تحت راية الحق في الرد على فجر الإسلام

تحت راية الحق في الرد على فجر الإسلام25%

تحت راية الحق في الرد على فجر الإسلام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 143

تحت راية الحق في الرد على فجر الإسلام
  • البداية
  • السابق
  • 143 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49804 / تحميل: 7397
الحجم الحجم الحجم
تحت راية الحق في الرد على فجر الإسلام

تحت راية الحق في الرد على فجر الإسلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

تحت راية الحق

في الرَّدِّ على فجر الإسلام

الشيخ عبد الله السُّبيتي العاملي

١

هذا الكتاب

طبع ونشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنينعليهما‌السلام للتراث والفكر الإسلامي

وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً

قسم اللجنة العلمية في الشبكة

٢

تحت راية الحق

في الرَّدِّ على فجر الإسلام

تأليف:

الشيخ عبد الله السُّبيتي العاملي

حقوق الطبع محفوظة

١٣٥١ه-، مطبعة العرفان - صيدا، ١٩٣٣م

٣

إهداء الكتاب

إلى المؤلِّف الشهير، البحَّاثة، حجّة الإسلام

السيد عبد الحسين شرف الدين

علاَّمة جبل عامل

أُهدي مؤلَّفي هذا

تقديراً لجهوده وإشعاراً بفضله

نزيل النجف الأشرف

ولدك

عبد الله السُّبيتي

٤

٥

٦

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المقدِّمة

بقلم:

سماحة العلاَّمة الكبير، شيخنا الشيخ مرتضى آل ياسين الكاظمي

ظهر الإسلام في جزيرة العرب باسطاً كفَّيه جميعاً، يحمل على هذه كتاب الله، وعلى تلك سُنَّة رسوله، وهو يدعو إلى الإيمان بهما كل أبيض و

أسود، فآمن به قوم، وكفر به آخرون، وسار شوطاً من عمره يقطع طريقاً وسطاً بين صفَّين: صفٍّ من المؤمنين، وصفٍ من الكافرين، ثمّ لم يلبث أن انقسم المؤمنون به على أنفسهم ؛ فانحازت طائفة منهم إلى عليٍّعليه‌السلام ، وطائفة أُخرى إلى غيره.ومن ذلك الحين اشتهر اسم الشيعة.وكان لمسألة الخلافة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكبر الأثر في تكوين ذلك الانقسام بين صفوف المؤمنين.وحين انتهى الأمر إلى بني أُميَّة، عملوا على توسيع ذلك الانشقاق وتوطيد أسبابه ،حتى أصبح فتقاً لا يرتق، كما تحدِّثنا بذلك سلسلة الحوادث التاريخية التي اتًصلت أُولى حلقاتها بمعاوية وأُخراها بالحمار، وبعين السياسة الأموية - أيضاً - سار العبَّاسيون بين الناس طيلة امتداد سلطتهم الزمنية، على الرغم من القرابة الماسَّة التي كانت تربطهم بعليٍّ وأولادهعليهم‌السلام .

ولمَّا قضت الظروف في العصور الأُولى من تاريخ الإسلام أن تكون السلطة لأعداء الشيعة ومناوئيهم ،تزلَّف إليهم في مختلف أدوارهم شراذم من علماء السوء وروّاد الدرهم والدينار، فقالوا في الشيعة، ووضعوا عنهم، ونسبوا إليهم كلَّ ما من شأنه التشويه لسمعتهم، والحطُّ من كرامتهم، وصدُّ النفوس عن التمايل إلى جهتهم، فكان ذلك من أكبر العوامل على استحكام الغلِّ في صدور الفريقين، واتساع شُقَّة الخلاف بين الطائفتين، حتى أصبحت القوَّة - وهي كما عرفت بيد الفريق السُّنِّي - لا تتأخَّر عن اضطهاد الفريق الشيعي والنكاية به كلَّما وجدت إلى ذلك سبيلاً.

٧

وبالطبع ،إنَّ الشيعة لمَّا لم يكن لديهم من القوَّة ما يجابهون به القوَّة، اضطروا - بحكم الضرورة - إلى التزام التقيَّة(١) في مذهبهم ؛ اتقاءً لسطوة الاستبداد المتمادية التي كادت أن لا تُبقي عليهم ولا تذر، وما أدراك ما التقيَّة؟ إنَّها لأمَرّ ذَوَاقاً من الموت! فنجم من ذلك أنْ فَقَدَ الشيعة حرِّيَّتهم وقبعوا في خبايا الانزواء، حيث لا تسمع لهم السلطة حسيساً ولا همساً، فخسروا عند ذاك أهمَّ معنوياتهم، وطُمسَ على شطر كبير من آثارهم العلمية و الأدبية، وقضي على كل شيء لهم،حتى على أقلامهم التي طالما أرجفت بها القوَّة فتساقطت من أيديهم خوفاً وفَرَقاً، حتى أصبح قلم التأريخ وليس من يد تمسكه بين أناملها ،إِلاّ يد السُّنِّي تقبض عليه فتسِّجل به الحوادث كيفما شاءت وشاء لها الهوى.

وما ظنُّك بقلم يأمن جانب المعارضة من جهة، وتمدُّه السلطة من جهة أُخرى، ثمّ يستقي الحقائق من تلك المنابع الفيَّاضة التي خلقها له أُولئك الغواة من رواة السوء وروَّاد المنافع، عدا ما تسوِّله له الأغراض الشتّى والأهواء المتنوِّعة ضدَّ عدوِّه البغيض؟ لا شكَّ أنَّ قلماً تستأثر له الظروف بهذا الموقف الشاذ لجديرٌ بالعذر - وكلّ العذر - إذا قلب الحوادث رأساً على عقب، وجاء بالحقائق كما شاء ،هوجاء شوهاء، وأمعن في إغواء الأفكار وتضليل العقول بكلّ ما يصل إليه جهده من براعة في القول وصناعة في التحوير، كما نجد ذلك كلَّه - اليوم - ماثلاً للعيان بين صفحات التأريخ وخلال فجواته.

ومن المقرَّر في سُنَّة الكون أنَّ المفتريات الملفَّقة عند جيل من الأجيال الماضية ،إذا تناقلتها ألسُن الرواة ثمّ تناولتها أقلام الضبط لابدَّ وأن تصبح يوماً ما كحقائق راهنة عند الأجيال الآتية ؛ ولذلك نجد جيل الأبناء على الأكثر مخدوعاً بما يتركه له جيل الآباء والأجداد من الأضاليل والمفتريات، دون أن يشعر بما يفرضه عليه العقل من التثبُّت تجاه النقل، خاصةً إذا كان الراوي متَّهماً لدى الوجدان في روايته.

وبسبب هذا الانخداع المتمادي مع الأجيال، تتابعت الويلات على الشيعة من إخوانهم أهل السُّنَّة، وتوالت عليهم ضرباتهم من آونة إلى أُخرى.فكلَّما أولد الزمان جيلاً من أهل السُّنَّة، تأثَّر بما افتراه جيله السابق في شأن الشيعة، فلا ينكفئ هذا عنهم حتى يعزِّز في شأنهم

____________________

(١) الالتزام بالتقيَّة عند الضرورة ممَّا شرَّعه الله عزَّ وجل في كتابه العزيز ؛ حيث قال عزَّ اسمه:( إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) ، وقال:( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) ، على أنَّ العمل بمجرَّده كافٍ في إيجابها عند الخوف من سطوة ذلك الاستبداد.

٨

آثار سلفه الراحل، على حين أنَّ الشيعة - في أكثر تلك العصور - لم يكن في إمكانهم مجابهة تلك المفتريات بالردِّ والتزييف ؛ نظراً لِمَا كانوا يكابدونه يومئذ من اضطهاد القوة واستبداد السلطة.ولولا الفرص الثمينة التي سنحت للشيعة أثناء تلك العصور الرهيبة، حينما سمح لهم الزمان بقيام بعض الحكومات الشيعية في مصر، وبغداد، وخراسان، وحلب، وإيران، والهند، فاستغلوها للإشادة بمذهبهم، والردِّ على مفتريات أعدائهم، وترسيخ العقائد الحقَّة في نفوس عامَّتهم، بما ألَّفوا في شتَّى الفنون - وخاصة في فنون التفسير والحديث والأخلاق والمناظرة - من الكتب القيِّمة والآثار النفيسة، لذهب التشيُّع ذهاب أمس الدابر، ولأصبح اليوم خبراً من أخبار الزمن الغابر.

ولكن، على الرغم ممَّا توفَّق له الشيعة أثناء تلك الفُرص السانحة من دحض المفتريات الموجَّهة إليهم، وإصحارهم بالبراءة ضد الشنائع الشتّى التي أُلصقت بهم، نجد بين علماء أهل السُّنَّة من تمادى في غلوائه، واستمرَّ ممتطياً غارب خُيَلائه، غير محتفل بالبراءة التي طفحت بها كتب الشيعة ومؤلَّفاتهم، وفاضت بها أقلامهم وأفواههم، حتى بلغت القِحَة ببعضهم أن أفتى بكفرهم ووجوب قتالهم وجواز قتلهم(١) ، سواء تابوا أم لم يتوبوا، وبالنهاية حكم باسترقاق نسائهم وذراريهم.كلّ ذلك بعد أن نبزهم باسم الكفرة، والبغاة الفجرة، ونسب إليهم أصناف الكفر والبغي والعناد، وأنواع الفسق والزندقة والإلحاد، ثمّ بهتهم بالاستخفاف بالدين، والاستهزاء بالشرع المبين، والإهانة للعلم والعلماء، واستحلال المحرَّمات وهتك الحرمات.

وهكذا استمر أهل السُّنَّة يستخدمون حرِّيَّتهم الواسعة في الاستهانة بالشيعة وانتقاصهم، وإغراء العامة بهم وإيغار صدورهم، وحملهم على الولوغ بدمائهم.وهكذا استمروا يتسوَّرون على كرامتهم بالبهت والافتراء، وينبزونهم بأنواع الأباطيل التي تشهد ببراءتهم منها جِنَّة الأرض وملائكة السماء، على حين أنَّ الشيعة قد أثبتوا لدى الملأ - في مختلف أدوارهم بمختلف أعمالهم - أنْ لا مذهب لهم إلاّ مذهب أئمَّة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً كما فضَّلهم على كثير ممَّن خلق تفضيلاً، وأنَّهم إنَّما يستمدُّون الهدى باتِّباعهم لأُولئك

____________________

(١) مَن أراد الوقوف على تفصيل كلامه، فليراجع كتابي : الفتاوى الحامدية وتنقيحها.وقد ردَّ عليه صاحب الفصول المهمَّة في تأليف الأُمّة وناقشه الحساب بكل دقة.

٩

الأئمّة الفطاحل بما تحمَّلوه من العلم عن جدِّهم النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي أفضى إليهم بكل ما لديه من أسرار وحقائق، وتعاليم وأحكام، ممَّا جاء به القانون الإلهي وقرَّرته الشريعة الخاتمة، حتى أصبحوا من بعده وهم الباب الوحيد المؤدِّي إلى مدينة علمه كما يومي إلى ذلك قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها).ومن ذلك نجد المستخلَفين بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا كلَّما عرضت لهم معضلة من المسائل لم يجدوا بُدّاً من الاسترشاد بإمام أهل البيت في حلِّها والدلالة على وجه الخروج منها، وما أن كَتَمنا التأريخ السُّنِّي شيئاً من فضائلهم استرسالاً منه للعاطفة ،فلم يكتمنا قول عمر بن الخطاب في شأن الإمام علي حينما كان يفزع إليه في تحليل المشاكل وكشف المعضلات: (لا بقيتُ لمعضلة ليس لها أبو الحسن)(١) .

أوَ ليس من الغريب بعد هذا كله أن نجد هذا المذهب، بما له من حرمة النسب، هدفاً لنبال الزور، وغرضاً لمعاول البهتان؟! كأنَّ المذاهب كلَّها وليدة الكتاب و السُّنَّة إلاّ مذهباً تمسَّك به الشيعة؟! ولكن ما حيلة ذلك الرجل المفتي الذي استحل من الشيعة ما حرَّمه الله إذا كان يرى مؤرِّخه السُّنِّي(٢) - وهو موضع ثقته واعتماده - يقذف مذهب أهل البيت بالشذوذ والابتداع، وينعى عليهم انفرادهم بما جاؤوا به من الفقه؟!! أفلا يكون ذلك المفتي موفور العذر إذا هو نبز شيعتهم بالكفر والعناد، والزندقة والإلحاد، وعزا إليهم كل أنواع المخازي والمرديات؟ أجل، إنَّه ولا شك لخليق بالعذر كله مهما أفحش

بالقول، وأغمض في تكفير الشيعة وتحقيرهم.

وما أدري في أي ناحية من مذهب أهل البيت تمثَّل الشذوذ والابتداع لابن خلدون حتى استسهل في شأنهم ذلك القول الصعب! ورماهم بتلك الكلمة الجارحة التي ما كان له ولا لأحد من قبله أو من بعده أن يقولها في شأن أَمَة من إماء أهل البيت فضلاً عن أئمتهمعليهم‌السلام ، لا سيما وأنَّه ليسمع سيِّده عمر بن الخطاب يقول في شأن جارية من جواري آل أبي طالب - وهي (فضّة) جارية الزهراءعليها‌السلام - حين حكم عليها بحكم فدلّته على موضع خطئه منه: شعرة من آل أبي طالب أفقه من عَدِيٍّ.

وليت شعري، إذا صح ّلابن خلدون أن يقول في أهل البيت - وهم أدرى الناس بما فيه - :

____________________

(١) هذه الكلمة وأمثالها ممَّا استفاض نقله عن عمر في التاريخ السُّنِّي، فلا يهمُّنا بعد ذلك أن ينكرها أحمد أمين وأضرابه.

(٢) هو ابن خلدون في فصل الفقه من مقدِّمته، ص ٤٩٨.

١٠

إنَّهم شذَّاذ في فقههم، ومبتدعة في مذاهبهم، إذن، فماذا يا ترى يجب أن يقوله الشيعي عند ذاك في مذاهب ابتدعها الغرباء، واخترعها الدخلاء ممَّن لم يمُتَّ إلى البيت النبوي بنسب، ولم يتصل إليه بسبب، وإنَّما اعتمد في فقهه رواية الضعفاء، ولفَّق مذهبه من سوانح القياس والاستحسان والآراء؟! أجل، ماذا يجب أن يقوله الشيعي في تلك المذاهب وهو يرى بأُمّ عينه أنَّها تضع أُسسها على أحاديث المخطِّئة والمرجِّ-ئة والخوارج، وتقيم أركانها على متابعة الظنون التي ما أنزل الله بها من سلطان؟! فهب أنَّ الشيعة أخطؤوا الحق في انقطاعهم إلى مذهب أهل البيت، ولكن، هل من الحق أن يجتنبوا أهل البيت وينقطعوا إلى مذاهب الدخلاء والأجانب كما صنع ابن خلدون وأضرابه ممَّن تجهَّم أهل البيت ونظر إليهم شزرا؟.

