التشيع نشأته معالمه

التشيع نشأته معالمه0%

التشيع نشأته معالمه مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 390

  • البداية
  • السابق
  • 390 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 19595 / تحميل: 7024
الحجم الحجم الحجم
التشيع نشأته معالمه

التشيع نشأته معالمه

مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الورع والاجتهاد، وأهل الوفاء والأمانة وأهل الزهد والعبادة، أصحاب إحدى وخمسين ركعة (1) في اليوم والليلة، القائمون بالليل، الصائمون بالنهار، يزكّون أموالهم، ويحجّون البيت، ويجتنبون كلّ محرّم) (2) .

وفي موردٍ آخَر يصف شيعة آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)، وما يجب أن يلتزموا به مِن الإيمان والعمل؛ ليكونوا قدوةً وقوّةً فكرية وحركية مؤثّرة ومُغَيِّرة في مسيرة الأُمّة، فيقول: (والله ما شيعة عليّ (صلوات الله عليه) إلاّ مَن عفَّ بطنه وفرجه، وعمل لخالقِه، ورجا ثوابه، وخاف عقابه) (3) .

ونقرأ للإمام الباقر (عليه السلام) ردّاً على المنحرفين، الذين شذّوا عن منهج أهل البيت، ممّن ادّعوا الانتساب إليهم، وقالوا بأنّ الانتماء إلى أهل البيت يكفي عن العمل والالتزام، فإنَّ موالاتهم وحدها ضمانة لدخول الجنّة.

قال (عليه السلام) لجابر الجعفي: (يا جابر: يكتفي مَن اتّخذ التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت؟! فوالله ما شيعتنا إلاّ مَن اتّقى الله وأطاعه، وما كانوا يُعرَفون إلاّ بالتواضع، والتخشّع، وأداء الأمانة، وكثرة ذِكر الله، والصوم، والصلاة، والبرّ بالوالدين، والتعهّد للجيران مِن الفقراء، وأهل المسكنة، والغارمين، والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكفّ الألسُن عن الناس إلاّ مِن خير، وكانوا أُمناء عشائرهم في الأشياء.

قال جابر: يا ابن رسول الله ما نعرف أحداً بهذه الصفة، فقال لي: يا جابر لا تذهبنّ بك المذاهب، حسب الرجُل أن يقول أُحبّ عليّاً (صلوات الله عليه) وأتولاّه، فلو قال: إنّي أُحبّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ورسول الله خير مِن

____________________

(1) إشارة إلى أداء صلاة النافلة إضافة إلى الصلاة الواجبة.

(2) الشيخ الصدوق / صفات الشيعة: ص 9.

(3) المصدر السابق: ص 14.

٣٦١

عليّ، ثمّ لا يتّبع سيرته ولا يعمل بسنّته ما نفعه حبّه إيّاه شيئاً، فاتّقوا الله واعملوا لِما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحَبّ العباد إلى الله وأكرمهم عليه أتقاهم له، وأعملهم بطاعته.

يا جابر ما يتقرّب العبد إلى الله تبارك وتعالى إلاّ بالطاعة، وما مَعَنا براءة مِن النار، ولا على الله لأحد منكم حجّة، مَن كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومَن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، ولا تنال ولايتنا إلاّ بالعمل والورع) (1) .

ثمّ يؤكّد الإمام الباقر (عليه السلام) مرّة أُخرى هذه الحقيقة بقوله: (... والله ما مَعَنا مِن الله براءة، وما بيننا وبين الله قرابة، ولا لنا على الله حجّة، ولا يتقرّب إلى الله إلاّ بالطاعة، فمَن كان فيكم مطيعاً نفعته ولايتنا، ومَن كان منكم عاصياً لمْ تنفعه ولايتنا) (2) .

ويتركّز منهج أهل البيت (عليهم السلام) في تربيتهم للأُمّة بصورةٍ عامّة، ولأتباعهم بصورة خاصّة، بالاقتداء بسيرة رسول الله وبنَهْجه في الحياة والالتزام بكتاب الله؛ لتكون تربية قرآنية نبويّة أصيلة.

