البراهين الجليلة في رفع تشكيكات الوهابية

البراهين الجليلة في رفع تشكيكات الوهابية37%

البراهين الجليلة في رفع تشكيكات الوهابية مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 146

البراهين الجليلة في رفع تشكيكات الوهابية
  • البداية
  • السابق
  • 146 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 74066 / تحميل: 7928
الحجم الحجم الحجم
البراهين الجليلة في رفع تشكيكات الوهابية

البراهين الجليلة في رفع تشكيكات الوهابية

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

العباد هي الواسطة التي أثبتتها الإمامية، وساير الفرق من المسلمين الذين أثبتوا للنبي الشفاعة المطلقة، بل أقول: إن النكتة في العدول من الخطاب إلى الغيبة هي الإشارة والدلالة على أن هذا المقام الكريم، وغفران الله باستغفار الشفيع غير مختص بشخصية النبي. وإنما هو عام لكل سفير، ومن له جهة القرب من الله. المقتضية للأهلية للشفاعة.

ومنها: قوله تعالى - حكاية من أولاد يعقوب - :( يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين ) ، وقول يعقوب( سوف أستغفر لكم ربي ) ، فإنه صريح في سؤالهم وتوسلهم بأبيهم إلى الله في الاستغفار وطلب العفو، ونزول الرحمة في الدنيا قبل الآخرة.

ومنها: ما تضمن الأمر باستغفار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمؤمنين من قوله تعالى:( واستغفر لذنبك وللمؤمنين ) وقوله سبحانه:( وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ) ومن المعلوم أن الأمر به يلازم جواز الاستشفاع بالنبي لأنه لا يأمر بالشرك والكفر، أيأمركم بالكفر بعد إذا أنتم مسلمون؟

وقول ابن عبد الوهاب: (إن الله أعطى نبيه الشفاعة، ولكن نهاك عن الاستشفاع به!) كلام شعري، مبناه الخيال، فإنه مثل أن يقول: إن الله تعالى أعطى نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم القيامة سقاية الحوض، ولكن نهى الناس من الورود عليه والاستسقاء منه!

أو يقول: إن الله تعالى أكرم العباس (عم النبي) بسقاية الحاج، ولكن نهى الحاج عن الوفود عليه!! فهل يجد الإنسان لمثل هذا الكلام معنى وأنه إذا راجع وجدانه يرى أنه إذا قال السلطان لبعض غلمانه: (إني فوضت إليك

٢١

تولية أمور رعيتي، ولكن نهيت الرعية عن المراجعة إليك في أمورهم) عد كلامه هذا سفهاً ولغواً.

جواز الاستشفاع بالنبي والأئمة

ومنها: قوله تعالى:( من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منه ) دلت على جواز وقوع الشفاعة الحسنة من المؤمنين: بعضهم في حق بعض، ومتى جاز التوسل بالشفيع ولو كان ذلك شركاً لما صح الإذن في الشفاعة لا عقلاً ولا سمعاً، مع أنها مأذون فيها، ومرغب إليها بقوله سبحانه: يكن له نصيب منها.

والوجه في ذلك: أن الشفاعة عبارة عن اجتماع الشفيع مع المشفوع له في الدعاء والمسألة، إذ الشفاعة مشتقة من الشفع وهو أن يصير الإنسان نفسه شفعاً لصاحب الحاجة، كي يجتمع معه على المسألة من الله تعالى، فهي دعاء وطلب من الله تعالى، وطلب لدعاء الشفيع إلى الله، لا دعاء مع الله، والآية دالة على حرمة الدعاء مع الله، لا الدعاء من الله تعالى، وأين هذا من ذاك؟

ومن السنة: ما في البخاري - في باب: إذا استشفعوا إلى الإمام ليستسقي لهم لم يردهم - وباب: إذا استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط - فراجع.

فإن قلت: إن الله حكم بكفر عبدة الأوثان، وشركهم، لأجل قولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله. قلت: نعم، إن الله حكم بكفر هؤلاء. لكن منشأ كفرهم أحد الأمرين: إما بغيهم وعتوهم على الله بجعلهم من لا أهلية له من جانب الله شفيعاً ووسيلة يتوسلون بها إلى الله.

٢٢

وإما عبادتهم لذلك الشفيع، حيث قالوا:( وما نعبدهم إلاّ ليقربونا إلى الله زلفى ) . وأين هذا من جعل الأنبياء شفعاء، لا شركاء معه في الدعاء، فإن الاستشفاع بهم لا يكون كفراً ولا شركاً لوجهين؛ بين مجمل ومفصل:

أما الوجه الأول فهو أن للإمامية - بل وقاطبة المسلمين الذين يجوزون الاستشفاع - سؤالاً من ابن عبد الوهاب، وهو أنه هل ثبتت الشفاعة في الشريعة أم لا؟. فإن قال: لا. أنكر ما أقر به أولاً: من أن الشفاعة أعطاها الله غير النبي أيضاً وأنكر على الله ما في القرآن، وإن قال: نعم. قلنا له هل الشفيع شريك مع الله في المغفرة؟ أو أنه شريك مع المشفوع له في طلب المغفرة، فإن قال بالأول فقد أثبت لله سبحانه الشريك، وصار إلى ما فر منه، وإن قال بالثاني أقر بالحق الذي عليه المسلمون، وإن قال بالفرق بين الدنيا والآخرة قلنا له: إن ما يكون شركاً في الدنيا لا يكون طاعة في الآخرة، وإن الشرك شرك وقبيح في الدنيا والآخرة.

وأما الوجه التفصيلي الثانوي فهم أنه لو كان التوسل بالشفيع عبادة له لما جاز الأمر بالتوسل في قوله تعالى:( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة ) فإن المراد بالوسيلة ما يتوسل به إلى الله تعالى، ولا يختص بالأفعال العبادية، أو مطلق الطاعة، أو الكتاب والسنة، بل اللفظ بظاهره عام، لا معدل عنه.

فيعمم مطلق الوسائل التي أمر الله تعالى باتباعها، والاعتصام بها، من الأنبياء الذين هم حبل الله الممدود من السماء في قوله تعالى:( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقو ) .

٢٣

فإن المراد من الحبل في الآية هي الواسطة بين الله تعالى وبين عباده شبهت بالحبل الرابط بين الشيئين.

فقول الوهابية: إن الواسطة ملغاة في الشريعة: يرده الكتاب والسنة الواردة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أهل بيته وأصحابه بطرق صحيحة، مثل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، من ركبها نجى، ومن تخلف عنها غرق» وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث المتواتر: «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبداً».

ومعنى التمسك بهما التوسل بهما في الشدائد، وجعلهما سبباً للنجاة من الهلكة في الدنيا والآخرة.

ثمّ إن الجواب عما استدل به الوهابي من قوله تعالى:( فلا تدعوا مع الله أحد ) هو أن المنفي بالآية الدعوة مع الله، دون الدعوة من الله بواسطة الشفيع، وطلب دعائه أيضاً إلى الله، حسبما ذكرنا. على أن المراد من النهي الانتهاء من جعل الشريك لله تعالى في العبادة، بقرينة قوله سبحانه:( وأن المساجد لله ) ، فالمعنى كما عن المفسرين قاطبة: إن المساجد لله، فلا تعبدوا مع الله غيره، كما في قوله تعالى:( ولا تدعوا مع الله إلهاً آخر ) وهذا يقوله كل مخلص في عبادته، ولكنه لا دخل له بمسألة الاستشفاع فإن الاستشفاع نظير طلبك من المقرب عند الملك أن يشاركك في طلب مسألتك من الملك.

