التشيع نشأته معالمه

التشيع نشأته معالمه0%

التشيع نشأته معالمه مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 390

  • البداية
  • السابق
  • 390 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 19589 / تحميل: 7024
الحجم الحجم الحجم
التشيع نشأته معالمه

التشيع نشأته معالمه

مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ويرى الفكر الإمامي أنّ التصديق بالأنبياء قضية استدلالية، ومعرفة تحتاج إلى اكتساب، كما تكتسب المعارف الأُخرى المجهولة لدى الإنسان، وطريق الاستدلال هو العقل، الذي يُصدّق ويذعن بعد مشاهدة المعجزة، فإذا جاء النبيّ بما يعجز البشر عن الإتيان به، آمن الناس بأنّه معجز مِن الله سبحانه، وأنّ المؤيّد به نبيّ مرسل.

ولقد كتب الشيخ الصدوق موضّحاً طريق المعرفة بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله)، قائلاً: (أقول: إنّ المعرفة بالله اكتساب، وكذلك المعرفة بأنبيائه، وكلّ غائب... الخ) (1) .

وقد نشأ جدال بين أصحاب المذاهب والآراء العقيدية والفلسفية في: هل تكليف النبيّ بالنبوّة هو تفضّل مِن الله عليه، عندما اختصّه بها دون غيره، أمْ استحقاق استحقّه ذلك الشخص لخصال خاصّة به...؟ فانقسم الفلاسفة والمتكلّمون الإسلاميون على فريقين اثنين:

قال الشيخ المفيد موضّحاً ذلك: (أقول: إنّ تكليف النبوّة تفضّل مِن الله تعالى على مَن اختصّه بكرامته؛ لعِلمه بحميد عاقبته، واجتماع الخلال الموجبة في الحكمة بنبوّته في الفضل عمّن سواه، فأمّا التعظيم على القيام بالنبوّة والتبجيل وفرض الطاعة، فذلك يستحقّ بعِلمه الذي ذكرناه.

وهذا مذهب الجمهور مِن أهل الإمامة، وجميع فقهائنا أهل النقل منّا، وإنّما خالف فيه أصحاب التناسخ المُعْتَزين إلى الإمامية وغيرهم، ووافقهم على ذلك مِن متكلّمي الإمامية بنو نوبخت، ومَن اتّبعهم بأسره مِن المنتمين إلى الكلام، وجمهور المعتزلة على القول بالتفضّل فيها، وأصحاب الحديث بأسرهم على مثل هذا المقال) (2) .

____________________

(1) الشيخ المفيد / أوائل المقالات: ص 66.

(2) المصدر السابق: ص 71 - 73.

١٤١

3 - عصمة الأنبياء:

العصمة في اللغة: (العصمة في أصل اللغة: هي ما اعتصم به الإنسان مِن الشيء، كأنّه امتنع به عن الوقوع فيما يكره، وليس هي جنساً مِن أجناس الفِعل) (1) .

العصمة في المصطلح: (والعصمة في اصطلاح المتكلّمين هي: (لطفٌ خفيٌّ يفعله الله تعالى بالمكلّف، بحيث لا يكون له داع إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية، مع قدرته على ذلك) (2) .

ويوضّح الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) المعنى الاصطلاحي للمعصوم، فيقول: (المعصوم هو الممتنع بالله مِن جميع محارم الله) (3) .

إنّ مِن الأفكار والعقائد الأساسية التي وقع الحوار والجدَل فيها، هو عصمة الأنبياء (عليهم السلام)، أي اتّصافهم بالكمال البشري؛ نتيجةً لِما يحملون مِن مَلَكات نفسية وقوّة إرادية ووضوح في الفهْم والرؤية، مسدّدين مِن الله سبحانه بما آتاهم مِن لطف وتوفيق؛ ليكونوا قدوَةً للبشرية في القول والعمل، وهداةً للمسيرة الاجتماعية، ونموذجاً إنسانياً للمبادئ والقيَم الإلهية التي يدعون إليها.