ذلك مثال واحد نضعه أمامك ليعطيك صورة واضحة عن موقف السلف السُّنِّي تجاه السلف الشيعي، تستطيع أن تتعرَّف منها مبلغ القسوة التي استعملها أهل السُّنَّة ضد إخوانهم الشيعة طيلة تلك العصور المتغلغلة في ظلمات الاستبداد، والمتشبِّعة بروح الأثرة والسيطرة.ولولا احتذاء المتأخرين منهم مثال المتقدِّمين، لكنَّا التمسنا العذر لأُولئك القائمين بتلك المآسي في تلك العصور المظلمة بتحليل الوقائع تحليلاً سياسياً، ولأقنعنا الملأ الشيعي بأنَّه لم يُقهر يوم ذاك من الملأ السُّنِّي نفسه، وإنَّما قهره الوضعُ السياسي الراهن في تلك العصور، ولكن ماذا نقول للشيعي اليوم؟ وماذا نلتمس للسُّ-نِّي من المعاذير وقد ولَّى ذلك الوضع السياسي مع أهله، وأُعلنت الحرية في عرض البلاد وطولها، ووُضعت الدساتير الكافلة لحقوق الأديان والمذاهب، وقام رجالات الإصلاح يطاردون العصبيات من كل جهة وناحية، وانتشرت الصحف تدعو الأمة إلى نبذ النعرات الطائفية، وجمع الكلمة، وتوحيد

الصفوف، ونهض الخطباء في المحافل والمجتمعات يهجِّنون في نظر العامة موقف السلف مع بعضهم ويستميلونهم إلى التخلِّي عن تقاليد الآباء و الأجداد، ويستحثُّونهم على الاتحاد والتعاضد في سبيل المصالح المشتركة، ومع كل هذه الوسائط الفعَّالة التي من شأنها على أقل تقدير أن تكمَّ الأفواه الفاغرة بالسوء، وتقبض على الأيدي الأثيمة العابثة بالسلم؟ فإنَّا ما زلنا ولا نزال نرى اللّيلة أُخت البارحة، والأحوال يشبه بعضهاً بعضا.

فهذا فريق من سُ-نِّيي مصر، وذاك فريق من سُ-نِّيي سوريا ما فتئوا يتابعون السير وراء شنشنة الأسلاف، ويتهافتون على التمثيل بأخلاقهم البالية، ويتسابقون إلى موافاة الغرض

١١

الذي استهدفه لهم آباؤهم الأولون دون أن يكترثوا بما يفرضه عليهم الواجب الديني في عصرهم الحاضر، ودون أن يشعروا بالبون الشاسع بين العصرين، عصر الآباء وعصر الأبناء، فكأنَّهم وهم في عصر النور والدستور إنَّما يعيشون في عهد المتوكِّل العبَّاسي أو عبد الملك بن مروان.بيد أنَّهم جروا إلى الغاية في حلبة دقيقة ما كان يعرفها أسلافهم على الأكثر ؛ فقد كان المتقدِّمون صرحاء في المبدأ والغاية، فإذا أرادوا مهاجمة الشيعة هاجموهم على المكشوف، وزحفوا إلى منازلهم مُعلِمين لذلك، تجد روح العداء ماثلة للعيون بين نبرات أقلامهم.

أمَّا هؤلاء المتأخِّرون، فقد نكبوا عن هذه الطريقة وبنوا مهاجمتهم في أكثر الأحيان على سياسة المخاتلة، فنرى أحدهم إذا أراد أن ينزع إلى المهاجمة لم يبرز إليها صريحاً مُعلِماً، وإنَّما يزحف إليها من وراء حجاب كثيف.وليس من شكٍّ في أنَّ هذه الطريقة الحديثة التي اختطَّها الأبناء لأنفسهم هي أقوى مفعولاً من أُولى الطريقتين التي سار عليها الآباء فيما سلف من الزمان، وكذلك العدوّ المخاتل ؛ فإنَّه بالطبع يكون أكثر نجاحاً من العدو المُعلِم.

هذا مع أنَّ بين سُ-نِّيي العصر مَن لم يؤثِر الطريقة الحديثة، ولم يشأ أن يحيد عن طريقة سلفه، تلك الطريقة القاسية، فصارح الشيعة بكل ما يضمر لهم من سوء حتى أوسعهم في كتبه قذفاً وشتماً وسبَّاً.فتارة يقول فيهم: أنَّهم (تجرَّدوا عن دينهم)، وأُخرى يقول: (أنَّهم أسقطوا الإيمان من حسابهم)، وثالثة يرى: أنَّ (أكبر شأنهم جحد الرسالة لمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتكذيب بالقرآن، وردَّ ما أجمعت عليه الأُمة)، وأخيراً طلب لهم الخزي من الله سبحانه وتعالى إمَّا في هذه الدار فحسب، أو في الدارين معاً(١) .وهناك منهم(٢) مَن لم يطلب لهم من الله شيئاً، لكن طلب إلى حكومته أن تمحو مذاهبهم المستحدثة ؛ محتجَّاً بمصادمتها لآداب الدين واعتدائها على الأمن العام.ولا ندري، أيُّ الطلبين أكثر مرونة من الآخر؟. ومهما يكن، فليس عناية الشيعة بهذا الفريق - على ما فيه من شراسة في الطبع وبذاءة في اللّسان - إلاّ دون عنايتهم بالفريق الآخر الذي فتق له من البحث العلمي طريقاً ينفذ منهم إلى مكايدة الشيعة ومخاتلتهم دون أن يظهر لهم ظهور العدوِّ لعدوِّه.

____________________

(١) تجد هذه الكلمات وأمثالها منثورة في كلٍّ مَن كتاب: إعجاز القرآن، وكتاب: تحت راية القرآن، لمؤلِّفها: مصطفى صادق الرافعي، فراجع.

(٢) هو جلال نوري بك في كتابه: اتحاد المسلمين.

١٢

ومن المؤكَّد أنَّ هذه الطريقة الحديثة لم يتوفَّق إلى اختراعها إلاّ ذوو الأدمغة الكبيرة منهم، ممَّن درس الوضعية درساً دقيقاً حتى عرف من أين تُؤكل الكتف؟ وكيف تُؤكل؟

وأهم رجل برع في هذه الطريقة وأحسن اتباعها هو أحمد أمين صاحب الجزء الأول من كتاب: فجر الإسلام الذي أساء للشيعة بمقدار ما أحسن إلى الأدب العربي، فقد جاء هذا الرجل على ذكر الشيعة في كتابه كباحث يريد تحليل الحقائق تحليلاً فلسفياً، لا كمتحامل يريد الشرّ والوقيعة.بيد أنَّه - وهو مختبئ وراء ستار الفلسفة - لم يدع للشيعة ضلعاً قائماً إلاّ وطحنه طحناً ثمّ ذرَّاه في الهواء هباء منثوراً.فالمذهب الشيعي عند أحمد أمين ملفَّق من النصرانية، واليهودية، والمجوسية، ومن تعاليم الفلاسفة والبراهمة.والشيعة أنفسهم قوم كذَّابون وضَّاعون لا يتأخَّرون عن الانتصار لمذهبهم بكلّ وسيلة تصل إليها أيديهم مهما كانت منقطعة الصلة مع الحق، فهم يحفظون الأسانيد الصحيحة ثمّ يضعون الأحاديث الموافقة لمذهبهم معنعنة بتلك

الأسانيد، وهم يضعون كتب الحديث المحشوَّة بتعاليمهم ثمّ ينسبونها إلى المشاهير من أئمّة أهل السُّنَّة، وهم ينتحلون لأنفسهم أسماء المشاهير من محدِّثي أهل السُّنَّة ثمّ يروون الحديث عمَّن تسمَّى بتلك الأسماء ؛ ليوهموا أهل السُّنَّة أنَّه مروي عن مشاهير محدِّثيهم، وبهذا أضلُّوا كثيراً من العلماء لانخداعهم بالإسناد، وهم يضعون على لسان عليٍّ ما من شأنه أن يعلن بثروته العلمية، ويضعون على لسان عمر ما من شأنه أن يعلو بفقره العلمي، وهم يكذبون في نسبة كل فضيلة ومنقبة إلى عليٍّ، ويكذبون في كل حديث يبشِّر بالإمام المنتظر.وهو يشك في كل شاهد يستظهر به الشيعي لمذهبه وإن كان ممَّا يحدِّثه به التاريخ السُّ-نِّي.وبكلمة واحدة، يعتقد أحمد أمين حقَّاً: أنَّ التشيُّع كان مأوى يلجأ إليه كل مَن أراد هدم الإسلام.

كل ذلك ممَّا قاله أحمد أمين في الشيعة وفي مذهبهم، على أنَّنا لم نستقص سائر كلماته.وما أدري ماذا سيقول لو قال له شيعي: إنَّ الشيطان قد اتخذ إلى فؤادك سبيلاً، ولعلَّه سيقول أيضاً: إنَّ الشيعة هم الذين خلقوا الشياطين فأصبحت تتَّخذ السُّ-بُّل إلى هذه الأفئدة.

وغريب من باحث مثقَّف كأحمد أمين أن تستحوذ على مشاعره العاطفة إلى درجة تجعله يفكِّر بغير عقله، ويبصر بغير عينه، وينطق بغير

لسانه، ويكتب بغير قلمه، وإلاّ فما الذي تُرى حوَّل تلك الأوهام إلى حقائق في فكره؟! وما الذي أدَّى بنظرياته العلمية إلى هذه الاستنتاجات المنكرة التي يلفظها العلم ويربأ عنها البحث الصحيح؟! لا سيَّما وهو وليد هذا العصر

١٣

الذي انكشف فيه الغطاء وبرح الخفاء وباح فيه الشيعة بكل ما يُسرُّون وما يعلنون، فلا نخطئ إذا قلنا: إنَّ المسؤولية التي تحمَّلها هذا الفريق تجاه الحق هي فوق المسؤولية التي تحمَّلها سلفه الغابر الذي ورد هذا العالم في ظلام، وارتحل عنه وهو في ظلام.

حقَّاً إنَّ أحمد أمين قد أذنب إلى الشيعة ذنباً لا يغفر إلاّ بالتوبة منه.وما مكث الشيعي واجماً طيلة هذه المدة التي مرَّت على ظهور الجزء الأول من كتاب فجر الإسلام إلاّ تربُّصاً منه للتوبة التي كان ينتظرها من أحمد أمين، وحين استيأس من توبته واستقالته من عثرته لم يجد بُدَّاً من مناقشته

الحساب ؛ ليعلم أنَّ وجوم الشيعي في الماضي لم يكن إلاَّ رغبة منه في السلم، وإيثاراً للدعة، لا عجزاً عن المناجزة والدخول في معمعة النزال.فنهض لذلك صديقنا الفاضل السُّبيتي وأدلى بكتابه هذا إلى الملأ الشاعر، كمعبِّر عمَّا اختلج في ضميره من وجوه المناقشات لنظريات أحمد أمين، مع اعترافه بأنَّ في قومه علماء قد يكون لهم من وجوه الردِّ والتزييف لتلك النظريات ما هو أجدر بالتقدير والاعتبار.

وعلى الرغم ممَّا أخذ به نفسه من الجري ضمن دائرة الموادعة، نراه قد طغى عليه قلمه في بعض الأحيان فاجتاز به إلى خارج الحدود، وقد يكون اجتياز الحدود أحياناً طبيعياً للقلم المتحمِّس الذي يريد التجوال بين منطقتي النقض والإبرام ؛ لذلك لا نرى الملاحظة عليه من هذه الوجهة جديرة

بالاحتفاء.إنَّما نلاحظ عليه أنَّه أجمل القول في بعض المسائل ولا سيَّما في مسألة رجعة الإمام المنتظرعليه‌السلام ، وكان حقَّاً عليه أن يوفِّي البحث فيهما حقَّه ويزيده سبعين حُقَّة.ولعلَّنا سننتهز فرصة من الوقت نصرفها لسدِّ هذا الفراغ في رسالة على حِدَة، ومن الله نستمد التوفيق.

وبالختام: نريد بدافع المصلحة العامة التي نتوخَّاها لعامة المسلمين، أن ننصح بكلمة صغيرة لإخواننا المعاصرين من أهل السُّنَّة، وخاصة الطبقة المتعلِّمة منهم، التي تزعم أنَّها قد تحلَّلت من قيود العصبية والعاطفة ؛ ولمَّا تُقِم على مزعمتها شاهداً واحداً لحد اليوم، بل على العكس، ما برحت تقيم الشواهد على احتفاظها بتلك القيود البالية التي كان يرسف فيها سلفها الغابر.نعم، نريد أن ننصح لهم بأن يكفُّوا عن الشيعة بعد اليوم ليكفَّ الشيعة عنهم، وإلاّ فالشيعة مضطرون إلى تنظيم خطوط الدفاع ما وجدوا أهل السُّنَّة دائبين في اتخاذ خطَّة الهجوم، وفي الوقت نفسه سيكون الشيعة أبعد الفريقين عن المسؤولية التي يستتبعها هذا الموقف بعد أن كانوا مضطرين للمنافحة عن شرفهم وعن قداسة مذهبهم.وإن كنَّا لا نرى الوسائل التي يتجهَّز بها المدافعون في حومة

١٤

الكفاح موازية لوسائل المهاجمين، فبينا نرى السُّ-نِّي يهجم وبيده مُديته الرهيفة يحزُّ بها وريد أخيه الشيعي، إذ نرى الشيعي يتقدَّم إليه بشوكة صغيرة يخزُّ بها خاصرته، ومع ذلك نجد صرخة السُّ-نِّي من الشوكة لا تقف عند صرخة الشيعي من المُدية، بل تجتازها إلى حد بعيد، ولا نرى سبباً لذلك إلاّ أنَّ السُّ-نِّي قد استطاع بمرور الزمان أن يستضعف أخاه الشيعي الذي ظلَّ مقهوراً له عصوراً طويلة، حتى اعتاد الشيعي الخوف والتقية من أخيه السُّ-نِّي كما اعتاد هذا الهيمنة والحاكمية على أخيه الشيعي.فجاء من ذلك أن أصبح السُّ-نِّي يعتقد حقَّاً بأنَّ من صلاحيَّته أن يقول في الشيعي أبداً ولا يسمع منه، فإذا ردَّ عليه الشيعي شيئاً ممَّا قال فيه، رأيته ساخطاً صاخباً يكاد يتميَّز من الغيظ كأنَّما انشقت به الأرض، أو أطبقت عليه السماء.وهذه الهيمنة التي يحسُّها السُّ-نِّي على الدوام إزاء الشيعي، هي أيضاً من جملة العوامل الباعثة على إغراء أهل السُّنَّة بالشيعة واستخافهم بهم، فلو أنَّ أهل السُّنَّة اليوم خفَّضوا قليلاً من غلوائهم، لوجدوا الشيعة أقرب الناس إليهم، وأشدَّهم رعاية لحرمتهم، ولعل في الحوادث الأخيرة التي شهدها العراق، فقضت على أهل السُّنَّة بالتقرُّب إلى الشيعة زمناً يسيراً، ما يشهد لنا بصحة هذه الدعوى، وما عهد تلك الحوادث ببعيد.على أنَّ الشيعة في العراق ما زالوا لحد اليوم يعيشون ومواطنيهم من أهل السُّنَّة في جو هادئ، ولا تزال مظاهر الإخاء والولاء سائدة بين الفريقين، وكلاهما يسيران في خطَّة معتدلة لا تكاد تدعو أحدهما إلى شيء من الهنات، غير أنَّ الأمر الذي يُترقَّب منه الخطر وأن يصبح يوماً مَّا مدعاة إلى تكدير هذا الصفو، وتفكُّك هذا الجسم الملتئم، هو تلك القنابل النارية التي ما برحت تتساقط على أرض العراق هابطة إليها من سماء مصر وسوريا.ولو لم يكن لتلك القنابل من مغبَّة وخيمة يتمخَّض بها المستقبل إلاّ هذا الأثر السيِّئ الذي ستبعثه - ولا محالة - على تمادي الأيَّام أو الأعوام إلى هذا المجتمع العراقي الوديع، لكفاها ذلك رادعاً ووازعاً يقف بها عند حدِّها الأخير، ولكفى حكومة العراق باعثاً على حياطة شعبها الآمن من التعرُّض لتلك القنابل المتساقطة أبداً على يافوخه، من غير ما رحمة ولا حنان.

