التشيع نشأته معالمه

التشيع نشأته معالمه10%

التشيع نشأته معالمه مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 390

  • البداية
  • السابق
  • 390 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 20866 / تحميل: 8027
الحجم الحجم الحجم
التشيع نشأته معالمه

التشيع نشأته معالمه

مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

من تعاملهم مع الهنود الحمر في امريكا ، ولو تجاوزنا بعض المظالم والضغوطات التي قمنا بها في حروبنا غير المشروعة ضدهم ، فأن تعاملنا ( شعوب اوروبا ) مع شعوب الشرق يبقىٰ باعثاً علىٰ العداء والبغضاء ، فلو لم يستطع الاوروبيون الاستفادة مباشرة من الشرقيين كما حصل في الهند ، حيث كانوا لا يبقون لهم الّا ما يسدون به رمقهم ، بأسم الضرائب ، فقد كانوا يحصلون منهم الاموال من خلال تجارة غير مشروعة ومضاربات مالية ، ومن هنا يتّضح حجم الانحطاط الاخلاقي الذي وصل اليه الاوروبيون ، ولو اردنا محاكمة التجّار الاوروبيون علىٰ ضوء قانونهم التجاري لما نجىٰ إلّا القليلين منهم من اشد العقوبات ».

حرب الافيون في الصين

ثم يقول الدكتور لوبون :

« ومن الصفحات السوداء في تاريخ اوروبا ، تلك التي تختص بالعلاقة مع الصين في القرن التاسع عشر ، ولربما ينال احفادنا يوماً ما عقاب ما فعلناه هناك علىٰ يد الصينيين(1) ، فما هو تعليق الشعوب الاوروبية علىٰ الحرب المدمرة التي تعرف بحرب الافيون ، حيث قام الانجليز بادخال سمّ قاتل ( الترياق ) الىٰ الصين ، فعارضت الحكومة الصينية آنذاك هذا العمل لكن الانجليز اجبروهم علىٰ الاستسلام والقبول في النهاية بالقوة ومن خلال دوي ________________

(1) ونحن أيضاً ننتظر ذلك اليوم ، حيث تنتقم الشعوب المستضعفة ، وليس الشعب الصيني فقط ، منهم ان شاء الله.

٢٢١

المدافع ، وصحيح ان بريطانيا تجني حالياً مائة وخمسين مليون جنيه في السنة من تجاره ( الترياق ) ، لكنه وحسب الاحصائية التي قام بها حديثاً الدكتور كريستليب(1) فأن هذا الترياق ينتهي بستمائة الف صيني سنوياً الىٰ خشبة الاعدام ، وحرب الترياق المدمرة مثال يحتفظ به الصينيون علىٰ وحشية الاوروبيين وانحطاطهم الاخلاقي ، وهو ما سينقلونه لأجيالهم اللاحقة أيضاً(2) فعندما كان المبشرون الانجليز يدعون الصينيين الىٰ النصرانية ، كان جوابهم : سبجان الله ! انكم تسمّونا اولاً وتقتلوننا وبعد ذلك تعطونا دروساً في التقوىٰ والعفة.

وبعد ان ينقل الدكتور لوبون حديثاً عن السيد ششوار(3) في بعض الصينيين والهنود للاوروبيين ، يضيف :

« تعاملنا مع شعوب الشرق ، يعطيعم الحق في بعضنا والعداء لنا ، فكلما تصورت نفسي شرقياً لا اجد تردداً في اظهار ذلك البغض والعداء للاوروبيين ، فحتىٰ لو اظهرنا نحن الاوروبيين الامانة والصدق حالياً في جميع معاملاتنا مع شعوب الشرق ، يبقىٰ من مصلحة الشرق ان يقطع كل علاقة له بالقرب مع الغرب ويكمل الجدار القديم الذي بناه ذلك الملك العاقل علىٰ حدود الصين ».

________________

(1) Dr. Chritlieb

(2) يجب ان نشكر الشعب الصيني الذي وصفهم بالوحوش والبرابرة ، في حين ان بعض ابناء شعبنا ورغم المآسي التي لحقت بهم من الاوروبيين وهي اخطر مئات المرات من حرب الافيون ، لا يزالون يعبدونهم مثل الاصنام.

3 ـ Mr. Rochechouart

٢٢٢

كان ذلك اعترافاً من اشهر علماء اوروبا المنصف الدكتور لوبون ، ويظهر منه المستوىٰ الذي وصل اليه ظلم الغرب واعتداءاته علىٰ الشعوب والدول المستضعفة التي تطالب بأستقلالها وحقوقها ، اجل هؤلاء السارقون الدوليون والمدججون بالسلاح والتكنولوجيا والسباع الضارية ، هم انفسهم الذين يعتبرون قطع يد السارق عقاباً له عملاً وحشياً خلافاً للعواطف الانسانية !

سعادة الدكتور ، هذه بضع نماذج قدمتها لكم عن قوانين الاسلام العظيم ، واعتذر لضيق المجال عن ذكر جميع القوانين التي اتىٰ بها الاسلام ، ومقارنتها بالقوانين الوضعية التي تحكم عالمنا المعاصر.

فهذه القوانين السامية هي التي ادت الىٰ انتشار الاسلام بسرعة بين الناس في عالم الامس وعالم اليوم ، كما ان دقتها العلمية هي التي جعلت كبار علماء العالم يسلمون امام عظمة نبي الاسلام الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله ورسالته.

٢٢٣

البحث في قوانين الاسلام العسكرية

العقيد : ما ارودتموه في اثبات قوة القوانين الاسلامية من الناحية العلمية وفي جميع شؤون الحياة المادية والمعنوية ، قياساً بقوانين عالم اليوم ، مقنع جداً ، لكن الجزء الذي ارأىٰ صعوبة في قبوله من كلامكم ، هو ان القوانين الاسلامية المحيّرة للعقول هي العامل الوحيد في التقدّم السريع الذي كان للاسلام في عالم الامس وانتشاره في عالم اليوم ، لأنه والحق يقال ، وكما اشار الىٰ ذلك الكثير من المبشرين المسيحيين فان الحروب الكثيرة التي خاضها المسلمون ، لعبت دوراً كبيراً وهاماً في تقدم الاسلام وانتشاره.

الشيخ : سيادة العقيد ! ان الذين يرون ان الاسلام انتشر بالسيف ، أمّا ان يكونوا من اعداء الاسلام أو أنَّهم ممن يجهلون البرنامج العسكري والحربي للاسلام ، ولا يدركون الهدف الاساسي الذي ينشده المسلمون من الحرب ، ولأثبات بطلان التهم التي تصدر من اعداء الاسلام وخاصة المبشرين المسيحيين الذين استفادوا من جهل المسلمين بتاريخهم وادعوا أن الاسلام انتشر بالسيف والقوة ، سوف أكون مضطراً لشرح البرنامج العسكري الاسلامي وهدف المسلمين من الحرب.

جوع وميدان معركة !

وفي هذه الاثناء ارتفع صوت عامل مطعم القطار في الممر :

٢٢٤

الغداء الغداء ايها السادة الغداء جاهز.

نظر الشيخ وبقية الاصدقاء الىٰ ساعاتهم فوجدوا الوقت ، اول الظهر.

الدكتور : سيادة العقيد ، الوقت اول الظهر ، ولن ادعك تجر هذا الشيخ الىٰ ساحة القتال وهو جائع ، فأنت عسكري وتستطيع تحمل الجوع ، لكن هذا العم يتحدث لنا منذ ساعات وبالتأكيد ليس بأستطاعته الآن شرح برنامج الاسلام العسكري ببطن فارغة.

العقيد : سعادة الدكتور ، اتصوّر انك اتّخذت الشيخ ذريعة ، والحقيقة انكم انتم الجائعون ، وهنا ضحك الاصدقاء.

الدكتور : بالتأكيد ، الجميع جياع ، والامر لا يختص بي سوىٰ انني تكلمت بصراحة ، لكنكم اضمرتم ذلك ، حسناً ، مع انني جائع جداً ، إلّا اني اوافق علىٰ الحديث عن البرنامج الحربي يطرحه الاسلام اولاً ، ثم نذهب للغداء من بعد.

العقيد : شكراً علىٰ ذلك.

الشيخ : قبل الدخول في بحث قوانين الاسلام العسكرية ، لابد من الاشارة إلى أن الاسلام دين كامل ومذهب مستقل ، ولو كان هذا الدين لا يملك برنامجاً ، واحكاماً فيما يتعلق بالامور العسكرية فانه بلا شك ناقص وغير تام.