وأما الجواب عن الآيات الأخر: مثل قوله تعالى:( لا يملكون الشفاعة إلاّ من اتخذ عند الرحمن عهد ) . وقوله تعالى:( ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضى ) فنقول:

٢٤

المناقشة مع الوهابيين

إن مقتضى الآية الأولى ثبوت الشفاعة لمن اتخذ عند الرحمن عهداً، أي إيماناً، فالمؤمنون يملكون الشفاعة، كما أن مقتضى الآية الثانية ثبوت الشفاعة بعد الإذن والرضا من الله تعالى، ونحن نقول به للأنبياء والأولياء، ولو كان شركاً لما جاز الإذن والرضا بالشفاعة، نعم لا يجوز القول بأنه: يا محمد يا رسول الله اغفر لي ذنبي. وذلك لأنه لا يغفر الذنوب إلاّ الله، وجميع المسلمين على ذلك، وأما القول بأنه: يا محمد اشفع لي عند ربك. فليس من الشرك، إذ الشرك هو أن تدعوه مع الله في حاجتك، لا أن تسأله أن يدعو الله في غفران ذنوبك.

ثمّ إن ابن عبد الوهاب لما لم يعلم حقيقة العبادة توهم أن طلب الشفاعة من الشافعين يكون من عبادة الصالحين، وهذه غفلة منه عن أن العبادة عبارة عن وقوف العبد بين يدي معبوده، وإظهار غاية الخضوع والخشوع، لا مطلق التعظيم والخضوع، ولذا لم يذهب أحد من المسلمين بأن تعظيم المؤمنين أو الأنبياء والمرسلين حال حياتهم من عبادة الصالحين، ومثل هذا الاستشفاع بهم إلى الله حال حياتهم وبعد مماتهم، فمن يعبد الله ويوحده لا يجد من نفسه حين ما يطلب من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشفاعة أن يعبده في ذلك، ولعل ابن عبد الوهاب رأى أن رواج مذهبه منوط برمي المسلمين بالشرك دون من ينسب إليه، فرماهم بما لا يتفوه به إلاّ جامد أو معاند، فقال في رسالته «كشف الشبهات» ما حاصله: إن الطلب من الشفيع ينافي الإخلاص في التوحيد الواجب على العباد بقوله تعالى:( مخلصين له الدين ) ، وقوله سبحانه:( ادعوا ربكم تضرع ) .

٢٥

وإن الوقوف على قبر محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاستشفاع منه من جعل الآلهة، فهم يصيحون كما صاح إخوانهم، أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب!!!

فياللعجب من هذا التقحم والتهاجم على المسلمين الموحدين، وقد عرفت دفعه والجواب عنه بما حاصله: إن دعوة الشفيع بعد ثبوت الإذن والرضا من الله تعالى لا تنافي دعوة الله تعالى. ولا تنفك عنها، كما أن إطاعة الرسول لا تنفك عن إطاعة الله تعالى في قوله تعالى:( ومن يطع الرسول فقد أطاع الله ) فمن ادعى المنافاة فقد أبطل جعل الشفيع من الله، وهذا إنكار على الله، ولا نقول بأنه يصيح كما صاح إخوانه: إنا كفرنا بالذي اُرسلتم به، وإنا به لكافرون بل نقول: سيعلمون غداً من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى.

استدراك في الشفاعة(١)

وهو أن الشيخ سليمان بن سحمان ذكر كلاماً طويلاً في كتاب «الهدية السنية» صحيفة ٦٤ إلى أواخر ٦٨، وعنوانه: «لا الشفاعة الشرعية أو الشفاعة الشركية والشفاعة الحق»... ثمّ أورد جملة من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة الدالة على وقوع الشفاعة التي من جملتها قوله تعالى:( من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه ) ،( يومئذ لا تنفع الشفاعة إلاّ من أذن له الرحمن ورضي له قول ) ،( وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلاّ من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ) .

____________________

(١) استدرك المؤلف هذا الموضوع في آخر الكتاب مما يظهر أنه كتبه بعد انتهائه في تأليفه وحيث أعدنا طباعة الكتاب للمرة الثالثة رأينا إلحاقه بموضوعه أليق.

«الناشر»

٢٦

ومنها حديث الصحيحين، وفيه: إن الله يقول لرسوله أربع مرات: يا محمد ارفع رسك وقل يسمع واشفع تشفع.

ورواية البخاري عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: «لا إله إلاّ الله» خالصاً من قلبه.

ورواية الترمذي وابن ماجة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أتاني آت من عند ربي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة، وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً.

أقول: وقد مر عليك حديث استسقاء عمر بالعباس، وحديث توسل الأعمى إلى الله بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحديث توسل آدمعليه‌السلام حيث قال يارب أسألك بحق محمد إلا غفرت لي. فقال الله: كيف عرفت محمداً ولم أخلقه بعد؟ قال: رأيت على قوائم العرش مكتوباً «لا إله إلاّ الله محمد رسول الله» فقال الله: وإذا سألتني بحقه فقد غفرت لك.

وقد صح في الحديث: إن في هذه الأمة المرحومة شفعاء إلى الله، وإن منهم من يشفع لأكثر من ربيعة ومضر، وللفئام والقبيلة.

واذا عرفت أدلة شفاعة النبي والأئمة البالغة حد التواتر، وأمعنت النظر فيها، علمت أن الاستشفاع الذي عليه المسلمون خلفاً عن سلف إنما هو على قسمين:

(أحدهما) أن يقدموا النبي أو الولي الوجيه عند الله أمام طلب الحاجة بأن يقسم على الله به وبحقه في الفضل والإيمان والطاعة لله، كما جاء في حديث ابن عمر في توسل آدم وما روى: من أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علم الضرير التوجه إلى الله به

٢٧

وأن يطلب من الله أن يشفعه فيه، كما أسنده أحمد عن عثمان بن حنيف، وكذا ابن ماجة والترمذي وصححه، وكذا الحاكم في مستدركه والسيوطي في جامعه، وكما رواه البخاري من استسقاء عمر بالعباس وتوسله إلى الله به.

(وثانيهما) أن من له حاجة الى الله يطلب من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسأل الله قضاءها ويرجو منه أن يشاركه في الدعاء إلى الله ومسألة تلك الحاجة منه جل وعلا، يفعل ذلك السائل اعتماداً على وجاهة الشفيع عند الله وقربه من الله تعالى.

وإن المسلم الذي يؤدي الشهادتين مخلصاً هو الذي أذن الله نبيه بالشفاعة كما دلت عليه روايات البخاري والترمذي وابن ماجة، وكذا روايتا الحارث بن قيس وأبي سعيد عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

هذا هو ما عند المسلمين في التوسل والاستشفاع لا غيره، وقد جاء به الكتاب والسنة، ومن نسب غير ذلك إليهم فقد افترى عليهم؛ إما جهلاً بما عليه المسلمون في توسلهم واستشفاعهم اعتماداً على الكتاب والسنة، وإما عناداً لرسول الله وأوليائه في بقاء كرامتهم في الإسلام ولياقتهم للاستشفاع بأحد القسمين المذكورين، وإما تمويهاً وتلبيساً على بعض العوام للاستعانة بهم على ما حرمه الله من دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم.

والعجب أن الشيخ سليمان ذكر الآيات الواردة في الاستشفاع بالأوثان والأصنام، فحاول أن يتشبث بها لنفي الشفاعة، حتى نسب إلى المسلمين الشرك والكفر، والحال أنه ذكر من آيات الشفاعة بإذن الله وأحاديثها ما بلغ التواتر.