ونزيد نصيحتنا لهم أن لا يكتبوا عن الشيعة بعد اليوم إلاّ ما يأخذونه عن الشيعة أنفسهم، وليس لهم أن يستقوا أخبارهم من منابع الأغيار الذين كذبوا على الشيعة جهدهم، وألصقوا بهم من الشنائع ما الله به عليم.فإنَّ من الظلم الفاحش أن يقرأ الإنسان حياة الشخص مدوَّنة بقلم

١٥

عدوِّه، فيعتبرها صورة صادقة عن حياته الحقيقية.ولئن كان لسلفهم بعض العذر فيما كتبوا عن الشيعة ؛ بالنظر إلى عدم انتشار كتبهم يومذاك، فلا عذر لهم اليوم وقد أصبحوا يشارفون كتب الشيعة عن كثب، ويستعرضونها في المخازن والمكتبات آناء الليل وأطراف النهار.ولو قُدِّر أنَّ كُتُب الشيعة لا تنهض بكشف الغموض لهم عن بعض المسائل ذات الصلة بمذهبهم أو تاريخ حياتهم، فما عليهم إلاّ أن يراجعوا بها علماء الشيعة المنتشرين في العراق، وسوريا، والهند، وإيران ؛ ليأخذوا الجواب عليها جليَّاً واضحاً، وعند ذاك يمكنهم أن يكتبوا عن الشيعة وهم على بيِّنة ممَّا يكتبون.

وليعلموا أخيراً بأنَّ مرادنا من الشيعة حيث نطلق اسمهم إنَّما هم: الإمامية الاثنا عشرية منهم، وهم الذين يمثِّلون الأكثرية الساحقة في العالم الشيعي، وهم الذين ندافع عنهم جهدنا حين تنتابهم عوادي السوء ودواعي الخطر، وهم الذين نحيل الآخرين على علومهم ومعارفهم، وندعوهم إلى مراجعة كتبهم ومؤلَّفاتهم، ونطلب إليهم تعرُّف المذهب الشيعي من ناحيتهم(١) .أمَّا سائر الفرق الأُخرى التي شاركت هذه الفرقة باسم الشيعة، فليست هذه منها في شيء، وليست هي من هذه في شيء، فالناووسية والكيسانية والواقفة والمفوِّضة والغلاه والباطنية وكثير من أمثالهم، كل هؤلاء ممَّن تبرأ منهم الإمامية الإثنا عشرية وترفض آراءهم وأقوالهم وترمي بمذاهبهم عرض الجدار.

وفي الحق إنَّ التشويه الذي دخل على سمعة الشيعة من ناحية هذه الفِرق الضالة القابعة تحت هذا الاسم، لا يقلُّ خطراً عن التشويه الذي دخل عليها من ناحية الأغيار ؛ لذلك يجب اليوم على الباحث الأمين إذا أراد أن يعزو رأياً وقولاً إلى الشيعة أنَّ يتعرَّف أوّلاً هوية الشخص الذي عرَّف له ذلك الرأي، والفرقة التي ينتمي إليها من التسمية بالشيعة، ثمّ يعزو الرأي إلى أهله، لا إلى الشيعة بقول مطلق ؛ وبذلك يكون قد خدم الحقيقة كما يجبن، وفاز بشكرها وشكر الأكثرية الشيعية.

هذا ما أتقدَّم به اليوم إلى إخواني أهل السُّنَّة عامة وحملة الأقلام منهم خاصة، راجياً أن تكون نصيحتي هذه خاتمة السوء بين الطائفتين وفاتحة الخير للفريقين، والله وليُّ المؤمنين.

مرتضى آل ياسين

____________________

(١) ونحترم شيعة اليمن المعروفين بالزيدية ونواليهم ؛ لكونهم حنفاء لله مخلصين له الدين.

١٦

بسم الله الرحمن الرحيم

العقيدة الإسلامية تأثَّرت بالامتزاج

لابدَّ لنا أن نَُصَوِّب رأي صاحب الكتاب في أنَّ تعاليم الإسلام في الفتح - بدخول كثير من أهل البلاد المفتوحة في الإسلام، وبالاختلاط الذي حصل بين العرب وغيرهم في سكنى البلاد-(ص ١٠٣)، كانت سبباً قويَّاً في عملية المزج بين الأُمم الفاتحة والأُمم المفتوحة، ومؤثِّرات قويَّة لامتزاج العادات العربية بالعادات الفارسية، والحِكَم العربية بالحِكَم الفارسية والفلسفة الرومانية، ونمط الحكْم العربي بنمط الحكم الفارسي والروماني، وبأوسع من هذا فإنَّ الأخلاق العربية امتزجت بالأخلاق الفارسية، والأدب العربي لم يخلُ من تأثُّرٍ بالأدب الفارسي ؛ فإنَّ العربي قبل هذا الامتزاج لم يكن له خيال الفارسي الواسع ولا مدنيته الراقية، فإنَّ جلَّ ما توصَّل إليه البدوي بخياله: الناقة والبعير والكور والصحراء، وأين من عقليَّته رمَّان النهود وتفاح الخدود؟!

(والحق أنَّ مرافق الحياة الاجتماعية والسياسية تأثَّرت بهذا الامتزاج) إجمالاً ولا نكران، ولئن أصاب في ذلك فلقد أخطأ كثيراً بقوله: (حتى العقيدة الإسلامية لم تخلُ من تأثُّر بهذا الامتزاج)(ص ١١٢)، فإنَّه قول له مكانته من الغرابة والشذوذ في الرأي! ومع ذلك نحب أن نسأل صاحب الكتاب: ما هي هذه المؤثِّرات التي تأثَّرت بها العقيدة الإسلامية؟ وما مقدار هذا التأثُّر؟ ويجيبنا الأُستاذ عن السؤال الأول - بدون مواربة - فيقول: (كان من أثر ذلك طبيعياً أن تدخل تعاليم في الإسلام جديدة)(ص ١١٧) ،ولكنَّ من الغريب أنَّه أغفل أمراً مهمَّاً وتركه مهملا، كان - بمقتضى أمانة البحث - جديراً بالذكر، وهو: أنْ يأتينا بمثال صالح لتلك التعاليم التي دخلت في الإسلام ؛ ولعل الصفحات التاريخية لم تسمح له بذلك، ولم يسعه آنئذ أن يتذرَّع إلى الاختلاق.

وأول ما يلفت النظر التعليل الذي جاء به، ولقد همَّ بأن يصبغ هذا الاستنتاج بصبغة علمية لها مقياسها العلمي وجمالها الفني، فقال: (أتظن أنَّ الفارسي أو السوري النصراني أو الروماني أو

١٧

القبطي إذا دخل في الإسلام، انمحت منه كل العقائد التي ورثها من آبائه وأجداده قروناً؟! وفهم الإسلام كما يريد الإسلام؟! كلّا، لا يمكن أن يكون ذلك، وعلم النفس يأباه كلَّ الإباء)(إلى آخر ص ١١٢) فمَن يا تُرى يقرأ هذا التعليل ولا يظن نفسه أمام بحث علمي له قوَّته ومتانته؟! وكأنَّه يرى أنَّ لازم ذلك ؛ أي عدم محو كل العقائد، أن يدخل في الإسلام عقائد جديدة وتعاليم لم تكن من قبل، ولم يحدِّد لنا بساطة الإسلام لتتبيَّن كل العقائد.

وما أشدَّ تعجُّب القارئ إذا قلنا: إنَّها حيلة جديدة صبغها صاحب الكتاب بصبغة علمية ؛ والغرض هدم الدين وطعن الصحابة أجمع وبدون استثناء.

لنفرض - والفرض ليس بمحال - أنَّا نجهل علم النفس كلَّ الجهل، لكن لا نسمح لعلم النفس أو لعلماء علم النفس أن يلعبوا بعقولنا فنقبل منهم الفرق بين الفارسي والنصراني والروماني و وبين العربي، فالعربي يفهم الإسلام كما يريد الإسلام خالصاً من شوائب الجاهلية من أول يوم يعتنق فيه

الإسلام، والفارسي والنصراني و... لا يفهمونه إلاّ مشوباً بكثير من تقاليدهم الدينية القديمة) اللَّهُم إنَّا لا نستسلم لهذه المهزلة، ولا عقليَّتنا ولا عقلية علماء النفس تتحمَّل هذا المقدار من العبث والتحكُّم.

الحق إنَّ الإسلام دين جديد - بالنظر لسائر الأديان الشائعة في ذلك العصر - في مبادئه وتعاليمه وأخلاقه، وفي الحق أيضاً أنَّ الأُمم التي دخلت فيه - قبل الفتح أو بعده - سواءٌ في فهمه، فعلم النفس لا يسمح للعربي أن يتفهَّم الإسلام أكثر ممَّا يسمح للفارسي والنصراني السوري والقبطي، وعلم النفس لا يفرِّق بين العربي وبين الفارسي والرومي والنصراني السوري والقبطي ؛ فإنْ لم تمحَ من مخيَّلة الفارسي المانوي أو الزرادشتي أو النصراني الرومي (كل العقائد التي ورثها من آبائه وأجداده)، فكذلك يجب أن لا تُمحى تلك العقائد التي ورثها العربي من آبائه وأجداده.وإنْ كان للفارسي صورة إله غير صورة الإله عند النصراني إلى ما هنالك من صور آلهة، فللعربي صورة إله لا تبرح مخيَّلته، وكيف تبارح مخيَّلته سريعاً وعلم النفس يأباه كلَّ الإباء؟! بل صورة الإله عند العربي كانت أوسع من صورة الإله عند الفارسي ؛ ذلك أنَّه كان يعبد ما تميل إليه نفسه وتصوِّره له مخيِّلته، فيوماً شاة، ويوماً صخرة، ويوماً صنماً.قال عمران بن حمران: (ولم أرَ أُناساً أضلَّ من العرب ؛ كانوا يجيئون بالشاة البيضاء فيعبدونها، فيجيء الذئب فيذهب بها، فيأخذون أُخرى مكانها فيعبدونها، وإذا رأوا صخرة جاؤوا بها، فإذا

١٨

رأوا أحسن من تلك، رموها وجاؤوا بتلك يعبدونها)(١) .

الآن وصلنا إلى نقطة خطرة في البحث قد يحسن فيها الإجمال، ولكن أُحبُّ أن أكون صريحاً مهما كلَّفتني الصراحة من المسؤولية، وأُحبُّ أن أسأل :إذا كان علم النفس يأبى محو تلك الصورة فهل نستطيع أن نعلم أحوال الصحابة من المهاجرين والأنصار؟ وإلى أيِّ درجة وصل الإسلام إلى قلوبهم؟ وإن نحن تغاضينا عن ذلك وأهملنا هذه المسألة ،أفتظن أنَّ المبشِّرين الذين جاسوا خلال الديار وانتشروا في سائر الأقطار يهملونها؟ ولا يجادلون في ذلك جدالاُ عنيفاً وعلم النفس يخوِّلهم أن يلقوا السؤال نفسه، والظروف تسمح لهم بأكثر من ذلك؟ وغير بعيد أن نفوسهم تمنِّيهم بالسؤال عن الخلفاء الراشدين الذين عفَّروا جباههم أمام الأصنام؟ ولا نشك أنَّه أول ما ينقدح في ذهن المبشِّر أنَّ الخليفة حينما كان يقف إماماً للصلاة كان يتصوَّر أنَّه يقف بين يدي إله شبيه بذلك الإله الذي كان منصوباً على ظهر الكعبة، وكذلك تلك الصفوف التي كانت تأتُّم به ؛ لأنَّه بهذا المقدار يسمح لهم دين قديم نشأ فيه ناشئهم وشبَّ عليه).

ولستُ أعلم غلطاً أفحش من هذا، ولا نتائج أقبح من هذه النتائج.ولطالما تعثَّر الكتَّاب في آرائهم ونتائجهم، ولكن لم يبلغ بهم التعثُّر إلى هذا الحد من الخطأ والخطل.

على أنَّ صاحب الكتاب لم يسلم من العثار في فلسفته الجديدة، وقد بلغ به العثار إلى حدِّ التناقض القبيح ؛ فلقد عرفنا أنَّه ليس للفارسي وغيره أن يفهم دين الإسلام كما يفهمه العربي، بيد أنَّه لو تأمَّلنا يسيراً في قوله: (وبعد، فإلى أيِّ حدٍّ تأثَّر العرب بالإسلام؟ وهل انمحت تعاليم الجاهلية ونزعات الجاهلية بمجرد دخولهم في الإسلام؟ الحق أنَّه ليس كذلك، وتاريخ الأديان والآراء يأبى ذلك كل الإباء)(ص ٩٤) لرأيناه يقرِّر التناقض ؛ ذلك أنَّه زعم أولاً أنَّ العربي صفت نفسه ففهم الإسلام كما يريد الإسلام، وهنا تراه يغيِّر ذلك المحور، فيرى أنَّ الجاهلية حالت دون فهم العرب الإسلام كما يريد الإسلام، بل استمرت الجاهلية تنازع الإسلام إلى أمد بعيد، وكانت النزعات الجاهلية من حين إلى آخر تحارب النزعات الإسلامية، ولم تكن الحرب سجالاً في سائر الأوقات، بل ربَّما كانت تستظهر الجاهلية على الإسلام حسبما يقصُّه علينا من الأمثلة، فراجع.

