الاحتجاج

الاحتجاج11%

الاحتجاج مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 529

الاحتجاج
  • البداية
  • السابق
  • 529 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 135877 / تحميل: 10880
الحجم الحجم الحجم
الاحتجاج

الاحتجاج

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

ناولوني ذلك الطفل حتى أودعه فناولوه الصبي جعل يقبله وهو يقول يا بني ويل لهؤلاء القوم إذا كان خصمهم محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قيل فإذا بسهم قد أقبل حتى وقع في لبة الصبي فقتله فنزل الحسينعليه‌السلام عن فرسه وحفر للصبي بجفن سيفه ورمله بدمه ودفنه ثم وثب قائما وهو يقول :

كفر القوم وقدما رغبوا

عن ثواب الله رب الثقلين

قتلوا قدما عليا وابنه

حسن الخير كريم الطرفين

حنقا منهم وقالوا أجمعوا

نفتك الآن جميعا بالحسين

يا لقوم من أناس رذل

جمعوا الجمع لأهل الحرمين

ثم صاروا وتواصوا كلهم

باختيار لرضاء الملحدين

لم يخافوا الله في سفك دمي

لعبيد الله نسل الكافرين

وابن سعد قد رماني عنوة

بجنود كوكوف الهاطلين

لا لشيء كان مني قبل ذا

غير فخري بضياء الفرقدين

بعلي الخير من بعد النبي

والنبي القرشي الوالدين

خيرة الله من الخلق أبي

ثم أمي فأنا ابن الخيرتين

فضة قد خلقت من ذهب

فأنا الفضة وابن الذهبين

من له جد كجدي في الورى

أو كشيخي فأنا ابن القمرين

فاطم الزهراء أمي وأبي

قاصم الكفر ببدر وحنين

عروة الدين علي المرتضى

هادم الجيش مصلي القبلتين

وله في يوم أحد وقعة

شفت الغل بقبض العسكرين

ثم بالأحزاب والفتح معا

كان فيها حتف أهل القبلتين

في سبيل الله ما ذا صنعت

أمة السوء معا بالعترتين

عترة البر التقي المصطفى

وعلي القوم يوم الجحفلين

عبد الله غلاما يافعا

وقريش يعبدون الوثنين

وقلى الأوثان لم يسجد لها

مع قريش لا ولا طرفة عين

طعن الأبطال لما برزوا

يوم بدر وتبوك وحنين

ثم تقدم الحسينعليه‌السلام حتى وقف قبالة القوم وسيفه مصلت في يده آيسا من نفسه عازما على الموت وهو يقول :

أنا ابن علي الطهر من آل هاشم

كفاني بهذا مفخرا حين أفخر

وجدي رسول الله أكرم من مشى

ونحن سراج الله في الخلق نزهر

وفاطم أمي من سلالة أحمد

وعمي يدعى ذو الجناحين جعفر

٣٠١

وفينا كتاب الله أنزل صادقا

وفينا الهدى والوحي بالخير تذكر

ونحن أمان الله للناس كلهم

نطول بهذا في الأنام ونجهر

ونحن حماة الحوض نسقي ولاتنا

بكأس رسول الله ما ليس ينكر

وشيعتنا في الحشر أكرم شيعة

ومبغضنا يوم القيامة يخسر

احتجاج فاطمة الصغرى على أهل الكوفة

عن زيد بن موسى بن جعفر(١) عن أبيه عن آبائهعليهم‌السلام قال :

خطبت فاطمة الصغرىعليها‌السلام بعد أن ردت من كربلاء فقالت :

الحمد لله عدد الرمل والحصى وزنة العرش إلى الثرى أحمده وأومن به وأتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن أولاده ذبحوا بشط الفرات من غير ذحل ولا ترات.

اللهم إني أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب وأن أقول خلاف ما أنزلت عليه من أخذ العهود لوصيه علي بن أبي طالبعليه‌السلام المسلوب حقه المقتول من غير ذنب كما قتل ولده بالأمس في بيت من بيوت الله وبها معشر مسلمة بألسنتهم تعسا لرءوسهم ما دفعت عنه ضيما في حياته ولا عند مماته حتى قبضته إليك محمود النقيبة طيب الضريبة معروف المناقب مشهور المذاهب لم تأخذه فيك لومة لائم ولا عذل عاذل هديته يا رب للإسلام صغيرا وحمدت مناقبه كبيرا ولم يزل ناصحا لك ولرسولكصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى قبضته إليك زاهدا في الدنيا غير حريص عليها راغبا في الآخرة مجاهدا لك في سبيلك رضيته فاخترته وهديته إلى طريق مستقيم.

أما بعد يا أهل الكوفة يا أهل المكر والغدر والخيلاء إنا أهل بيت ابتلانا الله بكم وابتلاكم بنا فجعل بلاءنا حسنا وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا فنحن عيبة علمه ووعاء فهمه وحكمته وحجته في الأرض في بلاده لعباده أكرمنا الله بكرامته وفضلنا بنبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله على كثير من خلقه تفضيلا فكذبتمونا وكفرتمونا ورأيتم قتالنا حلالا وأموالنا نهبا كأنا أولاد الترك أو كابل كما قتلتم جدنا بالأمس وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت لحقد متقدم قرت بذلك عيونكم وفرحت به قلوبكم اجتراء منكم على الله ومكرا مكرتم( وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ) فلا تدعونكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا(٢) ونالت أيديكم من أموالنا فإن ما أصابنا من المصائب الجليلة والرزايا العظيمة( فِي كِتابٍ مِنْ

__________________

(١) زيد بن موسى بن جعفر «عليه‌السلام » ـ وهو لام ولد ـ عقد له محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب «عليها‌السلام » أيام أبي السرايا على الأهواز ، ولما دخل البصرة وغلب عليها أحرق دور بني العباس وأضرم النار في نخيلهم وجميع أسبابهم فقيل له : زيد النار.

(٢) الجذل : الفرح.

٣٠٢

قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ) .

تبا لكم فانظروا اللعنة والعذاب ـ فكأن قد حل بكم وتواترت من السماء نقمات فيسحتكم بما كسبتم(١) ( وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) ثم تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا( أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) ويلكم أتدرون أية يد طاعنتنا منكم؟ أو أية نفس نزعت إلى قتالنا؟ أم بأية رجل مشيتم إلينا؟ تبغون محاربتنا قست قلوبكم وغلظت أكبادكم وطبع على أفئدتكم وختم على سمعكم وبصركم وسول لكم الشيطان وأملى لكم وجعل على بصركم غشاوة فأنتم لا تهتدون.

تبا لكم يا أهل الكوفة كم ترات لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبلكم وذحوله لديكم ثم غدرتم بأخيه علي بن أبي طالبعليه‌السلام جدي وبنيه عترة النبي الطيبين الأخيار وافتخر بذلك مفتخر فقال :

نحن قتلنا عليا وبني علي

بسيوف هندية ورماح

وسبينا نساءهم سبي ترك

ونطحناهم فأي نطاح

فقالت بفيك أيها القائل الكثكث(٢) ولك الأثلب(٣) افتخرت بقتل قوم زكاهم الله وطهرهم وأذهب عنهم الرجس فاكظم وأقع كما أقعى أبوك وإنما لكل امرئ ما قدمت يداه حسدتمونا ويلا لكم على ما فضلنا الله.

فما ذنبنا أن جاش دهر [ دهرا ] بحورنا

وبحرك ساج لا يواري الدعامصا(٤)

ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ.

قال فارتفعت الأصوات بالبكاء وقالوا حسبك يا بنت الطيبين فقد أحرقت قلوبنا وأنضجت نحورنا وأضرمت أجوافنا فسكتت عليها وعلى أبيها وجدها السلام.

خطبة زينب بنت علي بن أبي طالب بحضرة أهل الكوفة في ذلك اليوم تقريعا لهم وتأنيبا.

عن حذيم بن شريك الأسدي(٥) قال : لما أتى علي بن الحسين زين العابدين بالنسوة من كربلاء وكان مريضا وإذا نساء أهل الكوفة ينتدبن مشققات الجيوب والرجال معهن يبكون

__________________

(١) يسحتكم : يستأصلكم.

(٢) الكثكث : دقاق التراب.

(٣) الأثلب : دقاق الحجر.

(٤) الدعامص ـ جمع دعموص ـ وهو دويبة صغيرة تكون في مستنقع الماء ، والبيت للأعشى.

(٥) حذيم بن شريك الأسدي : عده الشيخ في رجاله ص ٨٨ من أصحاب الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام .

٣٠٣

فقال زين العابدينعليه‌السلام بصوت ضئيل وقد نهكته العلة إن هؤلاء يبكون علينا فمن قتلنا غيرهم؟ فأومت زينب بنت علي بن أبي طالبعليه‌السلام إلى الناس بالسكوت.

قال حذيم الأسدي لم أر والله خفرة قط أنطق منها كأنها تنطق وتفرغ على لسان عليعليه‌السلام وقد أشارت إلى الناس بأن أنصتوا فارتدت الأنفاس وسكنت الأجراس ثم قالت بعد حمد الله تعالى والصلاة على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

أما بعد يا أهل الكوفة يا أهل الختل(١) والغدر والخذل ألا فلا رقأت العبرة(٢) ولا هدأت الزفرة إنما مثلكم كمثل التي( نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً ) (٣) ( تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ ) (٤) ـ هل فيكم إلا الصلف(٥) والعجب والشنف(٦) والكذب وملق الإماء وغمز الأعداء(٧) أو كمرعى على دمنة(٨) أو كفضة على ملحودة(٩) ألا بئس ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.

أتبكون أخي أجل والله فابكوا فإنكم أحرى بالبكاء فابكوا كثيرا واضحكوا قليلا فقد أبليتم بعارها ومنيتم بشنارها(١٠) ولن ترحضوها أبدا(١١) وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة وسيد شباب أهل الجنة وملاذ حربكم ومعاذ حزبكم ومقر سلمكم وآسي كلمكم(١٢) ومفزع نازلتكم والمرجع إليه عند مقاتلتكم ـ ومدرة حججكم(١٣) ومنار محجتكم ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم وساء ما تزرون ليوم بعثكم.

فتعسا تعسا ونكسا نكسا لقد خاب السعي وتبت الأيدي وخسرت الصفقة وبؤتم( بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ) وضربت عليكم الذلة والمسكنة.

أتدرون ويلكم أي كبد لمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فرثتم وأي عهد نكثتم وأي كريمة له أبرزتم وأي حرمة له هتكتم وأي دم له سفكتم( لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ

__________________

(١) الختل : الخداع.

(٢) رقأت : جفت.

(٣) أي : حلته وافسدته بعد ابرام.

(٤) أي : خيانة وخديعة

(٥) الصلف : الذي يمتدح بما ليس عنده.

(٦) الشنف : البغض بغير حق.

(٧) الغمز : الطعن والعيب.

(٨) الدمنة : المزبلة.

(٩) الفضة : الجص والملحودة القبر.

(١٠) الشنار العار.

(١١) أي : لن تغسلوها.

(١٢) أي : دواء جرحكم.

(١٣) المدرة : زعيم القوم ولسانهم المتكلم عنهم.

٣٠٤

وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا ) .

لقد جئتم بها شوهاء صلعاء عنقاء سوداء فقماء خرقاء(١) كطلاع الأرض أو ملء السماء(٢) أفعجبتم أن تمطر السماء دما( وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ ) ـ فلا يستخفنكم المهل فإنه عز وجل لا يحفزه البدار(٣) ولا يخشى عليه فوت النار كلا( إِنَّ رَبَّكَ ) لنا ولهم( لَبِالْمِرْصادِ ) ثم أنشأت تقولعليه‌السلام :

ما ذا تقولون إذ قال النبي لكم

ما ذا صنعتم وأنتم آخر الأمم

بأهل بيتي وأولادي وتكرمتي

منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدم

ما كان ذاك جزائي إذ نصحت لكم

أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي

إني لأخشى عليكم أن يحل بكم

مثل العذاب الذي أودى على إرم

ثم ولت عنهم.