ولا بدّ ان يكون لهذا الدين السماوي الكامل افضل واكمل القوانين أيضاً في المجال العسكري ، لأن الاسلام لا يواجه في مسيرة الكمال التي يدعو لها اهل العلم والمنطق أو الناس البسطاء غير المتعلمين فقط ، بل هناك الجبابرة

٢٢٥

والطواغيت الذين يُعد الاسلام خطراً مواجهاً لهم في استمرار سيطرتهم واستضعافهم للناس والمحرومين ، لذلك من الطبيعي ان يقفوا ضده ويضعوا العوائق في طريقه ، وهؤلاء الذين لم يتعاملوا مع المسلمين إلّا بمنطق القوة والسيف ، كان لابدّ للمسلمين أيضاً ان يواجهونهم بنفس المنطق الذي لا يفهمون غيره وان يزيلوهم عن طريق الدعوة الىٰ الاسلام الذي هو السبيل لكمال الانسان وسعادته ، والآن حيث اتّضحت الحاجة الىٰ برنامج ونظام حربي الاسلامي ، لابد من شرح قوانين الاسلام واحكامه العسكرية لمعرفة قوتها وقيمتها الحقيقية.

ان اغلب الحروب ، تحدث للتوسع وفتح البلدان واستعمارها واستثمارها ، وفي هذه الحروب تهاجم دولة ، دولة اخرىٰ وتحاول الانتصار عليها بأية وسيلة حتىٰ تسيطر علىٰ ذلك البلد وتوسع من دائرة سلطتها وحكومتها ، لذلك نشاهد الجرائم والمآسي التي تأتي بها تلك الحروب في الماضي والحاضر وتلك الاعمال الدنيئة التي يخجل الانسان من ذكرها.

أمّا الاسلام فلا يهدف من حروبه فتح البلدان أو استثمار الشعوب ، لأنه اساساً يقف في حروبه امام الطغاة الذين قاموا بأستثمار الناس وعملوا على تخلفهم.

وللاسلام أهداف مقدّسة وانسانية سامية في الحروب والمعارك التي يخوضها ، لذلك فالبرنامج العسكري الوحيد المليء بالمفاخر والاعتزاز هو البرنامج العسكري الاسلامي ، لأن حروب الاسلام هي حروب تحريرية ، وعلىٰ هذا الاساس ، فالقوانين العسكرية والحربية الاسلامية بمستوىٰ من الشرف والنخوة ، استطيع ان ادعي معه بصراحة انه لا يوجد مثيل لها في جميع

٢٢٦

القوانين العسكرية والحربية في العالم ، وهذه بعض المواد الاساسية للنظام العسكري والحربي في الاسلام :

1 ـ علىٰ الجندي المسلم عندما يواجه العدو ، ان يدعوه في البدء الىٰ الاسلام ، وفيما لو قبل الدعوة واصبح مسلماً فلا يحق لأحد من جيش المسلمين الاعتداء عليه أو علىٰ ماله وبلده ، بل لو اعتدىٰ أحد الجنود المسلمين علىٰ ذلك الشخص الحديث الاسلام وقتله ، لابدّ من معاقبة ذلك الجندي المسلم ، والاقتصاص منه علىٰ اساس قانون القصاص.

2 ـ فيما لم يقبل الاعداء غير المسلمين الدعوة الىٰ الاسلام ، لايحق للجنود المسلمين ايضاً مهاجمتهم والاقتتال معهم ، بل يجب ان يدعوهم لأعطاء الجزية(1) ولو قبلوا بذلك لايحق للجيش الاسلامي الاعتداء عليهم ومهاجمتهم.

3 ـ بعد ان يمتنع الاعداء غير المسلمين من دفع الجزية ، عند ذاك تكون دور الحرب معهم ، لكن الحرب تكون مع الجنود غير المسلمين الذين جاؤا الىٰ ساحة المعركة بهدف القتال ، ولو فرّوا من ساحة القتال لا يحق للمسلمين مطاردتهم ، ولو اندحر جيش الكفار ودخل المسلمون بلاد الاعداء ، لا يحق لهم التعرّض الىٰ الشيوخ والعجائز وقتلهم ، أو ايذاء الاطفال والنساء والضعفاء ، وحتىٰ الحيوانات ، كما يجب عليهم ان لا يدمروا المزارع والبساتين ، ولا يخربوا الانهار والقنوات ، ولا يحق لهم تخريب الابنية أو قطع الاشجار المثمرة

________________

(1) ضريبة خاصة تؤخذ من المشركين ( اهل الكتاب ) حسب قدراتهم المالية ، وفي المقابل تتعهد الدولة الاسلامية بضمان امنهم.

٢٢٧

والخضراء.

عندما أراد جيش المسلمين التحرك نحو مؤته ، خطب فيهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال :

« ستجدون فيها رجالاً معتزلين الناس فلا تتعرضوا لهم ، لاتقتلن امرأة ولا صغيراً ضرعاً ولا كبيراً فانياً ولا تقطعن نخلاً ولا شجراً ولا تهدمن بناء »(1) .

وفي خطبة لأمير المؤمنين عليعليه‌السلام لجيشه قبل قتال جيش معاوية ، يقول :

« فاذا كانت الهزيمة باذن الله فلا تقتلوا مدبراً ولا تصيبوا معوراً ولا تجهزوا علىٰ جريح ولا تهيجوا النساء بأذىٰ »(2) .

أصدقائي الاعزاء !

هذه بعض مواد القانون الحربي في الاسلام ، وكما تلاحظون ، مع ان هدف المسلمين هو احتلال البلدان غير الاسلامية ، ( من اجل غاية مقدسة سنشرحها لاحقاً ) ، لكنهم يراعون جميع جوانب الفضيلة والانسانية ، والقوانين الحربية في الاسلام لا تسمح بأي عمل غير اخلاقي أو مما يخدش بالرجولة والضمير.

________________

(1) نواسخ التواريخ.

(2) نهج البلاغة : 16 ، طبعة مصر.

٢٢٨

لنكتشف مجرىٰ الماء

في احدىٰ معارك الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مع اليهود ، كان اليهود قد لجأوا الىٰ حصن منيع لا يطاله المسلمون ، فبقي المسلمون محاصرين للحصن اياماً ، وهم يفكرون بحلّ لفتح الحصن والانتصار علىٰ اليهود ، وفي مثل تلك اللحظات الحساسة جاء أحد قادة الجيش الاسلامي الىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال ان ماء شرب اهالي الحصن يأتي من خارجها ، ونستطيع نحن من خلال اكتشاف مجرىٰ الماء ان نسيطر عليه ، ونمنع عنهم الماء فنضطرهم الىٰ الاستسلام ، فهل تسمح لنا القيام بذلك ؟ فأجابه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لن اسمح لكم بذلك ، ففي الحصن اشخاص كبار في السن طاعنين ومرضىٰ وفيها نساء واطفال وحيوانات ، فلماذا نمنع الماء وهم لا يقاتلوننا(1) .

لن اسمح بمنع الماء

حدث في معركة صفين ان جيش معاوية استولىٰ علىٰ أطراف نهر الفرات قبل وصول جيش الامام عليعليه‌السلام ، ولم يسمح لجيش الامام عليعليه‌السلام ان يأخذ من ماء النهر ، فأشتد العطش بجيش الامام عليعليه‌السلام فطلبوا الاذن من الامام بالهجوم علىٰ قوات معاوية التي تحول دون وصولهم للنهر ، فسمح لهم الامام بذلك ، وبعد هجوم سريع استطاع جيش الامام علي ان يخرج الفرات من قبضة جيش معاوية.

________________

(1) ناسخ التواريخ.

٢٢٩

ورداً لما قام به معاوية وجيشه من دناءة ، اقترحوا علىٰ الامام عليعليه‌السلام ان لا يسمح هو أيضاً لجيش معاوية الاستفادة من ماء الفرات ، وبذلك سيفقد الجيش قدرته علىٰ الصمود من شدة العطش ، فينهار ويستسلم دفعة واحدة ، فأجابهم الامامعليه‌السلام علىٰ اقتراحهم : لا اكافيهم ، بمثل ما فعلوا ، افسحوا لهم عن الشريعة(1) .

اصدقائي الاعزاء !

يتّضح من المثالين التاريخيين اللذين سقتهما ، كيف ان انتصار الجنود المسلمين علىٰ الاعداء ممزوج بالرجولة والفضيلة.

