البراهين الجليلة في رفع تشكيكات الوهابية

البراهين الجليلة في رفع تشكيكات الوهابية50%

البراهين الجليلة في رفع تشكيكات الوهابية مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 146

البراهين الجليلة في رفع تشكيكات الوهابية
  • البداية
  • السابق
  • 146 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 74009 / تحميل: 7912
الحجم الحجم الحجم
البراهين الجليلة في رفع تشكيكات الوهابية

البراهين الجليلة في رفع تشكيكات الوهابية

مؤلف:
العربية

البراهين الجليلة في رفع تشكيكات الوهابية

بقلم:

آية الله السيد محمد حسن القزويني الحائري

قدم له سماحة العلاّمة السيد محمد كاظم القزويني

١

هذا الكتاب

نشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنينعليهما‌السلام للتراث والفكر الإسلامي

بانتظار أن يوفقنا الله تعالى لتصحيح نصه وتقديمه بصورة أفضل في فرصة أخرى قريبة إنشاء الله تعالى.

٢

مقدمة لابد منها

بِسمِ اللهِ الرَّحمن الر‏َّحِيم

من الأحاديث المتواترة الصحيحة الواردة عن الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الحديث «... وستفترق أمتي بعدي على ثلاث وسبعين فرقة، فرقة في الجنة والباقون في النار». هذا الحديث من الأحاديث التي أثبتها المحدثون بكافة طبقاتهم من العامة والخاصة والسنة والشيعة. ولا حاجة إلى ذكر المصادر والمدارك لهذه الرواية...

ومن المضحك أن كل فرقة من الفرق الإسلامية التي تولدت وتكونت خلال هذه القرون تعتبر نفسها هي الفرقة الناجية؛ وتعرف غيرها بأنها من أهل النار.

وكل يدعي وصلاً بليلى

وليلى لا تقر لهم بذاكا

ولسنا الآن في مقام الخوض في هذه المعركة المظلمة المدلهمة، بل نعرج على ما نقصده من هذا الكلام وما هو معنون في الكتاب من المواضيع التي ستقف عليها.

من جملة تلك المذاهب التي تولدت قبل قرن تقريباً هو مذهب محمد بن عبد الوهاب (الوهابية) وقبل الشروع في ميدان البحث فلا بأس أن نذكر شيئاً يسيراً من ترجمة حياة محمد بن عبد الوهاب رئيس هذا المذهب الذي ستعرفه: ونقتبس ذلك عن كتاب تاريخ نجد لابن الآلوسي:

٣

(هو محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي، نشأ في بلدة العينية من بلاد نجد، قرأ الفقه على مذهب أحمد بن حنبل، وكان من صغره يتكلم بكلمات لا يعرفها المسلمون، سافر إلى مكة ثمّ سار إلى المدينة، واشتغل بالدراسة عند الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف، وأظهر الإنكار على الاستغاثة برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند قبره، ثمّ رحل إلى نجد، ثمّ أتى البصرة يريد الشام، فلما ورد البصرة أحس المسلمون بذلك فأخرجوه منها، فخرج هارباً، وبعد مدة جاء إلى بلدة حريملة من نجد، وكان أبوه في تلك البلدة، فجعل ينكر على مسلمي أهل نجد عقائدهم، فنهاه أبوه فلم يمتنع حتى مات أبوه فتجرأ على إظهار عقائده والإنكار على المسلمين، وتبعه حثالة من الناس، إلى أن ضج الناس، وهموا بقتله، فخرج قاصداً العينية، ورئيسها يومذاك عثمان بن أحمد بن معمر، فأطمعه ابن عبد الوهاب في ملوكية نجد فساعده عثمان فتظاهر الرجل بنواياه، وهدم قبر زيد بن الخطاب، فعظم أمره، وبلغ الخبر إلى صاحب الأحساء والقطيف سليمان بن محمد بن عزيز، فأرسل سليمان كتاباً إلى عثمان يأمره بقتل الرجل، فلما ورد الكتاب إلى عثمان أرسل إلى محمد بن عبد الوهاب وأخبره وأمره بالخروج من البلدة، فخرج الرجل إلى الدرعية وذلك سنة ١١٦٠.

الدرعية هو المكان الذي خرج منه مسيلمة الكذاب، وأظهر الفساد، وكان صاحبها محمد بن سعود من قبيلة عنيزة (أحد أجداد الأسرة السعودية) فتوسل الرجل بامرأة الحاكم إليه، وأطمعه في العز والغلبة على بلاد نجد، فبايعه محمد بن سعود على سفك دماء المسلمين - يسميه الجهاد في سبيل الله - وجعل ابن سعود يجهز لنصرته الجيوش، ويؤلب لترويج طريقته العساكر حتى استقام امره، فكتب إلى رؤساء بلاد نجد وقضاتها يطلب منهم الطاعة

٤

والانقياد، فأجابه قوم وأهمله آخرون، فجهز الجيش من أهل الدرعية، وقاتلهم وقتل من خالفه من المسلمين، حتى دخل بعض إلى طاعته طائعين ومكرهين، وتمت إمارة بلاد نجد لآل السعود بالسيف والغلبة حتى مات ابن عبد الوهاب سنة ١٢٠٦...)

بقي دينه الجديد، وحامت الحكومة السعودية عن هذا المبدأ... وقاتلوا المسلمين، وقتلوا ودمروا، وأحرقوا، وأفسدوا في البلاد والعباد وجرت منهم الويلات على المسلمين، وما قتلوا في هذه المدة خارجاً عن الدين، بل كان جميع المقتولين مسلمين موحدين يشهدون أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله وذنبهم الوحيد أنهم لا يعتنقون المبدأ الجديد الذي اخترعه ابن عبد الوهاب واعتقد به.

عقائد ابن عبد الوهاب

إنه يزعم أنه هو الموحد الوحيد، وغيره من المسلمين كفار مشركون، وهذا بعض مظاهر توحيده:

إنه يعتقد أن الله جالس على العرش حقيقة، وأن له يداً ورجلاً، وساقاً وجنباً، وعيناً ووجهاً ولساناً ونفساً، وأنه يتكلم بحرف وصوت، وخلاصة القول أنه يعتقد التجسم الذي أطبق المسلمون على كفره.

وإن لابن عبد الوهاب عقائد وأحكاماً حول القبور اختص بها، وأفتى بها من غير دليل شرعي، بل الأدلة قائمة على خلاف ما حكم به، وأن مذهبه حول القبور أنه يحرم عمارتها والبناء حولها، وتعاهدها والدعاء والصلاة عندها، بل يجب هدمها وطمسها ومحو آثارها، حتى قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويزعم

٥

هو وأتباعه أن المشاهد المشرفة والقبور التي فيها بمنزلة الأصنام، ويقولون في قبر النبي أنه الصنم الأكبر.

وبالجملة فإن الوهابيين كتلة إرهابية شعارها التدمير والتحطيم، والقسوة والهمجية، وأنهم يبذلون كل ما لديهم من نشاط وقوة لمكافحة فئة واحدة من المسلمين يشهدون أن لا إله إلاّ الله محمد رسول الله ويصلون ويحجون.

وإن في تاريخ حياتهم المظلمة فجائع ومآسي لا تنسى مدى الدهر، ومنها هجومهم على مدينة كربلاء المقدسة في سنة ١٢١٦ هجري المصادف ١٨٠١ م، وإليك الواقعة كما ذكرها المرحوم البحاثة القدير الأستاذ الدكتور السيد عبد الجواد الكليدار في كتابه: «تاريخ كربلاء» نذكره حرفياً:

الحائر والهدم والحرق والنهب والقتل على يد الوهابيين في ١٨ ذي الحجة سنة ١٢١٦.

إن أعظم فاجعة بعد واقعة الطف مرت على كربلاء في التاريخ؛ هي غزو الوهابيين لها في عام ١٢١٦، تلك الفاجعة التي لا تزال تردد صداها البلاد الإسلامية والأوربية معاً، فأسهب في فظاعتها المؤرخون من مسلمين وأوربيين... فعدوها وقعة طف ثانية في التاريخ... فندع المجال أولاً للأوربيين... فنعطي دور الكلام أولاً للمستر ستيفن هميسلي، لونكريك الإنكليزي أن يتكلم أمام الرأي العام العالمي والتاريخ بصراحته وحريته... يقول في كتابه «أربعة قرون من تاريخ العراق»:

«لم تكن أعراب نجد تختلف في العقيدة والمذهب عن بقية المسلمين إلى أواخر القرن الثاني عشر الهجري حين نشر بينهم محمد بن عبد الوهاب تعاليمه الجديدة التي جاءت موافقة لميول أمة بدوية تعيش على الفطرة معتمدة على الغزو في معيشتها، ولاقت قبولاً حسناً من محمد بن سعود أميرهم، وقد تلقى

٦

محمد بن عبد الوهاب دروسه في كليات بغداد الدينية، فأتيح له أن يجلب الأخطار العظيمة على هذه البلاد التي أقام فيها، وانتقل من بغداد إلى المدينة ثمّ إلى عوينة في نجد..

