استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ١

استخراج المرام من استقصاء الإفحام0%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 384

استخراج المرام من استقصاء الإفحام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد علي الحسيني الميلاني
تصنيف: الصفحات: 384
المشاهدات: 156901
تحميل: 7229


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 384 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156901 / تحميل: 7229
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الصَّلاة على غير النبي

قال الرازي في (التفسير الكبير ) :

( إنّ أصحابنا يمنعون من ذكر ( صلوات الله عليه ) وعليه‌السلام إلاّ في حق الرسول

والشّيعة يذكرونه في عليّ وأولاده

واحتجّوا عليه : بأنّ نصّ القرآن دلّ على أنّ هذا الذكر جائز في حقّ من يؤدّي الزكاة ، فكيف يمنع ذكره في حقّ عليّ والحسن والحسين ؟

ورأيت بعضهم يقول : أليس إنّ الرجل إذا قال : سلام عليكم ، فقيل له : وعليكم السلام ، فدلّ هذا على أنّ ذكر هذا اللفظ جائز في حقّ جمهور المسلمين ، فكيف يمنع ذكره في حقّ أهل بيت الرسول ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ ؟ ) .

الصّلاة على غير النبي من بدع الشيعة ؟

بل ذكر بعضهم أنّ هذا ، أي الصّلاة على غير الأنبياء ، من بدع الشيعة ، فتجب مخالفتهم ، قال القاضي عياض :

( والذي ذهب إليه المحقّقون ـ وأميل إليه ـ ما قاله مالك وسفيان ـ رحمهما الله ـ وروي عن ابن عبّاس ، واختاره غير واحدٍ من الفقهاء والمتكلّمين : إنّه لا يصلّى على غير الأنبياء عند ذكرهم ، بل هو شيء يختصّ به الأنبياء توقيراً لهم وتعزيزاً ، كما يخصّ الله عند ذكره بالتنزيه والتقديس والتعظيم ، ولا يشاركه فيه غيره ، وكذلك يجب تخصيص النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر الأنبياء بالصلاة والتسليم ، ولا يشارك فيه سواهم ، كما أمر الله به بقوله تعالى :( صَلّوا عَلَيْهِ وَسَلّمُوا تَسْلِيماً ) ، ويذكر من سواهم من الأئمّة وغيرهم بالغفران والرضا ، كما قال تعالى :

( يَقُولُونَ رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ ) وقال :( وَالّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ ) .

وأيضاً : فهو أمر لم يكن معروفاً في الصدر الأوّل ، كما قال أبو عمران ، وإنّما أحدثته الرافضة والمتشيّعة في بعض الأئمّة ، فشاركوهم عند الذكر لهم بالصّلاة ، وساووهم بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك .

٢٨١

وأيضاً ، فإنّ التشبّه بأهل البدع منهيّ عنه ، فتجب مخالفتهم فيما التزموه )(١) .

أقول :

الأحاديث المتفق عليها في أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصّلاة على أهل بيته مع الصّلاة عليه ، ونهيه عن الصّلاة البتراء كثيرة ...(٢) ، بل مقتضى قوله تعالى :( وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) هو جواز الصلاة ـ بمعنى طلب الرحمة ـ لسائر المسلمين المستحقّين لذلك ، والذين هم أهل للدعاء لهم ...

لكنّ من نفس هذه الكلمات يظهر أنْ ليس هذا المنع منهم إلاّ تعصّباً وعناداً لأهل البيت وشيعتهم وإلاّ فأيّ معنى للصّلاة على الجارية المليحة وعلى كلّ مليح كما عن إمامهم يحيى بن معين !!

ـــــــــــــــــ

(١) الشفا بتعريف حقوق المصطفى ٢ : ١٩١ ـ ١٩٢ .

(٢) أخرجها البخاري ومسلم وسائر أرباب السنن والمسانيد والمفسّرون بتفسير الآية :( إِنّ اللّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلّونَ عَلَى النّبِيّ ) ولعلّ أجمعها ( الدر المنثور ٥ : ٢١٥ ـ ٢١٩ ) وفي ( الصواعق ) بذيل الآية : ويروى : لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء ، فقالوا : وما الصلاة البتراء ؟

قال تقولون : اللهمّ صلّ على محمّد ، وتمسكون ، بل قولوا : اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد .

٢٨٢

ويحيى بن معين يقول في جاريةٍ : صلّى الله عليك !

قال ابن الجوزي في (تلبيس إبليس ) :

( وجاء محمّد بن طاهر المقدسي فصنّف لهم ـ أي للصوفيّة ـ صفة التصوّف ، فذكر فيه أشياء يستحيي العاقل من ذكرها ، وسنذكر منها ما يصلح ذكره في مواضعه إن شاء الله تعالى

وكان شيخنا أبوالفضل ابن ناصر الحافظ يقول : كان ابن طاهر يذهب مذهب الإباحة ، قال : وقد صنّف كتاباً في جواز النظر إلى المرد ، وأورد فيه حكايةً عن يحيى بن معين : رأيت جاريةً بمصر مليحة صلّى الله عليها ، فقيل له : تصلّي عليها ؟! فقال : صلّى الله عليها وعلى كلّ مليح )(١) .

لكنّ محمّد بن طاهر المقدسي عندهم من كبار الحفّاظ ، وقد أثنوا عليه بالغ الثناء ...(٢) ، فلماذا هذا التناقض ؟

على أنّ صلاة يحيى بن معين هذه رواها سائر الأكابر أيضاً ، ففي (تهذيب الكمال ) :

( قال الحسين بن محمّد : سمعت يحيى بن معين ، وذكر عنده حسن الجواري ، قال : كنت بمصر ، فرأيت جاريةً بيعت بألف دينار ما رأيت أحسن منها صلّى الله عليها

فقلت : يا أبا زكريا ! مثلك يقول هذا ؟

قال : نعم ، صلّى الله عليها وعلى كلّ مليح )(٣) .

ـــــــــــــــــ

(١) تلبيس إبليس : ١٩٠ .

(٢) انظر : سِيَر أعلام النبلاء ١٩/٣٦١ ومصادر ترجمته في الهامش .

(٣) تهذيب الكمال في أسماء الرجال : ٥٦١/٦٩٢٦ .

٢٨٣

وقال بعضهم في يزيد : عليه السلام !!!

