التشيع نشأته معالمه

التشيع نشأته معالمه15%

التشيع نشأته معالمه مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 390

  • البداية
  • السابق
  • 390 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 20874 / تحميل: 8028
الحجم الحجم الحجم
التشيع نشأته معالمه

التشيع نشأته معالمه

مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

( شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قائِمَاً بِالْقِسْطِ... ) (١) .

العدْل صِفة مِن صفات الله تعالى، وليست أصلاً مستقلاًّ بذاته، غير أنّ علماء التوحيد أفردوا هذه الصفة في دراساتهم العقيدية، كمبحث مستقلّ مِن مباحث أُصول الدِين؛ لأهمّية هذه الصفة، وارتباط مسائل وقضايا عقيدية كثيرة بها، بل يرتبط بهذه الصفة أصْلا النبوّة والمعاد؛ لأنّ النبوّة جاءت بالتكليف، ومِن مقتضيات التكليف أن يكون هناك جزاء، وأنّ الجزاء واقع في عالَم الآخِرة.

وهذا الجزاء الوفاق هو مِن أبرز مصاديق العدْل الإلهي، ولولاه لتساوى المُحسن والمسيء في الحساب، وهو خلاف العـدْل، تنزّه الله عن ذلك.

عرّف المقداد السيوري العدْل بقوله: (هو تنزيه الباري تعالى عن فِعل القبيح والإخلال بالواجب) (٢) .

فهو سبحانه مُنزَّه عن فِعل القبيح، كالكذب، والظلم، والعقاب بلا بيان، والتكليف فوق الوِسع والطاقة، وفِعل الشرّ، كما أنّه لا يخلّ بواجب، أي لا يترك

____________________

(١) سورة آل عمران: آية ١٨.

(٢) المقداد السيوري / شرح الباب الحادي عشر: ص ٢٥.

١٢١

شيئاً ثبتت مصلحته للعباد في حكمته، كإرسال الشرائع والأنبياء... الخ.

ولعلّ مِن أبرز مباحث العدْل الإلهي، هو مبحث الجبْر والاختيار، وقدرة الإنسان على الفِعل والتأثير؛ لارتباط المسؤولية والجزاء بذلك، فقد بُحثت هذه المسألة العقيدية الخطيرة بحثاً واسعاً، فانقسم الفهْم والتفسير لدَور الإرادة البشرية، وعلاقة إرادة الله بالفِعل الإنساني، على ثلاثة اتّجاهات مدرسيّة رئيسة هي:

١ - مدرسة المعتزلة.

٢ - مدرسة الأشاعرة.

٣ - مدرسة أهل البيت.

فكان لكلّ مدرسة تفسيرها وتحليلها لإرادة الإنسان واختياره وتأثيره في الأفعال الصادرة عنه، مِن الطاعة والمعصية.

وقد تحدّث - شارح الباب الحادي عشر - أبو الفتح بن مخدوم الحسيني ملخِّصاً هذه الاتّجاهات بقوله: (المبحث الثاني - مِن المباحث الستّة - في إنّا فاعلون بالاختيار: اعلم أنّهم اختلفوا في أفعال العباد اختلافاً عظيماً، فذهب جمهور المعتزلة إلى: أنّ المؤثّر فيها قدرة العباد فقط على سبيل الاختيار.

والفلاسفة وإمام الحرَمَين إلى: أنّ المؤثّر فيها قدرتهم فقط، لكن على سبيل الإيجاب وامتناع التخلّف (١) .

والجَبرية إلى: أنّ المؤثّر فيها قدرة الله تعالى فقط، مِن غير قدرة لهم أصلاً.

وأكثر الأشاعرة إلى: أنّ المؤثّر فيها قدرة الله تعالى فقط، مع مقارنة قدرتهم مِن غير تأثير لها، والإسناد إلى مجموع تأثير القدرتين في أصل الفِعل، والقاضي إلى تأثير قدرة الله تعالى وقدرة العبد، في وصْفه مثل كونه طاعة ومعصية) (٢) .

____________________

(١) الإيجاب وامتناع التخلّف: الجبْر وحتمية وقوع الفِعل، غير أنّ كلّ ذلك يقع بقدرتهم.

(٢) المقداد السيوري / شرح الباب الحادي عشر: ص ١٥٥.

١٢٢

وعلّق المقداد السيوري على نصّ العلاّمة الحلّي، الذي قال فيه: (إنّا فاعلون بالاختيار. والضرورة قاضية بذلك؛ للفَرْق الضروري بين سقوط الإنسان مِن السطح، ونزوله منه على الدرج. ولامتناع تكليفنا بشيء، فلا عصيان. ولقبح أن يخلُق الفِعل فينا، ثمّ يعذّبنا عليه؛ للسمْع (*) ).

علّق على هذا النصّ قائلاً: أقول: ذهب أبو الحسن الأشعري، ومَن تابعه إلى: أنّ الأفعال كلّها واقعة بقدرة الله تعالى، وأنّه لا فِعل للعبد أصلاً. وقال بعض الأشعرية: إنّ ذات الفِعل مِن الله، والعبد له الكسْب. وفسّروا الكسْب بأنّه كون الفِعل طاعة أو معصية.

وقال بعضهم: معناه أنّ العبد إذا صمّم العزْم على الشيء، خلَق الله تعالى الفِعل عقيبه) (١) .

وجدير ذِكره أنّ التفسير الأشعري كان ينطلق في الأساس مِن مبدأ توحيد الله، وأنّه وحده الخالق والمؤثّر، غير أنّ هذا التفسير اختلط عليه الأمْر، فنفى دَور الإنسان كفاعلٍ ومؤثّر وِفْق القانون الإلهي في الوجود؛ فقاده هذا الاختلاط إلى مصادرة إرادة الإنسان، وفرض الجبْرية عليه.

أمّا المعتزلة والزيديّة والإمامية، فذهبوا إلى: (أنّ الأفعال الصادرة مِن العبد وصفاتها، والكسْب الذي ذكروه، كلّها واقعة بقدرة العبد واختيـاره، وأنّه ليس بمجبور على فِعله، بل له أن يفعل، وله أن لا يفعل، وهو الحقّ...) (٢) .

وقد دخلت مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في حوارٍ مع التفسير الأشعري، الذي أسند الفِعل الإنساني إلى الله سبحانه؛ معلّلاً ذلك بأنّ لا مؤثّر في

____________________

(*) السمْع: الآيات والروايات.

(١) المقداد السيوري / شرح الباب الحادي عشر: ص ٢٧.

(٢) المصدر السابق.

١٢٣

الخلْق إلاّ الله؛ منطلقاً مِن أساسٍ فلسفيٍّ يقوم على نكران السببيّة والعلّيّة في عالَم المخلوقات، وأنّ الإنسان ليس له إلاّ الكسْب، فقدّم الفهْم الأشعري أكثر مِن تفسير للكسْب، فكان بعضها يرى الكسْب عبارة عن: (خلْق الله تعالى الفِعل عقيب اختيار (١) العبد الفِعل، وعدمه عقيب اختيار العدم، فمعنى الكسْب إجراء العادة بخلْق الله الفِعل عند اختيار العبد.

وقال بعضهم: إنّ معنى الكسْب: هو أنّ الله تعالى يخلُق الفِعل مِن غير أن يكون للعبد فيه أيّ أثَرٍ البتّة، لكن العبد يؤثّر في وصف كون الفِعل طاعة أو معصية، فأصل الفِعل مِن الله تعالى، ووصف كونه طاعة أو معصية مِن العبد) (٢) .

وقد ردّت المدرسة الإمامية على هذا التفسير: بأنّ (الاختيار والإرادة مِن جملة الأفعال، فإذا جاز صدورهما مِن العبد، فليجز صدور أصل الفعل عنه) (٣) .

وبنَت المدرسة الإمامية رأيها هذا على أساسٍ تفسيريٍّ أعمق، وهو الإيمان بمبدأ العِلّيّة والسببية في عالَم الموجودات بأسرها، وأنّ إرادة الإنسان وفِعله هما العِلّة والسبب في إيجاد الأفعال الصادرة عنه، وليس الإنسان محلاًّ لجريان الحوادث، كما يكون النهَر محلاًّ لمجرى الماء.