إلى أن يقول: على أن الفاجعة الكبرى كانت على قاب قوسين أو أدنى، تلك الفاجعة التي دلت على منتهى القسوة والهمجية والطمع الأشعبي، واستعملت باسم الدين، وأن الجيوش الوهابية تحركت للغزو المختص بالربيع... انتشر خبراقتراب الوهابيين من كربلاء عشية اليوم الثاني من نيسان ١٨٠١ عندما كان معظم سكان البلدة (كربلاء) في النجف يقومون بالزيارة، فسارع من بقي في المدينة لاغلاق الأبواب، غير أن الوهابيين وقد قدروا بستمائة هجان وأربعمائة فارس، نزلوا فنصبوا خيامهم وقسموا قوتهم إلى ثلاثة أقسام، وفي ظل أحد الخانات (من ناحية محلة باب المخيم فتحوا ثغرة في السور فدخلوا أحد الخانات فجأة) هاجموا أقرب باب من أبواب البلد، فتمكنوا من فتحه عسفاً ودخلوا، فدهش السكان وأصبحوا يفرون على غير هدى، أما الوهابيون الخشن فقد شقوا طريقهم إلى الأضرحة المقدسة واخذوا يخربونها؛ فاقتلعت القصب المعدنية، والسياج ثمّ المرايا الجسيمة، ونهبت النفائس والحاجات الثمينة من هدايا الباشوات والأمراء وملوك الفرس وكذلك سلبت زخارف الجدران وقلع ذهب السقوف، وأخذت الشمعدانات والسجاد الفاخر، والمعلقات الثمينة، والأبواب المرصعة وجميع ما وجد من هذا الضرب، وقد سحبت جميعها ونقلت إلى الخارج.

وقتل زيادة على هذه الأفاعيل قرابة خمسين شخصاً بالقرب من الضريح، وخمسمائة أيضاً خارج الضريح في الصحن، أما البلدة نفسها فقد عاث الغزاة المتوحشون فيها فساداً وتخريباً، وقتلوا من دون رحمة جميع من صادفوه،

٧

كما سرقوا كل دار، ولم يرحموا الشيخ ولا الطفل، ولم يحترموا النساء ولا الرجال، فلم يسلم الكل من وحشيتهم ولا من أسرهم، ولقد قدر البعض عدد القتلى بألف نسمة، وقدر الآخرون خمسة أضعاف ذلك، عدا الجرحى.

إلى آخر ما ذكره المؤرخون من فجائع هذه الطائفة الوحشية القاسية الظالمة.

وفي سنة ١٣٤٤ أفتى فقهاء المدينة بوجوب هدم القبور في البقيع وغير البقيع في المدينة وخارجها، وفي اليوم الثامن من شهر شوال من تلك السنة صدر الأمر ونفذ الحكم، فأهووا على قبرالصديقة الطاهرة سيدة نساة العالمين فاطمة الزهراء بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهدموا قبرها، فكأنها ما كفاها المصائب التي جرت عليها من الأولين أيام حياتها، حتى قام الآخرون بإتمامها بعد وفاتها، ثمّ هدموا مرقد الأئمة الأربعة من أهل البيت وهم:

سبط الرسول الإمام الحسن بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

الإمام زين العابدين علي بن الحسينعليه‌السلام .

الإمام الباقر محمد بن عليعليه‌السلام .

الإمام الصادق، جعفر بن محمدعليه‌السلام ، وقبة العباس عم النبي، وقبر سيدنا إبراهيم ابن رسول الله، وقبور زوجاته وعماته، وقبر فاطمة بنت أسد وحمزة سيد الشهداء عم رسول الله وغيرهما من قبور أهل البيت، ولعلهم إنما أقدموا على تلك الجرائم عملاً منهم بالآية الشريفة:( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى ) .

وقد كتب المغفور له آية الله السيد محمد حسن القزويني كتاباً في الرد على فتاوى رئيس هذه الفئة الباغية الطاغية ونفدت نسخ الكتاب، وقد

٨

انتشرت في هذه الأيام أباطيلهم وكلماتهم المسمومة في بلاد الإسلام أكثر فأكثر، فإنهم استغلوا كتاباً مأجورين، فجعلوا يدعون البسطاء من المسلمين المساكين إلى هذا الدين الجديد الخطر، فرأيت لزاماً علي أن أعيد طبع الكتاب لما فيه من فوائد ومنافع إرشاداً للجاهل وتنبيهاً للغافل، ولئلا يكون للناس على الله حجة والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل.

كربلاء المقدسة

السيد محمد كاظم القزويني

غرة رجب / ١٣٨٢ هجري

٩

١٠

كَلمَة المؤَلف

بِسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبيه محمد وآله الطاهرين.

وبعد: يقول العبد الجاني محمد حسن الموسوي الطباطبائي؛ هذه رسالة وجيزة أوردت فيها من الكتاب والسنة المعتبرة عند المسلمين ما يفصح عن بطلان ما لفقته الطائفة الوهابية من كتاب (منهاج السنة) لأحمد بن تيمية، وقبل الشروع فيها لا بد من تمهيد مقدمتين:

الأولى: أن من القواعد المضروبة شرعاً إصالة الإباحة في الأفعال والأقوال ما لم ينه عنها الشارع خصوصاً أو عموماً من غير معارض.

وعليها الأدلة من الإجماع وحكم العقل والنقل، وقد اعترف بها ابن تيمية قائلاً - في منهاج السنة في الرد على الأشاعرة القائلين بتعذيب من لا ذنب له -: «بأن هذا مخالف للكتاب والسنة والعقل أيضاً».

أقول: والإجماع أيضاً، وذلك لأن المسلمين طراً، بل وسائر أهل الملل والنحل - كما تفضح عنه الآيات التي ستتلى عليك - على إباحة فعل عند فقد بيان من الشارع على المنع وعدم الرخصة، والعقل ناطق بأن من القبيح عقاب العبد على فعل فعله قبل أن ينهاه عنه مولاه، أو قبل وصول نهيه إليه والنقل مصرح كتاباً وسنة:

فمن الكتاب : قوله تعالى:( وما كنا معذبين حتى نبعث رسول ) (١)

____________________

(١) الإسراء: ١٥.

١١

دل على نفي التعذيب مطلقاً عمن لم يبعث إليه الرسول ولم تقم عليه الحجة ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، ولئلا يكون للناس على الله حجة وإلاّ كانت لهم الحجة، كما قال عزّ من قائل:( ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ) وقوله تعالى:( كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها: ألم يأتكم نذير؟ قالوا: بلى قد جاءنا نذير فكذبنا...إلخ ) الآية دلت على أن جميع من يلقى في النار إنما هو بعد تمامية الإنذار، وقوله سبحانه:( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا؟ قالوا: شهدنا على أنفسن ) إلى قوله تعالى:( أن لم يكن ربك مهلك القرى وأهلها غافلون ) صرح فيه تبارك وتعالى باعتراف المخاطبين من الجن والإنس بأنهم جاءتهم الرسل وقصوا عليهم الآيات، وبينوا لهم التكاليف، لكنهم حيث كفروا بآيات ربهم وعصوا رسلهم أهلكهم الله بهذا السبب، وإلاّ فلا يعذب من لم يكن عالماً بالآيات، أو لم يأتهم النذير لقوله عزّ شأنه :( وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ) أي من الأمر بالطاعة، والنهي عن المعصية، فلو عذبهم لكان ظلماً. نزه سبحانه نفسه عن الظلم بقوله تعالى:( وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلاّ وأهلها ظالمون ) وبين أن المعذبين في النار هم الظالمون لأنفسهم بالمعصية، وترك الطاعة، فمن لم يكن ظالماً لا تجوز عقوبته. ولو عوقب لكان ظلماً عليه.

وبالجملة دلت الآيات على أن كل من صنع مثل صنع الأمم الخالية، فأنكروا على الله آياته ورسله، وفعلوا المنكرات والقبائح بعدما تمت عليهم الحجة، وظهرت لهم التكاليف الإلهية والزواجر الشرعية عوقب على إنكاره

١٢

وإقدامه على القبائح المنهي عنها، حيث يقول سبحانه:( ولقد جاء آل فرعون النذر، فكذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر ) فالمؤاخذة لا تكون إلاّ بالبيان وظهور الزواجر الإلهية، فلو لم تظهر لم تكن لله على الناس حجة.

قال ابن تيمية: الأصل الذي عليه السلف والجمهور: أن الله تعالى لا يكلف نفساً إلاّ وسعها، فالوجوب مشروط بالقدرة، والعقوبة لا تكون إلاّ على ترك مأمور أو محظور بعد قيام الحجة، انتهى.

