إلى البصرة خوفاً من نقمة الجماهير، منهم شبث بن ربعي، ومحمد بن الأشعث، أما عمر بن سعد فبقي بالكوفة بأمان من المختار.

وفي سنة ٦٦ هجري أرسل عبد الملك بن مروان جيشاً للاستيلاء على العراق بقيادة عبيد اللّه بن زياد، فأرسل له المختار جيشاً بقيادة إبراهيم بن الأشتر، فالتقيا بالموصل، فدارت الدائرة على

٩٠

جيش الأمويين، وقتل ابن زياد، والحصين بن نمير، وجماعة من أشراف أهل الشام، فقويت شوكة المختار في الكوفة، واشتد أمره، وفي مستهل سنة ٦٧ أنفذ عبد اللّه بن الزبير أخاه مصعباً والياً على البصرة، فحرضه أشراف الكوفة الذين هربوا من المختار على حربه وانتزاع الكوفة منه، فأجابهم، وكان أصحاب المختار قد انقسموا على أنفسهم، وأصبحوا فئتين متباغضتين عرباً وموالي، فأوقع بهم مصعب شر إيقاع، وقتل المختار، «وكان من جملة من أدركه الإحصاء ممن قتله مصعب مع المختار سبعة آلاف رجل، كل هؤلاء طالبون بدم الحسين، وقتلة أعدائه. وتتبع مصعب الشيعة بالقتل بالكوفة وغيرها». (المسعودي ج ٣ ص ١٠٧).

وبعد مقتل المختار كثرت عليه الأقاويل، وحيكت حوله الأساطير، ونسب إليه ادعاء النبوة ونزول الوحي، وأنه كان يطلق الحمامات البيض حين تقوم المعركة بينه وبين خصومه يوهم أنصاره أنها ملائكة أرسلها اللّه لنصرته، وأنه ابتدع القول بالبداء، إلى غير ذلك. ونحن نستبعد هذه النسب، ونظنها من وضع الأمويين والزبيريين الذين جرت بينهم وبين المختار حروب طاحنة، قال المستشرق فلهوزن في كتاب «الخوارج والشيعة» ص ٢٣٤ سنة ١٩٥٨:

«لما مني المختار بالهزيمة أدبرت عنه الدنيا، وراحت الروايات تطلق سهامها على ذكراه بعد مقتله، في البدء كانت تذمه دون تشوه صورته، ولكنها راحت بعد ذلك في مرحلة متأخرة تنعته بنعوت أملاها الحقد، وهذه النعوت نفسها هي تسود الصورة التي كونتها عنه الأجيال التالية». وقال الأهواني في كتاب «في عالم الفلسفة» ص ٧٨: «إن كثيراً مما نسب إلى المختار موضوع للتشنيع عليه».

واختلف علماء الإمامية في أمر المختار، فمنهم من لم يثق بدينه وإخلاصه، لأن الإمام السجاد ذمه وتبرأ منه، ومنهم من مدحه وأثنى عليه - وهم الأكثر الأشهر - لأن اللّه سبحانه استجاب دعوة الإمام، وقتل قتلة الحسين على يده، ومنهم من توقف، ولم يحكم عليه بشيء.

وقبل أن أكتب هذه الكلمات راجعت سيرته فيما لدي من المصادر، وبقيت معه ثلاثة أيام بلياليها، وانتهى بي البحث إلى الميل إلى أن الرجل كان من طلاب الحكم، وعشاق الإمارات، وأنه بايع ابن الزبير طمعاً أن يوليه الكوفة، ولما يئس منه انتقض عليه، وحين اجتمع حوله الناس أخذ البيعة لنفسه، أما طلبه لثأر الحسين (ع) فكان لمجرد الدعاية، لأن الجماهير كانت تريد ذلك، ولولاها لسكت وأحجم، وعلى الأقل لم يفعل ما فعل، بدليل أنه أعطى الأمان لعمر بن سعد بطل المأساة في كربلاء، ولم يبطش به - فيما أعتقد - إلا بضغط الجماهير، ومضايقتهم له، فقد تجاوز الحماس للأخذ بالثأر كل حد، والتهبت المشاعر حقداً وغيظاً على قتلة الحسين، حتى أن

٩١

النسوة كانت توشي بأزواجهن الذين اشتركوا في مأساة كربلاء، ولم يستطع المختار كبح الجماح، حتى ولو حاول ذلك، هذا، إلى أنه كان في أشد الحاجة إلى مؤازرتهم ومناصرتهم بعد أن أحاطت به قوى الزبيريين والأمويين من كل جانب. إذن لم يستطع المختار إلا أن يفعل ما فعل. والذي طالب بدم الحسين حقاً، وبدافع من دينه وإخلاصه هو سليمان بن صرد الخزاعي ومن كان معه، ولذا انضم إليه كثير من القراء وأهل المعرفة، أما الغوغاء فكانت مع المختار.