والعجب أنّهم يقولون ليزيد بن معاويةعليه‌السلام ويجعلون إنكار ذلك دليلاً على الترفّض !!

قال الصفدي بترجمة إبراهيم بن أبي بكر بن عبد العزيز من (الوافي بالوفيات ) :

( وكان يترفَّض قيل : إنّه جاء إليه إنسان في بعض الأيّام ، وقال له : هل عندك كتاب فضائل يزيدعليه‌السلام ؟

فقال : نعم ، ودخل إلى داخل الدكّان وخرج وفي يده جراب عتيق وجعل يضربه على رأسه ، ويقول : العجب كم لك ما قلتصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويكرّرها )(١) .

الأقوال والأدلّة كما ذكر ابن حجر

لكنّ القوم في حكم المسألة مختلفون ، فعندهم قول بالجواز مطلقاً ، وهو المحكي عن أحمد وأبي حنيفة وجماعة قال ابن حجر في (فتح الباري ) :

( وأمّا المؤمنون فاختلف فيه :

فقيل : لا يجوز إلاّ على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة ؛ حكي عن مالك كما تقدّم .

وقالت طائفة : لا يجوز مطلقاً استقلالاً ويجوز تبعاً فيما ورد به النصّ أو أُلحق به ؛ لقوله تعالى :( لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً ) ؛ ولأنّه لمّا علّمهم السلام ، قال : السلام علينا وعلى عباده الصالحين ، ولمّا علّمهم الصلاة قصّر عليه وعلى أهل بيته ؛ وهذا القول اختاره القرطبي في المفهم وأبو المعالي من الحنابلة ، وقد تقدّم في تفسير سورة الأحزاب ، وهو اختيار ابن تيميّة من المتأخّرين .

ـــــــــــــــــ

(١) الوافي بالوفيات ٥ : ٣٣٩/٢٤٠٧ .

٢٨٤

وقال طائفة : يجوز مطلقاً ، وهو مقتضى صنيع البخاري ، فإنّه صدّر بالآية وهو قوله تعالى :( وَصَلِّ عليهم ) ، ثمّ علّق الحديث الدالّ على الجواز مطلقاً ، وعقّبه بالحديث الدالّ على الجواز تبعاً :

فأمّا الأوّل ، وهو حديث عبد الله بن أبي أوفى ، فتقدّم شرحه في كتاب الزكاة ، ووقع مثله عن قيس بن سعد بن عبادة أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رفع يديه وهو يقول : اللّهمّ اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة ؛ أخرجه أبو داود والنسائي ، وسنده جيّد .

وفي حديث جابر : إنّ امرأته قالت للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : صلّ علَيّ وعلى زوجي ، ففعل أخرجه أحمد مطوّلاً ومختصراً ، وصحّحه ابن حبّان .

وهذا القول جاء عن الحسن ومجاهد ، ونصّ عليه أحمد في رواية أبي داود ، وبه قال إسحاق وأبو ثور وداود والطبري ، واحتجّوا بقوله تعالى :( هُوَ الّذِي يُصَلّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ ) .

وفي صحيح مسلم ، من حديث أبي هريرة مرفوعاً : إنّ الملائكة تقول لروح المؤمن : صلّى الله عليك وعلى جسدك .

وأجاب المانعون عن ذلك كلّه : بأنّ ذلك صدر من الله ورسوله ، ولهما أن يخصّا من شاءا بما شاءا ، وليس ذلك لأحد غيرهما .

وقال البيهقي : يحمل قول ابن عبّاس بالمنع إذا كان على وجه التعظيم ، لا ما إذا كان على وجه الدعاء بالرحمة والبركة .

وقال ابن القيّم : المختار أن يصلّى على الأنبياء والملائكة وأزواج النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وآله وذرّيّته وأهل الطاعة ، على سبيل الإجمال ، ويكره ـ في غير الأنبياء ـ لشخص مفرد بحيث يصير شعاراً ، ولا سيّما إذا ترك في حقّ مثله أو أفضل منه كما يفعله الرافضة ، فلو اتّفق وقوع ذلك منفرداً في بعض الأحايين ، من غير أن يتّخذ شعاراً ، لم يكن به بأس ، ولهذا لم يرد في حقّ غير من أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقول ذلك لهم ، وهم من أدّى زكاته إلاّ نادراً ، كما في قصّة زوجة جابر وآل سعد بن عبادة )(١) .

ـــــــــــــــــ

(١) فتح الباري في شرح البخاري ١١ : ١٤٢/ باب هل يُصلّى على غير النبي ؟

٢٨٥

بل لقد وضعوا في ذلك حديثاً ، رواه المحبّ الطبري في (الرياض النضرة ) :

( عن يخامر السكسكي : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : اللّهمّ صلّ على أبي بكر ؛ فإنّه يحبّك ويحبّ رسولك ، اللّهمّ صلّ على عمر ؛ فإنّه يحبّك ويحبُّ رسولك ، اللّهمّ صلّ على عثمان ؛ فإنّه يحبّك ويحبّ رسولك ، اللّهمّ صلّ على أبي عبيدة بن الجرّاح ؛ فإنّه يحبّك ويحبّ رسولك ، اللّهمّ صلّ على عمرو بن العاص ؛ فإنّه يحبّك ويحبّ رسولك أخرجه الخلعي )(١) .

وهو حديث موضوع قطعاً ، لوجوه :

منها : عدم ذكر أمير المؤمنينعليه‌السلام فيه .

ومنها : ما ثبت من كون ( عمرو بن عاص ) مطعوناً في دينه ، حتّى اعترف بذلك الدهلوي في (التحفة ) وكان ملعوناً على لسان النبي الأُمّي :

قال الحافظ أبو يعلى في (مسنده ) :

( ثنا علي بن المنذر ، ثنا ابن فضيل ، ثنا يزيد بن أبي زياد ، عن سليمان ابن عمرو بن الأحوص ، عن أبي برزة ، قال : كنّا مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسمع صوت غناء ، فقال : أُنظروا ما هذا ؟

ـــــــــــــــــ

(١) الرياض النضرة ١ : ٢٢٩ ـ ٢٣٠/٥٩ الباب الثالث .

٢٨٦

فصعدت فنظرت ، فإذا معاوية وعمرو بن العاص يغنّيان ، فجئت فأخبرت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : اللّهمّ أركسهما في الفتنة ركساً ، اللّهمّ دعّهما إلى النّار دعّاً )(١) .

