التحول المذهبي‏

التحول المذهبي‏0%

التحول المذهبي‏ مؤلف:
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 374

التحول المذهبي‏

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: علاء الحسون
تصنيف: الصفحات: 374
المشاهدات: 131042
تحميل: 6230

توضيحات:

التحول المذهبي‏
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 374 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131042 / تحميل: 6230
الحجم الحجم الحجم
التحول المذهبي‏

التحول المذهبي‏

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

لذلك لم تُعرف حقيقة الكثير من المدارس الكلاميّة إلّا بعد فترة طويلة من انتهاء هذا الصراع.

ولكن هذا النموّ والظل والخفاء لبعض الفرق، قد جعل قطاعات واسعة لا تعرف عنها شيئاً، ولما كانت تظهر على السّاحة بعض عقائدها وأفكارها بين الحين والآخر، كانت تلقى استهجاناً ونفوراً من الأغلبيّة، عامّة وعلماء )(١) .

ويضيف محمد الكثيري:

( ومهما يكن فقد استطاعت المذاهب الأربعة أن تخطو خطوات في ساحة الرقيّ وتكتسب قيمتها المعنويّة، لأنّها كانت موضع عناية الخلفاء والولاة المتعاقبين. بالرّغم ممّا رافقها من خلافات ومنافرات، فعناية السلطة تكسب الشي‏ء لوناً من الاعتبار والعظمة حسب نظام السياسة لا النظام الطبيعي.

فعوامل الترغيب ووسيلة القوّة جعلتها تأخذ بالتوسّع شيئاً فشيئا، ولولا ذلك لما استطاعت البقاء حتى تصبح قادرة على مزاحمة غيرها.

إنّ السلطات الحاكمة على طول التاريخ الإسلامي لم تكتف بصناعة المذاهب ودعمها وتقويتها وفرض إتّباعها على الجماهير المسلمة، ولكن حدّدت هذه المذاهب وحصرتها في أربعة ومنعت العامّة من تقليد غيرها، وحذّرت الخاصّة من تجاوزها أو إنشاء مذاهب أخرى جديدة.

أيّ منعت الاجتهاد وأغلقت بابَه وجعلته حكراً على من مضى من (السلف) وفرضت على (الخلف) التقليد والامتثال، وحفظ مسائل وأجوبة هؤلاء الأئمة من السلف )(٢) .

ويقول محمد الكثيري في مكان آخر حول ملخّص ما يمكن أن يقال حول مذهب أهل السنّة:

____________________

(١) محمّد الكثيري/ السلفيّة: ٩٠-٩١.

(٢) المصدر السابق: ١٠٩.

١٠١

( لذلك لا نعدو الحقيقة إذا قلنا بأن الحكومات الإسلاميّة قد اصطنعت لها مذاهب فقهيّة وأصوليّة، كما أن المعارضة أنتجت لها مذاهب فقهيّة وأصوليّة كذلك. فللحكومة مذهبها الإسلامي الذي يدعمها ويؤمّن لها الشرعيّة في الماضي والحاضر، وللمعارضة كذلك عقائدها التي تنطلق منها وتبرر تصرّفها )(١) .

ويبيّن ياسين المعيوف البدراني هذه الحقيقة فيقول حول مذاهب أهل السنّة:

( ...لكن النّاس غرقوا مرغمين في متاهات واسعة ولدتها السيطرات السلطويّة والمصالح الدنيويّة الخاصّة أيّام الأمويّين والعبّاسيين فطمسوا الطريق الحقّة ونكلوا بأهلها وجعلوا من أنفسهم خلفاء للَّه في الأرض وقادةً للدّين، فكانوا والحال هذه لا يدعمون إلّا المذهب الذي يؤيّد نظامهم ويبرّر أخطاءهم فيرفعون من شأنه ويحيطونه بهالة من التقديس والعظمة ويطلبون من الناس ولاءً مطلقاً وإتباعا أعمى لأيّ إمام صاحب مذهب يقوم بالباطل بين أيديهم، ويصفونه بأنّه من الأولياء الّذين أشار إليهم اللَّه ورسوله الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله )(٢) .

ويضيف ياسين المعيوف البدراني:

( وقد ذكرنا هذا ليتوضّح عند المثقفين الواعين ذلك الأمر، وليعرفوا أن هذه المذاهب هي من صنع السياسات الحاكمة، وأنّ كثيرا من الناس عامّة ومن العلماء خاصّة يعرفون هذه حق المعرفة، ولكنّهم يميلون إلى دنيا الباطل ويخافون من إظهار الحقيقة )(٣) .

ويقول التيجاني السماوي في هذا المجال:

( إذا استثنينا بعض المتعصّبين من عوام الشيعة الذين ينظرون إلى (أهل السنّة والجماعة) بأنّهم كلّهم من النواصب، فإن الأغلبيّة الساحقة من علمائهم قديماً

____________________

(١) المصدر السابق: ١٠٥.

(٢) ياسين المعيوف لبدراني/ ياليت قومي يعلمون: ٨٧.

(٣) المصدر السابق.

١٠٢

وحديثاً، لازالوا يعتقدون بأنّ إخوانهم من (أهل السنّة والجماعة) هم ضحايا الدسّ والمكر الأموي، لأنّهم أحسنوا الظن (بالسّلف الصالح) واقتدوا بهم بدون بحث ولا تمحيص، فأضلّوهم عن الصراط المستقيم وأبعدوهم عن الثّقلين - كتاب اللَّه والعترة الطاهرة - اللذين يعصمان المتمسك بهما من الضلالة ويضمنان له الهداية.

فتراهم كثيرا ما يكتبون للدفاع عن أنفسهم وللتعريف بمعتقداتهم داعين للإنصاف ولتوحيد الكلمة مع إخوانهم من (أهل السنّة والجماعة).