ورغم ذلك كله فإني أقول مع العلامة المجلسي صاحب البحار: «إنه - أي المختار - وإن لم يكن كاملاً في الإيمان واليقين، ولا مأذوناً فيما فعله صريحاً من أئمة الدين، لكن كما جرى على يده الخيرات الكثيرة، وشفى بها صدور قوم مؤمنين كانت عاقبة أمره إلى النجاة».

وكفاه شفيعاً قول الإمام السجاد حين رأى رأس ابن سعد: «الحمد للّه الذي أدرك لي ثأري من أعدائي، وجزى اللّه المختار خيراً». وقول الإمام الصادق: «ما امتشطت فينا هاشمية، ولا اختضبت، حتى بعث إلينا المختار برؤوس الذين قتلوا الحسين».

وصدق اللّه العظيم «قاتلوهم يعذبهم اللّه بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب اللّه على من يشاء واللّه عليم حكيم - ١٥ التوبة».

والخلاصة أنه بعد وفاة النبي اجتمع الأنصار في سقيفتهم يتداولون فيما بينهم. لتكون الخلافة فيهم ولهم دون قريش، فقصدهم أبو بكر وعمر وأَبو عبيدة الجراح، وتمكنوا من صرف الخلافة عن الأنصار إلى أبي بكر. وكان بنو هاشم في شغل بمصيبتهم وتجهيز الرسول، وعارض قوم من الأصحاب العارفين لحق علي، وأصروا على أن تكون الخلافة له، ولكن القوة كانت ضدهم، فكفوا عن المعارضة وأمسكوا وأظهروا التسليم، ولكنهم بثوا الدعوة لعلي بين الناس، ونقلوا إلى الأجيال ما سمعوه من نص النبي على علي. فالدعوة إلى التشيع في هذا القرن كانت بسيطة ساذجة، تماماً كالدعوة الإسلامية في هذا العهد لا فلسفية فيها، ولا شيء سوى حجج القرآن والسنة النبوية التي قبلها المسلمون الأولون، وآمنوا بها بدون جدال وتعليل وتأويل، ولا تعمق في الشروح والتفاصيل، ولم يكن في هذا الدور فقه يعرف بفقه الشيعة، وآخر يعرف بفقه السنة ولذا لم يظهر أي فرق بين الشيعة وغيرهم إلا في مسألة الخلافة، وإمارة المؤمنين، وكان الشيعة في هذا الدور يعرفون بالتقوى والزهد، ومناهضة الظلم والظالمين، ومن هنا لاقوا من حكام الجور ألواناً من التقتيل والتنكيل.

٩٢

الدور الثاني:

يبدأ الدور الثاني بعصر الإمام جعفر الصادق، ونعني به آخر الدولة الأموية، حيث دب فيها الضعف، وأول دولة العباسيين، حيث تنفس الشيعة الصعداء، بعد الأيام السود التي عاشوها مع الأمويين، وأصبحوا على شيء من الحرية والأمن على أرواحهم وأموالهم، وأتيح لأئمة أهل البيت أن ينشروا تعاليمهم في هذه الفرصة والفرجة. فرواها الألوف. وتقبلها الملايين إلى أن قام المنصور، فوضع في طريقها العراقيل، وعاد الأمر أشد وأسوأ مما كان في عهد الأمويين إبان قوتهم وعظمتهم.

ازدحم الرواة والعلماء - في هذه الفترة - حول الإمام الصادق، وقصده

الناس من كل قطر ينهلون من معينه، ويأخذون عنه شتى العلوم والمعارف، قال السيد محسن الأمين في ترجمته «أعيان الشيعة» ج ٤:

«ولد الإمام الصادق سنة ٨٠ هجري، وتوفي سنة ١٤٨، فمدة حياته ٦٨ سنة، أدرك فيها هشام بن عبد الملك إلى آخر دولة بني أمية، وأدرك من دولة بني العباس السفاح وعشر سنين من ملك المنصور.