ومعلوم أن عمل المسلمين على مقتضى دلالتها، فاللازم على الشيخ شرعاً

٢٨

الحكم بمقتضاها، فيجعل بتدبر القرآن والأحاديث ما للمسلمين(١) وما على المشركين على المشركين، ولا يحاول بقياسه أن يخلط الإيمان بالشرك والمشروع بالمحظور وما أذن الله فيه لمن يرتضيه بما يسخطه وينفيه (ما هكذا تورد يا سعد الإبل).

فإن المسلمين يقولون: إن الله هو إلهنا ومعبودنا، وهو الذي أذن لنبيه في الشفاعة لنا، ومع ذلك ليس لك من الكتاب والسنة حاجز عن قولك في صحيفة ٦٦: إن الكتاب والسنة دلا على أن من جعل الملائكة والأنبياء أو ابن عباس أو أبا طالب أو المحجوب وسائط بينهم وبين الله ليشفعوا لهم عند الله لأجل قربهم من الله - كما يفعل عند الملوك - أنه كافر مشرك حلال الدم والمال وإن قال: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمداً رسول الله وصلى وصام.

يا شيخ: إن عمر استشفع بالعباس إلى الله في الاستسقاء، فماذا تقول؟؟ وكل أحد يعلم أن استشفاع المسلمين بالأنبياء والأولياء إلى الله إنما هو على نهج استشفاع عمر بالعباس، وماذا تريد بقولك «كما يفعل عند الملوك» فهل تريد بذلك ما زعمته في صحيفة ٦٦٧: من أن الشفاعة عند الملوك إنما تكون لإخبارهم بما يجهلونه من حال الرعية، أو لعجزهم عن تدبير رعيتهم، أو لخوفهم من الشفيع أو حاجتهم إليه؟

فأنا وسائر المسلمين نخبرك أنه ليس في المستشفعين إلاّ من يعتقد أن الله هو العالم بكل شيء والقادر على كل شيء، وأنه أذن لأوليائه بالشفاعة للمسلمين

____________________

(١) للمسلمين.

٢٩

رحمة منه بهم وكرامة للشفيع عنده كما أوضحناه، وحاشا أن يستشفع المسلمون بالنحو الذي تزعمه في شفاعة السلاطين.

على أن شفاعة الملوك لا تنحصر بما زعمته، فإن الملك قد يكون تشفيعه رحمة للرعية وإكراماً للشفيع من دون جهل ولا عجز ولا خوف ولا حاجة.

يا شيخ: أبيت إلاّ أن تقول: كافر مشرك حلال الدم والمال وإن شهد الشهادتين وصام وصلى، فإن لسانك في فمك وقلمك بيدك وما الله بغافل عما تعملون وهو المستعان على ما تصفون. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.

(المسألة الثانية في التوسل) كلام الوهابيين في التوسل

قالت الوهابية: لا يجوز التوسل بالموتى ممن ثبتت مكانته عند الله ورفع الحوائج إليهم. محتجين - تارة - كما عن ابن عبد الوهاب بأنه خطاب لمعدوم، وذلك قبيح عقلاً، لعدم قدرة الميت على الإجابة، و -أخرى - كما عن ابن تيمية: بأنه شرك. قال في ص ١١ من الجزء الأول من منهاج السنة: والذين تدعون من دونه لا يملكون من قطمير، إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم، ولو سمعوا ما استجابوا لكم، ويوم القيامة يكفرون بشرككم، ولا ينبئك مثل خبير.

وقالت الإمامية: يجوز سؤال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة قضاء الحوائج وتفريج الكرب بعد موتهم، كما يجوز ذلك حال حياتهم، لعدم كون ذلك من خطاب المعدوم أولا، ولا كونه شركاً ثانياً.

أما عدم كون نداء الأموات توجيهاً للخطاب نحو المعدوم: فلأن

٣٠

للميت من الإدراك والشعور والالتفات مثل ما له حال الحياة، بل أزيد لإجماع المسلمين عليه، بعد الكتاب والسنة.

قال الغزالي - الذي هو من أئمة الشافعية - في إحياء العلوم: ظن بعضهم أن الموت هو العدم، وهذا رأي الملحدين، وكل من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وهذا معنى ما يقال: الناس نيام وإذا ماتوا انتبهوا، فإن أول ما ينكشف له ما يضره وما ينفعه من حسناته وسيئاته، فلا ينظر إلى سيئة إلاّ ويتحسر عليها.

الأدلة على التفات الميت ودركه الأشياء

أقول: فقول الوهابيين مردود بالإجماع السابق عليهم واللاحق لهم: بأن الموت ليس من العدم.

أما الكتاب: فطوائف، منها:

ما نزل في حق عامة الناس من قوله تعالى:( فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ) ، وقوله سبحانه:( اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيب ) ومنها ما نزل في حق المؤمنين من قوله تعالى:( ولهم رزقهم فيها بكرة وعشي ) وقوله تعالى:( إن الأبرار لفي نعيم ) وقوله سبحانه:( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) .

ففي صحيح البخاري: إذا جلس المؤمن في قبره أتى ثمّ يشهد أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله فذلك قوله عزّ وجلّ:( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ) .

ومنها: ما نزل في حق المجرمين من العصاة والكفار من قوله تعالى:

٣١

( النار يعرضون عليها غدواً وعشياً، ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ) وقوله سبحانه:( إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حق ) .

ففي البخاري: أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتى قليب بدر وخاطب المشركين بهذه الآية، فقيل له: إنك تدعو أمواتاً. فقال: ما أنت بأسمع منهم، ولكن لا يجيبون.

اثبات الحياة البرزخية

ومنها: ما هو صريح في الحياة الدائمة بعد الارتحال عن الدنيا، كقوله تعالى:( ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ) وقوله تعالى:( وإن الدار الآخرة لهي الحيوان ) ، وقوله تعالى:( يقول يا ليتني قدمت لحياتي ) ، أي يقول الكافر: يا ليتني قدمت في الدنيا التي حياتها منقطعة لحياتي التي هي دائمة، ولذا قال: لحياتي. ولم يقل: لهذه الحياة. تنزيلاً للحياة المنقطعة منزلة العدم، فكأنها ليست الحياة بعد مفارقة الروح البدن العنصري إلى الحياة في الآخرة.

ومنها: ما نزل في حق الشهداء:( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألاّ خوف عليهم ولا هم يحزنون، يستبشرون بنعمة من الله وفضل وإن الله لا يضيع أجر المؤمنين ) .

ومنها: ما اشتمل على خطاب الله مع المؤمنين مثل قوله تعالى:( يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ) فلو كانت النفوس البشرية بعد مفارقة الأرواح عن الأبدان معدومة

٣٢

لا يجوز الخطاب معها، فكيف وقع الخطاب لهم من الله تعالى؟ أم كيف أنهم خاطبوا الله بقولهم: رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت. أو قالوا في القبر: ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين.

وأما السنة: فحسبك أبواب الصحاح والسنن من باب: إن الميت يسمع خفق النعال، وباب: إن الميت يتكلم في القبر، وباب : إن الميت يرى مكانه من الجنة والنار، وباب: كيفية السلام على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلى سائر المؤمنين إذا أتى الرجل المقابر.

وفي صحيح البخاري في باب كيفية فرض الصلاة وملاقاة النبي - ليلة الإسراء - الأنبياء: من آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم، وتكلمه معهم سلام الله عليهم، من حديث ابن حزم وأنس بن مالك: أنه قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فرض الله على أمتي خمسين صلاة، فرجعت بذلك حتى مررت على موسىعليه‌السلام ، فقال: ما فرض الله لك على أمتك؟ قلت: فرض خمسين صلاة. قال: فارجع إلى ربك، فان أمتك لا تطيق فرجعت فوضع شطرها، فرجعت إلى موسى فقلت: وضع شطرها. فقال راجع ربك، فإن أمتك لا تطيق، فرجعت فوضع شطرها، فرجعت إليه فقال ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق. فراجعته، فقال: هن خمس، هن خمسون، لايبدل القول لدي، فرجعت إلى موسى فقال: ارجع إلى ربك فقلت استحيت من ربي.. الحديث.