وقد جاب بعض علماء الشيعة في الأقطار والأمصار باحثين عن الأساليب الكفيلة لتأسيس دور وجمعيّات إسلاميّة للتقريب بين المذاهب ومحاولة جمع الشمل.

ويمّم آخرون منهم وجهتهم صوب الأزهر الشريف منارة العلم والمعرفة عند (أهل السنّة)، وتقابلوا مع علمائه وجادلوهم بالتي هي أحسن، وعملوا على إزالة الأحقاد، كما فعل الإمام شرف الدين الموسوي عند لقائه بالإمام سليم الدين البشري، وكان من نتيجة ذلك اللقاء والمراسلات ولادة الكتاب القيّم المسمّى ب(المراجعات)، والذي كان له الدور الكبير في تقريب وجهات النظر عند المسلمين.

كما أن جهود أولئك العلماء من الشّيعة كُلّلت بالنّجاح في مصر، فأصدر الإمام محمود شلتوت مفتي الديار المصريّة في ذلك الوقت فتواه الجريئة في جواز التعبّد بالمذهب الشيعي الجعفريّ، وأصبح الفقهُ الشيعي الجعفريّ من المواد التي تُدرّس بالأزهر الشريف.

وأنت إذا دخلت في أيّ بيت من بيوت الشيعة العاديّين، فضلاً عن بيوت العلماء المثقّفين، فسوف تجد فيه مكتبة تضم إلى جانب مؤلّفات الشيعة جانباً كبيراً من مؤلّفات (أهل السنّة والجماعة) على عكس (أهل السنّة والجماعة) فقد لا تجد عند علمائهم كتاباً شيعيّاً واحداً إلّا نادراً.

ولذلك هم يجهلون حقائق الشيعة ولا يعرفون إلّا الأكاذيب التي يكتبها أعداؤهم.

ولهذا فإن الشيعة ينظرون إلى إخوانهم من (أهل السنّة والجماعة) بنظر العطف

١٠٣

والحنان، وكأنّهم يريدون لهم الهداية والنّجاة، لأنّ ثمن الهداية عندهم حسب ما جاءت به الروايات الصحيحة خير من الدنيا وما فيها، فقد قالصلى‌الله‌عليه‌وآله للإمام علي ‏عليه‌السلام عندما بعثه لفتح خيبر:((...لئن يهدي اللَّه بك رجلا واحداً خيرٌ لك مما طلعت عليه الشمس -أو- خير لك من أن يكون لك حمر النعم ))(١) .

ولكن في المقابل تختلف نظرة أهل السنّة إلى باقي المذاهب ومنها الشيعة الإماميّة، ويذكر صالح الورداني سبب ذلك، قائلاً:

( إنّ الحفاظ على مذهب أهل السنّة يقتضي محاربة الدين الآخر وتدميره.

فهذه المسألة بالنسبة لأهل السنّة مسألة مصيريّة تحتم استحالة التعايش بينهم وبين الآخرين.

فمن ثم سوف يستمر البطش والإرهاب الفكري من قبلهم تجاه كل تيّار وصاحب فكر يحاول المساس بهم أو يشكك في مفاهيمهم وعقائدهم ذلك لاعتبارات كثيرة ذكرناها ونوجزها فيما يلي:

اعتقادهم أنّهم يمثلون الفرقة الناجية من النار في الآخرة المنصورة على عدوّها في الدنيا.

اعتقادهم أنّهم يمثّلون الأغلبيّة..

الشعور الدائم بالأمن والاستقرار في كنف القوى الحاكمة..

اندثار معظم الفرق والاتجاهات المناوئة لهم..

الشعور بالاستعلاء على الآخرين...

البطش الدائم بالمخالفين على مرّ الزمان [و] طبع أفكارهم وعقائدهم بالطابع السلطوي..)(٢)

____________________

(١) محمد التيجاني السماوي/ الشيعة هم أهل السنّة: ٦٧ - ٦٩.

(٢) صالح الورداني/ الكلمة والسيف: ٢٠-٢١.

١٠٤

نشأة التسمية بأهل السنّة والجماعة:

من جملة الأمور التي تزيل هيبة مذهب أهل السنّة من أعين المنتمين إليه وتخفّف علاقتهم به، إضافة إلى كونه عقيدة حكوميّة عاشت في أحضان الحكّام منذ نشاتها، هي مسألة تسمية هذا المذهب بأهل السنة والجماعة، لأن الكثير قد يتصوّر أنّ هذا المذهب سمّي بهذا الاسم لتبعيّته عن سنّة رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن الواقع ليس كذلك.

ويذكر التيجاني السماوي حول نتائج بحثه في هذا المجال:

( من الذي أطلق مصطلح أهل السنّة والجماعة؟!

لقد بحثتُ في التاريخ، فلم أجد إلّا أنّهم اتّفقوا على تسمية العام الذي استولى فيه معاوية على الحكم بعام الجماعة.

وذلك أنّ الأمّة انقسمت بعد مقتل عثمان إلى قسمين:

شيعةُ علي‏عليه‌السلام وأتباع معاوية.

ولما استشهد الإمام علي‏عليه‌السلام واستولى معاوية على الحكم بعد الصّلح الذي أبرمه مع الإمام الحسن‏عليه‌السلام وأصبح معاوية هو أمير المؤمنين، سُمّيَ ذلك العام بعام الجماعة.

إذاً فالتّسمية بأهل السنّة والجماعة دالّة على اتّباع سنّة معاوية والاجتماع عليه، وليست تعني اتّباع سنّة رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فالأئمّة من ذريّته وأهل بيته أدرى وأعلم بسنّة جدّهم من الطلقاء، وأهل البيت أدرى بما فيه، وأهل مكّة أدرى بشعابها، ولكنّنا خالفنا الأئمّة الاثنى عشر الذين نصّ عليهم رسول اللَّه‏صلى‌الله‌عليه‌وآله واتّبعنا أعداءَهم.