وبذا انتهى التفكير الأشعري إلى الجبْرية، ومصادرة إرادة الإنسان واختياره، كما انتهى غيره مِن الظاهريّين وغيرهم إلى القول بالجبْرية.

وكما نوقش موضوع صدور الفِعل مِن الإنسان، وقدرته على أن يكون فاعلاً، ودَور الإرادة والاختيار الإنساني في الفِعل، ناقشوا موضوع المتولّد مِن أفعال

____________________

(١) يقصد بالاختيار هنا: تحديد الموقف النفْسي الداخلي مِن الأشياء، دون القدرة على التنفيذ وإيقاع الفعل الخارجي.

(٢) العلاّمة الحلّي / نهْج الحقّ وكشْف الصدق: ص ١٢٦.

(٣) المصدر السابق.

١٢٤

الإنسان، فالإنسان عندما يتحرّك حركات فِعلية معيّنة، ينتج عنها نتائج وِفْق قوانين الطبيعة ونظام الحياة، كالقتْل والكتابة والزنا وإيقاف نزف الجريح... الخ، ناقشوا في هذا المتولّد (الناتج عن حركة الإنسان الاختيارية): هل يسند إلى الإنسان أو لا؟.

(فذهبت الإمامية إلى أنّ المتولّد مِن أفعالنا مستند إلينا... وذهبت الأشاعرة إلى أنّ المتولّد مِن فِعل الله...

وذهب معمر (ثمامة بن الأشرس): أنّه لا فِعل للعبد إلاّ الإرادة، وما يحصل بعدها، فهو مِن طبْع المحلّ (١) ، وقال بعض المعتزلة: لا فِعل للعبد إلاّ الفكر) (٢) .

وهكذا نشأت ثلاثة اتّجاهات تفسيريّة للفِعل الإنساني وهي:

١ - تفسير ينتهي إلى أنّ الأمر مفوّض إلى الإنسان، وأنْ لا علاقة لقدرة الله بالفِعل، ولا تأثير، بل يذهب بعض هذه الآراء إلى أنّ الله غير قادر على أن يمنع الإنسان مِن ممارسة الفِعل، وهذا هو مذهب مُعظم المعتزلة.

٢ - تفسير ينتهي إلى الجبْر، وأنّ الإنسان مجْبر على فِعله، وليس للإنسان اختيار مؤثّر في الخلْق، وليس بوِسْعه أن يفعل، ولا يُسند إليه نتيجة فِعله؛ لأنّ الله وحده هو القادر على الفِعل والتأثير في الخلْق، وهو مذهب الأشاعرة وكثير مِن أصحاب الظاهر.

٣ - تفسير يذهب إلى أنّ الإنسان مُريدٌ مختارٌ فاعلٌ، تُسند إليه أفعاله وما يتولّد عنها خارج ذاته. كالقتْل والزنا وشفاء المريض بعد علاجه... الخ.

وأنّ دَوره دَور المُعِدّ والمحرِّك باختياره، وإرادته للأفعال وقدرته على

____________________

(١) أي إنّما يجري هو نتاج الأوضاع الطبيعية لذلك الشيء.

(٢) العلاّمة الحلّي / نهج الحقّ وكشف الصدق: ص ١٣٢.

١٢٥

تحريكها وسلوكه، دَور السببية في عالَم الطبيعة، وليس دور الخلْق للأفعال بمعناها الصادر عن الله تعالى؛ ولتمتّعه بالاختيار والقدرة على إيقاع الأفعال، كان مسؤولاً عن فِعله، ومحاسَباً عليه؛ ولذلك أسند القرآن الفِعل إليه، ورتّب الجزاء عليه.

كقوله تعالى: ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) (١) .

( ... كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ) (٢) .

( ... هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٣) .

( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى... ) (٤) .

( فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ... ) (٥) .

ولنقرأ ما ورَد عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في مسألة تفسير الفِعل الإنساني، وعلاقة الإرادة والاختيار البشَري بإرادة الله سبحانه، فقد أوضح أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أنّ الإنسان ليس مجْبراً على فِعله، كما أنّ الأمْر ليس مفوّضاً إليه، بل هناك تفسير دقيق للاختيار والإرادة والفِعل الإنساني، وعلاقة ذلك بإرادة الله سبحانه، جاء تفسيره كالآتي:

روي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) قوله: (إنّ الله (عزّ وجلّ) خلَق الخلْق، فعَلِم ما هم صائرون إليه، وأمَرهم ونهاهم، فما أمَرهم به مِن شيءٍ، فقد جعل لهم السبيل إلى الأخْذ به، وما نهاهم عنه مِن شيءٍ، فقد جعل لهم السبيل إلى

____________________

(١) سورة الزلزلة: آية ٧، ٨.

(٢) سورة الطور: آية ٢١.

(٣) سورة النمل: آية ٩٠.

(٤) سورة الإسراء: آية ٩٤.

(٥) سورة الكهف: آية ٢٩.

١٢٦

تركه، ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلاّ بإذن الله) (١) .

وعن الإمامين محمّد الباقر وجعفر الصادق (عليهما السلام)، أنّهما قالا: (إنَّ الله (عزّ وجلّ) أرحم بخلْقه، مِن أن يجْبُر خلْقه على الذنوب ثمّ يعذّبهم عليها، والله أعزّ مِن أن يريد أمْراً فلا يكون. فسُئلا (عليهما السلام): هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قالا: نعم، أوسع ممّا بين السماء والأرض) (٢) .

وأجاب الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) على سؤال محمّد بن عجلان، حين سأله قائلاً: (فوّض الله الأمر إلى العباد؟! فقال: الله أكرم مِن أن يفوّض إليهم. قلت: فأجبر الله العباد على أفعالهم؟ فقال: الله أعدَل مِن أن يجبر عبداً على فِعلٍ ثمّ يعذّبه عليه) (٣) .

وروى الحسن بن عليّ الوشّا عن الرضا (عليه السلام): (قال سألته، فقلت: الله فوّض الأمر إلى العباد؟ قال: الله أعزّ مِن ذلك، قلت: فجبَرهم على المعاصي؟ قال: الله أعدَل وأحكَم مِن ذلك، قال: ثمّ قال: قال الله: يا ابن آدم أنا أَولى بحسناتك منك، وأنت أَولى بسيّئاتك منّـي، عملتَ المعاصي بقوّتي التي جعلتها فيك) (٤) .

وسُئل الإمام الصادق عن الجبْر والقدْر، فقال: (لا جبر ولا قدر (٥) ، ولكن منزلة بينهما، فيها الحقّ التي بينهما، لا يعلمها إلاّ العالِم، أو مَن علّمها إيّاه العالِم) (٦) .

وروى الزهري أنّ رجُلاً سأل الإمام عليّ بن الحسين (عليهما السلام) عن

____________________

(١) الشيخ الصدوق / التوحيد: ص ٣٥٩.

(٢) المصدر السابق: ص ٣٦٠.

(٣) المصدر السابق: ص ٣٦١.

(٤) الكليني / الأصول مِن الكافي ١: ١٥٧.

(٥) يقصد به تفويض الفِعل إلى العباد مِن غير أن يؤثّر الله فيه.

(٦) الكليني / الأصول مِن الكافي ١: ١٥٩.

١٢٧

القضاء والقدر، فقال له: (جعلني الله فداك، أبِقدَرٍ يصيب الناس ما أصابهم أمْ بعمل؟

فقال (عليه السلام): (إنَّ القدر والعمل بمنزلة الروح والجسد، فالروح بغير الجسد لا تحسّ، والجسد بغير روح صورة لا حراك بها، فإذا اجتمعا قويا وصلُحا، وكذلك العمل والقدر، فلو لمْ يكن القدر واقعاً على العمل، لمْ يعرف الخالق مِن المخلوق، وكان القدر شيئاً لا يحـسّ، ولو لمْ يكن العمل بموافقةٍ مِن القدر لمْ يمض ولمْ يتمّ، ولكنّهما باجتماعهما قويا، ولله فيه العَون لعباده الصالحين...) (١) .

