التشيع نشأته معالمه

التشيع نشأته معالمه15%

التشيع نشأته معالمه مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 390

  • البداية
  • السابق
  • 390 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 20694 / تحميل: 7993
الحجم الحجم الحجم
التشيع نشأته معالمه

التشيع نشأته معالمه

مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الفصل الأوَّل

نشأةُ التشيّع

٢١

٢٢

تقديمٌ

لقد تناول كثير مِن الباحثين في قضايا الفكر والمذاهب والآراء الإسلامية، الكيان الشيعي بالبحث والدراسة مِن حيث النشأة والبُنية والمحتوى والأثَر السياسي والحضاري في تاريخ الإسلام، غير أنّ مِن المؤسف أنّ معظم تلك الدراسات، لا سيّما دراسات المستشرقين والمتتلمذين على أفكارهم، حملَت الدسّ والتشويه والخلْط بعيداً عن الإنصاف والموضوعية العِلمية، فكانت تعبّر في كثير مِن فصولها عن جهل الكاتب أو تعصّبه، أو تسخير فكره وقلَمِه لخدمة الأغراض الاستعمارية، التي اكتشفت جوانب القوّة والفاعلية في الفكر والموقف الشيعي، على مدى التاريخ الإسلامي.

ويهمّنا في هذا الفصل مِن الكتاب أن نعرّف بنشأة التشيّع، كمصطلحٍ وبذرةٍ في إطار الحياة الإسلامية، وتطوّر هذه البذرة إلى كيانٍ فكريٍّ وسياسيٍّ على يد أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)؛ ليصبح مِن أكثر الكيانات المذهبيّة والاتّجاهات المدرسيّة الإسلامية أثراً وفاعليةً، في حياة المسلمين وحركة تاريخهم ووضْعهم الحضاري.

٢٣

معنى الشيعة في اللغة:

قال ابن منظور: (والشيعة: القوم الذين يجتمعون على أمْرٍ، وكلّ قومٍ اجتمعوا على أمْرٍ فهُم شيعة، وكلّ قومٍ أمْرهُم واحد يتبع بعضهم رأي بعض...

قال الزجّاج: والشيعة، أتباع الرجُل وأنصاره...

قال الأزهري: والشيعة، قوم يهْوون هوى عترة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ويوالونهم.

وقد غلَب هذا الاسم على مَنْ يتولّى عليّاً وأهل بيته (رضوان الله عليهم أجمعين)، حتّى صار لهم اسماً خاصّاً، فإذا قيل: فلان مِن الشيعة عُرف أنّه منهم، وفي مذهب الشيعة كذا، أي عندهم، وأصل ذلك مِن المشايعة، وهي المتابعة والمطاوعة) (١) .

وفي قاموس المعجم الوسيط:

(الشيعة: الفرقة والجماعة، والأتباع والأنصار، ويقال هم شيعة فلان، وشيعة كذا مِن الآراء.

والشيعة: فرقة كبيرة مِن المسلمين، اجتمعوا على حبِّ عليٍّ وآله وأحقّيتهم بالإمامة).

ولقد استعمل القرآن الكريم كلمة الشيعة بمعنى الأنصار والأتباع الفِكريّين، فقال: ( وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ ) (٢) .

وهكذا نعرف أنّ معنى الشيعة في اللغة: هُم الأتباع المجتمعون على فكرٍ

____________________

(١) لسان العرب ٨: ١٨٨ - ١٨٩ (مادّة شيع).

(٢) سورة الصافّات: آية ٨٣.

٢٤

واحدٍ، وموقفٍ موحّد.

وإذا كان هذا هو معنى (الشيعة في اللغة)، وأنّ علماء الأُمّة المنصفين، وأصحاب الفكر والمعرّفين الموضوعيّين للألفاظ والمصطلحات والمعاني قد عرّفوا الشيعة: بأنّهم أتباع أهل البيت وأحباؤهم، فلنتابع التشيّع وتطوّره في الحياة الإسلامية.

٢٥

البذرة الأُولى

لقد تجنّى كثير مِن الباحثين على نشأة التشيّع وبدْء ولادته، حتّى قاد البعض هذا التجنّي إلى اتّهام الشيعة: بأنّهم فِرقة أُسّست بأفكارِ عبد الله بن سَبأ اليهودي الأصل والمحتوى، بينما ذهب بعض الباحثين إلى أنّ التشيّع نشأ في خلافة الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

وذهب فريق آخَر إلى أنّ التشيّع وُلِد بعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوم انعقاد السقيفة، حيث اجتمع عدد بارز مِن الصحابة في بيت عليٍّ وفاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، تؤيّدهم فاطمة بنت محمّد، والعبّاس بن عبد المطّلب عمّ الرسـول (صلّى الله عليه وآله)، فكان هذا الاجتماع أوّل تشيّع ظهر حَول عليٍّ وأهل بيته.

ويذهب فريق آخَر إلى أنّ التشيّع نشأ حَول عليٍّ في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) هو الذي أطلق هذا الاسم على مؤيّدي عليٍّ وأتباعه.

نذكر مِن تلك الآراء ما نقله السيّد محسن الأمين عن أبي محمّد الحسن بن موسى النوبختي في كتابه الفِرق والمقالات: (الشيعة هُم فِرقة عليّ بن أبي طالب، المسمّون بشيعة عليّ في زمان النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وما بعده، معروفون بانقطاعهم إليه، والقول بإمامته) (١) .

أمّا أبو حاتم السجستاني، فيقول: (إنّ لفظ الشيعة كان على عهد رسول الله، لقَبٌ لأربعةٍ مِن الصحابة، سلمان وأبي ذرّ والمقـداد وعمّـار) (٢) .

____________________

(١) السيّد محسن الأمين / الشيعة بين الحقائق والأَوهام: ص٤١.

(٢) المصدر السابق.

٢٦

أمّا العالِم المفسّر السيوطي، فيقول في تفسير قوله تعالى: ( أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) ، يقول: (أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله، قال: كنّا عند النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فأقبل عليّ، فقال النبيّ: والذي نفْسي بيده إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة، قال وأخرج ابن مردويه عن عليٍّ، قال: قال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ألمْ تسمع قول الله: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) (١) ، أنت وشيعتك، وموعدي وموعدكم الحوض، إذا جاءت الأُمم للحساب تدعون غرّاً محجّلين) (٢).

ونقل ابن الأثير ما نصّه: (وفي حديث عليّ (عليه السلام): ستقدم على الله أنت وشيعتُك، راضين مرضيّين، ويقدِم عليَّ عدوَّك غِضاباً مقمحين، ثمّ جمَع يده إلى عُنقه، يريهم كيف الإقماح) (٣).

ونقل الشبلنجي أنّ ابن عبّاس (رضي الله عنه) قال: (لمّا نزلت هذه الآية: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لعليٍّ: هو أنت وشيعتُك تأتي يوم القيامة أنت وهُم راضين مرضيّين، ويأتي أعداؤك غضاباً مقمَحين) (٤).

وتحدّث ابن حجر عن نُطق النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بهذا المصطلح، فقال: (الآية الحادية عشرة قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) .

أخرج الحافظ جمال الدِين الزرندي عن ابن عبّاس: أنّ هذه الآية لمّا نزلت،

____________________

(١) سورة البينة: آية ٧.

(٢) جلال الدين السيوطي / الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور ٦: ٢٧٩.

(٣) ابن الأثير / النهاية في غريب الحديث والأثَر ٤: ١٠٦ (باب القاف مع الميم).

(٤) الشبلنجي / نور الأبصار في مناقب آل بيت النبيّ المختار: ص٨٠.

٢٧

قال (صلّى الله عليه وآله) لعليٍّ (عليه السلام): هو أنت وشيعتُك يوم القيامة، راضين مرضيّين، ويأتي عدوّك غضاباً مقمَحين) (١) .