وأخرجه أحمد في (مسنده ) عن عبد الله بن محمّد عن أبي فضيل ...(٢) .

وقال الطبراني في (المعجم الكبير ) :

( ثنا أحمد بن علي بن الجارود الأصبهاني ، ثنا عبد الله بن سعيد الكندي ، ثنا عيسى بن الأسود النخعي ، عن ليث بن طاووس ، عن ابن عبّاس قال : سمع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صوت رجلين يغنّيان وهما يقولان ...

فسأل عنهما فقيل له : معاوية وعمرو بن العاص .

فقال : اللّهمّ أركسهما في الفتنة ركساً ودعّهما إلى النّار دعّاً )(٣) .

هذا ، مع ماله من المطاعن الكثيرة ، ككونه من المؤلّيين على عثمان(٤) وكمواقفه من أمير المؤمنينعليه‌السلام في صفّين .

وهو أيضاً مطعون في نسبه .

فالحديث المذكور موضوع قطعا ً...

وكذلك سائر الأحاديث الأخرى الواردة في كتبهم في مدحه(٥) .

ـــــــــــــــــ

(١) مسند أبي يعلى ١٣: ٤٢٩ ـ ٤٣٠ ـ ٧٤٣٦ ، وفيه : ( فلان وفلان ) !!

(٢) مسند أحمد بن حنبل ٥ : ٥٨٠/١٩٢٨١ ، وفيه : ( فلان وفلان ) !!

(٣) المعجم الكبير ١١ : ٣٨/١٠٩٧٠ ، وفيه التصريح باسمهما .

(٤) الاستيعاب، بترجمته ٣ : ١١٨٧ ، وانظر ترجمة محمد بن أبي حذيفة ، وعبدالله بن أبي سرح .

(٥) كنز العمّال ١٣ : ٥٤٨ .

٢٨٧

الجبر والاختيار

هل أفعال العباد واقعة بقدرة الباري وحدها ؟

قد نسب هذه العقيدة إلى الأشاعرة علماء أهل السنّة ، وانتقدها بعضهم :

قال الشيخ كمال الدين السهالي ـ من كبار علماء الهند ـ في كتاب (العروة الوثقى ) في مسألة الجبر والاختيار :

( فاعلم إنّ هاهنا مذاهب :

الأوّل : مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري من الشافعيّة : إنّ أفعال العباد واقعة بقدرته تعالى وحدها ، وليس لهم تأثير ، بل الله سبحانه أجرى عادته بأن يخلقها في العبد عندما كسبها ، والمعنيّ بكسب العبد لفعله مقارنته لقدرته وإرادته ، وإنّما قدرته وإرادته منه تعالى كسائر مخلوقاته ، فرجع قولهم إلى وجود القدرة الوهميّة مع الفعل ، ولا مدخل للعبد في فعله إلاّ كونه محلاًّ له ؛ فالفعل مخلوق الله تعالى إبداعاً ، وإحداثاً مكسوب العبد فقط .

الثاني : مذهب أبي منصور الماتريدي من الحنفيّة ، وهو بعينه مذهب الأشعري ، إلاّ أنّهم قالوا : الكسب صرف القدرة إلى العزم المصمّم للفعل ، فقالوا : إنّ للقدرة الكاسبة تأثيراً في العزم المذكور ، ويخلق الله تعالى الفعل عقيبه بالعادة .

فقال بعضهم : العزم من الأحوال وليس بموجود ، فإحداثه ليس بخلق والإحداث أهون من الخلق ، فحينئذٍ ، لا حاجة إلى تخصيص النصوص الدالّة على عموم الخلق منه تعالى ، نحو( اللّهُ خَالِقُ كُلّ شَيْ‏ءٍ ) و ( خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) .

وقال بعضهم : بل موجود ، فيجب التخصيص بالعقل ؛ لأنّه أدنى ما يتحقّق به فائدة خلق القدرة ، ويصحّ اتّجاه التكليف شرطاً .

الثالث : مذهب المعتزلة ، وهو أنّها واقعة بقدرة العبد وحدها على الاستقلال .

والرابع : ما قال جماعة أنّها بالقدرتين معاً .

والخامس : مذهب الحكماء وإمام الحرمين وأبي الحسين : أنّها واقعة على سبيل الوجوب ، بقدرة يخلقها الله تعالى في العبد إذا قارنت الشرائط وارتفعت الموانع ، وليس ببعيد ، لكنّه راجع بالآخرة إلى مذهب المعتزلة كما يظهر بالتأمّل .

٢٨٨

وهاهنا مذهب سادس ، وهو مذهب الجهميّة ، وهو : أنّه لا قدرة للعبد ولا دخل له أصلاً ، بل هو كالجماد ، فمع أنّه سفسطة يلزم عدم اتجاه التكاليف الشرعيّة ، فإنّ العقل يقطع بامتناع تعلّق العقاب بالفعل الواجب أو الممتنع من الفاعل ، بل يلزم نسبة الظلم إليه ، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً و ( أَنّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ ) و( لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْساً إلاّ وُسْعَهَا ) .

والمذهب الرابع يوجب توارد المؤثّرين المتلازمين على أثر واحد ، إن أرادوا أنّ القدرتين مستقلّتان في التأثير ، وإن أرادوا أنّ إحداهما مستقلّة بالفاعليّة والأُخرى من الشرائط ، فيرجع إلى مذهب المعتزلة أو أحد الأوّلين .

احتجت المعتزلة : تارةً بالنصوص الدالّة على عموم نسبة الخلق إليه تعالى وقد مرّ ، وتارةً : بأنّه لو لا استقلال العبد في أفاعيله ، لبطل التكليف بالأمر والنهي ، ولم يصحّ الثواب والعقاب والمدح والذم ، بل ينتفي فائدة البعثة ؛ لأنّ العبد حينئذٍ إمّا لا دخل له أصلاً ، فيرجع إلى مذهب الجبريّة ، وإمّا له دخل ناقص باعتبار أنّه محلّ القدرة الغير المؤثّرة التي خلق الله تعالى الفعل فيه مقارناً إيّاها ، فمناط ذلك الفعل وموجده وخالقه ليس إلاّ هو ، فإنّما عاقب على ما خلقه ، فذلك أيضاً يوجب تلك النسبة الباطلة .