قال حذيم فرأيت الناس حيارى قد ردوا أيديهم في أفواههم فالتفت إلي شيخ في جانبي يبكي وقد اخضلت لحيته بالبكاء ويده مرفوعة إلى السماء وهو يقول بأبي وأمي كهولهم خير كهول ونساؤهم خير نساء وشبابهم خير شباب ونسلهم نسل كريم وفضلهم فضل عظيم ثم أنشد :

كهولكم خير الكهول ونسلكم

إذا عد نسل لا يبور ولا يخزى

فقال علي بن الحسين يا عمة اسكتي ففي الباقي من الماضي اعتبار وأنت بحمد الله عالمة غير معلمة فهمة غير مفهمة إن البكاء والحنين لا يردان من قد أباده الدهر فسكتت ـ ثم نزلعليه‌السلام وضرب فسطاطه وأنزل نساءه ودخل الفسطاط

احتجاج علي بن الحسينعليه‌السلام على أهل الكوفة حين خرج من الفسطاط وتوبيخه إياهم على غدرهم ونكثهم

قال حذيم بن شريك الأسدي : خرج زين العابدينعليه‌السلام إلى الناس وأومى إليهم أن اسكتوا فسكتوا وهو قائم فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه ثم قال :

أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين ـ المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولا ترات أنا ابن من انتهك حريمه وسلب نعيمه وانتهب ماله وسبي عياله أنا ابن من قتل صبرا فكفى بذلك فخرا.

__________________

(١) الشوهاء : القبيحة والفقماء إذا كانت ثناياها العليا الى الخارج فلا تقع على السفلى. والخرقاء : الحمقاء.

(٢) طلاع الأرض : ملؤها.

(٣) يحفزه : يدفعه.

٣٠٥

أيها الناس ناشدتكم بالله هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة ثم قاتلتموه وخذلتموه فتبا لكم ما قدمتم لأنفسكم وسوء لرأيكم بأية عين تنظرون إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يقول لكم قتلتم عترتي وانتهكتم حرمتي فلستم من أمتي.

قال فارتفعت أصوات الناس بالبكاء ويدعو بعضهم بعضا هلكتم وما تعلمون.

فقال علي بن الحسين رحم الله امرأ قبل نصيحتي وحفظ وصيتي في الله وفي رسوله وفي أهل بيته فإن لنا( فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) .

فقالوا بأجمعهم نحن كلنا يا ابن رسول الله سامعون مطيعون حافظون لذمامك غير زاهدين فيك ولا راغبين عنك فمرنا بأمرك رحمك الله فإنا حرب لحربك وسلم لسلمك لنأخذن ترتك وترتنا ممن ظلمك وظلمنا.

فقال علي بن الحسينعليه‌السلام هيهات أيها الغدرة المكرة ـ حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم أتريدون أن تأتوا إلي كما أتيتم إلى آبائي من قبل؟ كلا ورب الراقصات إلى منى فإن الجرح لما يندمل قتل أبي بالأمس وأهل بيته معه فلم ينسني ثكل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وثكل أبي وبني أبي وجدي شق لهازمي ومرارته بين حناجري وحلقي وغصصه تجري في فراش صدري ومسألتي أن لا تكونوا لنا ولا علينا.

ثم قالعليه‌السلام :

لا غرو أن قتل الحسين وشيخه

قد كان خيرا من حسين وأكرما

فلا تفرحوا يا أهل كوفة بالذي

أصيب حسين كان ذلك أعظما

قتيل بشط النهر نفسي فداؤه

جزاء الذي أرداه نار جهنما

احتجاجهعليه‌السلام بالشام على بعض أهلها حين قدم به وبمن معه على يزيد لعنه الله

وعن ديلم بن عمر قال : كنت بالشام حتى أتي بسبايا آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فأقيموا على باب المسجد حيث تقام السبايا وفيهم علي بن الحسين فأتاهم شيخ من أشياخ أهل الشام فقال :

الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم وقطع قرون الفتنة فلم يأل عن سبهم وشتمهم ـ فلما انقضى كلامه.

قال له علي بن الحسينعليه‌السلام إني قد أنصت لك حتى فرغت من منطقك وأظهرت ما في نفسك من العداوة والبغضاء فأنصت لي كما أنصت لك فقال له هات.

قال عليعليه‌السلام أما قرأت كتاب الله عز وجل؟ قال نعم.

فقال لهعليه‌السلام أما قرأت في الآية :( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) . قال بلى.

٣٠٦

فقالعليه‌السلام نحن أولئك فهل تجد لنا في سورة بني إسرائيل حقا خاصة دون المسلمين؟ فقال لا.

فقال أما قرأت هذه الآية( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) ؟ قال نعم.

قال عليعليه‌السلام فنحن أولئك الذين أمر الله نبيه أن يؤتيهم حقهم.

فقال الشامي إنكم لأنتم هم؟

فقال عليعليه‌السلام نعم فهل قرأت هذه الآية( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ) ؟ فقال له الشامي بلى.

فقال عليعليه‌السلام فنحن ذو القربى فهل تجد لنا في سورة الأحزاب حقا خاصة دون المسلمين؟

فقال لا قال علي بن الحسينعليه‌السلام أما قرأت هذه الآية :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ؟ قال فرفع الشامي يده إلى السماء ثم قال :

اللهم إني أتوب إليك ثلاث مرات اللهم إني أتوب إليك من عداوة آل محمد وأبرأ إليك ممن قتل أهل بيت محمد ولقد قرأت القرآن منذ دهر فما شعرت بها قبل اليوم.

احتجاج زينب بنت علي بن أبي طالب حين رأت يزيد لعنه الله يضرب ثنايا الحسينعليه‌السلام بالمخصرة

روى شيخ صدوق من مشايخ بني هاشم وغيره من الناس : أنه لما دخل علي بن الحسينعليه‌السلام وحرمه على يزيد وجيء برأس الحسينعليه‌السلام ووضع بين يديه في طست فجعل يضرب ثناياه بمخصرة كانت في يده وهو يقول :

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلوا واستهلوا فرحا

ولقالوا يا يزيد لا تشل

فجزيناه ببدر مثلا

وأقمنا مثل بدر فاعتدل

لست من خندف إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعل

قالوا فلما رأت زينب ذلك فأهوت إلى جيبها فشقته ثم نادت بصوت حزين تقرع القلوب يا حسيناه يا حبيب رسول الله يا ابن مكة ومنى يا ابن فاطمة الزهراء سيدة النساء يا ابن محمد المصطفى.

٣٠٧

قال فأبكت والله كل من كان ويزيد ساكت ثم قامت على قدميها وأشرفت على المجلس وشرعت في الخطبة إظهارا لكمالات محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وإعلانا بأنا نصبر لرضاء الله لا لخوف ولا دهشة فقامت إليه زينب بنت علي وأمها فاطمة بنت رسول الله وقالت :

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ والصلاة على جدي سيد المرسلين صدق الله سبحانه كذلك يقول :( ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ ) (١) .

أظننت يا يزيد حين أخذت علينا أقطار الأرض وضيقت علينا آفاق السماء فأصبحنا لك في إسار نساق إليك سوقا في قطار وأنت علينا ذو اقتدار أن بنا من الله هوانا وعليك منه كرامة وامتنانا وأن ذلك لعظم خطرك وجلالة قدرك فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك(٢) تضرب أصدريك فرحا(٣) وتنفض مذرويك مرحا(٤) حين رأيت الدنيا لك مستوسقة(٥) والأمور لديك متسقة(٦) وحين صفا لك ملكنا وخلص لك سلطاننا فمهلا مهلا لا تطش جهلا أنسيت قول الله عز وجل :( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ) (٧) .

أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههن تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد وتستشرفهن المناقل(٨) ويتبرزن لأهل المناهل(٩) ويتصفح وجوههن القريب والبعيد والغائب والشهيد والشريف والوضيع والدني والرفيع ليس معهن من رجالهن ولي ولا من حماتهن حمي عتوا منك على الله(١٠) وجحودا لرسول الله ودفعا لما جاء به من عند الله ـ ولا غرو منك ولا عجب من فعلك وأنى ترتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الشهداء ونبت لحمه بدماء السعداء ونصب الحرب لسيد الأنبياء وجمع الأحزاب وشهر الحراب وهز السيوف في وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أشد العرب جحودا وأنكرهم له رسولا وأظهرهم له عدوانا وأعتاهم على الرب كفرا وطغيانا ألا إنها نتيجة خلال الكفر وصب يجرجر في الصدر لقتلى يوم بدر(١١) فلا يستبطئ في بغضنا أهل البيت من كان نظره إلينا شنفا وإحنا وأضغانا يظهر كفره برسول الله ويفصح ذلك بلسانه ـ وهو يقول فرحا بقتل ولده وسبي ذريته غير متحوب(١٢) ولا مستعظم يهتف بأشياخه.

__________________

(١) الروم ١٠.

(٢) نظر في عطفه ، اخذه العجب.

(٣) الاصدران : عرقان تحت الصدغين.

(٤) المذروان : طرفا الاليتين.

(٥) مستوسقة : مجتمعة.

(٦) متسقة : مستوية.

(٧) آل عمران / ١٧٨.

(٨) تستشرف : تنظر.

(٩) المناهل : مواضع شرب الماء في الطريق.

(١٠) عتوا : عنادا.

(١١) تجرجر الماء : صبه في حلقه فصيره يصوت.

(١٢) متحوب : متأثم.

٣٠٨

لأهلوا واستهلوا فرحا

ولقالوا يا يزيد لا تشل

منحنيا على ثنايا أبي عبد الله وكان مقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ينكتها بمخصرته قد التمع السرور بوجهه لعمري لقد نكأت القرحة(١) واستأصلت الشافة بإراقتك دم سيد شباب أهل الجنة وابن يعسوب دين العرب وشمس آل عبد المطلب وهتفت بأشياخك وتقربت بدمه إلى الكفرة من أسلافك ثم صرخت بندائك ولعمري لقد ناديتهم لو شهدوك ووشيكا تشهدهم ولن يشهدوك ولتود يمينك كما زعمت شلت بك عن مرفقها وجذت وأحببت أمك لم تحملك وإياك لم تلد أو حين تصير إلى سخط الله ومخاصمك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله اللهم خذ بحقنا وانتقم من ظالمنا واحلل غضبك على من سفك دماءنا ونفض ذمارنا وقتل حماتنا وهتك عنا سدولنا.

وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وما فريت إلا جلدك وما جزرت إلا لحمك وسترد على رسول الله بما تحملت من دم ذريته وانتهكت من حرمته وسفكت من دماء عترته ولحمته حيث يجمع به شملهم ويلم به شعثهم وينتقم من ظالمهم ويأخذ لهم بحقهم من أعدائهم فلا يستفزنك الفرح بقتلهم( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) وحسبك بالله وليا وحاكما وبرسول الله خصما وبجبرائيل ظهيرا.

وسيعلم من بوأك ومكنك من رقاب المسلمين أن( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ) ـ وأيكم( شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً ) وما استصغاري قدرك ولا استعظامي تقريعك(٢) توهما لانتجاع الخطاب فيك(٣) بعد أن تركت عيون المسلمين به عبرى وصدرهم عند ذكره حرى فتلك قلوب قاسية ونفوس طاغية وأجسام محشوة بسخط الله ولعنة الرسول قد عشش فيها الشيطان وفرخ ومن هناك مثلك ما درج.