أمّا الشهيد الصدر فيتحدّث عن نشأة التشيّع وظهور الشيعة، ككيانٍ حَول عليٍّ (عليه السلام)، فيوضّح أنّ هناك اتّجاهين نشآ في صفوف الصحابة في عهد الرسول الكريم:

الأوّل: اتّجاه يتقيّد بالنصّ في كلّ مجالٍ مِن مجالات الحياة، ولا يرى مِن حقّ أحدٍ بعد البيان النبويّ أن يجتهد مقابل النصّ، سواء في مجال العبادة أو السياسة أو شؤون الحرب... الخ.

الثاني: اتّجاه يؤمن بإمكانية الاجتهاد مقابل النصّ في بعض المجالات.

وهذان الاتّجاهان قد تجسّدا بشكل تيّارَين، عندما واجَها النصّ النبويّ على أطروحة إمامة عليٍّ (عليه السلام)، فاجتهد ذلك الفريق مقابل النصّ، والتزم الفريق الآخَر بالنصّ، وبذا وُلِد الكيان النصّي مِن حَول الإمام عليّ (عليه السلام).

ثمّ يوضّح ذلك بنصّ قوله: (وهذان الاتّجاهان اللذان بدأ الصراع بينهما في حياة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، قد انعكسا على موقف المسلمين مِن أطروحة زعامة الإمام عليّ (عليه السلام) للدعوة بعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فالممثّلون للاتّجاه التعبّدي وجدوا في النصّ النبويّ على هذه الأطروحة سبباً مُلزماً لقبولها دون توقّف أو تعديل.

وأمّا الاتّجاه الثاني، فقد رأى أنّه بإمكانه أن يتحرّر مِن الصيغة المطروحة مِن قِبَل النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، إذا أدّى اجتهاده إلى صيغةٍ أُخرى أكثر انسجاماً في تصوّره مع الظروف، وهكذا نرى أنّ الشيعة وُلدوا منذ وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) مباشرةً، متمثّلين في المسلمين الذين خضعوا عمليّاً

____________________

(١) ابن حجر / الصواعق المحرقة: ١٦١.

٢٨

لأطروحة زعامة الإمام عليّ (عليه السلام) وقيادته، التي فرَض النبيّ (صلّى الله عليه وآله) الابتداء بتنفيذها مِن حين وفاته مباشرةً.

وقد تجسّد الاتّجاه الشيعي منذ اللحظة الأُولى، في إنكار ما اتّجهت إليه السقيفة مِن تجميدٍ لأطروحة زعامة الإمام عليّ (عليه السلام)، وإسناد السلطة إلى غيره) (١).

وبذا يرى الشهيد الصدر (قدّس سرّه) أنّ المسلمين الذين تحوّلوا عن زعامة الإمام عليّ (عليه السلام)، كان تحوّلهم يعود إلى منهج التفكير وطريقة التعامل مع النصّ، وتجويز الاجتهاد مقابل هذا النصّ الذي تواتر لدى المسلمين على هذه الأطروحة.

وهكذا نصل إلى حقيقةٍ كبرى في معرفة جذور التشّيع، ونشأة المصطلح وميلاده على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأنّ مشاهير علماء المسلمين مِن محدّثين ومفسّرين ولُغَويّين يوضّحون: أنّ الشيعة هُم أتباع أهل البيت وأولياؤهم، وأنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) الذي لا ينطق عن الهوى، هو الذي سمّى أتباع عليٍّ بهذا الاسم.

مِن ذلك نفْهم أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) كان يمهّد للتعريف، وإلفات النظر إلى مستقبل الأحداث والتطوّرات في حياة أُمّته مِن بعده، كجزءٍ مِن البيان والتبليغ؛ ليحدّد للمتنازعين مِن بعده أين يجب أنْ يقفوا، ولمَن يشايعون، ومَن يتّبعون.

إنّ هذه الحقائق العلميّة تلغي كلّ تفسيرٍ وتخرّصٍ وتشويهٍ لنشأة التشيّع وهويّته الحقيقية. فالبذرة الأُولى لنشأة التشيّع إذن، نشأتْ على عهد رسول الله

____________________

(١) الشهيد الفقيه السيّد محمّد باقر الصدر / بحث حَول الولاية: ص٧٨ - ٧٩.

٢٩

(صلّى الله عليه وآله)، غير أنّه تطوّر يوم وفاته (صلّى الله عليه وآله) إلى تكتّلٍ سياسيٍّ، وخطٍّ فكريٍّ حَول الإمام عليّ (عليه السلام) يستلهم مِن ذلك البيان النبويّ فِكرَه وموقفَه، فسمّي هذا التكتّل بالشيعة.

٣٠

ظهور التكتّل الشيعي

بدأ اسم عليٍّ يظهر خارج السقيفة كمرشّح للخلافة، وكأحقِّ شخصٍ بها، كما ظهر في داخل السقيفة، وفي وسط المتحاورين، فبعد أن خرج المهاجرون والأنصار المجتمعون في دار رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ لانتشار خبر السقيفة، قام الفضل بن العبّاس، فخطَب الناس المجتمعين هناك قائلاً: (يا معشر قريش، إنّه ما حقّت لكم الخلافة بالتمويه، ونحن أهلها دونكم وصاحبنا(*) أَولى بها منكم) (١) .

وهكذا بدأ التكتّل حَول عليٍّ، والمناداة بإمامته في اليوم الأوّل مِن وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وبدأ التشيّع الفكري والسياسي يظهر ككُتلةٍ وكيانٍ، يحدّثنا اليعقوبي عن ذلك بقوله:

(وتخلّف عن بيعة أبي بكرٍ قوم مِن المهاجرين والأنصار، ومالوا مع عليّ بن أبي طالب، منهم العبّاس بن عبد المطّلب، والفضل بن العبّاس، والزبير بن العوّام بن العاصّ، وخالد بن سعيد، والمقداد بن عمرو، وسلمان الفارسي، وأبو ذرّ الغفاري، وعمّار بن ياسر، والبراء بن عازب، وأُبيّ بن كعب) (٢) .

وبدأ هذا التكتّل المتشيّع لعليٍّ يواصل مساعيه السياسية واجتماعاته، ويطالب بإعادة النظر فيما جرى في السقيفة. ويحدّثنا المؤرّخون عن الاجتماع السياسي، الذي جرى في بيت فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ للتباحث في موضوع الخلافة والإمامة بعد الذي جرى في سقيفة بني ساعدة، فقد نقل

____________________

(*) وصاحبنا: يعني عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ١٢٤.

(٢) المصدر السابق.

٣١

اليعقوبي ذلك بقوله:

(وبلَغ أبا بكر وعُمَر أنَّ جماعة مِن المهاجرين والأنصار، قد اجتمعوا مع عليِّ ابن أبي طالب في منزل فاطمة بنت رسول الله، فأتَوا في جماعةٍ، حتّى هجموا الدار..) (١).

أمّا ابن قتيبة، فقد روى خبر هذا الاجتماع السياسي بالنصّ التالي:

(وإنّ أبا بكر (رضي الله عنه) تفقّد قوماً تخلّفوا عن بيعته عند عليٍّ (كرَّم الله وجهه)، فبعث إليهم عمَر، فجاء فناداهم، وهُم في دار علـيٍّ، فأبَوا أن يخرجوا، فدعا بالحطب، وقال: والذي نفْس عمَر بيده لتخرُجُنَّ أو لأحرقَنّها على مَن فيها) (٢) .

وإذن، نستطيع أن نؤرّخ لظهور التشيّع ككيانٍ سياسيٍّ وفكريٍّ متميّز منذ الساعات الأُولى، التي تلَت وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، حينما احتدم الجدَل حَول المرشّح للخلافة والإمامة، وبذا نفْهم أنّ التشيّع وُلِد في صفوف الصحابة في المدينة المنوّرة؛ وحفظاً لوحدة المسلمين وتماسكهم آثَر عليّ (عليه السلام) الانسحاب مِن المواجهة السياسية، ومال إلى العزلة أيّام الخليفتَين أبي بكرٍ وعمَر، واكتفى بإبداء النُّصح والمشورة، والمشاركة في تسديد المسيرة الإسلامية.