إنّ اتّصاف الأنبياء الدعاة بالاستقامة السلوكية، والممارسة السَوية في الحياة - أي اتّصافهم بالعصمة - أمر ضروري لنجاح الدعوة، وقبول البشرية بمبادئ الرسالة؛ لذا كان هذا اللطف بالأنبياء - في حقيقته - لطفاً بالبشرية، لطف هدايةٍ وتقريبٍ مِن الاستقامة والصلاح.

فالنبيّ الداعي إلى الحقّ والخير والاستقامة، لا يمكن أن يصدّقه أحد أو يتبعه

____________________

(1) المصدر السابق: ص 150.

(2) المقداد السيوري / شرح الحادي عشر: ص 37.

(3) المجلسي / بحار الأنوار 25: 194.

١٤٢

إنسان، إذا ما شاهده يخالف بسلوكه الدعوة والمبادئ التي يدعو إليها.

والله سبحانه لمْ يكن يأمر البشرية بالاقتداء بالأنبياء، لولا أنّه عَلِم أنّ ما يصدر عنهم مِن فِعلٍ وقولٍ سيكون ممثّلاً للشريعة والرسالة التي أرسلوا بها.

لذا نجد القرآن الكريم قد أمر البشرية بالاقتداء بالنبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله)، اقتداءً كاملاً بقوله: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ) (1) .

وبقوله: ( ... وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا... ) (2) .

وتأسيساً على ذلك كانت السنّة النبويّة مصدراً مِن مصادر التشريع، قولاً وفعلاً وتقريراً، وقد درس الفكر الإسلامي هذه المسألة دراسة علمية مستفيضة، على ضوء مبادئ الشريعة والسلوك العملي للرسول الكريم، وتقييم العقل لهذه الصفة.

وكان أبرز محاور الدراسة تدور حول: هل الأنبياء معصومون مِن الكبائر والصغائر قبل البعثة وبعدها، أو لا؟

وإذا كان الأنبياء معصومين، فهل هذه العصمة خاصّة بما يُبَلّغونه عن الله سبحانه، أي في مجال الشريعة وحسب، أو هي عصمة في كلّ فِعلٍ وقولٍ يصدر عنهم في أُمور الدين والدنيا؟ فهم لا يقولون ولا يفعلون إلاّ الصواب، الذي أباحته أو أوجبته الشريعة، ولا يقولون ولا يفعلون شيئاً مِن شؤون الحياة، إلاّ ما كان متطابقاً مع الحقيقة العِلمية ووِفْق قانون الطبيعة، الذي تسير وفْقه الحياة.

ويشرح الشيخ المفيد (3) معنى العصمة بشكلٍ محدّد بقوله: (العصمة مِن الله

____________________

(1) سورة الأحزاب: آية 21.

(2) سورة الحشر: آية 7.

(3) الشيخ المفيد / شرح عقائد الصدوق: ص 235 - 236. (مطبوع في آخِر كتاب أوائل المقالات للشيخ المفيد).

١٤٣

لحُججه: هي التوفيق واللطف، والاعتصام مِن الحُجج بهما عن الذنوب والغلط في دِين الله تعالى.

العصمة تفضّل مِن الله تعالى على مَن عَلِم أنّه يتمسّك بعصمته والاعتصام فِعل المعتصم، وليست العصمة مانعة مِن القدرة على القبيح، ولا مضطرّة للمعصوم إلى الحسَن، ولا مُلجئة له إليه، بل هي الشيء الذي يعلم الله تعالى أنّه إذا فعَله بعبد مِن عبيده، لمّ يُؤْثِر معه معصية له، وليس كلّ الخلْق يعلم هذا مِن حاله، بل المعلوم منهم ذلك هُم الصفوة والأخيار.

قال الله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ) (1) ، وقال سبحانه: ( وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَـى الْعَالَمِيـنَ ) (2) ، وقال سبحانه: ( وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ ) (3) .

ويشرح العلاّمة الحلّي وجوب العصمة التامّة في الأنبياء، ويبيّن أهمّيتها في قبول الدعوة وتصديق النبوّة، فيقول: (العصمة لطفٌ خفيٌّ يفعله الله تعالى بالمكلّف، بحيث لا يكون له داعٍ إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية، مع قدرته على ذلك؛ لأنّه لولا ذلك لمْ يحصل الوثوق بقوله، فانتفت فائدة البِعثة، وهو محال) (4) .