ورغم اعترافنا الذي ذكر فيه رسول اللَّه اثنى عشر خليفة كلّهم من قريش إلّا أنّنا نتوقّف دائماً عند الخلفاء الأربعة.

ولعلّ معاوية الذي سمّانا بأهل السنّة والجماعة كان يقصد الاجتماع على السنّة التي سنّها في سبّ على‏عليه‌السلام وأهل البيت‏عليهم‌السلام والتي استمرّت ستّين عاماً ولم يقدر على إزالتها إلّا عمر بن عبد العزيز، وقد يحدّثنا بعض المؤرّخين أنّ الأمويين تآمروا على قتل

١٠٥

عمر بن عبد العزيز وهو منهم لأنّه أمات السنّةَ وهي لعن علي بن أبي طالبعليه‌السلام )(١) .

ويقول صائب عبد الحميد حول التسمية بأهل السنّة والجماعة:

( تكاملت هذه التسمية على مرحلتين؛ عُرف في المرحلة الأولى لقب (الجماعة)، أطلقه الأمويّون على العام الذي تمّ فيه تسليم الملك لمعاوية وانفراده به، فقالوا: (عام الجماعة).. لكنّها الجماعة التي تأسّست على الغَلَبة ولصالح الفئة الباغية، بلا نزاع في ذلك!

ورغم ذلك فقد بقي الانتماء للجماعة رهناً بطاعة الحاكم والانصياع لأمره حتى بالباطل، ومن تمرّد على الحاكم في إحياء سنّة أماتها أو إطفاء بدعة أحياها فهو خارج على الطاعة مفارق ل(الجماعة) مستحقّ للعقاب النازل على المفسدين في الأرض!

هكذا، فالصلاح والفساد إنّما يحدّده معاوية، وليس للَّه حكم ولا شريعة! شان أيّ حكم استبدادي ليس له أدنى صلة بالدين...

وما زالت أهواء الأمراء تُعدّ خروجاً على (الجماعة) ودخولاً في الفتنة، حتى لو كان المخالف لهم سبط رسول اللَّه‏صلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانته سيّد شباب أهل الجنّة!!

هكذا قلب الدين رأساً على عقب حين جرّدت كلمة (الأمير) من كلّ مقوّماتها وضوابطها الشرعيّة، لتصبح لقباً من نظير (الفرعون) و (النمرود) و (القيصر) و (كسرى) التي كانت الأمم الأخرى تلقّب بها الحاكمين! ويصبح( الّذينَ يَأمرُونَ بالقِسْطِ منَ النّاسِ ) (٢) مفسدين في الأرض، خارجين على (الجماعة) ساعين في الفتنة!

وبقيت الجماعة رهناً بطاعة (الخليفة) من دون النظر إلى طريقة استخلافه، وإلى دينه أو أخلاقه أو عقله...

أمّا ما يدّعيه بعضهم من أنّ (الجماعة) مأخوذة من متابعة إجماع الصحابة وإجماع السّلف، فإنّما هي دعوى لا يسندها الواقع بشي‏ء، فأيّ أمر هذا الذي أجمع عليه

____________________

(١) محمد التيجاني السماوي/ ثمّ اهتديت: ١٧٠-١٧١.

(٢) آل عمران: ٢١.

١٠٦

السّلف ثمّ تميّزت به هذه الطائفة من غيرها من الطوائف؟!

لكن المشكلة تكمن في أنّهم اختزلوا مساحة (السّلف)، لتشمل فقط القائلين بإمامة كلّ متغلّب وحرمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حين يراه (الأمير) فساداً...

أمّا لفظ (السنّة) فلم يظهر مقروناً بلفظ (الجماعة) في بادئ الأمر، بل ظهر بمفرده أوّلاً في العهد الأموي أيضاً للتمييز بين المنتظمين في سلك (الجماعة) و بين الآخرين الذين ما زالوا يؤمنون بقداسة الدّين التي تأبى‏ أن يكون رجال بني أميّة هؤلاء زعماء له ناطقين باسمه، فإذا قيل: (أهل السنّة فإنّما يراد بهم أهل الطاعة و(الجماعة) أنفسهم، وأمّا الآخرون فهم أهل البدَع )(١) .

ويشير إدريس الحسيني إلى هذه الحقيقة قائلاً:

( إن التسمية التي أطلقت على الفريقين: ليست وفيّة للحقيقة، وهي أسماء سمّوها من عند أنفسهم، نزّاعة للتشويه والتضليل، أكثر من حرصها على الموضوعيّة.

واستخدام الاسمين على الأبعاد التضليليّة، كان من دأب التيّار الأموي.

فالنقطة الحسّاسة التي توحي بها المفارقة بين الاسمين، هو أن (سنّة) الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لها شمّتها في عنوان (السنّة والجماعة) في الوقت الذي لا رائحة لها في عنوان (مذهب الشيعة). هذا أنّ مذهب الشيعة يقف مقابلاً لمذهب (السنّة والجماعة) بما هي الممثل الوحيد لسنّة الرسول‏صلى‌الله‌عليه‌وآله !

وهذا التشويه والتضليل، قد أوتي أُكُله على امتداد الأيام التي أردفت عصور المحنة. فلقد أصبح (الشيعة) يفتقدون للمسوغات النفسيّة والإعلاميّة في ذهن الجمهور )(٢) .

ثم أضاف إدريس الحسيني قائلاً:

( والشيعة حسب تعريف علمائهم، هم الذين يسلكون سنّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مأخوذة

____________________

(١) مجلّة المنهاج/ العدد٦: ١٢١-١٢٤.

(٢) إدريس الحسيني/ لقد شيّعني الحسين: ٢٩.

١٠٧

من عترته الطاهرة.