وإذا راعك منه هذا التناقض الغريب، فلا شك أنَّك تعجب أشدَّ العجب حينما تراه قد

____________________

(١) الاستيعاب، ج ٣، ص ٣٩٦، باب: عمران.

١٩

استثنى من هذه الكلية السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، يقول: (بل خير مَن تأثَّر به هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، أولئك وصل الدين إلى أعماق نفوسهم وأخلصوا له)(ص ٩٨).

سهل على صاحب الكتاب إلقاء الكلام مرسلاً، وسهل عليه أن يتخبَّط في بحثه كمَن يمشي والقيد في رجليه، وسهل عليه أن يجعل عقله وراء لسانه ووراء قلمه.

وأول ما يجب عليَّ أن أقرَّ بالعجز، فلا أفهم أنَّ تاريخ الأديان والآراء كيف لم يأبَ ذلك في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؟ وكيف علم النفس سمح لهم بذلك؟ فهل صفت نفوسهم فكانت كزجاجة المصوِّر، فأول ما صدع النبي العربي بالحق ارتسمت تعاليمُ الإسلام على صفحات قلوبهم(المتشبِّعة بتعاليم الجاهلية) وفهموها كما يريد الإسلام؟ أو أنَّهم لم يكونوا قبل الإسلام بذوي دين ولم يسجدوا لأصنام، فجاءهم الإسلام وقلوبهم

خالية، ففهموا الإسلام كما يريد الإسلام؟ كل ذلك لم يوضحه صاحب الكتاب وتركه هملا.

ولو أردنا أن نَلُمَّ بهذا الموضوع تماماً، فلربَّما جرَّنا البحث إلى ما لا تحمد عقباه، إذن نتركه هملاً.ولا يمنعنا أن نقول إجمالاً: أنَّ تاريخ سقيفة بني ساعدة يملي علينا درساً كاملاً، يوضح لنا به نفسية المهاجرين والأنصار وأنَّه لم تصف نفوسهم إلى حد وصل الدين إلى أعماق قلوبهم( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) .وليقف الباحث وقفة بسيطة عند قوله تعالى:( وَمَا مُحَمَّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ) ليعلم أنَّ الدين لم يصل إلى أعماق قلوبهم.وهيهات أن يكون كذلك والتاريخ يحدِّثنا عن نهضة الجنِّ ونصرتهم للمسلمين في تلك الحروب الضروس وقتلهم سعداً!!!

والصحاح تحدِّثنا عن قول عمررضي‌الله‌عنه : (إنَّ النبي يهجر) ؛ ذلك حينما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لمَّا اشتد به الوجع: (ائتوني بكتاب اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً)(١) فكل ذلك يشرّف الباحث

____________________

(١) لا أراني مضطرّاً إلى نقل طُرق الحديث ؛ فقد أخرجه المحدِّثون كافَّة بطرق مجمع على صحتها، وذكره صاحب الكتاب ص ٣٥٠.ولقد تصرَّف المحدِّثون فيه ؛ فنقلوه بالمعنى، واللفظ الثابت عن عمررضي‌الله‌عنه : إنَّ النبي يهجر.ودفعاً للاستهجان نقلوه بالمعنى، فقالوا: إنَّ النبي قد غلب عليه الوجع.وقد لمَّح لذلك ابن أبي الحديد في شرح النهج ( ج ٣، ص ٣٠) قال: لمَّا حضرت رسول الله الوفاة وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطَّاب، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( ائتوني بدواة وصحيفة أكتب كتابا لن تضلوا بعده أبدا )، قال: فقال عمر كلمة معناها أنَّ الوجع قد غلب

٢٠

على القطع بأنَّ الدين لم يصل إلى أعماق قلوبهم، ولم يفهموا الإسلام كما يريد الإسلام.قال أبو جعفر نقيب البصرة: (إنَّ الإسلام ماحلا عندهم، ولا ثبت في قلوبهم إلاّ بعد موته (يعني النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حين فُتحت عليهم الفتوح وجاءتهم الغنائم والأموال، وكثرت عليهم المكاسب، وذاقوا طعم الحياة، وعرفوا لذَّة الدنيا، ولبسوا الناعم، فاستدلُّوا بما فتح الله عليهم وأتاحه لهم على صحة الدعوى وصدق الرسالة.وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله وعدهم بأن سيفتح عليهم كنوز كسرى وقيصر، فلمَّا وجدوا الأمر قد وقع بموجب ما قاله، عظَّموه وبجَّلوه وانقلبت تلك الشكوك وذلك النفاق وذلك الاستهزاء إيماناً ويقيناً وإخلاصاً، وتمسَّكوا بالدين ؛ لأنَّه زادهم طريقاً إلى نيل الدنيا).

وما مقدار هذا التأثُّر ؟ سؤال لم يجب عنه صاحب الكتاب غير أنَّه يصح منَّا أن نقول: لم يتركه هملاً ؛ فإنَّ الجواب يستفاد من عدة مواضع من الباب الثالث وما بعده، ويصح أن نلخِّصه بالجمل التالية: (ونزعات دينية جديدة ظهر أثرها فيما بعد، وأظهرها في الإسلام التشيُّع والصوفية) هذا هو الجواب

فيما نرى.ولعل صاحب الكتاب يرى أنَّ التشيُّع ظهر في الإسلام متأخِّراً، ولعله يرى أنَّ الذي أظهره النزاع بين الهاشميين والأُمويين، أو لعلّه يذهب مذهب المخرِّفة الإفرنسية الباحثة عن الفردوس القائلة: (إنَّ التشيُّع ظهر في فارس منذ التجأت إلى الفرس فاطمة أرملة علي)!! والذي نعتمده أنَّه يرى أنَّ النزعات تكوَّنت بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنَّ سببها مسألة الخلافة التي اشتد فيها الخلاف بين المسلمين.

وعلى كل حال، يظهر لنا بوضوح من مجموع كلامه أنَّ نزعة التشيُّع كانت نقمة على الإسلام، وأنَّها ظهرت في فارس، وفيها نمت بذرتها وأورق غصنها.فكأنَّه يزعم أنَّه يستحيل على العربي الذي فهم دين الإسلام أن يفهم التشيُّع.فهو ينقم على الفرس لأنَّهم فرس ؛ أي ليسوا عرباً! وهذا غير قابل للتعليل، وغير قابل للزوال ؛ لأنَّ الفارسي يستحيل أن يكون عربياً.وينقم عليهم لأنَّهم شيعة ؛ أي لأنَّهم يحبُّون عليَّاًعليه‌السلام وأولاده، إذ ليس التشيُّع أمراً وراء ذلك.

وأمَّا أنَّ التشيُّع لعلي بدأ قبل دخول الفرس في الإسلام، ولكن بمعنى ساذج (كما ذكره ص٣٣١) فإنَّا نرجئ الكلام فيه وفي زمان تكوُّن الشيعة إلى الفصل الذي عقده للكلام على

____________________

على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ) الحديث.وهو صريح بما ذكرناه ،على أن المحدِّثين حيث يذكرون القصة ولا يذكرون عمر، فإنَّهم يذكرون لفظة: (إنَّ النبيَّ يهجر)، فراجع: البخاري، ج ٢، ص ١١٨، ومسند أحمد، ج ١، ص ٢٢٢، ومسلم في آخر كتاب الوصية من صحيحه، تجد تلك الوصية.

٢١

الشيعة ومذاهبهم، ولكن يصح أن نقول إجمالاً: إنَّ آراء الأُستاذ لا تخرج عن أنَّها تكهُّنات لا مبرِّر لها في التاريخ، ولا شاهد لها سوى العاطفة والجهل بتاريخ مبدأ التشيُّع ؛ فإنَّ التشيُّع لعليعليه‌السلام بدأ من يوم غدير خم، ذلك اليوم الذي حضره تسعون ألفاً من المسلمين أو يزيدون، وابن الجوزي في تذكرته ذكر أنَّه ١٢٠ ألفا.

يبقى نقطة واحدة في كلام صاحب الكتاب حاول غير مرة أن يجعلها حقيقة ذات قيمة تاريخية، هي: أنَّ نزعة التشيُّع دخلت مقارنة للفتح في بلاد فارس، وهذه مهزلة من التاريخ يمليها الأُستاذ على العالم وفي الجامعة المصرية، يحسب أنَّها ذات قيمة في سوق الحقائق، وليس هي إلاّ هفوات تاريخية قيمتها تحت الصفر.

يعلم كل من ألمَّ بالتاريخ أنَّ التشيُّع ظهر في بلاد فارس في آخر الدولة الأُموية، ولم يكن له ذلك الانتشار الذي يتذمَّر منه الأُستاذ ومَن لفَّ لفَّه، بل كان المتديِّنون به قليلين جداً، وإنَّما الذي كان رائجاً في أسواق فارس، التسَنُّن لا غير، ويصح أن نقول :إنَّ التسَنُّن حلَّ محل المجوسية في بلاد فارس، وكانت الكثرة المطلقة في بلاد فارس مشبَّعة بالنصب والمغالاة في بغض عليعليه‌السلام ، وهذا لا يخفى على مَن رجع الى تاريخ إيران بعد الفتح.قال في روضات الجنَّات نقلاً عن بعض أعلام عصره: إنَّ أهل أصفهان استمهلوا ولاة عمر بن عبد العزيز بجعلٍ كثير حتى يُتِمَّ أربعينهم في سبِّ أمير المؤمنينعليه‌السلام بعدما أُخبروا برفع ذلك.

أبو ذر الغفاري ينقاد لرأي مزدك الفارسي

أُمثولة من صفحات التاريخ السوداء التي رسمتها يد العصبية الأثيمة يوقِّع على نغماتها اليوم، في عصر تمحيص الحقائق عصر النور، أحمد أمين في كتابه فجر الإسلام ؛ فيرتاح لقول الطبري بأنَّ ابن السوداء أفسد أبا ذر على معاوية، وينشرح صدره حيث وقف على وجه الشبه بين رأي أبي ذر ومزدك من الناحية المالية فقط (ص ١٣١).

كنَّا نظنُّ أنَّ العصبية تصرَّمت أيَّامها وتقلَّصت روحها الخبيثة، بيد أنَّا نرى أنفسنا في معترك جديد وثورة براكين من العصبية تتقاذف منها قنابل جديدة (من عيار خمسين)، ولقد كانت العصبية في القرون الخالية تقف عند حد ربَّما لا تتجاوزه إلاّ نادراً، ولكن سِفر حياتنا المضطرب يحمل لنا على صفحاته أشكالاً من الهياكل المجسَّمة يصح لنا أن نسمِّيها العصبية، بيدها اليمنى سيف التبشير مسلولاً وباليسرى المعول لهدم الدين من أساسه، وتتجلَّى هذه الروح

٢٢

في كتاب الأدب الجاهلي ؛ حيث يرى مرة أن الإسلام تأثَّر باليهودية وثانياً بالنصرانية وثالثاً أنَّ القرآن تأثَّر بشعر أميَّة بن الصلت، ولو فتحنا كتاب فجر الإسلام لرأينا تلك الروح لها تلك النغمة من بعض الجهات ؛ فإنَّه يحدِّثنا أنَّ أبا ذر الغفاريرضي‌الله‌عنه - ذلك العالم الكبير الصحابي - تأثَّرت عقليَّته بالمذهب المزدكي من الناحية المالية فقط، ولم يقتنع أبو ذر بذلك التأثر الروحي واعتناق هذا المذهب الجديد فحسب، بل حملته نفسه (بزعم الأستاذ أحمد أمين) على جعله مذهبا لمسلمي الشام حين إذ ذاك، فرفع عقيرته قائلاً: (يا معشر الأغنياء، وأسوا الفقراء) ويتلو:( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ ِلأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ) .

هذه هي الشريعة الجديدة التي سيطرت على عقلية أبي ذر وقادته إلى حمل الناس عيها ولم يستطع العيش بدونها، هذه مزعمة هذا الفيلسوف الجديد الذي أخذ على عاتقه مسؤولية البحث في الحياة العقلية في صدر الإسلام، فخبط في مواضع من كتابه وخلط، وقد وقفت على شيء منها وستقف في غضون الفصول الآتية على الكثير.

وما أغرب الدهشة التي تستولي علينا عندما نقوم بتحليل هذه العبارات التي أضاع الأستاذ الوقت في رقمها، ولو استعملنا الصراحة في التعبير لقادنا ذلك إلى القول بأنَّ الأستاذ يرى أنَّ الإسلام تأثَّر بمذهب مزدك لا أنَّ أبا ذر المتأثِّر.. ولا نقول ذلك على سبيل التكهُّن أو الظن في الاستنتاج، فإنَّ تلاوة أبي ذر للآية الكريمة لأكبر دليل على ذلك ؛ وبتعبير أصح: إنَّ وجود آية في الكتاب العزيز تؤيِّد نظرية أبي ذر الجديدة كافٍ في الدلالة على أنَّ القرآن الشريف تأثَّر بمذهب مزدك، وأنَّ أبا ذر تأثَّرت نفسيته بالقرآن لا غير...

ومهما اطمأنت نفوسنا إلى الشك واتخذناه مذهباً في البحث، فلا أراني شاكاً في هذه النتيجة، وأفسح مجالاً للقارئ المتكهرب قلبه بأسلاك الشكوك فلينظر إلى هذه النتيجة فهل يمكن التخلُّص منها؟ وكيف يمكن الفرار عنها؟ عبثاً يحاول المحاولون غير هذا ؛ فإنَّهم إنْ أطلُّوا على الماضي ووضعوا نفسية أبي ذر الشريفة في بوتقة التحليل، فلا يخالجهم شك بأنَّها نفسية يستحيل عليها بأن تتأثَّر بغير القرآن الشريف وقول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا تدين بغير الحقائق التي لا يدخلها أي شك. هذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يملي علينا شيئاً من نفسية هذا الصحابي الكبير فيقول - كما في رواية أبي عثمان سعيد بن نصر بسنده عن أبي الدرداء: (ما أظلَّت الخضراء ولا أقلَّت الغبراء أصدق لهجة

٢٣

من أبي ذر)(١) .

ويقولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أبو ذر في أمتي شبيه عيسى بن مريم في زهده)، وفي رواية بعضهم: (مَن سرَّه أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم، فلينظر إلى أبي ذر) وأمير المؤمنين عليعليه‌السلام يكشف لنا الستار عن حياته العلمية فيقول حينما سئل عنه: (ذلك رجل وعى علماً عجز عنه الناس، ثم وكأ عليه ولم يُخرج منه شيئاً)(٢) .