ثمّ علّق الشارح المقداد السيوري بقوله: (أقول: اعلم أنّ المعصوم يشارك غيره في الألطاف المقرّبة، ويحصل له زائداً على ذلك، لأجْل ملَكةٍ نفسانية، لطفٌ بفِعل الله، بحيث لا يختار معه ترك الطاعة، ولا فِعل المعصية، مع قدرته على ذلك) (5) .

ويتحدّث الشيخ المفيد عن رأي الإمامية في عصمة الأنبياء، فيقول: (أقول: إنّ

____________________

(1) سورة الأنبياء: آية 101.

(2) سورة الدخان: آية 32.

(3) سورة (ص): آية 47.

(4) المقداد السيوري / شرح الباب الحادي عشر: ص 37.

(5) المصدر السابق: ص 37.

١٤٤

جميع أنبياء الله (صلّى الله عليهم) معصومون مِن الكبائر قبل النبوّة وبعدها، وممّا يستخفّ فاعله مِن الصغائر كلّها، وأمّا ما كان مِن صغيرٍ لا يستخفّ فاعله، فجائز وقوعه منهم قبل النبوّة، وعلى غير تعمّد، وممتنع منهم بعدها على كلّ حال. وهذا مذهب جمهور الإمامية، والمعتزلة بأسرها تخالف فيه).

ثمّ قال: (أقول: إنّ نبيّنا محمّداً (صلّى الله عليه وآله) ممّن لمْ يعصِ الله (عزّ وجلّ)، منذ خلَقه الله إلى أنْ قبضه، ولا تعمّد خلافاً، ولا أذنب ذنباً على التعمّد ولا النسيان، وبذلك نطق القرآن، وتواتر الخبر عن آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)، وهو مذهب جمهور الإمامية، والمعتزلة بأسرها على خلافه.

وما يتعلّق به أهل الخلاف مِن قول الله تعالى: ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) ، وأشباه ذلك في القرآن، ويعتمدونه في الحجّة على خلاف ما ذكرناه، فإنّه تأويل بضدّ ما توهّموه، والبرهان يعضده على البيان، وقد نطق الفرقان بما قد وصفناه، فقال جلّ اسمه: ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ) (1) ، فنفى بذلك عنه كلّ معصية ونسيان) (2) .

ويتحدّث الإمام الصادق (عليه السلام) عن عصمة الرسول، فيقول: (إنّ رسول الله كان مسدّداً موفّقاً مؤيّداً بروح القدس، لا يزلّ ولا يخطئ في شيءٍ ممّا يسوس به الخلْق) (3) .

وبعد هذه القراءة في مدرسة الشيعة الإمامية المعرِّفة لعصمة الأنبياء، نستخلص الآتي:

أ - إنّ العصمة مَلَكة نفْسية راسخة لا تزول، تمنع صاحبها مِن الوقوع في

____________________

(1) سورة النجم: آية 1.

(2) الشيخ المفيد / أوائل المقالات: 69.

(3) يراجع السيّد عبد الله شبّر / حقّ اليقين في معرفة أصول الدِين 1: 94.

١٤٥

المعصية، بتوفيقٍ مِن الله ولطف لمستحقّ ذلك اللطف: ( وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ ) (1) ، ( وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِيـنَ ) (2) ، ( ... اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ... ) (3) .

ب - إنّ الأنبياء مسَّددون معصومون مِن الخطأ، بما يبلّغونه وبما يسوسون به البشَرية سياسة حياتية عامة، فلا يصدر عنهم معصية ولا خطأ فيما يبلّغونه عن الله سبحانه، ولا في أيّ فِعلٍ أو قول يمارسونه في الحياة، بتوفيقٍ مِن الله وتسديد.

ولولا ذلك لَما دعا القرآن إلى الاقتداء بهم والأخذ عنهم: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ... ) (4) ، ( ... وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا... ) (5) ، ( أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ... ) (6) ، ( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ) (7) ، ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (8) ، ( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ... ) (9) ، ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) (10) .