لذا نجد الإمام الصادق (عليه السلام) يوصي أتباعه بقوله: (إنّ الله تبارك وتعالى خصَّ رسول الله بمكارم الأخلاق، فامتحنوا أنفسكم، فإنْ كانت فيكم فاحمدوا الله عزّ وجلّ، وارغبوا إليه في الزيادة منها، فذكرها عشرة: اليقين والقناعة والصبر والشكر والحلم وحُسن الخُلُق والسخاء والغيرة والشجاعة والمروءة) (3) .

ويؤكّد (عليه السلام) في موردٍ آخَر هذا الاتّجاه السلوكي، فيقول: (إنّي لأكره للرجُل أن يموت، وقد بقيَت عليه خِلَّة مِن خلال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لمْ يأت بها) (4) .

____________________

(1) الشيخ الصدوق / صفات الشيعة: ص 18 - 19.

(2) الطبرسي / مشكاة الأنوار: ص 67.

(3) الشيخ الصدوق / صفات الشيعة: ص 49.

(4) الطبرسي / مكارم الأخلاق: ص 39.

٣٦٢

ويتّجه اهتمام أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) نحو التربية القرآنية، وملازمة كتاب الله تعالى؛ لبناء جيلٍ قرآنيٍّ أصيل، مستقٍ ذلك مِن مَعين الرسول (صلّى الله عليه وآله) ودعوته.

روى الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليهما السلام) عن الرسول الهادي محمّد (صلّى الله عليه وآله) قوله: (قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): إنَّ أحقَّ الناس بالتخشّع في السِرّ والعلانيّة، لَحامل القرآن. وإنَّ أحقَّ الناس في السرّ والعلانية بالصلاة والصوم، لَحامل القرآن.

ثمّ نادى بأعلى صوته: يا حامل القرآن تواضع به يرفعُك الله، ولا تعزَّز به فيُذِلّك الله. يا حامل القرآن تزيّن به لله يُزيّنك الله [به]، ولا تزيّن به للناس فيُشينك الله به.

مَن ختَم القرآن فكأنّما أُدرجت النبوَّة بين جنبيه، ولكنّه لا يوحى إليه. ومَنْ جمع القرآن فنوله (1) لا يجهل مع مَن يجهل عليه، ولا يغضب فيمَن يغضب عليه، ولا يحدُّ فيمَن يحدُّ، ولكنّه يعفو ويصفح ويغفر ويحلم لتعظيم القرآن. ومَن أُوتيَ القـرآن، فظنَّ أنّ أحداً مِن الناس أُوت أفضل ممّا أُوتي، فقد عظّم ما حقّر الله وحقّر ما عظَّم الله) (2) .

ثمّ يذكّر أصحابه المشتغلين بالتجارة، ويحثّهم على تلاوة كتاب الله؛ لئلاّ يستولي السوق والمال على اهتمامهم، فيقول لهم: (ما يمنع التاجر منكم المشغول في سوقه، إذا رجع إلى منزله، أن لا ينام حتّى يقرأ سورة مِن القرآن، فتُكتَب له مكان كلّ آية يقرؤها عَشر حسنات، ويُمحى عنه عَشر سيّئات) (3) .

____________________

(1) مِن قولهم: نولك أن تفعل كذا؛ أي حقّك وينبغي لك، وأصله مِن التناول.

(2) الكليني / الأُصول مِن الكافي 2: 604.

(3) المصدر السابق: ص 611.

٣٦٣

٣٦٤

الخاتمة

٣٦٥

٣٦٦

( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً )

( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (1) .

( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) (2).

( ... فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ... ) (3).

الإسلام هو الدِين الذي جاء به محمّد (صلّى الله عليه وآله) مِن عند الله إلى البشرية جميعها، وهي مخاطَبة بمختلف أجيالها وأزمانها، بهذه الرسالة الخالدة.

