التشيع نشأته معالمه

التشيع نشأته معالمه0%

التشيع نشأته معالمه مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 390

  • البداية
  • السابق
  • 390 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 19598 / تحميل: 7024
الحجم الحجم الحجم
التشيع نشأته معالمه

التشيع نشأته معالمه

مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قائِمَاً بِالْقِسْطِ... ) (1) .

العدْل صِفة مِن صفات الله تعالى، وليست أصلاً مستقلاًّ بذاته، غير أنّ علماء التوحيد أفردوا هذه الصفة في دراساتهم العقيدية، كمبحث مستقلّ مِن مباحث أُصول الدِين؛ لأهمّية هذه الصفة، وارتباط مسائل وقضايا عقيدية كثيرة بها، بل يرتبط بهذه الصفة أصْلا النبوّة والمعاد؛ لأنّ النبوّة جاءت بالتكليف، ومِن مقتضيات التكليف أن يكون هناك جزاء، وأنّ الجزاء واقع في عالَم الآخِرة.

وهذا الجزاء الوفاق هو مِن أبرز مصاديق العدْل الإلهي، ولولاه لتساوى المُحسن والمسيء في الحساب، وهو خلاف العـدْل، تنزّه الله عن ذلك.

عرّف المقداد السيوري العدْل بقوله: (هو تنزيه الباري تعالى عن فِعل القبيح والإخلال بالواجب) (2) .

فهو سبحانه مُنزَّه عن فِعل القبيح، كالكذب، والظلم، والعقاب بلا بيان، والتكليف فوق الوِسع والطاقة، وفِعل الشرّ، كما أنّه لا يخلّ بواجب، أي لا يترك

____________________

(1) سورة آل عمران: آية 18.

(2) المقداد السيوري / شرح الباب الحادي عشر: ص 25.

١٢١

شيئاً ثبتت مصلحته للعباد في حكمته، كإرسال الشرائع والأنبياء... الخ.

ولعلّ مِن أبرز مباحث العدْل الإلهي، هو مبحث الجبْر والاختيار، وقدرة الإنسان على الفِعل والتأثير؛ لارتباط المسؤولية والجزاء بذلك، فقد بُحثت هذه المسألة العقيدية الخطيرة بحثاً واسعاً، فانقسم الفهْم والتفسير لدَور الإرادة البشرية، وعلاقة إرادة الله بالفِعل الإنساني، على ثلاثة اتّجاهات مدرسيّة رئيسة هي:

1 - مدرسة المعتزلة.

2 - مدرسة الأشاعرة.

3 - مدرسة أهل البيت.

فكان لكلّ مدرسة تفسيرها وتحليلها لإرادة الإنسان واختياره وتأثيره في الأفعال الصادرة عنه، مِن الطاعة والمعصية.

وقد تحدّث - شارح الباب الحادي عشر - أبو الفتح بن مخدوم الحسيني ملخِّصاً هذه الاتّجاهات بقوله: (المبحث الثاني - مِن المباحث الستّة - في إنّا فاعلون بالاختيار: اعلم أنّهم اختلفوا في أفعال العباد اختلافاً عظيماً، فذهب جمهور المعتزلة إلى: أنّ المؤثّر فيها قدرة العباد فقط على سبيل الاختيار.

والفلاسفة وإمام الحرَمَين إلى: أنّ المؤثّر فيها قدرتهم فقط، لكن على سبيل الإيجاب وامتناع التخلّف (1) .

والجَبرية إلى: أنّ المؤثّر فيها قدرة الله تعالى فقط، مِن غير قدرة لهم أصلاً.

وأكثر الأشاعرة إلى: أنّ المؤثّر فيها قدرة الله تعالى فقط، مع مقارنة قدرتهم مِن غير تأثير لها، والإسناد إلى مجموع تأثير القدرتين في أصل الفِعل، والقاضي إلى تأثير قدرة الله تعالى وقدرة العبد، في وصْفه مثل كونه طاعة ومعصية) (2) .

____________________

(1) الإيجاب وامتناع التخلّف: الجبْر وحتمية وقوع الفِعل، غير أنّ كلّ ذلك يقع بقدرتهم.

(2) المقداد السيوري / شرح الباب الحادي عشر: ص 155.

