التشيع نشأته معالمه

التشيع نشأته معالمه20%

التشيع نشأته معالمه مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 390

  • البداية
  • السابق
  • 390 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 20858 / تحميل: 8023
الحجم الحجم الحجم
التشيع نشأته معالمه

التشيع نشأته معالمه

مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

عليك ورحمة الله وبركاته، وعلى أبيك مِن قبلك) (١) .

فتوجّه الحسين مِن المدينة المنوّرة إلى العراق، ووقعت المواجهة بينه وبين الجيش الأمويّ، واستشهد الإمام الحسين وثمانية وسبعون مِن أصحابه وأهل بيته، وحلّت الفاجعة بآل البيت النبويّ، ونشبت الفتن والثورات، وانطوت مرحلة قيادة المواجهة المسلّحة مِن جانب أئمّة أهل البيت بعد عليٍّ والحسن والحسين [ عليهم السلام ].

وباستقراء وقائع الكفاح السياسي والفكري، الذي استمرّ طيلة حياة الإمام عليٍّ وولَدَيه السِبْطين، الحسن والحسين (عليهما السلام)، ومَن تابعهم وجاهد معهم، نلاحظ أنَّ دعوتهم تركّزت حَول المطالبة بالتمسّك بكتاب الله وسنّة رسول الله والعمل بهما؛ لإيضاح وبلوَرة هويّة التشيّع لأهل البيت (عليهم السلام)، وجوهر حركتهم الفكرية.

ويتجسّد ذلك واضحاً في المواقف والتصريحات، التي صدرت عن الأئمّة وآبائهم. مِن ذلك ما ورَد في كتاب الصُلح الذي ثبّت فيه الحسن بن عليّ (عليهما السلام)، واشترط على معاوية: (أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنّة نبيّه) ، ويظهر ذلك واضحاً في الرسالة التي كتبها الإمام الحسين (عليه السلام) لأهل العراق: (... وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله، وسنّة نبيّه، فإنّ السنّة قد أُميتت، وأنّ البِدْعة قد أُحييَت، وإنْ تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدِكم سبيل الرشاد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته).

وهكذا يتّضح لدينا ظهور شيعتَين متواجهتين: شيعة آل البيت بقيادة عليٍّ والحسن والحسين، وشيعة بني أُميّة خلال حكومة معاوية وابنه يزيد وما تلاها مِن فترة الحُكم الأمويّ.

____________________

(١) السيّد ابن طاووس / مقتل الإمام الحسين: ص ١٥ - ١٦.

٤١

التَشرذم والخروج عن الخطّ الشيعي

في معركة صِفّين التي وقعت بين عليّ ومعاوية، والتي انتهت بالتحكيم، انشقَّ جيش عليٍّ، وخرجت منه جماعة محتجّة على التحكيم، وسمّيت هذه الفِرقة بالخوارج، ويعدّها علماء الفِرق فِرقةً شيعيّةً، غير أنّ الدراسة الموضوعية تنفي انتساب هذه الفِرقة إلى الشيعة؛ ذلك لأنّهم انشقّوا على الإمام عليّ مؤسّس التشيّع، ورفضوا إمامته، وقاتلوه واغتالوه، ثمّ تحوّلوا إلى كيانٍ سياسي، وأصحاب عقائدٍ خاصّةٍ بهم، تختلف عن الآراء العقيدية التي يحملها أئمّة أهل البيت وأتباعهم، كما أصبح لهم فِقْه ونظرية سياسية في الحُكم والإمامة، تختلف عن فقْه أهل البيت ونظريّتهم في الحُكم والسياسة.

وبعد مقتل الإمام الحسين (١) في العاشر مِن المحرّم سنة (٦١ هـ)، انسحب الإمام عليّ بن الحسين زَين العابدين (عليهما السلام)، إمام أهل البيت في تلك الفترة مِن المواجهة المكشوفة والكفاح المسلّح، الذي سلكَه آباؤه الأطهار؛ لعدم توفّر الظروف المناسبة لذلك، فواصل قيادة وتنظيم الكيان الشيعي بصورةٍ سرّية، كما واصل مهامّه العِلمية والفكرية في حِفْظ الرسالة والدفاع عن نقائها وأصالتها القرآنية، وبيان أحكامها ومعارفها.

وفي تلك المرحلة نشأت فِرق وتكتّلات شيعية ذات أهداف سياسية، ظهرت في ميدان الصراع ضدّ الحُكم الأمَويّ، فظهرت جماعة التوّابين، وأتباع المختار بن عبيدة الثقفي، ثمّ أتباع زيد بن عليّ بن الحسين (رضي الله عنه) الذين سمُّوا بالزيدية.. نسبةً إليه، وقد أعلن زيد الثورة على هشام بن عبد الملك الأمَويّ، الذي قتَل زيداً وصلَبه سنة (١٢١ هـ).

____________________

(١) سنعرض جانباً مِن مأساة أهل البيت في كربلاء في موضوع (لماذا التقية) مِن هذا الكتاب.

٤٢

ولمْ تزل تلك الفِرقة الشيعية موجودة حتّى الآن، ويكثر أتباع زيد في اليمن، وتعتقد هذه الفِرقة بإمامة زيد بن عليّ بن الحسين، ثمّ الإمامة هي في وُلد فاطمة لمَن اتّصف بالعِلم والشجاعة منهم، وتصدّى للقيادة بالثورة على الظلم.

وفي فترة حياة الإمامَين الباقر والصادق (عليهما السلام) بدأت تظهر النظريات الفكرية والسياسية، والاختلافات في فَهْم الإمامة وتحديد شخص الإمام، في الصفّ الشيعي. وبدأ الانحراف والضلال يسوق فِرقاً كثيرةً انتسبت إلى التشيّع كالمغيرية والخطّابية وغيرها مِن فِرَق الغُلاة والمفوّضة، وقد عدّها كُتّاب الفِرق مِن فِرَق الشيعة، غير أنّ أهل البيت تبرّؤوا منهم ولَعَنوهم وطردوهم.

في حين استمرّ خطّ التشيّع بنقائه وأصالته المعهودة أيّام عليّ والحسن والحسين وعليّ بن الحسين، يكافح كفاحاً عِلمياً ضدّ انحراف تلك الفِرق وغيرها مِن الفِرَق الضالّة، التي وُلدَت في البيئة الإسلامية، وقد قاد الكفاح مِن أجْل النقاء والأصالة الإسلامية أئمّةُ التشيّع في تلك الفترة محمّد الباقر (عليه السلام)، ثمّ ابنه جعفر الصادق (عليه السلام)، ثمّ ابنه موسى بن جعفر (عليهما السلام)، ثمّ ابنه عليّ بن موسى الرضا (عليهما السلام)، ثمّ ابنه محمّد بن عليّ الجواد (عليهما السلام)، ثمّ ابنه عليّ بن محمّد الهادي (عليهما السلام)، ثمّ ابنه الحسن بن عليّ (عليهما السلام).. ثمّ انتهت مسيرة التشيّع إلى قيادة محمّد بن الحسن المهدي (عجّل الله فرَجَه).

والحديث عن التشيّع في هذه المرحلة، هو حديث عن خطّ أهل البيت ومذهبهم بنقائه وأصالته القرآنية.

وسنعرف فيما هو آتٍ مِن البحث هذا المذهب الإسلامي - مذهب أهل البيت - الذي سُمّيَ بمذهب الشيعة الإمامية؛ لاعتقاده بإمامة اثني عشر إماماً مِن سادة أهل البيت (عليهم السلام)، وسُمّيَ كذلك بالمذهب الجعفريّ نسبةً إلى الإمام

٤٣

جعفر الصادق؛ لِما أظهر مِن العِلم والفقْه، كما نسبت المذاهب الفقهية إلى أصحابها، كالمذهب الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي والزيدي... الخ.

٤٤

الفصل الثاني

منهج البحث والتفكير

في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)

٤٥

٤٦

تقديمٌ

منهج البحث والتفكير، عبارة عن الطريقة التي يسلكها الباحث أو المفكّر في تنظيم وإجراء أبحاثه؛ للوصول إلى النتائج المرجوّة مِن البحث، وقد عرّف منهج البحث بأنّه: (الطريقة التي يتّبعها العلماء في وضْع قواعد العِلم، وفي استنتاج معارفه على ضوء تلك القواعد) (١) .

ومِن الواضح أنّ لكلّ عِلمٍ ومعرفةٍ بشَريّةٍ منهجها الخاصّ بها، رغم وجود عناصر مشتركة بين منهاج العلوم والمعارف البشرية كافّة.

إنّ المتأمّل في العلوم والمعارف الإسلامية، يجد علماء الإسلام قد ساروا في دراساتهم وأبحاثهم، وتحديد عطائهم العِلمي وفْق أُسُسٍ منهجيّةٍ منظّمةٍ ومحدّدة؛ لذا كانت البُنية النظرية لكلّ عِلمٍ ومعرفةٍ، كعِلم التوحيد والأخلاق والحديث والفقْه والتصوّف والعِرفان بُنية منسّقة، قائمة على أساس منهج بحثٍ متّسق الخُطى، متوافق النتائج، إلاّ ما أخطأ الباحث في تطبيقه، كما كان لكلّ اتّجاهٍ مذهبيٍّ وحدته

____________________

(١) عبد الهادي الفضلي / خلاصة المنطق: ص ١٢٣.