4 - إثبات نبوّة نبيّنا محمّد، وأنّه خاتم النبيّين:

ويستدلّ الفكر الإمامي على نبوّة نبيّنا محمّد (صلّى الله عليه وآله)، والردّ على الزنادقة والمشركين وأصحاب الديانات السابقة، وعلى الإيمان بالله ووجوب بِعثة

____________________

(1) سورة (ص): آية 47.

(2) سورة الدخان: آية 32.

(3) سورة الأنعام: آية 124.

(4) سورة الأحزاب: آية 21.

(5) سورة الحشر: آية 7.

(6) سورة الأنعام: آية 90.

(7) سورة النجم: آية 2.

(8) سورة القلم: آية 4.

(9) سورة الأنعام: آية 124.

(10) سورة النجم: آية 3 - 4.

١٤٦

الأنبياء على الله سبحانه، بأنّ مِن ادّعى النبوّة، فصدّقته المعجزة فهو نبيّ، وأنّ نبيّنا محمّداً (صلّى الله عليه وآله) جاء بالقرآن المعجزة الخالدة، التي تحدّت البشرية جميعها، وأيّدته عشرات المعاجز التي جرَت على يده في عصره المبارك.

وممّا نطق به هذا القرآن الكريم، وبشَّر به عظماء الأنبياء مِن قَبْل، هو أنّ رسالات الله سبحانه قد خُتمت برسالة محمّد (صلّى الله عليه وآلـه)، فلا نبيّ بعده، ولا رسالة بعد رسالته.

( ما كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ) (1) .

ومحمّد (صلّى الله عليه وآله) هو بشارة الأنبياء، الذي بشّر به موسى وعيسى (عليهما السلام)، وهو دعوة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام)، وقد صرّح القرآن بذلك بقوله: ( ... الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ... ) (2) .

( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) (3) .

وفي دعاء إبراهيم وإسماعيل الذي نقله القرآن الكريم لنا نقرأ:

( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ

____________________

(1) سورة الأحزاب: آية 40.

(2) سورة الأعراف: آية 157.

(3) سورة الصفّ: آية 6.

١٤٧

الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (1) .

ويأتي التصريح بجواب هذا الدعاء في سورة الجمعة: ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) (2) .

وقد أوضح المفسّر الكبير أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي هذا المعنى بقوله: (وفي هذه الآية دلالة على أنّ إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) دعوا لنبيّنا محمّد (صلّى الله عليه وآله) بجميع شرائط النبوّة؛ لأنّ تحت التلاوة الأداء، وتحت التعليم البيان، وتحت الحِكمة السنّة، ودعَوا لأُمّته باللطف الذي لأجْله تمسّكوا بكتابه وشرْعه، فصاروا أزكياء؛ وهذا لأنّ الدعاء صدر مِن إسماعيل، فعلم بذلك أنّ النبيّ المدعو به مِن وُلدِه، لا مِن وُلد إسحاق، ولمْ يكن في وُلد إسماعيل نبيّ غير نبيّنا محمّد (صلّى الله عليه وآله) سيّد الأنبياء) (3) .

وقد قال المفسّر الطبرسي قبل ذلك: (والمعني به بقوله: ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ ) ، هو نبيّنا محمّد (صلّى الله عليه وآله)، لِما روي عنه أنّه قال: أنا دعوة أبي إبراهيم (عليه السلام)، وبشارة عيسى (عليه السلام)، يعني قوله: ومبشّراً برسولٍ يأتي مِن بعدي اسمه أحمد، وهو قول الحسَن وقتادة وجماعة مِن العلماء، ويدلّ على ذلك: أنّه دعا بذلك لذرّيته الذين يكونون بمكّة وما حولها، على ما تضمنه الآية في قوله: ربّنا وابعث فيهم، أي في هذه الذرّية رسولاً منهم، ولمْ يبعث الله مَنْ هذه صورته إلاّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله)...) (4) .

____________________

(1) سورة البقرة: آية 127 - 129.