١٢٢

وعلّق المقداد السيوري على نصّ العلاّمة الحلّي، الذي قال فيه: (إنّا فاعلون بالاختيار. والضرورة قاضية بذلك؛ للفَرْق الضروري بين سقوط الإنسان مِن السطح، ونزوله منه على الدرج. ولامتناع تكليفنا بشيء، فلا عصيان. ولقبح أن يخلُق الفِعل فينا، ثمّ يعذّبنا عليه؛ للسمْع (*) ).

علّق على هذا النصّ قائلاً: أقول: ذهب أبو الحسن الأشعري، ومَن تابعه إلى: أنّ الأفعال كلّها واقعة بقدرة الله تعالى، وأنّه لا فِعل للعبد أصلاً. وقال بعض الأشعرية: إنّ ذات الفِعل مِن الله، والعبد له الكسْب. وفسّروا الكسْب بأنّه كون الفِعل طاعة أو معصية.

وقال بعضهم: معناه أنّ العبد إذا صمّم العزْم على الشيء، خلَق الله تعالى الفِعل عقيبه) (1) .

وجدير ذِكره أنّ التفسير الأشعري كان ينطلق في الأساس مِن مبدأ توحيد الله، وأنّه وحده الخالق والمؤثّر، غير أنّ هذا التفسير اختلط عليه الأمْر، فنفى دَور الإنسان كفاعلٍ ومؤثّر وِفْق القانون الإلهي في الوجود؛ فقاده هذا الاختلاط إلى مصادرة إرادة الإنسان، وفرض الجبْرية عليه.

أمّا المعتزلة والزيديّة والإمامية، فذهبوا إلى: (أنّ الأفعال الصادرة مِن العبد وصفاتها، والكسْب الذي ذكروه، كلّها واقعة بقدرة العبد واختيـاره، وأنّه ليس بمجبور على فِعله، بل له أن يفعل، وله أن لا يفعل، وهو الحقّ...) (2) .

وقد دخلت مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في حوارٍ مع التفسير الأشعري، الذي أسند الفِعل الإنساني إلى الله سبحانه؛ معلّلاً ذلك بأنّ لا مؤثّر في

____________________

(*) السمْع: الآيات والروايات.

(1) المقداد السيوري / شرح الباب الحادي عشر: ص 27.

(2) المصدر السابق.

١٢٣

الخلْق إلاّ الله؛ منطلقاً مِن أساسٍ فلسفيٍّ يقوم على نكران السببيّة والعلّيّة في عالَم المخلوقات، وأنّ الإنسان ليس له إلاّ الكسْب، فقدّم الفهْم الأشعري أكثر مِن تفسير للكسْب، فكان بعضها يرى الكسْب عبارة عن: (خلْق الله تعالى الفِعل عقيب اختيار (1) العبد الفِعل، وعدمه عقيب اختيار العدم، فمعنى الكسْب إجراء العادة بخلْق الله الفِعل عند اختيار العبد.

وقال بعضهم: إنّ معنى الكسْب: هو أنّ الله تعالى يخلُق الفِعل مِن غير أن يكون للعبد فيه أيّ أثَرٍ البتّة، لكن العبد يؤثّر في وصف كون الفِعل طاعة أو معصية، فأصل الفِعل مِن الله تعالى، ووصف كونه طاعة أو معصية مِن العبد) (2) .

وقد ردّت المدرسة الإمامية على هذا التفسير: بأنّ (الاختيار والإرادة مِن جملة الأفعال، فإذا جاز صدورهما مِن العبد، فليجز صدور أصل الفعل عنه) (3) .

وبنَت المدرسة الإمامية رأيها هذا على أساسٍ تفسيريٍّ أعمق، وهو الإيمان بمبدأ العِلّيّة والسببية في عالَم الموجودات بأسرها، وأنّ إرادة الإنسان وفِعله هما العِلّة والسبب في إيجاد الأفعال الصادرة عنه، وليس الإنسان محلاًّ لجريان الحوادث، كما يكون النهَر محلاًّ لمجرى الماء.

وبذا انتهى التفكير الأشعري إلى الجبْرية، ومصادرة إرادة الإنسان واختياره، كما انتهى غيره مِن الظاهريّين وغيرهم إلى القول بالجبْرية.