وتحدّث الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليهما السلام) عن الجبْر والتفويض، فقال: (ألا أعطيكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه، ولا تُخاصمون عليه أحداً إلاّ كسرتموه، قلنا: إنْ رأيت ذلك، فقال: إنّ الله (عزّ وجلّ) لمْ يُطَعْ بإكراه، ولمْ يُعْصَ بغلَبة، ولمْ يهمل العباد في مُلكه، هو المالك لِما ملّكهم، والقادر على ما أقدرهم عليه، فإنْ ائتمر العباد بطاعته لمْ يكن الله عنها صادّاً ولا منها مانعاً، وإنْ ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحُول بينهم وبين ذلك فعَل، وإنْ لمْ يحُل وفعلوه، فليس هو الذي أدخلهم فيه، ثمّ قال (عليه السلام): مَن يضبط حدود هذا الكلام، فقد خصَم مَن خالَفه) (٢) .

وقد أوضح الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليهما السلام) آيتين مِن كتاب الله (عزّ وجلّ)، قد تشابه المعنى فيهما على كثير ممّن لا يعي محتوى الكتاب، (فقال في تفسير قوله تعالى: ( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ) ، قال: إنّ الله تبارك وتعالى لا يوصَف بالترْك، كما يوصَف خلْقه، ولكنّه متى عَلِم أنّهم لا يرجعون عن الكفر والضلال، منعهم المعاونة واللطف، وخلّى بينهم وبين اختيارهم.

وسُئل عن معنى قوله تعالى: ( خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ) ، فقال:

____________________

(١) الشيخ الصدوق / التوحيد: ص ٣٦٦ - ٣٦٧.

(٢) المصدر السابق: ص ٣٦١.

١٢٨

الختْم هو الطبع على قلوب الكفّار عقوبة لهم على كُفرهم، كما قال عزّ وجلّ: بل يطبع الله عليها بكفرهم، فلا يؤمنون إلاّ قليلاً) (١) .

وقد تحدّث الفقيه الراحل السيّد أبو القاسم الخوئي في هذه المسألة العقيدية الخطيرة، فأوضح رأي المدرسة الإمامية قائلاً: (ولنذكر مثلاً تقريبياً يتّضح به للقارئ حقيقة الأمْر بين الأمْرين، الذي قالت به الشيعة الإمامية، وصرّحت به أئمّتها، وأشار إليه الكتاب العزيز.

لنفرض إنساناً كانت يده شلاَّء لا يستطيع تحريكها بنفْسه، وقد استطاع الطبيب أن يوجد فيها حركة إرادية وقتيّة بواسطة قوّة الكهرباء، بحيث أصبح الرجل يستطيع تحريك يده بنفْسه متى وصلها الطبيب بسِلك الكهرباء، وإذا انفصلت عن مصدر القوّة لمْ يمكنه تحريكها أصلاً، فإذا وصل الطبيب هذه اليد المريضة بالسلك للتجربة مثلاً، وابتدأ ذلك الرجُل المريض بتحريك يده، ومباشرة الأعمال بها - والطبيب يمدّه بالقوّة في كلّ آن - فلا شُبهة في أنّ تحريك الرجُل ليده في هذه الحال مِن الأمْر بين الأمْرين، فلا يستند إلى الرجُل مستقلاًّ؛ لأنّه موقوف على إيصال القوّة إلى يده، وقد فرضنا أنّها بفِعل الطبيب، ولا يستند إلى الطبيب مستقلاًّ؛ لأنّ التحريك قد أصدره الرجُل بإرادته، فالفاعل لمْ يُجبَر على فِعله؛ لأنّه مُريد، ولمْ يفوّض إليه الفِعل بجميع مبادئه؛ لأنّ المدَد مِن غيره.

والأفعال الصادرة مِن الفاعلين المختارين كلّها مِن هذا النوع. فالفِعل صادر بمشيئة العبد، ولا يشاء العبد شيئاً إلاّ بمشيئة الله. والآيات القرآنية كلّها تشير إلى هذا الغرض، فهي تبطل الجَبْر - الذي يقول به أكثر العامّة - لأنّها تثبت الاختيار، وتبطل التفويض المحْض - الذي يقول به بعضهم - لأنّها تسند الفِعل إلى الله.

وسنتعرّض إن شاء الله تعالى للبحث تفصيلاً، ولإبطال هذين القولين حين تتعرّض الآيات لذلك.

____________________

(١) المصدر السابق: ص ١٦٠.

١٢٩

وهذا الذي ذكرناه مأخوذ عن إرشادات أهل البيت (عليهم السلام) وعلومهم، وهم الذين أذهب الله عنهم الرجْس وطهّرهم تطهيراً) (١) .

وبذا يتحدّد الفهْم الإمامي لأعْقَد مسألة مِن مسائل الحياة، وهي مسألة تفسير الفِعل الإنساني، فجاء تفسيراً مبنيّاً على أنّ لا جَبْر ولا تفويض، وإنّما الإنسان كائن مُريد مختار وفاعل، وبه يرتبط ما يتولّد عن فِعله، هو مسؤول عنه؛ وبذا صحّ أن يُجازى على فِعله.

ويمكننا أن نستخلص مِن مجْمَل ما عُرِض مِن بيان الأئمّة والعلماء، أهمّ المبادئ المتعلّقة بموضوع الاختيار الإنساني والعدْل الإلهي، وهي:

١ - الإيمان بمبدأ العِلّيّة والسببية الطبيعية والاجتماعية، وأنّ الإنسان يسلك كسببٍ مؤثّر في هذا الوجود.

٢ - الإنسان يملك القدرة والاستطاعة على الفِعل، خيراً كان أو شرّاً، قبل أن يفعل الفِعل.

٣ - إنَّ الله لا يكلّف فوق الوِسع والطاقة، بل جاءت التكاليف بأجمعها بمستوى طاقة الإنسان وقدرته.

٤ - الإنسان فاعل، وعنه يصدر فِعله، وإليه يُنسَب ما يتولّد مِن فِعله مِن أثَرٍ في العالَم الخارجي، وليس محلاًّ لجريان الحوادث. وقد صرّح القرآن بذلك في العديد مِن آياته، ودلّ الوجدان عليه، فكلّ إنسان يُدرك بوضوحٍ كامل أنّه قادر على فِعل العديد مِن الأفعال، كما أنّه قادر على ترْكها، وهو في كلّ ذلك مُعِدّ وسبب، وليس خالقاً لفِعله، بل لدَوره السببي وقدرته على الفِعل والترْك كان مسؤولاً، وسببيّته هي بذاتها جزء مِن نظام الوجود الذي خلَقه الله سبحانه؛ وبذا تتضح العلاقة

____________________

(١) السيّد الخوئي / البيان في تفسير القرآن: ١٠٢ - ١٠٣.

١٣٠

بين إرادة الله وإرادة الإنسان.

٥ - الإنسان مريد مختار؛ لذا استحقّ العقاب والثواب، وأنّ هذا الاختيار لا يعني تفويض الأمْر إليه بشكلٍ تتجرّد الإرادة الإلهية عن التأثير، وتنعزل عن القدرة على منْعه، بل هو أمْر بين أمْرين، كما سبق وأن تمّ إيضاحه.

١٣١

١٣٢

الفصل الخامس

النبوَّةُ

١٣٣

١٣٤

( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (١) .

( رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً، لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً ) (٢) .

( قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (٣) .

( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ

____________________

(١) سورة البقرة: آية ٢١٣.

(٢) سورة النساء: آية ١٦٥ـ ١٦٦.

(٣) سورة آل عمران: آية ٨٤ - ٨٥.

١٣٥

حَسِيباً، مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ) (١) .

( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) (٢) .

(النبيّ هو الإنسان المخبِر عن الله تعالى بغير واسطة أحدٍ مِن البشَر) (٣) .

يشكّل الإيمان بالنبوّة الأساس الثاني بعد الإيمان بالله سبحانه، وهو فرع على الإيمان بوجود الله وعنايته بخلْقه، والعقل البشري بعد أن آمَن بالله سبحانه بالدليل والبرهان القاطع، قاده هذا الإيمان إلى التصديق بالنبوّة والأنبياء، وإنزال الكتُب والشرائع.