فالعجب كل العجب لقتل الأتقياء وأسباط الأنبياء وسليل الأوصياء بأيدي الطلقاء الخبيثة ونسل العهرة الفجرة تنطف أكفهم من دمائنا(٤) وتتحلب أفواههم من لحومنا(٥) تلك الجثث الزاكية على الجيوب الضاحية تنتابها العواسل(٦) وتعفرها أمهات الفواعل(٧) فلئن اتخذتنا مغنما لتجد بنا وشيكا مغرما حين لا تجد إلا ما قدمت يداك وما الله بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ.

فإلى الله المشتكى والمعول وإليه الملجأ والمؤمل ثم كد كيدك واجهد جهدك فو الله الذي شرفنا بالوحي والكتاب والنبوة والانتخاب لا تدرك أمدنا ولا تبلغ غايتنا ولا تمحو ذكرنا ولا يرحض عنك

__________________

(١) نكأت : قشرت قبل أن تبرأ.

(٢) التقريع : التعنيف.

(٣) الانتجاع : الانتفاع.

(٤) تنطف : أي تقطر.

(٥) تتحلب : تسيل.

(٦) تنتابها العواسل : تأتي مرة بعد اخرى. والعواسل : الرماح المضطربة.

(٧) تعفرها : تمرغها في التراب والفواعل : أولاد الضباع.

٣٠٩

عارنا وهل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد وجمعك إلا بدد يوم ينادي المنادي ألا لعن الله الظالم العادي.

والحمد لله الذي حكم لأوليائه بالسعادة وختم لأصفيائه بالشهادة ببلوغ الإرادة نقلهم إلى الرحمة والرأفة والرضوان والمغفرة ولم يشق بهم غيرك ولا ابتلي بهم سواك ونسأله أن يكمل لهم الأجر ويجزل لهم الثواب والذخر ونسأله حسن الخلافة وجميل الإنابة إنه رحيم ودود.

فقال يزيد مجيبا لها :

يا صيحة تحمد من صوائح

ما أهون الموت على النوائح

ثم أمر بردهم وقيل إن فاطمة بنت الحسين كانت وضيئة الوجه وكانت جالسة بين النساء فقام إلى يزيد رجل من أهل الشام أحمر فقال :

يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية يعني فاطمة بنت الحسين فأخذت بثياب عمتها زينب بنت علي بن أبي طالبعليه‌السلام فقالت أوتم وأستخدم؟!

فقالت زينب للشامي كذبت ولؤمت والله ما ذاك لك ولا له فغضب يزيد ثم قال إن ذلك لي ولو شئت أن أفعل لفعلت.

قالت زينب كلا والله ما جعل الله ذلك لك إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا.

فقال يزيد إنما خرج من الدين أبوك وأخوك.

قالت زينب بدين الله ودين أبي ودين أخي اهتديت أنت إن كنت مسلما.

قال يزيد كذبت يا عدوة الله.

فقالت زينب أنت أمير تشتم ظلما وتقهر بسلطانك.

فكأنه استحيا فسكت فعاد الشامي فقال يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية فقال يزيد اعزب وهب الله لك حتفا قاضيا

احتجاج علي بن الحسين زين العابدين على يزيد بن معاوية لما أدخل عليه

روت ثقات الرواة وعدولهم : أنه لما أدخل علي بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام في جملة من حمل إلى الشام سبايا من أولاد الحسين بن عليعليه‌السلام وأهاليه على يزيد قال له :

يا علي الحمد لله الذي قتل أباك!

٣١٠

قال عليعليه‌السلام قتل أبي الناس.

قال يزيد الحمد لله الذي قتله فكفانيه!

قال عليعليه‌السلام على من قتل أبي لعنة الله؟ ـ أفتراني لعنت الله عز وجل؟

قال يزيد يا علي اصعد المنبر فأعلم الناس حال الفتنة وما رزق الله أمير المؤمنين من الظفر!

فقال علي بن الحسين ما أعرفني بما تريد فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال :

أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي أنا ابن مكة ومنى أنا ابن المروة والصفا أنا ابن محمد المصطفى أنا ابن من لا يخفى أنا ابن من علا فاستعلى فجاز سدرة المنتهى فَكانَ من ربه قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى.

فضج أهل الشام بالبكاء حتى خشي يزيد أن يرحل من مقعده فقال للمؤذن أذن فلما قال المؤذن الله أكبر الله أكبر جلس علي بن الحسين على المنبر فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله بكى علي بن الحسينعليه‌السلام ثم التفت إلى يزيد فقال يا يزيد هذا أبي أم أبوك؟

قال بل أبوك فانزل فنزلعليه‌السلام فأخذ بناحية باب المسجد فلقيه مكحول صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال كيف أمسيت يا ابن رسول الله؟

قال أمسينا بينكم مثل بني إسرائيل في آل فرعون يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ.

فلما انصرف يزيد إلى منزله دعا بعلي بن الحسينعليه‌السلام فقال يا علي أتصارع ابني خالدا ـ؟

قالعليه‌السلام وما تصنع بمصارعتي إياه أعطني سكينا وأعطه سكينا فليقتل أقوانا أضعفنا فضمه يزيد إلى صدره ثم قال :

لا تلد الحية إلا الحية أشهد أنك ابن علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

ثم قال له علي بن الحسينعليه‌السلام يا يزيد بلغني أنك تريد قتلي فإن كنت لا بد قاتلي فوجه مع هؤلاء النسوة من يؤديهن إلى حرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقال له يزيد لعنه الله لا يؤديهن غيرك لعن الله ابن مرجانة فو الله ما أمرته بقتل أبيك ولو كنت متوليا لقتاله ما قتلته ثم أحسن جائزته وحمله والنساء إلى المدينة

٣١١

احتجاجهعليه‌السلام في أشياء شتى من علوم الدين وذكر طرف من مواعظه البليغة

جاء رجل من أهل البصرة إلى علي بن الحسينعليه‌السلام فقال :

يا علي بن الحسين إن جدك علي بن أبي طالب قتل المؤمنين فهملت عينا علي بن الحسين دموعا حتى امتلأت كفه منها ثم ضرب بها على الحصى ثم قال :

يا أخا أهل البصرة لا والله ما قتل علي مؤمنا ولا قتل مسلما وما أسلم القوم ولكن استسلموا وكتموا الكفر وأظهروا الإسلام فلما وجدوا على الكفر أعوانا أظهروه وقد علمت صاحبة الجدب والمستحفظون من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أن أصحاب الجمل وأصحاب صفين وأصحاب النهروان لعنوا على لسان النبي الأمي وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى.

فقال شيخ من أهل الكوفة يا علي بن الحسين إن جدك كان يقول إخواننا بغوا علينا.

فقال علي بن الحسينعليه‌السلام أما تقرأ كتاب الله :( وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً ) فهم مثلهم أنجى الله عز وجل هودا والذين معه وأهلك عادا بالريح العقيم

وبالإسناد المقدم ذكره : أن علي بن الحسينعليه‌السلام كان يذكر حال من مسخهم الله قردة من بني إسرائيل ويحكي قصتهم فلما بلغ آخرها قال إن الله تعالى مسخ أولئك القوم لاصطيادهم السمك فكيف ترى عند الله عز وجل يكون حال من قتل أولاد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهتك حريمه إن الله تعالى وإن لم يمسخهم في الدنيا فإن المعد لهم من عذاب الآخرة أضعاف أضعاف عذاب المسخ.

فقيل له يا ابن رسول الله فإنا قد سمعنا منك هذا الحديث فقال لنا بعض النصاب فإن كان قتل الحسين باطلا فهو أعظم عند الله من صيد السمك في السبت أفما كان الله غضب على قاتليه كما غضب على صيادي السمك؟

قال علي بن الحسينعليه‌السلام قل لهؤلاء النصاب فإن كان إبليس معاصيه أعظم من معاصي من كفر بإغوائه فأهلك الله من شاء منهم كقوم نوح وفرعون ولم يهلك إبليس وهو أولى بالهلاك فما باله أهلك هؤلاء الذين قصروا عن إبليس في عمل الموبقات وأمهل إبليس مع إيثاره لكشف المحرمات أما كان ربنا عز وجل حكيما تدبيره حكمة فيمن أهلك وفيمن استبقى؟ فكذلك هؤلاء الصائدون في السبت وهؤلاء القاتلون للحسين يفعل في الفريقين ما يعلم أنه أولى بالصواب والحكمة( لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ) وعباده( يُسْئَلُونَ ) .

وقال الباقرعليه‌السلام فلما حدث علي بن الحسينعليه‌السلام بهذا الحديث قال له بعض من في مجلسه يا ابن رسول الله كيف يعاقب الله ويوبخ هؤلاء الأخلاف على قبائح أتاها أسلافهم وهو يقول :( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) ؟

فقال زين العابدينعليه‌السلام إن القرآن نزل بلغة العرب فهو يخاطب فيه أهل اللسان بلغتهم يقول

٣١٢

الرجل التميمي قد أغار قومه على بلد وقتلوا من فيه أغرتم على بلد كذا وفعلتم كذا ويقول العربي نحن فعلنا ببني فلان ونحن سبينا آل فلان ونحن خربنا بلد كذا لا يريد أنهم باشروا ذلك ولكن يريد هؤلاء بالعذل وأولئك بالافتخار إن قومهم فعلوا كذا ـ وقول الله عز وجل في هذه الآيات إنما هو توبيخ لأسلافهم وتوبيخ العذل على هؤلاء الموجودين لأن ذلك هو اللغة التي نزل بها القرآن والآن هؤلاء الأخلاف أيضا راضون بما فعل أسلافهم مصوبون لهم فجاز أن يقال أنتم فعلتم أي إذ رضيتم قبيح فعلهم.

وعن أبي حمزة الثمالي(١) قال : دخل قاض من قضاة أهل الكوفة على علي بن الحسين فقال له :

جعلني الله فداك أخبرني عن قول الله عز وجل :( وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ ) قال له ما يقول الناس فيها قبلكم قال يقولون إنها مكة.

فقال وهل رأيت السرق في موضع أكثر منه بمكة قال فما هو؟

قال إنما عنى الرجال قال وأين ذلك في كتاب الله؟

فقال أوما تسمع إلى قوله عز وجل :( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ ) وقال :( وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ ) وقال :( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها ) أفيسأل القرية أو الرجال أو العير؟

قال وتلا عليه آيات في هذا المعنى قال جعلت فداك فمن هم؟

قال نحن هم فقال أوما تسمع إلى قوله :( سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ ) ؟

قال آمنين من الزيغ.

وروي أن زين العابدينعليه‌السلام مر بالحسن البصري وهو يعظ الناس بمنى فوقفعليه‌السلام عليه ثم قال أمسك أسألك عن الحال التي أنت عليها مقيم أترضاها لنفسك فيما بينك وبين الله إذا نزل بك غدا؟ قال لا.

__________________

(١) قال الشيخ عباس القمي في الكنى والألقاب ج ٢ ص ١١٨ :

« الثمالي أبو حمزة ثابت بن دينار ، الثقة الجليل ، صاحب الدعاء المعروف في اسحار شهر رمضان ، كان من زهاد أهل الكوفة ومشايخها وكان عربيا أزديا ، روي عن الفضل بن شاذان قال : سمعت الثقة يقول : سمعت الرضا عليه‌السلام يقول : أبو حمزة الثمالي في زمانه ، كسلمان الفارسي في زمانه ، وذلك أنه خدم أربعة منا : علي بن الحسين ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد ، وبرهة من عصر موسى بن جعفر ».