وكما نوقش موضوع صدور الفِعل مِن الإنسان، وقدرته على أن يكون فاعلاً، ودَور الإرادة والاختيار الإنساني في الفِعل، ناقشوا موضوع المتولّد مِن أفعال

____________________

(1) يقصد بالاختيار هنا: تحديد الموقف النفْسي الداخلي مِن الأشياء، دون القدرة على التنفيذ وإيقاع الفعل الخارجي.

(2) العلاّمة الحلّي / نهْج الحقّ وكشْف الصدق: ص 126.

(3) المصدر السابق.

١٢٤

الإنسان، فالإنسان عندما يتحرّك حركات فِعلية معيّنة، ينتج عنها نتائج وِفْق قوانين الطبيعة ونظام الحياة، كالقتْل والكتابة والزنا وإيقاف نزف الجريح... الخ، ناقشوا في هذا المتولّد (الناتج عن حركة الإنسان الاختيارية): هل يسند إلى الإنسان أو لا؟.

(فذهبت الإمامية إلى أنّ المتولّد مِن أفعالنا مستند إلينا... وذهبت الأشاعرة إلى أنّ المتولّد مِن فِعل الله...

وذهب معمر (ثمامة بن الأشرس): أنّه لا فِعل للعبد إلاّ الإرادة، وما يحصل بعدها، فهو مِن طبْع المحلّ (1) ، وقال بعض المعتزلة: لا فِعل للعبد إلاّ الفكر) (2) .

وهكذا نشأت ثلاثة اتّجاهات تفسيريّة للفِعل الإنساني وهي:

1 - تفسير ينتهي إلى أنّ الأمر مفوّض إلى الإنسان، وأنْ لا علاقة لقدرة الله بالفِعل، ولا تأثير، بل يذهب بعض هذه الآراء إلى أنّ الله غير قادر على أن يمنع الإنسان مِن ممارسة الفِعل، وهذا هو مذهب مُعظم المعتزلة.

2 - تفسير ينتهي إلى الجبْر، وأنّ الإنسان مجْبر على فِعله، وليس للإنسان اختيار مؤثّر في الخلْق، وليس بوِسْعه أن يفعل، ولا يُسند إليه نتيجة فِعله؛ لأنّ الله وحده هو القادر على الفِعل والتأثير في الخلْق، وهو مذهب الأشاعرة وكثير مِن أصحاب الظاهر.

3 - تفسير يذهب إلى أنّ الإنسان مُريدٌ مختارٌ فاعلٌ، تُسند إليه أفعاله وما يتولّد عنها خارج ذاته. كالقتْل والزنا وشفاء المريض بعد علاجه... الخ.

وأنّ دَوره دَور المُعِدّ والمحرِّك باختياره، وإرادته للأفعال وقدرته على

____________________

(1) أي إنّما يجري هو نتاج الأوضاع الطبيعية لذلك الشيء.

(2) العلاّمة الحلّي / نهج الحقّ وكشف الصدق: ص 132.

١٢٥

تحريكها وسلوكه، دَور السببية في عالَم الطبيعة، وليس دور الخلْق للأفعال بمعناها الصادر عن الله تعالى؛ ولتمتّعه بالاختيار والقدرة على إيقاع الأفعال، كان مسؤولاً عن فِعله، ومحاسَباً عليه؛ ولذلك أسند القرآن الفِعل إليه، ورتّب الجزاء عليه.

كقوله تعالى: ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) (1) .

( ... كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ) (2) .

( ... هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (3) .

( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى... ) (4) .

( فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ... ) (5) .

ولنقرأ ما ورَد عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في مسألة تفسير الفِعل الإنساني، وعلاقة الإرادة والاختيار البشَري بإرادة الله سبحانه، فقد أوضح أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أنّ الإنسان ليس مجْبراً على فِعله، كما أنّ الأمْر ليس مفوّضاً إليه، بل هناك تفسير دقيق للاختيار والإرادة والفِعل الإنساني، وعلاقة ذلك بإرادة الله سبحانه، جاء تفسيره كالآتي:

روي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) قوله: (إنّ الله (عزّ وجلّ) خلَق الخلْق، فعَلِم ما هم صائرون إليه، وأمَرهم ونهاهم، فما أمَرهم به مِن شيءٍ، فقد جعل لهم السبيل إلى الأخْذ به، وما نهاهم عنه مِن شيءٍ، فقد جعل لهم السبيل إلى

____________________

(1) سورة الزلزلة: آية 7، 8.

(2) سورة الطور: آية 21.