والحلّ عنها على طريق الحنفيّة : إنّ العبد لمّا كان كاسباً لفعله ، كما عرفت وسيجيء تحقيقه كما هو ، وأجرى الله عادته أن يخلق الفعل عقيبه ولا يخلق عند عدم كسبه ، فذلك مناط العقاب ، ولا يلزم إذاً فساد اتّجاه التكليف ، ومن هاهنا صحّ انتساب أفعال العباد إليهم ؛ وذلك هو المناط في اللّغة والعرف ، لا يوجب أن يكون الفاعل خالقاً لفعله ، نعم ، يلزم الأشاعرة القائلين بالقدرة الوهميّة تلك النسبة الباطلة ، ولذلك قيل إنّها كفؤ للجبر ) .

فقد صرّح بلزوم الظلم على مذهب الأشاعرة .

٢٨٩

وقال أيضاً :

( ولابدّ هاهنا من تمهيد مقدّمات :

منها : إنّ حسن الأفعال وقبحها عقلي ، على المذهب المنصور ، وهو مذهب أبي منصور الماتريدي، بناءً على بطلان الترجيح بلا مرجّح ، فإن جعل بعض الأفعال مناطاً للثواب والمدح ، والبعض الآخر مناطاً للعقاب والذم بلا موجب مرجّح من ذاتها ، مستحيل قطعاً ، والصانع الحكيم لا يرجّح المرجوح بل المساوي

وبالجملة : حكمة الأمر قاضية بأنّ تخصيصات الأفعال بثمراتها لابدّ لها من مرجّح من ذواتها ، وقد بيّن في موضعه ، وما أحسن ما قال الشيخ الأكبر محي الدين بن علي العربي في بعض مصنّفاته : لو لم يكن للأفعال خصوصيّة داعية إلى ثمراتها المخصوصة بها ، ويكون الأفعال التي على هوى النفس ، والتي على خلاف هواها سواسية في تعلّق ثمراتها بها ، يلزم نسبة الظلم إليه ، تعالى الله عن ذلك ، فإنّ الطّاعات الواجبة كلّها على خلاف هوى النفس ، ولذا قالعليه‌السلام :( أفضل العبادات أحمزها ) ، بل الفعل خلاف الهوى عين الطاعة ، والمعاصي كلّها على وفاق هواها ، بل وفاق الهوى نفس المعصية ، وإذا كانت الطاعات متساوية النسبة في الواقع ، بجعلها مناطاً للثواب والعقاب ، وكذا المعاصي بجعلها مناطاً لها ، فتحريم المعاصي بكفّ النفس عن الشهوات في الدنيا ، وإيجاب الطاعات بقهر النفس فيها بلا ضرورة باعثةٍ ظلم ؛ لأنّه حبس النفس عن الشهوات وإقحامها في القهر في الدنيا بلا فائدة ، ولو عكس الله الأمر لفاز العبد بالراحتين في الأُولى والآخرة ) .

وهكذا قال صاحب (مسلّم الثبوت ) وشارحه ، وهما من أعاظم المحقّقين ، فقد جاء في (فواتح الرحموت ) ما نصّه :

( وعند أهل الحق ، أصحاب العناية ، الذين هم أهل السنّة ، الباذلون أنفسهم في سبيل الله بالجهاد الأكبر ، له قدرة كاسبة فقط لا خالقة ، لكن عند الأشعريّة من الشافعيّة ليس معنى ذلك الكسب إلاّ وجود قدرة متوهّمة يتخيّلها الشخص قدرةً مع الفعل بلا مدخليّة لها أصلاً في شيء ، فعندهم إذا أراد الله تعالى أن يخلق في العبد فعلاً ، يخلق أوّلاً صفةً يتوهّم أوّل الأمر أنّها قدرة على شيء ، ثمّ يوجّه الله تعالى إلى الفعل ثمّ يوجد الفعل ، فنسبة الفعل إليه كنسبة الكتابة إلى القلم

٢٩٠

قالوا: ذلك كافٍ في صحّة التكليف .

والحقّ : أنّه كفؤ للجبر ، وهو ظاهر ، فإنّه متى لم يكن في العبد قدرة حقيقة ، فأيّ فرق بينه وبين الجماد )(١) .

مذهب الأشعريّة عين مذهب الجهميّة

فهذا الكلام صريح في أنّ مذهب الأشعرية عين مذهب الجهميّة ، وهو الجبر ، وهذا عين السفسطة كما صرّح في (فواتح الرحموت ) :

( عند الجهميّة الذين هم الجبريّة حقّاً ، لا قدرة للعبد أصلاً على الكسب ولا على الإيجاد ، بل هو كالجماد الذي لا يقدر على شيء ، وهذا سفسطة ، فإنّ كلّ عاقلٍ يعلم من وجدانه أنّ له نحواً من القدرة ، والذي شجّعهم على هذه السفسطة رواية نصوص خلق الأعمال ، ولم يتعمّقوا فيها )(٢) .

وقال نظام الدين في (شرح مسلّم الثبوت ) :

( وعند أهل الحق له ، أي للعبد ، قدرة كاسبة ، لكن عند الأشعريّة ليس معنى ذلك ، أي وجود القدرة الكاسبة له ، إلاّ وجود قدرة متوهّمة مع الفاعل بلا مدخليّة للعبد أصلاً ،وحاصله : أنّ العبد ليس له قدرة ولا لا قدرة ولا دخل ، بل بين الفعل والعبد ليس علاقة إلاّ علاقة المحليّة والحاليّة ، كالسواد القائم بجسم غير مقتض له .

قالوا أي الأشعريّة : إنّ ذلك ، أي وجود قدرة متوهّمة ، كافٍ في التكليف .

والحقّ : إنّه كفؤ للجبر عند التحقيق ، فهم وإن احترزوا عن الجبر لفظاً ، لكن قلوبهم به مؤمنة ، إذ ليس نسبة الفعل إلى العبد نسبة الفاعليّة ولا نسبة الشرطيّة ، فلا علاقة بينهما ، فالعبد كالسكين لله تعالى ، وهذا هو الجبر حقيقة

ثمّ اكتفاؤهم بهذه القدرة التي اخترعوها في التكليف ـ أيضاً ـ غير معقول ، لكن يتأتّى على أصلهم ، فإنّ تكليف العاجز جائز عندهم ، ثمّ إنّهم وإن قالوا بجواز

ـــــــــــــــــ

(١) فواتح الرحموت ـ شرح مسلّم الثبوت ١ : ٤١ .