هذه نفسية أبي ذررضي‌الله‌عنه تنكشف أمامنا طيبة طاهرة زكية لا تعدو الحق الصراح وتشبه أن تكون نفس ملك مقرَّب.إذاً كيف انقادت لرأي مزدك؟ أيُّ مالٍ هذا الذي كان به أبو ذر مزدكياً اشتراكياً؟ وهل في سائر الأحوال كان كذلك؟

نستعرض صفحات التاريخ لنسمع حديثها، وها هي تلك الصفحات التي يسميها الناس تاريخاً ويعتمدون عليها تحدِّثنا - والحديث ذو شجون - أنَّه كان في سائر الأحوال اشتراكياً، يقول ابن الأثير والطبري - واللفظ للأول - : (وكان أبو ذر يذهب إلى أنَّ المسلم لا ينبغي له أن يكون في ملكه أكثر من قوت يومه وليلته، أو شيء ينفقه في سبيل الله أو يعدَّه لكريم... يقول: فما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك وأوجبوه على الأغنياء وشكا الأغنياء ما يلقون منه(٣) وهذا اليسير من الكلام يملي علينا درساً كاملاً من حياة الصحابي الاشتراكية المزدكية، فكانت حياة كاملة في الاشتراكية.

ويظهر أنَّ أداة السياسة الطائفية أعملت صناعة في هذا التاريخ لا تكاد تخفى(٤) ، ولو أنعمنا

____________________

(١) هذه رواية الاستيعاب في باب جندب، وفي ابن أبي الحديد، ج ١، ص ٢٤١ عن أمير المؤمنينعليه‌السلام : (ما أظلَّت الخضراء وأقلَّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر)، ورواه ورقاء وغيره مسنداً إلى أبي هريرة فراجع: الاستيعاب، ج ١، ص ٤٨ وفيه روى الأعمش عن شمر بن عطية عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن ابن غنم قال: كنت عند أبي الدرداء إذ دخل عليه رجل من أهل المدينة، فسأله فقال: أين تركتَ أبا ذر؟ قال: بالربذة، فقال أبو الدرداء: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، لو أنَّ أبا ذر قطع مني عضواً ما هجته ؛ لِمَا سمعت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول فيه.مشيراً إلى الحديث، فتأمل.

(٢) قال في الاستيعاب في باب جندب: وكان من أوعية العلم المبرَّزين في الزهد والورع والقول بالحق، ثم ذكر الحديث.

(٣) ابن الأثير، ج ٣، ص ٤٢.

(٤) هذه الصناعة يعلمها كل مَن راجع التاريخ ؛ فابن الأثير يقول: (وقد ذكر في سبب ذلك أمور كثيرة ؛ من سبِّ معاوية إيَّاه وتهديده بالقتل، وحمله من المدينة إلى الشام بغير وطاء، ونفيه من المدينة على الوجه الشنيع لا يصح النقل به، ولو صحَّ لكان ينبغي أن يعتذر عن عثمان ؛ فإنَّ للإمام أن يؤدِّب رعيَّته) ج ٣، ص ٤٢، ومثله غيره.من هنا نستطيع أن نعرف تلك اليد الأثيمة التي كانت تعبث بالحقائق وتعلم قيمة هذا التاريخ الكاذب.

٢٤

النظر مليَّاً، لعلمنا حق العلم بأنَّ هذه الأسطورة التاريخية ما هي إلاّ تشويه لحياة هذا الصحابي الجليل الزاهد الورع الذي لم يخالط قوله غير الحق، والذي أطبق أهل القبلة على علو منزلته وسامي مقامه وقبول روايته، فشوهةً وبوهةً لهذا التاريخ أو المخاتلة والمراوغة في إظهار الحقائق، وبُعداً لهذه العصبية التي تتجلَّى بين سطور التاريخ وفي منعرجات حروفه، وكم للمؤرِّخين من أمثال هذه المراوغة!؟

كل أحد يعلم أنَّ أبا ذررضي‌الله‌عنه لم يكن سريع الانفعال والتأثُّر، ولا خاضعاً للعوامل السيئة التي تحدث غالباً من اختلاف المجتمع والتشاغب الحاصل من سوء التصرف في مجريات الأحوال.كل ذلك لم تنطبع عليه نفسية أبي ذر، فإنَّها كانت مطمئنة هادئة... ونحن نعلم أنَّ لأبي ذر ثورتين جاهر فيهما بمبدئه السامي الذي جعله نموذج حياته الشريفة منذ اطمأنت نفسه بالإسلام: إحداها بالمدينة أعقبها نفيه للشام، والثانية في الشام أعقبها إرجاعه على أخشن مركب للمدينة ونفيه للربذة.ولم يحدِّثنا أحد عن ثورة له من ذي قبل ؛ أي على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر (رضي الله عنهما)، ومهما تخرَّصنا في نفسية أبي ذررضي‌الله‌عنه وجعلنا مجالاً للشك، فلا أخال أنَّ المنصفين يفسحون لنا المجال للقول بأنَّ هذا الصحابي الجليل كان ينقاد في أعماله وثوراته لهوى النفس، أو أنّ الشيطان استزله فثار تلك الثورة التي سلبته الراحة والاستقرار حتى النفس الأخير من حياته الذي لفظه بالربذة... ولابد أن نعلم السبب الذي بعث أبا ذر وحرَّك عاطفته للثورة في ذلك الزمن العصيب وما هو؟

يستحيل علينا إذا أردنا حلَّ هذه المعضلة التاريخية أن نتمكَّن من ذلك ما دمنا نستعمل المغالطة وكتم الحقائق.إذاً لابد لنا ونحن نريد حلها من المصارحة في القول ليتضح لنا أنَّ أبا ذر لم يكن مزدكياً، ولم يأخذ هذه التعاليم عن ابن السوداء عبد الله بن سبا، وإنَّما هي تعاليم منقذ العالم من الجهالة والضلالة النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ويستحيل أيضاً علينا حلَّها وأخذ نتيجة ما، ما لم نحدِّد الحياة بشروط تلتئم مع روح الإسلام في بدئه ومع بيئة الحجاز القاحل، وبتعبير أصح من هذا: هناك عقبة كؤود تقف سدَّاً حائلاً دون أن تأخذ شكلاً من النتيجة الصالحة، إذا لم نضرب مثلاً يكون هو النموذج لحياة عاهل المسلمين في ذلك العصر، ولا أراني أتخطى حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنَّها المثل الأعلى، ولا أراك كيفما أدرت نظرك نحو تلك الحياة الشريفة إلاّ أنَّك تقف على حياة هادئة مطمئنة بسيطة خالية عن كل مظهر من

٢٥

المظاهر ؛ فنراهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعدل بين الرعية ويقسِّم بالسوية، لا تذهب به العاطفة إلى حيث زلة القدم، فلا يرى لقرابةٍ حقاً ما لم يكن أمر من الله عزَّ وجل، وهناك مظهر آخر ما أدقه لو تأمله خصماء أبي ذررضي‌الله‌عنه ، ذلك أنَّه طالما يطوي اليوم واليومين جوعاً، بلوالثلاثة، وهذه سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحدِّثنا أنَّه كان يشدُّ حجر المجاعة على بطنه الشريف، ونعيد الكرة فنقول: لا حرج إنْ قلنا إنَّه يلزم على راعي المسلمين أن يسلك هذه الطريق الواضحة، وكتب السِّير تحدِّثنا عن نحو من التشابه بين حياة أبي بكر وعمر وحياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن هلمَّ أيُّها القارئ لنسمع الحديث عن سيرة عثمان ونتفهَّمها جيداً لنرى هل تتَّفق مع سيرة مَن تقدَّمه؟ أو هل لها شبه ما بسيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ ونحرص كل الحرص على أن نعتمد على المصادر التي يؤمن بها أحمد أمين ومَن يضرب على وتيرته.

يحدِّثنا ابن أبي الحديد(١) أنَّه عندما انقضى أمر الشورى واستقر الأمر لعثمان وبايعه الناس أوطأ بني أُميَّة رقاب الناس(٢) وأقطعهم الإقطاعات ؛ فوهب مروان بن الحكم خُمس غنائم أفريقيا، وفي ذلك يقول عبد الرحمن بن الحنبل جنيد الجمحي:

أحلف بالله ربِّ الأنام

ما ترك الله شيئاً سدى

ولكن خلقت لنا فتنة

لكي نبتلي بك أو نبتلى

فإنَّ الأمينين قد بيَّنا

منار الطريق عليه الهدى

فما أخذا درهماً غيلة

ولا جعلا درهماً في هوى

وأعطيتَ مروان خمس البلاد

فهيهات سعيك ممَّن سعى

____________________

(١) شرح النهج، ج ١، ص ٦٦ و ٦٧.

(٢) وبذلك صدق عمر في تكهُّنه فيه ؛ قال ابن عباس - كما في شرح ابن أبي الحديد، مجلَّد ٣، ص ١٠٦ - : كنت عند عمر فتنفس نفساً ظننت أنَّ أضلاعه قد انفرجت، فقلت: ما أخرج هذا النفس منك يا أمير المؤمنين إلاّ هم شديد؟ قال: إي والله يابن عباس، إنِّي فكَّرت فلم أدر فيمن أجعل هذا الأمر بعدي.ثم قال: لعلك ترى صاحبك لها أهلا؟ قلت له: وما يمنعه من ذلك مع جهاده وسابقته وقرابته وعلمه ؟! قال: صدقت، ولكنَّه امرؤ فيه دعابة، قلت: فأين أنت من طلحة ؟ قال: هوذو البأو بإصبعه المقطوعة.قلت: فعبد الرحمن ؟ قال: رجل ضعيف، لو صار الأمر إليه لوضع خاتمه في يد امرأته.قلت: فالزبير؟ قال شكس لقس، ويلاطم في البقيع في صاع من بُر.قلت: فسعد بن أبي وقَّاص ؟ صاحب مقنب وسلاح، قلت: فعثمان؟ قال : أُوَّه أُوَّه، مراراً.ثم قال: والله لئن وليها ليحملنَّ بني أبى معيط على رقاب الناس، ثم لتنهضنَّ إليه العرب فتقتله) أقول: وكأنَّها حاجة في نفس عمررضي‌الله‌عنه أن جعلها شورى في ستة وحرص على أن تكون في الصفة التي فيها عبد الرحمن بن عوف فقضاها.

٢٦

وأقطعه فدكاً، وما أدراك ما فدك؟! ذلك الذي مُنعت عنه وديعة محمد في أمته فاطمة الزهراء سيد نساء العالمين وبضعة سيد النبيين والمرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لرواية رواها المانع، وأعطى عثمانُ عمَّه الحكم بن العاص، طريد رسول الله، مئة ألف درهم، وأعطى الحرث بن الحكم بن العاص ثلثمائة ألف درهم، وأعطى زيد بن ثابت مئة ألف درهم، وأعطى عبد الله بن أبي سرح ما أفاءه الله تعالى على المسلمين من فتح أفريقيا، وأعطى أبا سفيان بن حرب مئتي ألف درهم، وقسَّم الأموال التي جاء بها أبو موسى من العراق على بني أميَّة(١) ، وأعطى عبد الله بن خالد بن أُسيد صلة كانت أربعمئة ألف، انتهى ملخَّصاً.وقال أبو الفداء: (وأعطى مروان خُمس أفريقية وهو خمسمئة ألف دينار، ربع مليون ليرة، وفي ذلك يقول عبد الرحمن الكندي (وذكر الأبيات) وأقطع مروان بن الحكم فدكاً ؛ وهي صدقة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي طلبتها فاطمة ميراثاً، فروى أبو بكر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (نحن معاشر الأنبياء لا نورِّث)، ولم تزل فدك في يد مروان إلى أن تولَّى عمر بن عبد العزيز فانتزعها من أهله وردَّها صدقة) انتهى(٢) وابن جرير الطبري يحدِّثنا فيقول: (كان الذي صالحهم عليه عبد الله بن سعد ثلاثمئة قنطار ذهب، فأمر بها عثمان لآل الحكم.قلت: أو لمروان؟ قال: لا أدري)(٣) أقول: هنا نقف هنيهة ؛ إذ يستوقف نظرنا حادث غريب لا نعرف كيف يتفق مع هذا السخاء المفرط، ذلك أنَّ عثمان لمَّا أرسل عبد الله بن سعد، وكان أخاه من الرضاع، لغزو أفريقية قال له: إن فتح الله عليك أفريقية فلك ممَّا أفاء الله على المسلمين خُمس الخُمس، ويقول ابن جرير الطبري: وقسَّم عبد الله ما أفاء الله عليهم على الجند وأخذ خُمس الخُمس، وبعث بأربعة أخماس إلى عثمان مع ابن وثيمة النظري، وضرب فسطاطاً في موضع القيروان وأوفد وفداً فشكوا عبد الله فيما أخذ، فقال لهم: إنَّا نفلته، وكذلك كان يصنع، وقد أمرت له بذلك وذاك إليكم الآن، فإن رضيتم فقد جاز، وإن سخطتم فهو رد، قالوا: فإنَّا نسخط، قال: فهو رد، وكتب إلى عبد الله بذلك(٤)

____________________

(١) إنَّا لنجهل حقيقة هذا التقسيم ويجهله كل أحد، ولعل عثمان لا يرى أحداً من الأنصار والمهاجرين مسلماً صحيح الإسلام إلاّ بني أبي معيط، إنَّ هذا لشيء عجاب.

(٢) ج ١، ص ١٨٧.

(٣) ج ٥، ص ٥٠.

(٤) عبد الله بن سعد هو عبد الله بن أبي سرح المذكور في كلام أبي الحديد كما عرفت، أسلم قبل الفتح وكان يكتب الوحي، ثم ارتد مشركاً وصار إلى قريش في مكة فقال لهم: إنِّي كنت أصرف محمداً حيث أريد، كان يملي علي َّعزيز حكيم، فأقول: حكيم عليم، فيقول: (نعم، صواب) ولمَّا كان يوم الفتح هدر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دمه وأمر بقتله ولو وجد تحت أستار الكعبة، ففرَّ إلى عثمان، فغيَّبه مدة، ثم أتى به إلى النبي وطلب أمانه، فسكت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طويلاً ثم قال: (نعم)، وبعد أن خرج عثمان وعبد الله قال رسول الله لمَن حوله: (ما صمتُّ إلاّ ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه) انتهى ملخَّصاً عن الاستيعاب، ج ١، حرف العين، باب عبد الله.