ومن مميزات هذا العصر انتشار العلوم الإسلامية فيه من التفسير والفقه والحديث وعلم الكلام والجدل والأنساب، والشعر والأدب والكتابة والتاريخ والنجوم وغيرها.

وكان الإمام الصادق أشهر أهل زمانه علماً وفضلاً، قال مالك بن أنس إمام المذهب المالكي:

ما رأت عين ولا سمعت أذن، ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد علماً وعبادة وورعاً، وكان كثير الحديث، طيب المجالسة، جم الفوائد.

وقال الحسن بن زياد: سمعت أبا حنيفة، وقد سئل عن أفقه من رأى، فقال: جعفر بن محمد.

وقال ابن أبي ليلى: ما كنت تاركاً قولاً قلته، أو قضاء قضيته لقول أحد إلا رجلاً واحداً، هو جعفر بن محمد.

ولم يقل أحد سلوني قبل أن تفقدوني إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وحفيده جعفر بن محمد.

وروى الجنابذي في معالم العترة الطاهرة عن صالح بن الأسود: سمعت جعفر الصادق يقول: سلوني قبل أن تفقدوني، فإنه لا يحدثكم أحد بعدي بمثل حديثي، فكان يقول: حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث علي بن أبي طالب، وحديث علي

٩٣

حديث رسول اللّه.

وقد انتشر عنه من العلوم الجمة ما بهر العقول، ولم ينقل العلماء عن أحد ما نقل عنه، ولا لقي أحد، ونقل عنه من الأخبار ما نقل عنه، فقد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة عنه من الثقات على اختلاف الآراء والمقالات، فكانوا أربعة آلاف رجل، ذكرهم الحافظ بن عقدة الزيدي في كتاب رجاله، وذكر مصنفاتهم فضلاً عن غيرهم، واستدرك ابن الغضائري على ابن عقدة،

فزاد عليهم.

وروى عنه راوٍ واحد، وهو إبان بن تغلب ثلاثين ألف حديث، وقال الحسن بن علي ألوشا: «أدركت في مسجد الكوفة تسعمائة شيخ، كل يقول: حدثني جعفر بن محمد، وبرز بتعليمه من الفقهاء والأفاضل جم غفير».

وقال الشيخ محمد الحسين المظفر في كتاب «تاريخ الشيعة»:

«أحسن أيام مرت على الشيعة هي الفترة التي امتزجت من أخريات دولة بني مروان، وأوليات دولة بني العباس، في اشتغال الأمويين بقتل بعضهم البعض، وفي انتقاض البلاد عليهم، وفي اشتغال بني العباس بالحروب مع المروانيين تارة، واستتباب الأمن أخرى. فانتهز الشيعة هذه الفرصة للارتواء من مناهل علم الإمام الصادق، فشدوا الرحال إليه، لأخذ أحكام الدين والمعارف عنه.

ولقد روي عنه في كل علم وفن، كما تشهد به كتب الشيعة، ولم تقتصر الرواية عنه على الشيعة فحسب، بل روت عنه سائر الفرق، كما تفصح بذلك كتب الحديث والرجال، وقد أحصى ابن عقدة والشيخ الطوسي، والمحقق في المعتبر وغيرهم من روى عنه من الشيعة وغيرهم، فكانوا أربعة آلاف.

وصارت الشيعة في غضون هذه الفترة تنشر الحديث، وتجهر بولاء أهل البيت، وربا عددهم في مختلف الجهات. ولما قامت دعائم السلطان للمنصور ضيق على الإمام الصادق، وأراد أن يقطع الأصل ليكون به جفاف الفرع».

لقد وافق عصر الإمام الصادق حركة فكرية بلغت الغاية في نشاطها وانتشارها، وظهرت مقالات غريبة، وتيارات أجنبية عن الإسلام تفشت بين المسلمين، بخاصة بين شبابهم، بالنظر لاتساع رقعة الإسلام، وكثرة الفتوحات التي فتحها العرب، واندماجهم بالأمم العديدة المتباينة في ثقافاتها وأديانها. فكان الملحدون يلقون الشبهات، والمرجئة يساندون حكام الجور، والمغالون يدعون مع اللّه إلهاً آخر، والخوارج يكفرون المسلمين، والمتصوفة يضللون ويراؤون، والمحدثون يضعون الأحاديث على رسول اللّه، والمؤمنون يريدون إيماناً واعياً، فكان الشغل الشاغل لقادة

٩٤

الدين أن يدفعوا عنه، ويثبتوا صحة العقيدة، ويفندوا مزاعم المبطلين، ويزيفوا أقوالهم.