وفي سنن النسائي وإحياء العلوم: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن لله ملائكة سياحين في الأرض، يبلغون من أمتي السلام.

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أكثروا علي من الصلاة، فإن صلاتكم معروضة علي.

٣٣

قالوا: يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت قال: إن الله تعالى قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء فنبي الله حي يرزق.

قوله: فنبي الله حي يرزق. ظاهر في العموم، لأن الإضافة تفيده فإذا كان الأنبياء والشهداء أحياء يرزقون. ويشهدون الصلاة والسلام ممن يصلي عليهم من قريب أو بعيد، فكيف لا يشهدون نداء من يناديهم، واستغاثة من يستغيث بهم؟

وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : علمي بعد مماتي كعلمي في حياتي.

وفي إحياء العلوم: إن الله وكل ملكاً يسمعني أقوال الخلائق.

واما عدم كون التوسل - بالميت - إلى الله شركا: فلأنه نظير التوسل بالحي، وسؤاله قضاء الحوائج بواسطة دعائه من الله تعالى، فكما أنه ليس من الشرك كذلك التوسل بالميت، فيجعل أحد التوسلين كالآخر بجامع السؤال من المخلوق، إذ لا وجه لتوهم كونه شركاً، إلاّ كونه دعاء لغير الله تعالى، فإذا جاز بالنسبة إلى الأحياء جاز مطلقاً.

أما أولاً فلكونه من التعاون المأمور به شرعاً في قوله تعالى:( وتعاونوا على البر والتقوى ) ففي البخاري قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فكوا العاني وأجيبوا الداعي. ولم يقلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ارفضوه لأنه أشرك!!

وأما ثانياً فلوقوع نداء المخلوق والدعاء له، والالتماس منه في الكتاب.

لقوله سبحانه:( فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه ) وورود

٣٤

سؤال الحواريين عيسىعليه‌السلام نزول المائدة لهم من السماء وسؤال قوم موسى منه الاستسقاء وقال سبحانه - حكاية عن يوسف -:( اذكرني عند ربك ) وعن موسى والخضر:( فانطلقا حتى أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهم ) :

فلو جاز ليوسف أن يقول للكافر:( اذكرني عند ربك ) أعني الملك، ولموسى والخضر أن يستطعما أهل القرية، جاز لنا بطريق أولى أن نقف أمام قبر محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونقول له:( اذكرني عند ربك ) ونطلب منه الحاجة، ولو بواسطة دعائه لله.

فابن تيمية وأتباعه هل يجدون من أنفسهم جواز استعانة سليمانعليه‌السلام في إحضار عرش بلقيس بجلسائه، وفيهم عفريت، ويقول لهم:( أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين ) ولا يجدون من أنفسهم الاستعانة والتوسل بمحمد وآله الطاهرين الذين هم سفن النجاة وباب حطة، وأحد الثقلين اللذين يجب التمسك بهما؟

فلو جازت هذه الأسئلة ولم تكن شركاً جاز سؤال الأنبياء والأولياء عند الوقوف على قبورهم، أو من مكان بعيد إجابة المضطر ولا يكون طلباً من العاجز، لأنه تعالى وصف نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله تعالى: وما نقموا منه إلاّ أن أغناهم الله ورسوله، وقوله تعالى:( ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله ) ، وقوله عزّ شأنه:( ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي عليهم ) . والمراد بها المحنة والمشقة. سواء كانت دنيوية أو أخروية، ولقد قال تبارك اسمه؛( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم ) .

٣٥

ومقتضى عموم رأفته ورحمته بالمؤمنين قضاء حوائجهم بشفاعته لهم إلى الله تعالى.

قال الرازي: المراد حريص على إيصال الخيرات إليكم في الدنيا والآخرة.

أقول؛ ومن كان هذا شأنه جاز الوفود عليه، والتوسل به وعدم الإعراض عنه إلى غيره، ممن لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، بخلاف الأنبياء لقوله تعالى فيما اختص به عيسىعليه‌السلام :( إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً باذن الله، وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله ) .

وقال تعالى - في حق إبراهيمعليه‌السلام -:( فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك، ثمّ اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثمّ ادعهن يأتينك سعي ) . كل ذلك مضافاً إلى ما ورد في الكتاب والسنة من معجزات الأنبياء، وخوارق العادات الجارية على أيديهم،

٣٦

٣٧

توسل عمر بعم النبي العباس

وأعجب من ذلك: دعوى الشيخ سليمان النجدي اختصاص التوسل بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون غيره، مع أن في صحيح البخاري: أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا قحطنا فسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيسقون.

وفي خلاصة الكلام عن العلامة القسطلاني - في المواهب: أن عمر لما استسقى بالعباس قال: أيها الناس إن رسول الله كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد، فاقتدوا به في عمه العباس، واتخذوه وسيلة إلى الله.

ففيه التصريح بالتوسل بغير النبي، لأن فعل عمر حجة عند الجميع، بل وفعل الصحابة، لقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أصحابي كالنجوم. بأيهم اقتديتم اهتديتم.

ومع ذلك فهل يتوهم أن هؤلاء الذين التجوا بالنبي عند القحط أشركوا في توسلهم؟ أو أنهم أعرضوا عن قوله تعالى:( ادعوا ربكم ) (١) وقوله تعالى:( فلا تدعوا مع الله أحد ) (٢) .

أو أن عمر أراد من ضمه العباس في الدعاء الشرك بالله؟ أو أنه لم يعرف من معالم الدين قدر ما فهمه الوهابيون؟ كلا، إن هذا بهتان عظيم على أمناء الدين.

____________________

(١) الاعراف: ٥٥.

(٢) الجن: ١٨.

٣٨

فلو كان التوسل ونداء غير الله شركاً لما كان فرق بين المستغاث به حياً أو ميتاً، وكون الحي قادراً لا دخل له بمسألة الإيمان والكفر ولم يذهب أحد من العلماء في أصولهم: إلى أن اعتقاد القدرة من العقائد الدينية، مع أن لازمه أنه إذا اعتقد المضطر قدرة المتوسل به وإن كان ميتاً لما كان التوسل به شركاً، أو أنه اعتقد عجز الحي والتجأ به كان شركاً، ولم يقل به أحد.

نعم: السؤال من العاجز مع إحراز عجزه لغو، لا أنه شرك، وإلاّ لزم انقلاب الإيمان إلى الشرك، وبالعكس عند تبديل العجز بالقدرة والتمكن بعدم المقدرة!

فإن قلت: إن الله تعالى أعطى القادر من عباده القدرة والقوة وأنا اطلبه مما أعطاه الله تعالى.

قلت: الجواب من ذلك هو الجواب الذي قاله ابن عبد الوهاب حرفاً بحرف في الرد على من قال بصحة الاستشفاع بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والأئمةعليهم‌السلام .

فنقول: إن الله أعطاه القدرة، ولكن نهاك عن دعاء المخلوق في قوله( لا تدع مع الله أحد ) وقوله:( ادعوا ربكم تضرع ) ، وقوله تعالى:( فصل لربك وانحر ) ، وقوله:( والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ) .