هدف الاسلام الاساسي من الحرب مع غير المسلمين

الطالب الجامعي ، حسن : القوانين الحربية والعسكرية الاسلامية التي نقلتها ـ والخطاب للشيخ ـ رجولية وعطوفة جداً ، وصحيح انه لا يوجد مثل هذه القوانين الفاضلة المشرّعة لساحة القتال حيث يصل الغضب والحقد ذروته ، في جميع قوانين العالم الحربية ، لكنه يبقىٰ هناك سؤال وهو هدف الاسلام من الحرب والانتصار علىٰ الدول غير الاسلامية ؟

الشيخ : لم يكن هدف المسلمين من الانتصار علىٰ الدول غير الاسلامية ، هو ادخالهم الىٰ الاسلام بالسيف ، بل الهدف الاساسي والمهم من

________________

(1)المصدر نفسه.

٢٣٠

ذلك هو ايجاد حالة من الترابط والاختلاط التام بين المسلمين وغير المسلمين ، كي يطلعوا علىٰ قوانين الاسلام السامية عن قرب ، ويشاهدوها عملياً من خلال تصرفات المسلمين ، وبالنتيجة سيدخلون الاسلام بأرادتهم ورغبتهم ، لأنه ليس هناك شك من ان القوانين الاسلامية فطرية وطبيعية وجذابة بشكل لو شوهد تطبيقها من قبل المسلمين ، ستكسب إليها كل انسان سليم القلب ، لذلك كان الناس يدخلون الاسلام افواجاً في البلدان التي فتحها المسلمون والتي شاهدوا فيها وفعة وسموّ القوانين الاسلامية وافضليتها ، من خلال سلوكيات المسلمين ، وهكذا ينتشر الاسلام بالمنطق والاستدلال ودون اي اكراه أو الزام.

لم ينتشر الاسلام بالسيف

الآن وقد تحدثنا عن برنامج الاسلام الحربي وقوانينه وكذلك الهدف الاساسي من الحرب بالنسبة للمسلمين ، سنجيب عن التهم الباطلة التي يرمي بها المبشرون والقساوسة المشركين الاسلام ، من انه دين انتشر بحد السيف ومن خلال الحروب التي خاضها المسلمون وفتحوا بها البلدان.

واجاباتنا علىٰ تلك التهم ، نحددها في عدة مواضيع :

1 ـ علىٰ مدىٰ ثلاثة عشر عاماً من البعثة ، كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذروة ضعفه العسكري وهو بين اعدائه الاقواياء الذين يسيطرون علىٰ كل شيء في مكة ، وفي تلك الفترة اعتنق الكثيرين الاسلام دون ان يرهبهم سيف ، لأنه فضلاً عن عدم وجود سيف وقوة للمسلمين ، فقد كانوا اقلية تخاف ان يتخطفها الناس

٢٣١

علىٰ حد تعبير القرآن الكريم ، وكانوا يضطرون احياناً للهجرة من ديارهم وترك اموالهم الىٰ بلدان اجنبية لكي يحفظوا اسلامهم.

اذن في الصدر الاول بحيث بدأ انتشار الاسلام لم يكن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يمتلك قوة يرهب بها الناس لدخول الاسلام ، بل ان هؤلاء الناس ذوو النفوس النقية ، دخلوا الاسلام ونبذوا الكفر في ذروة قوته ، وبأختصار ، فلاسلام انتشر في البداية علىٰ اساس الاستدال والمنطق والايمان ، وبعد ذلك بدأ بفتح البلدان للهدف الذي ذكرناه مسبقاً.

2 ـ وكما قلنا سابقاً ، كان المسلمون وقبل بدأ القتال يدعون المشركين من الكفار الىٰ دفع الجزية ، وفيما لو دفعوا الجزية ، كان لهم الحق ان يبقوا علىٰ دينهم للأبد وتحت ظل الحكومة الاسلامية ، وهذا اكبر دليل علىٰ ان المسلمين لم يهدفوا في فتحهم البلدان الىٰ اجبار الناس علىٰ دخول الاسلام ، لانهم كان بأستطاعتهم ان لا يأخذوا الجزية من غير المسلمين ، ويجبروهم علىٰ دخول الاسلام.

3 ـ يحقُّ للذين يدفعون الجزية للمسلمين ليس فقط البقاء علىٰ دينهم ، بل اقامة شعائرهم الدينية الخاصة والذهاب الىٰ الكنائس والمعابد بشكل علني ، في ظل حماية المسلمين.

في حين لو كان المسلمون يريدون اجبار الكفار علىٰ دخول الاسلام ، لما اجازوا لهم اقامة شعائرهم بشكل علني في محافلهم ومعابدهم.

4 ـ الدليلان الرابع والخامس اللذان نسوقهما علىٰ ان هدف الاسلام من الحروب التي قام بها بعد انتشاره وقوته ، لم يكن ارغام الناس علىٰ الدخول فيه

٢٣٢

بالقوة ، هذان النموذجان عن تعامل نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله مع غير المسلمين :

وثيقة صلح الحديبية

في وثيقة صلح الحديبية ( وهي منطقة قريبة من المدينة ) التي وقّعت بين المسلمين والكفار ، تعهد المسلمون بأرجاع اي شخص من كفار مكة يدخل الاسلام ويلجأ الىٰ المدينة. فقال أحد المسلمين لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، خذ منهم عهداً بأعادة أي شخص يرتد عن الاسلام ويذهب الى مكة.

فقال نبي الاسلام : لا آخذ مثل هذا العهد من اهالي مكة(1) لان المسلم الذي يرتد عن الدين ويلجأ الىٰ الكفار ، لن يفيدنا اذا اعادوه لنا ، لأن القلب هو مركز الايمان ، والشخص الذي لا يدخل الاسلام عن قناعة ورغبة ، لن يكون مسلماً حقيقياً.

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يعطي اربعة اشهر مهلة

بعد ان نقض اهل مكة مفاد صلح الحديبية ، تحرك الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لفتح مكة ، فدخل جيش الاسلام مكة دون مقاومة تذكر ـ كما مرّ سابقاً ـ سوىٰ مقاومة صغيرة لبعض شباب مكة بزعامة صفوان بن اُمية وعكرمة بن أبي جهل ، وبعد قتال محدود ، اندحرت مجاميع الكفار ، وسيطر المسلمون علىٰ مكة كلها ، فهرب صفوان بن اُمية وعكرمة بن أبي جهل من مكة بنية مغادرة

________________

(1) ناسخ التواريخ.

٢٣٣

الحجاز تماماً ، إلّا ان عمير بن وهب ، جاء الىٰ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وشفع لصفوان بن اُمية ، فقبل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله شفاعة عمير ، وعفىٰ عن صفوان ، فذهب عمير بن وهب الىٰ خارج مكة ، وأبلغ صفوان عفو الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله له ، وطلب منه ان يعود مطمئناً الىٰ مكة ، فقال له صفوان : أخاف أن يمكر بي نبيكم ويقتلني عند دخولي مكة ، فطمأنه عمير بأن ليس في الاسلام مكراً وخديعة ، عند ذلك اطمئن صفوان إلى كلام عمير بن وهب ورجع إلى مكة ، وعندما قابل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : يا محمد عمير بن وهب يدعي انك أعطيتني الامان.

فقال الرسول : يصدق عمير.

فطلب صفوان مهلة شهرين من الرسول كي يطلع علىٰ الاسلام ، ومن ثمّ يسلم ، فقال له الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : لك اربعة اشهر مهلة.

لكن صفوان اسلم عن قناعة قبل انقضاء المهله(1) .

ومن خلال هذه القصة يتّضح ، انه لو كان هدف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله هو اجبار الناس علىٰ الاسلام بقوة السيف لما أمهل صفوان يوماً واحداً فضلاً عن اعطائه اربعة اشهر ، أو لاكتفىٰ بالشهرين اللذين طلبهما صفوان منه كمهلة.

اصدقائي الاعزاء !

هذه دلائل لا تقبل الشك ، يتضح خلالها هدف المسلمين من الحرب ، وهو غير اجبار الناس علىٰ الاسلام بالقوة ، بل ان اهم هدف من وراء ذلك هو

________________

1 ـ حياة محمد (ص).