ولقد سجّل له التاريخ أروَع تعبيرٍ عن التضحية والإيثار، حين عَبّر عن موقفه بقوله: (والله لأسلمنّ ما سلِمت أمور المسلمين) (٣) .

غير أنَّ الاتّجاه والرؤى والجماعة المُشايعة لعليٍّ بدأت بالظهور، كقوّةٍ سياسيةٍ وفكريةٍ، وكحزبٍ له وجْهات نظرٍ في سياسة الدولة وجهازها الحاكم، عندما تسلّم عثمان الخلافة، وتسلّط الحزب الأمويّ على السلطة، فاستأثر بخيرات الأُمّة

____________________

(١) المصدر السابق: ص١٢٦.

(٢) ابن قتيبة الدينوري / الإمامة والسياسة ١: ١٩.

(٣) نهج البلاغة / الخطبة ٧٤.

٣٢

وكوّن طبَقةً متميّزةً، وبدأ النقْد مِن الصحابة في المدينة المنوّرة، وبقية المسلمين في الأقطار الإسلامية كمصر والعراق، فانضمّ إلى موقف النقْد والمعارضة لسياسة عثمان: كتلةُ عائشة زوج الرسول، وطلحة والزبير، فكانوا أشدّ الناس نقْداً لسياسة عثمان وتحريضاً عليه، وقد ذكَر اليعقوبي ذلك بقوله: (وكان أكثر مَن يؤلِّب عليه طلحة والزبير وعائشة) (١).

وروي أيضاً: (فإنَّ عثمان يوماً ليخطب، إذ دلّت عائشة قميص رسول الله، ونادت يا معشر المسلمين: هذا جلباب رسول الله لمْ يَبْلَ، وقد أبلى عثمان سنّته) (٢) .

وكانت تقول لمروان، عندما طلب منها أن تتدخّل لإصلاح الأمْر بين عثمان وحركة المعارضة الواسعة، التي اشترك فيها أهل المدينة ومصر والعراق يقودهم طلائع الصّحابة، وفيهم الأنصار والمهاجرون، ردّت عليه قائلة: (لعلّك ترى أنّي في شكٍّ مِن صاحبك، أما والله لوَددتُ أنّه مقطّعٌ في غرارة مِن غرائري، وأنّي أُطيق حمْله، فأطرحه في البحر) (٣) .

وهكذا كان الجوّ السياسي مكْفَهرّاً، والصراع محتدماً بين عثمان والحزب الأمويّ مِن جهةٍ، وبقيّة المسلمين مِن جهةٍ أُخرى، وكان طوال فترة حُكم عثمان التي ظهر فيها التراجع عن التطبيق الإسلامي، وعبَث الحزب الأمويّ بشؤون المسلمين، كان أبو ذرّ الغفاري وعمّار بن ياسر وعمرو بن الحمق الخزاعي والمقداد ابن عمرو ومحمّد بن أبي بكر ومالك الأشتر، وهُم مِن أركان المتشيّعين للإمام عليّ، كانوا مِن قادة المعارضة السياسية لعثمان والتسلّط الأمويّ على شؤون الأُمّة، فنفى

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ١٧٥.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق: ١٧٦.

٣٣

عثمان أبا ذرّ الغفاري إلى الربذة، ومات هناك وحيداً إلى جوار ابنته.

ومع اشتداد المعارضة ازداد تجمّع الصحابة وتشيُّعهم لعليٍّ (عليه السلام)، وقد وَصف اليعقوبي تلك الظاهرة بقوله: (ومالَ قوم مع عليِّ بن أبي طالب، وتحاملوا في القول على عثمان) (١) .

وصوّر ابن الأثير اجتماع المعارضة، ولجوءها إلى عليٍّ بقوله:

(فاجتمع الناس فكلّموا عليَّ بن أبي طالب، فدخَل على عثمان، فقال له: الناس ورائي، وقد كلّموني فيك) (٢) .

غير أنّ الإمام عليّاً لمْ يشارك في عملية الصراع هذه، وحاول أن ينصح عثمان، ويدفع محنة الصراع الدموي، والتمزّق عن وحدة الأمّة.

إنّ دراسة وتحليل بُنية المرتكزات الأساسيّة للتشيّع والمتشيّعين لعليٍّ (عليه السلام) في تلك المرحلة، توصلنا إلى أنّ هذه المرتكزات تتلخّص في:

١ - الإيمان بأحقّية عليّ بالخلافة والإمامة، ووجوب البيعة له.

٢ - الدعوة إلى العمل بكتاب الله وسنّة رسول الله، ويمثّل هذان المبدآن المرتكز الأساس للمعتقد الشيعي على امتداد التاريخ، وهما خلاصة التشيّع وجوهره.

وقد ظهر ذلك واضحاً جليّاً في تصريحات وجوه الصحابة، الذين أجمعوا على البيعة لعليٍّ بعد مقتل عثمان، وفي تصريحات عليٍّ وولَديه الحسن والحسين مِن بعده ومَن شايعهم مِن الصحابة والتابعين.

____________________

(١) المصدر السابق: ص١٦٣.

(٢) ابن الأثير / الكامل في التاريخ ٢: ٢٧٥.

٣٤

مصطلح التشيُّع في لُغة السياسة

وبعد مقتل عثمان، واندفاع الأُمّة بالبيعة لعليٍّ، وإجماع الصحابة والأقطار الإسلامية على ذلك، عدا معاوية الذي انفرد بالشام وشقَّ عصا الطاعة على إمام المسلمين، الذي تمَّت له البيعة والخلافة. بعد ذلك تميّزَت (شيعتان)، هما: شيعة (أتباع) بني أميّة، وشيعة آل البيت، وكثُر استعمال كلمة (شيعة) لكِلا الفريقين، نذكر فيما يلي بعضاً مِن هذه الاستعمالات التاريخية:

وقع حوار بين معاوية بن أبي سفيان، وبين الإمام السبط الشهيد الحسين بن عليّ بن أبي طالب [ عليه السلام ]، وكان كلٌّ منهما يستعمل كلمة (شيعة):

(وقال معاوية للحسين بن عليّ: يا أبا عبد الله، أعلمتَ أنّا قتلنا شيعة أبيك، فحنّطناهم، وكفّنّاهم وصلّينا عليهم، ودفنّاهم؟

فقال الحسين (عليه السلام): حِجرك وربِّ الكعبة، لكنّا والله إنْ قتلنا شيعتك ما كفّنّاهم، ولا حنّطناهم، ولا صلّينا عليهـم، ولا دفنّاهم) (١) .

ومِن هذه الاستعمالات:

(وروي أنّه - أي زياد بن أبيه - كان أحضر قوماً، بَلَغَهُ أنّهم شيعة لعليٍّ؛ ليدعوهم إلى لعْن عليٍّ والبراءة منه، أو يضرب أعناقهم، وكانوا سبعين رجُلاً) (٢) .

ومِن الاستعمالات التاريخية لهذا المصطلح، ما ورَد في كتاب أهل العراق سنة (٥٠ هـ) إلى الإمام الحسين بن عليّ (عليه السلام)، قال اليعقوبي:

____________________

(١) المصدر السابق: ص٢٣١.

(٢) المصدر السابق: ص٢٣٥.

٣٥

(ولمّا توفّيَ الحسن بن عليّ وبلَغ الشيعة ذلك، اجتمعوا بالكوفة في دار سليمان بن صُرَد، وفيهم بنو جعدة بن هبيرة، فكتبوا إلى الحسين بن عليّ يعزّونه على مصابه بالحسن: بسم الله الرحمن الرحيم: للحسين بن عليّ، مِن شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين، سلام عليك، فإنّا نحمَد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو، أمّا بعد:

فقد بلَغَنا وفاة الحسن بن عليّ، يوم وُلد ويوم يموت ويوم يُبعث حيّاً، غفر الله ذنبه، وتقبّل حسناته، وألحقه بنبيِّه، وضاعف لك الأجْر في المُصاب به، وجبَر بك المصيبة مِن بعده، فعند الله نحتسبه، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون، ما أعظم ما أصيب به هذه الأُمّة عامّة، وأنت وهذه الشيعة خاصّة...) (١) .