وكانت مدرسة الإمام الصادق أول من شعر بهذا الخطر، وأسبق من عمل لدرئه ومناهضته، فأخذت على نفسها الذب عن الحق وأهله، وحملت لواء الشريعة الإسلامية أصولها وفروعها، وقصدت لكل مهاجم ومناعد، وأعلنت حرباً لا هوادة معها على الغلاة(١) ، وناضلت ضد المعتزلة والمتصوفة والمرجئة والخوارج والأشاعرة، وصححت لعلماء الكلام الذين حاولوا إثبات الدين كثيراً مما وقعوا فيه من الأخطاء، وجرت بين هؤلاء من جهة، وبين الإمام الصادق وتلاميذه من جهة مناظرات ومجادلات كان الفوز والنصر فيها لمدرسة الإمام، فأثبت بالبرهان أن أقوالهم تبتعد عن الحق بمقدار صدودها عن الإسلام وتعاليمه(٢) . لذا اتجهت الأنظار إلى المعلم الأكبر، وتشيع له المفكرون، وحفظوا أقواله، ودونوها، واعتبروها الفصل بين الحق والباطل، وبين الأصيل والدخيل، تماماً كأقوال جده الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

وكان من نتيجة هذه الفترة، ومرافقتها لتلك الحركات الفكرية أن عرف المذهب صافياً على حقيقته في العقائد والتفسير، والأخلاق والفقه وأصوله، وأخذ التشيع معناه ومجراه في إطاره العلمي أصولاً وفروعاً. وقد كان المذهب في أشد الحاجة إلى هذا المتنفَّس والمنطلَق الذي صادف وجود الإمام، إذ لو أمكنت الفرصة ولم يوجد الإمام، أو وجد ولم تكن الفرصة ممكنة، أو تحقق الأمران ولم تكن تلك الحركات الفكرية لم يكن لنا هذا التراث الضخم في شتى العلوم الإسلامية، خصوصاً الفقه، بل لم يكن هذا التقارب بين الشيعة والسنة في أصول الدين ومبادئ التشريع. فالفضل في استقلال المذهب وتركيزه، كما هو الآن يعود للإمام الصادق بعد أن أسعفته الظروف، ومهدت له السبيل، ومن هنا أطلق على الشيعة لفظ الجعفريين، وعلى فقههم الفقه الجعفري.

نحن نؤمن وندين بأن كل إمام من الأئمة الاثني عشر عنده علم الكتاب وسنة الرسول بكاملهما، وأنه أعلم أهل زمانه على الإطلاق، ولكن العلم ليس بالسبب الكافي لبثه ونشره ما لم تواكبه عوامل أخرى، وقد ساعد الإمام الصادق

______________________

(١) ولا أجافي الصواب إذا قلت: إن الإمام الصادق قرب مسافة الخلف بين السنة والشيعة في محاربته الغلاة، وإبطال الكثير من أقوال المعتزلة.

(٢) تجد الكثير من هذه المناظرات في كتاب «الاحتجاج» للطبرسي، والبحار للمجلسي وسائر كتب المناقب والفضائل.

٩٥

على بث علومه ومعارفه العامل الحضاري من جهة، وفترة انتقال الحكم من الأمويين إلى العباسيين من جهة ثانية، ووجود رواة ثقات كثيرين يؤمنون بالصادق، ويحسنون الأخذ عنه من جهة ثالثة، حتى ذهب بعض علماء الإمامية إلى القول بتوثيق الأربعة آلاف راوٍ بدون استثناء. وقد يكون هناك عوامل أخرى خفيت علينا إلى جانب هذه العوامل التي استبانت لنا.