وقد تناول المتكلّمون والفلاسفة وأهل العرفان والمتصوّفة والمفكّرون الإسلاميون، هذه المسألة العقيدية الخطيرة الشأن بالبحث والدراسة والتحليـل، كأبرز ظاهرة غيبية في عالَم الحسّ والمادّة على هذه الأرض، فهي تعني اتّصال عالَم الغيب بعالَم الشهادة، والفيض الربّاني بعالَم الإنسان.

وقد دار البحث بشكلٍ رئيسي في مسألة النبوّة على عدّة أُسس هي:

١ - حاجة البشرية إلى النبوّة، وهل هي واجبة على الله سبحانه.

٢ - منهج إثبات صدق دعوات الأنبياء.

٣ - عصمة الأنبياء.

٤ - إثبات نبوّة نبيّنا محمّد (صلّى الله عليه وآله)، وأنّه خاتم النبيّين.

____________________

(١) سورة الأحزاب: آية ٣٩ - ٤٠.

(٢) سورة الصفّ: آية ٦.

(٣) المقداد السيوري / شرح الباب الحادي عشر: ص ٣٤.

١٣٦

٥ - حالات الوحي التلقّي النبويّ.

وعند دارسة هذه المفردات وغيرها مِن مسائل النبوّة ومتفرّعاتها، نلاحظ تعدّد الآراء والتفسيرات وتباينها بشكلٍ واسع وعميق، حتّى أنّ بعض تلك الآراء والتفسيرات خرجت على الأصل الإسلامي، والمرتكز الأساس في حقيقة النبوّة والمعجزة.

وقد كان لمدرسة الشيعة الإمامية الرأي الواضح، والدراسة الوافرة في كلّ مسألة مِن مسائل النبوّة التي أشرنا إليها، ملتزمين بمنهجهم العقيدي في التوحيد والإيمان بمسائل الغيب، التي أشرنا إليها عند بحث منهج المعرفة والإيمان العقيدي. فدخلوا في حوارٍ طويل مع الفِرَق الإسلامية، التي شكّلت آراء مغايرة لتلك الآراء، كما خاضوا ملحمة دفاعٍ حامية عن مسألة النبوّة ضدّ الزنادقة والملاحدة، ومدّعي النبوّة، حفظتها لنا كتُب المناظرات والعقيدة والحديث والتفسير.

ونوضّح فيما يلي رأي المدرسة الإمامية في الأُسس التي دار البحث حولها، وهي كالآتي:

١ - حاجة البشرية إلى النبوّة، وهل هي واجبة على الله سبحانه؟

لقد تناولت المدرسة الإمامية مسألة حاجة البشرية إلى الأنبياء والشرائع الإلهية، بالبحث والدراسة، وأجابت عليها: بأنّ النبوّة ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها، ويجب أن تكون في عالَم الإنسان.

تحدّث العلاّمة الحلّي في وجوب النبوّة وحاجة البشرية إليها، فقال: (اختلف الناس هنا، فقالت المعتزلة: إنّ البِعثة واجبة. وقالت الأشاعرة: إنّها غير واجبة. احتجّت المعتزلة بأنّ التكاليف السمعية ألطاف في التكاليف العقلية، واللطف واجب،

١٣٧

فالتكليف السمعي واجب، ولا يمكن معرفته إلاّ مِن جهة النبيّ، فيكون وجود النبيّ واجباً؛ لأنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب، واستدلّوا على كون التكليف السمعي لطفاً في العقلي، بأنّ الإنسان إذا كان مواظباً على فِعل الواجبات السمعيّة، وترْك المناهي الشرعية... وهذا معلوم بالضرورة لكلّ عاقل) (١) .

وعلّق الفاضل المقداد على تعريف العلاّمة الحلّي للنبوّة في كتابه الباب الحادي عشر، قائلاً: (إذا تقرّر هذا، فاعلم: أنّ النبوّة مع حُسنها - خلافاً للبراهمة - واجبة في الحكمة خلافاً للأشاعرة، والدليل على ذلك، هو أنّه لمّا كان المقصود مِن إيجاد الخلْق هو المصلحة العائدة إليهم، كان إسعافهم بما فيه مصالحهم، وردعهم عمّا فيه مفاسدهم واجباً في الحكمة، وذلك أمّا في أحوال معاشهم، أو أحوال معادهم...

ثمّ قال: فاقتضت الحكمة وجود عدْلٍ يفرض شرعاً، يجري بين النوع، بحيث ينقاد كلّ واحدٍ إلى أمره، وينتهي عند زجْره... ثمّ قال: وذلك الشخص المفتقر إليه في أحوال المعاش والمعاد، هو النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، والنبيّ واجب في الحكمة، وهو المطلوب) (٢) .

وهكذا ترى المدرسة الإمامية: أنّ النبوّة ضرورة لحياة البشرية، وأنّ مصلحة البشرية وإصلاحها متوقّفة عليها، ولا يمكن للبشرية أن تهتدي وتعيش في خير وسعادة، وتربح رضوان الله، إلاّ بالنبوّة والأنبياء، وأنّ ذلك ثابت برحمة الله، ولا يمكن أن يتركه؛ لأنّه يريد هداية الإنسان وإصلاحه، ولو لمْ يرسل الأنبياء (عليهم السلام)، ولمْ يُنزل الشرائع؛ لنقض ما يريده، وهو منزّه عن ذلك.

هذا هو معنى قولهم: إنّ النبوّة لطف واجب على الله سبحانه مِن باب حكمته، وليس معنى الوجوب على الله سبحانه، هو المعنى المتعارف في عالَم الإنسان، كما يتبادر إلى

____________________

(١) العلاّمة الحلّي / كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: ص ٣٧٥ / (المسألة الثانية في وجوب البِعثة).

(٢) المقداد السيوري / شرح الباب الحادي عشر: ص ٣٤.

١٣٨

أذهان البعض مِن الناس.

٢ - منهج إثبات صدق دعوات الأنبياء:

مِن خلال إلقاء نظرة على مسيرة الفكر البشري، والصراع العقيدي والاجتماعي يتشخّص لنا عُمق ذلك الصراع، واتّساع الملحمة بين الفكر الإلحادي والفكر الإلهي، الذي آمَن بالوحي والنبوّة، واتّصال النبيّ الإنسان بعالَم الغيب والملكوت الأعلى، وكان إنكار النبوّة وتكذيب الأنبياء - ولمْ يزل - هو محنة الإنسان ومصدر شقائه وعنائه على هذه الأرض.

وهذه المسألة العقلية الخطيرة في حياة الإنسان، رغم سهولة الإيمان بها والتصديق بما حملته للإنسان من معارف وهداية، فهي لمْ تزل لدى التفكير المادّي مِن أعقد مسائل الفكر، وأكثرها صعوبة.

ولقد ركّز القرآن الكريم في جانبٍ واسع مِن خطابه، على محاكمة التفكير المنكِر لصِدق الأنبياء (عليهم السلام)، وسَوق الأدلّة على وجود الله سبحانه وقدرته، ودخل في حوارٍ طوال سنين الوحي مع الجاحدين والكافرين بالنبوّة - كظاهرة غيبية في عالَم الإنسان - أو مع المنكرين لنبوّة النبيّ الهادي محمّد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله)، ولقد كان لأئمّة أهل البيت وبقيّة علماء الإسلام، نضال فكري ضدّ الزنادقة والملحدين ومنكري نبوّة نبيّنا محمّد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله)، خصوصاً بعد أن تمنطق التفكير في المجتمع الإسلامي، وامتدّت مَوجة الفكر المترجم، وانتشرت مناهج الشكّ.