٢٧

فإنَّا كلَّما حاولنا تعليلاً صحيحاً لهذا الحادث الغريب في بابه، وكلَّما قلبنا الأمر ظهراً لبطن، لم يصل الفكر إلى حلٍّ صحيح يصح لنا أن نسميه

تعليلاً.إذن ،ونحن نريد الوصول إلى الحقيقة نرجعه إلى المدرِّس بكلية الآداب بالجامعة المصرية الأستاذ أحمد أمين.وينحصر السؤال بأمرين: لماذا توقَّف من إعطاء خُمس الخُمس - وقد نفله إيَّاه - وأناط الأمر بسخط الوفد وعدمه؟ لماذا لم يستشر المسلمين بإعطاء الخمس كله لمروان؟ ولا حرج علينا إن قلنا للأستاذ أنَّ كلمة (اجتهد) مرادفة لكلمة أخطأ أو اشتبه، على أنَّ الحادثتين من واد واحد وموضوعهما واحد وملاكهما واحد، فكيف يعقل اختلاف نظر المجتهد فيهما؟

وابن الأثير يحدِّثنا بحديث إن صح، وإن شاء الله لا يكون صحيحاً، يدلُّنا على الفوضى التي كانت تعمل في بيت المال في ذلك الوقت ؛ فإنَّها كانت تجرف ما في بيت المال إلى خزائن بني أميَّة، يقول: وحمل خمس أفريقية إلى المدينة فاشتراه مروان بن الحكم بخمسمئة ألف دينار، فوضعها عثمان

عنه، وكان هذا ممَّا أخذ عليه، وهذا أحسن ممَّا قيل في خمس أفريقية ؛ فإنَّ بعض الناس يقول: أعطى عثمان خمس أفريقية عبد الله بن سعد، وبعضهم يقول: أعطاه مروان بن الحكم.وظهر بهذا أنَّه أعطى عبد الله خمس الغزوة الأولى وأعطى مروان خمس الغزوة الثانية التي افتتح فيها جميع أفريقية(١) .

وتتجلَّى بوضوح هذه الفوضى الجارفة التي نشبت مخالبها في بيت المال، والتي لا تتَّفق مع عقلية أي عصر من العصور، إذا سمعنا المسعودي يقول في حديثه: (وكان عثمان في نهاية الجود والكرم والسماحة والبذل في القريب والبعيد، فسلك عماله وكثير من أهل عصره طريقته، وبنى داره في المدينة وشيَّدها بالحجر والكلس وجعل أبوابها من الساج والعرعر(٢) واقتنى أموالاً وجناناً وعيوناً بالمدينة... وذكر عبد الله بن عيينة أنَّ عثمان يوم قتل كان عند خازنه من المال خمسون ومئة ألف دينار وألف ألف درهم، وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مئة ألف دينار، وخلف خيلاً كثيرة وإبلاً، وقد ذكر سعيد بن المسيَّب أنَّ زيد بن ثابت حين مات خلف من الذهب والفضة ما يكسَّر بالفؤوس(٣) غير ما خلف من الضياع بقيمة مئة

____________________

(١) ج ٣، ص ٣٥.

(٢) العرعر كمرمر، قال في القاموس: شجر السرو فارسية، الواحدة سروة، وقيل: الساسم وهو شجر أسود، وقيل: إنَّه الأبنوس، وقيل:

الشيزي، وقيل: شجر يعمل منه القسي.

(٣) الفؤس والأفؤس جمع فأس ؛ وهي آلة ذات هراوة قصيرة يقطع بها الخشب وغيره، مؤنَّثة، وقد يترك همزها يقال: فاس الخشبة؛ أي شقَّها بالفاس.

٢٨

ألف دينار... ومات يعلى بن أميَّة وخلّف خمس مئة ألف دينار وديوناً على الناس وعقارات وغير ذلك ما قيمته مئة ألف دينار... إلى أن قال: وهذا باب يتَّسع ذكره ويكثر وصفه فيمن تملَّك من الأموال في أيَّامه، ولم يكن مثل ذلك في عصر عمر بن الخطاب، بل كانت جادَّته واضحة وطريقته بيِّنة، انتهى.

وكأنَّ المسعودي أراد المقايسة بين عمر وعثمان فقال: حج عمر فأنفق في ذهابه ومجيئه إلى المدينة ستة عشر ديناراً، وقال لولده عبد الله: لقد أسرفنا في نفقاتنا في سفرنا، انتهى(١) .

ونحن نترك المقايسة بين حياة هذين الخليفتين للقارئ الكريم، وله نترك الحكم والتحليل الفني ليستطيع أن يعلم أنَّ أبا ذررضي‌الله‌عنه لم يكن مزدكياً ولا اشتراكياً وإن كان ولا بد أن تصفه بشيء من ذلك، فلابد أن تحمل هذه الألقاب على الخليفتين، بل وعلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونعوذ بالله من ذلك.

شاهد أبو ذر بأمِّ عينه ما سمعناه بعد ألف وثلاثمئة ونيف وعشرين سنة، إذن يحق له أن يستغرب تلك الفوضى في بيت المال التي لم يكن رآها من قبل، ويصح - وأيم الله - أن تكون سبباً لتهيُّجه وثورته بالمدينة وأن يتلو قوله تعالى:( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ) الآية.

لا يشك أحد في أنَّ أبا ذر لمَّا رأى هذا العطاء بسخاء مفرط وسرف في مال المسلمين من غير مبالاة، رفع عقيرته يقول مرة:( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ) ، وثانية يقول: (وبشِّر الكافرين بعذاب أليم) ولم يكن في رأيه هذا منقاداً لمزدك وإنما للتعاليم الإسلامية التي كان عليها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بعده، وقد تفهَّمناها فهماً حقيقياً من سيرة علي أمير المؤمنينعليه‌السلام (٢) .

____________________

(١) مروج الذهب، ص ١٥٠ من هامش الجزء الخامس من تاريخ ابن الأثير.

(٢) فإنَّه كان يأتدم بإدام واحد بخل أو ملح، وكان يلبس الكرباس، ويجمع كل هذا أنَّه كان أخشن الناس مأكلاً وملبساً. قال عبد الله بن أبي رافع: دخلت إليه يوم عيد فقدِّم إليه جراب مختوم، فوجدنا فيه خبز شعير يابساً مرضوضاً، فقُدِّم فأكل، فقلت: يا أمير المؤمنين، فكيف تختمه؟ قال: (خفتُ هذين الولدين أن يليِّناه بسمن أو زيت) وكان ثوبه مرقوعاً بجلد تارة وبليف أخرى) وهو القائل - بأبي هو وأمي - في كتابه لعثمان بن حنيف: (ألا وإنَّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه) وقال فيه: (فوالله ما كنزت من دنياكم تبرا، ولا ادخرت من غنائمها وفرا، ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا... ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفَّى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخيُّر الأطعمة، ولعل بالحجاز أو باليمامة مَن لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع )إلى آخر الكتاب.أقول: هكذا يجب أن تكون حياة خليفة المسلمين.

٢٩

وبأيسر نظرة في التاريخ يعلم الباحث أن أبا ذر لم ينفرد بالإنكار على عثمان، بل شاركه غيره من الصحابة في الاحتجاج على أعماله.يقول ابن أبي الحديد: (ولمَّا تكاثرت أحداثه وتكاثر طمع الناس فيه، كتب جمع من أهل المدينة من الصحابة وغيرهم إلى مَن بالآفاق: إنَّكم إن كنتم تريدون الجهاد فهلمُّوا إلينا ؛ فإنَّ دين محمد قد أفسده خليفتكم فاخلعوه، فاختلفت عليه القلوب)(١) وفي الحق أنَّ أبا ذر لم يكن أشد إنكاراً على عثمان ولا أشد احتجاجاً من غيره من الصحابة، فإنَّ هناك مصادر كثيرة تبعث في النفس اليقين أنَّ لهجة الاحتجاج عليه من الصحابة شديدة جداً ؛ فهذا ابن الأثير وغيره يحدِّثنا عن أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) أنَّها كانت تقول: (اقتلوا نعثلاً فقد كفر) وفي ذلك يقول ابن أم كلاب

وأنتِ أمرتِ بقتل الإمام

وقلتِ لنا: إنَّه قد كفر(٢)

ويقول العلّامة المعتزلي ابن أبي الحديد: (فجاء زيد بن أرقم - وكان صاحب بيت المال - بالمفاتيح فوضعها بين يدي عثمان وبكى، فقال: أتبكي لأني وصلت رحمي، قال: لا، ولكن أبكي لأنِّي أظنَّك أنَّك أخذت هذا المال عوضاً عمَّا كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو أعطيت مروان مئة درهم لكان كثيراً، فقال: القِ المفاتيح يا ابن أرقم ؛ فإنَّا سنجد غيرك(٣) .

ولا أحب أن أكثر عليك سرد الاحتجاجات من سائر الصحابة وحسبنا شاهداً تلك القيامة التي قامت وهاتيك الضوضاء التي علت فأدت إلى قتل خليفة المسلمين بمرأىً ومسمع من الصحابة أجمع، ومهما ضعفت مداركنا وأردنا أن نخدع أنفسنا بتلك السطور التاريخية فلا يسعنا أن نقف أمام تلك الحوادث جامدين لا نعلم ماذا نقول ؛ فإنَّه من المستحيل أن نؤمن بأن تلك الحملة العنيفة على خليفة المسلمين كانت عن عبث أو ضلَّ المسلمون والصحابة وأضاعوا رشدهم ونبذوا الدين ظهريا فلا يرون لخليفتهم حرمة، فيهاجمونه لا عن سبب، وعلى أيِّ محمل من المحامل الصحيحة نحمل كلام عائشة أم المؤمنين وهي ممَّن يحتج بكلامها(٤) .

____________________

(١) شرح النهج، ج ١، ص ١٦٥.

(٢) ابن الأثير، ج ٣، ص ٨٠، والطبري، ج ٥، ص ١٧٤.

(٣) شرح النهج، ج ١، ص ٦٧.

(٤) لعلك تقول: إنَّ أم المؤمنين رجعت عن قولها (اقتلوا نعثلاً فقد كفر)، وقالت لابن أم كلاب: (ويلك، قولي الأخير خير من قولي الأول) ذكر ذلك الطبري وغيره، ولكن أقول: إنَّ هذا الكلام منها لا قيمة له ولا وزن بعد أن عرفنا مغزاه والمقصد الذي ترمي إليه، وتستوضح ذلك المقصد من قولها (رضي الله عنها) له: (والله، ليت أن هذه انطبقت على هذه إنْ تمَّ الأمر لصاحبك) فإنَّ هذا الكلام يوضح لنا نفسية أم المؤمنين ؛ ويبيِّن لنا أنَّها لم تأسف على قتل عثمان وإنَّما تألَّمت لأنَّ علياًعليه‌السلام ولي الأمر، ونحن صعب علينا كشف هذا السر الغامض وإن أحب ذلك دعاة التفرقة وأنصار الحرية والتجدُّد.

٣٠

وأمَّا لو عمدنا إلى شرح الأسباب التي حرَّكت عواطف أبي ذر فثار في الشام منتصراً للحق الذي اتخذه مبدأ منذ دخل في الإسلام لطال بنا الكلام، ولكن نقول إجمالاً أنَّ معاوية مثَّل دوراً كاملاً في الفظاعة والخلاعة والتهتُّك، وناهيك أنَّ الأموال كانت تصرف على إماتة السنن وإحياء الباطل ،كانت تصرف على الخمور والفجور وبناء القصور وهتك الحرمات وارتكاب المحرمات، وأنَّ أبا ذر نفسه يقول في حديثه: (والله، حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما هي في كتاب الله وسنة نبيه، وإنَّي لأرى حقَّاً يطفأ، وباطلاً يحيا، وصادقاً مكذَّباً، وأثرة بغير تقى، وصالحاً مستأثراً عليه)(١) ، ولا أريد أن أحدِّثك بكل تلك الفظائع التي يندى منها جبين الإنسانية، ولا بكل بوائقه التي تسيخ منها الأرض، ولا أحدِّثك ببعضها ؛ فدونك السير والتواريخ تجد صحائفه سوداء من بوائق معاوية وقبائحه ومخازيه.

إلى هنا يكفينا هذا المقدار فلا نطيل الحديث... ومن هنا تقدر أن تعلم قيمة تلك الفلسفة التي جاء بها أحمد أمين، وغير مغالين إن قلنا: إنَّها لا وزن لها ولا قيمة في سوق الحقائق.

نحن نرى أحمد أمين نفسه (في صفحة ٩٧) يقول: وقد عجزوا (يعني أهل الردة) عن أن ينظروا إلى أنَّ الزكاة كجزء من المال يؤخذ للصرف في الصالح العام، وهو ما يرمي إليه الإسلام، فما باله تعامى عن تلك الأموال التي كانت تجرفها السياسة إلى خزائن بني أميَّة فلم يدلنا في أي صالح من المصالح العامة أنفقت؟ والى أيِّ مسلم عابد أو مربية أيتام أعطيت؟؟ وكأنَّ العصبية أخذت بخناقه دون أن يجاهر بشيء من الحقائق، فلم يرَ ملجأ يأوي إليه إلاّ التحامل على أبي ذر فرماه بالمزدكية (ففي سبيل حرية البحث يحتسب أبو ذر هذه الوصمة).أجل، ونفسح المجال للمعترض بأن يقول: أيُّ دخل لهذه الأموال التي كان ينفقها عثمان بثورة أبي ذر ؛ ذلك أنَّ كلام أبي ذر (كما دلَّتنا عليه سيرته) كان موجَّهاً للأغنياء، حيث كان يمشي بالأسواق حتى شكا منه الأغنياء إلى غير ذلك؟ قلنا: هذا اعتراض يولده ضيق الخناق والمخاتلة في الحق الصراح ؛ ذلك أنَّك عرفت أنَّ أبا ذر كان ثالث المسلمين أو رابعهم، إذن عاش ردحاً من الزمن في زمان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومدة خلافة أبي بكر وعمر، والأغنياء وأصحاب الأموال

____________________

(١) ابن أبي الحديد، ج ١، ص ٢٤٠، ولا تضرُّنا دعوى صاحب الكتاب أنَّ ابن أبي الحديد شيعي معتدل ؛ فإنَّ الأستاذ اعتمد عليه في النقل واحتج به في مواضع من كتابه، ومن القبيح أن تكون باؤه تجر وباؤنا لا تجر، على أنَّه سيمرُّ عليك البرهان بأنَّه معتزل حنفي.

٣١

بمرأى منه، ولم يحدِّثنا أحد ولا تاريخ أنَّه انتقد غنياً أو تكلَّم بكلمة تشعر بشيء من ذلك ؛ إذن فما باله ثار تلك الثورة عليهم في مدة خلافة عثمان، كأنَّه حسب أنَّهم ضلُّوا الطريق أو أشركوا بالله، سبحانك اللهم لا شيء من ذلك، فلينصفنا المنصفون وما أقلَّهم.