(٢) فواتح الرحموت ١ : ٤٠ .

٢٩١

تكليف الإنسان بما لا يطيقه لكن منعوا وقوعه ، ولم يدروا أنّ كلّ تكليفٍ فإنّه تكليفٌ بالمحال ؛ فإنّه لا فرق بين إيجاب الحركة على المرتعش وبين إيجابه على غيره ، وكذا النهي للأعمى عن البصر ونهي الكفّار عن الكفر ، ولا يعرّج عليه عاقل ، واعتذر عنه بما لا ينفع ) .

كلمات ابن تيميّة في المسألة

ومن جملة من حطّ على مذهب الأشاعرة ، وردّ عليه بشدّةٍ ، هو : ابن تيميّة الحرّاني ، إذ قال في جواب العلاّمة الحلّي (رحمه‌الله ) :

( جمهور أهل السنّة المثبتة للقدر من جميع الطوائف يقولون : إنّ العبد فاعلٌ حقيقة ، وإنّ له قدرة حقيقة ، واستطاعة حقيقة ، وهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعيّة ، بل يقرّون بما دلّ عليه العقل ، من أنّ الله تعالى يخلق السحاب بالرياح وينزل الماء من السحاب ، وينبت النبات بالماء ، ولا يقولون أنّ قوى الطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها ، بل يقرّون أنّ لها تأثيراً لفظاً ومعنى ، حتّى جاء لفظ الأثر في مثل قوله تعالى :( وَنَكْتُبُ مَا قَدّمُوا وَآثَارَهُمْ ) ، وإن كان التأثير أعمّ منه في الآية ، لكن يقولون هذا التأثير هو تأثير الأسباب في مسبّباتها ، والله تعالى خالق السبب والمسبّب ، ومع أنّه خالق السبب فلابدّ له من سبب آخر يشاركه ، ولابدّ له من معارض يمانعه ، فلا يتمّ أثره إلاّ مع خلق الله له لا به ، بأن يخلق الله تعالى السبب الآخر ويزيل الموانع .

ولكنّ هذا القول الذي حكاه هو قول بعض المثبتة للقدر ، كالأشعري ومَن وافقه من الفقهاء ، من أصحاب مالك والشافعي وأحمد ؛ حيث لا يثبتون في المخلوقات قوى الطبائع ، ويقولون إنّ الله تعالى فعل عندها لا بها ، ويقولون إنّ قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل

وأبلغ من ذلك قول الأشعري : إنّ الله فاعل فعل العبد ، وإنّ عمل العبد ليس فعلاً للعبد بل كسباً له ، وإنّما هو فعل الله تعالى فقط ، وجمهور الناس من أهل السنّة من جميع الطوائف على خلاف ذلك ، وإنّ العبد فاعل لفعله حقيقة ، والله أعلم )(١) .

ـــــــــــــــــ

(١) منهاج السنّة ١ : ٣٨٢ ـ ٣٨٣ .

٢٩٢

 ( وأمّا قوله : وإنّ الله تعالى يريد المعاصي من الكافر ولا يريد منه الطاعة

فهذا قول طائفة منهم ، وهم الذين يوافقون القدريّة ، فيجعلون المشيّة والإرادة والمحبّة والرضا نوعاً واحداً ، ويجعلون المحبّة والرضا والغضب بمعنى الإرادة ، كما يقول ذلك الأشعري في المشهور عنه وأكثر أصحابه ، وطائفة ممّن يوافقهم من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد .

وأمّا جمهور أهل السنّة من جميع الطوائف وكثير من أصحاب الأشعري ، فيفرّقون بين الإرادة والمحبّة والرضا ، فيقولون إنّه وإن كان يريد المعاصي فهو سبحانه لا يحبّها ولا يرضاها ، بل يبغضها ويسخطها وينهى عنها ، وهؤلاء يفرّقون بين مشيّة الله تعالى وبين محبّته ، وهذا قول السلف قاطبة ، وقد ذكر أبو المعالي الجويني أنّ هذا قول القدماء من أهل السنّة ، وأنّ الأشعري خالفهم ، فجعل الإرادة هي المحبّة فيقولون ، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، فكلّما شاءه فقد خلقه )(١) .

وإذا كان الله ـ والعياذ بالله ـ يرضى بأنواع المعاصي ، وأقسام الظلم والضلال ، فلا ريب في نسبة الظلم إليه سبحانه وتعالى ...

وفي (منهاج السنّة ) أيضاً :

( والقول الثاني : إنّ الظلم مقدور والله تعالى منزّه عنه ، وهذا قول الجمهور من المثبتين للقدر ونفاته ، وهو قول كثير من النظّار المثبتة للقدر ، كالكراميّة وغيرهم ، وكثير من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم ، وهو قول القاضي أبي حازم ابن القاضي أبي يعلى وغيره ، وهذا كتعذيب الإنسان بذنب غيره ، كما قال الله تعالى :( فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يخاف ظلماً ولا هضماً ) ، وهؤلاء يقولون : الفرق بين تعذيب الإنسان على فعله الاختياري وغير فعله الاختياري مستقر في فطر العقول ، فإنّ الإنسان لو كان له في جسمه برص أو عيب خلق فيه ، لم

ـــــــــــــــــ

(١) منهاج السنّة ١ : ٣٨٣ ـ ٣٨٤ .

٢٩٣

يستحسن ذمّه ولا عقابه على ذلك ، ولو ظلم ابنه أحد يحسن عقابه على ذلك ، ويقولون : الاحتجاج بالقدر على الذنوب ممّا يعلم بطلانه بضرورة العقل ، فإنّ الظالم لغيره لو احتج بالقدر لاحتجّ ظالمه أيضاً بالقدر ، فإن كان القدر حجّة لهذا فهو حجّة لهذا وإلاّ فلا ، والأوّلون ـ أيضاً ـ يمنعون الاحتجاج بالقدر ، فإنّ الاحتجاج به باطل باتفّاق أهل الملل وذوي العقول ، وإنّما يحتجّ به على القبائح والمظالم من هو متناقض القول ، متّبعٌ لهواه ، كما قال بعض العلماء : أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري مذهب وافق هؤلاء تمذهبت به ، ولو كان القدر حجّة لفاعل الفواحش والمظالم ، لم يحسن أن يلوم أحدٌ أحداً ، ولا يعاقب أحدٌ أحداً ، وكان للإنسان أن يفعل في دم غيره وماله وأهله ما يشتهيه من المظالم والقبائح ، ويحتجّ بأنّ ذلك مقدّرٌ عليه )(١) .