وعده الشيخ في أصحاب علي بن الحسين ص ٨٤ من رجاله فقال : « ثابت بن أبي صفية دينار الثمالي الأزدي ، يكنى أبا حمزة الكوفي ، مات سنة خمسين ومائة ، وذكره في أصحاب الباقر عليه‌السلام ص ١١٠ وص ١٦٠ في أصحاب الصادق « عليه‌السلام » وقال النجاشي ص ٨٩ لقي علي بن الحسين وأبا جعفر وأبا عبد الله وأبا الحسن عليهم‌السلام وروى عنهم وكان من خيار أصحابنا وثقاتهم ومعتمديهم في الرواية والحديث و ( قال ) : وروى عنه العامة ومات سنة خمسين ومائة له كتاب تفسير القرآن.

٣١٣

قال أفتحدث نفسك بالتحول والانتقال عن الحال التي لا ترضاها لنفسك إلى الحال التي ترضاها؟

قال فأطرق مليا ثم قال إني أقول ذلك بلا حقيقة.

قال أفترجو نبيا بعد محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله يكون لك معه سابقة؟ قال لا.

قال أفترجو دارا غير الدار التي أنت فيها ترد إليها فتعمل فيها؟ قال لا.

قال أفرأيت أحدا به مسكة عقل رضي لنفسه من نفسه بهذا إنك على حال لا ترضاها ولا تحدث نفسك بالانتقال إلى حال ترضاها على حقيقة ـ ولا ترجو نبيا بعد محمد ولا دارا غير الدار التي أنت فيها فترد إليها فتعمل فيها وأنت تعظ الناس.

قال فلما ولىعليه‌السلام قال الحسن البصري من هذا؟ قالوا علي بن الحسين.

قال أهل بيت علم فما رئي الحسن البصري بعد ذلك يعظ الناس.

وعن أبي حمزة الثمالي قال سمعت علي بن الحسينعليه‌السلام يحدث رجلا من قريش قال :

لما تاب الله على آدم واقع حواء ولم يكن غشيها منذ خلق وخلقت إلا في الأرض وذلك بعد ما تاب الله عليه قال وكان آدم يعظم البيت وما حوله من حرمة البيت فكان إذا أراد أن يغشى حواء خرج من الحرم وأخرجها معه فإذا جاز الحرم غشيها في الحل ثم يغتسلان إعظاما منه للحرم ثم يرجع إلى فناء البيت.

قال فولد لآدم من حواء عشرون ذكرا وعشرون أنثى فولد له في كل بطن ذكر وأنثى فأول بطن ولدت حواء هابيل ومعه جارية يقال لها إقليما قال وولدت في البطن الثاني قابيل ومعه جارية يقال لها لوزا وكانت لوزا أجمل بنات آدم.

وقال فلما أدركوا خاف عليهم آدم الفتنة فدعاهم إليه فقال أريد أن أنكحك يا هابيل لوزا وأنكحك يا قابيل إقليما.

قال قابيل ما أرضى بهذا أتنكحني أخت هابيل القبيحة وتنكح هابيل أختي الجميلة؟

قال فأنا أقرع بينكما فإن خرج سهمك يا قابيل على لوزا وخرج سهمك يا هابيل على إقليما زوجت كل واحد منكما التي خرج سهمه عليه.

قال فرضيا بذلك فاقترعا.

قال فخرج سهم هابيل على لوزا أخت قابيل وخرج سهم قابيل على إقليما أخت هابيل قال فزوجهما على ما خرج لهما من عند الله.

٣١٤

قال ثم حرم الله نكاح الأخوات بعد ذلك.

قال فقال له القرشي فأولداهما؟ قال نعم فقال القرشي فهذا فعل المجوس اليوم!

قال فقال علي بن الحسين إن المجوس إنما فعلوا ذلك بعد التحريم من الله.

ثم قال له علي بن الحسين لا تنكر هذا إنما هي الشرائع جرت أليس الله قد خلق زوجة آدم منه؟ ثم أحلها له فكان ذلك شريعة من شرائعهم ثم أنزل الله التحريم بعد ذلك

لقي عباد البصري علي بن الحسينعليه‌السلام في طريق مكة فقال له :

يا علي بن الحسين تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحج ولينه ـ؟ وإن الله عز وجل يقول :( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ـ إلى قوله ـوَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) .

فقال علي بن الحسين إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج.

وسئلعليه‌السلام عن النبيذ فقال شربه قوم وحرمه قوم صالحون فكان شهادة الذين دفعوا بشهادتهم شهواتهم أولى أن تقبل من الذين جروا بشهادتهم شهواتهم.

وعن عبد الله بن سنان(١) عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : قال رجل لعلي بن الحسينعليه‌السلام إن فلانا ينسبك إلى أنك ضال مبتدع!

فقال له علي بن الحسينعليه‌السلام ما رعيت حق مجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه ولا أديت حقي حيث أبلغتني عن أخي ما لست أعلمه إن الموت يعمنا والبعث محشرنا ـ والقيامة موعدنا والله يحكم بيننا إياك والغيبة فإنها إدام كلاب النار واعلم أن من أكثر عيوب الناس شهد عليه الإكثار أنه إنما يطلبها بقدر ما فيه.

وسئلعليه‌السلام عن الكلام والسكوت أيهما أفضل فقالعليه‌السلام لكل واحد منهما آفات فإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت.

قيل وكيف ذاك؟ يا ابن رسول الله قال لأن الله عز وجل ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت إنما يبعثهم بالكلام ولا استحقت الجنة بالسكوت ولا استوجب ولاية الله بالسكوت ولا توقيت النار بالسكوت ولا تجنب سخط الله بالسكوت إنما ذلك كله بالكلام وما كنت لأعدل القمر بالشمس إنك تصف فضل السكوت بالكلام ولست تصف فضل الكلام بالسكوت

__________________

(١) قال العلامة في القسم الأول من خلاصته ص ١٠٤ : « عبد الله بن سنان ـ بالسين المهملة والنون قبل الألف وبعدها ـ ابن طريف مولى بني هاشم ، ويقال مولى بني أبي طالب ، ويقال : مولى بني العباس. كان خازنا للمنصور والمهدي والهادي والرشيد ، وكان كوفيا ثقة من أصحابنا ، جليلا لا يطعن عليه في شيء ، روى عن الصادق (عليه‌السلام ) وقيل روى عن أبي الحسن موسىعليه‌السلام ولم يثبت قال فيه الصادق (عليه‌السلام ) : أما إنه يزيد على السن خيرا ، رواه الكشي في حديث مرسل ».

٣١٥

روي عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام قال : لما قتل الحسين بن عليعليه‌السلام أرسل محمد بن الحنفية إلى علي بن الحسينعليه‌السلام فخلا به ثم قال :

يا ابن أخي قد علمت أن رسول الله كان جعل الوصية والإمامة من بعده لعلي بن أبي طالبعليه‌السلام ثم إلى الحسن ثم إلى الحسين وقد قتل أبوك رضي الله عنه وصلى عليه ولم يوص وأنا عمك وصنو أبيك وأنا في سني وقدمتي أحق بها منك في حداثتك فلا تنازعني الوصية والإمامة ولا تخالفني.

قال له علي بن الحسينعليه‌السلام اتق الله ولا تدع ما ليس لك بحق( إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ ) يا عم إن أبي صلوات الله عليه أوصى إلي قبل أن يتوجه إلى العراق وعهد إلي في ذلك قبل أن يستشهد بساعة ـ وهذا سلاح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عندي فلا تعرض لهذا فإني أخاف عليك بنقص العمر وتشتت الحال وإن الله تبارك وتعالى أبى إلا أن يجعل الوصية والإمامة في عقب الحسين فإن أردت أن تعلم فانطلق بنا إلى الحجر الأسود حتى نحتكم إليه ونسأله عن ذلك.

قال الباقرعليه‌السلام وكان الكلام بينهما وهما يومئذ بمكة فانطلقا حتى أتيا الحجر الأسود فقال علي بن الحسينعليه‌السلام لمحمد :

ابتدئ فابتهل إلى الله واسأله أن ينطق لك الحجر ثم سله.

فابتهل محمد في الدعاء وسأل الله ثم دعا الحجر فلم يجبه فقال علي بن الحسينعليه‌السلام أما إنك يا عم لو كنت وصيا وإماما لأجابك!

فقال له محمد فادع أنت يا ابن أخي ـ فدعا الله علي بن الحسينعليه‌السلام بما أراد ثم قال أسألك بالذي جعل فيك ميثاق الأنبياء وميثاق الأوصياء وميثاق الناس أجمعين لما أخبرتنا( بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) من الوصي والإمام بعد الحسين بن علي فتحرك الحجر حتى كاد أن يزول عن موضعه ثم أنطقه الله( بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) فقال :

اللهم إن الوصية والإمامة بعد الحسين بن علي بن أبي طالب إلى علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وابن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فانصرف محمد وهو يتولى علي بن الحسينعليه‌السلام .

وعن ثابت البناني(١) قال : كنت حاجا وجماعة عباد البصرة مثل أيوب السجستاني وصالح المروي وعتبة الغلام وحبيب الفارسي ومالك بن دينار فلما أن دخلنا مكة رأينا الماء ضيقا ـ وقد اشتد بالناس العطش لقلة الغيث ففزع إلينا أهل مكة والحجاج يسألوننا أن نستسقي لهم فأتينا الكعبة وطفنا

__________________

(١) ثابت البناني : قال العلامة في القسم الأول من الخلاصة ص ٢٩ « ثابت البناني يكني أبا فضالة ، من أهل بدر من أصحاب أمير المؤمنين «عليه‌السلام » قتل بصفين. وفي أصحاب علي من رجال الشيخ ص ٣٦ : ثابت الأنصاري البناني يكنى أبا فضالة من أهل بدر قتل معهعليه‌السلام بصفين. وعليه فالراوي غيره ولعل البناني هنا تصحيف الثمالي ، وهو ثابت بن دينار المكنى بأبي حمزة.

٣١٦

بها ثم سألنا الله خاضعين متضرعين بها فمنعنا الإجابة فبينما نحن كذلك إذا نحن بفتى قد أقبل وقد أكربته أحزانه وأقلقته أشجانه فطاف بالكعبة أشواطا ثم أقبل علينا فقال :

يا مالك بن دينار ويا ثابت البناني ويا أيوب السجستاني ويا صالح المروي ويا عتبة الغلام ويا حبيب الفارسي ويا سعد ويا عمر ويا صالح الأعمى ويا زابعة ويا سعدانة ويا جعفر بن سليمان فقلنا لبيك وسعديك يا فتى!

فقال أما فيكم أحد يحبه الرحمن فقلنا يا فتى علينا الدعاء وعليه الإجابة.

فقال ابعدوا عن الكعبة فلو كان فيكم أحد يحبه الرحمن لأجابه ثم أتى الكعبة فخر ساجدا فسمعته يقول في سجوده سيدي بحبك لي إلا سقيتهم الغيث.

قال فما استتم الكلام حتى أتاهم الغيث كأفواه القرب.