عقائد الفرس وأثرها في نفوس بعض المسلمين

يستعرض صاحب الكتاب طوراً آخر من أطوار البحث العلمي الدقيق الجميل (بزعمه) ؛ ذلك أنَّه يلقي على مسرح التأليف درساً جديداً في الأدب وفي عقلية الإسلام، فيقول: (ممَّا يتَّصل بعقائد الفرس الدينية وكان له أثر في نفوس بعض المسلمين أنَّهم كانوا ينظرون إلى ملوكهم كأنَّهم كائنات إلهية اصطفاهم الله للحكم بين الناس وخصهم بالسيادة وأيدهم بروح منه فهم ظل الله في أرضه(ص ١٣٢) ولقد فسَّر ذلك البعض من المسلمين بقوله: (فنظرة الشيعة في علي وأبنائه هي نظرة آبائهم الأولين في الملوك الساسانيين)(ص ١٣٤) وهو حديث طريف من أستاذ الجامعة المصرية التي تدرَّس فيها العصبية العمياء باسم الأدب مرة، واسم عقلية الإسلام ثانية، والأعجب أنَّ الجامعة تحسب أنَّ هذه الأبحاث ذات قيمة، وأنَّها أقيمت على أساس رصين من البرهان المنطقي.ولقد استقى صاحب الكتاب هذا الرأي من منبع أوربي، فإنَّه أخذه (تقليداً) عن دوزي ؛ حيث ذهب إلى أنَّ أساس الشيعة فارسي، وفي أثناء إثبات هذه المحاولة قال: (وقد اعتاد الفرس أن ينظروا إلى المَلِك نظرة فيها معنى إلهي فنظر الشيعة هذا النظر نفسه في علي وأبنائه) وأنت ترى أنَّ أحمد أمين يستقي من هذا المنبع.

الشيعة يعتقدون في علي وأبنائهعليهم‌السلام أنَّهم (ظل الله في أرضه)، ولكن هل انحدر إليهم هذا الاعتقاد من الفرس أو كانوا به شذَّاذاً؟ وفي الحق أنَّهم اقتفوا أثر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فإنَّا نراه يقول: (أهل بيتي فيكم كسفينة نوح مَن ركبها ومَن تخلَّف عنها غرق)، وقال: (إنِّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي)الحديث(١) والشيعة لا يحاولون معنى من (ظل الله في أرضه) غير هذا المعنى الذي بيّنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث، من أنَّهم أمان أهل الأرض، وأنَّهم في هذه الأمة كباب حطة في بني إسرائيل، وأنَّهم كسفينة نوح، وأنَّهم أعدال كتاب الله، فإن كان هذا الاعتقاد من الشيعة في علي وأبنائه ذنباً فالمسؤول عن

____________________

(١) هذا حديث صحَّ عن ثلاثين صحابياً، وهو متواتر معنى بألفاظ متقاربة.

٣٢

ذلك إنما هو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ هو الذي أمرهم بهذا، وللشيعة به الأسوة الحسنة.

كل مسلم قرأ آية المباهلة يعلم أنَّ علياًعليه‌السلام كنفس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكل من قرأ آية التطهير والأحاديث الصحيحة الواردة في نزولها يعلم أنَّ علياً وأبناءه هم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيرا، وقد افترض الله مودَّتهم في محكم الكتاب ؛ إذن لا ضير إن اعتقدت الشيعة فيه وفي أبنائهعليهم‌السلام ذلك، ولكن الغريب المدهش، والداهية الدهياء، والنازلة التي تصم المسامع، اعتقاد إخواننا أهل السنة (الذين تسرَّب الإيمان الكامل إلى أعماق قلوبهم في أمرائهم وملوكهم الذين ارتكبوا البوائق والفضائح، وشربوا الخمور وارتكبوا الفجور، وسفكوا الدماء وهتكوا الأعراض وو... إلى ما هنالك من منكرات تسيخ منها الأرض ويندى منها جبين الإنسانية ؛ يعتقدون في معاوية ويزيد وأمثالهما من سائر الملوك والأمراء أنَّهم ظل الله في أرضه، وإليك نموذجاً: قال سعد الدين التفتازاني في مقدمة مطوَّله: (كل ذلك بميامن دولة سلطان الإسلام، ظل الله على الأنام، مالك رقاب الأمم، خليفة الله في العالم) وأعاد تلك النغمة في مختصره فقال: (رافع منار الشريعة النبوية، كهف الأنام، ملاذ الخلائق قاطبة، ظل الإله، جلال الحق والدين) .وقال عبد الرحيم السالكوني في حاشيته على شرح الشمسية: (جعلته عراضة لمَن خصَّه الله بالسلطة الأبدية، وأيَّده بالدولة السرمدية، مروِّج الملَّة الحنيفية البيضاء، مؤسِّس قواعد الشريعة الغراء، ظل الله في الأرض، غياث الإسلام والمسلمين) .وقال فيلسوف المؤرِّخين وإمام متجِّددي عصرنا الحاضر ابن خلدون في مقدمته: (مظهر الآيات الربانية، نور الله الواضح، ونعمته العذبة الموارد، ولطفه الكامن بالمراصد للشدائد، ورحمته الكريمة المقالد) .وجاء في نقش خطبة قابيتا على حجر بجبل عرفات ما نصُّه: (مولانا السلطان الأعظم، مالك رقاب الأمم، حاوي فضيلتي السيف والقلم، ظل الله الممدود على العالم، أبو النصر قابيتا... إلخ) وجاء في وقفية كسوة الكعبة بخط قاضي المعسكر محمد بن قطب الدين ما نصُّه: (... السلطان الأعظم، والخاقان الأكمل، ظل الله في أرضه، السلطان سليمان شاه بن السلطان سليم... إلخ)(١) .

____________________

(١) الحق أنَّ هذا الشيوع من الغلو أفسح مجالاً واسعاً للشعراء وسهَّل لهم طريق المبالغة والعلو إلى ما فوق المعقول ؛ فربَّما يضع الشاعرُ الخليفة أو الأمير موضع الربوبية فيخاطبه بنحو ما يخاطب الله تعالى، ونضرب لك مثلاً قول بعضهم:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار

فاحكم فأنت الواحد القهَّار

وهذا باب واسع يوقف الباحث موقف الإعياء، وقد شاءت هذه التطرُّفات في اللهجات عند الأقدمين، سواء في ذلك الشيعة والسنة، فالذي يريد أن يحلِّل النفسيات يقف موقفاً رهيباً خطراً حينما يقف عند هذا البيت وأمثاله

٣٣

وجاء في مستهل المعاهدة بين تركيا وفرنسا سنة ١٧٤٠ في زمن السلطان محمود خان بن السلطان مصطفى، وهي أول معاهدة بين تركيا وفرنسا: (أنا سلطان السلاطين وملك الملوك، واهب تيجان المُلك، ظل الله على الأرضين باد شاه وسلطان البحر... إلخ)(١) ولقد شاعت هذه المبالغات على ألسنة العلماء.ولو رجعنا إلى مؤلَّفاتهم، خصوصاً بعد القرن الخامس من الهجرة، لرأيناهم إذا ذكروا أحد الملوك أو الأمراء وضعوه قريباً من مقام العزة الإلهية ورفعوه عن مصاف البشر، ومَن يرجع إلى مؤلَّفاتهم يجمع من هذه الألقاب الضخمة مجلَّداً كبيراً، ولا يعطونها جزافاً ؛ فلقد رووا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إذا مررت ببلد ليس فيه سلطان فلا تدخله؛ إنَّما السلطان ظل الله في أرضه).

ولم يقف إخواننا أهل السنة عند هذا الحد، بل تجاوزوه إلى إطلاق بعض الصفات على بعض أوليائهم كما حدَّثنا بذلك المنفلوطي في نظراته عن إطلاق بعضهم صفات وألقاباً على الشيخ عبد القاهر الجيلاني هي بمقام الإلوهية أشبه منها بمقام النبوة: (سيد السماوات والأرض، والنفَّاع والضرَّار، والمتصرِّف في الأكوان، والمطَّلع على أسرار الخليقة، ومحيي الموتى، ومبرئ الأعمى والأبرص والأكمه، وماحي الذنوب، ودافع البلاء، والرافع والواضع، وصاحب الوجود التام) هذه بعض الألقاب التي أطلقوها على رجل مهما صوَّرته الأيَّام والظروف فلا تصوِّره أكثر من أنَّه كان رجلاً شريفاً صالحاً، على أنَّ ذلك وقع محلَّ شك من بعض العلماء وألَّف في ذلك كتاباً وردَّ عليه بعضهم ردَّاً مفصَّلاً سمَّاه: السيف الرباني في عنق الطاعن في الشيخ الجيلاني، وهذا البريد المصري يحمل في كل يوم أكداساً من المكاتيب من جميع الجهات المصرية إلى الإمام الشافعي وفيها التوسُّلات والشكايات، وفيها يطلبون معونة الشافعي على قضاء حوائجهم، ويستصرخه المظلوم على ظالمه، والرجل على زوجته، والوالد على ولده، والدائن على مدينه، إلى ما هنالك من آلام وأحزان ومصائب، ولربَّما كان هذا أمراً عاديَّاً عند مصر

____________________

لا يرى مناصاً عندما يريد أن يكشف عن معتقده إلاّ أن يقول: أشرك بالله - مثلاً - أو أنَّه حُلولي... إلى غير ذلك من العقائد التي تخرجه عن ربقة الإسلام، وبنظرنا أنَّ هذا ليس بصحيح ؛ لأنَّ شعر الأقدمين والكثير من المتأخرين بني على الغلو، فلا يصح أن يتخذ مقياسا للعقائد ومرآة للأخلاق، كما وأنَّه لا يصح أن يكون مرآة صادقة للوطنية ؛ فكم رأينا من الشعراء مَن يتغنَّى باسم الوطن، ولكن إلى إيِّ حد يتفانى بحب الوطن؟ إلى أن يتسنَّم الكرسي ويمتلئ فوه بالدرهم والدينار، وإذاً فالحق أنَّ لا نأخذ شعر الأقدمين دليلاً على شيء، وكذلك شعر الذين يتغنُّون باسم الوطن ومهوى أفئدتهم الأصفر الرنَّان.

(١) العرفان، مجلَّد ٥، ص ٣٩٩.

٣٤

(الراقية)، وبعض الجرائد تحدِّثنا أنَّه يصل إلى ضريح الشافعي مئات من العرائض والتوسُّلات من أنحاء القطر المصري تقدَّر بثلاثة آلاف عريضة في كل شهر!!(١) هذا ومصر أم المدنية والحضارة العربية والشافعي لا يزيد عن كونه فقيهاً من فقهاء المسلمين.

وهذا الاعتقاد لم يكن راسخاً في نفوس العلماء والعامة الساذجة فحسب، بل السلطان نفسه أو الخليفة (مهما كانت هويته ونفسيَّته) كان يُكذِبُ نفسه فيعتقد أنَّه ظل الله، ولقد رأيتَ ما كتبه السلطان محمود، ويقول المنصور العبَّاسي في خطبته التي خطبها في مكَّة: (أيُّها الناس، إنِّي سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده، وحارسه على ماله أعمل فيه بمشيئته وإرادته وأعطيه بإذنه ؛ فقد جعلني الله عليه قفلاً إن شاء أن يفتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم وإن شاء أن يقفلني عليها قفلني)(٢) .

لقد تعالى المنصور على أعواد المنابر ورفع عقيرته بهذه الكلمات، فهل يخالجك شك أو وهم بأنَّ أحداً ممَّن حضر - وهم حجَّاج بيت الله الحرام وفيهم العلماء والقضاة والعباد - أنكر عليه، وهل حدَّثك التاريخ بذلك؟! كلاّ وألف كلاّ.. وكأنَّه لا ينافي أن يكون المنصور سلطان الله في أرضه أو ظل الله ويقترف سائر المنكرات التي حرَّمها الله تعالى في كتابه، فيشرب الخمور ويرتكب الفحشاء والمنكر ويحضر مجالس اللهو والطرب، ولا ينافي أنَّ العلماء يعتقدون أنَّه الحاكم بأمر الله، وأنَّه سلطان الله في أرضه والأمين على خلقه، ولا يعدُّون هذا من عقائد الفرس في شيء، ولكن اعتقاد الشيعة في علي وأبنائهعليهم‌السلام أنَّه ظل الله في أرضه بدعة في الدين وعقيدة سرت إليهم من الفرس بزعم أحمد أمين، ففي ذمَّة البحث ما يلاقيه الشيعة.

لم نستنتج اعتقاد إخواننا أهل السنة في أولئك الخلفاء والأمراء - الذين حدَّثنا عنهم التاريخ - عن تكهُّن وتنبؤ، فإنَّ نظرة بسيطة في معنى الخلافة عندهم توقف الباحث على أنَّ تلك الجمل الضخمة صادرة عن اعتقاد ومن أعماق القلوب، ولقد سمعت من قبل أنَّهم رووا: (إذا مررت ببلد وليس فيه سلطان، فلا تدخله ؛ إنما السلطان ظل الله في أرضه) وفسرَّ ذلك بعضهم برحمة الله ومعونته ؛ فالخلافة عندهم من الأصول التي قرَّرها الإسلام وجعلها فرضا دينياً، قال عبد السلام في حاشيته على الجوهري: (الخلافة رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا نيابة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله )، وابن خلدون يقول: (وأمَّا تسميته خليفة، فلكونه يخلف النبي في أمته فيقال له:

____________________

(١) الدنيا المصوَّرة، عدد ١٣، سنة ١٩٢٩.

(٢) العقد الفريد، ج ٢، ص ٣٧٠.

٣٥

خليفة بإطلاق)(١) وفي موضع آخر يقول: (فهي بالحقيقة خلافة عن صاحب الشرع)(٢) .والظاهر أنَّه لا ريب في أنَّ الخلافة عندهم من الله تعالى، ويرشدنا إلى ذلك قول ابن أبي الحديد المعتزلي في أوَّل خطبة كتابه شرح نهج البلاغة: (الحمد لله الذي قدَّم المفضول على الفاضل) وقول ابن خلدون: (وعندهم أنَّ الله جلّ شأنه كما اختار محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله لدعوة الحق وإبلاغ شريعته المقدَّسة إلى الخلق فقد اختاره لحفظ الدين وسياسة الدنيا) وعندهم أنَّ الخليفة حمى الله في أرضه، اصطفاه الله للحكم بين الناس ؛ يحق له التصرُّف في أموالهم ورقابهم وهو مقدَّس الحكم والعمل، ونحن نعلم أنَّ الخليفة من زمن معاوية حتى آخر دولة بني عثمان - اللهم إلاّ القليل - كان مظهراً من مظاهر الفساد، وعنواناً من عناوين الرذيلة، يرتكب كل رذيلة، ولا يتناهى عن منكر، ويصرف الوقت بين حانات الخمور، وفي أحضان الغواني والغلمان، وفي ذلك يقول الشاعر:

ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا

خليفة الله بين الناي والعود(٣)

وإذن نحن نسأل أحمد أمين وغيره عن النظريتين ؛ أي نظرية الشيعة في علي وأبنائهعليهم‌السلام ونظرية إخواننا أهل السنة في الخلفاء والأمراء، ولا نعلم هل نجد المنصف ليحكم بالحق ويرى أي النظريتين مطابقة لِمَا هو المعقول أو لا نجد؟!