وعندما تولّى يزيد بن معاوية الخلافة بالقوّة والوراثة خلافاً لمبدأ الحُكم في الشريعة، ورفض الإمام الحسين بن عليّ (عليه السلام) والشخصيّات الإسلامية البارزة آنذاك، بيعة يزيد؛ لعدم أهليته للخلافة، وانحرافه عن الخطّ الإسلامي القويم، اجتمع زعماء أتباع أهل البيت في العراق، فكتبوا للإمام الحسين (عليه السلام):

(بسم الله الرحمن الرحيم: للحسين بن عليٍّ، مِن شيعته المؤمنين والمسلمين، أمّا بعد فحيّ هلا، فإنّ الناس ينتظرونك، لا إمام لهم غيرك، فالعجَل ثمّ العجَل والسّلام) (٢) .

وتحدّث ابن الأثير عن تلك الأحداث، فقال:

(ولمّا بلَغَ أهل الكوفة موت معاوية، وامتناع الحسين وابن عُمَر وابن الزبير عن البيعة، أرجفوا بيزيد، واجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي، فذكروا مسير الحسين إلى مكّة، وكتبوا إليه عن نفرٍ، منهم: سليمان بن صُرَد الخزاعي،

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ٢٢٨.

(٢) المصدر السابق: ص ٢٤٢.

٣٦

والمسيّب بن نَجَبة، ورفاعة بن شدّاد، وحبيب بن مظاهر، وغيرهم) (١) .

وفي كتاب عبد الله بن مسلم الذي كتَبه إلى يزيد بن معاوية، وهو مِن أنصار بني أُميّة، نقرأ في هذا الكتاب استعمال مصطلح (شيعة)، وهو يُطلقه على ذلك الكيان والتكتّل الذي بايع الحسين.. جاء في الكتاب:

(وأمّا بعد فإنّ مسلم بن عقيل قد قدِم الكوفة، وبايعته الشيعة للحسين بن عليّ بن أبي طالب، فإن يكُ لك في الكوفة حاجة، فابعث إليها رجُلاً قويّاً...) (٢) .

وهذا معاوية بن أبي سفيان يستعمل كلمة (شيعة)، ويصف أتباع عثمان بأنّهم شيعته، عندما أوصى المغيرة بن شعبة يوم ولاّه الكوفة سنة (٤١هـ)، جاء في تلك الوصيّة:

(... ولست تاركاً إيصاءك بخصلةٍ: لا تتحامَ عن شتْم عليٍّ وذمّه، والتّرحّم على عثمان والاستغفار له، والعيب على أصحاب عليّ، والإقصاء لهم، وترْك الاستماع منهم، وبإطراء شيعة عثمان (رضوان الله عليه) والإدناء لهم، والاستماع منهم) (٣) .

وهذا يزيد بن معاوية عندما كتب إلى عبيد الله بن زياد، وعيّنه والياً على الكوفة، نجده يستعمل كلمة (شيعة) معبّراً بها عن أتباعه وشيعته (شيعة بني أُمية)، ممّا يؤيّد استعمال هذا المصطلح في تلك الفترة، بمعنى التكتّل السياسي والأنصار العقائديّين، جاء في هذا الكتاب:

(أمّا بعد، فإنّه كتَب إليّ شيعتي مِن أهل الكوفة، يخبرونني أنّ ابن عقيل فيها يجمع الجموع...).

____________________

(١) ابن الأثير / الكامل في التاريخ ٢: ٥٣٣.

(٢) الشيخ المفيد / الإرشاد: ص ٢٠٥.

(٣) تاريخ الطبري ٤: ١٨٨ / حوادث سنة ٥١ هـ.

٣٧

وجاء في نصّ اليعقوبي: (وخلّف أهل الشام عبد الملك، فأقبل مسرعاً إلى دمشق؛ خوفاً مِن وثوب عمرو بن سعيد، واجتمع الناس عليه، فقال لهم: إنّي أخاف أن يكون في أنفسكم منّي شيء، فقام جماعة مِن شيعة مروان، فقالوا: والله لتقومَنَّ إلى المنبر، أو لنضربَنَّ عُنقك، فصعد المنبر وبايعوه) (١) .

وهكذا يتّضح لنا أنّ معنى التشيّع: هو متابعة أهل البيت (عليّ وبَنِيه)، وأنّ بذرته الأُولى قد وُلدَت على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ثمّ ظهر في المدينة المنوّرة في صفوف الصحابة الأوائل، حَول عليّ وفاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كتكتّل يدعو إلى أحقّية عليّ بالخلافة، بعد أن كان حبّاً ووَلاءً لشخصه في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

ثمّ امتدّ مذهباً عقيدياً وفقهيّاً وسياسيّاً؛ نتيجةً لِما يحمِل مِن فهْمٍ ووعْيٍ متميّزٍ للإسلام، استمدّه مِن فهْم ووعي الإمام عليّ وبَنِيـه (عليهم السلام)، فتبلوَر هذا المنهج العقيدي والفقهي، على يد الإمامين محمّد الباقر وولده جعفر الصادق (عليهما السلام)، المعاصرَين لأبي حنيفة ومالك بن أنس وغيرهما مِن أصحاب المذاهب الفقهية.

وينبغي أنْ نشير هنا إلى أنّ المذهب: هو عبارة عن طريقةٍ ومنهجٍ لفَهْم الإسلام، والكشف عن محتواه في المجالات العقيدية والتشريعية والسياسية.

وعندما تبلور هذا الكيان الشيعي، واتّسع عند اشتداد الصراع بين عليٍّ (عليه السلام) ومعاوية، انضمّ إلى صفوف عليٍّ البدريون والمهاجرون والأنصار، وأصحاب بيعة الرضوان، وقاتلوا معه معاوية بن أبي سفيان في معركة صِفّين... ذكَر اليعقوبي ذلك بقوله: (وكان مع عليٍّ يوم صِفّين مِن أهل بدْر سبعون رجُلاً، وممّن بايع تحت الشجرة سبعمئة رجُل، ومِن سائر المهاجرين والأنصار أربعمئة رجُل، ولمْ يكن مع

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ٢٥٨.

٣٨

معاوية مِن الأنصار إلاّ النعمان بن بشير ومسلمة بن مخلّد...) (١) .

وقد انقسم الصفّ الإسلامي آنذاك إلى أربعة أحزاب سياسية هي:

١ - الحزب الأُمَويّ، ويقوده معاوية بن أبي سفيان.

٢ - حزب عائشة وطلحة والزبير بن العوّام.

٣ - حزب الخوارج الذين انفصلوا عن جيش الإمام عليٍّ؛ ولذا عدّهم أصحاب الفِرق مِن الشيعة.

٤ - حزب عليّ بن أبي طالب، الذي كان يمثّل الخلافة الشرعية ويقود الأُمّة.

وبعد استشهاد عليٍّ (عليه السلام) استمرّ التشيّع كحزبٍ سياسيٍّ، وخطٍّ فكريٍّ حَول الحسن بن عليّ (عليه السلام)، فبايعه المسلمون، وتجمّعوا حَوله، غير أنّ الظروف السياسية اضطرّت الإمام الحسن إلى مصالحة معاوية، والتنازل عن الخلافة له (٢) ، وفْق شروطٍ ومبادئ اتّفق عليها الطرفان، فنكث معاوية عهده هذا، ونصّب ابنه يزيد خليفةً للمسلمين، خلافاً للعهد الذي أبرمه مع الإمام الحسن (عليه السلام)، وخلافاً لمبدأ الحُكم الذي نصَّت عليه الشريعة الإسلامية.