فان قلت: إن الحول والقوة إذا كانا من جانب الله كان دعاء القادر دعاء لله لا دعاء مع الله.

قلنا: إذن لا فرق بين الوقوف بين يدي القادر المتمكن والسؤال منه

٣٩

أو الوقوف على قبره وجعله شفيعاً إلى الله في قضاء الحوائج، ودعوى الفرق مكابرة صرفة في المهم.

فإن قلت: إن ذلك من جعل الآلهة نظير وقوف المشركين على أحجارهم وأخشابهم التي كانوا يعبدونها في الجاهلية.

قلنا: الوقوف بين يدي الحي والالتماس منه أيضاً من جعل الآلهة نظير وقوف عبده موسى وعيسى ومريم، والذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، فالوقوفان على نمط واحد؟

فما للوهابيين لا يكادون يفقهون حديثاً؟؟!!

ثمّ إن الجواب عما استدل به ابن تيمية لمنع رفع الحوائج إلى قبور الأنبياء والصالحين: أن قوله تعالى( إن الذين تدعون من دون الله... إلخ ) ..

هو إنها - باتفاق المفسرين - واردة في خصوص الكفار والمشركين العاكفين على أصنامهم، بزعمهم أن البدائع السماوية مفوضة إلى الكواكب التي على صورتها تلك الأصنام حسب تخيلهم، فأبطل الله دعواهم بأن تلك الأصنام جماد ليس من شأنها السماع، ولا تتمكن من إجابة الدعوة، فكيف تتمكن من الأفاعيل الخارقة للعادة؟؟

ثمّ إنه سبحانه حكم بشركهم لاتخاذهم تلك الأصنام شريكاً لله في الخلق وتدبير العالم وجوزوا عبادتها خلافاً لله تعالى فيما نهاهم عنه على لسان أنبيائه بقوله تعالى:( فلا تجعلوا لله أنداد ) وقوله سبحانه:( أتعبدون ما تنحتون ) .

وأين هذا ممن لا يعتقد في الأنبياء والصلحاء الخلق والتدبير ولا يعتقد

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

مَن كان مع الله فليس في غُربة!

يوسف الصِّدِّيق ابن النبي يعقوب، هذا الطفل المحبوب، تلقَّى درس الإيمان بالله مِن أبيه العظيم، ونشأ طفلاً مؤمناً في حِجر يعقوب... ولقد نقم إخوته الكِبار منه، وصمَّموا على إيذائه؛ فأخذوا الطفل معهم إلى الصحراء، وبعد أساليب مؤلمة ووحشيَّة فكَّروا في قتله، ثمَّ انصرفوا عن هذه الفكرة إلى إلقائه في البئر...

وكانت النتيجة أنْ بيع الطفل في مِصر بثمنٍ بخسٍ.

ولمعرفة عمره عندما ألقي في البئر يقول أبو حمزة: قلت لعليِّ بن الحسين (عليهما السلام): ابنُ كمْ كان يوسف، يوم ألقوه في الجُبِّ؟

فقال: (ابن تِسع سنين).

ماذا يُتوقَّع مِن طفل، لا يتجاوز عمره التِّسع سنوات، في مِثل هذه الظروف الحَرِجة والمؤلمة؟!

أليس الجواب هو الجَزع والاضطراب؟! في حين أنَّ قوَّة الإيمان، كانت قد منحت يوسف حينذاك مَقدرةً عجيبةً، وتطامناً فائقاً، ففي الحديث: (لمَّا أُخرج يوسف مِن الجُبِّ واشتري، قال لهم قائل: استوصوا بهذا الغريب خيراً.

قال لهم يوسف: مَن كان مع الله فليس في غُربة).

٦١

كهذا...

عاش الجاحظ في القَرن الثالث الهِجري، وله كتب وآثار كثيرة، وقد كان قبيح المنظر جِدَّاً، مُقرَّباً عند الخلفاء العباسيِّين؛ لعداوته لعليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وقد قال يوماً لتلاميذه: إنَّه لم يُخجلني طيلة عمري أحد، كما فعلت امرأة ثريَّة، فقد لقيت امرأة في بعض الطُّرق، وسألتني أنْ أصحبها ففعلت، حتَّى أتت بي إلى مَحلِّ صانع للتماثيل وقالت له - مُشيرة إليَّ ـ: كهذا... فبقيتُ حائراً مِن أمرها، ولمَّا انصرفت سألت الصائغ عن القِصَّة، فقال: لقد سألتني هذه المرأة أنْ أصوغ لها تِمثالاً للشيطان، فقلت لها: إنِّي لم أرَ الشيطان؛ كي أصوغ تِمثاله، فطلبت مِنِّي أنْ أنتظر حتَّى تجيء بتِمثاله... واليوم جاءت بك إليَّ وأمرتني أنْ أصوغه شبيهاً لمنظرك (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٦٢

... لَتركت القاضي يأكلك!

ونموذج آخر مِن السُّخرية بالأشخاص المُصابين ببعض العيوب الظاهريَّة، نجده في قِصَّة القاضي المصري، رشيد بن الزبير، فقد كان مِن القُضاة الماهرين والكتَّاب العِظام في عصره، وكان ذا خُبرة كافية في علوم الفِقه، والمنطق، والنحو، والتاريخ... عاش في القَرن السادس الهِجري، وقد كان ذا قامة قصيرة، أسود اللون، ذا شفتين غليظتين، وأنفٍ كبيرٍ، ومَنظرٍ قبيحٍ جِدَّاً، كان يعيش في شبابه في القاهرة، ويسكن مع عبد العزيز الإدريسي، وسليمان الديلمي في بيتٍ واحد.

فخرج يوماً وتأخَّر في العودة إلى منزله، وعندما عاد سأله زُملاؤه عن سبب تأخُّره، فأبى أنْ يُجيبهم حتَّى ألحوا عليه، فقال: كنت أعبر مِن المحلِّ الفلاني، فصادفت امرأة ذكيَّةً، كانت تنظر إليَّ بعين الإعجاب، فذهلت مِن شِدَّة الفرح وبتُّ أرقب سَيرها، فأشارت إليَّ بطرف عينها؛ فتبعتها في السِّكَك الواحدة بعد الأُخرى، حتَّى انتهينا إلى دار، ففتحت الباب ودخلت، وأشارت إليَّ بالدخول فدخلت، فكشفت النقاب عن وجهها، وإذا به قِطعة مِن القمر... لم تمضِ فترة طويلة، حتَّى صفقت بيدها، ونادت باسم فتاة، فإذا بطفلة في غاية الجمال نزلت مِن الطاق العُلوي، فخاطبتها المرأة قائلة: لو تبوَّلت في فِراشك هذه المَرَّة؛ فسأُعطيك إلى هذا القاضي ليأكلك؛ فبلغ الخوف والهَلع مِن الطفلة مبلغه، وبلغ الارتباك والاضطراب مِنِّي مبلغه أيضاً. ثمَّ التفتت إليَّ قائلة: لا أعدمني الله إحسانه بفضل سيِّدنا القاضي أدام الله عِزَّه... فخرجتُ مِن الدار مُطأطئاً رأسي خَجلاً؛ ولفَرط ما أصابني مِن خَجلٍ وذهولٍ؛ ولشِدَّة تأثري تِهتُ الطريق إلى البيت، وبقيت أجوب الأزقَّة... ولهذا تأخَّرت في العَودة (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٦٣

سَعد وحِلم

فقد النبي محمد (صلى الله عليه وآله) أمَّه يوم كان رضيعاً، ولم يقبل ثدي مُرضعة قَطُّ، وكان هذا مَبعث حزن وألم في البيت الهاشمي... إلى أنْ جاءت حليمة السعديَّة فعرضت ثديها عليه فقبله، وتكفَّلت برضاعه. عندئذٍ عَمَّ البيت السرور والفرح إلى أقصى حَدٍّ، فقال عبد المُطلَّب مُخاطباً إيَّاها:

ـ مِن أين أنتِ؟

ـ مِن بني سعد.

