استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

استخراج المرام من استقصاء الإفحام8%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 456

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 456 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 225940 / تحميل: 8241
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

اِستخْـراجُ المَـرَامِ مِن استِقصَاءِ الإفْحام

لِلعَلَمِ الحُجَّةِ آيَةِ اللهِ السَّيّد حامِد حُسين اللّكهَنَوي

بُحوُثٌ وَرُدُودٌ

تأليف

السَّيد عَليّ الحُسَينيّ الميلانْيّ

القِسمُ الثَّانِي

التَّفسيرُ وَالمُفَسِّرُونَ وَالصِّحَاحُ السِّتَّةُ وأصحابُها

١

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الكتاب : استخراج المرام من استقصاء الإفحام ـ ٢

المؤلّف : السيّد علي الحُسيني الميلاني

الطبعة : الأُولى ـ ١٣٨٣ ـ ١٤٢٥

المطبعة : شريعَت ـ قم

الناشر : المؤلّف

٢

الباب الثاني : التفسير والمفسّرون عند أهل السنّة

المدخل

بحثٌ حول تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي

اعلم :

إنّ صاحب( منتهى الكلام ) بعد أنّ تكلّم على ( كتاب سُلَيم بن قَيس الهِلالي ) ، تعرّضَ ـ بنفس الأُسلوب ـ لكتاب ( تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي ) .

كلام صاحب منتهى الكلام في تفسير القمّي

فزَعَم أنّ هذا التفسير هو في الحقيقة تفسير أهل البيتعليهم‌السلام وكأنّهُ كلام الإمام الباقر والإمام الصادق ،...

وذكر أنّ جامع هذا التفسير هو عليّ بن إبراهيم القمّي ، وأنّ أبا جعفر الكُليني مِن تلامذتِه ـ كما ذكر عُلماء الإماميّة في كتبهم الرجاليّة ويشهد به كتاب الكافي ـ وهو من أصحاب الإمام بخلاف تلميذه الكليني ، فقد كان في أيّام الغيبة ، كما في كُتب الرجال .

ثمّ جَعَل يطعن في الكتاب ومؤلّفِه... فقال : بأنّ جُلّ الروايات فيه هي عن ( أبي الجارود ) ، وهو ـ بلا ريبٍ ـ مُلحدٌ زنديق ملعون على ألسِنَة أئمّة الهدى ، بل لقد لقّبه المعصوم بـ ( الشيطان )... كما لا يخفى على مَن لاحظ كُتُب القوم ، مثل : (تبصرة العوام ) و(تذكرة الأئمّة عليهم‌السلام ) و(منهج المقال )

و(خلاصة الأقوال ) وأمثالها من كُتُب الرجال .

ذكر الفاضل الإسترآبادي نقلاً عن الكشّي : ( الأعمى السُرحوب ـ بالسين المُهملة المضمومة ، والراء والحاء المهملتين والباء المنقّطة تحتها نقطة واحدة بعد الواو ـ مذمومٌ لا شبهة في ذمّه ، سمّي سُرحوباً باسم الشيطان الأعمى يَسكُن البحر .

٣

 ( قال ) : له تفسيرٌ يَنسبه إلى الإمام محمّدٍ الباقر ، وعن أبي بَصير قال أبو عبد اللهعليه‌السلام :( كثير النوا ، وسالم بن أبي حفصة ، وأبو الجارود ، كذّابون مُكذِّبون كُفّار عليهم لعنة الله ) ، قال: قلت : جُعِلت فداك ، كذّابون قد عرفتهم ، فما معنى مكذِّبون ؟ قال :( كذّابون ، يأتوننا فيُخبروننا أنّهم يصدّقوننا وليس كذلك ، ويَسمعون حديثنا فيكذّبون به ) )(١) .

قالوا : وقد كان يقول بإمامةِ زيد ويَنكر إمامة جعفر الصّادقعليه‌السلام ، وهو المؤسّس لفرقة الجاروديّة من الزيديّة...