وهذا هو الذي نسبه في ص ٢٠ من الجزء الثالث من «منهاج السنة» إلى أبي حنيفة والشافعي وابن حزم، وهذا هو المطابق لسنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث المتفق عليه الكل، أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «رفع عن أمتي تسعة أشياء: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه.. إلخ».

وفي سنن ابن ماجة، باب اتباع سنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وفيه عن أبي هريرة: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أمرتكم بشيء فخذوه، وما نهيتكم عنه فانتهوا» وفيه أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا» ومثل ذلك رواية البخاري، وفي سنن ابن ماجة: أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: « يوشك الرجل متكئاً على أريكته يحدث بحديث من حديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله عزّ وجلّ فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله».

١٣

قوله: ألا وإن ما حرم رسول الله.. إلخ يدل على أن ما لم يحرمه الرسول لم يكن حراماً من جانب الله، ولم يكن مثل ما حرم الله، وهذا وسابقه تفسير لقوله تعالى:( ما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهو ) .

ثمّ إن الغرض من وضع هذه المقدمة بيان أنه لا وجه لإنكار الطائفة الوهابية على فرق المسلمين - خصوصاً الإمامية - أموراً لم يرد من الشرع فيها نهي وزجر، وإن الحكم فيها بالانتهاء والارتداع جزماً وحتماً خلاف ما عليه كتاب الله وسنة رسوله، بل يكون بدعة لأنه إدخال ما ليس من الدين في الدين، وحكم بغير علم. واحتمال كونه من الدين لا يصيره من الدين، وإلاّ لما كان معنى لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وما نهيتكم عنه فانتهوا» بنحو القضية الشرطية المستفاد منها عدم الانتهاء عند عدم النهي.

المقدمة الثانية: في بيان أن من القواعد الشرعية أصولاً وفروعاً قاعدة التأويل والاجتهاد، والغرض من تمهيد هذه المقدمة بيان أن أناساً من هذه الأمة أخذتهم العصبية والجهالة، فزعموا أنها الهداية والديانة، فجعلوا يخاطبون من عداهم - ممن ليس على مذهبهم وعلى طريقتهم - يا كافر ويا مشرك ويتعدون عليهم في أماكنهم، والبقاع التي تحت سلطتهم، بالضرب والسب والشتم خلافاً لله تعالى ولرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واعتداءاً منهم على المسلمين، إذ ليس فيما أقدموا عليه من التعدي في الكتاب والسنة عين ولا أثر!

والعجب: مع ذلك أنهم يجعلون أنفسهم من أهل السنة، والحال أن السنة النبوية، والشريعة العامة المحمدية - مضافاً إلى سيرة المسلمين والعلماء وأئمة المذهب - على خلاف صنعهم، والإنكار على أفعالهم!!

قال ابن تيمية في ص ١٩ من الجزء الثالث من «منهاج السنة»، في الجواب

١٤

عن المطاعن في الجماعة: إن أكثر هذه الأمور لهم فيها معاذير يخرجها عن أن تكون ذنوباً، وتجعلها من موارد الاجتهاد التي إن أصاب المجتهد فيها فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، وعامة المنقول الثابت من الخلافاء الراشدين من هذا الباب، انتهى.

أقول: وذلك كما في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثمّ أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثمّ أخطأ فله أجر». قال: فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، فقال: هكذا.

وقال في ص ٢٠: قول السلف وأئمة الفتوى كأبي حنيفة والشافعي والثوري وداود بن علي وغيرهم لا يؤثمون مجتهداً مخطئاً، لا في المسائل الأصولية ولا في الفروعية، كما ذكر ذلك ابن حزم عنهم وغيره، ولهذا كان أبو حنيفة والشافعي وغيرهما يقبلون شهادة أهل الأهواء إلاّ الخطابية، ويصححون الصلاة خلفهم، والكافر لا تقبل شهادته على المسلمين، ولا يصلى خلفه.

وقالوا: هذا القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين: أنهم لا يكفرون ولا يفسقون، ولا يؤثمون أحداً من المجتهدين المخطئين، لا في مسألة علمية ولا عملية، انتهى.

وقال ابن حزم في ص ٢٤٧ من أواخر الجزء الثالث من كتاب «الفصل في الأهواء والملل والنحل» ما هذه ألفاظه: «وذهبت طائفة إلى أنه لا يكفر ولا يفسق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فتيا، وأن كل من اجتهد في شيء من ذلك فدان بما رأى أنه الحق فإنه مأجور على كل حال، إن أصاب فأجران، وإن أخطأ فأجر واحد» انتهى.

١٥

أقول: إن كان ما ذكره أئمة الدين هو الأساس والأصل المعتمد عليه عند المسلمين فبأي وجه صحيح شرعي يقدمون أقوام على رفض من عداهم من المسلمين ورميهم بالكفر والشرك؟؟ حتى قاموا يسومونهم سوء العذاب ويجعلون بلادهم بلاد حرب. وقد قال عزّ من قائل:( إنما المؤمنون إخوة ) وقال تعالى:( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوان ) وقال عزّ شأنه:( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سجعل لهم الرحمن ود ) وقال سبحانه:( المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ) وقوله تعالى: (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين) وقال عزّ شأنه:( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين، ونفصل الآيات لقوم يعلمون ) .

الإسلام موجب لحفظ النفس

وفي الصحاح ما هي ناطقة بأن من قال: لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله كان محترم المال والعرض والدم. ويكفيك ما في البخاري عن ابن عباس أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لمعاذ بن جبل، حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله. فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم.

وفي البخاري في باب فضائل عليعليه‌السلام : أنهعليه‌السلام حين أعطاه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الراية يوم خيبر صرخ: يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟

١٦

قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم.

وفي البخاري عن ابن عباس: أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما أمر بالإيمان بالله وحده قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رضمان، وأن تعطوا من المغنم الخمس.. الحديث.

قلت: وأنت أيها المطلع على الكتاب المبين، والواقف على شريعة سيد المرسلين هل ترى لأعمال العداوة والنصب لأهل الحق وأخيك المسلم من جهة غير التعدي لحدود الله؟

ومعلوم: أن مذهب الإسلام وما جاء به خير الأنامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمجنب (بمعزل) عن أمثال هذه التعديات،( أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون ) . فمن حكم بما يراه فقد اتبع هواه الذي نهى الله عنه نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله عزّ شأنه:( ولا تتبع أهواءهم ) وأمر أن يحكم بما أنزل الله، فمن خرج عن ذلك فقد أنكر على الله بعدما جاءه الحق، وأتته البينات، فالميزان في متابعة الحق: المصير إلى ما حكم به القرآن، وإلاّ فما من طائفة إلاّ وهي على زعمها تأمر بالعدل والإحسان كما هو الغالب المتداول بين الجهلة، حيث أن المطاع منهم والشيخ فيهم يحكم بالعادات الجارية، لا بما يقوله الكتاب والسنة، فيشملهم قوله سبحانه:( فإن تولوا فاعلم انما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم، وإن كثيراً من الناس لفاسقون ) وقوله تعالى:( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) إن لم يستحلوا خلاف قول الله وقول رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإلاّ فإن استحلوا ذلك فأولئك هم الكافرون حيث يقول سبحانه( ومن لم يحكم

١٧

بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) نعم لو فرض أن المسلمين تنازعوا أو اختلفوا في شيء فالواجب عليهم أن يردوه إلى الله والرسول لقوله تعالى:( وإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) وقوله سبحانه:( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) ومع ذلك لو طعن طاعن في طائفة من المسلمين وجعلوا يرمونهم بالسب والشتم ونسبة الكفر والإلحاد كان ذلك تفرقاً منهياً عنه بقوله عز‏ّ شأنه:( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء ) وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقو) وقوله سبحانه:( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ) فالله تبارك وتعالى أمر المؤمنين بالاعتصام بحبله، ونهاهم عن التفرق، وفسر الاعتصام بحبله بالتمسك بدينه، ولا ريب أن دينه الإسلام لقوله تعالى:( إن الدين عند الله الإسلام ) والإسلام هو الإيمان المفسر بالشهادتين.

تحريم التفرق والاختلاف

فإذن: المسلمون على ملة واحدة، نعم جعل لهم حدوداً وحرمات لا يجوز التعدي عنها لقوله تعالى:( وتلك حدود الله فلا تعتدوه ) فحرم عليهم الظلم، وحرم عليهم دمائهم وأعراضهم وأموالهم، ففي الصحيحين: أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في حجة الوداع: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بدلكم هذا، ألا هل بلغت؟ ألا ليبلغ الشاهد الغائب.

وفي البخاري - بطرق عديدة - عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال في حجة

١٨

الوداع: أنظروا ولا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض.