بيد أنّ الملابسات السياسيّة والايديولوجيّة التي رافقت حركة الفرقتين أضفت على القضيّة، مجموعة من الشبهات لا تحصى ولا تعد.

وبالتالي يكون من الضروري التعرّض إلى المصطلحين بشكل أعمق، يستمد مرتكزاته من عمق التاريخ الإسلامي ذاته.

ذلك لأن أعداء الشيعة طالما تحاملوا على الشيعة، ملتمسين كل سلبيّة غريبة وإلصاقها بهم)(١) .

ثمّ قال إدريس الحسيني حول مسألة التسمية المذهبيّة:

( ليست التسمية - إذاً - هي موضع الإشكال، وإنّما الواقع الفعلي للمذهبين هو موضوع النّقاش، إذ أنّنا ونحن ننظر في سنّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله القوليّة والفعليّة والتقريريّة، سوف نتبيّن أيّ الفريقين أقرب إليها.

إنّ الشيعة لم يكونوا يوماً مبتدعة، بل أنّ مذهبهم قائم في الأساس على (النص). وإذا أتيت أنّ الإسلام الحقيقي بعد الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله تمثّل في علي ‏عليه‌السلام فإنّ التشيّع لعلي‏عليه‌السلام هو التعبير المرحلي عن التشيّع لمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله بالثبات على تعاليمه وتوصياته في حقّ علي ‏عليه‌السلام والذي هو الإسلام!

فاسم (السنّة) أتى، كاستراق للفرصة، لمحاصرة (الشيعة) اصطلاحيّاً، لأن التيّار السائد يومها لم يكن له من الحجّة سوى اللعب على وتر المفاهيم القشريّة. وكان اليوم الذي تحوّلت فيه الخلافة إلى ملك عضوض، هو عام الجماعة، ومنها جاء (السنّة والجماعة)!)(٢) .

ويقول صالح الورداني حول التسميات المذهبيّة:

____________________

(١) المصدر السابق: ٣١.

(٢) المصدر السابق: ٣٥.

١٠٨

( ليس في الإسلام مذهبيّة..

ليس هناك ما يسمّى بشيعة أو سنّة أو شافعيّة أو مالكيّة أو أحناف أو حنابلة..

فكل هذه تسميات تاريخيّة من اختراع السياسة..(١) .

والحقّ أن هناك إسلام حق وإسلام باطل..

إسلام ربّاني وإسلام حكومي..

والذي ساد على مرّ التاريخ هو الإسلام الحكومي..

والذي ضرب واختفى هو الإسلام الربّاني..

إنّ الأسماء والمسمّيات لا مجال لها هنا، فالمهم هو الحقّ، وأمام الحقّ تتلاشى الأسماء والمسمّيات ويبدأ التركيز على الجوهر.. )(٢) .

وجود الكثير من الثّغرات في المذهب السنّي:

من الأمور التي تسلب من الشخص السنّي نظرته المقدّسة إلى مذهب أهل السنّة بعد تعرّفه على مذهب أهل البيت ‏عليهم‌السلام ، هي مسألة وجود الكثير من الثغرات في المذهب والتراث السنّي والأفضليّة التي يمتاز بها المذهب والتراث الشيعي عليه.

ويوضّح صالح الورداني هذا الأمر بصورة مفصّلة قائلاً:

( هناك عدّة قضايا مشتركة بين التراث السنّي والشيعي..

وهناك أيضاً عدّة قضايا تفرض التباعد وعدم التلاقي..

وأثناء رحلتي الطويلة مع التراث كانت تستوقفني الكثير من الروايات والاجتهادات والأقوال التي تبعث الشك في نفسي على مستوى تراث السنّة وتراث الشيعة..

كان التراث السنّي يحمل كمّاً كبيراً من الروايات المختلقة والموضوعة.. والتراث

____________________

(١) يقف الحكّام على الدوام وراءجميع النزعات المذهبيّة بهدف تشتيت الأمة سيراً مع مبدأ فرّق تسدّ (صالح الورداني).

(٢) صالح الورداني/ الخدعة: ٤٤-٤٥.

١٠٩

الشيعي كذلك..

وكان التراث السنّي يحمل داخله عدّة أطروحات مختلفة ومتناحرة والتراث الشيعي كذلك..

إذاً ما الذي يميز تراثاً عن الآخر؟..

والإجابة على هذا السؤال تقتضي أن نحدّد ملامح الخلاف بين التراثين..

إن التراث السنّي يعتمد على الصحابة..

بينما التراث الشيعي يعتمد على آل البيت..

والتراث السنّي يتبنّى التعايش مع الحكّام..

بينما التراث الشيعي يرفض هذا التعايش..

التراث السنّي تغلب عليه أقوال الرجال..

بينما التراث الشيعي يغلب عليه النصّ..

التراث السنّي نتج من حالة سلام مع الواقع..

بينما التراث الشيعي في حالة صِدام معه..

التراث السنّي يضيّق على العقل..

والتراث الشيعي يحترم العقل..

وبهذه المقارنة يتّضح لنا مدى الهوة التي تباعد بين التراثين، إلّا أنّ التراث الشيعي كحال أيّ تراث لابد وأن تطرأ عليه متغيّرات نتيجة لتراكم الأقوال والاجتهادات النابعة منه بحيث يصبح متشابهاً إلى حدّ كبير مع التراث السنّي..

من هنا برزت الروايات الموضوعة عند الطرفين..

وبرزت المذاهب في إطار الفكر الواحد..

أبرز التراث السنّي الكثير من الرّوايات التي ترفع من قدر الصحابة وتضخّم بعضهم، وأبرز التراث الشيعي الكثير من الروايات التي ترفع من قدر آل البيت‏عليهم‌السلام وتضخّمهم وعند كلا الطرفين ظهر الوضع والاختلاق..