وإنّ مِن أُسس ومبادئ الإسلام الأساسية هي توحيد المسلمين، وبناء الأُمّة الإسلامية على أساس فكري، وتحت ظِلّ قيادة سياسية وبُنية اجتماعية واحدة. وهكذا عاشت الأُمّة موحّدة في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعيدة عن

____________________

(1) سورة الأنبياء: آية 92.

(2) سورة آل عمران: آية 103.

(3) سورة النساء: آية 59.

٣٦٧

الخلاف الفكري والسياسي الذي يُشتّت جمْعها، ويمزّق وحدتها.

ولأهمّية الوحدة وعُمق أثرها في حياة المسلمين، كرّس القرآن الكريم والرسول العظيم (صلّى الله عليه وآله) جزءاً كبيراً مِن خطابهما واهتمامهما التربوي؛ لتركيز دعائم الوحدة وحمايتها مِن التصدّع والفُرقة والخلاف. فإنّ مصير الأمّة والرسالة والحياة الإسلامية مرتّبة بوحدة الأمّة وتماسك بنائها.

لذلك أمَر الله المسلمين، أمْر وجوبٍ وإلزام، بالاعتصام بحبْله المتين (القرآن الكريم ودينه العظيم)، ونهاهم نهْيَ تحريم عن الفُرقة والخلاف، فإنّ عاقبة ذلك هو الضَعف والتمزّق والهزيمة أمام العدوّ الذي يتربّص بالمسلمين الدوائر.

( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (1) .

ولقد تدخّلت أسباب وعوامل عديدة، فأحدَثت الفُرقة والخلاف بين المسلمين، فمزّقت بُنيتهم الفكرية، وأوجدت الحواجز النفسية، وأجّجت نار الصراع. فصاروا كما أخبر الله سبحانه ضِعافاً يخافون أن يتخطّفهم الناس مِن حَولهم.

إنّ المسلمين اليوم هم أمّة مِن أعظم أُمم الأرض، بما تملِك مِن فكرٍ وعقيدةٍ وتشريعٍ وحضارةٍ وتاريخٍ مجيد، وثروات طبيعية ضخمة، وموقع استراتيجي فريد، وكتلة بشرية يزيد تعدادها على مليار إنسان.

إنّ هذه العناصر البشرية والفكرية والطبيعية لتؤهّل المسلمين لأن يكونوا أمّةً حضارية قائدة، غير أنّ مِحنة الفُرقة والخلاف والتمزّق المذهبي والقومي والإقليمي والسياسي، كانت مِن أخطر العوامل التي قوّضت قوّة المسلمين، وتسبّبت في ضعْفهم وتخلّفهم.

____________________

(1) سورة الأنفال: آية 46.

٣٦٨

ويستطيع الباحث التاريخي والدارس لتاريخ الفكر ونشأة الفِرَق والمذاهب والآراء الفقهية، أن يشخّص عدّة قضايا في مسألة الخلاف وتعدّد الآراء، والتي مِن أبرزها:

1 - الخلاف في الإمامة والسياسة: يعتبر الخلاف في مسألة الإمامة والسياسة أوّل خلاف شطَر الصفّ الإسلامي. عندما اختلفوا يوم وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في سقيفة بني ساعدة حَول هذا المنصب، فكان لهم ثلاثة مرشّحين لإشغال هذا الموقع الخطير، وهُم: سعد بن عبادة، وأبو بكر، وعليّ بن أبي طالب.

وقد انتهى دَور سعد بن عبادة السياسي بانتهاء الاجتماع في سقيفة بني ساعدة، وبقيَ الإمام عليّ محوراً قيادياًَ على امتداد حياته، ينظر إليه الكثير مِن الصحابة كمرشّح للخلافة ومستحقّ لها، غير أنّ الإمام عليّاً آثر وحدة المسلمين وجمْع كلمتهم، فانسحب مِن المواجهة السياسية طيلة حياة الخلفاء الثلاثة، ومارس دَوره كمرشدٍ وموَجّهٍ وناصحٍ ومبيِّن للأحكام. وقال كلمته الخالدة: والله لأُسلِّمنّ ما سلِمتْ أمُور المسلمين.