والمقصود من هذه المقدمة أن عمل الوهابية خلاف ما عليه الكتاب والسنة، لتطابقهما على لزوم التودد والتحابب بين المسلمين، لا على التنافر والتعاند ورمي بعضهم بعضاً بالكفر، والتعدي بالضرب والشتم. وما علينا إلاّ البلاغ المبين، تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق، إذا عرفت ما مهدناه لك فنقول: إن هذه الرسالة مشتملة على مسائل، وخاتمة.

المسألة الأولى في الشفاعة

قالت الوهابية: الشفاعة للأنبياء والأولياء منقطعة في الدنيا، وإنما هي ثابتة لهم في الآخرة، فلو جعل العبد بينه وبين الله تعالى وسائط من عباده يسألهم الشفاعة كان ذلك شركاً، وعبادة لغير الله تعالى، فاللازم أن يوجه العبد دعاءه إلى ربه ويقول: الله اجعلنا ممن تناله شفاعة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يجوز له أن يقول: يا محمد اشفع لي عند الله.

محتجين عليه بقوله تعالى:( وأن المساجد لله، فلا تدعوا مع الله أحد ) وقوله سبحانه:( من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه ) وقوله جلّ شأنه:( ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضى ) وقوله عزّ من قائل:( لا يملكون الشفاعة إلاّ من اتخذ عند الرحمن عهد ) .

قال محمد بن عبد الوهاب في رسالته «كشف الشبهات»: فإن قال: أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اُعطي الشفاعة، واطلبه مما أعطاه الله. فالجواب: أن الله أعطاه الشفاعة، ونهاك عن هذا! وقال: فلا تدع مع اللهس أحداً، وأيضاً: فإن الشفاعة أعطاها غير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصح أن الملائكة يشفعون، والأولياء يشفعون،

١٩

والأفراط يشفعون، أتقول: إن الله أعطاهم الشفاعة فاطلبها منهم؟ فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين.

وقالت الإمامية: إن الشفاعة ثابتة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصالح المؤمنين والملائكة المقربين، فيجوز الاستشفاع بهم إلى الله تعالى، لنهوض الكتاب والسنة عليه.

الآيات الدالة على جواز الاستشفاع

فمن الكتاب قوله سبحانه:( ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيم ) دلت الآية على أن العاصين متى جاؤوا إلى الرسول تائبين، وجعلوا يتوسلون به في طلب المغفرة من الله، واستغفر عند ذلك لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيما، فلو كان الاستشفاع من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شركاً لله لما وجدوا الله تواباً رحيما، لأن الله سبحانه لا يغفر أن يشرك به.

قال الفخر الرازي في التفسير: يعني لو أنهم عندما ظلموا أنفسهم بالتحاكم إلى الطاغوت، والفرار من التحاكم إلى الرسول، جاؤوا إلى الرسول وأظهروا الندم على ما فعلوه، وتابوا عنه، واستغفروا منه، واستغفر لهم الرسول بأن يسأل الله أن يغفر لهم عنئد توبتهم لوجدوا الله تواباً رحيما، انتهى.

وقال أيضاً عند ذكر الفائدة للعدول عن الخطاب الى الغيبة: وإنما قال: استغفر لهم الرسول. ولم يقل: واستغفرت لهم. إجلالاً للرسول وأنهم إذا جاؤوه فقد جاؤوا من خصه الله برسالته، وأكرمه بوحيه وجعله سفيراً بينه وبين خلقه، ومن كان كذلك فالله لا يرد شفاعته.. الخ.

أقول: وما ذكره من كون الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سفيراً بين الله تعالى وبين

٢٠

أمّا المعجزة الثّانية التي أمر موسى أن يظهرها ، فهي اليد البيضاء ، إذ تقول الآية :( وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) .

والقيد( مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) إشارة إلى أن بياض اليد ليس من برص ونحوه ، بل هو بياض نوراني يلفت النظر ، وهو بنفسه كاشف عن إعجاز وأمر خارق للعادة : ومن أجل أن يظهر الله تعالى عنايته ولطفه لموسى أكثر ، وكذلك منح الفرصة للمنحرفين للهداية أكثر ، قال لموسى بأن معاجزه ليست منحصرة بالمعجزتين الآنفتين ، بل( فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ) (١) .

ويستفاد من ظاهر الآية أن هاتين المعجزتين من مجموع تسع معاجز «آيات» موسى المعروفة ، وقد استنتجنا ذلك من الآية (١٠١) من سورة الإسراء ، وإن المعاجز السبع الأخر هي :

١ ـ الطوفان ٢ ـ الجراد ٣ ـ كثرة الضفادع ٤ ـ تبدل لون نهر النيل كلون الدم ٥ ـ الآفات في النباتات. وكل واحدة من هذه المعاجز الخمس تعدّ إنذارا لفرعون وقومه ، فكانوا عند البلاء يلجأون إلى موسى ليرفع عنهم ذلك.

أمّا المعجزتان الأخريان فهما ٦ ـ القحط «السنين» ٧ ـ ونقص الثمرات. إذ أشارت إليهما الآية (١٣٠) من سورة الأعراف فقالت :( وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) «ولمزيد الإيضاح يراجع الجزء التاسع من التّفسير الأمثل ذيل الآية (١٠١) من سورة الإسراء».

وأخيرا تعبّأ موسى بأقوى سلاح ـ من المعاجز ـ فجاء إلى فرعون وقومه يدعوهم إلى الحق ، كما يصرح القرآن بذلك في آيته التالية( فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ ) .

ومعلوم أنّ هذا الاتّهام «بالسحر» لم يكن خاصّا بموسىعليه‌السلام ، بل اتّخذه

__________________

(١) الجار والمجرور «في تسع آيات» إمّا متعلقان بجملة (اذهب) أو بأحد أفعال العموم المقدرة وقد تكون (في) بمعنى (مع) و (إلى فرعون) متعلق بالجملة ذاتها ، أو بجملة أنت مرسل بها المفهومة من السياق تقديرا.

٢١

المعاندون ذريعة بوجه الأنبياء ، ليجعلوه سدّا في طريق الآخرين ، والاتّهام بنفسه دليل واضح على عظمة ما يصدر من الأنبياء خارقا للعادة ، بحيث اتّهموه بالسحر.

مع أنّنا نعرف أن الأنبياء كانوا رجالا صالحين صادقين طلّاب حق مخلصين ، أمّا السحرة فهم منحرفون ماديّون تتوفر فيهم جميع صفات المدلّسين «أصحاب التزوير».

وإضافة إلى ذلك فإن السحرة كانت لديهم قدرة محدودة على الأعمال الخارقة ، إلّا أنّ الأنبياء فقد كان محتوى دعوتهم ومنهاجهم وسلوكهم يكشف عن حقانيتهم ، وكانوا يقومون بأعمال غير محدودة ، بحيث كان ما يقومون به معجزا لا يشبه سحر السحرة أبدا.

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن يضيف في آخر الآية ـ محل البحث ـ قائلا : إنّ هذا الاتهام لم يكن لأنّهم كانوا في شك من أمرهم ومترددين فعلا ، بل كذبوا معاجز أنبيائهم مع علمهم بحقانيتها( وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا ) .

ويستفاد من هذا التعبير أنّ الإيمان له حقيقة وواقعية غير العلم واليقين ، ويمكن أن يقع الكفر جحودا وإنكارا بالرغم من العلم بالشيء!.

وبعبارة أخرى : إنّ حقيقة الإيمان هي الإذعان والتسليم ـ في الباطن والظاهر ـ للحقّ ، فبناء على ذلك إذا كان الإنسان مستيقنا بشيء ما ، إلّا أنّه لا يذعن له في الباطن أو الظاهر فليس له إيمان. بل هو ذو كفر جحودي ، وهذا موضوع مفصل ، ونكتفي هنا بهذه الاشارة.

لذلك فإنّنا نقرأ حديثا عن الإمام الصادقعليه‌السلام يذكر فيه ضمن عدّه أقسام الكفر الخمسة «كفر الجحود» ويبيّن بعض شعبه بالتعبير التالي (هو أنّ يجحد الجاحد وهو يعلم أنّه حق قد استقرّ عنده).(١)

__________________

(١) الكافي ، ج ٢ ، باب وجوه الكفر ص ٢٨٧.

٢٢

وممّا ينبغي الالتفات إليه أنّ القرآن يعد الباعث على إنكار فرعون وقومه أمرين : الأوّل الظلم ، والثّاني العلوّ :( ظُلْماً وَعُلُوًّا ) .

ولعل «الظلم» إشارة إلى غصب حقوق الآخرين ، و «العلوّ» إشارة إلى طلب التفوّق على بني إسرائيل.