(3) سورة النمل: آية 90.

(4) سورة الإسراء: آية 94.

(5) سورة الكهف: آية 29.

١٢٦

تركه، ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلاّ بإذن الله) (1) .

وعن الإمامين محمّد الباقر وجعفر الصادق (عليهما السلام)، أنّهما قالا: (إنَّ الله (عزّ وجلّ) أرحم بخلْقه، مِن أن يجْبُر خلْقه على الذنوب ثمّ يعذّبهم عليها، والله أعزّ مِن أن يريد أمْراً فلا يكون. فسُئلا (عليهما السلام): هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قالا: نعم، أوسع ممّا بين السماء والأرض) (2) .

وأجاب الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) على سؤال محمّد بن عجلان، حين سأله قائلاً: (فوّض الله الأمر إلى العباد؟! فقال: الله أكرم مِن أن يفوّض إليهم. قلت: فأجبر الله العباد على أفعالهم؟ فقال: الله أعدَل مِن أن يجبر عبداً على فِعلٍ ثمّ يعذّبه عليه) (3) .

وروى الحسن بن عليّ الوشّا عن الرضا (عليه السلام): (قال سألته، فقلت: الله فوّض الأمر إلى العباد؟ قال: الله أعزّ مِن ذلك، قلت: فجبَرهم على المعاصي؟ قال: الله أعدَل وأحكَم مِن ذلك، قال: ثمّ قال: قال الله: يا ابن آدم أنا أَولى بحسناتك منك، وأنت أَولى بسيّئاتك منّـي، عملتَ المعاصي بقوّتي التي جعلتها فيك) (4) .

وسُئل الإمام الصادق عن الجبْر والقدْر، فقال: (لا جبر ولا قدر (5) ، ولكن منزلة بينهما، فيها الحقّ التي بينهما، لا يعلمها إلاّ العالِم، أو مَن علّمها إيّاه العالِم) (6) .

وروى الزهري أنّ رجُلاً سأل الإمام عليّ بن الحسين (عليهما السلام) عن

____________________

(1) الشيخ الصدوق / التوحيد: ص 359.

(2) المصدر السابق: ص 360.

(3) المصدر السابق: ص 361.

(4) الكليني / الأصول مِن الكافي 1: 157.

(5) يقصد به تفويض الفِعل إلى العباد مِن غير أن يؤثّر الله فيه.

(6) الكليني / الأصول مِن الكافي 1: 159.

١٢٧

القضاء والقدر، فقال له: (جعلني الله فداك، أبِقدَرٍ يصيب الناس ما أصابهم أمْ بعمل؟

فقال (عليه السلام): (إنَّ القدر والعمل بمنزلة الروح والجسد، فالروح بغير الجسد لا تحسّ، والجسد بغير روح صورة لا حراك بها، فإذا اجتمعا قويا وصلُحا، وكذلك العمل والقدر، فلو لمْ يكن القدر واقعاً على العمل، لمْ يعرف الخالق مِن المخلوق، وكان القدر شيئاً لا يحـسّ، ولو لمْ يكن العمل بموافقةٍ مِن القدر لمْ يمض ولمْ يتمّ، ولكنّهما باجتماعهما قويا، ولله فيه العَون لعباده الصالحين...) (1) .

وتحدّث الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليهما السلام) عن الجبْر والتفويض، فقال: (ألا أعطيكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه، ولا تُخاصمون عليه أحداً إلاّ كسرتموه، قلنا: إنْ رأيت ذلك، فقال: إنّ الله (عزّ وجلّ) لمْ يُطَعْ بإكراه، ولمْ يُعْصَ بغلَبة، ولمْ يهمل العباد في مُلكه، هو المالك لِما ملّكهم، والقادر على ما أقدرهم عليه، فإنْ ائتمر العباد بطاعته لمْ يكن الله عنها صادّاً ولا منها مانعاً، وإنْ ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحُول بينهم وبين ذلك فعَل، وإنْ لمْ يحُل وفعلوه، فليس هو الذي أدخلهم فيه، ثمّ قال (عليه السلام): مَن يضبط حدود هذا الكلام، فقد خصَم مَن خالَفه) (2) .