١١٠

ولقد تبيّن أن القاعدة التي وضعت من قبل الشيعة لضبط حركة الرواية ووقف عملية الوضع والاختلاق هي أدق وأكثر ارتباطاً بالنص من قاعدة السنّة..

قاعدة الشيعة تنص على أن الحديث الذي يخالف القرآن والعقل يضرب به عرض الحائط. بينما قاعدة السنّة تعتمد على علم الرجال والبحث في سند الرواية..

قاعدة الشيعة ترتكز على متن الرواية..

بينما قاعدة السنّة ترتكز على سندها..

وعلى ضوء قاعدة الشيعة تم نبذ الكثير من الروايات في التراث الشيعي ومحاكمة الروايات الأخرى ووضعها تحت دائرة الضبط والتنقيح..

وعلى ضوء قاعدة السنّة تم اعتماد الكثير من الروايات رغم مخالفتها لنصوص القرآن ومُصادَمتها للعقل بسبب أنّ سند هذه الروايات سليم ورجاله رجال الصحيح. أيّ أنّه مادامت قد ثبتت عدالة الرواة، فقد ثبتت صحّة الرواية، ولو كانت تخالف القرآن..

إنّ قاعدة الشيعة سوف ينتج عنها غربلة التراث وتنقيحه، بينما قاعدة السنّة سوف ينتج عنها إبقاء التراث على حاله وزيادة حدّة التباعد بينه وبين القرآن والعقل..

ولقد كان تبني الشيعة لقضيّة الإمامة قد ميّز التراث الشيعي عن التراث السنّي وأوجد الكثير من الاجتهادات والمواقف التي انعكست على الفقه والعقيدة والتصوّر الشيعي بشكل عام.

ومن أبرز نتائجها حصر مصدر التلقي في دائرة آل البيت‏عليهم‌السلام المقصودين بالإمامة، ورفض الخطوط الأخرى التي خالفت نهجهم وعلى رأسها خط الصحابة الذي أرسى دعائمه أبو بكر وعمر..

وأهمّ ما سوف ينبني على قاعدة تحكيم القرآن والعقل هو تحجيم دور الرجال وعزل أقوالهم عن النصوص والحيلولة دون طغيان هذه الأقوال عليها.

وهي من أهم مميّزات التراث الشيعي على التراث السنّي الذي بفقده هذه القاعدة تغلب الرجال على النصوص.

١١١

إنّ عزل القرآن والعقل عن التراث والحيلولة دون أن يقوما بدورهما كحَكمين عليه إنّما هي مؤامرة على الإسلام من اختراع السياسة، الهدف منها إمرار الروايات المختلفة والموضوعة التي سوف تسهم في صياغة الإسلام وطمس هويّته الحقّة وإبدالها بهويّة زائفة تخدم مصالح الحكّام وتضفي المشروعيّة عليهم..

تحكيم القرآن والعقل يعني الانتماء للنص لا التراث..

والنص هو الحكم على التراث وليس العكس..

من هنا فان الرجال عند الشيعة إنّما هم تحت النصوص وليسوا فوقها.

و هذا ما استراح إليه عقلي واطمأنّت به نفسي أنني عندما تبنيت الأطروحة الشيعيّة لم أستبدل تراثاً بتراث،ولم أنتقل من عبادة رجال إلى عبادة رجال..

عندما التزمت بخط آل البيت‏عليهم‌السلام إنّما التزمت بخط النص لا بخط الرجال.. )(١) .

وفي مقارنة أخرى بين عقيدة التسنن وعقيدة التشيّع، يقول صالح الورداني:

( الفرق الشاسع بين عقيدة التشيّع وعقيدة التسنن...

عقيدة التشيّع تلتزم بالعقل والنص...

وعقيدة التسنن تلتزم بالأثر والرجال...

عقيدة التشيّع توالي أهل البيت ‏عليهم‌السلام ...

وعقيدة التسنّن تخاصم أهل البيت ‏عليهم‌السلام ...

عقيدة التشيّع تحترم الرأي وتفتح باب الاجتهاد...

وعقيدة التسنن تنبذ الرأي وتغلق باب الاجتهاد...

عقيدة التشيّع تملك الرصيد العلمي الموروث عن أهل البيت ‏عليهم‌السلام ...

وعقيدة التسنن لا تملك إلّا رصيد الفقهاء المتناحرين فيما بينهم، الموروث من واقع منحرف غلبت عليه السياسة...

____________________

(١) المصدر السابق: ٤٩-٥١.

١١٢

عقيدة التشيّع لا تتعاطف مع الحكّام...

وعقيدة التسنن تتحالف مع الحكّام...

هذا ما اكتشفناه في عقيدة التشيّع، ولاشك أن عقيدة بهذه المواصفات لابد وأن تنجح تراثا وثقافة مغايرة...

إنّ التراث السني تراث مهلهل ملي‏ء بالتناقضات والخلل الفكري والعقلي وقد نتجت عنه ثقافة مجانبة للعقل لا تحترم الآخر، شديدة الإيغال في الماضي، وما هذا إلّا لكونها فشلت في الارتباط بالحاضر وإيجاد بدائل لرموز الماضي..

من الواجب هنا أن نفرّق بين التشيّع كعقيدة وبينه كتراث وثقافة ومجتمع، بالنسبة للتشيّع كعقيدة نعتقد أنّ خط آل البيت هو التعبير الأصدق والأكثر التزاماً بروح الإسلام، هو مخرجٌ لكثير من المتاهات السائدة في التراث السنّي والعلاج لكثير من حالات الاكتئاب العقلي أو الخلل السائد في أوساط المسلمين.

إنّ التشيّع كعقيدة هو الخلاص للمسلمين في الدنيا والآخرة.

أمّا التشيّع كتراث الذي ينتج عن اجتهاد الأشخاص فانّ هذه الاجتهادات قد يحدث فيها بعض التجاوز وقد يطغى رأي الرجال على النصوص، لذلك لا يجب أن يكون التراث حكماً على الدين.