كنت أود أن لا أقف مع إخواننا أهل السنة هذا الموقف الحرج، وكنَّا في فسحة من ذلك، بيد أنَّ صاحب الكتاب ومَن لفَّ لفَّه من المعجبين بتقاليدهم وآرائهم وفيما يكتبون ويقولون، أوقفونا هذا الموقف ؛ لأنهم لم يبقوا في القوس منزعاً، وتفنَّنوا في اضطهاد الشيعة وأسفّوا بعيداً( وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ) .

الآن وقد تبين لك بوضوح أنَّ يد العصبية الأثيمة والتحامل الذميم هي التي سجَّلت تلك العبارة: (فنظرة الشيعة...إلخ) وعلمت أنَّ قيمتها قليلة، فلننظر إلى معنى عقدالجمل؛ أي الجملة التي جعلها أحمد أمين خبر عن المبتدأ، وهي قوله: (هي نظرة آبائهم الأولين في الملوك الساسانيين) فإنَّ الشيعة يختلفون قومية، ففيهم العربي والهندي والتركي والروسي والصيني وفيهم الفارسي، فهل يرى أنَّ كل هذه الأصناف فرس وملوكهم ساسانيون؟ أو أنَّه يرى أنَّ كل شيعي هو ينتمي إلى أصل فارسي فلا محالة يكون متأثراً بالعقيدة الفارسية، بالرغم عن البيئة التي يعيش

____________________

(١) مقدمة ابِّن خلدون، ص ٢١٢.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) لبَشَّار بن بُرد.

٣٦

فيها والطقوس والآداب والأخلاق التي قد تناقض آداب وأخلاق أصله الفارسي؟ كل ذلك تركه هملاً، ولا شك أن هذا جناية تاريخية كبرى على الناشئة المصرية (النبيلة) يقترفها صاحب الكتاب ؛ ذلك أنَّها تنشأ وتشب على جهل أمة يزيد عددها على الثمانين مليوناً وفيها العربي الذي تربطه مع مصر الصلة القومية وفيها الهندي والتركي وغيرهما، وأيُّ نقص أكبر من هذا النقص الذي تراه في مدرِّس الآداب في الجامعة المصرية فإنَّه يجهل كل الجهل تاريخ طائفة من المسلمين نسبتها إليهم الثلث تقريباً، ويجهل أو يتجاهل أن التشيع ظهر في العرب قبل ظهوره بفارس وسترى ذلك مفَّصلاً، وفي سوريا - وهي عربية - ظهر التشيُّع في خلافة عثمان بسبب أبي ذر الغفاريرضي‌الله‌عنه الذي كان داعية لعليعليه‌السلام واستجاب له الكثيرون في جبل عامل ؛ ولهذا السبب وحده استغاث معاوية منه بعثمان، وهذا هو معنى إفساد الشام عليه، وهو السبب في حمل أبي ذر على بعير ظالع بلا وطاء، ولهذا شتم معاوية أبا ذر الذي لم يفارق الحق، وسيمرُّ عليك طرف من ذلك. وأمَّا ظهور التشيع في فارس، فقد كان متأخِّراً جداً، وقد رأيت من قبل أنَّه كان في آخر الدولة الأموية.وأمَّا شيوعه فيها، فكان حول القرن الثامن عن يد العلاّمة الحسن بن المطهَّر الحلِّيرضي‌الله‌عنه ، كل ذلك يجهله مدرِّس الآداب، وكل ذلك له الصلة التامة في الأدب، وإذن الذي نظنُّه أنَّ الناشئة المصرية تتلقَّى من درس الأدب الجهل الفاضح.

ولئن قيل: إنَّ كلام صاحب الكتاب يختص بشيعة الفرس ؛ إذ الكلام في مذاهبهم، قلنا: إنَّ الألف واللام الجنسية الداخلة على لفظة (شيعة) ينافي ذلك، على أنَّ الشيعة (الاثني عشرية) لا يختلفون في المذهب ولا في النظريات ؛ فالفارسي والعربي والهندي سواءٌ من حيث الاعتقاد بعلي وأبنائهعليهم‌السلام .

ثنويَّة الفُرس منبع يستقي منه (الرافضة)

وهنا حديث غريب يوقِّعه صاحب الكتاب على وتر النعرة القومية ويقتفي أثر سلفه وينسج على ذلك المنوال ؛ فهو يستسلم للتقاليد قبل كل شيء وفي كل شيء، فكأنَّه لا يعلم بأنَّه سوف يكون مؤاخذاً في كل ما يكتب وفي كل ما يقول فهو يسترسل وراء النفس الطموحة ووراء تلك العاطفة الممقوتة لا يلوي على شيء، فلقد رأيته يرمي الشيعة بأنَّهم تأثَّروا بعقائد الفرس، وتلو هاتيك الجملة القاسية بلا فصل يقول: (وثنويَّة الفُرس كان منبعاً يستقي منه الرافضة (كذا) في الإسلام فحرَّك ذلك المعتزلة لدفع حجج الرافضة (كذا) وأمثالهم) ولنقف مع أحمد أمين يسيراً للحساب

٣٧

ولنرى ما هي تلك الينابيع التي استقت منها (الرافضة)؟ وما هي تلك الشواذ التي عزَّزها (الرافضة) في الإسلام؟الرجعة ... ويزعم أنَّ الشيعة أخذتها من عبد الله بن سبأ وكان يهودياً،تحريم النار على الشيعة إلاّ قليلاً ... ويزعم أنَّ الشيعة أخذتها عن اليهود،تأليه علي عليه‌السلام ... ويزعم أنَّهم أخذوه عن النصرانية،الصراط والحساب وغيرهما من الأمور التي يعتقد بها سائر المسلمين ... كل ذلك يقرِّره صاحب الكتاب في مواضع من كتابه، وكلَّها ليست من ثنوية الفرس.إذن ما هي تلك الينابيع التي يستقي منها الرافضة ؟ لا ندري ولا صاحب الكتاب يدري.نعم، يبقى هناك شيء آخر هوتناسخ الأرواح وتجسيم الإله ويقرِّر الأستاذ أنَّها عقائد برهمية ومجوسية ظهرت تحت اسم التشيُّع، وهنا محل المثل المشهور: رمتني بدائها وانسلّت ؛ أليس قد أجمع الأشاعرة وغيرهم من فرق أهل السنة خلا المعتزلة أنَّ الله يُرى يوم القيامة؟ ونحن نرجئ الكلام في هذه المسألة إلى محلِّه وسيمر عليك، ولكن يحسن منَّا أن نقول كلمة موجزة هنا هي: إنَّ تجسيم الإله أمر لازم لمقالة أهل السنة الذين أجمعوا أنَّ الله يُرى يوم القيامة، والتستر أنَّه يرى بلا كيفية لا ينفع ؛ لأنَّ ذلك غير معقول.والتجسيم مذهب الحنابلة ولعلماء أهل السنة أقوال مختلفة في التجسيم تنوف على عشرة أقوال حتى قال بعضهم: (اعفوني عن الفرج واللحية وسلوني عمَّا وراء ذلك).

الرافضة تستمدُّ من ابن ديصان

وهناك عبارة ثالثة - والحق أنَّها ثالثة الأثافي - هي قوله: (ومنها استمد الرافضة (كذا) بعض أقوالهم)(ص ١٦٥).

خلاصة ما يرمي الأستاذ به الشيعة: ابن ديصان كان ذا مذهب ديني مزيجاً من الثنوية والنصرانية، وكان ينكر بعث الأجسام ويقول: إنَّ المسيح ليس جسماً حقيقياً، بل صورة شبِّهت للناس، وهناك تعاليم كثيرة لا تنطبق مع الإسلام بقيت بعد ظهور الإسلام ومنها استمد الرافضة.انتهى بتصرُّف منَّا.

أحكام تستوجب الدهشة والاستغراب لم نسمعها من ذي قبل، وهجمات شديدة عنيفة وادعاءات تستوقف الباحث مرتكباً فلا يعلم من أين يلتمس الشاهد والدليل والمثال لتلك الاستمدادات وليس من الممكن الاعتماد على الذوق أو التكهن ؛ إذ لا يؤمن معهما العثرة في البحث... إذن في مثل المقام لابد أن يقف الباحث والمستعلم ليستنزل الوحي أو ينظر (بالمكرسكوب) إلى نفسية أحمد أمين ليعلم ما الذي استمدَّته (الرافضة) من مذهب ابن ديصان؟ وما هي شواهد الاستمداد؟ وما هي الأدلة على هذا الحكم ليكون حقيقة راهنة عند باحث مثقَّف؟

٣٨

والذي نراه على سبيل الظن أنَّ غرض صاحب الكتاب أنَّ (الرافضة) استمدَّت من الديصانية القول بإنكار البعث، وإنْ كان هذا مراده، فما كنَّا نظن أنَّ الهوس يبلغ به إلى هذا الحد ؛ فإنَّ (الرافضة) ترى أن بعث الأجسام من الضروريات الدينية التي نطق بها القرآن، ومنكره كافر بالإجماع والضرورة من مذهبهم، ولا شك بأنَّه ضروري عند سائر الملل التي تنتمي إلى دين من الأديان السماوية، ولم ينكره سوى فرقة الصدوقيين أو الصادوقيين، فإنَّهم أنكروا البعث تمسُّكاً بمبادئ إبيقورس اليوناني.قال العلامة الجليل البحَّاثة الشيخ جواد البلاغي: (فأنكروا خلود النفس وبقاءها بعد الموت كما أنكروا القيامة، بل وأنكروا وجود الأرواح من ملائكة وشياطين، ويقال :إنَّ مبدأ دعوتهم كان نحو المئتين والثمانين سنة قبل المسيح ؛ وقد ساعدهم على هذا الابتداع أنَّ التوراة الرائجة في عهد ابتداعهم... لم تبق فيها النقليات ذكر القيامة)(١) غفرانك اللَّهُم من هذا الافتراء على طائفة لا تبرح تتلو القرآن في آناء الليل وأطراف النهار وقد صدع بالحق بأفصح بيان بثبوت المعاد وبعث الأجسام وأنذر وبشَّر، وأنَّه كائن لا محالة، وكافح الأوهام ودفع الشكوك والخيالات:( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) الشيعة أبرُّ وأتقى من أن تنكر المعاد، وأشد محافظة على أصول الدين وفروعه، وأعلم بمحكم الكتاب ومتشابهه.

ولكي يكون صاحب الكتاب ومَن لفَّ لفَّه على يقين من رأي (الرافضة) في البعث نضرب له مثلاً خلاصة ما ذكره إمام المفسِّرين المحقِّق الطوسي في تفسيره مجمع البيان - وهو من أجل تفاسير الإمامية - في تفسير قوله تعالى:( وَقَالُواْ ) أي منكرو البعث( أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا ) أي بالية إلى حدٍّ صارت غباراً أو تراباً( أَإنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ) بعد تناثر لحومنا وصيرورة عظامنا بالية متحطمة نبعث جديداً!( قُلْ ) يا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم :لا تقتصروا في ضرب المثل على تحطيم العظام، بل( كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ) واجهدوا بأن لا تعودوا، وإن استطعتم أن تكونوا حجارة أو حديداً، فكونوا كذلك ترقِّياً بضرب المَثَل( أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) أي أعظم من ذلك وأصعب ؛ فإنَّكم لا تفوِّتون الله وسيعيدكم أحياء وتردُّون إلى صوركم التي

____________________

(١) الرحلة المدرسية، ج ٣، ص ١٩٢.

٣٩

كنتم عليها، فإذا قلت لهم ذلك( فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ ) يعيدكم القادر( الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) وخلقكم ابتداء بلا مثال وأنشأكم إنشاء بلا روية

أجالها ولا تجربة استفادها، فإنَّ مَن كانت له القدرة على ابتدائكم لا عن مثال فهو أقدر على إعادتكم وإرجاعكم إلى الهيئة التي كنتم عليها، والذي يبلغ بخلقكم إلى ما ترون هل يعزجه إرجاعكم إلى الصور التي كنتم عليها؟) انتهى ملخَّصاً.ولقد قام الإجماع عند الإمامية (الشيعة) على أنَّ البعث حق

ثابت.ومن هنا يعلم صاحب الكتاب أنَّ البعث الجسماني من الضروريات القطعية عندهم، ويا ليته استند في نسبة ذلك إليهم إلى رجل أو امرأة من (الرافضة) أو إلى مؤلَّف من مؤلَّفاتهم، ولكن لا (ويا للأسف) إنَّ أحكامه ودعاويه كلُّها جزافيَّة، لا يؤيِّدها دليل ولا برهان.

والدعاوى إلاّ يقام عليها

بيِّنات أبناؤها أدعياء

وإذن نحن لا نعرف مدَّعيات صاحب الكتاب، وليس علينا ولا على أحد أن يفهم عنديَّاته، فمرة مزدكية ومرة مانيوية وثالثة ثنوية ورابعة ديصانية وخامسة نصرانية ويهودية، كأنَّ الإسلام لم يعرفه سوى أهل السنة؟! فإلى متى هذه المهاجمات والحملات باسم الحقائق؟ ونحن نراعي الوفاق والوئام ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً فلذلك نقف مع أحمد أمين موقف المدافع، ولو أردنا المهاجمة لسردنا له من الحقائق المؤيِّدة بالبرهان القاطع ما يوقفه حائراً، ولا بأس علينا أن نقول: إنْ دام صاحب الكتاب ومَن لفَّ لفَّه من المهوسين المغرورين يتهجَّمون بالأقوال الكاذبة والآراء الفاسدة الزائفة، سوف يلجئوننا إلى المصارحة والمكاشفة بما لا تُحمد معه العاقبة (إنَّ بني عمِّك فيهم رماح).

شخصية عليٍّ يصعب تصويرها

حقَّاً يصعب على كل كاتب مهما كان بليغاً ويصعب على كل مصوِّر مهما كان فناناً ونقَّاشاً أن يصوِّر شخصية يعسوب الدين نفس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وكاشف الكرب عن وجهه عليعليه‌السلام ، إنَّ نفساً عبقرية كبيرة عظيمة، نفساً قدسية ما تقرَّبت إلى اللاّت والعزَّى ولا عبدت غير الله تعالى يستحيل تصويرها.

يقول صاحب الكتاب: (وشخصية رابعة هي أصعب ما يكون تصويراً)( ص ١٧٨) ولا نعرف السبب الذي أوقفه حائراً ومضطرباً أمام هذه الشخصية فلم يستطع أن يلتمس شيئاً من التاريخ ولا من كتب المناقب والسير والرجال ليتعرَّف قيمتها؟! فكلُّها - فيما يزعم - مضطربة مشوَّشة محرَّفة زاد فيها الوضَّاعون، ولعله من القرآن الشريف لم يتمكَّن أن يلتمس شيئاً، لأنَّ الرافضة أزادوا

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143