٤٧

المنهجيّة، ومبانيه الأساسية التي ساهمت في تصميم شخصيّته الفكرية.

وعند تحليل الاتّجاه العامّ في كلّ بُنيةٍ منهجيّةٍ مِن بُنى العلوم والمعارف الإسلامية، والاتّجاهات الفكرية والمذهبية، نجد أنّ هناك أُسُساً ومنطلقات آمَن بها كلّ فريقٍ إيماناً شرعياً، أو عقلياً، فانطلق منها يحدّد بُنية المنهج العِلمي الذي يثبّت أُسس وقواعد ذلك العِلم، أو البحث في تلك المسألة. ومِن المفيد أن نستعرض بشكلٍ موجز تعريفاً بمناهج البحث الأساسية، التي اتّبعها علماء أهل البيت في المجالات الآتية:

١ - المنهج المعرفي (نظرية المعرفة).

٢ - المنهج العقيدي.

٣ - منهج الفقْه والاستنباط (١) .

٤ - المنهج السلوكي (٢) .

وتشمل هذه المناهج المساحة العِلمية، والعطاء الحضاري بمختلف حقوله: (المعرفة، والإلهيّات، والطبيعة، والقيَم، والسلـوك، والشريعـة)، وتصنع منه منظومةً فكريّةً متناسقةً في كلّ اتّجاهٍ مذهبيٍّ ومدرسةٍ فكريّةٍ. وجدير ذِكره: أنّ المعارف والعلوم والأفكار الإسلامية مرّت بعدّة مراحل هي:

١ - مرحلة النصّ (الكتاب والسنّة).

٢ - مرحلة التفسير.

٣ - مرحلة التنظير.

٤ - مرحلة الفلسفة.

____________________

(١) و (٢) سنبحث منهج الفقْه والاستنباط والمنهج السلوكي، في المكان المناسب مِن هذا الكتاب في فصلَين مستقلَّين.

٤٨

ولا يخفى أنّ مراحل التفسير والتنظير والفلسفة، وبشكلٍ خاصٍّ مرحلة التنظير والفلسفة، تأثّرت بمخلّفات الشعوب وأفكارها، كالفكر اليوناني والفكر الفارسي والفكر البوذي وأفكار أصحاب الديانات المحرّفة، كالفكر المسيحي واليهودي، وقد حدث هذا التأثّر بدرجاتٍ متفاوتة، فكان سبباً في نشأة عشرات الفِرَق، وحدوث الانحرافات الفكريّة.

وقد جاهد أئمّة أهل البيت، وبصورةٍ خاصّةٍ في عهد الإمامين محمّد الباقر (عليه السلام) وولده جعفر الصادق (عليه السلام) جهـاداً مستمرّاً، وعلى كلّ صعيدٍ مِن أصعدة الفكر والمعرفة، مِن أجل صيانة الفكر والتفكير الإسلامي، والحفاظ على نقاء العقيدة والشريعة، وأصالة الفهْم والاستنباط بشتّى حقوله ومراتع روّاده.

وفيما يلي مِن البحث ننقل عن أساطين الفكر الإمامي الآراء والأُسُس والأُصول، التي ثبّتوها في هذا المجال؛ لنعطي لمحةً تعريفيّةً بالمعالم الأساسية، وبالأُسس العِلمية لبُنية هذه المدرسة المذهبيّة العريقة، التي نشأت في الصفّ الإسلامي، كما نشأت المدارس المذهبية الأُخرى في المعرفة والعقيدة والفقْه والاستنباط والسلوك.

سنلاحظ مِن عَرض المرتكزات الأساسية لمنهج البحث والتفكير الإمامي، أنّه انطلق في مسلّماته الأساسية مِن الشرع والعقل، ونسّق بينهما وفْق منهج القرآن وتوجيهه، فحصل على منهج بحثٍ أصيل ملتزم ومعطاء مُنتِج، بعيدٍ عن الخرافة والتوقّف والتحجّر، فحقّق النموّ والتوالد والالتزام في آنٍ واحد، فكان منهجاً خصباً وأصيلاً، ينطلق مِن الشرع، ويحترم العقل ويوظّفه كما يوظّف الحسّ والتجربة، ويستخدم الاستقراء والاحتمال والقياس استخداماً منهجياً دقيقاً، وإليك هذه الآراء والأُسس:

٤٩

١ - المنهج المعرفي (نظرية المعرفة):

لقد تحدّث الشيخ المفيد وهو مِن أساطين الفكر الإمامي في القرن الرابع والخامس الهجريّين، وتوفّيَ سنة (٤١٣ هـ)، عن الأُسس العامّة لنظرية المعرفة، التي تقود إلى الإيمان بقضايا ومسائل عقيدية، قد لا توصل النظريات الأُخرى إلى تلك النتائج والمعطَيات، كما نقرأ ذلك واضحاً في النصّ الآتي:

(أقول: إنّ العِلم بصحّة جميع الأخبار طريقه الاستدلال، وهو حاصل مِن جهة الاكتساب، ولا يصحّ وقوع شيءٍ منه بالاضطرار، والقول فيه كالقول في جملة الغائبات (١) . وإلى هذا القول يذهب جمهور البغداديّين (٢) ، ويخالف فيه البصريّون والمشبّهـة وأهـل الإجبـار (الأخبار خ)) (٣) .

ونقرأ في ما عرَضه العلاّمة الحِلّي بلوَرةً وتنظيراً لنظرية المعرفة والبحث في المنهج الإمامي، الذي يقود إلى الخروج بنتائج مذهبية محدّدة، تختلف عن عطاء غيره مِن المناهج، قال (رحمه الله):

(لمّا كان الإدراك أعرَف الأشياء وأظهرها على ما يأتي، وبه تُعرَف الأشياء، وحصل فيه مِن مقالاتهم أشياءً عجيبةً غريبةً، وجَب البدْء به؛ فلهذا قدّمناه. اعلم أنّ الله تعالى خلَق النفْس الإنسانية في مبدأ الفطرة، خالية عن جميع العلوم (*)

____________________

(١) جملة الغائبات: مختلف القضايا المجهولة لدى الإنسان، والتي يراد اكتشافها.

(٢) يقصد بهم مدرسة الاعتزال البغدادية، التي افترقت في بعض متبنّياتها عن مدرسة الاعتزال البصرية، التي هي الأصل في مدرسة الاعتزال.

(٣) الشيخ المفيد / أوائل المقالات: ص ١٠٤.

(*) قسّم العلماء العلوم والمعارف البشرية على قسمين هما:

١ - العلوم الضرورية: وهي العلوم التي لا يحتاج التصديق بها إلى الاستدلال، مثل استحالة اجتماع النقيضين، ومثل الكلّ أكبر مِن الجزء.

٢ - العلوم النظرية: وهي العلوم التي تحتاج إلى إثباتٍ برهانيٍّ واستدلال، مثل وجود الله، وكُرَويّة الأرض.

٥٠

بالضرورة، قابلة لها، وذلك مُشاهَد في حال الأطفال.

ثمّ إنّ الله تعالى خلَق للنفْس آلات، بها يحصل الإدراك، وهي القوى الحسّاسة، فيحسّ الطفل في أوّل ولادته بحسّ لمْس ما يدركه مِن الملموسات، ويميّز بواسطة الإدراك البَصَري، على سبيل التدريج بين أبويه وغيرهما، وكذا يتدرّج في العلوم وباقي المحسوسات إلى إدراك ما يتعلّق بتلك الآلات.

ثمّ يزداد تفطّنه، فيدرك بواسطة إحساسه بالأُمور الجزئية الأُمورَ الكلّية، مِن المشاركة، والمباينة، ويعقل الأُمور الكلّية الضرورية بواسطة إدراك المحسوسات الجزئية.

ثمّ إذا استكمل العلوم، وتفطّن بمواضع الجدال، أدرك بواسطة العلوم الضرورية العلوم الكَسْبية، فقد ظهر مِن هذا أنّ العلوم الكسْبية فرعٌ على العلوم الضروريّة الكلّية، والعلوم الضروريّة الكلّية فرعٌ على المحسوسات الجزئية، فالمحسوسات إذن هي أصول الاعتقادات، ولا يصحّ الفرع إلاّ بعد صحّة أصله، فالطعن في الأصل طعنٌ في الفرع.

وجماعة الأشاعرة الذين هُم اليوم كلّ الجمهور مِن الحنفية، والشافعية، والمالكية، والحنابلة، إلاّ اليسير مِن فقهاء ما وراء النهر، أنكروا قضايا محسوسة على ما يأتي بيانه، فلزِمَهم إنكار المعقولات الكلّية التي هي فرع المحسوسات، ويلزمهم إنكار الكَسْبيّات...) (١) .

وهكذا يتّضح لنا مِن خلال التأمّل في هذه النصوص المنهجية، أنّ المنهج الإمامي يرتّب نظرية المعرفة كالآتي:

١ - الإيمان بأنّ المعارف الحسّية، هي أصل المعرفة البشرية، فالإنسان يحصل مِن خلال أدَوات الحسّ - عن طريق الممارسة والتجربة - على الجزئيّات الحسّية.