ولمْ يسمَح بتحويل قضيّته إلى مواجهة ونزاع بين المسلمين، ويشهد التاريخ بردِّه العنيف على أبي سفيان، عندما حاول أن يجرّ الموقف إلى صراعٍ دمويٍّ بين المسلمين بقوله لعليّ: (ما بال هذا الأمْر في أقلّ حَيٍّ مِن قريش، والله لئن شئتَ لأملأنّها عليه خَيلاً ورجالاً....) (1) .

فيزجُرُه ويردّ عليه غاضباً بقوله المبدئي، الذي لا يعرف المساومة ولا إيثار الدنيا على المبادئ: (إنّك والله ما أردت بهذا إلاّ الفتنة، وإنّك والله طالما بغيت

____________________

(1) الطبري / تاريخ الأمم والملوك 3: 209.

٣٦٩

الإسلام شرّاً، لا حاجة لنا في نصيحتك) (1) .

وهكذا فوّت عليٌّ الفرصة على المتصيّدين بالماء العكِر، ووقف بوجه الفتنة، وحافظ على وحدة الأُمّة.

غير أنّ مشكلة الفُرقة والخلاف عادت، فبرزَت عندما برز الحزب الأُمَوي كقوّة مؤثّرة في سياسة الدولة، في عهد الخليفة الثالث، ثمّ واصل هذا الحزب إصراره في مواجهة خطّ أهل البيت النبويّ، الذي قاده عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، بما يحمل مِن فكرٍ ورؤيةٍ نقية، ووعيٍ مبدئيٍّ للإسلام، ومعه المهاجرون والأنصار، والبدريون وأهل بيعة الرضوان.

ولقد عملت السياسة الأُمَوية بعد شهادة الإمام عليّ بن أبي طالب، واضطرار الإمام الحسن إلى التنازل عن الخلافة لمعاويـة، عملت على تركيز الفُرقة والخلاف، وتبنّي محاربة آل البيت النبويّ وأتباعهم، وشنِّ حَمْلة دموية ودعائية ضدّهم، وتعميم سبِّ الإمام عليّ بن أبي طالب على المنابر والمآذن، حتّى عهد عُمَر بن عبد العزيز الذي ألغى هذه السياسة العدوانية.

فكانت تلك الفترة هي فترة الفُرقة والخلاف بين المسلمين، وتأجيج نار العداوة، وشطْر المسلمين شطرين متواجهين (السُنّة والشيعة).

وامتدّ هذا الخلاف تُغذّيه السياسة والحكومات المتعاقبة على مَرّ العصور والأجيال، فتركّز كحاجزٍ نفْسي وموقف سلبي؛ نتيجة السياسات الحاكمة التي وظّفت الخلاف لصالح تسلّطها ومكاسبها الدنيوية.

وقد تعمّق هذا الخلاف في عهد الاحتلال الصليبي والاستعمار والصهيونية، يُنمّيه الحُكّام العملاء، والأقلام والألسُن المأجـورة؛ لإبقاء حالة الضَعْف والتمزّق

____________________

(1) المصدر السابق.

٣٧٠

والصراع.

وحين انطلقت الثورة الإسلامية في إيران، وقام للمسلمين كيان سياسي ودولة، على أساس كتاب الله والسنّة المطهّرة، وبدأت مرحلة حضارية جديدة في العالم الإسلامي، شعَر الاستكبار العالَمي - وعملاؤه - بالخطر على تسلّطه في هذا العالم، كما شعر بالخطر على حضارته الجاهلية البغيضة، لاسيّما وأنّ الحركة الإسلامية والوعي الإسلامي قد تحوّلا إلى تيّارٍ شعبي، وحركة عميقة في وجدان الأمّة وعقلها في مساحات واسعة مِن العالَم.