(2) سورة الجمعة: آية 2.

(3) الطبرسي / مجمع البيان في تفسير القرآن 1: 211.

(4) المصدر السابق: ص 210.

١٤٨

ويؤكّد القرآن الكريم نسْخه للشرائع والديانات بقوله: ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (1) .

( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (2) .

( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ... ) (3) .

فشريعة الإسلام قد نسخَت الشرائع جميعها، وحملت مِن السِعة والشمول لِما يحتاجه الإنسان على امتداد الزمان والمكان، وتطوّر الفكر والمجتمع، ما يؤهّلها لقيادة الحياة البشرية، وحلّ مشاكل الإنسان المدنية والحضارية المتجدّدة، وقبولها لعملية الاجتهاد والتوالد التشريعي والمفهومي.

5 - حالات الوحي والتلقّي النَّبَوي:

( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (4) .

إنَّ مِن الأركان الأساسية في عقيدة التوحيد هو الإيمان بالوحي والنبوّة.

وقد تحدّث القرآن الكريم عن كيفيّات الوحي، كما تحدّث الأئمّة الهداة والرواة وكتّاب السِيَر عن كيفية نزول الوحي على الرسول (صلّى الله عليه وآله).

قال الشيخ المفيد: (وأصل الوحي هو الكلام الخفي، ثمّ قد يطلق على كلّ

____________________

(1) سورة التوبة: آية 33.

(2) سورة آل عمران: آية 85.

(3) سورة آل عمران: آية 19.

(4) سورة الشورى: آية 51.

١٤٩

شيءٍ قُصد به إلى إفهام المخاطب على الستر له عن غيره، والتخصيص له به دون مَن سواه، وإذا أُضيف إلى الله تعالى كان فيما يخصّ به الرُسل (عليهم السلام) خاصّة، دون مَن سواهم على عُرف الإسلام وشريعة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)) (1) .

ومِن استقراء حالات الوحي وتلقّي الأنبياء والرُسل في كتاب الله سبحانه، ومِن بيان الرسول وأئمّة المسلمين، نفهَم أنّ حالات التلقّي هذه تتلخّص في الصوَر الآتية:

أ - حالة الوحي المباشر: هي حالة إلقاء الكلمة الإلهية إلى الرسول بلا واسطة مَلَك، كما خاطب الله نبيّه محمّداً في معراجه إلى السماوات العُلى، وكما خاطب نبيّه موسى (عليه السلام): ( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً ) (2).

وقد شرح الإمام الصادق (عليه السلام) هذه الحالة بقوله: (كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، إذا أتاه الوحي مِن الله، وبينهما جبرئيل (عليه السلام)، يقول: هو ذا جبرئيل، وقال لي جبرئيل.

وإذا أتاه الوحي، وليس بينهما جبرئيل (عليه السلام) تصيبه تلك السبتة (3)) .

ب - الوحي بواسطة تكليم المَلَك جبرئيل (عليه السلام): ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ) (4) .

جـ - الوحي عن طريق الإلقاء في نفْس النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لقوله:

____________________

(1) الشيخ المفيد - نقلاً عن الشيخ عبّاس القمّي / سفينة البحار (باب وحي) 2: 638.

(2) سورة طه: آية 11، 12.

(3) السبتة: نوم خفيّ كالغشية: (لسان العرب) 2: 37 (مادّة سبت).

(4) سورة الشعراء: 193 - 194.

١٥٠

(يا أيّها الناس إنّه قد نفث في رَوعي روح القدس، أنّه لن تموت نفْسٌ حتّى تستوفي رزقها) (1) .

د - الإيحاء بواسطة الرؤيا: فقد تحدّث القرآن عن هذه الحالة بقوله: ( لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ... ) (2) .

____________________

(1) الكليني / الفروع مِن الكافي 5: 80 - باب الإجمال في الطلب ـ.

(2) سورة الفتح: آية 27.