ـ ما اسمُك؟

ـ حليمة.

ـ بَخٍ بَخٍ، خلقان حسنان... سَعدٌ وحِلم ٌ (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٦٤

مُعاوية اسم للأُثنى مِن الكِلاب

كان أحد رؤساء عشائر الشام يُسمَّى: (جارية) وكان رجلاً قويَّاً صريح اللَّهجة، وكان يُبطِن لمُعاوية حِقداً وعداءً. فسمع مُعاوية بذلك، فأراد أنْ يحتقره أمام مَلأٍ مِن الناس، ويجعل مِن اسمه وسيلة للاستهزاء به والسُّخرية منه، وصادف أنْ التقيا في بعض المجالس، فقال له مُعاوية:

ـ ما كان أهونك على قومك؛ أنْ سمّوك جارية؟

ـ وما كان أهونك على قومك؛ إذ سمّوك مُعاوية، وهي الأُنثى مِن الكِلاب.

ـ اسكُت لا أُمَّ لك!

ـ لي أُمٌّ ولدتني! أمَّا والله، إنَّ القلوب التي أبغضناك بها لبين جوانحنا، والسيوف التي قاتلناك بها لفي أيدينا، وإنَّك لم تُهلكنا قسوة ولم تملكنا عَنوة... ولكنَّك أعطيتنا عهداً وميثاقاً، وأعطيناك سَمعاً وطاعة، فإنْ وَفَيت لنا وفَينا لك، وإنْ نزعت إلى غير ذلك فإنَّا تركنا وراءنا رجالاً شِداداً وأسنَّة حِداداً.

ـ لا كثر الله في الناس مِثلك، يا جارية (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٦٥

أُميَّة تصغير أمَة

كان شريك بن الأعور سيِّداً في قومه وكبيراً لهم، عاصر مُعاوية... وفي أحد الأيَّام دخل مجلس مُعاوية، فأراد هذا أنْ يحتقره ويسخر به؛ لقُبح اسمه واسم أبيه وللنقص الذي فيه، فقال له:

والله إنَّك لشريك، وليس لله مِن شريك، وإنَّك ابن الأعور، والصحيح خيرٌ مِن الأعور، وإنَّك لدميم والوسيم خيرٌ مِن الدميم، فبم سوَّدك قومك؟!

فقال له شريك: والله، إنَّك لمُعاوية، وليست مُعاوية إلاَّ كَلبة عوت فاستعوت فسُمِّيت مُعاوية، وإنَّك ابن حرب، والسلم خيرٌ مِن الحرب، وإنَّك ابن صَخر، والسهل خيرٌ مِن الصخر، وإنَّك ابن أُميَّة، وما أُميَّة إلاَّ أمة صُغِّرت فسُمِّيت أُميَّة، فكيف صرت أمير المؤمنين؟!

فقال له مُعاوية: أقسمت عليك إلاَّ ما خرجت عنِّي (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٦٦

مُقوُّم الناقة

ربَّما تقع قضايا طيِّبة أو سيِّئة للأشخاص، في أيَّام عمرهم؛ فتترك أثراً حَسناً أو قَبيحاً في الأذهان، ثمَّ يُلخِّص الناس ذلك الأثر في كلمة أو جملة، ويجعلون منها لَقباً لصاحبه. ومِن هذا القبيل ما نُلاحظه في قِصَّة عبيد الله بن الزبير، حيث كان والياً على المدينة مِن قِبَل أخيه عبد الله بن الزبير، وقد شغل هذا المنصب بكلِّ قوَّة وكفاءة... وفي يوم مِن الأيَّام أخطأ في كلامه، أمام جمع غفير مِن الناس، وهو على المنبر، فبينما كان يعظ الناس تطرَّق لقِصَّة ناقة صالح، وظُلْمِ قومه لها، فقال لهم: قد ترون ما صنع الله بقوم في ناقة قيمتها خمسة دراهم؛ فسُمِّي (مُقوُّم الناقة) . لقد كانت الموعظة بذاتها صحيحة، إلاَّ أنَّ تقويمه للناقة كان خطأً؛ فلقَّبه الناس بـ: مُقوُّم الناقة، وشاع هذا اللقب، ولهج به الناس وأورد نقصاً عظيماً في شخصيَّته، فخلعه عبد الله بن الزبير وولَّى مكانه مصعباً. في هذا المثال، نجد أنَّ والي المدينة يسقط مِن الأنظار إثر سَبق لسان بسيط، ولقَّبه الناس بمُقوِّم الناقة؛ مستهزئين به، وذاكرين ذلك في كلِّ مُنتدى ومَجلس.

إنَّ الوالي الذي يتعرَّض لتحقير الناس وإهانتهم، ويشعر في نفسه بالحَقارة؛ لا يتمكَّن مِن مُمارسة السُّلطة والحُكم مَهْما كان ذا سَطوة وقوَّة (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٦٧

في أوائل القَرن الثالث الهِجري، كان هناك رجل في العراق، يُكنَّى بـ: (أبي حفص) ، ولبعض أعماله لقَّبه الناس بـ (اللُّوطي) ، فكانوا يُحقِّرونه بهذا اللقب في غيابه. وقد أدَّت شُهرته هذه بين الناس إلى تأثُّره الشديد، وأوردت على شخصيَّته نقصاً غير قابل للتدارك، فمرض جارٌ له، فعاده أبو حفص والمريض في غاية الضعف، فسأله أبو حفص عن صِحَّته، وقال له: أتعرفني؟

فأجاب المريض بصوت خافت جِدَّاً: ولِمَ لا أعرفك؟ أنت أبو حفص اللُّوطي!

فدهش أبو حفص مِن هذا اللَّقب؛ ومُصارحة المريض له به.

فقال له: لقد جاوزت حَدَّ المعرفة، أرجو أنْ لا تقوم مِن مرضك هذا أبداً...

ثمَّ قام مِن عنده وخرج (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٦٨

قيمة كلِّ امرئ ما يُحسنه

ما أكثر الرجال العلماء والمُثقَّفين، الذين كانت لهم الكفاءة لتسلُّم مناصب عالية في الدولة، والحصول على مقامات شامخة في المُجتمع، لكنَّهم فقدوا جميع قيمهم الاجتماعيَّة؛ إثر لَقبٍ قبيح، أو شُهرة سَيِّئة، وأخذ الناس ينظرون إليهم بعين الانتقاص والاحتقار... وبالتالي لم يستفيدوا مِن المواهب التي كانت تُميِّزهم، بلْ لم يستطيعوا الاستمرار في الحياة كأفراد عاديِّين، فكابدوا الضغط الروحي دائماً، وقضوا حياتهم في حِرمان وشعور بالحَقارة والدناءة.

وكمثال على ذلك، نذكر ما جرى لابن النديم بهذا الصدد، فقد كان إسحاق بن إبراهيم، المعروف بابن النديم، مِن العلماء الذين قَلَّ نظيرهم في عصره، وكان قد أجهد نفسه في علوم كثيرة: كالكلام، والفقه، والنحو، والتاريخ، واللغة، والشعر، وبرع في جميع ذلك بَراعةً تامَّةً، وكان عِملاقاً عظيماً في المُناظرات العلميَّة، وكثيراً ما كان يتغلَّب على فُضلاء عصره، وله في مُختلَف العلوم ما يقرب مِن أربعين مُجلَّداً وآثاره المُهمَّة باقية حتَّى اليوم.