٢٣٤

مدّ جسر وثيق من العلاقة والارتباط بين المسلمين وغير المسلمين لكي تطلع شعوب الدول غير الاسلامية علىٰ قوانين الاسلام العظيم ، ولكي لا يحول طواغيت الارض ، ولا تقف الانظمة الكافرة امام تعالي الانسان وخلاصة وتحرره من رجسها وذل عبودية غير الله.

لذلك فمن حقنا القول ان كلام المبشرين في ان الاسلام انتصر وانتشر بحد السيف ما هي الّا تهم باطلة ودنيئة تصدر عن اعداء الاسلام والحاقدين عليه.

اعتراف كبار العلماء بأن الاسلام لم ينتشر بالسيف

ولكي يعرف اصدقائي الاعزاء مقاصد المبشرين المسيحيين أكثر من التهم التي يسوقونها ضد الاسلام ، سننقل هنا بعض ما قاله كبار علماء اوروبا المسيحيين حول سرعة انتشار الاسلام :

يقول الدكتور غوستاف لوبون في كتابه حضارة الاسلام والعرب :

« ينتشر الاسلام بطريق بسيط وسهل ، جعل الجميع يحتارون في امره ، ولا بدّ ان نعتبر ذلك من خصوصيات الاسلام التي ينفرد بها دون غيره من الاديان ، ففي كل مكان وضع المسلمين اقدامهم ترسخ الاسلام في قلوب الناس ، في الصين وفي افريقيا الوسطىٰ وروسيا ، ولم يكن ذلك عن طريق الحرب وبواسطة الجيوش ، بل عن طريق التجار والتجارة ، واليوم نشاهد ملايين المسلمين في تلك البلدان ، فهؤلاء لم يدخلوا الاسلام بالترغيب أو القوة بل عن قناعة ورغبة ورضىٰ ، ولم نسمع لحد الآن عن قوة عسكرية

٢٣٥

كانت تدعم اولئك التجار ، والاغرب من ذلك هو نمو الاسلام وانتشاره السريع اين ما وصل التجار ودعوا الناس إليه ، فعلىٰ سبيل المثال منذ قرون والاسلام في روسيا ينتشر ، وفي الهند التي يعيش فيها الآن ملايين المسلمين ، صرف المبشرين والقساوسة البروتستانت مبالغ طائلة لنشر المسيحية دون نتيجة ، وفي الصين التي تعتبر من المناطق التي تفتخر بتراثها القومي لم يستطع المبشرون المسيحيون رغم الوسائل الكثيرة التي استخدموها هناك أن ينشروا المسيحية واعترفوا بكل صراحة عن عجزهم ، لكن الاسلام انتشر وينتشر هناك يومياً علىٰ الرغم من عدم وجود دعم خارجي ، بحيث يصل مجموع المسلمين اليوم هناك اكثر من اربعين مليون مسلم في كل انحاء الصين ، وفي بكين وحدها هناك اليوم ما يزيد علىٰ مائة الف مسلم ».

ثم يضيف الدكتور لوبون حول كيفية معاملة المسلمين مع شعوب الدول التي يفتحونها والحرية التي كانت للنصارىٰ في ظل الحكم الاسلامي ، فيقول :

« لقد عامل العرب الاندلسيين ( الاسبان ) الذين فتحت بلادهم علىٰ ايدي المسلمين ، كما كانوا يعاملون اهل مصر والشام ، وقد تركوا لهم حرية التصرف بأموالهم ومعابدهم وخيرّوهم في البقاء تحت حكم وقضاء اشخاص من نفس دينهم بشرط ان يدفعوا جزية سنوية ، ولقد كانت الشروط بسيطة وسهلة بحيث قبل بها الجميع مباشرة ، وكان تعامل المسلمين مع الشعوب التي فتحت بلادها حسناً بحيث كان يجوز للأساقفة ان يعقدوا لأنفسهم مجالس دينية ».

٢٣٦

اعتراف الدكتور لورا فاكسيا واغليري

يقول الدكتور فاغليري استاذ جامعة نابل :

« كانت حياة الشعوب المغلوبة وحقوقها المدنية وثرواتها الوطنية مصانة من قبل الدولة الاسلامية بشكل يتساوىٰ تقريباً مع ما كان للمسلمين انفسهم ».

ويضيف في مكان آخر :

« كان العرب الفاتحون مستعدون وفي ذروة قوتهم وانتصاراتهم ، لأن يقولوا لأعداءهم : كفّوا عن الحرب وادفعوا ضريبة مالية معتدلة ، ولكم ان تعيشوا تحت حمايتنا بشكل كامل ، ولكم من الحقوق مالنا ، ولو نظرنا جيداً الىٰ اقوال النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أوالىٰ فتوحات المسلمين ، في صدر الاسلام ، سنشاهد بسهولة كذب تهمة ادخال الناس بقوة السيف الىٰ الاسلام. فالقرآن الكريم يقول :

( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) (1) .

ثم يضيف الدكتور واغليري :

« في التاريخ الاسلامي نماذج عديدة علىٰ مداراة الاسلام مع اتباع الاديان الالهية الاخرىٰ ، كما تعهد الرسول بنفسه حماية معابد مسيحيوا نجران ، وكذلك امر احد قادة الجيش الذي ارسله الىٰ اليمن ان لا يتعرض لأي شخص

________________

(1) سورة البقرة : 258.

٢٣٧

من اليهود في اماكنهم ومساكنهم ، وكان هذا تعامل المسلمين مع اتباع الديانات الاخرىٰ ، فهم احرار في العمل حسب آرائهم وشعائرهم الدينية ، بشرط ان يدفعوا ضريبة جزئية تسمىٰ الجزية ، وهذه الجزية عادة اقل من الضريبة التي يدفعها المسلمون انفسهم للدولة الاسلامية ، وفي مقابل تلك الجزية ، ولأتباع الديانات الاخرىٰ الحق في حرية العمل حسب مذاهبهم ولا يجبرون علىٰ تركها ، كما ان الدولة الاسلامية توفر لهم الحماية التامة ».

اصدقائي الاعزاء !

كان ذلك موجزاً عن برنامج الاسلام الحربي وهدف المسلمين من الحروب وكيفية تعامل المسلمين مع شعوب البلدان التي يسيطرون عليها واستشهدنا في ذلك بنماذج من تاريخ الاسلام ، واقوال علماء اوروبا ، واثبتنا ان المسلمين لوحدهم لم يجبروا الآخرين علىٰ اعتناق دينهم بالقوة والسيف ، بل منحوا الآخرين حرية دينية تامة في ظل حكمهم.

لكن لننظر ماذا فعل هؤلاء المسيحيون والاوروبيون عندما دارت الامور واستولوا هم علىٰ بلاد المسلمين ، لقد قاموا بجرائم ومجازر ومآسي سوّدت وجه التاريخ ويخجل الانسان من مجرد ذكرها !

تاريخ الحروب الصليبية الاسود

ولكي لا يتصور اصدقائي ان حديثي عن توحش وجرائم الشعوب الاوروبية مصدره التعصب الديني ، سأنقل لكم بعض الجرائم التي قام بها

٢٣٨

الصليبوين في الحروب الدموية والمعروفة بالحروب الصليبية ، وذلك ايضاً علىٰ حدّ ما جاء في كلام وكتابات العلماء والمؤرخين القساوسة الاوروبيين المسيحيين.

يتحدث الدكتور غوستاف لوبون في البداية عن الحرب التي شنها المسيحيين والاوروبيين ضد المسلمين ، فيقول :

« الكلام حول القتال الذي دار بين العالم الاوروبي المتوحش ، واسمىٰ الحضارات التي نشاهد آثارها في التاريخ ».

ثم يضيف :

« لقد قامت المسيحية الاوروبية بارتكاب اعمال وحشية في الحروب الصليبية ، لا يمكن ان اعبر عنها بشيء سوىٰ انهم ( المسيحيين ) كانوا قد جنوا ، فعندما انتصر الصليبيون علىٰ المسلمين الاتراك ، قاموا بقطع رؤوس المجروحين المسلمين وحملوها معهم علىٰ خيلولهم الىٰ معسكرهم وهم يفتخرون بما قاموا به ، ثم قاموا برمي تلك الرؤوس من فوق حصار كانوا يضربونه حول احدىٰ المدن المسلمين ، بأتجاه اهالي المدينة ، ان تصرفات المسيحيين الاوروبيين المشينة في جميع تلك الحروب جعلتهم بمستوىٰ اكثر الناس توحشاً وبربرية علىٰ وجه الارض ، وكانوا في تعاملهم السيء ذلك لا يفرقون بين اتباع دينهم واعدائهم أو الناس العاديين من النساء والاطفال والشيوخ والشبان والعسكر الذي يواجهونه ، في المدن التي يهاجمونها ، اي انهم كانوا يقتلون وينهبون الجميع دون استثناء ».