فشَنّ أعداء الإسلام حملةً دعائيةً ضدّ وحدة المسلمين ونهضتهم الفكرية والسياسية، بشكلٍ مخطّطٍ ومدروس، موَظِّفين مسألة تعدّد المذاهب الفقْهية لدى المسلمين. فمِصر مثلاًَ تعتنق بشكلٍ أساس المذهب الشافعي، والجزيرة العربية تعتنق المذهب الحنبلـي، وشمال أفريقيا يعتنق المذهب المالكي، وإيران تعتنق المذهب الجعفري... الخ.

وإنّ الثورة الإسلامية انطلقت مِن إيران الشيعيّة، التي يعتنق شعبُها منهج أهل البيت الفقْهي والفكري؛ لذا تركَّزت الحملة الدعائية ضدّ الاتّجاه الشيعي الملتزم بمنهج أهل البيت (عليهم السلام)، خوفاً مِن قوّة المسلمين وانطلاقتهم الحضارية الكبرى، وعودة الدَور القيادي للأُمّة الإسلامية الموحّدة.

والمسلمون بمختلف مذاهبهم وآرائهم مَدْعوّون لتشخيص هذه الحقيقة والردّ عليها، وتجاوز الحواجز النفْسية التي وضعَتْها المصالح الدنيوية البعيدة عن الأهداف الإسلامية أو المعادية لها، والتمسّك بالوحدة والاعتصام بحَبْل الله.

2 - الخلاف العِلمي: وقد نشأ هذا الخلاف عندما نشأ اجتهاد الصحابة والتابعين، وعندما نشأت المذاهب الفقْهية والفِرَق الكلامية، التي تأثّرت نشأتها بعوامل عديدة، منها العوامل المقبولة لدى الفكر الإسلامي، ومنها الغريبة الدخيلة على روح الإسلام وعقيدته، ويعتبر الجانب السليم مِن الخلاف العِلمي، نتيجةً طبيعيةً لعملية الاجتهاد والبحث العِلمي. غير أنّ مِحنة هذا العمل الفكري لدى

٣٧١

الكثيرين هي القصور العِلمي، والإصرار على الخطأ، والتعصّب للرأي.

وللوَرَع والتقوى الأثر البالغ في تحديد موقف العالِم والمقلِّد له. فالعالِم الذي بذَل جُهده العِلمي؛ لاكتشاف الحُكم الشرعي أو المفهوم العقيدي أو الفكري، متى ما استحضر في نفْسه أنّه مسؤول أمام الله سبحانه عن عمله واكتشافه، وأنّه باحث عن الحقيقة شأنه شأن غيره مِن العلماء الباحثين، مِن خلال منهج بحثٍ وأدَوات عِلمية، وأنّ المقياس هو الدليل العِلمي، وهو الحُكم والقضاء العدْل بين الخصماء، استطاع أن يتقبّل الحقيقة وإن اكتشفها غيره، ( فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (1) .

فإنّه مِن الواضح لدينا أنّ الرسالة الإسلامية هي عبارة عن (الكتاب والسنّة)، وأنّ الفكر الإسلامي بما فيه مِن آراء هو نِتاج عملية الاجتهاد والتنظير، الذي مارسه العقل والجُهد الإسلاميان مع النصّ الشرعي.

وأنّ التفاعل بين النصّ الإلهي (الكتاب والسنّة)، وبين الجُهد البشَري، قد أدّى إلى إيلاد نتائج وآراء ونظريات متعدّدة، كان لها الدَور الأكبر في ولادة الآراء الفقْهية والفِرَق الكلامية والفلسفية؛ فانقسم الفَهْم الإسلامي للخطاب الشرعي (الكتاب والسنّة)، وذهب كلّ فريق مِن العلماء إلى ما تكوّن لديه مِن فهْمٍ وقراءة لهذا الخطاب.

وتأسيساً على تعدّد الفهْم الاجتهادي، صار الخطاب الشرعي يُنظَر إليه مِن خلال الفهْم البشَري، بشكلٍ غدا مِن المتعذّر معه تشخيص الخطأ الاجتهادي عن الصواب المطلق، في فهْم هذا الخطاب.