أي إنّهم كانوا يرون أنّهم إذا أذعنوا لموسىعليه‌السلام وآمنوا به وبآياته ، فإنّ منافعهم غير المشروعة ستكون في خطر ، كما أنّهم سيكونون مع رقيقهم «بنى إسرائيل» جنبا إلى جنب ، ولا يمكنهم تحمل ايّ من هذين الأمرين.

أو أنّ المراد من الظلم هو ظلم النفس أو الظلم بالآيات ، وأنّ المراد من العلوّ هو الظلم للآخرين ، كما جاء في الآية (٩) من سورة الأعراف( بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ ) .

وعلى كل حال ، فإنّ القرآن يذكر عاقبة فرعون وقومه على أنّه درس من دروس العبرة ، في جملة موجزة ذات معنى كبير ، مشيرا إلى هلاكهم وغرقهم فيقول :( فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) .

والقرآن هنا لا يرفع الستار عن هذه العاقبة ، لأنّ قصّة هؤلاء الكفرة ونهايتهم الوخيمة ذكرها في آيات أخرى واكتفى هنا بالاشارة الى تلك الآيات ليفهم من يفهم.

والقرآن يعوّل ـ ضمنا على كلمة (مفسد) مكان ذكر جميع صفاتهم السيئة ، لأنّ الإفساد له مفهوم جامع يشمل الإفساد في العقيدة ، والإفساد في الأقوال والأعمال ، والإفساد على المستوى الفردي ، والمستوى الجماعي ، فجمع كلّ أعمالهم في كلمة (المفسدين).

* * *

٢٣

الآيتان

( وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) )

التّفسير

حكومة داود وسليمانعليهما‌السلام :

بعد الكلام عن جانب من قصّة موسىعليه‌السلام في هذه السورة ، يجري الكلام عن نبيّين آخرين من الأنبياء العظام ، وهما «داود» و «سليمان» والكلام على داود لا يتجاوز الإشارة العابرة ، إلّا أنّ الكلام على سليمان أكثر استيعابا.

وذكر هذا المقطع من قصّة هذين النبيّين بعد قصّة موسىعليه‌السلام ، لأنّهما كانا من أنبياء بني إسرائيل أيضا ، وما نجده من اختلاف بين تأريخهما وتاريخ الأنبياء الآخرين ، هو أنّهما ـ ونتيجة للاستعداد الفكري وملائمة المحيط الاجتماعي في عهدهما ـ قد وفّقا إلى تأسيس حكومة عظيمة ، وأن ينشرا بالاستعانة والإفادة من حكومتهما دين الله ، لذلك لا نجد هنا أثرا أو خبرا عمّا عهدناه من أسلوب في تلك الآيات التي كانت تتكلم عن الأنبياء الآخرين ، وهم يواجهون قومهم

٢٤

المعاندين ، وربّما نالوا منهم الأذى والطرد والإخراج من مدنهم وقراهم فالتعابير هنا تختلف عن تلكم التعابير تماما.

ويدلّ هذا بوضوح أنّه لو كان المصلحون والدعاة إلى الله يوفقون إلى تشكيل حكومة لما بقيت معضلة ولغدا طريقهم معبدا سالكا.

وعلى كل حال ، فالكلام هنا عن العلم والقدرة والعظمة ، وعن طاعة الآخرين حتى الجن والشياطين لحكومة الله وعن تسليم الطير في الهواء والموجودات الأخر لحكومة الله!.

وأخيرا ، فإنّ الكلام عن مكافحة عبادة الأصنام عن طريق الدعوة المنطقية ، ثمّ الإفادة من قدرة الحكومة!.

وهذه الأمور هي التي ميّزت قصّة هذين النبيّين عن الأنبياء الآخرين.

الطريف ، أن القرآن يبدأ من مسألة «موهبة العلم» التي هي أساس الحكومة الصالحة القوية ، فيقول :( وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً ) .

وبالرغم من أن كثيرا من المفسّرين أجهدوا أنفسهم وأتعبوها ليعرفوا هذا العلم الذي أوتيه سليمان وداود ، لأنّه جاء في الآية بصورة مغلقة فقال بعضهم : هو علم القضاء ، بقرينة الآية (٢٠) من سورة ص :( وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ ) والآية (٧٩) من سورة الأنبياء( وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً ) .

وقال بعضهم : إن هذا العلم هو معرفة منطق الطير بقرينة الآية( عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ) .

وقال بعضهم : «إن المراد من هذا العلم هو صنعة الدروع ، بقرينة( صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ ) .

إلّا أن من الواضح أن العلم هنا له مفهوم واسع ، بحيث يحمل في نفسه علم التوحيد والإعتقادات المذهبية والقوانين الدينية ، وكذلك علم القضاء ، وجميع العلوم التي ينبغي توفرها لمثل هذه الحكومة الواسعة القوية لأنّ تأسيس

٢٥

حكومة إلهية على أساس العدل وحضارة عامرة حرّة دون الإفادة من علم واسع غير ممكن وهكذا فإنّ القرآن يعدّ مقام العلم لتشكيل حكومة صالحة أوّل حجر أساس لها!.

وبعد هذه الجملة ينقل القرآن ما قاله داود وسليمان من ثناء لله :( وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ) .

والذي يجلب النظر هو أنّه بعد بيان هذه الموهبة الكبيرة «العلم» يجري الكلام عن «الشكر» مباشرة ليكون واضحا أنّ كل نعمة لا بدّ لها من شكر ، وحقيقة الشكر هو أنّ يستفاد من النعمة في طريقها الذي خلقت من أجله.

وهذان النبيّان العظيمانعليهما‌السلام استفادا من نعمة علمهما الاستفادة القصوى في تنظيم حكومة إلهية.

وقد جعل داود وسليمان معيار تفضيلهما على الآخرين «العلم» لا القدرة ولا الحكومة ، وعدّا الشكر للعلم لا لغيره من المواهب ، لأنّ كلّ قيمة هي من أجل العلم ، وكلّ قدرة تعتمد أساسا على العلم.

والجدير بالذكر أنّهما يشكران الله ويحمدانه لتفضيلهما ولحكومتهما على امّة مؤمنة لأنّ الحكومة على امّة فاسدة غير مؤمنة ليست مدعاة للفخر!

وهنا ينقدح هذا السؤال ، وهو : لم قال داود وسليمان( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ) ولم يقولا على عباده المؤمنين جميعا ، مع أنّهما كانا نبيّين ، وهما أفضل أهل عصرهما؟

ولعلّ هذا التعبير رعاية لأصول الأدب والتواضع ، إذ على الإنسان أن لا يرى نفسه أفضل من الجميع في أي مقام كان!

أو لأنّهما كانا ينظران إلى جميع الأزمنة ، ولم ينظرا إلى مقطع زمنيّ خاص ، ونعرف أن على مدى التأريخ يوجد أنبياء كانوا أفضل منهما.

والآية التالية تتكلم على إرث سليمان أباه داود أولا ، فتقول :( وَوَرِثَ

٢٦

سُلَيْمانُ داوُدَ ) .

وهناك كلام بين المفسّرين في المراد من الإرث هنا ، ما هو؟

فقال بعضهم : هو ميراث العلم فحسب لأنّ في تصورهم أنّ الأنبياء لا يورثون.

وقال بعضهم : هو ميراث المال والحكومة ، لأنّ هذا المفهوم يتداعى إلى الذهن قبل أي مفهوم آخر.

وقال بعضهم : هو منطق الطير.

ولكن مع الالتفات إلى أنّ الآية مطلقة ، وقد جاء في الجمل التالية الكلام على العلم وعن جميع المواهب( أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) فلا دليل على حصر مفهوم الآية وجعله محدودا ، فبناء على ذلك فإنّ سليمان ورث كل شيء عن أبيه.

وفي الرّوايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام أنّهم كانوا يستدلون بهذه الآية على عدم صحة ما نسب إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث وما تركناه صدقة» وأنّه ساقط من الإعتبار لمخالفته كتاب الله.

وفي بعض الأحاديث عن أهل البيت أنّه لما أجمع أبو بكر على أخذ فدك من فاطمةعليها‌السلام ، محتجّا بالحديث آنف الذكر ، جاءته فاطمةعليها‌السلام فقالت : (يا أبا بكر ، أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟! لقد جئت شيئا فريّا ، فعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم ، إذ يقول :( وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ ) (١) .

ثمّ تضيف الآية حاكية عن لسان سليمان( وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ) .

وبالرغم من ادعاء بعضهم أن تعبير النطق والكلام في شأن غير الناس لا يمكن إلّا على نحو المجاز إلّا أنّه إذا أظهر غير الإنسان أصواتا من فمه كاشفا

__________________

(١) راجع كتاب الإحتجاج للطبرسي طبقا لما جاء في تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٧٥.

٢٧

عن مطلب ما ، فلا دليل على عدم تسميته نطقا ، لأنّ النطق كل لفظ مبين للحقيقة والمفهوم(١) .