____________________

(١) العلاّمة الحِلّي / نهْج الحقّ وكشْف الصدْق: ص ٣٩ - ٤٠.

٥١

٢ - إنّ العقل ينتزع مِن تلك المعارف الحسّية الجزئيّة معارف كليّة عامّة.

٣ - إنّ الحصول على المعارف الكلّية مِن تلك الجزئيات، هي عملية استقرائية، وهي المعبّر عنها بمنهج الاستقراء، الذي عُرّف بأنّه:

(عبارة عن دراسة جزئيّاتٍ عديدةٍ يستنبط منها حُكم عامّ).

٤ - تتوفّر لدى الإنسان عن طريق إدراك المحسوسات الجزئية، المعلومات الضروريّة الكلّية.

٥ - إنّ العلوم الضروريّة تُسلَك كأُسُس؛ لتحصيل المعارف والعلوم الكسْبية والبناء عليها، وبذا تكون العلوم والمعارف التي يحصل عليها الإنسان، وبمختلف فروعها المادّية والعقلية والإنسانية، إنّما هي فرع على العلوم الضرورية الكلّية.

٦ - ينتج مِن هذا التسلسل المنطقي في بُنية نظرية المعرفة في المدرسة الإمامية، أنّ الإيمان بالله وما يرتبط به مِن معارف وعلوم إلهيّة، إنّما يبتني التصديق بها والبرهنة عليها على أوّليات منتزعة مِن المعارف الحسّية، فمبدأ العلّية والسببيّة الذي يوصل إلى الإيمان بالله، إنّما أُنتزع مِن جزئيات حسّية في بدْء تكوّنه في ذهن الإنسان، فالإنسان يشاهد في عالَم الحسّ والطبيعة، أنّ الأشياء مرتبطة بعللِها وأسبابها، فأوصله هذا المبدأ إلى الإيمان بعلّة الوجود وخالق الكون، اعتماداً على مبدأ القياس.

وصوّر أبو إسحاق إبراهيم النوبختي - صاحب كتاب (الياقوت) الكلامي - صوّر العلاقة بين التفكير وإنتاج العلم، كالعلاقة بين السبب والنتيجة، منطلقاً مِن مبدأ الإيمان بقانون العلّية، الذي آمنت به الإمامية، وأنكرته الأشاعرة، قال: (والنظر يولّد العِلم، كسائر الأسباب المولّدة لمسبباتها).

وعلّق الشارح - العلاّمة الحِلّي - على ما أَورده النوبختي، قائلاً: (أقول:

٥٢

اختلف الناس في ذلك، فقالت المعتزلة: النظر الصحيح يولّد العِلم.

وقال الأشاعرة: إنّ العِلم يحصل عقيبه لمجرّد العادة مِن فِعل الله تعالى، كالعاديّات.

وقال أبو بكر الباقلاني، وإمام الحرَمين - الجويني ـ: إنّ العِلم ما يلزم النظر لزوماً واجباً، إنْ لمْ يتولّد عنه) (١).

وهكذا يتحدّد مرتكز أساس في الفكر الإمامي، وهو أنّ التفكير يولّد المعرفة، كما تولِّد الأسباب نتائجها، وهي مِن فِعل الإنسان، خلافاً لنظرية الأشاعرة التي أنكرت قانون السببيّة، وفسَّرت العلاقة بين الأشياء بالعادة؛ إذ ردّت الأفعال كلّها إلى الله سبحانه مباشرة.

٢ - المنهج العقيدي:

بعد أنْ تحدّدت نظرية المعرفة بمرتكزاتها الكلّية، وأنّها نظرية شاملة لمعرفة الطبيعة والفكر والإلهيات والمعارف الإنسانية جميعها، وأوضح العلماء - كما مرَّ علينا - العلاقة بين هذه النظرية وبين الإيمان بالله، صار واضحاً لدينا أنّ معرفة الله ورُسُله ودِينه ليس بوِسع العقل أن يستقلّ بإدراكها إدراكاً كاملاً، بل لا بدّ له مِن وحي وشريعة يكمّلان تشخيصه، فهو يستطيع أن يُثبت وجود خالقٍ عالِمٍ قدير، خلَقَ هذا الوجود، وإن لم يكن هناك وحي ورسل، ولكنّه يعجز عن تشخيص عالَم الآخِرة وحساب القبر والجزاء، وكثير من المسائل التي بشّر بها الرسل، كما أنّه عاجز عن تشخيص كثير مِن الأحكام والتكاليف، كوجوب الصوم ووجوب صلاة الظهر، وأنّها أربع ركعات، وإيضاح تفصيلات كثيرة، ليس بوِسعه أن يكتشفها مع عدم وجود بيان شرعي، أو ليس بوِسعه أن يدركها بصورةٍ مطلقة.

____________________

(١) العلاّمة الحِلّي / أنوار المَلَكوت في شرح الياقوت: ص ١٥.

٥٣

لذا فإنّ مدرسة أهل البيت انطلقت مِن مبدأ: أنّ الإيمان بالله قضية نظرية - أي تحتاج إلى استدلال - فلا بدّ مِن إقامة الدليل والبرهان، ولا يصحّ فيها تقليد الغير، كالأنبياء وغيرهم؛ لأنّ تصديق النبيّ يحتاج إلى دليلٍ للعقل البشري، فبعد الدليل نصدّق الرُسُل، ونؤمن بالله سبحانه، وأنّهم رُسُله حقّاً.

ونورد هنا ما سجّله العلاّمة الحلّي في كتابه (الباب الحادي عشر) في هذا المجال، قائلاً:

(وجوب معرفته تعالى بالدليل لا بالتقليد) (١) .

قال الشارح: (ولمّا وجبَت المعرفة، وجَب أن تكون بالنظَر والاستدلال) (٢) .

ثمّ عرّف النظَر، فقال: (والنظَر: هو ترتيب أُمورٍ معلومةٍ للتأدّي إلى أمرٍ آخَر) (٣).

ثمّ قال: (ولا يجوز معرفة الله تعالى بالتقليد) (٤).

وقد مرَّ علينا في نظرية المعرفة، كيف يُولَد الإنسان صفحةً بيضاء خاليةً مِن المعارف والعلوم، فيتدرّج الإنسان مِن معرفة الحسّي الجزئي إلى الكلّي المجرّد، ثمّ تتّسع آفاقه، وينطلق مِن الأوّليّات البسيطة؛ ليبرهن على القضايا الكبرى والمعقّدة، كقضية الإيمان بالله تعالى وصفاته بطريقةٍ عقلية، ويصدّق بمعجزة الرُسل، فيذعن لِما جاؤوا به عن الله سبحانه؛ لذا جاء الخِطاب الإلهي في القرآن الكريم داعياً إلى التأمّل في خلْق السماوات والأرض، وفي النفْس البشرية، وفي عوالم الطبيعة؛ للوصول إلى تصديق الأنبياء، والإيمان بالله تعالى:

____________________

(١) المقداد السيوري / شرح الحادي عشر: ص ٣ - ٤.

(٢) المصدر السابق: ص ٤.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المصدر السابق.

٥٤

( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ ) (١).

وهكذا نصل إلى أنّ الإيمان بالله قضية برهانية استدلالية، يجب على كلّ فردٍ أن يمارسها بأيّ مستوىً مِن المستوَيات الموصِلة إلى النتيجة، فهي واجب عَيني، وليس واجباً كفائياً؛ لذلك قال المقداد السيوري - شارح الباب الحادي عشر للعلاّمة الحلّي - بعد أن قسّم الواجب على قسمين: عيني وكفائي، قال: (والمعرفة مِن القِسم الأوّل) (٢) .

ولذلك قال العلاّمة في حديثه: (يجب على عامّة المكلَّفين) (٣).

وتحدّث الشيخ المفيد عن طريق العِلم بالله تعالى، فسجّل لنا الأُسُس المنهجية لرحلة البحث عن الإيمان بالله سبحانه، وحصول اليقين به، فقال (رحمه الله): (أقول إنّ العِلم بالله (عزّ وجلّ)، وبأنبيائه، وبصحّة دِينه الذي ارتضاه، وكلِّ شيءٍ لا تدرَك حقيقته بالحواسّ، ولا يكون المعرفة قائمةً به في البداية، وإنّما يحصل بضرْبٍ مِن القياس، لا يصحّ أن يكون مِن جهة الاضطرار، ولا يحصل على الأحوال كلّها إلاّ مِن جهة الاكتساب، كما لا يصحّ العِلم بما طريقه الحواسّ مِن جهة القياس، ولا يحصل العِلم في حالٍ مِن الأحوال بما في البداية مِن جهة القياس، وهذا قد تقدّم وزِدنا فيه شرحاً هنا للبيان، وإليه يذهب جماعة البغداديين، ويخالف فيه البصريون مِن المعتزلة والمشبّهة وأهل القدر والإرجاء) (٤).

ويشرح هذا المنهج العقيدي في موضعٍ آخَر، فيقول: (إنّ المعرفة بالله تعالى

____________________

(١) سورة آل عمران: آية ١٩٠.

(٢) المقداد السيوري / شرح الباب الحادي عشر: ص ٦.