فقلت يا فتى من أين علمت أنه يحبك؟ قال لو لم يحبني لم يستزرني فلما استزارني علمت أنه يحبني فسألته بحبه لي فأجابني ثم ولى عنا وأنشأ يقول :

من عرف الرب فلم تغنه

معرفة الرب فذاك الشقي

ما ضر في الطاعة ما ناله

في طاعة الله وما ذا لقي

ما يصنع العبد بغير التقى

والعز كل العز للمتقي

فقلت يا أهل مكة من هذا الفتى؟ قالوا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام

وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده علي بن الحسينعليه‌السلام قال :

نحن أئمة المسلمين وحجج الله على العالمين وسادة المؤمنين وقادة الغر المحجلين وموالي المؤمنين ونحن أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء ونحن الذين بنا( يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ) وبنا يمسك الأرض أن تميد بأهلها وبنا( يُنَزِّلُ الْغَيْثَ ) وينشر الرحمة وتخرج بركات الأرض ولو لا ما في الأرض منا لساخت الأرض بأهلها.

ثم قال ولم تخل الأرض منذ خلق الله آدم من حجة لله فيها ظاهر مشهور أو غائب مستور ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجة الله ولو لا ذلك لم يعبد الله

وعن أبي حمزة الثمالي عن أبي خالد الكابلي(١) قال :

__________________

(١) في الكنى والألقاب للشيخ عباس القمي ج ١ ص ٦٠ قال : « قال الفضل بن شاذان ولم يكن في زمن علي بن الحسين «عليه‌السلام » في أول أمره إلا خمسة أنفس : سعيد بن جبير ، سعيد بن المسيب ، محمد بن جبير بن مطعم ، يحيى بن أم الطويل ، أبو خالد الكابلي واسمه وردان ولقبه كنكر » ثم قال : وفي خبر الحواريين أنه حواري علي بن الحسينعليه‌السلام وقد شاهد كثيرا من دلائل الأئمةعليهم‌السلام ويأتي في الطاقي رواية تتعلق به ، ويظهر من رسالة أبي غالب الزراري أن آل أعين وهم أكبر بيت في الكوفة من الشيعة أن أول من عرف منهم عبد الملك عرفه من صالح بن ميثم ثم عرفه حمران من أبي خالد الكابلي.

٣١٧

دخلت على سيدي علي بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام فقلت له :

يا ابن رسول الله أخبرني بالذين فرض الله طاعتهم ومودتهم وأوجب على خلقه الاقتداء بهم بعد رسول الله ص؟

فقال لي يا أبا كنكر إن أولي الأمر الذين جعلهم الله أئمة الناس وأوجب عليهم طاعتهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ثم انتهى الأمر إلينا ثم سكت.

فقلت له يا سيدي روي لنا عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنه قال لا تخلو الأرض من حجة لله على عباده فمن الحجة والإمام بعدك؟

قال ابني محمد واسمه في التوراة باقر يبقر العلم بقرا هو الحجة والإمام بعدي ومن بعد محمد ابنه جعفر اسمه عند أهل السماء الصادق.

فقلت له يا سيدي فكيف صار اسمه الصادق وكلكم صادقون؟

فقال حدثني أبي عن أبيه أن رسول الله قال إذا ولد ابني جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فسموه الصادق فإن الخامس من ولده الذي اسمه جعفر يدعي الإمامة اجتراء على الله وكذبا عليه فهو عند الله جعفر الكذاب المفتري على الله المدعي لما ليس له بأهل المخالف على أبيه والحاسد لأخيه ذلك الذي يكشف سر الله عند غيبة ولي الله.

ثم بكى علي بن الحسين بكاء شديدا ثم قال :

كأني بجعفر الكذاب وقد حمل طاغية زمانه على تفتيش أمر ولي الله والمغيب في حفظ الله والتوكيل بحرم أبيه جهلا منه بولادته وحرصا على قتله إن ظفر به طمعا في ميراث أبيه حتى يأخذ بغير حقه.

قال أبو خالد فقلت له يا ابن رسول الله وإن ذلك لكائن؟

فقال إي وربي إنه المكتوب عندنا في الصحيفة التي فيها ذكر المحن التي تجري علينا بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال أبو خالد فقلت يا ابن رسول الله ثم يكون ما ذا؟

قال ثم تمتد الغيبة بولي الله الثاني عشر من أوصياء رسول الله والأئمة بعده يا أبا خالد إن أهل زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره أفضل أهل كل زمان لأن الله تعالى ذكره أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله بالسيف أولئك المخلصون حقا وشيعتنا صدقا والدعاة إلى دين الله سرا وجهرا وقالعليه‌السلام انتظار الفرج من أعظم الفرج

٣١٨

وبالإسناد المتقدم ذكره عن علي بن الحسينعليه‌السلام في تفسير قوله تعالى :( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ) الآية( وَلَكُمْ ) يا أمة محمد( فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ) لأن من هم بالقتل فعرف أنه يقتص منه فكف لذلك عن القتل كان حياة للذي هم بقتله وحياة لهذا الجافي [ الجاني ] الذي أراد أن يقتل وحياة لغيرهما من الناس إذا علموا أن القصاص واجب لا يجسرون على القتل مخافة القصاص ،( يا أُولِي الْأَلْبابِ ) أولي العقول( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) .

ثم قالعليه‌السلام عباد الله هذا قصاص قتلكم لمن تقتلونه في الدنيا وتفنون روحه أفلا أنبئكم بأعظم من هذا القتل وما يوحيه الله على قاتله مما هو أعظم من هذا القصاص قالوا بلى يا ابن رسول الله.

قال أعظم من هذا القتل أن يقتله قتلا لا يجبر ولا يحيا بعده أبدا قالوا ما هو؟

قال أن يضله عن نبوة محمد وعن ولاية علي بن أبي طالب ويسلك به غير سبيل الله ويغير به باتباع طريق أعداء علي والقول بإمامتهم ودفع علي عن حقه وجحد فضله وأن لا يبالي بإعطائه واجب تعظيمه فهذا هو القتل الذي هو تخليد المقتول في نار جهنم خالدا مخلدا أبدا فجزاء هذا القتل مثل ذلك الخلود في نار جهنم.

وقال أبو محمد الحسن العسكري صلوات الله عليه : إن رجلا جاء إلى علي بن الحسين برجل يزعم أنه قاتل أبيه فاعترف فأوجب عليه القصاص وسأله أن يعفو عنه ليعظم الله ثوابه فكأن نفسه لم تطب بذلك فقال علي بن الحسين للمدعي الدم الذي هو الولي المستحق للقصاص إن كنت تذكر لهذا الرجل عليك فضلا فهب له هذه الجناية واغفر له هذا الذنب.

قال يا ابن رسول الله له علي حق ولكن لم يبلغ به أن أعفو له عن قتل والدي قال فتريد ما ذا؟

قال أريد القود فإن أراد لحقه علي أن أصالحه على الدية صالحته وعفوت عنه.

قال علي بن الحسينعليه‌السلام فما حقه عليك؟

قال يا ابن رسول الله لقنني توحيد الله ونبوة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وإمامة علي والأئمةعليهم‌السلام .

فقال علي بن الحسين فهذا لا يفي بدم أبيك بلى والله هذا يفي بدماء أهل الأرض كلهم من الأولين والآخرين سوى الأنبياء والأئمة إن قتلوا فإنه لا يفي بدمائهم شيء تمام الخبر.

وبالإسناد المقدم ذكره أن محمد بن علي الباقرعليه‌السلام قال : دخل محمد بن مسلم بن شهاب الزهري(١)

__________________

(١) قال الشيخ عباس القمي في الكنى والألقاب ج ٢ ص ٢٧٠ « الزهري بضم الزاي وسكون الهاء أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن الحرث بن شهاب بن زهرة بن كلاب الفقيه المدني التابعي المعروف وقد ذكره علماء الجمهور وأثنوا عليه ثناء ـ

٣١٩

على علي بن الحسينعليه‌السلام وهو كئيب حزين فقال له زين العابدينعليه‌السلام ما بالك مغموما؟

قال يا ابن رسول الله غموم وهموم تتوالى علي لما امتحنت به من جهة حساد نعمي والطامعين في وممن أرجو وممن أحسنت إليه فيخلف ظني.

فقال له علي بن الحسينعليه‌السلام احفظ عليك لسانك تملك به إخوانك.

قال الزهري يا ابن رسول الله إني أحسن إليهم بما يبدر من كلامي.

قال علي بن الحسينعليه‌السلام هيهات هيهات إياك أن تعجب من نفسك بذلك وإياك أن تتكلم بما يسبق إلى القلوب إنكاره وإن كان عندك اعتذاره فليس كل من تسمعه شرا يمكنك أن توسعه عذرا.

ثم قال يا زهري من لم يكن عقله من أكمل ما فيه كان هلاكه من أيسر ما فيه.

ثم قال يا زهري أما عليك أن تجعل المسلمين منك بمنزلة أهل بيتك فتجعل كبيرهم بمنزلة والدك وتجعل صغيرهم بمنزلة ولدك وتجعل تربك منهم بمنزلة أخيك؟ فأي هؤلاء تحب أن تظلم وأي هؤلاء تحب أن تدعو عليه وأي هؤلاء تحب أن تهتك ستره وإن عرض لك إبليس لعنه الله بأن لك فضلا على أحد من أهل القبلة فانظر إن كان أكبر منك فقل قد سبقني بالإيمان والعمل الصالح فهو خير مني وإن كان أصغر منك فقل قد سبقته بالمعاصي والذنوب فهو خير مني وإن كان تربك فقل أنا على يقين من ذنبي وفي شك من أمره فما لي أدع يقيني لشكي وإن رأيت المسلمين يعظمونك ويوقرونك ويبجلونك فقل هذا فضل أخذوا به وإن رأيت منهم جفاء وانقباضا فقل هذا لذنب أحدثته فإنك إذا فعلت ذلك سهل الله عليك عيشك وكثر أصدقاؤك وفرحت بما يكون من برهم ولم تأسف على ما يكون من جفائهم.

واعلم أن أكرم الناس على الناس من كان خيره عليهم فائضا ـ وكان عنهم مستغنيا متعففا وأكرم الناس بعده عليهم من كان متعففا وإن كان إليهم محتاجا فإنما أهل الدنيا يتعقبون الأموال فمن لم يزاحمهم فيما يتعقبونه كرم عليهم ومن لم يزاحمهم فيها ومكنهم من بعضها كان أعز وأكرم

وبالإسناد المقدم ذكره عن الرضاعليه‌السلام أنه قال قال علي بن الحسين : إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه وتماوت في منطقه وتخاضع في حركاته فرويدا لا يغرنكم فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف نيته ومهانته وجبن قلبه فنصب الدين فخا لها فهو لا يزال يختل الناس بظاهره فإن تمكن من حرام اقتحمه وإذا وجدتموه يعف عن المال الحرام فرويدا لا يغرنكم فإن شهوات الخلق مختلفة ـ فما أكثر من ينبو عن المال الحرام وإن كثر ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها محرما فإذا وجدتموه يعف عن ذلك فرويدا لا يغرنكم حتى تنظروا ما عقدة عقله فما أكثر من ترك

__________________

ـ بليغا ، قيل : إنه قد حفظ علم العلماء السبعة ، ولقي عشرة من الصحابة ، روى عنه جماعة من أئمة علم الحديث ، وأما علماؤنا فقد اختلفت كلماتهم في مدحه وقدحه وقد ذكرنا ما يتعلق به في سفينة البحار ».

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

الأولى انه استدل على ان روايات كتاب « الفقيه » كلها صحيحة ، بمعنى كون من جاء في اسانيده من الرواة ثقات ، بقولهقدس‌سرهقدس‌سره : « بل قصدت إلى ايراد ما افتي به واحكم بصحته » والمراد من الصحة في هذه العبارة ، هو الحكم بعدالة الراوي او وثاقته ، فتكون هذه العبارة تنصيصاً من الشيخ الصدوق على ان من ورد في اسناد ذلك الكتاب ، كلهم عدول او ثقات ، ولا يخفى ان استفادة ذلك من تلك العبارة مشكل جداً.