وقد نهض الفكر الإمامي بالعبء الطليعي في الدفاع عن النبوّة، كظاهرة غيبية بصورة عامّة، وعن نبوّة نبيّنا محمّد (صلّى الله عليه وآله)، وخلود رسالته ومعجزته بصورة خاصّة، وتحتفظ المكتبة الإسلامية بتلك المناظرات والمساجلات والآراء والدراسات، والأبحاث القائمة على أُسس الحجّة والدليل والبرهان، عِبر مستويات

١٣٩

التفكير البشري خلال أربعة عشر قرناً، فكان حصّة الفكر الإمامي في الدراسات العقيدية وافراً وناصعاً، واتّسم بالأصالة والعقلانية.

فقد اعتمد المنهج الإمامي في إثبات صدق النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، على المنهج العقلي الذي يرتكز على أنّ دعوى النبوّة كأيّة دعوى عِلمية تحتاج إلى دليل إثبات، وأنّ الطريق إلى تصديق النبيّ (صلّى الله عليه وآله) هو العقل والاستدلال العقلي، الذي يتوصّل إلى الإثبات عن طريق المعجزة الدالّة على بِعثة النبيّ، وتأييده بها مِن الله تعالى.

يتّضح مِن أحاديث أئمّة أهل البيت، ونصوص الدراسات العقيدية في الفكر الإمامي، أنّ الإمامية ترى وجوب النبوّة، وأنّ مَن ادّعى النبوّة وأيّدته المعجزة، فهو نبيّ يجب تصديقه، وأنّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله) هو خاتم النبيين، قد أيّده الله بالمعجزة الخالدة - القرآن - وبمعاجز مؤيّدة كثيرة.

وقد كتب الخاجة نصير الدين الطوسي في هذا الشأن، قائلاً: (في الطريق إلى معرفة صدق النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وطريق معرفة صدقه، ظهور المعجزة على يده، وهو ثبوت ما ليس بمعتاد، أو نفي ما هو معتاد، مع خرق العادة ومطابقة الدعوى) (١) .

أمّا الشريف المرتضى، فقد كتب يقول: (صِدْق مدّعي النبوّة لا يثبت إلاّ بالمعجز الخارق للعادة، على وجهٍ لا يتقدّر معه إضافته إلى مُحدَث بحُسنه أو صفته المخصوصة؛ ليعلم الناظر اختصاصه بالقديم تعالى، الذي لا يجوز منه تصديق الكذب) (٢) .

____________________

(١) العلاّمة الحلّي / كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: ص ٣٧٧ / (المسألة الرابعة).

(٢) رسائل الشريف المرتضى / (المجموعة الثانية): ص ٣٢٣.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

الأستاذ سلمان الربيعي

قصيدة الربيعي مثبّتة في المتن الشعري كنصٍّ يستحضر بإخلاص وجهد تجربة تدّعي التجارب الشعرية الجديدة أنها قد طواها الزمن لكن الربيعي يراها لا تزال حيّة ونابضة وله الحقُّ في ذلك طالما أن هناك فئات كثيرة من القرّاء لا زالت تستحسن ذلك وتعدّه صحيحاً وتجد في الربيعي من الشعراء مَنْ يُرسّخ ويثبّت هذا الإستصحاب لِما كان في نتاجه الغزير لإثراء هذا التوجه كمّاً ونوعاً.

وللإنصاف فالربيعي من الشعراء المعدودين الذين يواصلون سدّ إحتياجات المنبر الحسيني إلى الجديد من النصوص خطباء ومنشدي عزاء وهو شاعر على أهبة الإستعداد لتلبية نداءات الولاء والقضية الحسينية.

والقصيدة عند الربيعي تعبويّة التوجّه مخطّطٌ لها بإحكام يركن بجدّ إلى معطيات علوم العربية في كلّ تشعّباتها من نحوٍ وصرف وبلاغة وبيان ومعان وعروض ، وأغلب شعره يُرى فيه قابليته لأن يكون شاهداً من شواهد العلوم.

فالربيعي يستعرض ما تعلّمه من فنون وعلوم في شعره وخصوصاً في تفريعات العلوم اللغوية ويرى فيه نوعاً من الإنتماء إلى الأصيل والثابت الذي يشكّل هويته الشعرية والذي يُخلص في الالتحام به على الرغم من كون هذه النظرة نظرة تراثية إلى التراث نفسه ، لكن الربيعي يحتمي تحت سقفها وله فيها كل الحق.

ولا زلت أرى في خروجه على طوق النظم في بحر الكامل ـ الأثير لديه ـ وتثبيت هذا الخروج إنفتاحاً على إمكانات بنائية تمنحها الأبحر الأخرى للربيعي الذي بدأ ذلك في مجموعته الشعرية الثالثة ـ طيف الوطن ـ ولكن بحذرٍ شديد وتوجس.

٢٦١

12 ـ للشاعر الأستاذ شفيق العبادي(1)

إلى سيدتي الذكري

أطلّي ...

فقد أينع الشوقُ وانداحَ عطرُ الحنين

وجئنا على الوعد يا امرأةً زادُها الحزنُ والذكرياتْ

لأبنائها الراحلينْ

مع الشمس كي يُشعلوا ظُلمات المساءْ

لنقطف من شجر القلب أشهى القصائدْ

وننثُرها بين كفّيك يُنبوع ماءْ

قرابينَ

لكنها ...

ـ يالفرط البلاهة ـ

من أحرف مطفآت

لكيما ...

__________________

(1) هو : الشاعر الأستاذ شفيق معتوق العبادي ، ولد سنة 1385 ه‍ فى تاروت ـ القطيف اكمل الثانوية العامة ، يعمل حاليا موظّفا فى كلية الطب بجامعة الملك فيصل بالدمام ، يكتب الشعر والمقالة والقصة وينشر نتاجه الأدبي في الصحف المحلية وبعض الصحف العربية ، كتب عنه في عدد من الكتب التي تناولت ادب المنطقة وفي الدوريات الأدبية وله مشاركات بارزة على الصعيد الادبي والثقافي.

٢٦٢

تُضمّد أحزانها وتطيرْ

وتبقين وحدك في وحشة الدرب

ترعين غرس الدماءْ

* * *

ولكنه العشق سيّدتي فاعذريني

إذا ما خدشتُ حياء القصيدةْ

فجاءتْك ترقص في موكب الحزن مأنوسة بالجراحْ

وقد راح غيري يروّيك بالأدمع الخاثراتْ

ففي حضرة الوجد مَنْ ذا يُطيق إغتصاب الحروفْ ؟

* * *

إذا ما انتحيت عن السرب حلّقتُ وحدي

أُعير جناحيَّ للريح كيما تحلّقَ بي للفضاءْ

فلا أُفق غير العيون المليحات يستوطن الشعرَ

لا شيء يُطرب هذا اليراع المعنّى

سوى لغةٍ منكِ تُذكي لظاهْ

ليرحلَ نحو النجومِ البعيدةْ

٢٦٣

ويبحثَ عن لغةٍ طعمُها العشقُ

عن لغةٍ لونُها العشقُ

كي يستعير القوافي

ليستلهم الذكريات العذارى

ويروي الحروف الظماءْ

ويعزف من وجع القلب ذكرى هواهْ

وذكرى صباهْ

وذكرى الليالي الجميلةْ

فأنت العيون التي ألهمت ريشتي كلّ هذا الغناءْ

* * *

وأنت العيون التي شاغلتني خطاها طويلاً

وأوسعتها غزلاً

ذبتُ فيها جوى

سرتُ من أجلها في دروب المنافي

تأرجحت فوق حبال المشانقِ

خالفت في شرعة الحب كلّ القوانينِ

عارضت كلّ رجالِ القبيلةْ

فلولاكِ ..

٢٦٤

لولاكِ ..