١٥١

بدْء الوحي

نقل بعض المؤرّخين والمستشرقين صوَراً مشوّهة عن نزول الوحي على النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فتحدّثوا بأنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لمْ يفْهم ما رأى في غار حراء، وأنّ نزول الوحي في الغار قد أحدَث له اضطراباً وفزعاً، وكاد أن يلقي بنفْسه مِن أعلى الجبل، ممّا دعاه إلى أن يطلب تفسير ما حدث له مِن خديجة [ عليها السلام ]، التي أخذته إلى ورَقة بن نوفل، الذي قام بتفسير ما رأى الرسول (صلّى الله عليه وآله) في غار حراء، وهو الذي أفْهمه الذي جاءه هو مَلَك الوحي.

إنّها قصّة ملفّقة وتصوير مدسوس على الموقف النبويّ؛ فإنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) كان قبل نزول الوحي بزمن، يذهب إلى الغار؛ ليتعبّد فيه، ويتأمّل في ملَكوت السماوات والأرض، منتظراً ما سيأتيه مِن وحيٍ ونبوّة، وفيما أوضح الإمام الباقر (عليه السلام) ببيانٍ كافٍ للردّ على هذه الشُبهة، فقد أوضح أنّ الرسول أوّل ما بُدئ بالرؤيا الصادقة، وأنّ (رؤيا الأنبياء وحي)، كما ورد عن الإمام عليّ (عليه السلام)، وكما أوضح القرآن ذلك.

روي عن الإمام الصادق (عليه السلام)، في بيان تلقّي النبيّ والرسول، أنّه قال: (الرسول الذي يأتيه جبرئيل قُبُلاً، فيراه ويكلّمه، فهذا الرسول، وأمّا النبيّ فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم، ونحو ما كان رأى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من أسباب النبوّة قبل الوحي، حتّى أتاه جبرئيل (عليه السلام) مِن عند الله بالرسالة، وكان محمّد (صلّى الله عليه وآله) حين جُمع له النبوّة، وجاءته الرسالة مِن عند الله، يجيئه بها جبرئيل ويكلّمه بها قُبُلاً...) (1) .

____________________

(1) الكليني / الأصول مِن الكافي 1: 176 / (باب الفرْق بين الرسول والنبيّ).

١٥٢

وقد أوضحت عائشة زوج الرسول هذه الحقيقة بقولها: (إنَّ أوّل ما بُدئَ به رسول الله مِن الوحي، الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلَق الصبح، ثمّ حُبِّبَ إليه الخلاءُ، فكان يخلو بغار حراء، فيتحنّث فيه - وهو التعبّد - الليالي ذواتِ العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزوّدُ لذلك، ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها، حتّى جاءه الحقّ وهو في غار حراء...) (1) .

وشرح صاحب السيرة الحلبية هذه الحقيقة بقوله: (قال القاضي وغيره: إنّما ابتُدئ رسول الله بالرؤيا؛ لئلاّ يفجأه المَلَك الذي هو جبرئيل (عليه السلام) بالنبوّة: أي الرسالة، فلا تتحمّلها القوى البشرية...) (2) .

وهكذا يتّضح أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) نُبّئ قبل أن يُكلَّم في الغار مِن قِبَل جبرئيل، وأنّه كان يذهب إلى الغار بعد أن كان يرى رؤيا الأنبياء منتظراً الوحي والرسالة، فهبط عليه جبرئيل (عليه السلام)، فكان أوّل ما قرأ عليه مِن القرآن هو: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّـذِي خَلـَقَ... ) (3) .

ثمّ تتابع نزول القرآن نجوماً متفرّقة، طيلة مدّة حياته التي تلت هبوط الوحي في غار حراء، والتي تقدّر بثلاثة وعشرين سنة، حتّى اكتمل الوحي الإلهي، وختم بقوله تعالى: ( ... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً... ) (4) ، على ما نقله كثير مِن المفسّرين والمعنّيين بتاريخ نزول الآيات.

____________________

(1) البخاري 1: 4 / (باب كيف كان بدْء الوحي إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)) / ح 3.

(2) المصدر السابق 1: 233 / باب بدْء الوحي له (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

(3) سورة العلق: آية 1.

(4) سورة المائدة: آية 3.