اما أوّلاً ، فلأن الصحيح في مصطلح القدماء ومنهم الصدوق ، غير الصحيح في مصطلح المتأخرين ، إذ الصحيح عند المتأخرين هو كون الراوي عدلاً امامياً ، ولكن الصحيح عند القدماء عبارة عمّا اعتضد بما يقضي اعتمادهم عليه ، او اقترن بما يوجب الوثوق والركون اليه واسبابه عندهم مختلفة.

منها : وجوده في كثير من الاصول الاربعمائة المؤلفة في عصور الائمةعليهم‌السلام ، او وجوده في اصل معروف الانتساب لمن اجتمعت العصابة على تصديقهم كزرارة ومحمد بن مسلم واضرابهما.

ومنها : اندراجه في احدى الكتب التي عرضت على الائمة ـ صلوات الله عليهم ـ فاثنوا على مصنفيها ، ككتاب عبيدالله الحلبي الذي عرض على الصادقعليه‌السلام وكتاب يونس بن عبد الرحمن وفضل بن شاذان المعروضين على العسكريعليه‌السلام .

ومنها : كونه مأخوذاً من الكتب التي شاع بين سلفهم الوثوق بها والاعتماد عليها ، سواء الفت بيد رجال الفرقة المحقة ككتاب الصلاة لحريز بن عبدالله ، وكتب الحسن والحسين ابني سعيد ، وعلي بن مهزيار ، او بيد غيرهم ككتاب حفص بن غياث ، وكتب الحسين بن عبيدالله السعدي وكتاب القبلة لعلي بن

٣٨١

الحسن الطاطري(1) ، وقد جرى الشيخ الصدوق على متعارف القدماء فحكم بصحة جميع احاديثه ، وهذا غير ما نحن بصدده من عدالة الراوي او وثاقته.

قال المحقق البهبهاني : « ان الصحيح عند القدماء هو ما وثقوا بكونه من المعصوم أعم من ان يكون منشأ وثوقهم كون الراوي من الثقات ، او امارات اُخر ، ويكونوا قطعوا بصدوره عنهم او يظنون »(2) .

وعلى ذلك فبين صحيح القدماء وصحيح المتأخرين العموم والخصوص المطلق ، فحكم الشيخ الصدوقرحمه‌الله بصحة احاديثه لا يستلزم صحتها باصطلاح المتأخرين ، من كون الرواة في الاسانيد كلهم ثقات ، لاحتمال كون المنشأ في الجميع او بعضها هو القرائن الخارجية.

وثانياً : سلمنا ان الصدوق بصدد الحكم بوثاقة او عدالة كل من وقع في اسناد كتابه ، ولكنه مخدوش من جانب آخر ، لانه قد علم من حاله انه يتبع في التصحيح والتضعيف شيخه ابن الوليد ، ولا ينظر إلى حال الراوي نفسه ، وانه ثقة او غير ثقة ، ومعه كيف يمكن ان يكون قوله هذا شهادة حسية على عدالة او وثاقة كل من ذكر في اسناد كتابه ، وقد مر عند دراسة كتاب الكافي طريقته في التصحيح والتضعيف. اللّهم إلا ان يكون طريقة شيخه ، موافقة لطريقة المتأخرين ويكون قوله اخباراً عن شهادة استاذه بعدالة او وثاقة الواردين في هذا الكتاب.

وثالثاً : ان المتبادر من العبارة التالية ، انه يعتمد في تصحيح الرواية على وجود الرواية في كتب المشايخ العظام غالباً. قالقدس‌سره : « كان شيخنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد ( رضي الله عنه ) سيء الرأي في محمد بن عبدالله المسمعي راوي هذا الحديث ، واني اخرجت هذا الخبر في هذا

__________________

1 ـ لاحظ مشرق الشمسين للشيخ البهائي.

2 ـ تعليقة البهبهاني : 27 ، وفي العبارة حزازة.

٣٨٢

الكتاب ، لانه كان في كتاب الرحمة ، وقد قرأته عليه فلم ينكره ورواه لي »(1) . وهذا يعرب عن انه ما كان يتفحص عن احوال الراوي عند الرواية ، وهذا ان لم يكن كلياً لكنه أمر ذائع في تصحيحاته.

الثانية : إن أحاديث كتاب الفقيه لا تتجاوز عن 5963 حديثاً ، منها ألفان وخمسون حديثاً مرسلاً ، وعند ذلك يقع الكلام كيف يمكن الركون إلى هذا الكتاب بلا تحقيق اسناده ، مع أن جميع الاحاديث المسندة فيها 3913 حديثاً ، والمراسيل 2050 حديثاً ، ومرادهم من المرسل ما لم يذكر فيه اسم الراوي بأن قال « روي » أو قال « قال الصادقعليه‌السلام » او ذكر الراوي وصاحب الكتاب ، ونسي أن يذكر طريقه اليه في المشيخة ، وهم على ما صرَّح به المجلسي أزيد من مائة وعشرين رجلاً.

الثالثة : في اعتبار مراسيل الفقيه وعدمه.

ذهب بعض الأجلة إلى القول باعتبار مراسيله ، قال التفريشي في شرحه على الفقيه :

« الاعتماد على مراسيله ينبغي أن لا يقصر في الاعتماد على مسانيده ، حيث حكم بصحَّة الكل ». وقد قيل في وجه ترجيح المرسل : « إن قول العدل : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يشعر باذعانه بمضمون الخبر ، بخلاف ما لو قال : حدثني فلان » وقال بحر العلوم : « إن مراسيل الصدوق في الفقيه كمراسيل ابن ابي عمير في الحجّية والاعتبار ، وان هذه المزية من خواص هذا الكتاب لا توجد في غيره من كتب الاصحاب ».

وقال الشيخ بهاء الدين في شرح الفقيه ـ عند قول الصدوق : « وقال الصادق جعفر بن محمدعليه‌السلام : كل ماء طاهر حتى تعلم أنه قذر » ـ

__________________

1 ـ العيون : الجزء الثاني ، باب ما جاء عن الرضاعليه‌السلام من الاخبار المنثورة ، الحديث 45.

٣٨٣

« هذا الحديث من مراسيل المؤلف ، وهي كثيرة في هذا الكتاب ، تزيد على ثلث الاحاديث الموردة فيه ، وينبغي أن لا يقصر الاعتماد عليها من الاعتماد على مسانيده ، من حيث تشريكه بين النوعين في كونه ممّا يفتي به ويحكم بصحته ، ويعتقد أنه حجة بينه وبين ربّه ، بل ذهب جماعة من الاُصوليين إلى ترجيح مرسل العدل على مسانيده محتجّين بأن قول العدل « قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كذا » يشعر باذعانه بمضمون الخبر ، بخلاف ما لو قال « حدثني فلان ، عن فلان أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال كذا » وقد جعل أصحابنا5 مراسيل ابن أبي عمير كمسانيده في الاعتماد عليها ، لما علموا من عادته أنه لا يرسل إلا عن ثقة(1) .

وقال المحقّق الداماد في الرواشح : « إذا كان الارسال بالاسقاط رأساً جزماً ، كما قال المرسل « قال النبي ، أو قال الإمام » فهو يتم فيه ، وذلك مثل قول الصدوق في الفقيه « قال الصادقعليه‌السلام : الماء يطهِّر ولا يطهَّر » إذ مفاده الجزم او الظنّ بصدور الحديث عن المعصوم ، فيجب أن تكون الوسائط عدولاً في ظنّه ، وإلا كان الحكم الجازم بالاسناد هادماً لجلالته وعدالته »(2) .

ولا يخفى أن غاية ما يقتضيه الاسناد جازماً ، هو جزم الصدوق او اطمئنانه على صدور الرواية من الإمامعليه‌السلام ، وهذا لا يقتضي أن يكون منشأ جزمه هو عدالة الراوي او وثاقته ، فيمكن أن يكون منشؤه هو القرائن الحافَّة على الخبر التي يفيد القطع او الاطمئنان بصدور الخبر ، ولو كان اطمئنانه حجَّة للغير ، يصحّ للغير الركون اليه وإلا فلا.

الرابعة : قد عرفت أن الصدوق كثيراً ما ذكر الراوي ونسي أن يذكر طريقه اليه في المشيخة ، أو ذكر طريقه ولكن لم يكن صحيحاً عندنا ، فهل هنا طريق

__________________

1 ـ مستدرك الوسائل : 718 ، الفائدة الخامسة.

2 ـ الرواشح : 174.

٣٨٤

يعالج هذه المشكلة؟ فقد قام المحقّق الاردبيلي صاحب كتاب « جامع الرواة » على تصحيح هذه الروايات بطريق خاصّ نذكره عند البحث عن كتاب « التهذيب ».

والذي عند سيد المحقّقين ، البروجرديقدس‌سره من الاجابة عن هذا السؤال هو أن الكتب التي نقل عن الصدوق في هذا الكتاب كانت كتباً مشهورة ، وكان الأصحاب يعوِّلون عليها ويرجعون اليها ، ولم يكن ذكر الطريق إلى هذه الكتب إلا تبرّعاً وتبرّكاً ، أي لاخراج الكتب عن صورة المرسل إلى صورة المسند وإن كان لبّاً جميعها مسانيد ، لشهرة انتساب هذه الكتب إلى مؤلفيها ، وبذلك كانت تستغني عن ذكر الطريق.

والذي يدل على ذلك ، قوله في ديباجة الكتاب : « وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعوَّل واليها المرجع مثل كتاب حريز بن عبدالله السجستاني(1) ، وكتاب عبيدالله بن علي الحلبي(2) ، وكتب علي بن مهزيار الاهوازي ـ إلى آخر ما نقلناه عنه آنفاً ».

وبعد هذه العبارة لا يبقى شكّ للانسان أن ذكر الطريق إلى هذه الكتب في المشيخة ، لم يكن إلا عملا تبرّعياً غير إلزامي ، ولأجل ذلك نرى أنه لم يذكر طريقاً إلى بعض هذه الكتب ، او ذكر طريقاً فيه ضعف ، لعدم المبالاة بصحَّة الطريق وعدمها ، لانه لم تكن الغاية اثبات انتساب الكتب إلى اصحابها ، فان الكتب كانت مشهورة الانتساب إلى مؤلفيها ، ولأجل ذلك نرى أن المحقّق المولى محمد تقي المجلسي ( المولود عام 1003 ، والمتوفى عام 1070 هـ ) ذكر في شرحه على الفقيه عند تفسير العبارة المتقدمة ما هذا لفظه : « من كتب

__________________

1 ـ قال حماد بن عيسى للصادقعليه‌السلام اني اعمل به وقرّره الإمام. روضة المتقين : 1 / 14.

2 ـ عرض كتابه على الصادقعليه‌السلام فصححه الإمام ومدحه. روضة المتقين : 1 / 14.

٣٨٥

مشهورة بين المحدّثين ، بالانتساب إلى مصنّفيها ورواتها ، والظاهر أن المراد بالشهرة التواتر. عليها المعوّل ، يعني كلها محلّ اعتماد الاصحاب »(1) .

وقال أيضاً : « الظاهر منهم النقل من الكتب المعتبرة المشهورة ، فاذا كان صاحب الكتاب ثقة يكون الخبر صحيحاً ، لأن الظاهر من نقل السند إلى الكتاب المشهور المتواتر ، مجرد التيمّن والتبرّك لا سيما إذا كان من الجماعة المشهورين كالفضيل بن يسار ومحمد بن مسلم ـ رضي الله عنهما ـ فان الظاهر أنه لا يضرّ جهالة سنديهما »(2) .