يا حلوتي ما تجشّمتُ هذا العناءْ

* * *

وسافرتُ بين سواحلها الزرق

أبحث عن نورس أنكرتْه الشواطئُ

ضاقت بعينيه كلّ الدروبْ

وقصَّ جناحيه بردُ المدينةْ

جزيرتُه في أقاصي البحار

وأعراقُها في حنايا السماءْ

يجيء على فرس الريح في كلّ عامٍ اليها

ليُسمِعها الأغنيات الحزينةْ

ويحمل ما بين عينيه ذكرى جديدةْ

لملحمة الكبرياء

ليغرس

أعشاشها في الذرى

ويرحل عنها لُقىً في العراءْ

شفيق العبادي

20 / 2 / 1417 ه‍ تاروت

٢٦٥

الأستاذ شفيق العبّادي

شفيق العبّادي حسٌّ نابض بحيوية العاطفة وصدقها ، بجرأة المواجهة يُغنّي موّالاً مفرداً بأسى عميق لكن بلا دموع ، فهو يحتفل بحزنه الخاص على طريقته الخاصة أيضاً ، لذا فهو يعزف تحت شرفة الذكرى ، يعزف على أوتار الشوق اليانع والحنين المعطّر لكي تُطلّ عليه الليلة بحزنها وذكرياتها ليتمّ لقاؤه بها ، فينثر بين كفيها قصائده النابعة من القلب بأحرفها المطفآت ليعبّر لها عن الخيبة والمرارة لأنه صادق العواطف لكنّه يصاب بالبله أمام جلالها الآسر فلا يمنحها إلاّ خواء قصائده التي تضمّد أحزانها بعد اللقاء وتطير في سماواتها لتبقى الذكرى وحدها في عمليةٍ مستحيلة لغرس الدماء.

ويرجع العبّادي ثانية ليعزف على وتر آخر هو وتر العشق ليرقّص قصيدته المخدوشة في حيائها في الموكب العام للحزن ، في الإحتفالية الجماعية بقدوم الذكرى.

يحس العبّادي بتفرده فيسلك سلوكاً مغايراً للسائد والمتعارف وكل ذلك بسبب من علاقة حضور صوفيّة أسماها ( الوجد ) تضيع فيها اللغة وتعود للحروف بكارتها الاولى فلا يستطيع الواجد الصوفي أن يرى إغتصاب الحروف فيلجأ إلى نوع من الصمت الناطق بالحيرة والذهول والتفرّد والإنتحاء عن السرب والتحليق المنفرد التائه لأنه يعير أجنحته للريح لضياع أمكنته فلا أفق له ، لكن عيون الذكرى تستوطن الشعر وتشعل إنطفاءاته ليبتدئ البحث عن لغةٍ حسيّة بطعم العشق ولونه

٢٦٦

فتكتمل أدوات الشاعر ليعزف على وتر الوجع ، تكتمل أدوات الفن كلّها ، ريشة ملهمة تغنّي ووتر يعزف ، ويبدأ عزف آخر على وتر الغزل لتنكشف تضحيات الشاعر وعناؤه وذوبانه ثمّ نفيه ثم بحثه عن قناع يندرج تحت ظلاله فيجده في نورسٍ منفيّ تنكره بيئته البحرية وتمنعه المدن بظواهرها غير الطبيعية من الطيران فيعاني غيبة وانقطاعاً عن المكان ، لكنه يتواصل مع الذكرى تواصلاً حياً دفّاقاً ، له موعدٌ محدّد يجدّد الذكرى التي يحملها ما بين عينيه ويغرس حنوّه والتحامه معها ثم يرحل أيضاً.

والعبّادي يحاصر تجربته بجوّ محزنٍ حادّ ويمسحها بجناح رومانسي محلّق ويطوّع نَفَساً ونبرة إيقاعيتين متبادلتين ومتعامدتين في تتابع مقاطع القصيدة ، فمع أفقية النَفَس ( الذي لا يفارق القافية بيسرٍ بل يختم مقاطع القصيدة بقافيةٍ همزيةٍ متكرّرة ـ الدماء ، الفناء ، العناء ، العراء ـ وهذه الظاهرة فيها بصمات الإكثار من النظم على طريقة العمود ) تقفز تلك النبرة المتخفية لتلملم شتات التداعيات ليسلم تأمله الشارد من أضطرابات اللاشعور الذي يكشف رغبات وأماني الشاعر المكبوتة في تجاوز الألم التقليدي وإكتشاف شعائر أخرى للتعامل مع المتخيَّل عند الجماعة ، فهو تجنّب السطحية والتقريرية والمباشرة لصالح الغموض وعَمَه الرموز الذي قد يؤدي إلى العجز عن تصوّر أو تشكيل رموزه عند المتلقّين مما يحقّق فجوة عريضة على مستوى التوصيل.

٢٦٧

13 ـ للسيد ضياء الخباز(1)

(1)

صفحات من مسرح الدم

حرّكَ الليل سيفَهُ الأمويّا

يَرسمُ الصبحَ مسرحاً دمويّا

يطعنُ النجمَ والدراري اغتيالاً

غاضَهُ الأفقُ مُذ بدا قمريا

فتلقتُه أنجمٌ زاهراتٌ

سكبت فيه نورَها العلويا

نحتتهُ النجومُ ليلاً منيراً

تحسدُ الشمسُ نورَه السرمديا

ثم غنّتهُ للّيالي نشيداً

ملأ الأفقَ صرخةً ودويا

إنَّ لحناً به الحسينُ تغنّى

سوفَ يبقى على المدى أبديّا

* * *

خيّمَ الصمتُ والحسينُ هديرٌ

أرهبَ الصحبَ منه ذاكَ المُحيّا

واستدارت حروفُه في شِفاهٍ

تصهرُ الروحَ عزمةً ومضيّا

__________________

(1) هو : الخطيب الفاضل السيد ضياء السيد عدنان الخباز ، ولد سنة 1396 ه‍ في القطيف ، وفيها درس المقدمات الحوزوية والتحق بحوزة قم المقدسة سنة 1415 ه‍ ولا يزال يواصل دراسته العلمية ، وله مشاركة في النوادي الأدبية والدينية ومن تأليفه 1 ـ كتاب صفحات مشرقة من حياة الإمام السبزواري 2 ـ مجموعة شعرية في المناسبات وغيرها 3 ـ كتابات أُخرى.

٢٦٨

قال « اُفٍّ » وليته لم يقلْها

فبها ظلّ دهرُنا أمويا

ويدُ الموتِ خلفَهُ تنسجُ الموتَ

طريقاً إلى العُلى دمويا

قبّلتْها أنصارُه في هيامٍ

وجدوا الموتَ في الحسينِ هنيّا

قرأوا في الدماءِ جناتِ عدنٍ

صاغها اللهُ مرفأً أزليا

فمضَوا للخلودِ في زورق الطفّ

وخاضوا نهر الدماءِ الزكيا

ما ألذّ الدماء في نُصرةِ الله

إذا كان نبعُها حيدريّا

* * *

وتلاقتْ على الهدى بسماتٌ

لم يرعْها موتٌ يلوحُ جليّا

ضحكوا يهزؤون بالموتِ شوقاً

للقاءٍ يحوي الإمامَ عليّا

وانبروا للّقاء في سكرةِ الحُبّ

الإلهيِّ بالصلاة سويّا

وانقضى الليلُ وهو يرسمُ صبحاً

نحتَ اللهُ شمسَهُ في الثريّا

أطفأتْ وهجَهُ السيوفُ فما

زالت رماداً ولم يزل هو حيّا

ضياء الخباز

19 / شوال / 1416 ه‍

٢٦٩

(2)