كان ابن النديم ذا صوتٍ جميلٍ، ورغبةٍ شديدةٍ بالغناء، وكثيراً ما كان يشترك في مجالس طربِ الخُلفاء ورجال الدولة، ويؤنس الحاضرين بغنائه المُطرِب، ويجذب قلوبهم نحوه... ولاستمراره في هذا العمل تضاءلت قيمة ثقافته العلميَّة شيئاً فشيئاً؛ حتَّى عُرف في المُجتمع بهذه الصِفة، ولقبه الأساس بـ: (المُغنِّي) و (المُطرِب) .

لقد أوردت هذه الشُّهرة ضربة قاصمة على شخصيَّته، ولم يتمكَّن فيما بعد، أنْ يَعُدَّ نفسه في المُجتمع كرجل عالمٍ مُطلع، وأنْ يُظهر كفاءته العلميَّة... وبالرغم مِن قُربه مِن الخُلفاء والوجهاء، فإنَّهم لم يعهدوا إليه بمُهمَّة أو عمل خطير في الدولة؛ وذلك حَذراً مِن اضطراب الرأي العامّ.

٦٩

فكان المأمون العبَّاسي يقول: لو لم يشتهر ابن النديم بالطَّرب والغِناء، لولَّيته القَضاء؛ لأنَّه يفوق قُضاة الدولة، بالفضل، والعلم، وهو أكثرهم استحقاقاً لهذا المنصب (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٧٠

أهل الكَرَم والجُود

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لمَّا حضر محمد بن أُسامة الموت، دخلت عليه بنو هاشم.

فقال لهم: قد عرفتم قَرابتي ومَنزلتي منكم، وعليَّ دَيْنٌ، فأُحبُّ أنْ تضمنوه عنِّي.

فقال عليُّ بن الحسين (عليه السلام): أما والله، ثُلُثُ دَيْنك عليَّ.

ثمَّ سكت فسكتوا.

فقال عليُّ بن الحسين (عليه السلام): عليَّ دَيْنك كلُّه.

ثمَّ قال عليُّ بن الحسين: أما إنَّه لم يمنعني أنْ أضمنه أوَّلاً، إلاَّ كراهيَّة أنْ يقولوا: سبقنا) (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٧١

إمَّا المَنُّ وإمَّا القتل

غَضب عبد الملك بن مروان، على عبَّاد بن أسلم البكري يوماً، فكتب إلى واليه على العراق الحَجَّاج بن يوسف الثقفي أنْ يقتله، ويبعث برأسه إلى الشام، فأرسل الحَجَّاج إلى عبَّاد، يطلب حضوره؛ لتنفيذ ما أمر عبد الملك بشأنه.

تألَّم عبَّاد مِن معرفة الخبر، واضطرب كثيراً، وأقسم على الحَجَّاج أنْ يتخلَّى عن قتله؛ لأنَّه يُعيل أربعاً وعشرين امرأة وطفلاً؛ وبقتله سوف تَختلُّ شؤونهم وتضطرب حياتهم؛ فرقَّ الحَجَّاج لكلامه، وأمر بإحضار عائلته إلى دار الإمارة، وعندما حضر أولئك إلى دار الإمارة، واطَّلعوا على ما عزم عليه الحَجَّاج، وشاهدوا الحالة المُزْرية، التي كان عليها وليُّهم بدأوا بالبكاء والعويل... وفجأة قامت طفلة صغيرة مِن بينهم، كانت في غاية الجَمال، وأرادت أنْ تتكلَّم، فقال لها الحَجَّاج: ما هي صِلتك بعبَّاد؟!

قالت: أنا ابنته.

ثمَّ قالت له بكلِّ جُرأة:

يا أمير اسمع ما أقول... وأنشأت تقول:

أحَـجَّاجُ إمَّا أنْ تَمنُّ بتركه

عـلنيا وإمَّـا أنْ تُقتِّلنا معاً

أحَجَّاجُ لا تفجع به إنَّ قتلته

ثماناً وعشراً واثنتين وأربعاً

أحَجَّاجُ لا تترك عليه بناته

وخالاته يندُبنه الدهر أجمعاً

هذه الكلمات الصريحة والقويَّة، مِن هذه الطفلة الجريئة، أبكت حَجَّاجاً القاسي، وجعلته ينصرف عن قتل عبَّاد، ويُكاتب عبد الملك بشأنه، حتَّى حصل له على عفو الخليفة عنه (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٧٢

بَلاغة صَبيٍّ

لمَّا آلت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز، أخذت الوفود تتقاطر عليه مِن أنحاء البلاد لتهنئته... وكان مِن تلك الوفود وفد الحِجاز. وكان في ذلك الوفد صبيٌّ صغير، قام في مجلس الخليفة ليتكلَّم، فقال له الخليفة: ليتكلَّم مَن هو أكبر مِنك سِنَّاً.

فقال الطفل: أيُّها الخليفة، إنْ كان المقياس للكفاءة كِبَر السِّنِّ؛ ففي مجلسك مَن هو أحَقُّ بالخلافة مِنك.

تعجَّب عمر بن عبد العزيز مِن هذا الكلام، ثمَّ أذِنَ له بالكلام، فقال:

لقد قصدناك مِن بلدٍ بعيد، وليس مَجيئنا لطمع فيك، أو خوف مِنك... لأنَّنا مُتنعِّمون بعدلك، ومُستقرُّون في بيوتنا بأمن واطمئنان... ولا نخاف منك؛ لأنَّنا نجد أنفسنا في أمن مِن ظلمك، وإنَّ مجيئنا إليك إنَّما هو لغرض التقدير والشكر.

فقال له عمر بن عبد العزيز: عِظْني.

قال الصبي: لقد أُصيب بعضٌ بالغرور؛ لنعم الله عليهم، وأُصيب آخرون بذلك؛ لمدح الناس إيَّاهم؛ فاحذر مِن أنْ يبعث هذان الأمران الغُرور فيك؛ فتنحرف في تدبير شؤون الدولة.

سُرَّ عمر بن عبد العزيز لهذا الكلام كثيراً، وسأل عن عمر الصبي.

فقيل له: هو ابن اثنتي عشرة سنة (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٧٣

تضرُّع الأعرابي

رأى النبي (صلى الله عليه وآله) أعرابيَّاً يدعو في صلاته، ويتضرَّع إلى الله تعالى بعبارات عميقة ومضامين عالية. فأثَّرت كلماته المتينة، وعباراته المُشيرة إلى وعي صاحبها، والكاشفة عن درجة الإيمان والكمال التي هو عليها في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ فعيَّن شخصاً لانتظار الأعرابي، حتَّى يفرغ مِن صلاته، فيأتي به إليه. وما أنْ فرغ الأعرابي حتَّى مَثُل بين يديه، فأهداه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قطعة مِن الذهب، ثمَّ سأله مِن أين أنت؟

ـ مِن بني عامر بن صَعصعة.

ـ هل عرفت لماذا أعطيتك الذهب؟! إنَّ للرحم حَقَّاً، ولكنْ وهبته لك لحُسن شأنك على الله عَزَّ وجَلَّ.

يبعث استحسان النبي وتشجيعه، الرغبة في عمل الخير في نفس الأعرابي، أكثر مِن السابق هذا مِن جِهةٍ، ومِن جِهة أُخرى يؤدِّي إلى أنْ يُقتدي الآخرون به (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٧٤

عقل العباس وزينب

كان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) جالساً يوماً في بيته، وقد جلس إلى جانبيه طِفلان صغيران: العباس، وزينب.