وقال ابن تيمية :

( بقي الخلاف بين القدريّة الذين يقولون : إنّ الداعي يحصل في قلب العبد بلا مشيّة من الله ولا قدرة ، وبين الجهميّة المجبّرة الذين يقولون : إنّ الداعي قدرة العبد ولا تأثير لها في فعله بوجهٍ من الوجوه ، وإنّ العبد ليس فاعلاً لفعله ، كما يقول ذلك جهم بن صفوان ، إمام المجبّرة ومَن اتّبعه ، وإن أثبت أحدهم كسباً لا يعقل ، كما أثبته الأشعري ومن وافقه ، وإذا كان هذا النزاع في هذا الأصل بين القدريّة النفاة لكون الله يعين المؤمنين على الطاعة ، ويجعل فيهم داعياً إليها ويخصّهم بذلك دون الكافر ، وبين المجبّرة الغلاة الذين يقولون : إنّ العباد لا يفعلون شيئاً ولا قدرة لهم على شيء ، أو لهم قدرة لا يفعلون بها شيئاً ولا تأثير لها في شيء ، فكلا القولين باطل ) .

ثمّ قال بعد كلامٍ له :

( وهذا حقيقة مذهب أهل السنّة الذين يقولون : إنّ الله خالق الأشياء بالأسباب ، والله خلق العبد وقدرة يكون بها فعله ، فإنّ العبد فاعل لفعله حقيقة ، فقولهم في خلق فعل العبد بإرادة وقدرة كقولهم في خلق سائر الحوادث بأسبابها ، ولكن ليس هذا قول من ينكر الأسباب والقوى التي في الأجسام ، وينكر تأثير القدرة التي بها يكون الفعل ، ويقول : إنّه لا أثر لقدرة العبد أصلاً في فعله ، كما يقول ذلك من يقول بقول جهم وأتباعه

ـــــــــــــــــ

(١) منهاج السنّة ١ : ٣٨٧ .

٢٩٤

والأشعري ومن وافقه ، وليس قول هؤلاء قول أئمّة السنّة ولا جمهورهم ، بل أصل هذا القول هو قول جهم بن صفوان ، فإنّه كان يثبت مشيّة الله تعالى وينكر أن يكون له حكمة أو رحمة ، وينكر أن يكون للعبد فعل أو قدرة مؤثّرة ، وحكي عنه أنّه كان يخرج إلى الجذماء ، ويقول : أرحم الراحمين يفعل هذا ؟ إنكاراً لأن تكون له رحمة يتّصف بها ، وزعماً منه أنّه ليس إلاّ مشيّة محضة لا اختصاص لها بحكمة ، بل يرجّح أحد المتماثلين بلا مرجّح ، وهذا قول طائفة من المتأخّرين ، وهؤلاء يقولون أنّه لم يخلق لحكمة ولم يأمر لحكمة ، وأنّه ليس في القرآن لام كي لا في خلق الله ولا في أمره ، وهؤلاء الجهميّة المجبّرة هم والمعتزلة والقدريّة في طرفين متقابلين ، وقول سلف الأُمّة وأئمّة السنّة وجمهورها ليس قول هؤلاء ، وإن كان كثير من المثبتين للقدر يقول بقول جهم )(١) .

وقال :

( ومن وافق جهم بن صفوان من المثبتين للقدر على أنّ الله لا يفعل شيئاً لحكمة ولا لسبب ، وأنّه لا فرق بالنسبة إلى الله بين المأمور والمحظور ، ولا يحب بعض الأفعال ولا يبغض بعضها ، فقوله فاسد ، مخالف للكتاب والسنّة واتّفاق السلف ، وهؤلاء قد يعجزون عن بيان امتناع كثير من النقائص عليه ، لا سيّما إذا قال من قال منهم أنّ تـنزيهه عن النقص لم يُعلم بالعقل بل بالسمع ، فإذا قيل لهم : لم قلتم إنّ الكذب ممتنع عليه ؟

قالوا : لأنّه نقص والنقص عليه محال ، فيقال لهم : عندكم أنّ تنزيهه عن النقص لم يُعلم بالعقل بل بالسمع ، فإذا قيل لهم : لم قلتم إنّ الكذب ممتنع عليه ؟

قالوا : لأنّه نقصٌ والنقص عليه محال ، فيقال لهم : عندكم أنّ تنزيهه عن النقص لم يُعلم إلاّ بالإجماع ، ومعلوم أنّ الإجماع منعقد على تنزيهه عن الكذب ، فإن صحّ الاحتجاج على هذا بالإجماع ، فلا حاجة إلى هذا التطويل .

وأيضاً : فالكلام إنّما هو في العبارة الدالّة على هذا المعنى ، وهذا كما قاله بعضهم : إنّه لا يجوز أن يتكلّم ولا يعني به شيئاً وقال خلافاً للحشويّة ، ومعلومٌ أنّ هذا القول لم

ـــــــــــــــــ

(١) منهاج السنّة ١ : ٣٩١ .

٢٩٥

يقله أحدٌ من المسلمين ، وإنّما النزاع في أنّه هل يجوز أن ينزّل كلاماً لا يعلم العباد معناه ، لا أنّه هو في نفسه لا يعني به شيئاً ، ثمّ بتقدير أن يكون في هذا نزاع ، فإنّه احتجّ على ذلك بأنّه عيب والعيب على الله ممتنع ، وهذا المحتجّ يجوّز على الله فعل كلّ شيء ، لا ينزّهه عن فعل هذا

وأمثاله من تناقض الموافقين لقول الجهميّة الجبريّة في القدر كثير ، لكن ليس هذا قول أئمّة السنّة ولا جمهورهم ) .