وعلي أية حال، فإن هذه الأسباب مجتمعة لم تتوفر لأحد من الأئمة غير الإمام الصادق، فقد كان للإمام علي حواريون وأصحاب خلص، كميثم التمار، وكميل بن زياد، وحجر بن عدي، ومحمد بن أبي بكر وغيرهم، ولكنه مني في خلافته بالحروب والفتن الداخلية، ولما انتقل إلى جوار ربه عمل معاوية على طمس آثاره، وقتل رجاله، والقضاء على كل ما يمت إليه بسبب، أما عهد الحسنين والإمام السجاد فهو عهد معاوية وولده يزيد، وزياد وابنه عبيد اللّه، وعبد الملك وشيطانه الحجاج، عهد مذابح الشيعة ومجازرهم، واستشهاد أئمتهم، عهد سم الحسن، ومذبحة مرج عذراء، ومأساة كربلاء، ووقعة الحرة، وما إليها.

أما الإمام الباقر فهو المؤسس الأول لمدرسة ولده الصادق، فقد كان له أصحاب وتلاميذ من كبار التابعين وأعيان الفقهاء والمحدثين يتحلقون حوله للدرس في مسجد جدة الرسول، ولكن اللّه سبحانه قد اختاره إليه قبل أن تبلغ هذه المدرسة الغاية في النمو والاذهار، فقبض في خلافة هشام بن عبد الملك، وهو ابن ٥٧ سنة، فخلفه ولده الإمام الصادق، وتوالت على مدرسته خطوظ وتوفيقات شتى، حيث ربا عدد تلاميذها على ما كانوا أيام أبيه، وأصبح الذين يفدون إليها، ويهتدون بهديها يعدون بالألوف.

وبعد الإمام الصادق عادت الظروف إلى قسوتها، والحوادث إلى شدتها على الأئمة وشيعتهم، ولكن المذهب كان قد انتشر في كل قطر، وعرفت معالمه، وتركزت أسسه، وحفظ ودوّن، وعمل الناس به منذ أيام الصادق، حتى اليوم، وإلى آخر يوم.

وبالتالي، فإن مذهب أهل البيت تبلور واتخذ صورته واضحة جلية، وثبتت أركانه ودعائمه في عهد الإمام الصادق، وأصبح للشيعة فقههم المستقل،

وعلماؤهم ورواتهم المعروفون، وآراؤهم الخاصة بالتوحيد والعدل وعصمة الأنبياء وشفاعتهم، وبالجبر والاختيار، وما إلى ذلك. وتميز مذهب التشيع عن بقية المذاهب تميزاً تاماً كما تميز مذهب المعتزلة عن مذهب الأشاعرة. أما أقوال بقية الأئمة الأطهار منذ الإمام الكاظم إلى نهاية الغيبة الصغرى فهي إما تأكيد لأقوال الصادق، وإما متممة لبعض أصول المذهب أو فروعه، أما

٩٦

رجالات الشيعة في عهد الإمام الصادق وبعده فكان همهم واهتمامهم حفظ تعاليمه، وتدوينها والدفاع عنها.

الدور الثالث:

ظهر مما قدمنا أن دعاة التشيع ورواده في الدور الأول اهتموا قبل كل شيء بالدعوة إلى الولاء لأهل البيت، والإيمان بأنهم أحق الناس جميعاً في خلافة النبي وميراثه في الحكم والسلطان، وان الدعاة اعتمدوا على نصوص الكتاب والسنة، ولم يتجاوزوا حرفيتها وهكذا كان الإسلام في الصدر الأول يستمد من الكتاب والسنة، وأخلاق الرسول الأعظم، والتشيع منذ يومه الأول إلى آخر يوم يسير مع الإسلام جنباً إلى جنب.

أما الدور الثاني، وهو دور الحضارة والحركة الفكرية فقد ظهر فيه مذهب التشيع، وتميز عن غيره أصولاً وفروعاً، وأصبح للشيعة فقههم المستقل وآراءهم الواضحة في كل ما يتصل بالعقيدة من قريب أو بعيد(١) .

أما الدور الثالث فهو دور الدفاع ورد العاديات، ويبتدئ بالشيخ المفيد وتلميذه الشريف المرتضى، وينتهي بالعلامة الحلي، وليس من شك أن الأئمة الأطهار، وأصحابهم كهشام بن الحكم وغيره قد ذبوا ودافعوا ولكن قصدهم الأول كان إلى تحديد المذهب، وإطهاره على حقيقته، وتمييزه عن غيره، يدعمه بالحجج والبراهين.