(٣) المصدر السابق: ص ٢.

(٤) الشيخ المفيد / أوائل المقالات: ص ١٠٣.

٥٥

اكتساب، وكذلك المعرفة بأنبيائه، وكلّ غائب، وأنّه لا يجوز الاضطرار إلى معرفة شيءٍ ممّا ذكرناه، وهو مذهب كثير مِن الإمامية والبغداديين مِن المعتزلة خاصّة، ويخالف فيه البصريون مِن المعتزلة والمجبّرة والحشوية مِن أصحاب الحديث) (١).

ويربط الشيخ المفيد بين العقل والشرع؛ لإكمال معارف الإنسان الإلهية، فيقول: (اتّفقت الإمامية على أنّ العقل يحتاج (محتاج) في عِلمه ونتائجه إلى السمع - أي إلى ما جاء به الرسول - وأنّ العقل غير منفكٍّ عن سمعٍ ينبّه الغافل، على كيفية الاستدلال، وأنّه لا بدّ في أوّل التكليف وابتدائه في العالَم، مِن رسول) (٢).

فالعقل إذن يحتاج في اكتساب المعارف التفصيلية في قضية الإيمان بالله، وبيان التكاليف إلى السمْع، أي إلى الوحي والشرائع الإلهية.

وهكذا يكون منهج المعرفة العقيدي قائماً على العقل والشرع، والشرع هو الضابط والمصحّح، ومبدأ الاستدلال والتصديق هو العقل، ثمّ يتولّى الشرع بيان معارف العقيدة، وضبط مسار العقل في هذا المجال؛ لذا كان على العقل أنْ يُذعن لكلّ ما جاء به الشرع، بعد أن ثبَت لديه بالدليل والبرهان وجود الله سبحانه وصدْق الرُسُل.

وتأسيساً على ذلك انتقد الشيخ المفيد، بما ورَد عنه مِن نصٍّ تحت عنوان: (القول في أنّ العقل لا ينفكّ عن سمْعٍ، وأنّ التكليف لا يصحّ إلاّ بالرُسُل)، انتقد منهج المعتزلة والخوارج والزيديّة الذين: (زعموا بأنّ العقول تعمل بمجرّدها مِن السمْع والتوفيق...).

ويوضّح الشريف المرتضى منهج الإمامية في الإيمان بالله سبحانه، فيقول جواباً على سؤال ورَد عليه: (قد سأل يرحمه الله، عن الطريق إلى معرفة الله، بمجرّد العقل، أو مِن طريق السمْع (٣).

____________________

(١) المصدر السابق: ص ٦٦.

(٢) المصدر السابق: ص ٥٠ - ٥١.

(٣) السمْع: الرسالات الإلهية، وما يُبلَّغ، ويُسمَع مِن الأنبياء.

٥٦

الجواب: إنّ الطريق إلى معرفة الله تعالى هو العقل، ولا يجوز أن يكون السمْع؛ لأنّ السمْع لا يكون دليلاً على الشيء إلاّ بعد معرفة الله وحكمته، وأنّه لا يفعل القبيح، ولا يُصدّق الكذّابين، فكيف يدلّ السمْع على المعرفة) (١).

وهكذا اعتمد المنهج الإمامي طريق العقل للاستدلال على وجود الله سبحانه، وإثبات نبوّة الأنبياء (عليهم السلام)، بعد أن آمَن بأنّ التفكير يوصِل إلى العِلم.

وبهذا المنهج أعطى العقل قيمته العِلمية، ونقل الأبحاث إلى أرقى مستويات المعرفة، وشاده على أساس البرهان والاستدلال الموصِلَين إلى اليقين الذي لا يتزعزع، معطياً الشرع دَور الموجّه والقائد للعقل، بعد استدلاله على أنّ الشرع صادر عن الخالق العليم.

وإذا كانت هذه آراء فريقٍ مِن العلماء الذين ساهموا في تأسيس منهج التفكير، وتثبيت معالِم نظرية المعرفة في المدرسة الإمامية، فإنّنا نجد الفكر الإسلامي في هذه المدرسة، قد بلَغَ مرحلته العُليا وصيغته المنظَّرة على يد الفقيه الفيلسوف الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر (قدّس سرّه)، في تنظيره لنظرية المعرفة التي شيّدها في كتابه الفريد (الأُسُس المنطقية للاستقراء). فقد بنى الاستدلال في نظرية المعرفة على منهجين هما:

١ - المنهج الاستنباطي.

٢ - المنهج الاستقرائي.

ثمّ فسّر الدليل الاستقرائي على أساس نظرية الاحتمال، واعتبر هذه النظرية نظريةً عامّةً للاستدلال على قضايا المعرفة جميعها، الطبيعية التجريبية، والإلهية، والرياضية، وغيرها.

____________________

(١) رسائل الشريف المرتضى / المجموعة الأُولى، المسألة التاسعة: ص ١٢٧.

٥٧

وفي ذلك كتَب يقول: (يقسّم الاستدلال الذي يمارسه الفكر البشري عادةً إلى قسمين رئيسيين، أحدهما: الاستنباط، والآخَر: الاستقراء. ولكلٍّ مِن الدليل الاستنباطي، والدليل الاستقرائي منهجه الخاصّ وطريقه المتميّز.

ونريد بالاستنباط: كلّ استدلالٍ لا تكبّر نتيجته المقدّمات التي يكون منها ذلك الاستدلال، ففي كلّ دليلٍ استنباطيٍّ تجيء النتيجة دائماً مساوية أو أصغر مِن مقدّماتها...

فيقال مثلاً: محمّد إنسان، وكلّ إنسان يموت، محمّد يموت، ويقال أيضاً: الحيوان إمّا صامت وإمّا ناطق، والصامت يموت والناطق يمـوت، فالحيوان يموت.

ففي قولنا الأوّل استنتجنا أنّ محمّداً يموت بطريقةٍ استنباطية، وهذه النتيجة أصغر مِن مقدّماتها؛ لأنّها تخصّ فرداً مِن الإنسان وهو محمّد، بينما المقدّمة القائلة: كلّ إنسانٍ يموت، تشمل الأفراد جميعاً.

وبذلك يتّخذ التفكير في هذا الاستدلال طريقه مِن العامّ إلى الخاصّ. فهو يسير مِن الكلّي إلى الفرد، ومِن المبدأ العامّ إلى التطبيقات الخاصّة.

ويطلق المنطق الأرسطي على الطريقة التي انتهجها الدليل الاستنباطي في هذا المثال اسم القياس، ويعتبِر الطريقة القياسية هي الصورة النموذجية للدليل الاستنباطي.

ونريد بالاستقراء: كلّ استدلالٍ تجيء النتيجة فيه أكبر مِن المقدّمات التي ساهمت في تكوين هذا الاستدلال، فيقال مثلاً: هذه القطعة مِن الحديد تتمدّد بالحرارة، وتلك تتمدّد بالحرارة، وهذه القطعة الثالثة تتمدّد بالحرارة أيضاً، إذن كلّ حديدٍ يتمدّد بالحرارة.

٥٨

هذه النتيجة أكبر مِن المقدّمات؛ لأنّ المقدّمة لمْ تتناول إلاّ كمّية محدودة مِن قِطع الحديد: ثلاثة أو أربعة أو ملايين، بينما النتيجة تناولت كلّ حديدٍ، وحكَمت أنّه يتمدّد بالحرارة؛ وبذلك شملت القِطع الحديدية التي لمْ تدخل في المقدّمات، ولمْ يجرِ عليها الفحص).

ويخلص الشهيد الصدر إلى القول بأنّ: (السَير الفكري في الدليل الاستقرائي معاكس للسَير في الدليل الاستنباطي الذي يصطنع الطريقة القياسيـة، فبينما يسير الدليل الاستنباطي - وفْق الطريقة القياسية - مِن العامّ إلى الخاصّ عادةً، يسير الدليل الاستقرائي - خلافاً لذلك - مِن الخاصّ إلى العامّ) (١) .

ثمّ يفسّر الشهيد الصدر (قدّس سرّه) الدليل الاستقرائي، على أساس نظرية الاحتمال، التي تقوم على أساس تراكم الاحتمالات، والوصول إلى اليقين المعرفي عن هذا الطريق.

وبعد ذلك يوظّف هذه النظرية - نظريّة الاستقراء - التي تقوم في مرحلةٍ منها على أساس الاستدلال الاستنباطي - كما أوضح ذلك - يوظّفها في الاستدلال على وجود الله سبحانه، ويعتبرها صادقةً ومنطقيةً في مجال الطبيعيات والمعارف الإلهية، كما هي صادقة ومنطقية في مجال الطبيعيات والمعارف الرياضية وغيرها.

وفي ذلك كتَب يقول: (إنّ الأُسس المنطقية التي تقوم عليها كلّ الاستدلالات العِلمية المستمدّة مِن الملاحظة والتجربة، هي نفْس الأُسس المنطقية التي يقوم عليها الاستدلال على إثبات الصانع المدبّر لهذا العالم، عن طريق ما يتّصف به العالَم مِن مظاهر الحكمة والتدبير، فإنّ الاستدلال كأيّ استدلالٍ عِلميٍّ آخَر، استقرائي بطبيعته

____________________

(١) المجموعة الكاملة لمؤلّفات السيّد الشهيد الصدر / الأُسس المنطقية للاستقراء: ص ٦.