ونقرأ في كتاب الصُلح بين الحسن بن عليّ ومعاوية بن أبي سفيان شرطاً، اشترطه الحسن لحماية شيعة آل البيت، ودفْع التسلّط الأمويّ عنهم، ويكشف هذا الكتاب امتداد كتلة التشيّع، كقوّة سياسية وفكرية يحرص أهل البيت على حمايتها، والحفاظ عليها؛ لأنّها كانت قوّة المعارضة المستهدَفة مِن قِبَل الحزب الأمويّ.

غير أنّ معاوية لمْ يفِ بذلك، وعانت شيعة أهل البيت أشدّ المعاناة مِن الإهانة والقتْل والتعذيب والملاحقة والحرمان، ما ضجَّ به التاريخ... فقد قتَل معاوية عدداً

____________________

(١) المصدر السابق ٢: ١٨٨.

(٢) جلال الدِين السيوطي / تاريخ الخلفاء، اشترط الإمام الحسن على معاوية (على أن تكون له الخلافة مِن بعده... فأجابه معاوية إلى ما طلب): ص١٧٩.

٣٩

مِن طلائع شيعة عليّ (عليه السلام) الذين كانوا مِن أفضل الصحابة والتابعين، نذكر منهم حجْر بن عدي وستة معه مِن أصحابه، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وعبد الله بن يحيى الحضرمي، ورشيد الهجري، وجويرية بن مهر العبدي، وأوفر بن حصين، وكثير غيرهم.

وعندما بدأ الحزب الأمويّ يُسلِّط الإرهاب على شيعة آل البيت في عهد الحسن والحسين، كان الاحتجاج يصدر مِن السبطين، ولكن دون جدوى... فلمّا استشهد الحسن بن عليّ (عليهما السلام) مسموماً على يد معاوية بن أبي سفيان، تجمّع الشيعة حَول الإمام الحسين، وطالبوه بالثورة على معاوية، إلاّ أنّه رفض ذلك، وطلب منهم الالتزام بعهد الصُلح، حتّى موت معاوية، غير أنّ معاوية خالف ميثاق الصلح، وعقد البيعة لابنه يزيد، وحوّل الحُكم الإسلامي إلى حُكمٍ ملَكيٍّ وراثي في الحزب الأمويّ، فرفض الحسين ووجوه الصحابة والتابعون بيعة يزيد.

وبدأت المواجهة المسلّحة، وأعلن الحسين بن عليّ (عليهما السلام) الثورة على حكومة يزيد بعد موت معاوية، وقاد الكفاح كإمامٍ للمسلمين ومسؤولٍ عن حفظ الأُمّة والرسالة.

ونشاهد مصطلح الشيعة يتكرّر في هذه الحقبة، ويبرز التشيّع كتكتّلٍ سياسيٍّ وخطٍّ فكريٍّ معارض مِن حَول الإمام الحسين بن عليّ، كما كان يتحرّك مِن حَول أبيه عليٍّ وأخيه الحسن (عليهم السلام)، ويجسّد هذا الوجود السياسي الكتاب الذي وجّهه أهل العراق إلى الإمام الحسين بن عليّ، فقد جاء فيه:

(بسم الله الرحمن الرحيم: للحسين بن عليٍّ أمير المؤمنين، مِن شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام): فإنّ الناس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك، فالعجَل يا ابن رسول الله، فقد اخضرّ الجَنَاب، وأينعت الثمار، وأعشبت الأرض، وأورقت الأشجار، فاقدِم علينا إذا شئت، فإنّما تقدِم على جُندٍ مجنَّدة لك، والسّلام

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وجوب الرؤية عند حصول شروطها

قال المصنّف(١) :

المبحث الثالث

في وجوب الرؤية عند حصول هذه الشرائط

أجمع العقلاء كافّة ـ عدا الأشاعرة ـ على ذلك ؛ للضرورة القاضية به ، فإنّ عاقلا من العقلاء لا يشكّ في حصول الرؤية عند اجتماع شرائطها.

وخالفت الأشاعرة جميع العقلاء في ذلك ، وارتكبوا السفسطة فيه ، وجوّزوا أن تكون بين أيدينا وبحضرتنا جبال شاهقة ، من الأرض إلى عنان السماء ، محيطة بنا من جميع الجهات ، ملاصقة لنا ، تملأ الأرض شرقا وغربا بألوان مشرقة مضيئة ، ظاهرة غاية الظهور ، وتقع عليها الشمس وقت الظهيرة ، ولا نشاهدها ، ولا نبصرها ، ولا شيئا منها ألبتّة!

وكذا يكون بحضرتنا أصوات هائلة تملأ أقطار الأرض ، بحيث ينزعج(٢) منها كلّ أحد يسمعها ، أشدّ ما يكون من الأصوات ، وحواسّنا سليمة ، ولا حجاب بيننا وبينها ، ولا بعد ألبتّة ، بل هي في غاية القرب منّا ، ولا نسمعها ولا نحسّها أصلا!

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤١ ـ ٤٢.

(٢) كان في الأصل : « يتزعزع » ، وفي المصدر : « يدعّج » ، وكلاهما تصحيف ؛ وما أثبتناه من إحقاق الحقّ هو المناسب للسياق.

٦١

وكذا إذا لمس أحد بباطن كفّه حديدة محميّة بالنار حتّى تبيضّ ، ولا يحسّ بحرارتها! بل يرمى في تنّور أذيب فيه الرصاص أو الزيت ، وهو لا يشاهد التنّور ولا الرصاص المذاب ، ولا يدرك حرارته ، وتنفصل أعضاؤه وهو لا يحسّ بالألم في جسمه!(١) .

ولا شكّ أنّ هذا [ هو ] عين السفسطة ، والضرورة تقضي بفساده ، ومن يشكّ في هذا فقد أنكر أظهر المحسوسات [ عندنا ].

__________________

(١) انظر مؤدّى ذلك ـ مثلا ـ في : تفسير الفخر الرازي ١٣ / ١٣٥ ـ ١٣٦ ، شرح المقاصد ٤ / ١٩٨ ـ ٢٠٠ ، شرح العقائد النسفية ـ للتفتازاني ـ : ١٣١.

٦٢

وقال الفضل(١) :

مذهب الأشاعرة : إنّ شرائط الرؤية إذا تحقّقت لم تجب الرؤية(٢) .

ومعنى نفي [ هذا ] الوجوب : إنّ الله تعالى قادر على أن يمنع البصر من الرؤية مع وجود الشرائط ، وإن كانت العادة جارية على تحقّق الرؤية عند تحقّق الأمور المذكورة.

ومن أنكر هذا وأحاله عقلا ، فقد أنكر خوارق العادات ومعجزات الأنبياء.

فإنّه ممّا اتّفق على روايته ونقله أصحاب جميع المذاهب ـ من الأشاعرة والمعتزلة والإمامية ـ أنّ النبيّ ٦ لمّا خرج ليلة الهجرة من داره ، وقريش قد حفّوا بالدار يريدون قتله ، فمرّ بهم ورمى على وجوههم بالتراب ، وكان يقرأ سورة يس ، وخرج ولم يره أحد ، وكانوا جالسين ، غير نائمين ولا غافلين(٣) .

فمن لا يسلّم أنّ عدم حصول الرؤية جائز مع وجود الشرائط ، بأن يمنع الله [ تعالى ] البصر بقدرته عن الرؤية ، فعليه أن ينكر هذا وأمثاله.

ومن الأشاعرة من يمنع وجوب الرؤية عند استجماع الشرائط : بأنّا

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٠٤ ـ ١٠٦.

(٢) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٣٦.

(٣) انظر : الشفا ـ للقاضي عياض ـ ١ / ٣٤٩ ، تفسير القرطبي ١٥ / ٨ ـ ٩ ، زاد المعاد ٣ / ٤٣ ـ ٤٤ ، السيرة النبوية ـ لابن كثير ـ ٢ / ٢٣٠ ، السيرة الحلبية ٢ / ١٩٣ ، مجمع البيان ٨ / ٢٢٩.

٦٣

نرى الجسم الكبير من البعد صغيرا ، وما ذلك إلّا لأنّا نرى بعض أجزائه دون بعض مع تساوي الكلّ في حصول الشرائط ، فظهر أنّه لا تجب الرؤية عند اجتماع الشرائط(١) .