ولا نريد أنّ نقول أنّ ما يظهر من أصوات الحيوانات عند الغضب أو الرضا أو الألم أو إظهار الشوق لأطفالها هو نطق ، كلّا فهي أصوات تقترن بحالات الحيوان إلّا أنّنا ـ كما سيأتي في الآيات التالية ـ سنرى بتفصيل أن سليمان تكلم مع الهدهد في مسائل وحمّله رسالة وطلب منه أن يتحرّى جوابها.

وهذا الأمر يدلّ على أن الحيوانات بالإضافة إلى أصواتها الكاشفة عن حالاتها الخاصة لها القدرة على النطق في ظروف خاصة بأمر الله ، كما سيأتي الكلام في شأن تكلم النمل في الآيات المقبلة إن شاء الله.

وبالطبع فإن النطق استعمل في القرآن بمعناه الوسيع ، حيث يبيّن حقيقة النطق ونتيجته ، وهو بيان ما في الضمير ، سواء كان ذلك عن طريق الألفاظ أو عن طريق الحالات الأخر ، كما في قوله تعالى :( هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ ) (٢) إلّا أنّه لا حاجة إلى تفسير كلام سليمان ومنطق الطير بهذا المعنى بل طبقا لظاهر الآيات فإن سليمان كان بإمكانه أن يعرف ألفاظ الطير الخاصة الدالة على مسائل معيّنة فيشخّصها ، أو أنّه كان يتكلم معها فعلا

وسنتكلم في هذا الشأن في البحوث إن شاء الله تعالى.

أمّا جملة( أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) فهي على خلاف ما حدده جماعة من المفسّرين ، لها مفهوم واسع شامل فهي تشمل جميع الأسباب اللازمة لإقامة حكومة الله في ذلك الحين وأساسا فإن الكلام سيقع ناقصا بدونها ، ولا يكون له

__________________

(١) يقول ابن منظور في لسان العرب : «النطق» هو التكلم ، ثمّ يضيف «وكلام كل شيء منطقه. ومنه قوله تعالى :( عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ) ثمّ ينقل عن بعض علماء العرب ـ وهو ابن سيده ـ أنّه «خلافا لما قال بعضهم : إن النطق خاص بالإنسان. فقد يستعمل النطق في غير الإنسان». وينبغي الالتفات إلى أن الفلاسفة وعلماء المنطق أطلقوا النطق على القدرة على التفكير الذي يعطي الإنسان التمكن من الكلام

(٢) الجاثية ، الآية ٢٩.

٢٨

ارتباط واضح بما سبق.

وهنا يثير الفخر الرازي سؤالا فيقول : أليس التعبير بـ (علمنا) و (أوتينا) من قبيل كلام المتكبرين؟!

ثمّ يجيب على سؤاله هذا بالقول : إن المراد من ضمير الجمع هنا هو سليمان وأبوه ، أو هو ومعاونوه في الحكومة وهذا التعبير مستعمل حين يكون الشخص في رأس هيئة ما ، أن يتكلم عن نفسه بضمير الجمع!.

* * *

بحوث

١ ـ علاقة الدين بالسيّاسة

خلافا لما يتصوره أصحاب النظرة الضيقة من أن الدين مجموعة من النصائح والمواعظ ، أو المسائل الخاصة بالحياة الشخصيّة للإنسان بل هو مجموعة من القوانين والمناهج الحيوية التي تستوعب جميع مسائل حياة الإنسان وخاصة المسائل الاجتماعية.

فقد بعث الأنبياء لإقامة القسط والعدل كما في الآية (٢٥) من سورة الحديد ، إذ يقول سبحانه( لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) .

وليضع الأنبياء عن الناس( إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ ) فيتمتعوا بالحرية كما أشارت إلى ذلك الآية (١٥٧) من سورة الأعراف.

والدين رحمة ومنجاة للمستضعفين وتخليصهم من نير المتكبرين الظالمين.

والدين ـ أخيرا ـ مجموعة من التعاليم والتربية في مسير تزكية الإنسان والرقي به نحو الكمال (كما أشارت إليه الآية ٢ من سورة الجمعة).

وبديهي أن هذه الأهداف الكبرى لا يمكن أن تتحق دون إقامة الحكومة! فمن ذا يستطيع أن يقيم القسط بين الناس بمجرّد التوصيات الاخلاقيّة؟ أو أن

٢٩

يقطع أيدي الظالمين عن المستضعفين. ويضع الإصر والأغلال عن يدي الإنسان ورجليه دون الاستناد الى قدرة شاملة!!

ومن يستطيع أن ينشر الثقافة الصحيحة والمسائل التربوية في مجتمع يشرف عليه المفسدون ، فيمنح القلوب الملكات الأخلاقيّة؟

وهذا هو ما نقوله بأنّ الدين لا ينفصل عن السياسة ، فإذا انفصل الدين عن السياسة فقد فقد عضده وشلت يده ، وإذا انفصلت السياسة عن الدين تبدّلت إلى عنصر مخرب يستغله أصحاب المنافع الشخصيّة!

إن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما وفق لنشر هذا الدين القويم السماوي في أرجاء العالم بسرعة ، لأنّه أسس حكومته في أوّل فرصة واتته ، وتابع أهدافه الإلهية عن طريق الحكومة الإسلامية.

وهناك بعض الأنبياء ممن نال مثل هذا التوفيق فنشروا دعوتهم إلى الله في الأرض أفضل بشكل أمّا من لم تسمح لهم الفرصة بإقامة حكومة إلهية ، فإنّهم لم يحالفهم التوفيق كثيرا في نشر رسالتهم الالهية

٢ ـ آيات الحكومة الإلهية

ممّا يلفت النظر أنّنا نجد في قصّة سليمان وداود ـ بصورة واضحة ـ أنّهما استطاعا أن يقلعا جذور الشرك وآثاره بسرعة ، وأن يقيما نظاما إلهيا عادلا نظاما يقوم على أسس واركان ـ طبقا لما في الآيات محل البحث ـ العلم والمعرفة والاطلاع في المجالات المختلفة.

نظاما يتوج منهجه اسم الله ، فهو على رأس لوحته.

نظاما استعمل كل قواه حتى الطائر ، من أجل الوصول إلى أهدافه.

نظاما جعل الشياطين مغلولة ، والظالمين أذلاء لا يتجاوزون حدودهم.

وأخيرا فإنّ هذا النظام كانت لديه القدرة النظامية «العسكرية» الكافية ،

٣٠

والجهاز التجسس «الأمني» ، والأفراد المتخصصون في المجالات الاقتصادية والإنتاجيّة والعلمية المختلفة ، وكل ذلك كان تحت خيمة «الإيمان» ومظلّة «التوحيد».

٣ ـ منطق الطير

في الآيات المتقدمة والآيات التالية بعدها التي تذكر قصّة سليمان والهدهد ، إشارة صريحة إلى منطق الطير ، وبعض ما يتمتع به الحيوان من شؤون.

وممّا لا شك فيه أنّ الطيور كسائر الحيوانات تظهر أصواتا في حالاتها المختلفة ، بحيث يمكن معرفتها بدقة ، أن أيّ صوت يعبّر عن الجوع؟ وأيّ صوت يعبر عن الغضب؟ وأي صوت يعبر عن الرضا؟ وأي صوت يعبّر عن التمني؟ وأيّ صوت يدعوا الأفراخ إليه؟ وأي صوت يعبر عن القلق والاستيحاش والرعب؟.

فهذه الأصوات من أصوات الطيور ، لا مجال للشك والتردد فيها ، وكلّنا نعرفها مع اختلاف في كثرة الاطلاع أو قلّته! إلّا أنّ آيات هذه السورة ـ بحسب الظاهر ـ تبيّن موضوعا أوسع ممّا ذكرناه آنفا فالبحث هنا عن نطقها بنحو «معمّى خفيّ» بحيث ينطوي على مسائل دقيقة ، والبحث عن تكلمّها وتفاهمها مع الإنسان وبالرغم من أن هذا الأمر مدعاة لتعجب بعضهم ، إلّا أنّه مع الالتفات إلى المسائل المختلفة التي كتبها العلماء ومشاهداتهم الشخصية في شأن الطيور ، لا يكون الموضوع عجيبا.

فنحن نعرف عن ذكاء الطيور مسائل أعجب من هذا.

فبعضها لديها المهارة في صنع أعشاشها وبيوتها بشكل أنيق ، قد يفوق عمل مهندسينا أحيانا.

وبعض الطيور تعرف عن وضع أفراخها في المستقبل ، وحاجاتها ، وتعمل لها عملا دقيقا ، بحيث تكون مثار إعجابنا جميعا.