فصول من قصة الحسينعليه‌السلام

وغفا الليل في عيون الصحارىٰ

يتخفّىٰ في جفنها إعصارا

والعيونُ السمراءُ كانتْ رماداً

وهو تحت الجفون كان جِمارا

وإذا أقبلَ الصباحُ سيمت‍

‍دُّ ضباباً يخفىٰ لهيباً ونارا

فأعدَّ الحسينُ سيفاً من النور

ونحراً وثلةً أقمارا

هاتفاً يا ظلامُ ( أُفٍ ) فكم أطفأ

تَ فجراً وكم نحرتَ نهارا

ولقد آنَ أن تموت لتحيا

فوقَ أشلائِكَ الشموسُ العذارى

* * *

قصةُ الليل والحسين حَكاياتُ

جراحٍ تفجّرتْ أنهارا

قصةٌ لم تزل تتوّجُ عرشَ الفجر

نوراً وللشموس مدارا

فبها ينفخ الحسينُ فتسري

في شرايينها الحروفُ سكارى

قصةٌ صاغها الحسينُ ولولا

زينبٌ ما تمخّضتْ إعصارا

* * *

ورنت زينبُ البطولة في كفّ

أخيها سيفاً ونوراً ونارا

٢٧٠

يوقد النارَ للألى طعنوا الشمس

ونوراً للتائهين الحيارىٰ

يعزفُ الموتَ للحياةِ وكان

السيفُ في وحي صمته قيثارا

قرأت في عينيه من لغة الدمّ

حروفاً قد عاهدتُه انتصارا

ورأته يبني الشموخَ على أطلالِ

جُرحٍ لم يعرف الإنكسارا

ويريقُ الشريانَ شلالَ هديٍ

كانَ ينسابُ من يديه بحارا

فانبرت والرمالُ تسبقُها خَطواً

إلى الشمس قبل أن تتوارىٰ

إيهِ يا شمسُ لا تموتي فإنّا

ما ألفنا من غير شمسٍ نهارا

إن عزمتِ على الغروب فردينا إلى

موطن إشراقك لنحياكِ ثارا

وهنا المسرحُ الحسينيُّ قد

أسدل ستراً وأطفا الأنوارا

ضياء الخباز

25 / 10 / 1417 ه‍

٢٧١

السيد ضياء الخباز

إعلان الشاعرية أمام ساحة التلقي شيءُ ، ومواجهتها للجهد النقدي فحصاً وإختباراً شيءٌ آخر ، بمشاركتين يثبت السيد ضياء الخباز بدايته كسائر في طريق الإبداع الشعري الطويل ، زوّادته الولاء والحب والعشق الإلهي ، وأدواته الألفاظ الرقيقة والتراكيب الرشيقة والصور الخلاّبة المشرقة ولعلّ في قصيدتيه أصداء من الآخرين نجح في إخفائها بتفوّقٍ ظاهر مما يحقق لديه نتائج قراءاته وإصغائه في شكلٍ يتداخل فيه نصّه الشعري مع نصوص الآخرين الشعرية في عملية تلاقحٍ منتج تفيد تجربته الواعدة وتغنيها فنرجو منه أن لا يستسلم لعوامل الإحباط والخيبة ، فالعملية الشعرية عسرة المخاض والولادة ولاتتأتّى لصاحبها بالهيّن من الجهد بل بالمثابرة والتواصل والمتابعة المستمرة.

ونحن نترك للقرّاء إكتشاف هذه الموهبة الواعدة من خلال نصّيه المدرجين.

٢٧٢

14 ـ الشيخ عبدالحسين الديراوي(1)

ليلة الحداد

يا ليلَ عَشرِ محرمٍ ألبستنا

ثوبَ الحدادِ فكلُّنا مثكولُ

وافيتنا بالنائباتِ وإنَّها

أمرٌ على كلِّ النفوس ثقيلُ

فجَّرْتها يومَ الطفوفِ عظيمةً

منها ربوعٌ قد بكت وطلولُ

حاربتَ مَنْ في فضلهم دون الورى

نطق الكتابُ ونوّهَ الانجيلُ

لما رأيتَ ابن النبي ونورَه

( عُرضُ الدُنى فيه زها والطولُ )

أمَّ العراقَ بِفتيةٍ من أهله

ليُقيمَ أمراً قد عراه خمولُ

أثقلتَ كاهلَه بها وأعَقْتَه

من أن يحقّقَ ما هو المأمولُ

ورميتَه بسهام غدرٍ ما ابتلى

فيها وصيٌ قبلَه ورسولُ

خَذَلَتْه أقوامٌ تسابقَ رُسْلُهم

منهم مُريحٌ عنده وعجولُ

برسائلٍ مضمونُها وحديثُها

أن ليس غيرُك للنجاةِ سبيلُ

إنّا لأمرك طائعون فقم بنا

فإلامَ يحكم في البلاد جهولُ

عجِّل فدتك نفوسُنا فكبيرُنا

وصغيرُنا لك ناصحٌ ووصولُ

__________________

(1) هو : الخطيب المعاصر الشيخ عبد الحسين عبد السادة الديراوي ولد في خوزستان وسلك في عداد خدّام المنبر الحسيني كما درس في الحوزة العلمية في قم المقدسة والأهواز ، وله ديوان شعر شعبي ( مطبوع ) أغلبه في واقعة الطف وله مشاركاتٌ في المناسبات الدينية وغيرها.

٢٧٣

تالله إن لم تستجب لندائنا

فالدينُ دين أميّةٍ سيؤولُ

ومن المدينة حين راح يحفّه

مَنْ مالَهم في العالمين مثيلُ

قد نُزِّهوا عن كل ما من شأنهِ

يُوري فهم لذوي العُلا إكليلُ

نزلوا بأرض الغاضرية فازدهتْ

من نورهم ليت المقام يطولُ

باتوا وبات ابن النبي كأنَّه

بدرُ السماء وذالكمْ تأويلُ

أحيىٰ وأحيوا ليلَهم بتضرّعٍ

وتبتُّل وعلا لهم تهليل

وغدا يودّعُ بعضُهم بعضاً فما

أحرى بأن يبكي الخليلَ خليلُ

حتى إذا ولَّى الظلامُ وأصبحوا

أُسداً تجول على العدى وتصولُ

شهدت ببأسهم الفيالقُ إذ رأتْ

موتَ الزؤام له بهم تعجيلُ

فكأنَّ يومَ النفخ آن أوانُه

وبه الموكّل أُعطيَ التخويلُ(1)

منهم تهيَّب جيشُ آل أميةٍ

وعرا الجميعَ تخاذلٌ وذهولُ

وَعَلَيهِمُ حام القضا فدعاهُم

داعي المنونِ وإنَّه لعجولُ

فهووا على حرِّ الصعيدِ وبعدَهم

نُكِبَ الهدى إذ ربُّه المثكولُ

أمَّ الخيام إلى النساء معزِّياً

ومودِّعاً فبدا لهنَّ عويلُ

وغدا يُسَلِّي الثاكلاتِ وهكذا

حتى هَدَأنَ فقام وهو يقولُ

(مَنْ ذا يُقدّمُ لي الجوادَ ولامتي

والصحبُ صرعى والنصيرُ قليلُ)

__________________

(1) في القيامة اقواءٌ واضح.

٢٧٤

15 ـ للشاعر الشيخ عبد الله آل عمران(1)

الليلة الخالدة

خَيَّمَ الليل والذوي صقيعُ

وسجودٌ وشاحُهُ وركوعُ

وجه السبطُ محورَ القلب يدعو

بالعباداتِ قدرَ ما يستطيعُ

ودعا اللهَ سيدُ الكون يرنو

أن يطيل الظلامَ ربٌّ سميعُ

خَيَّم الليلُ فالعبادة وهجّ

يتمنى أن لا يضيء الصديعُ

لا لأن الرحيل صعبٌ ولكن

عشق النسك فالفراق مروعُ

حيث لو خيَّروه بين جنان

أو رجوع لها لقال : الرجوعُ

* * *

قال يا صاحب إننا سوف نمضي

للمنايا وليس منها منيعُ

فانظروا كيف تصنعون فكلٌ

في اختيار إذا عصى أو يطيعُ

فتلقوه بالصمود ونادوا

يا ابن بنت النبي نحن الدروع

__________________

(1) هو : الشاعر الشيخ عبد الله بن أحمد بن مهدي آل عمران ، ولد سنة 1390 ه‍ في جزيرة تاروت ـ القطيف ، أكمل دراسته الأكاديمة ، وحاز على شهادة البكالوريوس في العلوم الادارية من جامعة الرياض ، وله مشاركة في النوادي الأدبية والثقافية الدينية.