والتحقيق ما قدمناه [ من ] أنّهم يريدون من عدم الوجوب : جواز عدم الرؤية عقلا ، وإمكان تعلّق القدرة به.

فأين إنكار المحسوسات؟! وأين هو من السفسطة؟!

ثمّ ما ذكر من تجويز أن تكون بحضرتنا جبال شاهقة ـ مع ما وصفها من المبالغات والتقعقعات(٢) الشنيعة ، والكلمات الهائلة المرعدة المبرقة ، التي تميل بها خواطر القلندرية(٣) والعوامّ إلى مذهبه الباطل ، ورأيه الكاسد الفاسد ـ فهو شيء ليس بقول ولا مذهب لأحد من الأشاعرة.

بل يورد الخصم عليهم في الاعتراض ، ويقول : إذا اجتمعت شرائط الرؤية في زمان وجب حصول الرؤية ، وإلّا جاز أن يكون بحضرتنا جبال

__________________

(١) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٣٦.

(٢) التقعقع : التحرّك ، وتقعقع الشيء : صوّت عند التحريك أو التحرّك ، واضطرب وتحرّك.

انظر : الصحاح ٣ / ١٢٦٩ ، لسان العرب ١١ / ٢٤٧ ، تاج العروس ١١ / ٣٩٢ ، مادّة « قعع ».

(٣) القلندرية : كلمة أعجمية بمعنى المحلّقين ، وهم فرقة صوفية يحلقون رؤوسهم وشواربهم ولحاهم وحواجبهم ، وكانت هذه الفرقة مكروهة من الفقهاء المسلمين وعلمائهم ، وقد نشأت في عهد الظاهر بيبرس ، وهو الذي شجّعها ، وكان سبب انتشارها في مصر والشام ، ومن مشاهير رجالها الشيخ عثمان كوهي الفارسي ، وقال بعضهم : إنّ هذه الفرقة أوّل ما ظهرت بدمشق سنة ٦١٦ ه‍ وكان لها عدّة زوايا في الشام ومصر.

انظر : معجم الألفاظ التاريخية : ١٢٥.

٦٤

شاهقة ونحن لا نراها.

هذا هو الاعتراض.

وأجاب الأشاعرة عنه : بأنّ هذا منقوض بجملة العاديّات ، فإنّ الأمور العاديّة تجوز نقائضها مع جزمنا بعدم وقوعها ، ولا سفسطة هاهنا.

فكذا الحال في الجبال الشاهقة التي لا نراها ، فإنّا نجوّز وجودها ونجزم بعدمها ؛ وذلك لأنّ الجواز لا يستلزم الوقوع ، ولا ينافي الجزم بعدمه ، فمجرّد تجويزها لا يكون سفسطة(١) .

وحاصل كلام الأشاعرة ـ كما أشرنا إليه سابقا ـ : أنّ الرؤية لا تجب عقلا عند تحقّق الشرائط ، ويجوّز العقل عدم وقوعها عندها مع كونه محالا عادة ، والخصوم لا يفرّقون بين المحال العقلي والعادي ، وجملة اعتراضاته ناشئة من عدم هذا الفرق.

ثمّ ما ذكره من الأضواء وتوصيفها والمبالغات فيها ، فكلّها من قعقعة الشنآن بعد ما قدمنا لك البيان.

__________________

(١) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٣٧ ـ ١٣٨.

٦٥

وأقول :

سبق أنّ حقيقة مختار الأشاعرة نفي سببيّة الأسباب الطبيعيّة واقعا ، ونسبة المسبّبات حقيقة إلى فعل القادر ، بلا دخل للأسباب ، ولا توقّف للمسبّبات عليها عقلا.

وحينئذ فيجوز عقلا وواقعا ـ مع تمام السبب واجتماع الشرائط ـ عدم حصول الرؤية منّا لجبال بحضرتنا ، موصوفة بما وصفها المصنّف ، وعدم سماع الأصوات ، وإحساس حرارة الحديدة ، على ما وصفهما المصنّف ;.

وقد نقل الخصم في آخر كلامه هذا التجويز عن الأشاعرة مع دعوى الجزم بعدمها عادة ، وهو خطأ ؛ لأنّ إثبات العادة على العدم فرع الاطّلاع على الواقع ، والاطّلاع عليه غير ثابت.

بل على قولهم بالجواز العقلي ، يمكن أن تكون العادة على وجود تلك الجبال ، إلّا أنّا لم نطّلع عليها ، فإنّ مجرّد عدم مشاهدتها لا يدلّ على عدمها ؛ لإمكان أن تكون موجودة دائما ونحن لا نشاهدها!

كما أنّ عدم لمسنا لها. وعدم مصادمتها لنا حال السير ، لا يدلّان على انتفائها ؛ لجواز أن لا يخلق الله تعالى اللمس والمصادمة مع وجود سببهما الطبيعي!

وكذا الحال في دعوى حصول العادة على العدم ، بالنسبة إلى الأصوات والحرارة اللتين ذكرهما المصنّف ;.

٦٦

فالحقّ أن لا منشأ للجزم بالعدم سوى ارتكاز وجوب الرؤية والسماع وإحساس الحرارة بالبديهية العقلية عند اجتماع الشرائط ، لكنّ الأشاعرة كابروا ارتكازهم.

وأمّا تفسيره لنفي الوجوب بأنّ الله تعالى قادر على أن يمنع البصر من الرؤية مع وجود الشرائط ، فليس تفسيرا صحيحا.

وقد أراد به إدخال الإيهام والاستهجان على السامع بأنّ القائل بالوجوب ينفي قدرة القادر ، بخلاف الأشاعرة ، وهو ممّا لا يروج على عارف ؛ لأنّا إذا قلنا بوجوب الرؤية عند اجتماع الشرائط يكون عدمها حينئذ ممتنعا.

وقد عرفت أنّ الممتنع ليس محلّا للقدرة ، بلا نفي لها عن محالّها ، ولا نقص فيها.

فالفرق بيننا وبينهم هو أنّا نقول بامتناع عدم الرؤية مع اجتماع شرائطها وتحقّق سببها الطبيعي ، فلا تتعلّق بعدمها القدرة حينئذ لنقص في المحلّ ، وهم يقولون بإمكانه فتتعلّق به ؛ وضرورة العقلاء هي الحاكمة.

وأمّا ما ذكره من وقوع خرق العادة في معجزات الأنبياء ، كالمعجزة المذكورة لنبيّنا ٦ فغير مفيد له ؛ لأنّهذه المعجزة إنّما هي بإيجاد حاجب على خلاف العادة ، لا بعدم الرؤية مع وجود شرائطها.

كما يرشد إلى ذلك قراءة النبيّ ٦ حين خروجه لسورة يس ، فإنّ قوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ )(١) ظاهر في أنّ عدم الرؤية لوجود السدّ والغشاوة.

__________________

(١) سورة يس ٣٦ : ٩.

٦٧

وقد يستفاد من تفريع عدم الإبصار على وجود الغشاوة ، أنّ الإبصار محتاج في ذاته إلى عدم الحاجب ، الذي هو أحد الشروط المتقدّمة.

وأمّا ما نقله عن بعض الأشاعرة ، من حصول جميع شرائط الرؤية لكلّ جزء من أجزاء الجسم الكبير البعيد ، مع عدم ثبوت الرؤية لبعضها ، ففيه :

إنّ فرض حصول الشرائط لجميع الأجزاء يوجب أن يكون تخصيص البعض بالرؤية ترجيحا بلا مرجّح ، وهو باطل.

فلا بدّ من الالتزام بعدم حصول الشرائط لبعضها ، أو الالتزام بتعلّق الرؤية في القرب والبعد بمجموع الجسم لا بأجزائه.

وإنّما يرى كبيرا في القرب ، صغيرا في البعد ، لأمور محتملة

أحدها : إنّ صغر المرئي إنّما هو بحسب صغر الزاوية الجليدية وكبرها ، إن قلنا : إنّ الإبصار بالانطباع.