٥٩

وتطبيق للطريقة العامّة التي حدّدناها للدليل الاستقرائي في كِلتا مرحلتيه (*) ، فالإنسان بين أمرين: فهو إمّا أن يرفض الاستدلال العِلمي ككلّ، وإمّا أن يقبل الاستدلال العِلمي، ويعطي للاستدلال الاستقرائي على إثبات الصانع نفْس القيمة التي يمنحها للاستدلال العِلمي.

وهكذا نبرهن على أساس أنّ العِلم والإيمان مرتبطان في أساسهما المنطقي) (١) .

وهكذا ينظّم الفكر الإمامي منهج البحث والتفكير في العلوم والمعارف جميعها، بما فيها إثبات الخالق والمعارف الغيبيّة التي خفيَت على الحواسّ البشرية.

ويكون بهذا قد ثبَّت منهجاً قرآنياً للبحث والتفكير، منهجاً متّسماً بالأصالة والخصوبة والدقّة العِلمية.

____________________

(*) يمرّ الاستقراء، كما يوضّحه الشهيد الصدر (قدّس سرّه) بمرحلتين هما:

١ - مرحلة التوالد الموضوعي للفكر، أو المرحلة الاستنباطية مِن الدليل الاستقرائي، ويقوم على أساس التلازم الموضوعي بين المعرفة المولِّدة، والجانب الموضوعي مِن المعرفة المتولّدة.

٢ - مرحلة التوالد الذاتي، وهذه النظرية تعني إمكانية نشوء معرفة، وتولّد عِلمٍ على أساس معرفةٍ أخرى، دون أيّ تلازم بين موضوعَي المعرفتين، وإنّما يقوم التوالد على أساس التلازم بين نفْس المعرفتين. ووفْق هذا المنهج استنتج الفكر البشري مِن معرفته بعالَم المخلوقات والمعاجز والدلائل المختلفة، استنتج المعرفة بوجود الله سبحانه؛ لوجود التلازم بين المعرفتين.

(١) المجموعة الكاملة لمؤلّفات السيّد الشهيد الصدر / الأُسس المنطقية للاستقراء: ص ٤٦٩.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

( الشوقيات ) تعطينا أوضح الصور عن شاعريته فهو صاحب نهج البردة التي مطلعها:

ريم على القاع بين البان والعلم

أحلّ سفك دمي في الأشهر الحرم

وصاحب الهمزية النبوية التي مطلعها:

ولد الهدي فالكائنات ضياء

وفم الزمان تبسم وثناء

وصاحب ذكري المولد التي مطلعها:

سلوا قلبي غداة سلا وتابا

لعل على الجمال له عتابا

وهو الذي يقول في مطلع احدى روائعه:

رمضان ولّى هاتها يا ساقي

مشتاقة تهفو إلى مشتاق

وله:

حفّ كأسها الحبب

فهي فضة ذهب

وهو القائل في مطلع قصيدة تكريم:

قم للمعلم وفّه التبجيلا

كاد المعلم أن يكون رسولا

فنراه محلّقاً بكل ألوان الشعر وضروبه وهو مسلم مقتنع بالإسلام ومتأثر به تأثراً كلياً هتف بأعلى صوته وردد أنغامه وحرك الأحاسيس وأثار الشعور وملك العواطف وهاك قطع ينقد بها المجتمع:

رأيت قومي يذم بعض

بعضاً إذا غابت الوجوه

وان تلاقوا ففي تصاف

كأن هذا لذا أخوه

كريمهم لا يسدّ سمعاً

ووغدهم لا يسدّ فوه

وكلهم عاقل حكيم

وغيره الجاهل السفيه

وذا ابن من مات عن كثير

وذا ابن مَن قد سما أبوه

وذا بإسلامه مدلٌ

وذا بعصيانه يتيه

١٤١

وكلهم قائم بمبدأ

ومبدأ الكل ضيّعوه

فمذ بدا لي أن قد تساوى

في ذلك الغرّ والنبيه

وليس من بينهم نزبه

ولا أنا الواحد النزيه

جعلت هذا مرآة هذا

أنظر فيه ولا أفوه

وشوقي - كما قال مترجموه - عاش في نعمة وترف وسعة في الحال والمال لما كان يغدق عليه الامراء والأثريا فجاء شاعر من شعراء لبنان وهو الشيخ نجيب مروة يقول:

ولو أني جلست مكان شوقي

لفاض الشعر من تحتي وفوقي

وهي أُمنية شاعر والتمني رأس مال المفلس.

وشوقي يجلّ أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وأي مسلم لا يحبهم وهل تقبل الأعمال بغير حبهم ومودتهم التي هي فريضة من الله ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ) فتراه في ثنايا أشعاره يتفجع لما أصابهم ويتفجر ألماً لرزاياهم فتراه في منظومته الرائعة ( دول العرب وعظماء الإسلام ) يقول:

هذا الحسين دمه بكربلا

روّى الثرى لما جرى على ظما

واستشهد الأقمار أهل بيته

يهوون في الترب فرادى وثُنا

ابن زياد ويزيدُ بغيا

والله والأيام حربُ مَن بغى

لولا يزيد بادئاً ما شربت

مروانُ بالكاس التي بها سقى

ويقول في رواية ( مجنون ليلى ): كان الحسين بن علي كعبة القلوب والأبصار في جزيرة العرب بعد أن قتل أبوه علي ومات أخوه الحسن. وكذلك ظل الحسين قائماً في نفوس الناس هناك صورة مقدسة لبداوة الإسلام تستمد أنضر ألوانها من صلته القريبة بجده رسول الله وبنوّته لرجل كان أشدّ الناس زهداً واستصغاراً لدنياه، وكذلك ظهرت بلاد العرب وقلبها يخفق بإسم الحسين.

١٤٢

ويقول أيضاً في مسرحيته ( مجنون ليلى ):

حنانيك قيسُ إلى مَ الذهول

أفق ساعة من غواشي الخبَل

صهيلُ البغال وصوتُ الحداء

ورنة ركب وراء الجبل

وحاد يسوق ركاب الحسين

يهزّ الجبال إذا ما ارتجل

فقم قيسُ واضرع مع الضارعين

وأنزل بجنب الحسين الأمل

ويطيب له أن يربط الحوادث بيوم الحسين الذي لا يغيب عن خاطره فتراه في رثاء الزعيم مصطفى كامل باشا مؤسس الحزب الوطني والمتوفى سنة 1908 م. يقول:

المشرقان عليك ينتحبان

قاصيهما في مأتم والداني

ومنها:

يُزجون نعشك في السناء وفي السنا

فكأنما في نعشك القمران

وكأنه نعش الحسين بكربلا

يختال بين بكىً وبين حنان

ويقول في اخرى عنوانها ( الحرية الحمراء ):

في مهرجان الحق أو يوم الدم

مهج من الشهداء لم تتكلم

يبدو عليها نور نور دماتها

كدم الحسين على هلال محرم

يوم الجهاد بها كصدر نهاره

متمايلُ الأعطاف مبتسمُ الفم

وهناك عبارات لا يطلقها إلا المتشيع لأهل البيت تجري على لسانه وقلمه كقوله: رضيع الحسينعليه‌السلام ، فان كلمةعليه‌السلام من متداولات شيعة أهل البيت وقوله:

ما الذي نفرّ عني الضبيات العامرية

ألأني أنا شيعيٌ وليلى أموية

اختلاف الرأي لا يفسد للود قضيّه

وعندما يخاطب الرسول الأعظم يطيب له أن يقول:

ابا الزهراء قد جاوزت قدري

بمدحك بيد أن لي انتسابا

وعندما يمرّ بالخلفاء الراشدين ويأتي الدور للامام علي يقول:

العمران يرويان عنه

والحسنان نسختان منه

١٤٣

الشيخ محمد حسين الحُلّي

المتوفى 1352

خليلي هل من وقفة لكما معي

على جدث أسقيه صيّب أدمعي

ليروى الثرى منه بفيض مدامعي

لأن الحيا الوكاف لم يك مقنعي

لأن الحيا يهمي ويقلع تارة

وإني لعظم الخطب ما جفّ مدمعي

خليليّ هبّا فالرقاد محرم

على كل ذي قلب من الوجد موجع

هلُما معي نعقر هناك قلوبنا

إذا الحزن أبقاها ولم تتقطع

هلما نقم بالغاضرية مأتما

لخير كريم بالسيوف موزع

فتىً أدركت فيه علوج امية

مراماً فألقته ببيداء بلقع

وكيف يسام الضيم مَن جده ارتقى

إلى العرش حتى حل أشرف موضع

فتى حلّقت فيه قوادم عزه

لاعلى ذرى المجد الأثيل وأرفع

ولما دعته للكفاح أجابها

بأبيض مشحوذ وأسمر مشرع

وآساد حرب غابها أجم القنا

وكل كميٍ رابط الجأش أروع

يصول بماضي الحدّ غير مكهّمٍ

وفي غير درع الصبر لم يتدرع

إذا ألقح الهيجاء حتفاً برمحه

فماضي الشبا منه يقول لها ضعي

وإن أبطأت عنه النفوس إجابة

فحدّ سنان الرمح قال لها اسرعي

إلى أن دعاهم ربهم للقائه

فكانوا إلى لقياه أسرعَ مَن دُعي

وخروا لوجه الله تلقا وجوههم

فمن سجّد فوق الصعيد وركع

وكم ذات خدر سجفتها حماتها

بسمر قنا خطية وبلمّع

١٤٤

أماطت يد الأعداء عنها سجافها

فاضحت بلا سجف لديها ممنّع

لقد نهبت كفّ المصاب فؤادها

وأيدي عداها كل برد وبرقع

فلم تستطع عن ناظريها تستراً

بغير أكفٍّ قاصرات وأذرع

وقد فزعت مذ راعها الخطب دهشة

وأوهى القوى منها إلى خير مفزع

فلما رأته بالعراء مجدلاً

عفيراً على البوغاء غير مشيّع

دنت منه والأحزان تمضغ قلبها

وحتّت حنين الواله المتفجع

عليّ عزيز أن تموت على ظمأ

وتشرب في كأس من الحتف مترع

تلاكُ بأشداق الرماح وتغتدي

لواردة الأسياف أعذب مكرع

وفي آخرها:

بني غالب هبّوا لأخذ تراثكم

فلم يُجدكم قرع لناب بأصبع

امثل حسين حجة الله في الورى

ثلاث ليال بالعرا لم يشيّع

ومثل بنات الوحي تسرى بها العدى

إلى الشام من دعي إلى دعي

الشيخ محمد حسين ابن الشيخ حمد الحلي وربما يعرف ب‍ ( الجباوي ) احدى محلات الحلة، عالم معروف يشهد عارفوه له بالفضل والتضلّع. ولد في الحلة سنة 1285 ه‍ ودرس على جملة من أفاضلها منهم الشيخ محمدبن نظر علي وفي سنة 1303 غادر الحلة مهاجراً إلى النجف لاكمال الدراسة وأقام فيها أكثر من ثلاثين سنة فحضر عند الشيخ آية الله الشيخ حسن المامقاني والفاضل الشربياني ثم لازم العالم الشهير الشيخ علي رفيش فكان من أول أنصاره والملازمين له أثناء مرجعيته ثم بعد انكفاف بصره، وفي خلال ذلك تخرّج على يده جملة من الطلاب الروحيين إلى أن كانت سنة 1337 ه‍. عاد إلى مسقط رأسه الحلة بطلب من وجهائها وأقام فيها مرجعاً دينياً محترم الجانب تستفيد الناس من

١٤٥

معارفه وكمالاته وفي آخر أيامه مرض ولازم الفراش حتى الوفاة، ذكره الشيخ النقدي في ( الروض النضير ) فقال: عالم مشهور في الفضل والكمال والمعرفة وله اليد الطولى في صناعتي النظم والنثر والنصيب الوافر في علمي الفصاحة والبلاغة. توفي في الحلة عام 1352 ه‍. ونقل جثمانه إلى النجف ودفن في الصحن الشريف ورثاه جمع من العشراء منهم الشيخ ناجي خميّس.

كتب وألّف في الفقه والأصول وكتب رحلته إلى الحج ورسالة في التجويد والقراءات وجملة من تقريرات أستاذته العلماء الأعلام ولم ينشر له سوى ( الرحلة الحسينية ) وهي التي روى فيها رحلته مع جماعة من الفضلاء إلى زيارة الإمام الحسينعليه‌السلام سنة 1321 ه‍. ومنها يظهر ذوقه الأدبي ورقة طبعه وأريحيته، طبعت هذه الرحلة بمطبعة ( الحبل المتين ) بالنجف سنة 1329 ه‍. وختمها بالقصيدة التي هي في صدر الترجمة.

١٤٦

الشيخ جواد البلاغي

المتوفى 1352

شعبان كم نعمت عين الهدى فيه

لولا المحرم يأتي في دواهيه

وأشرق الدين من أنوار ثالثه

لولا تغشاه عاشور بداجيه

وارتاح بالسبط قلب المصطفى فرحاً

لو لم يرعه بذكر الطف ناعيه

رآه خير وليد يستجار به

وخير مستشهد في الدين يحميه

قرت به عين خير الرسل ثم بكت

فهل نهنيه فيه أو نعزيه

ان تبتهج فاطم في يوم مولده

فليلة الطف أمست من بواكيه

أو ينتعش قلبها من نور طلعته

فقد اديل بقاني الدمع جاريه

فقلبها لم تطل فيه مسرّته

حتى تنازع تبريح الجوى فيه

بشرىً أبا حسن في يوم مولده

ويوم أرعب قلب الموت ماضيه

ويوم دارت على حرب دوائره

لولا القضاء وما أوحاه داعيه

ويوم أضرم جو الطف نار وغىً

لو لم يخر صريعاً في محانيه

يا شمس أوج العلى ما خلت عن كثب

تمسى وأنت عفير الجسم ثاويه

فيا لجسم على صدر النبي ربي

توزعته المواضي من أعاديه

ويا لرأس جلال الله توجّه

به ينوء من المياد عاليه

وصدر قدس حوى أسرار بارئه

يكون للرجس شمرمن مراقيه

١٤٧

ومنحر كان للهادي مقبله

أضحى يقبله شمر بماضيه

يا ثائراً للهدى والدين منتصراً

هذي أُمية نالت ثارها فيه

أنى وشيخك ساقي الحوض حيدرة

تقضي وأنت لهيف القلب ضاميه

ويا إماماً له الدين الحنيف لجا

لوذاً فقمت فدتك النفس تفديه

أعظم بيومك هذا في مسرته

ويوم عاشور فيما نالكم فيه

يا من به تفخر السبع العلى وله

إمامة الحق من إحدى معاليه

أعظم بمثواك في وادي الطفوف علاً

يا حبذا ذلك المثوى وواديه

له حنيني ومنه لوعتي وإلى

مغناه شوقي واعلاق الهوى فيه

الشيخ جواد أو الشيخ محمد جواد ابن الشيخ حسن ابن الشيخ طالب البلاغي النجفي ينتهي نسبه إلى ربيعة. مولده ووفاته في النجف ولد سنة 1285 ه‍. وتوفي سنة 1352 ه‍. ليلة الاثنين الثاني والعشرين من شعبان في النجف الأشرف ودفن فيها في المقبرة المقابلة لباب المراد.

وآل البلاغي بيت علم وفضل وأدب، كان المترجم له نابغة من نوابغ العصور وجهاده بقلمه ولسانه يذكر فيشكر، له عشرات المؤلفات وكلها قيّمة ذات فائدة لا زالت تتلاقفها الأيدي ويعتز بها أهل العلم اذكره يحضر مجالس العلم فاذا اشتد الجدال حول مسألة من مسائل العلم كان يقول: عندي بيان أرجو أن تسمحوا لي باستماعه فإني مريض وإذا رفعت صوتي أخاف أن أقذف من صدري دماً.

كانت تأتيه المسائل من بلاد الغرب فيجيب عنها. وبين أيدينا من مؤلفاته: الرحلة المدرسية، الهدى إلى دين المصطفى جزآن، تفسير القرآن، أنوار الهدى، رسالة التوحيد والتثليث، البلاغ المبين رسالة في الرد على الوهابية.

تعلم العبرية وأتقنها خطاً وقراءة ونطقاً حتى تمكن من المقارنة بين اصولها وبين المترجم إلى اللغة العربية فأظهر كثيراً من مواقع الاختلاف في الترجمة

١٤٨

التي قصد بها التضليل. كانت ترد عليه الرسائل والأسئلة باللغة الانجليزية فشرع يتعلمها لولا أن يفاجأه الأجل المحتوم. كان تحصيله ودراسته على أعلام عصره أمثال الملا كاظم الخراساني والشيخ اغا رضا الهمداني ومن تراثه الأدبي قصيدته التي عارض بها الرئيس ابن سينا في النفس.

نعُمت بأن جاءت بخلق المبدع

ثم السعادة أن يقول لها ارجعي

خلقت لأنفع غاية يا ليتها

تبعت سبيل الرشد نحو الأنفع

الله ( سواها وألهمها ) فهل

تنحو السبيل إلى المحلّ الأرفع

ورائعته التي شارك بها في الحلبة الأدبية عن الحجة المهدي صاحب العصر والزمان التي أثبتها في كتابه الفقهي(1) وأثبتها السيد الأمين في ترجمته في الأعيان. ترجم له صاحب الحصون المنيعة والشيخ اغا بزرك الطهراني في ( نقباء البشر ) والشيخ السماوي في ( الطليعة ) وله مراسلات شعرية مع الشيخ توفيق البلاغيرحمه‌الله ورثاء للسيد محمد سعيد الحبوبي والكثير من شعره يخص أهل البيت ومنه نوحيته الشهيرة التي يرددها الخطباء في شهر المحرم ومطلعها:

يا تريب الخد في رمضا الطفوف

ليتني دونك نهباً للسيوف

وله من الشعر في ميلاد الحجة المهدي المولود ليلة النصف من شعبان سنة 1256 ه‍. وأولها:

حي شعبان فهو شهر سعودي

وعد وصلي فيه وليلة عيدي

ترجم له الزركلي في ( الاعلام ) وعدد بعض مؤلفاته وقال: وله مشاركة في حركة العراق الاستقلالية وثورة عام 1920 م، انتهى. أقول وآل البلاغي من أقدم بيوت النجف وأعرقها في العلم والفضل والأدب، أنجبت هذه الأسرة عدة من رجال العلم والدين وسبق أن ترجمنا في هذه الموسوعة للشيخ محمد علي البلاغي المتوفى سنة 1000 ه‍. ويقول الشيخ اغا بزرك الطهراني في نقباء البشر أن المترجم له ولد سنة 1282 كما أخبره صاحب الترجمة نفسه بمولده

__________________

1 - وهو تعليقة على مباحث البيع من مكاسب الشيخ الانصاري.