وهذا يرد على الذين يحاولون استغلال التّراث الشيعي للطعن في التشيّع لآل البيت ‏عليهم‌السلام .

لقد لاحظت أنّ مُعظم الذين يتربّصون بالشيعة والتشيّع من الوهّابيّين وغيرهم، وخاصّة في فترة الثمانينات في مصر، كانوا يتصيدون من كتاب (بحار الأنوار) بعضا من الروايات ويستخدمونها في تأليب المسلمين على الشيعة.

هذا الكتاب هو مجموع لعلوم آل البيت‏عليهم‌السلام ويمثّل التراث الشيعي، لكنّه في النهاية لا يعبّر عن العقيدة الشيعيّة.

نحن في عقيدة آل البيت نؤمن أنّ الحديث يُعرَض على القرآن والعقل كما نصّ

١١٣

على ذلك الإمام الصادق‏عليه‌السلام .

في التراث السني لا توجد هذه القاعدة، وهذا هو الفرق، لأنّ التراث السنّي لا يحكمه العقل، بينما التراث الشيعي يحكمه العقل.

الثقافة الشيعيّة هي ثقافة تتميّز على الثقافة السنّية بالرقي العقلي والتحرّر الذهني والتفوّق السلوكي، لذلك حين نقارن بين عوام المذهبيّين نلحظ هذه الفوارق )(١) .

وهذه هي الرؤية التي ساعدت صالح الورداني على البحث عن الحقيقة لأنّه يقول:

( كنت على الدّوام أطرح على نفسي السؤال التالي: ما بين أيدينا تراث أم دين..؟

كان العرف السائد أن ما بيننا هو الدين. وهكذا كنت أتصوّر لفترة من الزمن- هي فترة نشأتي الفكريّة - إلّا أنّه مع مرور الزمن وحصولي على قدر من الوعي والخبرة، أمكن لي أن أتبيّن الفروق بين التراث والدين..

وتجلّت أمام عيني حقيقة ساطعة وهي أن الصراع الفكري المحتدم بين المسلمين إنّما هو صراع يقوم على أساس التراث وليس على أساس الدين..

وتبيّن لي أن الجماعات والتيّارات الإسلاميّة إنّما بنت تصوّراتها وأصولها الفكريّة على أساس أطروحات تراثيّة وليس على أساس نصوص دينيّة...

كما يبدو في كم الفتاوى والخطب والمؤلّفات السائدة في الوسط الإسلامي والتي تعكس نتاجات واجتهادات ومواقف لفقهاء السلف أكثر من كونها تعكس نصوصاً..

من هنا فإنّ إحساسي بالخديعة وحكمي بالزيف على الأطروحة الإسلاميّة المعاصرة سرعان ما تنامى وقوي بحيث دفعني إلى طرح التراث جانباً والبحث عن الدين من جديد.. )(٢) .

ومن هذه الرؤية لمذهب أهل السنّة اندفع إدريس الحسيني إلى ترك المذهب

____________________

(١) مجلّة المنبر/ العدد: ٢٢.

(٢) صالح الورداني/ الخدعة: ٣٩-٤٠.

١١٤

السنّي وتوجّه إلى مذهب أهل البيت ‏عليهم‌السلام ، ويشير هذا المستبصر إلى هذا الأمر قائلاً:

( فاقتنعت و وصلت إلى نتيجة نهائيّة، إن هذا الطرح عاجز عن بناء أمّة أو تأسيس فكر أو إقامة شخصيّة للمسلم وتحقيق العدل والأمن والسلام للمسلمين أو إراحة العقل وتحقيق التوحّد والاستقرار ودفع الأمّة إلى الأمام، فأصدرتُ قراري بالتحوّل إلى مذهب آل البيتعليهم‌السلام )(١) .

ومن أهم الأمور المحفّزة لتغيير الانتماء المذهبي بعد أن يعرف الباحث السنّي عدم صلاحيّة مذهبه، هو أن يجد مذهب أهل البيت‏عليهم‌السلام هو البديل المناسب للاعتناق، فيدفعه ذلك إلى الاستبصار وترك انتمائه المذهبي السابق واعتناق مذهب أهل البيت ‏عليهم‌السلام .

ويشير التيجاني السماوي حول تجربته الخاصّة في معرفة البديل المذهبي:

( قرأت الكثير [من الكتب‏] حتى اقتنعت بأن الشيعة الإمامية على حقّ فتشيّعت وركبت على بركة اللَّه سفينةَ أهل البيت وتمسّكت بحبل ولائهم، لأنّي وجدت بحمد اللَّه البديل على بعض الصحابة الذين ثبت عندي أنّهم ارتدّوا على أعقابهم القهقرى ولم ينج منهم إلّا القليل وأبدلتهم بأئمة الهدى أهل البيت النبويّ الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا وافترض مودّتهم على الناس أجمعين )(٢) .

ويضيف التيجاني السماوي:

( نعم، وجدت البديل والحمد للَّه الذي هداني لهذا وما كنت لأهتدي لولا أن هداني اللَّه.

الحمد للَّه والشكر له على أن دلّني على الفرقة الناجية التي كنت أبحث عنها بلهف، ولم يبق عندي أيّ شك في أن المتمسّك بعلي وأهل البيت قد تمسّك بالعروة الوثقى‏

____________________

(١) مجلّة المنبر/ العدد: ٣.

(٢) محمد التيجاني السماوي/ ثم اهتديت: ١٣١.

١١٥

لا انفصام لها.

والنّصوص النبويّة على ذلك كثيرة أجمع عليها المسلمون، والعقل وحده خير دليل لمن ألقى‏ السّمع وهو شهيد...