وقد أوضح الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليهما السلام) آيتين مِن كتاب الله (عزّ وجلّ)، قد تشابه المعنى فيهما على كثير ممّن لا يعي محتوى الكتاب، (فقال في تفسير قوله تعالى: ( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ) ، قال: إنّ الله تبارك وتعالى لا يوصَف بالترْك، كما يوصَف خلْقه، ولكنّه متى عَلِم أنّهم لا يرجعون عن الكفر والضلال، منعهم المعاونة واللطف، وخلّى بينهم وبين اختيارهم.

وسُئل عن معنى قوله تعالى: ( خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ) ، فقال:

____________________

(1) الشيخ الصدوق / التوحيد: ص 366 - 367.

(2) المصدر السابق: ص 361.

١٢٨

الختْم هو الطبع على قلوب الكفّار عقوبة لهم على كُفرهم، كما قال عزّ وجلّ: بل يطبع الله عليها بكفرهم، فلا يؤمنون إلاّ قليلاً) (1) .

وقد تحدّث الفقيه الراحل السيّد أبو القاسم الخوئي في هذه المسألة العقيدية الخطيرة، فأوضح رأي المدرسة الإمامية قائلاً: (ولنذكر مثلاً تقريبياً يتّضح به للقارئ حقيقة الأمْر بين الأمْرين، الذي قالت به الشيعة الإمامية، وصرّحت به أئمّتها، وأشار إليه الكتاب العزيز.

لنفرض إنساناً كانت يده شلاَّء لا يستطيع تحريكها بنفْسه، وقد استطاع الطبيب أن يوجد فيها حركة إرادية وقتيّة بواسطة قوّة الكهرباء، بحيث أصبح الرجل يستطيع تحريك يده بنفْسه متى وصلها الطبيب بسِلك الكهرباء، وإذا انفصلت عن مصدر القوّة لمْ يمكنه تحريكها أصلاً، فإذا وصل الطبيب هذه اليد المريضة بالسلك للتجربة مثلاً، وابتدأ ذلك الرجُل المريض بتحريك يده، ومباشرة الأعمال بها - والطبيب يمدّه بالقوّة في كلّ آن - فلا شُبهة في أنّ تحريك الرجُل ليده في هذه الحال مِن الأمْر بين الأمْرين، فلا يستند إلى الرجُل مستقلاًّ؛ لأنّه موقوف على إيصال القوّة إلى يده، وقد فرضنا أنّها بفِعل الطبيب، ولا يستند إلى الطبيب مستقلاًّ؛ لأنّ التحريك قد أصدره الرجُل بإرادته، فالفاعل لمْ يُجبَر على فِعله؛ لأنّه مُريد، ولمْ يفوّض إليه الفِعل بجميع مبادئه؛ لأنّ المدَد مِن غيره.

والأفعال الصادرة مِن الفاعلين المختارين كلّها مِن هذا النوع. فالفِعل صادر بمشيئة العبد، ولا يشاء العبد شيئاً إلاّ بمشيئة الله. والآيات القرآنية كلّها تشير إلى هذا الغرض، فهي تبطل الجَبْر - الذي يقول به أكثر العامّة - لأنّها تثبت الاختيار، وتبطل التفويض المحْض - الذي يقول به بعضهم - لأنّها تسند الفِعل إلى الله.

وسنتعرّض إن شاء الله تعالى للبحث تفصيلاً، ولإبطال هذين القولين حين تتعرّض الآيات لذلك.

____________________

(1) المصدر السابق: ص 160.

١٢٩

وهذا الذي ذكرناه مأخوذ عن إرشادات أهل البيت (عليهم السلام) وعلومهم، وهم الذين أذهب الله عنهم الرجْس وطهّرهم تطهيراً) (1) .

وبذا يتحدّد الفهْم الإمامي لأعْقَد مسألة مِن مسائل الحياة، وهي مسألة تفسير الفِعل الإنساني، فجاء تفسيراً مبنيّاً على أنّ لا جَبْر ولا تفويض، وإنّما الإنسان كائن مُريد مختار وفاعل، وبه يرتبط ما يتولّد عن فِعله، هو مسؤول عنه؛ وبذا صحّ أن يُجازى على فِعله.

ويمكننا أن نستخلص مِن مجْمَل ما عُرِض مِن بيان الأئمّة والعلماء، أهمّ المبادئ المتعلّقة بموضوع الاختيار الإنساني والعدْل الإلهي، وهي:

1 - الإيمان بمبدأ العِلّيّة والسببية الطبيعية والاجتماعية، وأنّ الإنسان يسلك كسببٍ مؤثّر في هذا الوجود.