وذكر ابن تيمية في الجواب عن لزوم عدم الرضا بقضاء الله ـ بناءً على قول أهل السنّة ـ ثلاثة وجوه ، ثمّ قال :

( وقد أجاب بعضهم بجواب آخر ، وهو : إنّا لا نرضى بالقضاء لا بالمقضي ، وقد أجاب بعضهم بجوابٍ آخر : إنّا نرضى بها من جهة كونها خلقاً ، ونسخطها من جهة كونها كسباً ، وهذا يرجع إلى الجواب الثالث ، لكن في إثبات الكسب إذا لم يجعل العبد فاعلاً فيه كلام قد ذكر في غير هذا الموضع ، فالذين جعلوا العبد كاسباً غير فاعل ـ من أتباع جهم بن صفوان وحسين النجار ، كأبي الحسن وغيره ـ كلامهم متناقض ، ولهذا لم يمكنهم أن يذكروا في بيان هذا الكسب والفرق بينه وبين الفعل كلاماً معقولاً ، بل تارةً يقولون : هو المقدور بالقدرة الحادثة ، وتارةً يقولون : ما قام بمحلّ القدرة أو بمحلّ القدرة الحادثة ، وإذا قيل لهم : ما القدرة الحادثة ؟

قالوا : ما قامت بمحلّ الكسب ونحو ذلك من العبارات التي تستلزم الدور ، ثمّ يقولون : معلوم بالاضطرار الفرق بين حركة المختار وحركة المرتعش ، وهذا كلامٌ صحيح ، لكنّه حجّةٌ عليهم لا لهم )(١) .

وقال بعد كلامٍ له :

( والمقصود هنا التنبيه على أصل القدريّة ، فإنّ حقيقة قولهم أنّ أفعال الحيوان تحدث بلا فاعل ، كما أنّ أصل قول الدهريّة الفلاسفة أنّ حركة الفلك وجميع الحوادث تحدث بلا سببٍ محدث ، وكذلك قول من وافق القدريّة من أهل الإثبات على أنّ الربّ تعالى لا يقوم به الأفعال ، وقال : إنّ الفعل هو

ـــــــــــــــــ

(١) منهاج السنّة ٢ : ٥٩ ـ ٦٠ .

٢٩٦

المفعول والخلق هو المخلوق ، كما يقول الأشعري ومَن وافقه ، فإنّه يلزمه في فعل الذم ما لزم القدريّة ، ولهذا عامّة شناعات هذا القدري الرافضي على هؤلاء ، وهؤلاء طائفة من المثبتين لخلافة أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ وقد وافقهم في ذلك كثير من الشيعة الزيديّة والإماميّة وغيرهم ، وقولهم ـ على كلّ حال ـ أقلّ من قول القدريّة ، بل أصل خطئهم موافقتهم للقدريّة في بعض خطئهم ، وأئمّة السنّة لا يقولون بشيءٍ من هذا الخطأ .

ولذلك ، جماهير أهل السنّة من أهل الحديث والفقه والتفسير والتصوّف ، لا يقولون بهذه الأقوال المتضمّنة الخطأ )(١) .

وقال في الجواب عن لزوم عدم الفرق بين الأفعال الاختيارية والاضطرارية بناءً على مذهبهم :

( والجواب : إنّ هذا إنّما يلزم من يقول أنّ العبد لا قدرة له على أفعاله الاختيارية ، وليس هذا قول إمام معروف ولا طائفة معروفة من الطوائف من أهل السنّة ، بل ولا من طوائف المثبتين للقدر ، إلاّ ما يحكى عن جهم بن صفوان وغلاة المثبتة أنّهم سلبوا العبد قدرته ، قال : إنّ حركته كحركة الأشجار بالرياح ، إن صحّ النقل عنهم .

وأشدّ الطوائف قرباً من هؤلاء هو الأشعري ومن وافقه من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم ، وهو مع هذا يثبت للعبد قدرة محدثة واختياراً ويقول : إنّ الفعل كسب للعبد لكنّه يقول : لا تأثير لقدرة العبد في إيجاد المقدور ، فلهذا قال مَن قال : إنّ هذا الكسب الذي أثبته الأشعري غير معقول .

وجمهور أهل الإثبات على أنّ العبد فاعلٌ لفعله حقيقةً ، وله قدرة واختيار ، وقدرته مؤثّرة في مقدورها ، كما تؤثّر القوى والطبائع وغير ذلك من الشروط والأسباب ، فما ذكره لا يلزم جمهور أهل السنّة .

ـــــــــــــــــ

(١) منهاج السنة ٢ : ٣١ .

٢٩٧

وقد قلنا غير مرّة : نحن لا ننكر أن يكون في بعض أهل السنّة من يقول الخطأ ، لكن لا يتّفقون على خطأ )(١) .

وقال ابن تيميّة ـ بعد ذكر آياتٍ عديدة في ثبوت القدرة والإرادة للعبد :

( وقد أخبر أنّ العباد يفعلون ويصنعون ويعملون ، ويؤمنون ويكفرون ، ويتّقون ويفسقون ، ويصدقون ويكذبون ، ونحو ذلك في مواضع ، وأخبر أنّ لهم استطاعة وقوّة في غير موضع ، وأئمّة أهل السنّة وجمهورهم يقولون : إنّ الله خالق هذا كلّه ، والخلق عندهم ليس هو المخلوق ، فيفرّقون بين كون أفعال العباد مخلوقة مفعولة للرب ، وبين أن يكون نفس فعله الذي هو مصدر فعل يفعل فعلاً فإنّها فعل للعباد بمعنى المصدر ، وليست فعلاً للربّ تعالى بهذا الاعتبار ، بل هي مفعولة له ، والرب تعالى لا يتّصف بمفعولاته .

ولكن هذه الشناعات لزمت من لا يفرّق بين فعل الربّ ومفعوله ، ويقول مع ذلك أنّ أفعال العباد فعل الله ، كما يقول ذلك جهم بن صفوان وموافقوه ، والأشعري وأتباعه ومَن وافقهم من أتباع الأئمّة ، ولهذا ضاق بهؤلاء البحث في هذا الموضع ، كما قد بسط في موضعه .

وكذلك ـ أيضاً ـ لزمت من لا يثبت في المخلوقات أسباباً وقوىً وطبائع ، ويقولون : إنّ الله يفعل عندها لا بها ، فيلزم أن لا يكون فرق بين القادر والعاجز .

وإن أثبت قدرة ويقول : إنّها مقترنة بالكسب قيل له : لم تثبت فرقاً معقولاً بين ما تثبته من الكسب ونفيت من الفعل ، ولا بين القادر والعاجز إذا كان مجرّد الاقتران لا اختصاص له بالقدرة ، فإنّ فعل العبد يقارن جهله وعلمه وإرادته وغير ذلك من صفاته ، فإذا لم يكن للقدرة تأثير إلاّ مجرّد الاقتران ، فلا فرق بين القدرة وغيرها .