نعم وجدت البديل بحمد اللَّه، وصرت أقتدي - بعد رسول اللَّه - بأمير المؤمنين وسيّد الوصيّين وقائد الغرّ المحجّلين أسد اللَّه الغالب الإمام علي بن أبي طالب وبسيّدي شباب أهل الجنّة وريحانتي النبيّ من هذه الأمّة الإمام أبي محمد الحسن الزكيّ والإمام أبي عبد اللَّه الحسين وببضعة المصطفى سلالة النبوّة وأم الأئمّة معدن الرّسالة ومن يغضب لغضبها ربُّ العزّة والجلالة سيّدة النّساء فاطمة الزهراء.

وأبدلت الإمامَ مالك بأستاذ الأئمّة ومعلّم الأمّة الإمام جعفر الصادق ‏عليه‌السلام .

وتمسّكت بالأئمّة التسعة المعصومين من ذريّة الحسين أئمة المسلمين وأولياء اللَّه الصالحين.

وأبدلت الصحابةَ المُنقلبين على أعقابهم أمثال معاوية وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة وأبي هريرة وعكرمة وكعب الأحبار وغيرهم بالصّحابة الشّاكرين الّذين لَم ينقضوا عهدَ النبيّ أمثال عمّار بن ياسر و سلمان المحمّدي وأبي ذر الغفاري والمقداد بن الأسود وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين وأُبيّ بن كعب وغيرهم والحمد للَّه على هذا الاستبصار.

وأبدلت علماء قومي الذين جمّدوا عقولَنا واتّبع كثير منهم السلاطين والحكّام في كلّ زمان، بعلماء الشيعة الأبرار الذي ما أغلقوا يوماً باب الاجتهاد ولا وهنوا ولا استكانوا للامراء والسلاطين الظالمين.

نعم أبدلت أفكاراً متحجّرة متعصّبة تؤمن بالتناقضات، بأفكار نيّرة متحرّرة ومتفتّحة تؤمن بالدليل والحجّة والبرهان.

وكما يُقال في عصرنا الحاضر غسلت دماغي من أوساخ رانت عليه - طوال ثلاثين عاماً - أضاليل بني أميّة وطهّرته بعقيدة المعصومين الذين أذهب اللَّهُ عنهم الرّجس

١١٦

وطهّرهم تطهيراً لما تبقى من حياتي

اللهمّ أحينا على ملّتهم وأمتنا على سنّتهم وأحشرنا معهم فقد قال نبيّكصلى‌الله‌عليه‌وآله :

(( يُحشر المرء مع من أحب )) )(١) .

الدافع الثالث:

الالتقاء باتباع مذهب أهل البيتعليهم‌السلام

إنّ لقاء المرء وحواره مع من يخالفه في الرأي والمعتقد، من شأنه أن يساعده على تفتّح آفاق ذهنه عبر التعرّف على أفكار ورؤى الطرف المقابل، لأنّ هذا اللقاء يؤدّي إلى تلاقح فكري يوسّع آفاق رؤية الطرفين ويغنيهما بالكثير من المعلومات التي كانت غائبة عن أذهانهما فيما سبق.

ويمكن الحصول على هذه الثّمرة أيضاً حينما يلتقي شخص سنّي مُتَفهّم مع شخص شيعي واعٍ، لأنّ هذا اللقاء لا شكّ سيؤدّي إلى نوع تقارب عقلي بينهما، ومن ثمّ تكون ثمرته تعرّف كلّ منهما على حقائق لم يكن ملتفت إليها فيما سبق.

وكان هذا الأمر لكثير من أهل السنّة حين التقائهم بشخصيّة شيعيّة واعية بمثابة الشعلة المقدّسة التي أضاءت أذهانهم وقلوبهم ودفعتهم إلى البحث عن الحقيقة.

ويذكر الكثير من أهل السنّة الذين استبصروا، أنّ هذه اللقاءات كان لها دوراً فعّالاً في إعادة نظرتهم لمعتقداتهم السابقة، وكان ذلك تمهيداً لترك مذهبهم السني واعتناقهم لمذهب أهل البيت‏عليهم‌السلام .

وفي الكثير من هذه اللقاءات التي يجتمع فيها الطرفان السنّي والشيعي، تثير هذه الجلسات في نفسيّة الطرف السنّي محفّزاً يدفعه إلى النظر من جديد إلى مرتكزاته الفكريّة التي ورثها من البيئة التي عاش في كنفها.

____________________

(١) المصدر السابق: ١٣٢-١٣٤.

١١٧

وقد جاء في كتب وكلام المستبصرين الإشارة إلى هذا العامل والدافع للاستبصار، ويمكننا الإشارة في هذا المجال إلى بعض تصريحات المستبصرين منهم:

يقول صالح الورداني:

( كانت لي علاقات كثيرة بالطلبة العرب المقيمين في مصر لغرض الدراسة وكان من بينهم عدد من الشّيعة العراقيّين )(١) .

ويضيف هذا المستبصر:

( استفدت كثيراً من تلك العلاقات في التعرّف على فكر الشيعة عن قرب وأمكن لي أن أقوم برحلة إلى العراق بدعوة من صديق لي تعرّفت عليه في مصر وكان على درجة كبيرة من الثقافة ويقوم بتحضير دراسات عليا في القاهرة وذلك عام ١٩٧٧ م...

ومن خلال تواجدي بالعراق قمت بزيارة مراقد آل البيت ببغداد والطواف على مساجد الشيعة وسماع الدروس والمحاضرات والحوار مع الشباب الشيعي من أصدقاء صديقي..

ونتيجة لهذا كلّه تبددت من ذهني الكثير من الأوهام والتصوّرات غير الصّحيحة التي كنت أحملها عن الشيعة، وكانت لي بالإضافة إلى ذلك بعض الملاحظات السلبيّة إلّا أنّني نحّيتها جانباً لاعتقادي أنّ الرؤية التي يجب أنْ تُبنى‏ تجاه أيّ تصوّر أو أطروحة سائدة إنّما تقوم على أساس ما تتبنّاه هذه الأطروحة من معتقدات لا على أساس سلوك الأفراد وممارساتهم )(٢) .