2 - الإنسان يملك القدرة والاستطاعة على الفِعل، خيراً كان أو شرّاً، قبل أن يفعل الفِعل.

3 - إنَّ الله لا يكلّف فوق الوِسع والطاقة، بل جاءت التكاليف بأجمعها بمستوى طاقة الإنسان وقدرته.

4 - الإنسان فاعل، وعنه يصدر فِعله، وإليه يُنسَب ما يتولّد مِن فِعله مِن أثَرٍ في العالَم الخارجي، وليس محلاًّ لجريان الحوادث. وقد صرّح القرآن بذلك في العديد مِن آياته، ودلّ الوجدان عليه، فكلّ إنسان يُدرك بوضوحٍ كامل أنّه قادر على فِعل العديد مِن الأفعال، كما أنّه قادر على ترْكها، وهو في كلّ ذلك مُعِدّ وسبب، وليس خالقاً لفِعله، بل لدَوره السببي وقدرته على الفِعل والترْك كان مسؤولاً، وسببيّته هي بذاتها جزء مِن نظام الوجود الذي خلَقه الله سبحانه؛ وبذا تتضح العلاقة

____________________

(1) السيّد الخوئي / البيان في تفسير القرآن: 102 - 103.

١٣٠

بين إرادة الله وإرادة الإنسان.

5 - الإنسان مريد مختار؛ لذا استحقّ العقاب والثواب، وأنّ هذا الاختيار لا يعني تفويض الأمْر إليه بشكلٍ تتجرّد الإرادة الإلهية عن التأثير، وتنعزل عن القدرة على منْعه، بل هو أمْر بين أمْرين، كما سبق وأن تمّ إيضاحه.

١٣١

١٣٢

الفصل الخامس

النبوَّةُ

١٣٣

١٣٤

( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (1) .

( رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً، لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً ) (2) .

( قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (3) .

( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ

____________________

(1) سورة البقرة: آية 213.

(2) سورة النساء: آية 165ـ 166.

(3) سورة آل عمران: آية 84 - 85.

١٣٥

حَسِيباً، مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ) (1) .

( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) (2) .

(النبيّ هو الإنسان المخبِر عن الله تعالى بغير واسطة أحدٍ مِن البشَر) (3) .

يشكّل الإيمان بالنبوّة الأساس الثاني بعد الإيمان بالله سبحانه، وهو فرع على الإيمان بوجود الله وعنايته بخلْقه، والعقل البشري بعد أن آمَن بالله سبحانه بالدليل والبرهان القاطع، قاده هذا الإيمان إلى التصديق بالنبوّة والأنبياء، وإنزال الكتُب والشرائع.

وقد تناول المتكلّمون والفلاسفة وأهل العرفان والمتصوّفة والمفكّرون الإسلاميون، هذه المسألة العقيدية الخطيرة الشأن بالبحث والدراسة والتحليـل، كأبرز ظاهرة غيبية في عالَم الحسّ والمادّة على هذه الأرض، فهي تعني اتّصال عالَم الغيب بعالَم الشهادة، والفيض الربّاني بعالَم الإنسان.

وقد دار البحث بشكلٍ رئيسي في مسألة النبوّة على عدّة أُسس هي:

1 - حاجة البشرية إلى النبوّة، وهل هي واجبة على الله سبحانه.

2 - منهج إثبات صدق دعوات الأنبياء.

3 - عصمة الأنبياء.

4 - إثبات نبوّة نبيّنا محمّد (صلّى الله عليه وآله)، وأنّه خاتم النبيّين.

____________________

(1) سورة الأحزاب: آية 39 - 40.

(2) سورة الصفّ: آية 6.

(3) المقداد السيوري / شرح الباب الحادي عشر: ص 34.

١٣٦

5 - حالات الوحي التلقّي النبويّ.

وعند دارسة هذه المفردات وغيرها مِن مسائل النبوّة ومتفرّعاتها، نلاحظ تعدّد الآراء والتفسيرات وتباينها بشكلٍ واسع وعميق، حتّى أنّ بعض تلك الآراء والتفسيرات خرجت على الأصل الإسلامي، والمرتكز الأساس في حقيقة النبوّة والمعجزة.