٢٣٩

تقول انكومن(1) ابنة امبراطور القسطنطنية :

« من جملة ماكان الاوروبيون يرفهون عن انفسهم فيه في تلك الحروب ، هو انهم كانوا يقتلون كل طفل يمرّ من امامهم ويلقون به في النار ! ».

ويقول الراهب روبرت(2) وهو من القساوسة المسيح حول المجازر التي ارتكبها المسيحيين الاوروبيين بحق المسلمين في مدينة مارا(3) :

« كان الجيش المسيحي يتحرك في انحاء المدينة مثل اللبوة التي سرقوا اطفالها ، وكانوا يتلذّون بالمجازر التي يرتكبونها بحق الناس ، فكانوا يقطعون أيدي الاطفال ويضربون اعناق الشيوخ والشبان ، ومن اجل ان يسرعوا في عملهم ، كانوا يشنقون عدة اشخاص في حبل واحد !

وكان المسيحيون في تلك الحروب ينهبون كل مايجدون عند الحيّ والميت من نقود ومجوهرات ، وكانت ازقة مدينة « مارا » تحولت الىٰ بركة من الدماء ، تسبح فيها جثث القتلىٰ المنتشرة في جميع ارجاء المدينة ، وكان المسيحيون يعبرون من فوقها !

في وصفه لدخول المسيحيين الاوروبيين الىٰ القدس ، يقول العالم الاوروبي المعروف ، رايموند داجلس(4) :

« عندما احتل المسيحيون الاوروبيون سور المدينة وقلاعها ، ظهرت

________________

(1) Aonicomnen

(2) Robert

(3) Marrat

(4) Rayimond Dagiles

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

الورع والاجتهاد، وأهل الوفاء والأمانة وأهل الزهد والعبادة، أصحاب إحدى وخمسين ركعة (١) في اليوم والليلة، القائمون بالليل، الصائمون بالنهار، يزكّون أموالهم، ويحجّون البيت، ويجتنبون كلّ محرّم) (٢) .

وفي موردٍ آخَر يصف شيعة آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)، وما يجب أن يلتزموا به مِن الإيمان والعمل؛ ليكونوا قدوةً وقوّةً فكرية وحركية مؤثّرة ومُغَيِّرة في مسيرة الأُمّة، فيقول: (والله ما شيعة عليّ (صلوات الله عليه) إلاّ مَن عفَّ بطنه وفرجه، وعمل لخالقِه، ورجا ثوابه، وخاف عقابه) (٣) .

ونقرأ للإمام الباقر (عليه السلام) ردّاً على المنحرفين، الذين شذّوا عن منهج أهل البيت، ممّن ادّعوا الانتساب إليهم، وقالوا بأنّ الانتماء إلى أهل البيت يكفي عن العمل والالتزام، فإنَّ موالاتهم وحدها ضمانة لدخول الجنّة.

قال (عليه السلام) لجابر الجعفي: (يا جابر: يكتفي مَن اتّخذ التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت؟! فوالله ما شيعتنا إلاّ مَن اتّقى الله وأطاعه، وما كانوا يُعرَفون إلاّ بالتواضع، والتخشّع، وأداء الأمانة، وكثرة ذِكر الله، والصوم، والصلاة، والبرّ بالوالدين، والتعهّد للجيران مِن الفقراء، وأهل المسكنة، والغارمين، والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكفّ الألسُن عن الناس إلاّ مِن خير، وكانوا أُمناء عشائرهم في الأشياء.

قال جابر: يا ابن رسول الله ما نعرف أحداً بهذه الصفة، فقال لي: يا جابر لا تذهبنّ بك المذاهب، حسب الرجُل أن يقول أُحبّ عليّاً (صلوات الله عليه) وأتولاّه، فلو قال: إنّي أُحبّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ورسول الله خير مِن

____________________

(١) إشارة إلى أداء صلاة النافلة إضافة إلى الصلاة الواجبة.

(٢) الشيخ الصدوق / صفات الشيعة: ص ٩.

(٣) المصدر السابق: ص ١٤.

٣٦١

عليّ، ثمّ لا يتّبع سيرته ولا يعمل بسنّته ما نفعه حبّه إيّاه شيئاً، فاتّقوا الله واعملوا لِما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحَبّ العباد إلى الله وأكرمهم عليه أتقاهم له، وأعملهم بطاعته.

يا جابر ما يتقرّب العبد إلى الله تبارك وتعالى إلاّ بالطاعة، وما مَعَنا براءة مِن النار، ولا على الله لأحد منكم حجّة، مَن كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومَن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، ولا تنال ولايتنا إلاّ بالعمل والورع) (١) .

ثمّ يؤكّد الإمام الباقر (عليه السلام) مرّة أُخرى هذه الحقيقة بقوله: (... والله ما مَعَنا مِن الله براءة، وما بيننا وبين الله قرابة، ولا لنا على الله حجّة، ولا يتقرّب إلى الله إلاّ بالطاعة، فمَن كان فيكم مطيعاً نفعته ولايتنا، ومَن كان منكم عاصياً لمْ تنفعه ولايتنا) (٢) .

ويتركّز منهج أهل البيت (عليهم السلام) في تربيتهم للأُمّة بصورةٍ عامّة، ولأتباعهم بصورة خاصّة، بالاقتداء بسيرة رسول الله وبنَهْجه في الحياة والالتزام بكتاب الله؛ لتكون تربية قرآنية نبويّة أصيلة.

لذا نجد الإمام الصادق (عليه السلام) يوصي أتباعه بقوله: (إنّ الله تبارك وتعالى خصَّ رسول الله بمكارم الأخلاق، فامتحنوا أنفسكم، فإنْ كانت فيكم فاحمدوا الله عزّ وجلّ، وارغبوا إليه في الزيادة منها، فذكرها عشرة: اليقين والقناعة والصبر والشكر والحلم وحُسن الخُلُق والسخاء والغيرة والشجاعة والمروءة) (٣) .

ويؤكّد (عليه السلام) في موردٍ آخَر هذا الاتّجاه السلوكي، فيقول: (إنّي لأكره للرجُل أن يموت، وقد بقيَت عليه خِلَّة مِن خلال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لمْ يأت بها) (٤) .

____________________

(١) الشيخ الصدوق / صفات الشيعة: ص ١٨ - ١٩.

(٢) الطبرسي / مشكاة الأنوار: ص ٦٧.

(٣) الشيخ الصدوق / صفات الشيعة: ص ٤٩.

(٤) الطبرسي / مكارم الأخلاق: ص ٣٩.

٣٦٢

ويتّجه اهتمام أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) نحو التربية القرآنية، وملازمة كتاب الله تعالى؛ لبناء جيلٍ قرآنيٍّ أصيل، مستقٍ ذلك مِن مَعين الرسول (صلّى الله عليه وآله) ودعوته.

روى الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليهما السلام) عن الرسول الهادي محمّد (صلّى الله عليه وآله) قوله: (قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): إنَّ أحقَّ الناس بالتخشّع في السِرّ والعلانيّة، لَحامل القرآن. وإنَّ أحقَّ الناس في السرّ والعلانية بالصلاة والصوم، لَحامل القرآن.

ثمّ نادى بأعلى صوته: يا حامل القرآن تواضع به يرفعُك الله، ولا تعزَّز به فيُذِلّك الله. يا حامل القرآن تزيّن به لله يُزيّنك الله [به]، ولا تزيّن به للناس فيُشينك الله به.

مَن ختَم القرآن فكأنّما أُدرجت النبوَّة بين جنبيه، ولكنّه لا يوحى إليه. ومَنْ جمع القرآن فنوله (١) لا يجهل مع مَن يجهل عليه، ولا يغضب فيمَن يغضب عليه، ولا يحدُّ فيمَن يحدُّ، ولكنّه يعفو ويصفح ويغفر ويحلم لتعظيم القرآن. ومَن أُوتيَ القـرآن، فظنَّ أنّ أحداً مِن الناس أُوت أفضل ممّا أُوتي، فقد عظّم ما حقّر الله وحقّر ما عظَّم الله) (٢) .