ويجب أن نكون على علم اليقين بأن هذا التقسيم لا يمس التشيع في حقيقته

________________________

(١) قال الشيخ مصطفى عبد الرازق أحد شيوخ الأزهر في كتاب « تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» ص ٣٠٢ طبعة ١٩٥٩: «إن النزوع إلى تدوين الفقه كان أسرع إلى الشيعة من سائر المسلمين».

٩٧

وجوهره، لأنه هو هو في جميع المراحل والأدوار لا تبديل فيه ولا تعديل، وإنما هو - أي التقسيم - باعتبار خصائص العصر الذي مر به التشيع، وعناية الدعاة والرواد بهذه الخصائص، تماماً كما هو الشأن بالقياس إلى موقف علماء الفرق السلامية من التيارات الأجنبية، والعلوم الدخيلة حينذاك.

لقد سبق الشيخ المفيد علماء أعلام كان لهم أحسن الأثر في خدمة المذهب، كالكليني صاحب الكافي، والصدوق صاحب من لا يحضره الفقيه، ولكن هذين العظيمين ومن إليهما كانوا امتداداً لرواة الحديث عن الأئمة الأطهار، ووعاة لأخبارهم وآثارهم يحفظونها من الضياع، أما الشيخ المفيد فكان المدافع الأكبر عن هذه الأخبار والآثار.

لقد تكاثرت في عصر المفيد المدارس وحلقات الدرس، وبلغ علم الكلام والجدل الغاية، ونبغ عدد كبير من العلماء والمتكلمين، وكان من أبرز خصائصهم المناقشات والمناظرات حول قضايا الدين والمذهب، وكانت المنافسة حامية وعلى أشدها بين مذهب الأشاعرة، ومذهب الاعتزال، وقد وضع علماء كل طائفة كتباً في الطعن والرد على مذهب الأخرى، ولكنهم تظاهروا جميعاً على الشيعة والتشيع، غير أن الشيخ المفيد كان لهم بالمرصاد.

فكان يجيب عن شبهاتهم وطعونهم بنظر دقيق، وبصر ثاقب، واستخراج عجيب، ثم يورد عليهم ما لم يستطيعوا معه إلا الإذعان والتسليم. كان يشرح عقيدة التشيع، ويدعمها بالدليل القاطع، ويرد عنها شبهات الخصوم، ثم يكر على عقيدتهم ومبادئهم ينقدها ويفندها، وينثر الفلسفة في شرحه وتأييده وتفنيده. وكان له فضل السبق إلى الاعتماد على منطق العقل والتفكير الحر، فقبل الشيخ المفيد كان المؤمنون لا يتجاوزون حرفية النصوص إلى العقل، وبعده أصبح العقل حليفاً للنصوص الدينية، وأساساً للعقيدة، وإذا قال أغسطين: «آمن كي تتعقل» فقد قال الشيخ المفيد: «تعقل كي تؤمن».

قال الشيخ عبد اللّه نعمة، وهو يترجم له في كتاب «فلاسفة الشيعة»: «كانت الشيعة القوة الثالثة بين مذهب المعتزلة ومذهب الأشاعرة. وقد تزعم هذه القوة في هذا العهد أبو عبد اللّه المفيد، وكان عليه، وهو دماغ الشيعة المفكر أن يشترك في هذا الصراع العنيف، ويجالد على عدة جبهات، ويناظر

أهل كل عقيدة، كما يقول ابن كثير الشامي. ونعرف حيوية المفيد في تفكيره وآرائه حين نأخذ باعتبارنا تأثير طبيعة العصر الذي عاش فيه يوم كانت الأخبار والأحاديث هي السند الوحيد لعلماء الشيعة فيما كتبوه حول عقائدهم ومذاهبهم. دون محاكمة أو تمحيص. أما المفيد فقد كان يحاكم ويفكر بحرية وتجرد».

٩٨

وقال السيد الأمين في الجزء السادس والأربعين من كتاب «الأعيان»: «قال اليافعي في تاريخه مرآة الجنان: عالم الشيعة وصاحب التآليف الكثيرة، شيخهم المعروف بالمفيد البارع في الكلام والفقه والجدل، كان يناظر كل عقيدة بالجلال والعظمة.

وقال ابن النديم في الفهرست: ابن المعلم أبو عبد اللّه دقيق الفطنة ماضي الخاطر، شاهدته فرأيته بارعاً».