١٥٣

١٥٤

الفصل السادس

الإمامةُ

١٥٥

١٥٦

تعريف:

الإمامة في اللُغة:

(يُقال: إمام القوم، معناه المتقدّم لهم، ويكون الإمام رئيساً، كقولك: إمام المسلمين) (1) .

(الإمام: المؤتمّ به إنساناً، كأن يُقتدى بقوله أو فِعله، أو كتاباً، أو غير ذلك، محقّاً كان أو مبطلاً، وجمْعه أئمّة. وقوله تعالى: ( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ... ) (2) ، أي بالذي يقتدون به، وقيل بكتابهم...) (3) .

الإمامة في المصطلح:

عرَّف العلاّمة الحلّي الإمامة بقوله: (الإمامة رئاسة عامّة في أمور الدنيا والدِين، لشخصٍ مِن الأشخاص نيابةً عن النبيّ) (4) .

إنّ قراءة هذا النصّ وغيره مِن النصوص الواردة في تعريف الإمامة، توضّح لنا

____________________

(1) ابن منظور / لسان العرب 12: 26.

(2) سورة الإسراء: آية 71.

(3) الراغب الأصفهاني / المفردات في غريب القرآن: ص 24.

(4) العلاّمة الحلّي / الباب الحادي عشر: ص 69.

١٥٧

حقيقة أساسية في بُنية الفكر الإسلامي، وهي أهمّية الإمامة وولاية الأمر في الحياة الإسلامية؛ ذلك لأنّها مواصلة لمسيرة النبوّة في نشر الدعوة، وحِفظ أحكام الشريعة وقيادة الدولة، وأنّ الفكر الإمامي يربط بين الدِين والدنيا ربطاً وثيقاً مِن خلال العمل السياسي، والمعالجة الشاملة لشؤون الحياة التي يمارسها إمام المسلمين ويتحمّل أعباءها.

لذا عرّفت الإمامة: بأنّها نيابة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في جانب مِن مهمّته في الحياة؛ ذلك لأنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) كان نبيّاً مُخبراً عن الله سبحانه، بغير واسطة أحد مِن البشَر، وكان إماماً للبشرية تقتدي بفِعله وقوله، وتخضع لولايته وقيادته، كولي أمر وقائد سياسي.

والإمام وفْق المعتقد الإسلامي ينوب عن الرسول في تحمّل مسؤولياته كافّة، عدا مهمّة تلقّي الوحي، فإنّها مِن خصائص النبوّة وحدها؛ لذلك عُرّفت الإمامة بأنّها نيابة عن الرسول في أُمور الدِين والدنيا.

ولأهمّية الإمامة وولاية الأمر في البناء الإسلامي، كما فهِمَته المدرسة الإمامية، نجد الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) يقول: (لو لم يكن في الأرض إلاّ اثنان لكان الإمام أحدهما) (1) .

ومِن هذا المنطلق يصف الإمام عليّ بن موسى الرضا الأئمّة بقوله: (الأئمّة خلفاء الله (عزّ وجلّ) في أرضه) (2) .

وروى أئمّة أهل البيت عن جدّهم الرسول الهادي محمّد (صلّى الله عليه وآله) قوله: (مَن مات، وهو لا يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية) (3) .

____________________

(1) الكليني / الأُصول مِن الكافي 1: 180.

(2) المصدر السابق: ص 191.

(3) الشيخ المفيد / عدّة رسائل المفيد: ص 3.

١٥٨

لمحة تعريفية:

تمثّل الإمامة ركناً أساساً مِن أركان بناء الإسلام، وإقامة صرحه الفكري والسياسي، ومواصلة عملية التغيير والبناء في المجتمع الإسلامي بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فهي امتداد طبيعي لمهام النبوّة وحِفظ الرسالة.

وبالعودة إلى دراسة ما جاء في كتاب الله سبحانه، وما صدر عن الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) مِن مواقف وأقوال وتوجيهات، تتحدّث عن الإمامة والحُكم والخلافة وولاية الأمر... الخ. نفهم أهمّية الإمامة للرسالة والمجتمع الإسلامي، وخطورة المهام المناطة بها.