ثمّ يذكّر أصحابه المشتغلين بالتجارة، ويحثّهم على تلاوة كتاب الله؛ لئلاّ يستولي السوق والمال على اهتمامهم، فيقول لهم: (ما يمنع التاجر منكم المشغول في سوقه، إذا رجع إلى منزله، أن لا ينام حتّى يقرأ سورة مِن القرآن، فتُكتَب له مكان كلّ آية يقرؤها عَشر حسنات، ويُمحى عنه عَشر سيّئات) (٣) .

____________________

(١) مِن قولهم: نولك أن تفعل كذا؛ أي حقّك وينبغي لك، وأصله مِن التناول.

(٢) الكليني / الأُصول مِن الكافي ٢: ٦٠٤.

(٣) المصدر السابق: ص ٦١١.

٣٦٣

٣٦٤

الخاتمة

٣٦٥

٣٦٦

( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً )

( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (١) .

( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) (٢).

( ... فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ... ) (٣).

الإسلام هو الدِين الذي جاء به محمّد (صلّى الله عليه وآله) مِن عند الله إلى البشرية جميعها، وهي مخاطَبة بمختلف أجيالها وأزمانها، بهذه الرسالة الخالدة.

وإنّ مِن أُسس ومبادئ الإسلام الأساسية هي توحيد المسلمين، وبناء الأُمّة الإسلامية على أساس فكري، وتحت ظِلّ قيادة سياسية وبُنية اجتماعية واحدة. وهكذا عاشت الأُمّة موحّدة في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعيدة عن

____________________

(١) سورة الأنبياء: آية ٩٢.

(٢) سورة آل عمران: آية ١٠٣.

(٣) سورة النساء: آية ٥٩.

٣٦٧

الخلاف الفكري والسياسي الذي يُشتّت جمْعها، ويمزّق وحدتها.

ولأهمّية الوحدة وعُمق أثرها في حياة المسلمين، كرّس القرآن الكريم والرسول العظيم (صلّى الله عليه وآله) جزءاً كبيراً مِن خطابهما واهتمامهما التربوي؛ لتركيز دعائم الوحدة وحمايتها مِن التصدّع والفُرقة والخلاف. فإنّ مصير الأمّة والرسالة والحياة الإسلامية مرتّبة بوحدة الأمّة وتماسك بنائها.

لذلك أمَر الله المسلمين، أمْر وجوبٍ وإلزام، بالاعتصام بحبْله المتين (القرآن الكريم ودينه العظيم)، ونهاهم نهْيَ تحريم عن الفُرقة والخلاف، فإنّ عاقبة ذلك هو الضَعف والتمزّق والهزيمة أمام العدوّ الذي يتربّص بالمسلمين الدوائر.

( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (١) .

ولقد تدخّلت أسباب وعوامل عديدة، فأحدَثت الفُرقة والخلاف بين المسلمين، فمزّقت بُنيتهم الفكرية، وأوجدت الحواجز النفسية، وأجّجت نار الصراع. فصاروا كما أخبر الله سبحانه ضِعافاً يخافون أن يتخطّفهم الناس مِن حَولهم.

إنّ المسلمين اليوم هم أمّة مِن أعظم أُمم الأرض، بما تملِك مِن فكرٍ وعقيدةٍ وتشريعٍ وحضارةٍ وتاريخٍ مجيد، وثروات طبيعية ضخمة، وموقع استراتيجي فريد، وكتلة بشرية يزيد تعدادها على مليار إنسان.

إنّ هذه العناصر البشرية والفكرية والطبيعية لتؤهّل المسلمين لأن يكونوا أمّةً حضارية قائدة، غير أنّ مِحنة الفُرقة والخلاف والتمزّق المذهبي والقومي والإقليمي والسياسي، كانت مِن أخطر العوامل التي قوّضت قوّة المسلمين، وتسبّبت في ضعْفهم وتخلّفهم.

____________________

(١) سورة الأنفال: آية ٤٦.

٣٦٨

ويستطيع الباحث التاريخي والدارس لتاريخ الفكر ونشأة الفِرَق والمذاهب والآراء الفقهية، أن يشخّص عدّة قضايا في مسألة الخلاف وتعدّد الآراء، والتي مِن أبرزها:

١ - الخلاف في الإمامة والسياسة: يعتبر الخلاف في مسألة الإمامة والسياسة أوّل خلاف شطَر الصفّ الإسلامي. عندما اختلفوا يوم وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في سقيفة بني ساعدة حَول هذا المنصب، فكان لهم ثلاثة مرشّحين لإشغال هذا الموقع الخطير، وهُم: سعد بن عبادة، وأبو بكر، وعليّ بن أبي طالب.

وقد انتهى دَور سعد بن عبادة السياسي بانتهاء الاجتماع في سقيفة بني ساعدة، وبقيَ الإمام عليّ محوراً قيادياًَ على امتداد حياته، ينظر إليه الكثير مِن الصحابة كمرشّح للخلافة ومستحقّ لها، غير أنّ الإمام عليّاً آثر وحدة المسلمين وجمْع كلمتهم، فانسحب مِن المواجهة السياسية طيلة حياة الخلفاء الثلاثة، ومارس دَوره كمرشدٍ وموَجّهٍ وناصحٍ ومبيِّن للأحكام. وقال كلمته الخالدة: والله لأُسلِّمنّ ما سلِمتْ أمُور المسلمين.

ولمْ يسمَح بتحويل قضيّته إلى مواجهة ونزاع بين المسلمين، ويشهد التاريخ بردِّه العنيف على أبي سفيان، عندما حاول أن يجرّ الموقف إلى صراعٍ دمويٍّ بين المسلمين بقوله لعليّ: (ما بال هذا الأمْر في أقلّ حَيٍّ مِن قريش، والله لئن شئتَ لأملأنّها عليه خَيلاً ورجالاً....) (١) .

فيزجُرُه ويردّ عليه غاضباً بقوله المبدئي، الذي لا يعرف المساومة ولا إيثار الدنيا على المبادئ: (إنّك والله ما أردت بهذا إلاّ الفتنة، وإنّك والله طالما بغيت

____________________

(١) الطبري / تاريخ الأمم والملوك ٣: ٢٠٩.

٣٦٩

الإسلام شرّاً، لا حاجة لنا في نصيحتك) (١) .

وهكذا فوّت عليٌّ الفرصة على المتصيّدين بالماء العكِر، ووقف بوجه الفتنة، وحافظ على وحدة الأُمّة.

غير أنّ مشكلة الفُرقة والخلاف عادت، فبرزَت عندما برز الحزب الأُمَوي كقوّة مؤثّرة في سياسة الدولة، في عهد الخليفة الثالث، ثمّ واصل هذا الحزب إصراره في مواجهة خطّ أهل البيت النبويّ، الذي قاده عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، بما يحمل مِن فكرٍ ورؤيةٍ نقية، ووعيٍ مبدئيٍّ للإسلام، ومعه المهاجرون والأنصار، والبدريون وأهل بيعة الرضوان.

ولقد عملت السياسة الأُمَوية بعد شهادة الإمام عليّ بن أبي طالب، واضطرار الإمام الحسن إلى التنازل عن الخلافة لمعاويـة، عملت على تركيز الفُرقة والخلاف، وتبنّي محاربة آل البيت النبويّ وأتباعهم، وشنِّ حَمْلة دموية ودعائية ضدّهم، وتعميم سبِّ الإمام عليّ بن أبي طالب على المنابر والمآذن، حتّى عهد عُمَر بن عبد العزيز الذي ألغى هذه السياسة العدوانية.

فكانت تلك الفترة هي فترة الفُرقة والخلاف بين المسلمين، وتأجيج نار العداوة، وشطْر المسلمين شطرين متواجهين (السُنّة والشيعة).

وامتدّ هذا الخلاف تُغذّيه السياسة والحكومات المتعاقبة على مَرّ العصور والأجيال، فتركّز كحاجزٍ نفْسي وموقف سلبي؛ نتيجة السياسات الحاكمة التي وظّفت الخلاف لصالح تسلّطها ومكاسبها الدنيوية.

وقد تعمّق هذا الخلاف في عهد الاحتلال الصليبي والاستعمار والصهيونية، يُنمّيه الحُكّام العملاء، والأقلام والألسُن المأجـورة؛ لإبقاء حالة الضَعْف والتمزّق

____________________

(١) المصدر السابق.

٣٧٠

والصراع.