وقال أيضاً : مع كثرة التتّبع يظهر أن مدار ثقة الاسلام ( الكليني ) أيضاً كان على الكتب المشهورة ، وكان اتصال السند عنده أيضاً لمجرّد التيمّن والتبرّك ، ولئلاً يلحق الخبر بحسب الظاهر بالمرسل ، فان روى خبراً عن حمّاد بن عيسى ، او صفوان بن يحيى ، أو محمد بن أبي عمير فالظاهر أنه أخذ من كتبهم فلا يضرّ الجهالة التي تكون في السند إلى الكتب بمثل محمد بن اسماعيل عن الفضل ، او الضعف بمثل سهل بن زياد »(3) .

وبعد ذلك نرى أن البحث عن طرق الصدوق إلى أصحاب الكتب أمر زائد ، فاللازم البحث عن مؤلف الكتاب وطرقه إلى الإمامعليه‌السلام . هذا ما يميل إليه سيّدنا المحقّق البروجردي ويقرّبه.

نعم ، على ذلك كلّما علم أن الشيخ الصدوق أخذ الحديث من الكتب المعروفة ، فالبحث عن الطريق أمر غير لازم ، وأما إذا لم نجزم بذلك واحتملنا أن الحديث وصل اليه بالطرق المذكورة في المشيخة ، فالبحث عن صحَّة الطرق يعدُّ أمراً لازماً.

__________________

1 ـ روضة المتقين : 1 / 14.

2 ـ روضة المتقين : 1 / 29.

3 ـ روضة المتقين : 1 / 31.

٣٨٦

ونقول بمثل ذلك في طرق الكافي ، فاذا علم أنه أخذ الحديث من الكتب التي ثبت اسنادها إلى الراوي ، فلا وجه للبحث عن ضعف الطريق او صحته. وبذلك نستغني عن كثير من المباحث حول طرق الصدوق إلى أرباب الكتب.

ثمّ إنهم أطالوا البحث عن أحوال المذكورين في المشيخة ومدحهم وقدحهم وصحة الطريق من جهتهم.

وقد عرفت أن أول من دخل في هذا الباب هو العلاّمة في « الخلاصة » ، وتبعه ابن داود ثم أرباب المجاميع الرجالية وشرّاح الفقيه ، كالعالم الفاضل المولى مراد التفريشي والعالم الجليل المجلسي الأول وغيرهما(1) .

__________________

1 ـ مستدرك الوسائل : 3 / 547 و 719 ، ولاحظ مقدمة الحدائق.

٣٨٧
٣٨٨

3 ـ تقييم احاديث « التهذيب » و « الاستبصار »

٣٨٩
٣٩٠

إن كتاب « تهذيب الاحكام » في شرح المقنعة للشيخ المفيد ، تأليف شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي ( المولود عام 385 ، والمتوفى عام 460 هـ ) من أعظم كتب الحديث منزلة وأكثرها منفعة ، وقد شرع الشيخ في تأليف هذا الكتاب لمّا بلغ سنه ستّاً وعشرين وهذا من خوارق العادة.

قال المحقّق البروجردي : « يظهر من أدعيته للمفيد في كتاب « التهذيب » عند نقل عبارة المقنعة حيث يقول في أول الكتاب إلى أواخر كتاب الصلاة منه : « قال الشيخ ـ أيَّده الله تعالى ـ » ومنه إلى آخر الكتاب يقول : « قال الشيخرحمه‌الله » أنه كتب الطهارة والصلاة في حال حياة الشيخ المفيد وقد قدم الشيخ الطوسي العراق عام 408 هـ ، وتوفي الشيخ المفيد عام 413 هـ ، وأنت إذا نظرت إلى كلماته في الكتابين « التهذيب والاستبصار » وما جادل به المخالفين في المسائل الخلافية ، كمسألة مسح الرجلين ، وما أفاده في مقام الجمع بين الأخبار ، واختياراته في المسائل ، وما يستند اليه فيها وما يورده من الاخبار في كل مسألة ، لأذعنت أنه من أبناء سبعين »(1) .

__________________

1 ـ مقدمة الخلاف للمحقق البروجرديقدس‌سره .

٣٩١

ثم ان طريقة الشيخ في نقل الاحاديث في هذا الكتاب مختلفة.

قال السيد الاجل بحر العلومرحمه‌الله : « انه قد يذكر في التهذيب والاستبصار جميع السند ، كما في الكافي ، وقد يقتصر على البعض بحذف الصدر ، كما في الفقيه ، ولكنه استدرك المتروك في اخر الكتابين ، فوضع له مشيخته المعروفة ، وهي فيهما واحدة غير مختلفة ، قد ذكر فيهما جملة من الطرق إلى أصحاب الاصول والكتب ممَّن صدَّر الحديث بذكرهم وابتدأ بأسمائهم ، ولم يستوف الطرق كلها ، ولا ذكر الطريق إلى كل من روى عنه بصورة التعليق ، بل ترك الاكثر لقلّة روايته عنهم ، وأحال التفصيل إلى فهارس الشيوخ المصنفة في هذا الباب ، وزاد في « التهذيب » الحوالة على كتاب « الفهرست » الذي صنفه في هذا المعنى.

قال الشيخ في مشيخة تهذيبه : « والآن فحيث وفَّق الله تعالى للفراغ من هذا الكتاب ، نحن نذكر الطرق التي يتوصل بها إلى رواية هذه الاُصول والمصنفات ، ونذكرها على غاية ما يمكن من الاختصار لتخرج الاخبار بذلك عن حدّ المراسيل وتلحق بباب المسندات.

ثم قال : فما ذكرناه في هذا الكتاب عن محمد بن يعقوب الكلينيرحمه‌الله فقد أخبرنا الشيخ أبو عبدالله محمد بن نعمانرحمه‌الله ، عن أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويهرحمه‌الله ، عن محمد بن يعقوبرحمه‌الله وأخبرنا به أيضاً الحسين بن عبيدالله ، عن أبي غالب أحمد بن محمد الزراري وأبي محمد هارون بن موسى التلعكبري ، وأبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه ، وأبي عبدالله أحمد بن أبي رافع الصيمري ، وابي المفضل الشيباني ، وغيرهم ، كلهم عن محمد بن يعقوب الكليني.

وأخبرنا به أيضاً أحمد بن عبدون المعروف بابن الحاشر ، عن أحمد بن أبي رافع ، وأبي الحسين عبد الكريم بن عبدالله بن نصر البزّاز بتنيس وبغداد

٣٩٢

عن أبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني جميع مصنفاته وأحاديثه سماعاً وإجازة ببغداد بباب الكوفة ، بدرب السلسلة سنة سبع وعشرين وثلاثمائة »(1) .

وعلى ذلك فربما يتصور أنه يجب التفتيش والتفحّص عن طرق الشيخ إلى أصحاب الكتب والاُصول.

أقول : قد عرفت مذهب سيّد المحقّقين آية الله البروجردي وهو أحد المعنيّين في علم الرجال ، وأنه كان يذهب تبعاً للمجلسيّ الأول إلى أن المشيخة للصدوق وللشيخ ، لم تكن إلا لمجرد إظهار الاحاديث بصور المسندات لا لأجل تحصيل العلم بنسبة الكتب إلى مؤلفيها ، فان نسبة هذه الكتب إلى أصحابها كانت ثابتة غير محتاجة إلى تحصيل السند ، وبالجملة ذكر المشيخة لأجل التبرّك والتيمّن ، ولاتّصال السند كما هو المرسوم في هذه الاعصار أيضا ، حيث يستجيزون عن المشايخ بالنسبة إلى الكتب الاربعة وغيرها حتى يصحّ لهم نقل الاحاديث عن هذه الكتب مسنداً ، وأما كون المشيخة لأجل تحصيل صحة نسبة هذه الكتب إلى أصحابها فهذا ممّا ينافيه كلام الصدوق والشيخ في المشيخة.

أما الصدوق فقد قدَّمنا كلامه ، وأما الشيخ فهو يقول في مشيخة التهذيب : « لتخرج الاخبار بذلك عن حدّ المراسيل وتلحق بباب المسندات » فان هذه العبارة تعطي أن الغاية من ذكر المشيخة جعل الحديث وإخراجه بصورة المسانيد لا غير ، ولأجل ذلك نرى أن الشيخ يبتدئ في المشيخة بذكر الطرق إلى كتاب الكافي للكليني ، مع أن ثبوته له أظهر من الشمس ، وبذلك تعرف أن البحث في طرق الشيخ إلى أصحاب الكتب في المشيخة ممّا لا طائل تحته ، وليس على الفقيه إلا التفتيش عن أحوال أصحاب الكتب ومن يروون عنهم.

اللّهم إلا إذا كانت الكتب غير معروفة ، فعندئذ يجب الفحص عن كلّ

__________________

1 ـ التهذيب : 10 / 25 ـ 29 من المشيخة.

٣٩٣

من في الطريق كما لا يخفى.

تصحيح أسانيد الشيخ

ثم إنه لمّا كان كثير من طرق الشيخ الواردة في مشيخة التهذيب ، معلولاً بضعف ، أو إرسال ، او جهالة ، او بدء الحديث باناس لم يذكر لهم طريق في المشيخة ، حاول بعض المحقّقين لرفع هذه النقيصة من كتاب التهذيب بالرجوع إلى فهرست الشيخ أولا ، وطرق من تقدمه عصراً ثانياً ، او عاصره ثالثاً.

أما الأول ، فلأن للشيخ في الفهرست طرقاً إلى أرباب الكتب والاُصول الذين أهمل ذكر السند إلى كتبهم في التهذيب ، فبالرجوع إلى ذلك الكتاب يعلم طريق الشيخ إلى ارباب الكتب التي لم يذكر سنده اليها في التهذيب.

أما الثاني ، فبالرجوع إلى مشيخة الفقيه ورسالة الشيخ أبي غالب الزراري ، إذا كان لهما سند إلى الكتب التي لم يذكر سنده اليها في التهذيب ، لكن إذا أوصلنا سند الشيخ إلى هؤلاء ، وبالنتيجة يحصل السند إلى أصحاب هذه الكتب.

أما الثالث ، فبالرجوع إلى طريق النجاشي ، فانه كان معاصراً للشيخ ، مشاركاً له في أكثر المشايخ كالمفيد والحسين بن عبيدالله الغضائري ، وابنه أحمد بن الحسين ، وأحمد بن عبدون الشهير بابن الحاشر ، فاذا علم رواية النجاشي للأصل والكتاب بتوسّط أحد هؤلاء كان ذلك طريقاً للشيخ أيضاً.

ثم إن المتتبع الخبير الشيخ محمد الاردبيلي ( المتوفّى عام 1101 هـ ) احد تلاميذ العلاّمة المجلسي قد قام بتأليف كتابين في الرجال ، ولكلّ دور خاص.

1 ـ « جامع الرواة ». وقد عرفنا مكانته عند البحث عن الاصول الرجالية المتأخرة في الفصول السابقة ، والكتاب مطبوع.

٣٩٤

2 ـ « تصحيح الاسانيد » وهو بعد غير مطبوع ، ولم نقف عليه إلى الآن ، لكن ذكر المؤلف مختصره ، وديباجته في آخر كتاب « جامع الرواة »(1) واختصره المحدّث النوري ونقله في « خاتمة المستدرك » وأضاف عليه زيادات(2) .