وكذلك قول من قال : القدرة مؤثّرة في صفة الفعل لا في أصله ، كما يقول القاضي أبوبكر ومَن وافقه ، فإنّه إذا ثبت تأثير بدون خلق الربّ ، لزم أن يكون بعض الحوادث لم يخلقه الله ، وإن جعل ذلك معلّقاً بخلق الربّ ، فلا فرق بين الأصل والصّفة .

ـــــــــــــــــ

(١) منهاج السنّة ٢ : ٢٤ .

٢٩٨

وأمّا أئمّة السنّة وجمهورهم فيقولون : ما دلّ عليه الشرع والعقل )(١) .

كلمات ابن القيّم في المسألة

وقد تبع ابن القيّم شيخه في الردّ والتشنيع على مذهب الأشاعرة ، فقال بتفسير قوله تعالى :( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنّ الْجَاهِلِيّةِ ) ما نصّه :

( قد فسّر هذا الظنّ الذي لا يليق بالله ـ عزّ وجلّ ـ بأنّه سبحانه لا ينصر رسوله ، وأنّ أمره سيضمحلّ وأنّه يسلّمه للقتل

وفسّر بعضهم أنّ ما أصابهم لم يكن بقضاء الله وقدره ولا حكمة له فيه ، ففسّر بإنكار الحكمة وإنكار القدر، وإنكار أن يتمّ أمر رسوله ويظهره على الدين كلّه ، وهذا هو ظنّ السوء الذي ظنّه المنافقون والمشركون به ـ سبحانه ـ في سورة الفتح ، حيث يقول :

( وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظّانّينَ بِاللّهِ ظَنّ السّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السّوْءِ وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدّ لَهُمْ جَهَنّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً)

، وإنّما كان هذا ظنّ السوء وظنّ الجاهليّة ، وهو الظنّ المنسوب إلى أهل الجهل وظنّ غير الحقّ ؛ لأنّه ظنّ غير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وذاته المبرّأة والإلهيّة ، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه ، وبكلمته التي سبقت لرسله أنّه ينصرهم ولا يخذلهم ، ولجنده بأنّهم هم الغالبون ، فمن ظنّ به أنّه لا ينصر رسوله ولا يتمّ أمره ولا يؤيّده ولا يؤيّد حزبه ويعليهم ويظفرهم بأعدائهم ويظهرهم عليهم ، وأنّه لا ينصر دينه وكتابه ، وأنّه يديل الشرك على التوحيد والباطل على الحقّ ، إدالة مستقرّة ، يضمحلّ معها التوحيد والحقّ اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً ، فقد ظنّ السوء ، ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته ، فإنّ حمده وعزّته وحكمته وإلهيّته تأبى ذلك ، وتأبى أن يذلّ حزبه وجنده ، وأن يكون النصرة المستقرّة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به ، فمن ظنّ به ذلك فما عرفه ولا عرف أسمائه وصفاته وكماله .

ـــــــــــــــــ

(١) منهاج السنّة ٢ : ٢٥ .

٢٩٩

وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره ، فما عرفه ولا عرف ربوبيّته وملكه وعظمته ، وكذلك من أنكر أن يكون قدّر ما قدّره من ذلك وغيره ، لحكمةٍ بالغة وغايةٍ محمودة يستحقّ الحمد عليها ، وإنّ ذلك إنّما صدر عن مشيّةٍ مجرّدة عن الحكمة وغاية مطلوبة هي أحبّ إليه من فوتها ، وإنّ تلك الأسباب المكروهة ، المفضية إليها ، لا يخرج تقديرها عن الحكمة ؛ لانضمامها إلى ما يحبّ وإن كانت مكروهة له ، فما قدّرها سدىً ولا شاءها عبثاً ولا خلقها باطلاً( ذلِكَ ظَنّ الّذِين كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ ) ، وأكثر النّاس يظنّون بالله غير الحقّ ، ظنّ السَوء فيما يختصّ بهم وفيما يفعله بغيرهم ، ولا يسلم من ذلك إلاّ من عرف الله وعرف أسمائه وصفاته وعرف موجب حمده وحكمته .

فمن قنط من رحمته وأيس من روحه ، فقد ظنّ به ظنّ السوء ، ومن جوّز عليه أن يعذّب أوليائه مع إحسانهم وإخلاصهم ويسوّي بينهم وبين أعدائه ، فقد ظنّ به ظنّ السَوء ، ومن ظنّ أنّه يترك خلقه سدىً معطّلين عن الأمر والنهي ، ولا يرسل إليهم رسله ولا ينزل عليهم كتبه بل يتركه هملاً كالأنعام ، فقد ظنّ به ظنّ السوء ، ومن ظنّ أنّه لا يجمعهم بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازي المحسن فيها بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، ويبيّن لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه ، ويظهر للعالمين كلّهم صدقه وصدق رسله ، وأنّ أعدائه كانوا هم الكاذبين ، فقد ظنّ به ظنّ السوء .

ومن ظنّ أنّه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصاً لوجهه الكريم ، على امتثال أمره ، ويبطله عليه بلا سبب من العبد ، أو أنّه يعاقبه بما لا صنع له فيه ولا اختيار له ولا قدرة له ولا إرادة في حصوله ، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به ، أو ظنّ به أنّه يجوز عليه أن يؤيّد أعدائه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيّد بها أنبيائه ورسله ويجريها على أيديهم يضلّون بها عباده ، وأنّه يحسن منه كلّ شيءٍ حتّى تعذيب من أفنى عمره بطاعته فيخلده في الجحيم أسفل السافلين ، وينعم من استنفد عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه فيرفع إلى أعلى عليّين ، وكلا الأمرين في الحسن سواء عنده ، ولا عرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلاّ بخبرٍ صادق ، وإلاّ فالعقل لا يقتضي قبح أحدهما وحسن الآخر ، فقد ظنّ به ظنّ السوء )(١) .

وقال صاحب (فواتح الرحموت ) :

ـــــــــــــــــ

(١) زاد المعاد في هدي خير العباد ٣ : ٢٢٨ ـ ٢٣٠ .

٣٠٠