وبما أنّ الدِين إيمان وعمل، يتساوى التكليف فيه بين العالِم في أرقى درجات العِلم، وبين الأُمّي الذي لا يعرف القراءة والكتابة.

____________________

(1) سورة الزمر: آية 17، 18.

٣٧٢

( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) (1) .

كان على كلّ مسلم أن يلتزم بالإسلام فكراً وعملاً في العبادة والمعاملة؛ لذا فقد توزّع المسلمون كأتباع لنظريات فقْهية وعقيدية.

وانتهت العلاقة العِلمية بالخطاب الشرعي، إلى الاجتهاد والتقليد وتعدّد الآراء الفقهية والعقيدية، فوجَد المسلمون أنفسهم موزّعين على مذاهب شتّى، وأتباع لفقهاء متعدّدين.

ولمْ يقف التعدّد في الرأي عند هذا الحدّ، بل نجد آراء فقهية، واجتهادات متعدّدة في إطارات المذهب الواحد والمدرسة الفقهية والعقيدية الواحدة، وإذن فالخلاف الكبير الذي يواجهه المسلمون اليوم، هو خلاف فقْهي بشكلٍ أساس بين المذاهب والآراء الفقهية، والذي كان نتيجة لتعدّد مناهج الفقْه والاجتهاد. وليس خلافاً سياسياً على الخلافة والإمامة، ولا خلافاً بين السنّة والشيعة.

فالمسلمون اليوم لا يواجهون مِن الناحية العملية مشكلةَ الإمامة والخلافة بشكلها التاريخي، بين اتّجاهين، اتّجاه يرى أنّ أئمّة أهل البيت هُم أَولى بالخلافة والإمامة، واتّجاه آخَر لا يرى وجوب الالتزام بإمامة أهل البيت (عليهم السلام). بل يواجهون خلافاً فقْهياً بين مذاهب فقْهية متعدّدة.

والمفروض في مثل هذا الخلاف أن يكون خلافاً عِلمياً، يمكن مناقشته وحلّه بالطُرُق العِلمية، وسنجد المجال واسعاً للتلاقي، إذا انطلق العقل الإسلامي مِن نقاط اللقاء.

ولا يضرّ وحدة المسلمين أن يكون هناك تعدّد في الرأي والاجتهاد، إذا تغلّبوا على الأزمة والحواجز النفْسية التي صنعتها ظروف تاريخية.

ومِن المفيد أن نوضّح أبرز أسباب الخلاف الفقْهي بين المذاهب والفقهاء،

____________________

(1) سورة الأعراف: آية 158.

٣٧٣

فنركّزها بالآتي:

1 - الاختلاف في مصادر الأحكام: مِن مسلّمات الفكر الإسلامي، هو إجماع المسلمين على الإيمان: بأنّ الكتاب والسنّة هما مصدر الأحكام والقوانين والفكر والمعرفة الإسلامية.

غير أنّهم اختلفوا، على تعدّد مذاهبهم وآرائهم، في اعتبار وقبول مصادر أُخرى للتشريع، مثل العمل بالقياس والرأي والاستحسان ومذهب الصحابي... الخ، هل هي مصادر صالحة للاستنباط أو لا؟ كما اختلفوا في منهج الاستنباط والمباني الأُصولية المعتمدة لدى هذا الفقيه أو ذاك.

ومثل هذا الخلاف وقع بين أصحاب المذاهب الإسلامية المختلفة، وليس بين سنّة وشيعة، كما قد يتصوّر البعض، بل وقع بين فقهاء المذهب الواحد، كما هو معروف لدى الجميع.

2 - الخلاف في إثبات السُنّة الصحيحة: وتشكّل مسألة قبول رواية هذا الراوي أو ذاك، مصدراً واسعاً للخلاف الفقْهي والفكري بين المسلمين، وقد سُقنا بعض الأمثلة في اختلاف العلماء في صحّة كلّ ما ورَد في كتُب الرواية، كصحيح البخاري، والكافي، وغيرهما مِن كتُب الرواية والحديث.