أو بحسب صغر زاوية مخروط الشعاع وعظمها ، إن قلنا : إنّ الإبصار بخروج الشعاع.

وأورد عليه صاحب « المواقف » بما هو مبنيّ على تركّب الجسم من أجزاء لا تتجزّأ ، وعلى إنّ المرئي حال البعد نفس الأجزاء لا المجموع(١) .

وكلاهما باطل.

واعلم أنّ قول المصنّف ; : « وكذا يكون بحضرتنا أصوات هائلة » دالّ على ما ذكرناه سابقا ، من أنّه أراد بالإدراك ـ في عنوان المسألة ـ مطلق الإحساس الظاهري ، لا خصوص الرؤية.

__________________

(١) انظر : المواقف : ٣٠٧ ـ ٣٠٨ ، شرح المواقف ٨ / ١٣٦ ـ ١٣٧.

٦٨

وإنّما لم يتعرّض هنا لتجويزهم عدم إدراك الطعوم والروائح ـ البالغة في الظهور منتهاه ـ مع سلامة الذائقة والشامّة ، واجتماع سائر الشرائط ؛ استغناء عنه ببيان أخواتهما.

٦٩
٧٠

امتناع الإدراك مع فقد الشرائط

قال المصنّف ـ رفع الله درجته ـ(١) :

المبحث الرابع

في امتناع الإدراك مع فقد الشرائط

فجوّزوا في الأعمى إذا كان في المشرق ، أن يشاهد ويبصر النملة الصغيرة السوداء ، على صخرة سوداء ، في طرف المغرب ، في الليل المظلم! [ وبينهما ما بين المشرق والمغرب من البعد ] ، وبينهما حجبت جميع الجبال والحيطان.

ويسمع الأطرش وهو في طرف المشرق أخفى صوت وهو في طرف المغرب!(٢) .

وكفى من اعتقد ذلك نقصا ، ومكابرة للضرورة ، ودخولا في السفسطة.

[ هذا اعتقادهم! وكيف(٣) يجوز لعاقل أن يقلّد من كان هذا

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٢ ـ ٤٤.

(٢) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٣٩ ، شرح التجريد ـ للقوشجي ـ : ٤٣٦ المقصد الثالث.

(٣) كان في المصدر : « وكيف من » ولا يستقيم الكلام بإثبات « من » هنا ، فحذفناها.

٧١

اعتقاده؟! ].

وما أعجب حالهم! يمنعون من لزوم(١) مشاهدة أعظم الأجسام قدرا ، وأشدّها لونا وإشراقا ، وأقربها إلينا ، مع ارتفاع الموانع ، وحصول الشرائط! و [ من ] سماع الأصوات الهائلة القريبة! ويجوّزون مشاهدة الأعمى لأصغر الأجسام وأخفاها في الظلم الشديدة ، وبينهما غاية البعد! وكذا في السماع!

فهل بلغ أحد من السوفسطائية ـ في إنكار المحسوسات ـ إلى هذه الغاية ، ووصل إلى هذه النهاية؟!

مع إنّ جميع العقلاء حكموا عليهم بالسفسطة ، حيث جوّزوا انقلاب الأواني التي في دار الإنسان ، حال خروجه ، أناسا فضلاء مدقّقين في العلوم ، حال الغيبة!

وهؤلاء جوّزوا حصول مثل هذه الأشخاص في الحضور ، ولا يشاهدون ، فهم أبلغ في السفسطة من أولئك!

فلينظر العاقل المنصف المقلّد لهم! هل يجوز له أن يقلّد مثل هؤلاء القوم ، ويجعلهم واسطة بينه وبين الله تعالى ، ويكون معذورا برجوعه إليهم وقبوله منهم ، أو لا؟!

فإن جوّز ذلك لنفسه ـ بعد تعقّل ذلك وتحصيله ـ فقد خلّص المقلّد من إثمه ، وباء هو بالإثم ؛ نعوذ بالله من مزالّ الأقدام!

وقال بعض الفضلاء(٢) ـ ونعم ما قال ـ : كلّ عاقل جرّب الأمور

__________________

(١) ليست في المصدر.

(٢) انظر مؤدّاه في الرسالة السعدية : ٤٣.

٧٢

فإنّه لا يشكّ في إدراك السليم حرارة النار إذا بقي فيها مدّة مديدة حتّى تنفصل أعضاؤه.

ومحالّ أن يكون أهل بغداد ـ على كثرتهم وصحّة حواسّهم ـ يجوز عليهم جيش عظيم ، ويقتلون ، وتضرب فيهم البوقات الكثيرة ، ويرتفع الريح ، وتشتدّ الأصوات ، ولا يشاهد ذلك أحد منهم ، ولا يسمعه!

ومحال أن يرفع أهل الأرض ـ بأجمعهم ـ أبصارهم إلى السماء ، ولا يشاهدونها!

ومحال أن يكون في السماء ألف شمس ، وكلّ واحدة منها ألف ضعف من هذه الشمس ، ولا يشاهدونها!

ومحال أن يكون لإنسان واحد ، مشاهد أنّ عليه رأسا واحدا ، ألف رأس لا يشاهدونها ، وكلّ واحد منها مثل الرأس الذي يشاهدونه!

ومحال أن يخبر واحد بأعلى صوته ألف مرّة ، بمحضر ألف نفس ، كلّ واحد منهم يسمع جميع ما يقوله ، بأنّ زيدا ما قام ، ويكون قد أخبر بالنفي ، ولم يسمع الحاضرون حرف النفي ، مع تكرّره ألف مرّة ، وسماع كلّ واحد منهم جميع ما قاله!

بل علمنا بهذه الأشياء أقوى بكثير من علمنا بأنّه حال خروجنا من منازلنا ، لم تنقلب الأواني ـ التي فيها ـ أناسا مدقّقين في علم المنطق والهندسة.

وأنّ ابني الذي شاهدته بالأمس ، هو الذي شاهدته الآن.

وأنّه لم(١) يحدث حال تغميض العين ألف شمس ، ثمّ تعدم عند

__________________

(١) سقطت من المصدر.

٧٣

فتحها.

مع إنّ الله تعالى قادر على ذلك كلّه(١) ، وهو في نفسه ممكن.

وأنّ المولود الرضيع ـ الذي يولد في الحال ـ إنّما يولد من الأبوين ، ولم يمرّ عليه ألف سنة ، مع إمكانه في نفسه ، وبالنظر إلى قدرة الله تعالى.

وقد نسبت السوفسطائية إلى الغلط ، وكذّبوا كلّ التكذيب في هذه القضايا الجائزة ، فكيف بالقضايا التي جوّزها الأشاعرة التي تقتضي زوال الثقة عن المشاهدات؟!

ومن أعجب الأشياء جواب رئيسهم ، وأفضل متأخّريهم ، فخر الدين الرازي في هذا الموضع ، حيث قال :

« يجوز أن يخلق الله تعالى في الحديدة المحماة بالنار برودة عند خروجها من النار ، فلهذا لا يحسّ بالحرارة ، واللون الذي فيها ، والضوء المشاهد منها يجوز أن يخلقه الله تعالى في الجسم البارد »(٢) .

وغفل عن أنّ هذا ليس بموضع النزاع ؛ لأنّ المتنازع فيه أنّ الجسم الذي هو في غاية الحرارة ، يلمسه الإنسان الصحيح البنية ، السليم الحواسّ ، حال شدّة حرارته ، ولا يحسّ بتلك الحرارة ؛ فإنّ أصحابه يجوزون ذلك ، فكيف يكون ما ذكره جوابا؟!

__________________

(١) ليست في المصدر.

(٢) انظر مؤدّاه في : المطالب العالية من العلم الإلهي ٣ / ٢٨٣.

٧٤

وقال الفضل(١) :

حاصل جميع ما ذكره في هذا الفصل ـ بعد وضع القعقعة ـ : أنّ الأشاعرة لا يعتبرون وجود الشرائط وعدمها في تحقّق الرؤية وعدم تحقّقها ، ولعدم هذا الاعتبار دخلوا في السوفسطائية.