وقد كان لمدرسة الشيعة الإمامية الرأي الواضح، والدراسة الوافرة في كلّ مسألة مِن مسائل النبوّة التي أشرنا إليها، ملتزمين بمنهجهم العقيدي في التوحيد والإيمان بمسائل الغيب، التي أشرنا إليها عند بحث منهج المعرفة والإيمان العقيدي. فدخلوا في حوارٍ طويل مع الفِرَق الإسلامية، التي شكّلت آراء مغايرة لتلك الآراء، كما خاضوا ملحمة دفاعٍ حامية عن مسألة النبوّة ضدّ الزنادقة والملاحدة، ومدّعي النبوّة، حفظتها لنا كتُب المناظرات والعقيدة والحديث والتفسير.

ونوضّح فيما يلي رأي المدرسة الإمامية في الأُسس التي دار البحث حولها، وهي كالآتي:

1 - حاجة البشرية إلى النبوّة، وهل هي واجبة على الله سبحانه؟

لقد تناولت المدرسة الإمامية مسألة حاجة البشرية إلى الأنبياء والشرائع الإلهية، بالبحث والدراسة، وأجابت عليها: بأنّ النبوّة ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها، ويجب أن تكون في عالَم الإنسان.

تحدّث العلاّمة الحلّي في وجوب النبوّة وحاجة البشرية إليها، فقال: (اختلف الناس هنا، فقالت المعتزلة: إنّ البِعثة واجبة. وقالت الأشاعرة: إنّها غير واجبة. احتجّت المعتزلة بأنّ التكاليف السمعية ألطاف في التكاليف العقلية، واللطف واجب،

١٣٧

فالتكليف السمعي واجب، ولا يمكن معرفته إلاّ مِن جهة النبيّ، فيكون وجود النبيّ واجباً؛ لأنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب، واستدلّوا على كون التكليف السمعي لطفاً في العقلي، بأنّ الإنسان إذا كان مواظباً على فِعل الواجبات السمعيّة، وترْك المناهي الشرعية... وهذا معلوم بالضرورة لكلّ عاقل) (1) .

وعلّق الفاضل المقداد على تعريف العلاّمة الحلّي للنبوّة في كتابه الباب الحادي عشر، قائلاً: (إذا تقرّر هذا، فاعلم: أنّ النبوّة مع حُسنها - خلافاً للبراهمة - واجبة في الحكمة خلافاً للأشاعرة، والدليل على ذلك، هو أنّه لمّا كان المقصود مِن إيجاد الخلْق هو المصلحة العائدة إليهم، كان إسعافهم بما فيه مصالحهم، وردعهم عمّا فيه مفاسدهم واجباً في الحكمة، وذلك أمّا في أحوال معاشهم، أو أحوال معادهم...

ثمّ قال: فاقتضت الحكمة وجود عدْلٍ يفرض شرعاً، يجري بين النوع، بحيث ينقاد كلّ واحدٍ إلى أمره، وينتهي عند زجْره... ثمّ قال: وذلك الشخص المفتقر إليه في أحوال المعاش والمعاد، هو النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، والنبيّ واجب في الحكمة، وهو المطلوب) (2) .

وهكذا ترى المدرسة الإمامية: أنّ النبوّة ضرورة لحياة البشرية، وأنّ مصلحة البشرية وإصلاحها متوقّفة عليها، ولا يمكن للبشرية أن تهتدي وتعيش في خير وسعادة، وتربح رضوان الله، إلاّ بالنبوّة والأنبياء، وأنّ ذلك ثابت برحمة الله، ولا يمكن أن يتركه؛ لأنّه يريد هداية الإنسان وإصلاحه، ولو لمْ يرسل الأنبياء (عليهم السلام)، ولمْ يُنزل الشرائع؛ لنقض ما يريده، وهو منزّه عن ذلك.

هذا هو معنى قولهم: إنّ النبوّة لطف واجب على الله سبحانه مِن باب حكمته، وليس معنى الوجوب على الله سبحانه، هو المعنى المتعارف في عالَم الإنسان، كما يتبادر إلى

____________________

(1) العلاّمة الحلّي / كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: ص 375 / (المسألة الثانية في وجوب البِعثة).

(2) المقداد السيوري / شرح الباب الحادي عشر: ص 34.

١٣٨

أذهان البعض مِن الناس.