١٤٩

وحيث أن الشيخ الطهراني من أخدانه واخوانه وكانت تجمعهما وحدة البلد في سامراء أولاً عند استاذهما المغفور له الميرزا محمد تقي الشيرازي ثم النجف ثانياً فقد ألّم بترجمته إلمامة كافية وافية كما كتب عنه الكثير من الباحثين ونشرت المجلات والصحف عن جهاده ومؤلفاته وأكبروا منتوجه العلمي ودفاعه عن الإسلام ومواقفه الصلبة بوجه المادية ودعاتها والطبيعيين وآرائهم.

وشيخنا البلاغي كان على جانب من عظيم من الخلق الاسلامي الصحيح فهو لا يماري ولا يداهن ولا تلين له قناة في سبيل الحق، وكان مع علوّ نفسه متواضعاً يكره السمعة ويشنأ الرفعة، وفي أغلب مؤلفاته يغفل اسمه الصريح فكانت الرسائل تأتيه باسم ( كاتب الهدى النجفي ) ومن العجيب أنه نشر جملة من الرسائل والمقالات باسم غيره، ومؤلفاته تزيد على الثلاثين، ترجم بعضها إلى الفارسية والانجليزية، وقد ذكر الشيخ اغا بزرك في ( الذريعة إلى تصانيف الشيعة ) أكثر هذه الكتب.

ولا زالت أندية النجف تتحدث عن قوة إيمانه وصلابة دينه وشدة ورعه ومنها موقفه في مجلس عقد في النجف ويقتصر على القادة أمثال الشيخ محمد جواد الجواهري والشيخ عبد الكريم الجزائري وفي مقدمتهم الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاءقدس‌سره كما حضر المرحوم السيد محمد علي بحر العلوم والشيخ عبد الرضا آل الشيخ راضي قدس الله أرواحهم وذلك حول الدخول في وظائف الدولة ونظام المدارس الرسمية فكان صوته المجلّي ينبعث عن قلب مكلوم مطالباً باصلاح المدارس والاشراف عليها والتركيز على الأخلاق قبل العلم. انطفأ ذلك المصباح ليلة الاثنين 22 شعبان سنة 1352 ه‍. وكان لنعيه أثر عظيم في العالم الإسلامي وعقدت له مجالس التأبين في البلاد الاسلامية وفي النجف خاصة في جامع الهندي وأنشدت القصائد الرنانة وقد دفن في احدى غرف الصحن الحيدري من الجهة الجنوبية وفي مقدمة القصائد قصيدة المرحوم السيد رضا الهندي وأولها:

إن تمس في ظلم اللحود موسدا

فلقد أضأت بهن ( أنوار الهدى )

١٥٠

السيد حسن بحر العلوم

المتوفى 1355

شطر بيتين في مدح الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام فقال:

( قل لمن والى علي المرتضى )

نلت في الخلد رفيع الدرجات

أيها المذنب إن لذت به

( لا تخافنّ عظيم السيئات )

( حبه الاكسير لو ذرّ على )

رمم حلّت بها روح الحياة

وإذا ما شملت ألطافه

( سيئات الخلق صارت حسنات )

ثم ذيلها برثاء الحسينعليه‌السلام ومدح الإمام علي بن أبي طالب (ع):

حبّه فرض على كل الورى

وهو في الحشر أمان ونجاة

كل من والاه ينجو في غد

من لظى النار وهول العقبات

فهو الغيث عطاءً وهبات

وهو الليث وثوباً وثبات

وهو نور الشمس في رأد الضحى

وهو نبراس الهدى في الظلمات

كم بوحي الذكر في تفضيله

صدعت آيات فضل بيّنات

آية التصديق من آياته

حين أعطى في الركوع الصدقات

فهو بالنص وصي المصطفى

وأبو الغر الميامين الهداة

ثم يذكر مصاب الحسين (ع) بقوله:

لهف نفسي حينما استسقاهم

جرعوه من أنابيب القناة

خرّ للموت على وجه الثرى

عينه ترعى النساء الخفرات

١٥١

ثم رضّوا حنقاً صدر الذي

فيه أسرار الهدى منطويات

بأبي ملقى ثلاثاً بالعرى

عارياً تسقي عليه الذاريات

ورضيع يتلظى عطشا

قد رَمى منحره أشقى الرماة

لهف نفسي لربيبات الابا

أصبحت بعد حماها ثاكلات

هجم القوم عليهن الخبا

فغدت بين الأعادي حاسرات

السيد حسن ابن السيد ابراهيم بن الحسين بن الرضا ابن السيد مهدي الشهير ببحر العلوم أديب معروف وعالم جليل ولد في النجف عام 1282 ونشأ على والده المشهور بأدبه وفضله وعلمه وكماله، ومن يشابه أبه فما ظلم، لقد ورت أكثر سجايا أبيه من عزة وإباء وعفة وورع حضر على علماء النجف أمثال شيخ الشريعة الأصفهاني والسيد محمد كاظم اليزدي ذلك إلى جنب براعته الأدبية وديوانه يعطينا صورة عن نبله وفضله وبراعته في التاريخ مشهود بها. ترجم له الخاقاني في شعراء الغري وذكر ألواناً من شعره من مديح ورثاء وتهان وتواريخ. توفي بالنجف 19 جمادى الاولى سنة 1355 ه‍. ودفن بمقبرة الاسرة وهو والد العلامة التقي الورع السيد محمد تقي بحر العلوم والعلامة الجليل البحاثة السيد محمد صادق بحر العلوم.

١٥٢

الحاج محمد الخليلي

المتوفى 1355

يا رب عوّضتَ الحسين

بكربلا عما أصابه

إن الذي من تحت قبته

دعاك له استجابه

يممت مرقده لما

أيقنت باب الله بابه

صُبّت على قلبي الهموم

وناظري أبدى انسكابه

وتمثّلت لي كربلا

وحسين ما بين الصحابه

مثل الأضاحي في الثرى

سلب العدى حتى ثيابه

مالي دعوتُ بها فلم

أرَ منك يا رب الإجابه

والقلب مني لاهب

هلا تسكّن لي التهابه

الحاج محمد ابن الحاج ميرزا حسين الخليلي، عالم ورع وأديب شاعر ولد في النجف ونشأ بها على أبيه ودرس المقدمات على اساتذة مشهورين فنال حظوة كبيرة من العلم واتصل بحلقة الامام الخراساني مضافاً إلى دراسته عند والده العالم الجليل حتى حصل على إجازة اجتهاد من جملة من اعلام عصره واشتهر بالزهد والورع حتى خلف أباه في إمامة الصلاة بالناس واءتمّ به الأتقياء والأولياء والصلحاء ثم انصرف عن ذلك لأنه خاف الرياء والزهو وعكف على الطاعة في زوايا المساجد وحرم الامام أمير المؤمنين (ع) وحفظ القرآن من كثرة

١٥٣

تلاوته له، وإلى جنب ذلك فهو مرح إلى أبعد حدود المرح ولا يكاد جليسه يملّ مجلسه ألّف في الفقه كتاب الطهارة، والخمس، وغريب القرآن رتّبه على حروف المعجم وبناه على ثلاثة أعمدة: الأول اسماء السور، الثاني الكلمات العربية، الثالث التفسير المستقى من أشهر التفاسير.