فكما اختلفوا في قبول هذا المصدر التشريعي وعدم قبوله، اختلفوا كذلك في إثبات صحّة الأخبار والروايات التي نُسبت إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، والموقف مِن الرواة، فتسبّب الاختلاف في مصادر الأحكام وفي قبول هذه الرواية أو تلك، في الاختلاف في الرأي والفتوى.

وينبغي أن يُفهم أنّ هذا الخلاف ليس هو خلافاً بين سنّة وشيعة، بل هو خلاف بين علماء المذاهب وأئمّة الفقْه والاجتهاد بمختلف اجتهاداتهم.

٣٧٤

3 - ومِن أسباب الخلاف الأساسية بين الفقهاء هو الخلاف في المباني الأصولية، وفي فهْم الفقيه للنصّ وقدرته على الاستنباط منه، وتطبيق القواعد الفقهية والأُصولية، وغير ذلك مِن مسائل الفهْم والتطبيق المنهجي.

وواضح أنّ منشأ هذا الخلاف هو القدرة العِلمية، وليس الانتماء إلى سنّة أو شيعة.

4 - الخلاف في الفهْم اللُغَوي: ومِن أسباب الاختلاف بين الفقهاء - على اختلاف مذاهبهم - هو الخلاف بسبب العامل اللغَوي، كالاختلاف في الإعراب، أو في القراءة، أو في فهْم المعنى، كالاختلاف في تفسير آية الوضوء، وفي قراءة آية المحيض ( ... فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ... ) (1)، أو ( يَطَّهَّرْنَ ) ، أو تحديد معنى (القُرء)... الخ. فإنّ مثل هذا الخلاف نتَج عنه خلاف فقهي.

5 - الاختلاف في نَسْخ هذا الحُكم أو ذاك، كالاختلاف بين فقهاء الشيعة والسنّة في نسْخ تشريع زواج المُتعة، وعدم نسْخِـه.

وبما أنّ الخلاف بين المسلمين اليوم هو خلاف فقْهي وعقيدي في معظم جوانبه، فهُم مَدْعوّون إلى فتح باب الاجتهاد الذي أُغلق عند بعض المذاهب الإسلامية، واللجوء إلى الحوار العِلمي والمنهج النقدي بعقلٍ موضوعي، وتقدير للمسؤولية الشرعية، وإزالة الحواجز النفْسية بينهم وإعادة قراءة التاريخ، وتحقيق وقائعه وتقويمها تقويماً عِلمياً نزيهاً، واستفادة الدروس والعِبَر منها مِن غير أن تُجعَل سبباً للفُرقة والخلاف والعصبية.

وفي ختام حديثنا عن الوحدة والاتّحاد بين المسلمين نقترح تشكيل

____________________

(1) سورة البقرة: آية 222.

٣٧٥

مجاميع عِلمية ولقاءات وحوارات بين العلماء؛ لإقامة دراسات عِلمية مشتركة، تنطلق مِن الأُسس المتّفق عليها.

وسيكون الحوار منتجاً وأكثر فاعلية، إذا ما دار حَول نظرية متكاملة للتوحيد بين المسلمين، عِلماً بأنّ تعدّد الرأي والاجتهاد مسألة عِلمية لا علاقة لها بالفُرقة والخلاف، وهي نتيجة طبيعية لإجازة عملية الاجتهاد بعد أن تتحدّد أدواته السليمة؛ لِيُدلي كلّ ذي رأيٍ برأيه، ويُقيم كلّ ذي حجّة حجّته. على أن يكون رائد الجميع هو الوحدة والائتلاف، بعيداً عن العصبية والدفاع عن الخطأ.

وبالالتزام بالمنهج العِلمي وروح التقوى، سيصل المسلمون إلى توحيد وانسجام فكري وفقهي وسياسي.

فإنّ المنهج وطريقة التفكير السليمة والوجدان العِلمي المجرّد مِن العصبية واللاشعور المتوارث، يوصِل إلى هذه النتائج.