ومِن هذا المنطلق - كما ترى المدرسة الإمامية - جاء التأكيد في الكتاب والسنّة على شخص الإمام عليّ وولَدَيه الحسن والحسين (عليهم السلام)، وتكوّنت عناية نبويّة خاصّة بالإمام عليّ (عليه السلام)، بشكلٍ يفصح عن اهتمام الرسول (صلّى الله عليه وآله) بتكوين شخصية إسلامية، تعي الإسلام بأجلى صوَر الوعي (1) ، وتترسّم خُطى الرسول (صلّى الله عليه وآله) بأدقّ ما يمكن لإنسان أن يقتدي بشخصه الكريم؛ ليكون على مستوى مِن الإعداد الفكري والسلوكي، يؤهّله لمواصلة المسيرة التغييرية الكبرى، وتحمّل أعباء الإمامة بعد الرسول الهادي محمّد (صلّى الله عليه وآله).

فأفرز هذا الإعداد فهْماً معيّناً لدى فئة مِن الصحابة، قدّر لها أن تنتمي لعليّ دون سواه؛ لذا كان لها موقف مِن النتائج التي أفرزها مؤتمر السقيفة، وناقشتْ في تحديد الشخصيّة التي تلي أُمور المسلمين وتواصل مهامّ الإمامة، فحدث ذلك الانقسام التاريخي، الذي امتدّت آثاره إلى الأجيال الإسلامية اللاحقة، فكان انقساماً فكرياً وسياسياً نتج عنه وجودان وكُتلتان داخل الصفّ

____________________

(1) ذكر المفسّرون أنّ قوله تعالى: ( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) نزلت في عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

١٥٩

الإسلامي، لكلٍّ منهما قناعاته الفكرية وفَهْمه للنصّ الشرعي والتعامل معه، وهما:

1 - شيعة الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، أي أتباعه وحزب الذين آمنوا بأنّ الخلافة حقّ لعليٍّ (عليه السلام) دون سواه، وأنّه رائد فكري وسياسي للأُمّة، وأنّ اجتماع السقيفة أخطأ في تنحية عليّ (عليه السلام) عن موقعه الطبيعي في هذه الأُمّة.

وقد امتدّ هذا الكيان الإسلامي، وواصل قيادته آلُ البيت النبويّ على شكل مدرسة فكرية وسياسية ومذهب فقهي؛ نتيجةً لِما يحمل مِن فهْم متميّز للإسلام، ورؤية مستلهَمة مِن عطاء قادته وأئمّة العِلم فيه، والذي أُطلق عليه فيما بعد اسم (مذهب الشيعة الإمامية).

2 - تكتّل أبي بكرٍ وعُمَر - رض - الذي تطوّر إلى مدرسة فكرية وفقهية وخطّ سياسي، حوَت مذاهب عدّة، أطلق عليها فيما بعد اسم مذاهب أهل السنّة.

وقد تحوّل - وبشكلٍ مؤسف - هذا الخلاف الذي كان مِن المفروض فيه أن يكون خلافاً فكرياً يخضع للحوار العِلمي في يومه الأوّل، تحوّل إلى اضطهادٍ سياسيٍّ وإرهابٍ فكريٍّ، وصراع، ومواجهات دموية رهيبة ترافقها حمْلات دعائية واتّهامات لحركة التشيّع وللموالين لآل البيت النبويّ الكرام، على امتداد قرون تاريخية طويلة.

ولأهمّية موضوع الإمامة والمسؤولية المناطة بها في مجال الفكر والحياة الإسلاميين، وما يترتّب عليها مِن آثار كُبرى في مسيرة الدعوة والتاريخ الإسلامي، تناولها العلماء والباحثون مِن متكلّمين وفلاسفة وفقهاء وغيرهم، بالبحث والدراسة والتنظير.

ويهمُّ الباحث المسلم اليوم، أن يتناول موضوع الإمامة كأصلٍ وأساسٍ عقيدي في بناء الحياة الإسلامية، وقيادتها الفكرية والسياسية، وتحويل الإسلام مِن دعوةٍ

١٦٠