٣١

وتوقعها لما سيكون عليه الجوّ حتى بالنسبة لعدّة أشهر تالية ، ومعرفتها بوقوع الزلازل قبل أن تقع ، وقبل أن تسجلها مقاييس الزلازل المعروفة!.

والتعليمات التي تصدر إلى الحيوانات في «السيرك» ونشاطاتها وأعمالها الخارقة للعادة الحاكية عن ذكائها العجيب

أعمال النمل وحركاته العجيبة وتمدنه المثير.

عجائب حياة النحل ، وما تقوم به من أعمال محيرة.

معرفة الطيور المهاجرة بالطرق الجويّة ، وقد تقطع المسافة بين القطبين الشمالي والجنوبي!

خبرة الأسماك في مهاجرتها الجماعية في أعماق البحار.

كل ذلك من المسائل العلمية المسلّم بها ، كما أنّها دليل على وجود مرحلة مهمّة من الإدراك أو الغريزة ـ أو ما شئت فسمه ـ في هذه الحيوانات!.

وجود الحواس غير الطبيعية في الحيوانات ـ كالرادار للخفاش ، وحاسة الشم القوية في بعض الحشرات ، والنظر الحاد عند بعض الطيور ، وأمثالها ، دليل آخر على أنّها ليست متخلفة عنّا في كل شيء!

فمع الأخذ بنظر الإعتبار جميع ما بيّناه ، لا يبقى مجال للعجب من أن لهذه الحيوانات تكلما ونطقا خاصا ، وأنّها تستطيع أن تتكلم مع الإنسان الذي يعرف ، «ألف باءها» وقد وردت الإشارة في آيات القرآن إلى هذا المعنى ، ومنها الآية (٣٨) من سورة الأنعام( وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ) (١) .

وفي الرّوايات الإسلامية أمور كثيرة أيضا ، تكشف عن نطق الحيوانات وخاصة الطيور وحتى أنّه نقل لكلّ «منطق» هو بمثابة الشعار ، بحيث يطول

__________________

(١) كان لنا بحث آخر ذيل الآية (٣٨) من سورة الأنعام.

٣٢

المقام بنا لو تعرضنا له بالتفصيل(١) .

ففي رواية عن الإمام أبي عبد الله الصادق أنّه قال : قال أمير المؤمنين علي لابن عباس «إنّ الله علّمنا منطق الطير كما علّم سليمان بن داود ومنطق كل دابة في برّ أو بحر»(٢) .

٤ ـ رواية «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث»

نقل أهل السنة في كتبهم المختلفة حديثا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مضمونه أنّه قال : «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ، ما تركناه صدقة» وربّما نقل الحديث في بعض الكتب بحذف الجملة الأولى والاكتفاء بعبارة : «ما تركناه صدقة».

وسند هذا الحديث ينتهي في كتب أهل السنة المشهورة إلى «أبي بكر» ـ غالبا ـ إذ تولّى بعد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زمام أمور المسلمين ، وحين طلبت منه سيدة النساء فاطمةعليها‌السلام أو بعض أزواج النّبيّ ميراثها منه امتنع عن دفع ميراث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليها استنادا إلى الحديث آنف الذكر.

وقد نقل هذا الحديث «مسلم» في صحيحه «الجزء ٣ ـ كتاب الجهاد والسير ص ١٣٧٩» و «البخاري» في الجزء الثامن من كتاب الفرائض ص ١٨٥ ، وجماعة آخرون في كتبهم.

ممّا يلفت النظر أن «البخاري» نقل في صحيحه حديثا عن «عائشة» أنّها قالت : «إن فاطمة والعباسعليهما‌السلام أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله ، وهما حينئذ يطلبان أرضيهما من فدك وسهمهما من خيبر ، فقال أبو بكر : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لا نورّث ما تركناه صدقة ، إنّما يأكل آل محمّد من هذا المال قال أبو بكر: والله لا أدع أمرا رأيت رسول الله يصنعه فيه إلّا صنعته «قال» فهجرته

__________________

(١) لمزيد الاطلاع يراجع تفسير القرطبي ذيل الآيات محل البحث وتفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٧٧ ، فما بعد

(٢) المصدر السابق ، ص ٨١.

٣٣

فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت(١) !.

وبالطبع فإنّ هذا الحديث فيه مجال للنقد والطعن من جهات متعددة ، إلّا أنّنا نقتصر في هذا التّفسير على ذكر ما يلي :

١ ـ إنّ هذا الحديث لا ينسجم مع نصّ القرآن ووفقا للقواعد الأصولية التي عندنا ، أن كلّ حديث لا يوافق كتاب الله ساقط عن الإعتبار ، ولا يمكن التعويل على أنّه حديث شريف من أحاديث النبي أو المعصومينعليهم‌السلام .

ففي الآيات آنفة الذكر ، ورد «وورث سليمان داود» وظاهر الآية مطلق يشمل حتى الأموال ونقرأ في شأن يحيى وزكريا( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) «مريم الآية ٦». ولا سيما في ما يخصّ زكريا ، فإن كثيرا من المفسّرين أكّدوا على الأمور المالية!.

إضافة إلى ذلك فإنّ ظاهر آيات الإرث في القرآن المجيد عام ويشمل جميع الموارد.

وربّما كان لهذا السبب أن يفسر «القرطبي» ـ مضطرا ـ الحديث على أنّه غالبا ما يكون كذلك ، لا أنّه عام ، وقال : هذا مثل قولهم : إنّا ـ معشر العرب ـ أقرى الناس للضيف ، مع أن هذا الحكم غير عام(٢) .

إلّا أن من الواضح أن هذا الكلام ينفي «قيمة هذا الحديث ...» لأنّنا إذا توسّلنا بهذا العذر في شأن سليمان ويحيى ، فإنّ شموله للموارد الأخرى غير قطعي أيضا.

٢ ـ إنّ الرّواية المتقدمة تعارض رواية أخرى تدلّ على أن أبا بكر صمّم على إعادة فدك إلى فاطمةعليها‌السلام ، إلّا أن الآخرين ما نعوه ، كما نقرأ في سيرة الحلبي : إن فاطمة قالت له : من يرثك؟! قال أهلي وولدي! فقلت : فما لي لا أرث أبي؟. وفي

__________________

(١) صحيح البخاري ـ الجزء الثامن ، ص ١٨٥.

(٢) تفسير القرطبي ، ج ٧ ، ذيل الآيات محل البحث ، ص ٤٨٨٠.

٣٤

كلام سبط بن الجوزي : إنّه كتب لها بفدك ودخل عليه عمر فقال : ما هذا؟ فقال : كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها. فقال : فما ذا تنفق على المسلمين ، وقد حاربتك العرب كما ترى؟ ثمّ أخذ عمر الكتاب فشقّه(١) .

ترى كيف يمنع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موضوع الإرث وينهى عنه بصراحة ، ويجرأ أبو بكر على مخالفته؟! ولم استند عمر إلى المسائل العسكرية وحاجة المعارك ، ولم يستند إلى الرواية؟!

إن التحقيق الدقيق ـ في الروايات الآنفة ـ يدل على أن الموضوع لم يكن موضوع نهي النّبي عن الإرث ، كما أثاره أبو بكر ، بل المهم هنا المسائل السياسية آنئذ ، وهذه المسائل هي ما تدعونا إلى أن نتذكر مقالة ابن أبي الحديد المعتزلي إذ يقول : سألت أستاذي «علي بن الفارقي» : أكانت فاطمة ، صادقة؟ فقال : نعم.

قلت : فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟ يقول : المعتزلي : فتبسم أستاذي ، ثمّ قال كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه وحرمته وقلّة دعابته ، قال : لو أعطاها اليوم فدكا بمجرّد دعواها ، لجاءت إليه غدا وادعت لزوجه الخلافة ولم يمكنه الاعتذار بشيء لأنّه يكون قد أسجل على نفسه أنّها صادقة فيما تدعى كائنا ما كان من غير حاجة الى بيّنة ولا شهود(٢) .

٣ ـ الرواية المعروفة عن النّبي الواردة في كثير من كتب أهل السنّة والشيعة «العلماء ورثة الأنبياء»(٣) .

وما نقل عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا «إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما».

يستفاد من مجموع هذين الحديثين أن الهدف الأساس للأنبياء نشر العلم ، وهم يفخرون به ، وأهم ما يتركونه هو الهداية. ومن يحصل على الحظ الكبير من

__________________

(١) سيرة الحلبي ، ج ٣ ، ص ٤٨٨.

(٢) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ، ج ١٦ ، ص ٢٨٤.

(٣) صحيح الترمذي ، باب العلم ، الحديث ١٩ ، وسنن ابن ماجة مقدمة الحديث ١٧.

(،) ـ أصول الكافي ، ج ١ ، باب صفة العلم ، الحديث ٢.