وكمثال على ذلك: هاهما البحث والمنهج اللذان أَوصَلا كلاًّ مِن الشيخ محمود شلتوت، والشيخ محمّد الفحّام، شيخي الأزهر الشريف، إلى اكتشاف الحقيقة، والتعرّف على مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، فرأيا مِن واجبهما الشرعي أن يُعرّفا المسلمين بهذا المذهب الإسلامي، فدَعَيا إلى وجوب التخلّص مِن العصبية تجاهه، وأجازا العمل به، والانتقال إليه، كما هو مدوَّن في الفَتْوَيَين اللتين أصدراهما بذلك.

وختاماً، فليكن شعار المسلمين هو دعوة القرآن ونداءه الخالد: ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ... ) .

*** وآخِر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالَمين***

٣٧٦

المصادر

٣٧٧

٣٧٨

* القرآن الكريم.

* الاحتجاج: أحمد بن عليّ بن أبي طالب الطبرسي (ت 620هـ)، مطبعة النعمان، النجف الأشرف، 1386هـ - 1966م.

* إحياء الميّت بفضائل أهل البيت: جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت 911هـ)، المطبعة الأدبية، مصر، 1326هـ.

* اختيار معرفة الرجال (رجال الكشّي): شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي (ت460هـ)، مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام)، مطبعة بعثت، قم، 1404هـ.

* الإرشاد: الشيخ المفيد (ت 413هـ)، منشورات مكتبة بصيرتي، قم.

* أسباب النزول: عليّ بن أحمد الواحدي النيسابوري (ت 468هـ)، دار الكتُب العِلمية، بيروت.

* الاستيعاب في معرفة الأصحاب: أبو عمَر يوسف بن عبد الله النمري القرطبي (ت 463هـ)، دار إحياء التراث العربـي، بيروت، الطبعة الأولى، 1328هـ.

* أسد الغابة في معرفة الصحابة: عزّ الدين عليّ بن أبي الكرم الشيباني ابن الأثير (ت 630هـ)، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

٣٧٩

* الأُسس المنطقية للاستقراء: السيّد الشهيد محمّد باقر الصدر (استُشهد سنة 1980م)، دار التعارف للمطبوعات، بيـروت، 1410هـ - 1990م.

* الإصابة في تمييز الصحابة: أحمد بن عليّ بن حجر العسقلاني الشافعي (ت 852هـ)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأُولى، 1328هـ.

* اصطلاحات الأُصول: الحاج ميرزا عليّ المشكيني، مطبعة الهادي، قم، الطبعة الخامسة، 1413هـ.

* أُصول الاستنباط: السيّد علي تقي الحيدري، مطبعة مِهر، قم، الطبعة الأُولى، 1412هـ.

* الأصول العامّة للفقْه المقارن: محمّد تقي الحكيم، مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام)، قم، الطبعة الثانية، 1979م.

* أُصول الفقْه: الشيخ محمّد رضا المظفّر، مطبعة النعمان، النجف الأشرف، الطبعة الثانية، 1386هـ.

* الأصول مِن الكافي: أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكليني (ت329هـ)، دار الكتُب الإسلامية، طهران، مطبعة حيدري.

* الاعتقادات في دِين الإمامية: الشيخ الصدوق أبو جعفر بن بابويه القمّي (ت381هـ)، المطبعة العِلمية، قم، 1412هـ.

* الأعلام: خير الدِين الزركلي، الطبعة الثالثة، 1389هـ - 1969م.

* إعلام الموقعين مِن ربّ العالَمين: ابن القيّم الجوزية (ت751هـ)، دار الجيل، بيروت.

* أعيان الشيعة: السيّد محسن الأمين (ت1371هـ - 1952م)، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1403هـ - 1983م.

* الأغاني: أبو الفرج الأصفهاني (ت356هـ)، دار الفكر للطباعة، الطبعة الأُولى، 1407 هـ - 1986م.

* الإمام الصادق: محمّد أبو زهرة، دار الفكر العربي.

٣٨٠