نظم الشعر في صباه وتطرق إلى فنونه وأغراضه وأكثر من النظم في أهل البيتعليهم‌السلام فمن قوله في الإمام الحسينعليه‌السلام :

هل بعد ما طرد المشيب شبابي

أصبو لذكر كواعب أتراب

وأروح مرتاحاً بأندية الهوى

ثملاً كأبناء الهوى متصابي

وتئنّ نفسي للربوع وقد غدا

بيت النبوة مقفر الأطناب

بيت لآل محمد في كربلا

قد قام بين أباطح وروابي

وقال متوسلاً بالعباس بن عليعليهما‌السلام :

أبا الفضل هل للفضل غيرك يرتجى

وهل لذوي الحاجات غيرك ملتجى

قصدتك من أهلي وأهلي لك الفدا

وهل يقصد المحتاج إلا ذوي الحجى

وقال يعاتب بعض أصدقائه في رسالة أرسلها إلى النجف:

لي بالغري أحبّةٌ

ما أنصفوني بالمحبه

أخذوا الفؤاد وخلّفوا

جثمانه في دار غربه

يا دهر ما أنصفتني

كلفتني الأهوال صعبه

حملتني بُعد الديار

وبُعد من أشتاق قربه

قسماً بأيام مضت

في وصل مَن أهواه عذبه

لم يحلُ لي غير الغري

وغير أندية الاحبه

أوّاه هل لي للحمى

من بعد بُعد الدار أويه

لأقبّل الأعتاب من

مولى الورى وأشمّ تربه

١٥٤

حرمٌ ملائكة السما

لطوافها اتخذته كعبه

وبه نشاوى العارفون

قد احتسوا كأس المحبه

وله مستنهضاً أبناء يعرب:

بني يعرب أنتم أقمتم بعزكم

قواعد دين المصطفى أول الأمر

وشيدتم منه مبانيه بالضبا

وسجفتموه بالمثقفة السمر

يهون عليكم ما اشدتم بناءه

تهدده بالهدم رغما يد الكفر

وله راثيا ولده

فمن مخبري عن نبعة قد غرستها

بقلبي حتي اينعت جذها القضا

ومن مخبري عن فلذة من حشاشتي

برغمي قد حزت وما لي سوي الرضا

اريحانه الروح التي ان شممتها

وبي نزل الهم المبرح قوضا

ومصباح انسي ان علي تراكمت

حطوب بعيني سودت سعة الفضا

رحلت وقد خلفت بين جوانحي

لهيب جوي من دونه لهب الغضا

ورحت ولي قلب يقطعه الاسي

وطرف علي اقذي من الشوك غمضا

تمثلك الذكرى كأنك حاظرٌ

فانظر بدراً في الدياجر قد أضا

وقال من قصيدة:

شاقها الراح فجدّت في سراها

أملا تبلغ بالسير مناها

قرّبت كل بعيد شاسع

مذ غدت تذرع في البيد خطاها

قطعت قلب الفلا مذ واصلت

بالسرى سهل الفيافي برباها

يعملات ما جرت في حلبة

والصبا إلا الصبا ظلّ وراها

يا رعاها الله من سارية

كم رعت في سيرها من قد علاها

١٥٥

ويتخلص إلى ركب الإمام الحسينعليه‌السلام :

سادة كادت مصابيح الدجى

يهتدي فيها الذي في الغيّ تاها

وولاة الأمر في الخلق ومن

فرض الله على الخلق ولاها

غدرت فيهم بنو حرب وهم

أقرب الناس إلى المختار طاها

أخرجتهم عن مباني عزّهم

وبيوت طهّر الله فِناها

بالفيافي شتت شملهم

وعليهم ضيقت رحب فضاها

أنزلوهم كربلا حتى إذا

نزلوها منعوهم عذب ماها

بينهم والماء حالت ظلمة

من جموع عدّها لا يتناهى

توفي بالنجف ليلة الخميس 13 ذي الحجة سنة 1355 ه‍. ودفن بمقبرة والده رحمهما الله.

١٥٦

ملا علي الزاهر العوّامي

المتوفى 1355

قال يصف حالة الإمام الحسين (ع) عند فجيعته بأخيه العباس يوم عاشوراء:

أنست رزيتك الأطفال لهفتها

بعد الرجاء بأن تأتي وترويها

أراك يا بن أبي في الترب مُنجدلاً

عليك عين العلى تهمي أماقيها

هذا حسامك يشكو فقد حامله

إذ كنت فيه الردى للقوم تسقيها

وذا جوادك ينعى في الخيام وقد

أبكى بنات الهدى مَن ذا يسليها

شلّت يمين برت يمناك يا عضدي

وذي يسارك شل الله باريها

نامت عيون بني سفيان وافتقدت

طيب الكرى اعين كانت تراعيها(1)

الخطيب علي بن حسن بن محمد بن أحمد بن محسن الزاهر المتولد سنة 1298 ه‍. والمتوفى سنة 1355 ه‍. نائحة أهل البيت وداعيتهم وجاذب القلوب نحو واعيتهم فقد اشاد مؤسسة باسم ( الحسينية ) ولم تزل تعرف باسمه في ( العوامية ) نظم باللغتين: الفصحى والدارجة ومن قصائد قوله في مطلع حسينية نظمها من قلب قريح:

يا ليوث الحروب من آل طاها

أسرجوا الخيل يا ليوث وغاها

وديوانه المخطوط يضم جملة من أشعاره ..

__________________

1 - اعلام العوامية في القطيف.

١٥٧

الشيخ موسى العِصامي

المتوفى 1355

قال في قصيدة حسينية:

أحاطت به وبست الجهات

أحاط بها الخطر المرعبُ

فخيرها قبل حكم الضيا

ونقط الاسنة ما استصوبوا

فإما يعود إلى يثرب

ومن حيث جاء لها يطلب

واما الجبال وشعب الرمال

وظهر الفيافي لها يركب

واما يسير لبعض الثغور

يقيم بها مع من يصحب

فما رغبت منه في واحد

ولو أنصفت لم تكن ترغب

رأت منه قلّة أنصاره

فظنت بكثرتها ترعب

وسامته يخضع وهو الأبي

وأنى يقاد لها المصعب

فناجزها الحرب في فتية

لهم باللقا شهدت يعرب

بها ليل تحسب ان الردى

إذا جدّ ما بينها ملعب

لها الموت يحلو خلال الصفوف

وما مرّ من طعمه يعذب

سواء عليها الفنا والحياة

إذا استرجع التاج والمنصب

لهم دون مركزهم موقف

إلى الحشر ناديه يندب

أشادوا الهدى فوق تاج الأثير

ومبنى الضلال به خرّبوا

١٥٨

فما حزب طالوت ذو البيعتين

ولا أهل بدر وإن أنجبوا

ولا يوم احزابها يومهم

واحدٍ وما بعدها يعقب

ولا الجاهلية ذات الحروب

بحربهم حربها يحسب

بسبعين ألفاً خلال الوغى

تجول وأمدادها تلعب

رسوا كالجبال وهم واحد

وستين لكنهم ذرّب

أجالوا الوغى جولان الرحى

وللحشر نيرانها تلهب

سل الشام عنها وأهل العراق

فهل سلمت منه إذ تهرب

الشيخ موسى بن محسن بن علي بن حسين بن محمد بن علي بن حماد الشهير بالعصامي نسبة إلى بني عصام بطن من هوازن، لامعاً في عصره خطيب وشاعر، ولد في النجف الأشرف سنة 1305 ه‍. ونشأ بها يتعاهد تربيته أعمامه فدرس العربية والمنطق على أساتذة معروفين منهم السيد جواد القزويني كما درس البلاغة على العالم الجليل الشيخ يوسف الفقيه والشيخ عبد الرسول الحلبي والسيد حسين ابن السيد راضي القزويني.

ودرس الفقه والاصول على الشيخ عبد الكريم شرارة والشيخ صادق الحاج مسعود والشيخ المصلح الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، وحضر عند الشيخ حسين الدشتي فأخذ عنه علم الحساب والهندسة والكلام والحكمة واشتهر بين أخدانه بالفضل وعرفه جمهور الناس من مواقفه الخطابية إذ كان خطيباً جماهيرياً ومرشداً مصلحاً يخطب ويكتب ويعظ ويرشد أينما حل، ولكن مجتمعه مصاب بداء الأنانية وأمة كما قيل فيها: لا تعمل ولا تحب أن يعمل أحد، لذاك ناوأه الكثير ووقفوا في طريق اصلاحه حتى ودع الحياة بكربلاء في آخر يوم من شهر رمضان عام 1355 ه‍. ونقل جثمانه للنجف حيث دفن رحمه الله.

١٥٩

آثاره العلمية:

1 - منظومة في الإمامة تناهز الثمانمائة بيتاً.

2 - البراءة والولاية، بحث دقيق.

3 - تاريخ الثورة العراقية.

4 - الدعوة الحسينية وأثرها.

5 - الضالة المنشودة في الحياة.

6 - الهدى والاتحاد، أهداه إلى أبطال الدستور في الاستانة بتوسط الصدر الأعظم طلعت باشا.

7 - الدراية في تصحيح الرواية.

8 - بحث في الحجاب، وغيرها مما يزيد على العشرين مؤلفاً، وديوانه الحافل بمختلف المواضيع وطرق سائر الأبواب ومن مراسلاته قصيدته التي أرسلها للشيخ خزعل خان أمير المحمرة ومطلعها:

لك الهنا ولي الأفراح والطرب

مذ ساعفتني بك الأيام والأرب

فقل لساقي الطلى نحيّ الكؤوس وإن

انيط عني في راحاتها التعب

هذا لماك وهذا ثغرك الشنب

فما الحميا وما الأقداح والحبب

أعطاف قدك تصمي لا القنا السلب

وسهم عينيك لا نبعٌ ولا غرب

ووجهك الصبح لكن فاته وضحاً

وثغرك البرق لكن فاته الشنب

ويلاي لا منك يا ريم العذيب فمن

عينيّ جاء لقلبي في الهوى العطب

وكلها بهذه القوة والمتانة والرقة والسلاسة، ومن مشهور غرامياته قوله:

طاف بكاس المدام أغيد

من فضة والسلاف عسجد

وزفّها في الدجى عروساً

توجّها اللؤلؤ المنضد

تلهبت في يديه لكن

بوجنتيه السنا توقد

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390