قال علي ٌّ(عليه السلام) للعباس: (قُلْ: واحد).

ـ واحد.

ـ (قُلْ: اثنان).

ـ أستحيي أنْ أقول باللسان الذي قُلت به: واحد، أنْ أقول اثنان!

ـ فقبَّل عليٌّ (عليه السلام) عينيه... ثمَّ التفت إلى زينب، وكانت على يساره فقالت: يا أبتا، أتُحبُّنا؟

ـ (نعم يا بُنيَّتي، أولادُنا أكبادُنا!).

ـ يا أبتاه، حُبَّان لا يجتمعان في قلب المؤمن: حُبُّ الله، وحُبُّ الأولاد، وإنْ كان لا بُدَّ، فالشَّفقة لنا والحُبُّ لله خالصاً.

فازداد عليٌّ (عليه السلام) بهما حُبَّاً.

إنَّ تقبيل الإمام (عليه السلام) عيني طفله الصغير، على صراحته واستقامته، وازدياد حُبِّه له ولأُخته الصغيرة، مُكافأة جميلة لهما؛ على ما صدر منهما. وفي الواقع فإنَّ بيت عليٍّ (عليه السلام) كان طافحاً بالتوحيد والإيمان، مليئاً بالحُبِّ الإلهيِّ والفَناء في ذاته... ولذلك؛ فإنَّ الأطفال قد تلقُّوا تربيةً سليمة، وطفحت قلوبهم كأبيهم - بحُبِّ الله وتوحيده (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٧٥

عِزُّ الإسلام

لقد أنقذ الإسلام كثيراً مِن المسلمين، الذين كانوا ينتمون إلى عوائل وضيعة، بمنعه مِن ذَمِّ بعضهم البعض، وهكذا نجد أنَّ هؤلاء يتواصلون مع الناس، ويُعاشرونهم دون شعور بالخَجل والانحطاط، وإذا كان أحدٌ مِن المسلمين يوجِّه الذَّمَّ نحوهم، فإنَّ الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يمنعه مِن ذلك بصراحة.

كلُّنا نعلم ما كان يقوم به أبو جهل في صدر الإسلام، مِن مُعارضة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في نشر دعوته، وقد اشتهر بسبب ما أضمر، وفظاعة الجرائم التي قام بها، بالخيانة والدنس بين المسلمين.

وقد حضر ابنه عكرمة بعد موت أبيه، بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واعتنق الإسلام، فقبل النبي إسلامه، واحتضنه وأثنى عليه، لكنْ لمَّا كان عكرمة ينتمي إلى أُسرة أصرَّت على الكُفر، واشتهرت بسوء السُّمعة بين المسلمين، فإنَّ ذلك كان داعياً إلى احتقاره مِن قبل المسلمين، وفي رواية أنَّ المسلمين كانوا يقولون: (هذا ابن عدوِّ الله أبي جهل؛ فشكا ذلك إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فمنعم مِن ذلك، ثمَّ استعمله على صدقات هوازن) (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٧٦

أستحيي أنْ تَغلب مسألته جودي

كان أبو هريرة مِن المُعارضين لحكومة الإمام (عليه السلام)، وقد كان في الأسابيع الأُولى مِن خلافة الإمام، يجلس على مَقربة مِن أمير المؤمنين (عليه السلام)، ويتكلَّم مع أصحابه بكلمات يشوبها الطعن، وكان يُصرُّ على الكلام بصوت عالٍ جِدَّاً، بحيث يسمع الإمام تلك الكلمات.

كان أصحاب الإمام يُشاهدون هذا المنظر ويتألَّمون، وفي يوم مِن الأيَّام جاء أبو هريرة إلى الإمام طالباً بعض الحوائج، فلبَّى الإمام جميع حوائجه.

عند ذلك عاتب أصحاب أمير المؤمنين على ذلك، فقال:

(إنِّي لأستحيي أنْ يغلب جَهله عِلمي، وذنبه عفوي ومسألته جودي).

إنَّ عليَّاً (عليه السلام) أعظم مِن أنْ يتغلَّب عليه أمثال أبي هريرة، بالكلمات المشوبة بالطعن والسُّخرية.. (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٧٧

قيمة مُعاوية عند علقمة بن وائل

توجَّه علقمة بن وائل إلى المدينة المنوَّرة؛ للقاء النبي (صلى الله عليه وآله)، فتشرَّف بحضرته، وعرض عليه حاجته، ثمَّ قصد الذهاب إلى دار أحد كبار الأنصار في المدينة، ولكنَّه لم يكن يعرف الدار، وكان مُعاوية بن أبي سفيان حاضراً في المجلس، فأمره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بإرشاد علقمة إلى دار الأنصاري.

يقول مُعاوية: خرجت بصحبة علقمة مِن عند النبي، فركب ناقته، وأخذت أسير بقدمين حافيتين على شِدَّة الحَرِّ، فقلت له في أثناء الطريق: لقد احترقت قدماي مِن شِدَّة الحَرِّ؛ فأردفني خلفك.

قال علقمة: إنَّك لا تليق بأنْ تركب رِدف السلاطين والعُظماء.

قلت: أنا ابن أبي سفيان.

قال علقمة: أعلم ذلك. لقد ذكر لي النبي هذا الأمر مُسبقاً.

ـ إذا كنت لا تسمح لي بالركوب خلفك، فانزع خُفَّيك لألبسهما وأتَّقي وَهَج الأرض.

قال علقمة: إنَّ خُفَّي أكبر مِن قدميك... ولكنْ أسمح لك بالسير في ظِلِّ ناقتي، وفي هذا تسامح كبير مِنِّي تِجاهَك، وفي نفس الوقت مُدعاة للفخر والاعتزاز لك، فتستطيع التباهي أمام الناس، أنَّك سِرت في ظِلِّ ناقتي (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٧٨

الفَرق بين المجنون والمُبتلى

روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري، أنَّه قال: مَرَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) برجل مصروع، وقد اجتمع عليه الناس ينظرون إليه، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (علامَ اجتمع هؤلاء؟).

فقيل: على مجنون يُصرع.

فنظر إليه فقال: (ما هذا بمجنون، ألاْ أُخبركم بالمجنون حَقَّ الجنون!).

قالوا: بلى يا رسول الله.

قال: (إنَّ المجنون حَقَّ الجنون، المُتبختر في مشيه، الناظر في عِطفيه، المُحرِّك جنبيه بمنكبيه، فذاك المجنون، وهذا المُبتلى) (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٧٩

الذُّباب يذلُّ الجَبابرة

كان المنصور الدوانيقي، مِن الخُلفاء المُتجبِّرين في الأُسرة العباسيَّة، وقد جعلت ذُبابة يوماً وجهه مَسْرَحاً لنشاطها وتنقُّلها، فأخذت تطير مِن شَفته إلى عينيه، ومِن عينيه إلى أنفه، ومِن أنفه إلى جَبهته، حتَّى ضاق بها ذَرعاً، وتألَّم كثيراً؛ فقال لخَدمه: انظروا مَن ينتظرنا بالباب؟

فقالوا له: مُقاتل بن سلمان.

كان مُقاتل هذا، مِن كبار المُحدِّثين والمُفسِّرين في ذلك العصر، فأمر المنصور بالسَّماح له في الدخول. وما أنْ دخل حتَّى وجَّه له المنصور السؤال التالي:

هل تعلم لماذا خَلق الله الذباب؟!

قال: نعم؛ لُيذلَّ الجبابرة!

... فسكت المنصور.. (1) .

____________________

(1) الطفل، ج2.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146