وقال صاحب «روضات الجنات»:

«نقل عن ابن كثير أنه قال: كان المفيد شيخ الروافض محامياً عنهم، متعصباً في حقهم. وكان يحضر مجلسه خلق كثير من العلماء من جميع الطوائف والملل. ولما بلغ نعيه إلى الشيخ أبي القاسم الخفاف المعروف بابن النقيب فرح بموته كثيراً، وأمر بتزيين داره، وجلس فيها للتهنئة، وقال: الآن طاب لي الموت».

نقلنا هذه الجملة، لأنها أبلغ صورة، وأصدق شاهد على عظمة المفيد التي تضاءل أمامها العلماء وتصاغروا، حتى شعروا بأنهم ليسوا بشيء يذكر ما دام المفيد حياً.

أما قول ابن كثير بأنه كان متعصباً فهو التعصب بالذات، لأن من يؤمن بالحق، ويجادل بالعقل والكتاب المبين، ويستقي أقواله من أصدق مصدر، وأنقى معين لا يكون متعصباً ولا متحيزاً، بل مؤمناً مخلصاً، إن المتعصب هو الذي يكابر، ويجادل بالباطل، ويبخس الناس أشياءهم بالكذب والافتراء.

إن الذين جاءوا بعد العلامة، ودافعوا عن المذهب كما دافع، السيد الأمين، وكاشف الغطاء، وشرف الدين، والشيوخ المظفرون(١) ، إن هؤلاء وغيرهم لهم

_____________________

(١) هم الاخوة والأقطاب الثلاثة: الشيخ محمد الحسن صاحب «دلائل الصدق» والشيخ محمد الحسين صاحب «تاريخ الشيعة» والشيخ محمد الرضا صاحب «السقيفة».

٩٩

أكبر الفضل على جهودهم وإخلاصهم، ولولاهم لطمع فينا السفهاء، وآمن المغفلون والبسطاء بافتراءات صاحب المنار، وخليفته محب الدين الخطيب، وأحمد أمين، وموسى جار الله، ومن إليهم، ولكن علماءنا المتأخرين - زمناً - على عظمتهم ، وتمكنهم من العلوم ومعرفة الحق بدليله لم يزيدوا شيئاً عن أقوال المفيد والمرتضى والطوسي والعلامة ذلك أن الاعتراض واحد لم يتغير منذ زمان وزمان، فجوابه أيضاً واحد، تماماً كجواب من أنكر اللّه سبحانه بالأمس، ومن أنكره اليوم.

ولو تجاوزنا أقوال أولئك العظماء لتجاوزنا الحق والواقع، لأن الحق لا يتغير، فهو هو في كل زمان ومكان، وكذلك دليله ومدركه. إن هذه الكتب والنشرات التي تصدر - اليوم - تباعاً في سب الشيعة وتكفيرهم لهي أكثر ضرراً، وأعظم خطراً من تلك الشبهات والافتراءات التي قيلت على الشيعة والتشيع في عهد المفيد والعلامة. فإذا لم تتصد الأقلام الواعية لإبطالها، وفضح أربابها لجعلنا من لا علم له في عداد المشركين، وطليعة المغالين.

ودفعاً لكل التباس نختم هذا الفصل بالتأكيد مرة أخرى أن تقسيم التشيع إلى أدوار ثلاثة لا يمس كنهه وحقيقته، وإنما هو باعتبار الأساليب والوسائل التي اعتمدها الدعاة والحماة من الاستناد إلى النصوص والفضائل، ثم إلى حيث المذهب ونشره بحرية تامة، وتدوينه أصولاً وفروعاً، ثم النقاش والمناظرة مع المذاهب الأخرى.

الإسلام وَالوَلاء

سؤال:

هل يعتقد الإمامية أن الولاء ركن من أركان الإسلام، بحيث لا يكون مسلماً - عندهم - إلا إذا كان موالياً لأهل البيت(ع)؟

الجواب:

لقد نسب أكثر من واحد هذا القول إلى الإمامية، ولكن النسبة هذه لا تبتنى على أساس. فلقد اتفقت كلمتهم على أن كل من نطق بالشهادتين يكون حكمه حكم المسلمين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، وبذلك صرحوا في كتب العقائد والتفسير والفقه، وعملوا به منذ أقدم العصور، فعن الإمام الرضا عن آبائه عن جده النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: أُمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا لا إله إلا اللّه، فإن قالوها حرم علي دماؤهم وأموالهم. وقال صاحب الجواهر ج ٦ باب الإرث:

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419