وحين انطلقت الثورة الإسلامية في إيران، وقام للمسلمين كيان سياسي ودولة، على أساس كتاب الله والسنّة المطهّرة، وبدأت مرحلة حضارية جديدة في العالم الإسلامي، شعَر الاستكبار العالَمي - وعملاؤه - بالخطر على تسلّطه في هذا العالم، كما شعر بالخطر على حضارته الجاهلية البغيضة، لاسيّما وأنّ الحركة الإسلامية والوعي الإسلامي قد تحوّلا إلى تيّارٍ شعبي، وحركة عميقة في وجدان الأمّة وعقلها في مساحات واسعة مِن العالَم.

فشَنّ أعداء الإسلام حملةً دعائيةً ضدّ وحدة المسلمين ونهضتهم الفكرية والسياسية، بشكلٍ مخطّطٍ ومدروس، موَظِّفين مسألة تعدّد المذاهب الفقْهية لدى المسلمين. فمِصر مثلاًَ تعتنق بشكلٍ أساس المذهب الشافعي، والجزيرة العربية تعتنق المذهب الحنبلـي، وشمال أفريقيا يعتنق المذهب المالكي، وإيران تعتنق المذهب الجعفري... الخ.

وإنّ الثورة الإسلامية انطلقت مِن إيران الشيعيّة، التي يعتنق شعبُها منهج أهل البيت الفقْهي والفكري؛ لذا تركَّزت الحملة الدعائية ضدّ الاتّجاه الشيعي الملتزم بمنهج أهل البيت (عليهم السلام)، خوفاً مِن قوّة المسلمين وانطلاقتهم الحضارية الكبرى، وعودة الدَور القيادي للأُمّة الإسلامية الموحّدة.

والمسلمون بمختلف مذاهبهم وآرائهم مَدْعوّون لتشخيص هذه الحقيقة والردّ عليها، وتجاوز الحواجز النفْسية التي وضعَتْها المصالح الدنيوية البعيدة عن الأهداف الإسلامية أو المعادية لها، والتمسّك بالوحدة والاعتصام بحَبْل الله.

٢ - الخلاف العِلمي: وقد نشأ هذا الخلاف عندما نشأ اجتهاد الصحابة والتابعين، وعندما نشأت المذاهب الفقْهية والفِرَق الكلامية، التي تأثّرت نشأتها بعوامل عديدة، منها العوامل المقبولة لدى الفكر الإسلامي، ومنها الغريبة الدخيلة على روح الإسلام وعقيدته، ويعتبر الجانب السليم مِن الخلاف العِلمي، نتيجةً طبيعيةً لعملية الاجتهاد والبحث العِلمي. غير أنّ مِحنة هذا العمل الفكري لدى

٣٧١

الكثيرين هي القصور العِلمي، والإصرار على الخطأ، والتعصّب للرأي.

وللوَرَع والتقوى الأثر البالغ في تحديد موقف العالِم والمقلِّد له. فالعالِم الذي بذَل جُهده العِلمي؛ لاكتشاف الحُكم الشرعي أو المفهوم العقيدي أو الفكري، متى ما استحضر في نفْسه أنّه مسؤول أمام الله سبحانه عن عمله واكتشافه، وأنّه باحث عن الحقيقة شأنه شأن غيره مِن العلماء الباحثين، مِن خلال منهج بحثٍ وأدَوات عِلمية، وأنّ المقياس هو الدليل العِلمي، وهو الحُكم والقضاء العدْل بين الخصماء، استطاع أن يتقبّل الحقيقة وإن اكتشفها غيره، ( فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (١) .

فإنّه مِن الواضح لدينا أنّ الرسالة الإسلامية هي عبارة عن (الكتاب والسنّة)، وأنّ الفكر الإسلامي بما فيه مِن آراء هو نِتاج عملية الاجتهاد والتنظير، الذي مارسه العقل والجُهد الإسلاميان مع النصّ الشرعي.

وأنّ التفاعل بين النصّ الإلهي (الكتاب والسنّة)، وبين الجُهد البشَري، قد أدّى إلى إيلاد نتائج وآراء ونظريات متعدّدة، كان لها الدَور الأكبر في ولادة الآراء الفقْهية والفِرَق الكلامية والفلسفية؛ فانقسم الفَهْم الإسلامي للخطاب الشرعي (الكتاب والسنّة)، وذهب كلّ فريق مِن العلماء إلى ما تكوّن لديه مِن فهْمٍ وقراءة لهذا الخطاب.

وتأسيساً على تعدّد الفهْم الاجتهادي، صار الخطاب الشرعي يُنظَر إليه مِن خلال الفهْم البشَري، بشكلٍ غدا مِن المتعذّر معه تشخيص الخطأ الاجتهادي عن الصواب المطلق، في فهْم هذا الخطاب.

وبما أنّ الدِين إيمان وعمل، يتساوى التكليف فيه بين العالِم في أرقى درجات العِلم، وبين الأُمّي الذي لا يعرف القراءة والكتابة.

____________________

(١) سورة الزمر: آية ١٧، ١٨.

٣٧٢

( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) (١) .

كان على كلّ مسلم أن يلتزم بالإسلام فكراً وعملاً في العبادة والمعاملة؛ لذا فقد توزّع المسلمون كأتباع لنظريات فقْهية وعقيدية.

وانتهت العلاقة العِلمية بالخطاب الشرعي، إلى الاجتهاد والتقليد وتعدّد الآراء الفقهية والعقيدية، فوجَد المسلمون أنفسهم موزّعين على مذاهب شتّى، وأتباع لفقهاء متعدّدين.

ولمْ يقف التعدّد في الرأي عند هذا الحدّ، بل نجد آراء فقهية، واجتهادات متعدّدة في إطارات المذهب الواحد والمدرسة الفقهية والعقيدية الواحدة، وإذن فالخلاف الكبير الذي يواجهه المسلمون اليوم، هو خلاف فقْهي بشكلٍ أساس بين المذاهب والآراء الفقهية، والذي كان نتيجة لتعدّد مناهج الفقْه والاجتهاد. وليس خلافاً سياسياً على الخلافة والإمامة، ولا خلافاً بين السنّة والشيعة.

فالمسلمون اليوم لا يواجهون مِن الناحية العملية مشكلةَ الإمامة والخلافة بشكلها التاريخي، بين اتّجاهين، اتّجاه يرى أنّ أئمّة أهل البيت هُم أَولى بالخلافة والإمامة، واتّجاه آخَر لا يرى وجوب الالتزام بإمامة أهل البيت (عليهم السلام). بل يواجهون خلافاً فقْهياً بين مذاهب فقْهية متعدّدة.

والمفروض في مثل هذا الخلاف أن يكون خلافاً عِلمياً، يمكن مناقشته وحلّه بالطُرُق العِلمية، وسنجد المجال واسعاً للتلاقي، إذا انطلق العقل الإسلامي مِن نقاط اللقاء.

ولا يضرّ وحدة المسلمين أن يكون هناك تعدّد في الرأي والاجتهاد، إذا تغلّبوا على الأزمة والحواجز النفْسية التي صنعتها ظروف تاريخية.

ومِن المفيد أن نوضّح أبرز أسباب الخلاف الفقْهي بين المذاهب والفقهاء،

____________________

(١) سورة الأعراف: آية ١٥٨.

٣٧٣

فنركّزها بالآتي:

١ - الاختلاف في مصادر الأحكام: مِن مسلّمات الفكر الإسلامي، هو إجماع المسلمين على الإيمان: بأنّ الكتاب والسنّة هما مصدر الأحكام والقوانين والفكر والمعرفة الإسلامية.

غير أنّهم اختلفوا، على تعدّد مذاهبهم وآرائهم، في اعتبار وقبول مصادر أُخرى للتشريع، مثل العمل بالقياس والرأي والاستحسان ومذهب الصحابي... الخ، هل هي مصادر صالحة للاستنباط أو لا؟ كما اختلفوا في منهج الاستنباط والمباني الأُصولية المعتمدة لدى هذا الفقيه أو ذاك.

ومثل هذا الخلاف وقع بين أصحاب المذاهب الإسلامية المختلفة، وليس بين سنّة وشيعة، كما قد يتصوّر البعض، بل وقع بين فقهاء المذهب الواحد، كما هو معروف لدى الجميع.

٢ - الخلاف في إثبات السُنّة الصحيحة: وتشكّل مسألة قبول رواية هذا الراوي أو ذاك، مصدراً واسعاً للخلاف الفقْهي والفكري بين المسلمين، وقد سُقنا بعض الأمثلة في اختلاف العلماء في صحّة كلّ ما ورَد في كتُب الرواية، كصحيح البخاري، والكافي، وغيرهما مِن كتُب الرواية والحديث.