ونحن نبيّن لك حاصل كلام الأشاعرة في الرؤية ، لتعرف أنّ هذا الرجل ـ مع فضيلته ـ قد أخذ [ سبل(٢) ] التعصّب عين بصيرته! فنقول :

ذهب السوفسطائية إلى نفي حقائق الأشياء ، فهم يقولون : إنّ حقيقة كلّ شيء ليست حقيقته ، فالنار ليست بالنار ، والماء ليس بالماء ، ويجوز أن تكون حقيقة الماء حقيقة النار ، وحقيقة الماء حقيقة الهواء ، وليس لشيء حقيقة ما ، فيلزمهم أن تكون النار التي نشاهدها لا تكون نارا ، بل ماء وهواء أو غير ذلك.

وهذا هو السفسطة.

ويجرّ هذا إلى ارتفاع الثقة من المحسوسات ، وتبطل به الحكمة الباحثة عن معرفة الأشياء.

وأمّا حاصل كلام الأشاعرة في مبحث الرؤية وغيرها ـ ممّا ذكره هذا الرجل ـ فهو : أنّ الاشياء الموجودة عندهم إنّما تحصل وتوجد بإرادة

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١١١ ـ ١١٤.

(٢) السبل : داء في العين شبه غشاوة كأنّها نسج العنكبوت بعروق حمر ؛ انظر : الصحاح ٥ / ١٧٢٤ ، لسان العرب ٦ / ١٦٤ ، تاج العروس ١٤ / ٣٢٧ ، مادّة « سبل ».

٧٥

الفاعل المختار وقدرته ، التي هي العلّة التامّة لوجود الأشياء.

فإذا كانت القدرة هي العلّة التامّة ، فلا يكون وجود شيء واجبا عند حصول الأسباب الطبيعيّة ، ولا يكون شيء مفقودا بحسب الوجود(١) عند فقدان الأسباب والشرائط.

ولكن جرت عادة الله تعالى في الموجودات أنّ الأشياء تحصل عند وجود شرائطها ، وتنعدم عند انعدامها ، فهذه العادة في الطبيعة جرت مجرى الوجوب.

فالشيء الذي له شرائط في الوجود ، يجب تحقّقه عند وجود تلك الشرائط ، وانتفاؤه عند انتفائها ، بحسب ما جرى من العادة.

وإن كان ذلك الشيء ـ بالنسبة إلى القدرة ـ غير واجب ، لا في صورة التحقّق ، لتحقّق الشرائط ، ولا في صورة الانتفاء ، لانتفائها ، بل جاز في العقل تحقّق الشرائط وتخلّف ذلك الشيء ، وجاز تحقّقه مع انتفاء الشرائط ، إذ لم يلزم منه محال عقلي ، وذلك بالنسبة إلى قدرة المبدئ ، الذي هو الفاعل المختار.

مثلا : الرؤية التي نباحث فيها لها شرائط ، وجب تحقّقها عند تحقّقها ، وامتنع وقوعها عند فقدان الشرائط.

كلّ ذلك بحسب ما جرى من عادة الله تعالى في خلق بعض الموجودات ، بإيجاده عند وجود الأسباب الطبيعيّة ، دون انتفائها.

فعدم تحقّق الرؤية عند وجود الشرائط ، [ أ ] وتحقّقها عند فقدان الشرائط ، محالّ عاديّ(٢) ؛ لأنّه جار على خلاف عادة الله تعالى ، وإن كان

__________________

(١) في المصدر : الوجوب.

(٢) في المصدر : عادة.

٧٦

جائزا عقلا إذا جعلنا قدرة الفاعل وإرادته علّة تامّة لوجود الأشياء.

هذا حاصل مذهب الأشاعرة.

فيا معشر الأذكياء! أين هذا من السفسطة؟!

وإذا عرفت هذا سهل عليك جواب كلّ ما أورده هذا الرجل في هذه المباحث من الاستبعادات والتشنيعات.

وأمّا جواب الإمام الرازي فهو واقع بإزاء الاستبعاد ، فإنّهم يستبعدون أنّ الحديدة المحماة الخارجة من التنوّر يجوز عقلا أن لا تحرق شيئا.

فذكر الإمام وجه الجواز عقلا بخلق الله تعالى عقيب الخروج من التنّور برودة في تلك الحديدة ؛ فيكون جوابه صحيحا.

والله أعلم بالصواب.

وأمّا قوله : « إنّ المتنازع فيه أنّ الجسم الذي في غاية الحرارة ، يلمسه الإنسان الصحيح البنية ، السليم الحواسّ ، حال شدّة حرارته ، ولا يحسّ بتلك الحرارة ؛ فإنّ أصحابه يجوّزون ذلك ».

فنقول فيه : قد عرفت آنفا ما ذكرناه من معنى هذا التجويز ، وأنّه لا ينافي الاستحالة عادة ، فهم لا يقولون : إنّ هذا ليس بمحال عادة ، ولكن لا يلزم منه محال عقلي ـ كاجتماع الوجود والعدم ـ ، فيجوز أن تتعلّق به القدرة الشاملة الإلهية ، وتمنع الحرارة عن التأثير.

ومن أنكر هذا ، فلينكر كون النار بردا وسلاما على إبراهيم.

٧٧

وأقول :

ما ذكره من مغايرة الأشاعرة للسوفسطائية في خصوصيات الأقوال ، لا ينافي مشابهتهم لهم في مخالفة الضرورة ، كما هو مطلوب المصنّف ;.

فالمراد أنّهم مثلهم في إنكار المحسوسات الضرورية ، وغلطهم فيها غلطا بيّنا يستوضحه كلّ ذي عقل.

وأمّا ما ذكره في بيان مذهب الأشاعرة ، فهو تكرير لما سبق ، وقد عرفت أنّ قولهم بنفي سببية الأسباب الطبيعية واقعا ، وجواز تخلّف المسبّبات عنها ، وجواز وجود المسبّبات بدونها ، مخالف للضرورة ، ومستلزم لعدم صحّة الحكم على الجسم بالحدوث ، وعلى المركّب بالإمكان إلى غير ذلك ممّا سبق.

مع إنّ تجويز رؤية الأعمى ، وسماع الأطرش ـ العادمين لقوّتي البصر والسمع ـ مستلزم لجواز قيام العرض بلا معروض ، وهو محال.

وفرض قوّة أخرى يجعل النزاع لفظيا ، وهو ليس كذلك ، فلا يمكن تخلّف المسبّب عن سببه الطبيعي ، ولا وجوده بدونه ، بلا منافاة في ذلك لعموم القدرة ، لاعتبار الإمكان في محلّها ، كما سبق.

فكما لا يصحّ تعلّقها بإيجاد شريك الباري سبحانه ، وبالجمع بين الوجود والعدم ، لا يصحّ تعلّقها بالمسبّب بدون السبب المفروض السببية.

وأمّا ما يظهر منه من كون القدرة علّة تامّة لوجود الأشياء ، فخطأ

٧٨

ظاهر ، لاستلزامه قدم الحادثات ، أو حدوث القدرة.

ولمّا أنكر الأشاعرة علّيّة الأسباب الطبيعية ـ والحال أنّها من أظهر أحوال الموجودات ـ لزمهم نفي الثقة بالموجودات البديهية ـ من المحسوسات وغيرها ـ ودخلوا في السوفسطائية ، المخالفين للبديهة.

وأمّا ما ذكره في توجيه جواب الرازي ، فمنحلّ إلى أنّه إقناعيّ خارج عن محلّ الكلام ، وأنت تعلم أنّ مثله لا يقع في بحث العلماء.

وأمّا قوله : « ومن أنكر ذلك ، فلينكر كون النار بردا وسلاما على إبراهيم » ، فمدفوع بأنّ صريح الآية الكريمة صيرورة النار بردا ـ كما في فرض الرازي ـ ، فلا دخل لها بمطلوبه من عدم تأثيرها للإحراق حال حرارتها.

٧٩
٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390