ويقول عبد المنعم حسن حول كيفيّة تأثّره بأحد معتنقي مذهب أهل البيت‏عليهم‌السلام عندما كان في السودان:

( استقرّ بي المقام في العاصمة (الخرطوم) لأبدأ الدراسة الجامعيّة..

____________________

(١) صالح الورداني/ الخدعة: ١٧.

(٢) المصدر السابق.

١١٨

وفي أحد أحيائها حيث اخترت أن أسكن مع أقربائي كان يسكن أحد أبناء عمومتي وحيداً يكافح في الحياة بين الدراسة والعمل..كان متديّناً يعيش حياة سعيدة رغم أنّه لا يملك شيئاً من الوسائل المادّية للسعادة وربّما يختصر طعامه في اليوم بوجبة واحدة.

كنّا نزوره باستمرار - لإعجابنا الكثير به وبخُلُقه وزهده - ونجلس معه ونحاوره في كثير من قضايا الدين والموت والآخرة، كان ينبوعاً من العلم، وحديثه معنا كان يخلق فينا روحاً إيمانيّة ودفعة معنويّة مضاعفة وذلك لمواجهة الحياة والزهد في الدنيا...

وكنّا نعجب من تديّنه الذي ينبع من إخلاص قلّما تجده عند أحد خصوصاً في هذا الزمن الذي غلبت عليه المادّية وأصبح الدين لعقاً على ألسنة الناس يحوطونه ما درّت معايشهم فإذا مُحصّوا بالبلاء قلّ الديّانون..

إحساسنا ونحن نتحدّث إليه أنّنا نقف مع أحد أولئك الذين جاهدوا مع رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في بدر وأحد وحنين... تخرج الكلمة من قلبه فنشعر بها في أعماق وجداننا، كان كثير الصوم.. دائم العبادة للَّه تعالى.. أحياناً نبيت معه ليالي كاملة فنراه بالليل قائماً قانتاً يدعوا اللَّه ويتلو كتابه وفي الصباح يدعو اللَّه بكلمات لم نسمع بها من قبل، كلمات يناجي بها ربّنا عزّ وجل هي بلا شك ليست لبشر عادي، لابدّ أنّها من قول الرسول‏صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن عجباً لم نسمع بها من قبل، ولم نقرأها ضمن مناهجنا الدراسيّة ولا في كتبنا الإسلاميّة... فنضطرّ إلى سؤاله ما هذا الذي تقرؤه؟! فيجيبنا بأنّه دعاء الصّباح لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب‏عليه‌السلام فنوجم مبهوتين.

كثيراً ما كان يثير الحديث عن أهمّية التديّن والدين والبحث عن سُبل النّجاة قبل أنْ يأتي الأجل المحتوم، وهذا الحديث كان يثير فينا إحساساً بالمسؤوليّة يؤرّقنا فكنّا نتحاشى فتح الحوار معه من الأساس.

إلى أن جاء يومٌ ابتدأنا معه حواراً صريحاً - بعد أن لاحت لنا في الأفق أشياء استغربناها - حول هذا الدين الذي يتعّبد به إلى اللَّه تعالى، و أوّل معلومة ثبتت لدينا أنّه

١١٩

جعفري إمامي إثنا عشري (شيعي)!

وانطلقنا معه في حوارات قويّة باعتبارنا متمسّكين بمذهب أهل السنّة والجماعة أولا أقل (ذلك ما عليه آباؤنا ونحن على آثارهم سائرون).

وكان النقاش يمتد لساعات طويلة وكانت حجّته قويّة بيّنة مدعّمة بالأدلّة والبراهين العقليّة والنقليّة، ولم يعتمد في طول حواره معناً على كتاب أو مصدر شيعي مما يعملون به، بل كان يرشدنا إلى مصادر أهل السنّة والجماعة لنجد صدق ادّعائه.

ورغم أنّ حديثه وأدلته وبعض الكتب التي قرأناها كانت تحدث فينا هزّة داخليّة إلّا أننا كنّا نكابر ولا نظهر له من ذلك شيئاً...

وعندما نجتمع بعيدا عنه كنّا نأسف لحاله ونصفه بأنّه مسكين - رغم تديّنه المخلص - بدأ أوّل خطواته نحو هاوية الجنون لكونه شيعي... إلّا أنّه أثبت لنا بعد حوار دام سنتين تقريبا بأنّنا كنا من المجانين الغافلين، وأقام علينا الدليل والحجّة بصحّة ما هو عليه، فما كان منا في النهاية إلّا التسليم بعد البحث والتنقيب وانكشاف الحقائق )(١) .

ومن جملة الّذين كان للقائهم باتباع مذهب أهل البيت‏عليهم‌السلام دور في اعتناقهم للتشيّع هو محمد علي المتوكّل، حيث أنّه التقى في السودان بشخص شيعي، وتعرّف عن طريقه على حقائق أدّت به و بأصدقائه في نهاية المطاف إلى اعتناق مذهب أهل البيت‏عليهم‌السلام .

ويذكر محمد علي المتوكّل حول كيفيّة اتّصاله بهذا الشخص الشيعي أنّه تعرّف عليه في إحدى الفنادق في السودان وهو لا يعلم بأنّه شيعي، ثم دار بينهما حديثٌ حول تطلعات الإسلاميين والتحدّيات التي تواجههم.

ويذكر هذا المستبصر أنّه انبهر بسعة أفق ذلك الرجل ودقّة معلوماته، ولكنّه شك

____________________

(١) عبد المنعم حسن/ بنور فاطمة اهتديت: ١٢-١٤.

١٢٠