فكما اختلفوا في قبول هذا المصدر التشريعي وعدم قبوله، اختلفوا كذلك في إثبات صحّة الأخبار والروايات التي نُسبت إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، والموقف مِن الرواة، فتسبّب الاختلاف في مصادر الأحكام وفي قبول هذه الرواية أو تلك، في الاختلاف في الرأي والفتوى.

وينبغي أن يُفهم أنّ هذا الخلاف ليس هو خلافاً بين سنّة وشيعة، بل هو خلاف بين علماء المذاهب وأئمّة الفقْه والاجتهاد بمختلف اجتهاداتهم.

٣٧٤

٣ - ومِن أسباب الخلاف الأساسية بين الفقهاء هو الخلاف في المباني الأصولية، وفي فهْم الفقيه للنصّ وقدرته على الاستنباط منه، وتطبيق القواعد الفقهية والأُصولية، وغير ذلك مِن مسائل الفهْم والتطبيق المنهجي.

وواضح أنّ منشأ هذا الخلاف هو القدرة العِلمية، وليس الانتماء إلى سنّة أو شيعة.

٤ - الخلاف في الفهْم اللُغَوي: ومِن أسباب الاختلاف بين الفقهاء - على اختلاف مذاهبهم - هو الخلاف بسبب العامل اللغَوي، كالاختلاف في الإعراب، أو في القراءة، أو في فهْم المعنى، كالاختلاف في تفسير آية الوضوء، وفي قراءة آية المحيض ( ... فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ... ) (١)، أو ( يَطَّهَّرْنَ ) ، أو تحديد معنى (القُرء)... الخ. فإنّ مثل هذا الخلاف نتَج عنه خلاف فقهي.

٥ - الاختلاف في نَسْخ هذا الحُكم أو ذاك، كالاختلاف بين فقهاء الشيعة والسنّة في نسْخ تشريع زواج المُتعة، وعدم نسْخِـه.

وبما أنّ الخلاف بين المسلمين اليوم هو خلاف فقْهي وعقيدي في معظم جوانبه، فهُم مَدْعوّون إلى فتح باب الاجتهاد الذي أُغلق عند بعض المذاهب الإسلامية، واللجوء إلى الحوار العِلمي والمنهج النقدي بعقلٍ موضوعي، وتقدير للمسؤولية الشرعية، وإزالة الحواجز النفْسية بينهم وإعادة قراءة التاريخ، وتحقيق وقائعه وتقويمها تقويماً عِلمياً نزيهاً، واستفادة الدروس والعِبَر منها مِن غير أن تُجعَل سبباً للفُرقة والخلاف والعصبية.

وفي ختام حديثنا عن الوحدة والاتّحاد بين المسلمين نقترح تشكيل

____________________

(١) سورة البقرة: آية ٢٢٢.

٣٧٥

مجاميع عِلمية ولقاءات وحوارات بين العلماء؛ لإقامة دراسات عِلمية مشتركة، تنطلق مِن الأُسس المتّفق عليها.

وسيكون الحوار منتجاً وأكثر فاعلية، إذا ما دار حَول نظرية متكاملة للتوحيد بين المسلمين، عِلماً بأنّ تعدّد الرأي والاجتهاد مسألة عِلمية لا علاقة لها بالفُرقة والخلاف، وهي نتيجة طبيعية لإجازة عملية الاجتهاد بعد أن تتحدّد أدواته السليمة؛ لِيُدلي كلّ ذي رأيٍ برأيه، ويُقيم كلّ ذي حجّة حجّته. على أن يكون رائد الجميع هو الوحدة والائتلاف، بعيداً عن العصبية والدفاع عن الخطأ.

وبالالتزام بالمنهج العِلمي وروح التقوى، سيصل المسلمون إلى توحيد وانسجام فكري وفقهي وسياسي.

فإنّ المنهج وطريقة التفكير السليمة والوجدان العِلمي المجرّد مِن العصبية واللاشعور المتوارث، يوصِل إلى هذه النتائج.

وكمثال على ذلك: هاهما البحث والمنهج اللذان أَوصَلا كلاًّ مِن الشيخ محمود شلتوت، والشيخ محمّد الفحّام، شيخي الأزهر الشريف، إلى اكتشاف الحقيقة، والتعرّف على مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، فرأيا مِن واجبهما الشرعي أن يُعرّفا المسلمين بهذا المذهب الإسلامي، فدَعَيا إلى وجوب التخلّص مِن العصبية تجاهه، وأجازا العمل به، والانتقال إليه، كما هو مدوَّن في الفَتْوَيَين اللتين أصدراهما بذلك.

وختاماً، فليكن شعار المسلمين هو دعوة القرآن ونداءه الخالد: ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ... ) .

*** وآخِر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالَمين***

٣٧٦

المصادر

٣٧٧

٣٧٨

* القرآن الكريم.

* الاحتجاج: أحمد بن عليّ بن أبي طالب الطبرسي (ت ٦٢٠هـ)، مطبعة النعمان، النجف الأشرف، ١٣٨٦هـ - ١٩٦٦م.

* إحياء الميّت بفضائل أهل البيت: جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت ٩١١هـ)، المطبعة الأدبية، مصر، ١٣٢٦هـ.

* اختيار معرفة الرجال (رجال الكشّي): شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي (ت٤٦٠هـ)، مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام)، مطبعة بعثت، قم، ١٤٠٤هـ.

* الإرشاد: الشيخ المفيد (ت ٤١٣هـ)، منشورات مكتبة بصيرتي، قم.

* أسباب النزول: عليّ بن أحمد الواحدي النيسابوري (ت ٤٦٨هـ)، دار الكتُب العِلمية، بيروت.

* الاستيعاب في معرفة الأصحاب: أبو عمَر يوسف بن عبد الله النمري القرطبي (ت ٤٦٣هـ)، دار إحياء التراث العربـي، بيروت، الطبعة الأولى، ١٣٢٨هـ.

* أسد الغابة في معرفة الصحابة: عزّ الدين عليّ بن أبي الكرم الشيباني ابن الأثير (ت ٦٣٠هـ)، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

٣٧٩

* الأُسس المنطقية للاستقراء: السيّد الشهيد محمّد باقر الصدر (استُشهد سنة ١٩٨٠م)، دار التعارف للمطبوعات، بيـروت، ١٤١٠هـ - ١٩٩٠م.

* الإصابة في تمييز الصحابة: أحمد بن عليّ بن حجر العسقلاني الشافعي (ت ٨٥٢هـ)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأُولى، ١٣٢٨هـ.

* اصطلاحات الأُصول: الحاج ميرزا عليّ المشكيني، مطبعة الهادي، قم، الطبعة الخامسة، ١٤١٣هـ.

* أُصول الاستنباط: السيّد علي تقي الحيدري، مطبعة مِهر، قم، الطبعة الأُولى، ١٤١٢هـ.

* الأصول العامّة للفقْه المقارن: محمّد تقي الحكيم، مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام)، قم، الطبعة الثانية، ١٩٧٩م.

* أُصول الفقْه: الشيخ محمّد رضا المظفّر، مطبعة النعمان، النجف الأشرف، الطبعة الثانية، ١٣٨٦هـ.

* الأصول مِن الكافي: أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكليني (ت٣٢٩هـ)، دار الكتُب الإسلامية، طهران، مطبعة حيدري.

* الاعتقادات في دِين الإمامية: الشيخ الصدوق أبو جعفر بن بابويه القمّي (ت٣٨١هـ)، المطبعة العِلمية، قم، ١٤١٢هـ.

* الأعلام: خير الدِين الزركلي، الطبعة الثالثة، ١٣٨٩هـ - ١٩٦٩م.

* إعلام الموقعين مِن ربّ العالَمين: ابن القيّم الجوزية (ت٧٥١هـ)، دار الجيل، بيروت.

* أعيان الشيعة: السيّد محسن الأمين (ت١٣٧١هـ - ١٩٥٢م)، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، ١٤٠٣هـ - ١٩٨٣م.

* الأغاني: أبو الفرج الأصفهاني (ت٣٥٦هـ)، دار الفكر للطباعة، الطبعة الأُولى، ١٤٠٧ هـ - ١٩٨٦م.

* الإمام الصادق: محمّد أبو زهرة، دار الفكر العربي.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390