2 - منهج إثبات صدق دعوات الأنبياء:

مِن خلال إلقاء نظرة على مسيرة الفكر البشري، والصراع العقيدي والاجتماعي يتشخّص لنا عُمق ذلك الصراع، واتّساع الملحمة بين الفكر الإلحادي والفكر الإلهي، الذي آمَن بالوحي والنبوّة، واتّصال النبيّ الإنسان بعالَم الغيب والملكوت الأعلى، وكان إنكار النبوّة وتكذيب الأنبياء - ولمْ يزل - هو محنة الإنسان ومصدر شقائه وعنائه على هذه الأرض.

وهذه المسألة العقلية الخطيرة في حياة الإنسان، رغم سهولة الإيمان بها والتصديق بما حملته للإنسان من معارف وهداية، فهي لمْ تزل لدى التفكير المادّي مِن أعقد مسائل الفكر، وأكثرها صعوبة.

ولقد ركّز القرآن الكريم في جانبٍ واسع مِن خطابه، على محاكمة التفكير المنكِر لصِدق الأنبياء (عليهم السلام)، وسَوق الأدلّة على وجود الله سبحانه وقدرته، ودخل في حوارٍ طوال سنين الوحي مع الجاحدين والكافرين بالنبوّة - كظاهرة غيبية في عالَم الإنسان - أو مع المنكرين لنبوّة النبيّ الهادي محمّد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله)، ولقد كان لأئمّة أهل البيت وبقيّة علماء الإسلام، نضال فكري ضدّ الزنادقة والملحدين ومنكري نبوّة نبيّنا محمّد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله)، خصوصاً بعد أن تمنطق التفكير في المجتمع الإسلامي، وامتدّت مَوجة الفكر المترجم، وانتشرت مناهج الشكّ.

وقد نهض الفكر الإمامي بالعبء الطليعي في الدفاع عن النبوّة، كظاهرة غيبية بصورة عامّة، وعن نبوّة نبيّنا محمّد (صلّى الله عليه وآله)، وخلود رسالته ومعجزته بصورة خاصّة، وتحتفظ المكتبة الإسلامية بتلك المناظرات والمساجلات والآراء والدراسات، والأبحاث القائمة على أُسس الحجّة والدليل والبرهان، عِبر مستويات

١٣٩

التفكير البشري خلال أربعة عشر قرناً، فكان حصّة الفكر الإمامي في الدراسات العقيدية وافراً وناصعاً، واتّسم بالأصالة والعقلانية.

فقد اعتمد المنهج الإمامي في إثبات صدق النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، على المنهج العقلي الذي يرتكز على أنّ دعوى النبوّة كأيّة دعوى عِلمية تحتاج إلى دليل إثبات، وأنّ الطريق إلى تصديق النبيّ (صلّى الله عليه وآله) هو العقل والاستدلال العقلي، الذي يتوصّل إلى الإثبات عن طريق المعجزة الدالّة على بِعثة النبيّ، وتأييده بها مِن الله تعالى.

يتّضح مِن أحاديث أئمّة أهل البيت، ونصوص الدراسات العقيدية في الفكر الإمامي، أنّ الإمامية ترى وجوب النبوّة، وأنّ مَن ادّعى النبوّة وأيّدته المعجزة، فهو نبيّ يجب تصديقه، وأنّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله) هو خاتم النبيين، قد أيّده الله بالمعجزة الخالدة - القرآن - وبمعاجز مؤيّدة كثيرة.

وقد كتب الخاجة نصير الدين الطوسي في هذا الشأن، قائلاً: (في الطريق إلى معرفة صدق النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وطريق معرفة صدقه، ظهور المعجزة على يده، وهو ثبوت ما ليس بمعتاد، أو نفي ما هو معتاد، مع خرق العادة ومطابقة الدعوى) (1) .

أمّا الشريف المرتضى، فقد كتب يقول: (صِدْق مدّعي النبوّة لا يثبت إلاّ بالمعجز الخارق للعادة، على وجهٍ لا يتقدّر معه إضافته إلى مُحدَث بحُسنه أو صفته المخصوصة؛ ليعلم الناظر اختصاصه بالقديم تعالى، الذي لا يجوز منه تصديق الكذب) (2) .

____________________

(1) العلاّمة الحلّي / كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: ص 377 / (المسألة الرابعة).

(2) رسائل الشريف المرتضى / (المجموعة الثانية): ص 323.

١٤٠