٣٥

العلم والمعرفة فهو وارثهم الأصيل بصرف النظر عن الأموال التي يرثها عنهم ، ثمّ إن هذا الحديث منقول في المعنى ، وعبّر عنه تعبيرا سيئا ويحتمل أن يكون (ما تركناه صدقة) المستنبط من بعض الرّوايات مضاف عليه.

ولكي لا يطول بنا الكلام ننهي كلامنا ببحث للمفسر المعروف من أهل السنة «الفخر الرازي» الذي أورده ذيل الآية (١١) من سورة النساء إذ يقول : من تخصيصات هذه الآية «آية الإرث» ما هو مذهب أكثر المجتهدين ، أن الأنبياءعليهم‌السلام لا يورّثون ، والشيعة خالفوا فيه روي أن فاطمةعليها‌السلام لما طلبت الميراث ومنعوها منه احتجوا بقولهعليه‌السلام : «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة» فعند هذا احتجت فاطمةعليها‌السلام بعموم قوله :( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) وكأنّها أشارت إلى أن عموم القرآن لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد.

ثمّ يضيف الفخر الرازي قائلا : إنّ الشيعة قالوا : بتقدير أن يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد ، إلّا أنّه غير جائز هنا وبيانه من ثلاثة أوجه :

«أحدها» : أنّه على خلاف قوله تعالى حكاية عن زكرياعليه‌السلام :( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) وقوله تعالى :( وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ ) قالوا : ولا يمكن حمل ذلك على وراثة العلم والدين ، لأنّ ذلك لا يكون وراثة في الحقيقة ، بل يكون كسبا جديدا مبتدأ ، إنّما التوريث لا يتحقق إلّا في المال على سبيل الحقيقة.

«وثانيها» : أن المحتاج إلى معرفة هذه المسألة ما كان إلّا فاطمة وعلي والعباس ، وهؤلاء كانوا من أكابر الزهاد والعلماء وأهل الدين ، وأمّا أبو بكر فإنّه ما كان محتاجا إلى معرفة هذه المسألة البتة ، لأنّه ما كان يخطر بباله أن يرث من الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكيف يليق بالرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبلغ هذه المسألة إلى من لا حاجة به إليها؟ ولا يبلغها إلى من له إلى معرفتها أشدّ الحاجة؟!

«وثالثها» : يحتمل أن قوله : «ما تركناه صدقة» صلة «لا نورث» والتقدير (الذي تركناه صدقة) فذلك الشيء (لا يورّث).

٣٦

فإن قيل : لا يبقى للرّسول خاصية في ذلك!

قلنا : بل تبقى الخاصية ، لاحتمال أن الأنبياء إذا عزموا على التصدّق بشيء فبمجرّد العزم يخرج ذلك عن ملكهم ولا يرثه وارث عنهم ، وهذا المعنى مفقود في حق غيرهم!

والجواب : أنّ فاطمة رضيت بقول أبي بكر بعد هذه المناظرة ، وانعقد الإجماع على صحة ما ذهب إليه أبو بكر! إلخ(١) .

إلّا أن من الواضح أن جواب الفخر الرازي لا يناسب الاستدلالات السابقة ، لأنّه كما ذكرنا آنفا ونقلناه عن المصادر المعتبرة عند أهل السنة فإن فاطمة لا أنّها لم ترض بكلام أبي بكر فحسب ، بل ظلّت واجدة و «غاضبة» عليه ، فلم تكلمه حتى آخر عمرها سلام الله عليها!

ثمّ بعد هذا كلّه كيف يمكن أن يدّعي الإجماع في هذه المسألة ، مع أنّ عليّا وفاطمةعليها‌السلام والعباس وأضرابهم الذين تربّوا في مهبط الوحي ومركزه ، كانوا مخالفين لهذا الرأي.

* * *

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٩ ، ص ٢١٠.

٣٧

الآيات

( وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩) )

التّفسير

سليمان في وادي النمل :

يستفاد من آيات هذه السورة ، وآيات سورة سبأ أن «حكومة سليمان» لم تكن حكومة مألوفة ، بل حكومة مقرونة بما يخرق العادات والمعاجز المختلفة ، التي ورد قسم منها في هذه السورة ، والقسم الآخر ورد في سورة «سبأ» أمّا ما ورد في هذه السورة من الأمور الخارقة للعادة «حكومة سليمان على الجن ، والطير ، وإدراكه كلام النمل ، وكلامه مع الهدهد».

وفي الحقيقة فإنّ الله أظهر قدرته في هذه الحكومة وما سخّر لها من قوى ، ونحن نعرف أن هذه الأمور عند الله ـ في نظر الإنسان الموحّد ـ يسيرة وسهلة!.

٣٨

وأوّل ما تبدأ هذه الآيات بقوله تعالى :( وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ ) .

وكانت جنوده من الكثرة بحيث كانوا عند التحرك والمسير ، ومن أجل المحافظة على النظم. يؤمرون بتوقف مقدمة الجيش لتلحق بها مؤخرتها( فَهُمْ يُوزَعُونَ ) .

«يوزعون» من مادة (وزع) على وزن (جمع) ومعناه الحبس والإيقاف ، وهذا التعبير متى أطلق على الجند أو الجيش فيعني إيقاف أوّل الجيش ليلحق به آخره ، لكي يحفظ من التشتت والتفرق.

وكلمة «وزع» معناها الحرص والعلاقة الشديدة بالشيء ، بحيث تمنع الإنسان عن الأمور الأخرى.

ويستفاد من هذا التعبير أنّ جنود سليمان كانوا كثيرين ، كما كانوا يخضعون للنظم والانضباط.

«وحشر» فعل ماض من (الحشر) على وزن (نشر) ومعناه إخراج الجمع من المقرّ ، والتحرك نحو الميدان للقتال ، وما أشبه ذلك.

ويستفاد من هذا التعبير ـ والتعبير التالي في الآية الأخرى أنّ سليمانعليه‌السلام كان قد جمع جنوده وحرّكهم نحو نقطة ما ، لكن هذه النقطة أية نقطة هي؟ وأين كان يتجه سليمان؟ ليس ذلك معلوما على وجه الدقّة.

واستفاد بعضهم من الآية التالية التي تتحدث عن وصول سليمان إلى وادي النمل ، أنّها منطقة على مقربة من الطائف. وقال بعضهم : بل هي منطقة على مقربة من «الشام».

وحيث أنّ هذا الموضوع لا تأثير له في الأمور الأخلاقية والتربوية «للآية» لذلك لم تتطرق له الآية الكريمة.

وهناك ـ ضمنا ـ جدل بين كثير من المفسّرين في أن الإنس والجن والطير ،

٣٩

هل كانوا جميعا من جنود سليمان؟ فتكون (من) في الآية بيانية ، أو أن قسما منهم كان يؤلف جيشه وجنوده فتكون (من) تبعيضية ويبدو أن هذا بحث لا طائل تحته لأنّ سليمان ـ دون أدنى شك ـ لم يكن حاكما على وجه البسيطة كلها ، بل كانت منطقة نفوذه وحكومته منطقة الشام وبيت المقدس ، وقد يدخل بعض ما حولهما تحت سلطته وحكومته!.

كما يستفاد من الآيات التالية أنّه لم تكن له بعد سلطة على اليمن أيضا وإنّما صارت اليمن تحت نفوذه بعد قصّة الهدهد و «تسليم ملكة سبأ» وإذعانها له.

وجملة( وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ ) في الآيات التالية ، تدلّ على أن هدهدا واحدا كان ضمن الطير التي كانت تحت أمر سليمان ، بحيث أنّه لما افتقده سأل عنه ، فلو كانت الطيور جميعها تحت أمره وفيها آلاف الهداهد ، لكان هذا التعبير غير صحيح «فتأمّلوا بدقة».

وعلى كل حال ، فإنّ سليمان تحرك بهذا الجيش العظيم( حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ ) .

فخاطبت نملة من النمل أصحابها محذرة ، كما تقول الآية :( قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) (١) .

ولنا كلام سيأتي ـ إن شاء الله ـ في كيفية اطّلاع النملة ومعرفتها بحضور سليمان وجنوده في تلك المنطقة ، وكيف أوصلت صوتها إلى بقية النمل؟.

ويستفاد ضمنا من جملة( لا يَشْعُرُونَ ) أن عدل سليمان كان ظاهرا وواضحا حتى عند النمل ، لأنّ مفهوم الجملة أن سليمان وجنوده لو شعروا والتفتوا إلى النملة الضعيفة لما وطأوها بالأقدام ، وإذا وطئوها فإنّما ذلك لعدم توجههم والتفاتهم.( فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها ) .

هناك كلمات مختلفة عند المفسّرين في الشيء الذي أضحك سليمان ،

__________________

(١) قال بعض المفسّرين : إن (التاء) في النملة للوحدة ، وتأنيث الفعل مراعاة لظاهر الكلمة!

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146