وقد حاول المؤلف في هذا الكتاب تصحيح أسانيد الشيخ في التهذيبين بطريق آخر غير ما ذكرناه من الرجوع إلى مشيخة الفهرست ، او مشيخة من تقدمه ، أو عاصره ، واليك بيانه :

إن العلاّمة الحلي في « الخلاصة » ، والسيد الجليل الميرزا الاسترآبادي في « تلخيص المقام » والسيد مصطفى التفريشي في « نقد الرجال » عمدوا إلى ذكر الشيوخ الذين اُخذت أحاديث « التهذيب » و « الاستبصار » من اُصولهم وكتبهم ، وابتدأ الشيخ في معظم أسانيدها بذكرهم اختصاراً ، مع أنه لم يدرك زمانهم ، ولكن ذكر طريقه اليهم في آخر الكتابين ، وهم تسعة وثلاثون شيخاً.

وقد اعتبر العلاّمة والاسترآبادي من هؤلاء المشيخة خمسة وعشرين ، وتركا الباقي ولعلّ منشأه أن طريق الشيخ إلى غير هؤلاء غير معتبر عندهم.

وأما السيد التفريشي فقد(3) زاد على مشيخة التهذيبين أحداً وثلاثين شيخاً ، الذين لم يذكر الشيخ سنده اليهم في خاتمة الكتابين ، وقام هو باستخراج سنده اليهم من الفهرست ، فبلغت المشايخ حسب عدّه سبعين شيخاً ، ولكن المعتبر عنده من مجموع الطرق ثلاثون طريقاً ، وقد أوجب هذا اضطراباً واشكالاً في اعتبار أحاديث الكتابين ، حيث صار ذلك سبباً لعدم اعتبار

__________________

1 ـ لاحظ الجزء الثاني من جامع الرواة : الفائدة الرابعة من خاتمته ، الصفحة 473 ، ونقله العلاّمة المامقاني في خاتمة التنقيح.

2 ـ مستدرك الوسائل : 3 / 719 ، الفائدة السادسة.

3 ـ نقد الرجال : 417 في الفائدة الرابعة من الخاتمة.

٣٩٥

أحاديث أربعين شيخاً من سبعين ممَّن صدر الحديث بأسمائهم.

ولأجل ذلك حاول المحقق الاردبيلي لتصحيح اسانيد الكتابين بشكل آخر ، ذكره في مقدمة كتاب « تصحيح الاسانيد » وحاصله :

« إن ما ذكره علماء الرجال من طرق الشيخ قليل في الغاية ، ولا يكون مفيداً في ما هو المطلوب ، والشيخ لمّا أراد إخراج الروايات التي لم يذكر طريقه إلى ارباب الكتب في نفس التهذيب والاستبصار من الارسال ، ذكر في المشيخة والفهرست طريقاً او طريقين او اكثر إلى كل واحد من أرباب الكتب والاُصول ، فمن كان قصده الاطلاع على أحوال الاحاديث ، ينبغي له أن ينظر إلى المشيخة ويرجع إلى الفهرست. ثم قال : إني لمّا راجعت اليهما رأيت أن كثيراً من الطرق المورودة فيهما معلول على المشهور ، بضعف أو إرسال ، او جهالة وأيضاً رأيت أن الشيخرحمه‌الله ربما بدأ في أسانيد الروايات باُناس لم يذكر لهم طريقاً أصلاً ، لا في المشيخة ولا في الفهرست ، فلأجل ذلك رأيت من اللازم تحصيل طرق الشيخ إلى أرباب الاُصول والكتب ، غير الطرق المذكورة في المشيخة والفهرست ، حتى تصير تلك الروايات معتبرة ، فلمّا طال تفكري في ذلك وتضرّعي ، اُلقي في روعي أن أنظر في أسانيد روايات التهذيبين ، فلما نظرت فيها وجدت فيها طرقاً كثيرة اليهم غير ما هو مذكور في المشيخة والفهرست ، أكثرها موصوف بالصحة والاعتبار فصنَّفت هذه الرسالة وذكرت فيها جميع الشيوخ المذكورين في المشيخة والفهرست ، وذيَّلت ما فيهما من الطرق الضعيفة او المجهولة بالاشارة إلى ما وجدته من الطرق الصحيحة او المعتبرة مع تعيين موضعها ، وأضفت اليهم من وجدت له طريقاً معتبراً ولم يذكر طريقه فيهما »(1) .

__________________

1 ـ لاحظ في توضيحه ما ذكره المؤلف في الفائدة الرابعة من خاتمة كتابه « جامع الرواة » الصفحة 473 ـ 475 وما ذكرناه ملخص ما اورده المحقق البروجردي في تصديره على كتاب « جامع الرواة : 1 / 266.

٣٩٦

ولزيادة التوضيح نقول : انه روى الشيخ في « التهذيب » روايات عن علي بن الحسن الطاطري بدأ بذكر اسمه في أسانيده. مثلا روى في كتاب الصلاة هكذا : « علي بن الحسن الطاطري قال : حدثني عبدالله بن وضّاح ، عن سماعة بن مهران قال : قال لي أبو عبداللهعليه‌السلام : إياك أن تصلّي قبل أن تزول ، فانك تصلّي في وقت العصر خير لك أن تصلّي قبل أن تزول »(1) .

وقال في المشيخة : « وما ذكرته عن علي بن الحسن الطاطري فقد أخبرني به أحمد بن عبدون ، عن علي بن محمد بن الزبير ، عن أبي الملك أحمد بن عمر بن كيسبة ، عن علي بن الحسن الطاطري ».

وهذا الطريق ضعيف بجهالة اثنين منهم : ابن الزبير وابن كيسبة ومقتضاه عدم اعتبار تلك الروايات التي يبلغ عددها إلى ثلاثين حديثاً في « التهذيب ».

وأما المحاولة ، فهي أنا إذا رأينا أن الشيخ روى في باب الطواف أربع روايات بهذا السند :

« موسى بن القاسم ، عن علي بن الحسن الطاطري ، عن درست بن أبي منصور ، عن ابن مسكان » ، ثم وقفنا على أمرين :

1 ـ إن موسى بن القاسم ـ أعني من صدر به السند ـ ثقة.

2 ـ طريق الشيخ اليه صحيح ، فعند ذلك يحصل للشيخ طريق صحيح إلى الطاطري ، لكن لا عن طريقه اليه في المشيخة ولا في الفهرست ، بل عن طريقه في المشيخة إلى موسى بن القاسم.

ولأجل ذلك يقول الاردبيلي في مختصر تصحيح الاسانيد : « وإلى علي بن الحسن الطاطري ، فيه علي بن محمد بن الزبير في المشيخة والفهرست ، وإلى الطاطري صحيح في التهذيب في باب الطواف ».

__________________

1 ـ التهذيب : ج 2 ، الحديث 549.

٣٩٧

وهذا يعطي ان موسى بن قاسم ليس راوياً لهذه الروايات الاربع فقط ، بل راو لجميع كتاب الطاطري عنه ، فيعلم من ذلك ان الشيخ روى كتاب الطاطري تارة بسند ضعيف ، واخرى بسند معتبر وبذلك يحكم بصحة كل حديث بدأ الشيخ في سنده بالطاطري.

وقس على ذلك سائر الطرق التي للشيخ في الكتابين إلى المشايخ الذين لم يذكر سنده اليهم في المشيخة ولا في الفهرست ، او ذكر لكنه ضعيف عليل ، وبهذا التتبع يحصل له طرق صحيحة انهاها صاحب الكتاب إلى خمسين وثمانمائة طريق تقريباً ، وعدد المعتبر منها قريب من خمسمائة طريق.

هذه خلاصة المحاولة وقد نقده المحقق البروجردي بوجوه :

الأول : ان ما صح طرقه إلى المشايخ وان كان قليلاً ، ولكن الروايات التي رواها الشيخ بهذه الطرق القليلة عن هؤلاء المشايخ في غاية الكثيرة مثلاً :

1 ـ ان ما رواه بطرقه عن أحمد بن محمد بن عيسى يقرب من 1200 حديث.

2 ـ ان ما رواه بطرقه عن الحسن بن محمد بن سماعة قريب 800 حديث.

3 ـ ان ما رواه بطرقه عن الحسين بن سعيد يقرب من 2500 حديث.

4 ـ ان ما رواه بطرقه عن سعد بن عبدالله يقرب من 600 حديث.

5 ـ ان ما رواه بطرقه عن محمد بن أحمد بن يحيى يقرب من 950 حديثاً.

6 ـ ان ما رواه بطرقه عن محمد بن علي بن محبوب يقرب من 700 حديث.

هذا ، وان نقله عن سائر المشايخ الذين صحت طرقه اليهم أيضاً كثير

٣٩٨

جداً ، فكيف لا يكون مفيداً هو المطلوب من اخراج معظم روايات الكتاب عن الارسال.

الثاني : إذا روى موسى بن القاسم عن علي بن الحسن الطاطري ، عن درست بن ابي منصور ، عن ابن مسكان ، فهو يحتمل من جهة النقل من كتب المشايخ وجوهاً :

1 ـ يحتمل ان موسى بن قاسم اخذ الحديث عن كتاب الطاطري وحينئذ روى موسى هذا الحديث وجميع كتاب الطاطري ، وبذلك يحصل للشيخ طريق صحيح إلى كتاب الطاطري وهذا هو الذي يتوخاه المتتبع الأردبيلي.

2 ـ يحتمل ان موسى بن القاسم اخذ الحديث عن كتاب درست بن ابي منصور وروى هذا الكتاب عنه بواسطة الطاطري.

3 ـ يحتمل ان موسى اخذ الحديث عن كتاب ابن مسكان ، وروى هذا الكتاب عنه بواسطة شخصين : الطاطري ، ودرست بن ابي منصور.

وعلى الاحتمالين الأخيرين يحصل للشيخ الطوسي طريق صحيح إلى كتاب درست بن ابي منصور ، وكتاب ابن مسكان ولا يحصل طريق صحيح إلى نفس كتاب الطاطري الذي هو الغاية المتوخاة.

والحاصل انه إذا كان طريق الشيخ إلى احد المشايخ الذين صدر الحديث باسمائهم واخذ الحديث من كتبهم ، ضعيفاً ، فلا يمكن اصلاحه بما إذا وقع ذلك الشيخ في اثناء السند ، وكان طريقه اليه طريقاً صحيحاً ، لأن توسط الشيخ ( الطاطري ) في ثنايا السند لا يدل على اخذ الحديث عن كتابه ، بل من الممكن كون الحديث مأخوذاً عن كتاب شيخه اعني درست بن ابي منصور ، او شيخ شيخه اعني ابن مسكان. وهذا الاحتمال قائم في جميع ما استنبطه في اسانيد التهذيبين.

٣٩٩

الثالث : ان هدف الشيخ الطوسي من تصنيف الفهرست وذكر الطرق إلى من ذكر فيه ان له كتاباً او اصلاً ، ليس اخراج التهذيبين من الارسال ولم يبدأ الشيخ في اسانيدهما بهؤلاء المذكورين في الفهرست سوى قليل منهم ، وهم المشيخة المذكورون في آخر الكتابين.

نعم ربما يوجد في بدء اسانيدهما شيوخ لم يذكر لهم طريقاً في المشيخة وعدد رواياتهم لا يزيد على خمسمائة تقريباً ، ولا تخرج هذه الروايات عن الارسال بسبب الطرق المذكورة في الفهرست غالباً.

ولا يخفى ان الشيخ تفنن في الفهرست أيضاً في ذكر الطرق إلى اصحاب الكتب والاصول على وجوه ، فتارة ذكرهم وذكر طريقه إلى كتبهم واخرى ذكر كتبهم واصولهم ولم يذكر الطريق اليهم ، وثالثة ذكر جماعة واشار إلى من ذكرهم او روى عنهم ولم يصل اسناده فيه إلى من ذكر او روى ، وقد جمع القسمين الاخيرين العلاّمة السيد محمد صادق الطباطبائي في مقدمة الفهرس(1) .

__________________

1 ـ الفهرست : 12 ـ 15.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529