٢٧٥

فامض : فينا فان أرواحنا تف‍

ديك حتى يسيلَ النجيعُ

قال : قد هوَّم الظلامُ فهبّوا

نحو إحيائه فلبى الجميعُ

فَهُمُ بين قارئٍ ومصلي

في اشتياقٍ وقد براهمْ خضوعُ

هكذا كان ليلُهم في وداعٍ

ولذا ما غشي العيونَ هجوعُ

* * *

ها هنا فرقتان فالسبط والآ

لُ وسربالُها التقى والخشوعُ

وبنو الحقد والنفاق وتبدو

في نفوس وقد غشاها الخنوعُ

هذه أنفسٌ من القدس صيغتْ

ونفوسُ الأعدادِ بناها وضيعُ

وهنا العزُ والبسالةُ روحاً

وهمُ ساقهم جبانٌ جزوعُ

وهنا عفةٌ وصدقٌ وحلمٌ

وهناكَ الدها وغدرٌ فظيعُ

وهنا للفداء عنوانُ حقٍ

وهناك فنُ القذارات ريعُ

وهنا العطف والحنان تسامى

وهم ما نجى ـ لديهم ـ رضيعُ

وهنا تزدهي الصراحةُ شمساً

وهم خادع له مخدوعُ

هذه صفحةٌ من الطُهر صيغت

وعلى تلكم الهوى والميوعُ

واشترى الله أنفساً طاهراتٍ

لا تحابي بمبدأ أو تبيعُ

ها هم الصحبُ بالوفاءِ تسمّوا

فمجال الوفاء قطعاً وسيعُ

* * *

٢٧٦

قد بدا الحقدُ في ابن سعدٍ فجرماً

قد أتاه فساء منه صنيعُ

أسخطوا الوحي والسماءَ عليهمْ

إن حرب الحسين جرمٌ شنيعُ

ليس حرباً لشخصه بل لروحٍ

هي للدين أصله والفروعُ

فغذاً هذه الشموعُ ستدوّي

ذاك فوق الصعيد مرمى صريعُ

وعزيزٌ بكت عليه الثكالى

خضّبوهُ فسال منه النجيعُ

ونساءٌ يصحن إنا عطاشى

وأبو الفضل لليدين قطيعُ

وغداً تندب اليتامى لقتلي

صحْنَ قد ( قوض العماد الرفيعُ )

إنما هذه الضحايا ستبقى

وستهدي الأنام هذي الشموعُ

وسيبقى الحسينُ يجري بدمٍ

في عروقي فبالعبير يضوعُ

ويهيم الفؤاد في تلبياتٍ

كُلّما مرّ ذكرُهُ ويميعُ

ليلة السبطِ خلَّدت دينَ طه

حيث لولاه دينُ طه يضيعُ

عبد الله أحمد آل عمران

20 / 11 / 1416 ه‍

٢٧٧

الشيخ عبد الله آل عمران

القصيدة محاولة جادة بالأدوات الشعرية التوصيل رؤى الشاعر وتصوراته الخاصة عن ليلة عاشوراء ، وبطريقة تجريبية اختار الشاعر مساحة عريضة للتعبير ليفحص طول نَفَسه الشعري مع بحر مركّب التفعيلات متداخل الإيقاع هو بحر الخفيف وكذلك مع قافية صعبة المنال وعسرة الرويّ هي قافية حرف العين.

إن على الشاعر المتصدّي لإحياء أمر أهل البيتعليهم‌السلام أن ينتبه إلى أنه يطرح شعره أمام متلقين منصهرين النصوص ، فهم يتلون آيات القرآن الكريم في الصلاة وغيرها ، ويزورون الأئمةعليهم‌السلام بنص ، ويقرأون أدعيتهم بنصٍ أيضاً ، مما يجعل مساحة تعاملهم مع النصوص مساحة عريضة ، ودرجة تلقّيهم عالية التوتر ، فيجب الإلتفات إلى القابلية المتحصّلة لديهم لغرض تحقيق التوصيل الحامل للمتطلبات الفنية والأدبية والجمالية.

ونخلص إلى أن آل عمران مع حمله للبذرة الساحرة المسحورة التي تمكنه من الثبات والتفوق في الساحة الشعرية فقد حاول التعبير عن أحداث الليلة لاجئاً إلى التطابق الواقعي مع التفاصيل دون التطابق الفني فامتدّ نصه حين شرح التقابل بين المعسكرين لينتهي بعلاقته الشخصية بالإمام الحسينعليه‌السلام ويُقرر في النهاية قراراً نهائياً عن ليلة عاشوراء قائلاً :

ليلةُ السبطِ خلّدت دينَ طه

حيث لولاه دين طه يضيعُ

٢٧٨

16 ـ للشيخ عبد الله العوى القطيفي(1)

منازل كربلاء

فمضى يخبّر صحبه عما جرى

ويُبين للأمر المهول الأكبرِ

هذي الطفوف وذي منازل كربلا

أفما ترون لسابقي لم يجسر

قد قال جدي إنها أوطاننا

وبها تسيل دماؤنا كالأبحر

وبها تسام الخسف نسوة أحمد

وبها تصيب الدين طعنة أكفر

لكنّكم في الحلّ مني فارحلوا

من قبل ابلاج الصباح المسفر

قالوا له انت الصباح وسيره

فيه الصلاحُ لعاقلٍ مستبصر

ماذا نقول إذا أتينا أحمداً

وأباك والزهراء عند الكوثر

تفديك يا نفس الرسول نفُوسنا

وأقل شيءٍ أن تُراق بمحضر

فاصدع بأمرك تحظ قصدك عاجلاً

وترَ الصحيح من القتال الأكبر

لله در نفوسهم لمّا علوا

فوق السوابق والخيول الضمَّر

فكأنَّهم فوق الخيول كواكبٌ

تسمو على مرّيخها والمشتري

وكأنَّ خيلهمُ نجومٌ قد هوت

رجماً لشيطانٍ وكلّ مكفّر

لم يحسبوا رشق النبال أذَّيةً

كلا ولا طعن الرماح بمُذعر

ولكم أبادوا من عُصاةٍ ذادةٍ

لبسوا الدروعَ واقبلوا كالأنسُر

حتى قضوا ما بين مشتبك القنا

وبقي حسينٌ مفرداً لم يُنصر(2)

__________________

(1) هو المرحوم الشيخ عبد الله بن الشيخ علي بن محمد بن علي بن درويش القطيفي المشهور بالعوى ، أحد أعلام القرن الثالث الهجري توفي سنة 1210 ه‍.

(2) محرك الأشجان : للحاج أحمد العوى : ص 558.

٢٧٩

17 ـ للشيخ عبد الكريم آل زرع(1)

العبق الفواح

أليلة عاشوراء يا حلكاً شَبَّا

حنينك أدرى من نهارك ما خبّا

وما خبّأ الآتي صهاريج أدهُرٍ

بساعَاتِه قد صبّ صاليَها صبّا

بساعات ليلٍ صرَّم الوجدُ حينها

يُناغي بها الولهان معشوقه حُبّا

يُقضِّي بها صحبُ الحسين دجاهُمُ

دَويّاً كمن يُحصي بجارحةٍ تعبى

لقد بيّتوا في خاطر الخلدِ نيةً

أضاءت دُجى التاريخ نافثةً شُهبا

وقد قايضوا الأرواح بالخلد والظما

برشف فرنْدٍ يحتسون به الصَّهبا

فواعظمهم أنصار حَقٍّ توغّلوا

إلى حِمِم الهيجاءِ واستنزفوا الصعبا

فأكبْر بهم عزّاً وأكرمْ بهم تُقىً

وأعظمْ بهم شُوساً وأنعمْ بهم صحبا

بهم ظمأٌ لو بالجبال لهدَّها

ولو بالصّخور الصُمِّ فتّتهّا تُربا

عزائمُهمْ لو رامت الشمسَ بُلِّغت

ولو رامت الأفلاك كانت لها تربا

وأعيُنُهمْ لا يَسبر الفكرُ غورَها

شُرودٌ بها قد حَيَّر الفِكرَ واللبّا

__________________

(1) هو : الشاعر الشيخ عبد الكريم بن مبارك آل زرع ، ولد في تاروت ـ القطيف سنة 1381 ه‍ ، يعمل حالياً في شركة ارامكو ، ولا يزال أيضاً يواصل دراسته الحوزوية في القطيف ، ومن نتاجه الأدبي القيّم ديوان شعر ( مخطوط ) أكثره في أهل البيتعليهم‌السلام ، وهو أحد النشطين بالمشاركة في النوداي الأدبية والدينية.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390