والشيخ محمّد باقر صاحب البحار ـ وبالرغم من الاستدلال والاستشهاد بروايات تفسير هذا الزنديق ، والأخ الأكبر لشيطان الطاق ـ قد ذَكر ما تقدّم في كتابه ( تذكرة الأئمّة ) وأضاف أنّه قد ارتدّ في آخر عمره وعمي ، فلقّبه الإمام الباقر بـ( سُرحوب ) وهو اسم شيطان يَسكن البحر ، ومذهب أصحابه أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نصّ بالخلافة على عليّ بالصفة لا بالتسمية .

وإذا كان هذا حال علماء الشيعة وكتبهم ، فكيف يجوز لهم الطعن في علماء أهل السنّة والجماعة والتكلّم في مؤلّفاتهم ؟!

الجواب

إنّ أساس الطّعن في ( تفسير القمّي ) هو الطّعن في ( زياد بن المنذر أبي الجارود ) ، لكنّ ما ذَكَره في هذا الرجل مُندفعٌ بوجوه :

ـــــــــــــــــــ

(١) رجال الكشّي : ٢٠٠.

٤

١ ـ كان أبو الجارود في أوّل الأمر مُستقيماً

لقد كان أبو الجارود مستقيم الأمر ، صحيح العقيدة ، ثمّ تغيّر وضلّ ، فمِن أين يَثبُت أنّ رواياته في هذا التفسير كانت في حال التغيّر ؟ بل إنّ كلام الفاضل المجلسي في( اللّوامع ) صريحٌ في أنّ روايات الأصحاب عنه كانت في حال استقامته ، وكذا في رجال( روضة المتّقين ) ، فإنّه قال ما نصّه : ( صنّف الأصل في حال الاستقامة ، وروى أصحابنا عنه ، ثمّ ضلّ ، فاعتبروا أصله كما في غيره من الكَفَرَة )(١) .

هذا وقد ناقش بعض علمائنا في خبر تسمية الإمام الباقرعليه‌السلام له بـ ( السُرحوب ) ، أمّا سنداً فلأنّه مُرسَل ، وأمّا دلالةً فلأنّ زياداً كان مستقيماً على عهد الإمامعليه‌السلام وإنّما تغيَّر بعد وفاته بعدّةٍ سنين فراجع .

المعتبر في قبول الرواية حال الأداء

ثم إنّه قد تقرّر لدى علماء الفريقين ، أنّ المعتبر في قبول الرواية حال الراوي في وقت الأداء ، فإذا كان حاله سليماً في وقت الأداء تُقبل روايته ولو كان قبل ذلك مقدوحاً ، أو خرج بعد ذلك عن الاستقامة... ولأجل التيقّن من هذا الذي ذَكَرته أنْقل كلاماً لأحد أكابر أصحابنا ، وكلاماً لأحد أكابر الأئمّة عند أهل السنّة .

أمّا مِن أصحابنا ، فالشيخ بهاء الدين العاملي المتوفّى سنة ١٠٣١ وهو

ـــــــــــــــــــ

(١) روضة المتّقين للشيخ محمّد تقي المجلسي ١٤ : ٣١٤ .

٥

العالم النحرير الذي جاء مَدحه في ( ريحانة الألباء ) لشهاب الدين الخفاجي ـ وهو شيخ مشايخ وليّ الله والد صاحب التحفة ـ قائلاً : ( لا يَدرك بحر وصفه الإغراق ، ولا تلحقه حَرَكَات الأفكار ولو كان في مضمار الدهر لها السباق ، زيّن عبائره العلوم النقليّة والعقليّة ، ومَلَك بنقد ذهنه الجواهر السنيّة...) (١) .

لقد قال شيخنا البهائي في كتاب( مشرق الشمسَين ) ما نصّه : ( المُعتبرُ حالُ الراوي وقت الأداء لا وقت التحمّل ، فلو تحمّل الحديث طِفلاً أو غير إمامي أو فاسقاً ، ثمّ أدّاه في وقتٍ يُظَنّ أنّه كان مُستجمِعاً فيه لشرائط القَبول قُبِل...)

( قال ) : المُستفاد من تَصفّح كُتُب علمائنا المؤلّفة في السيَر والجرح والتعديل : إنّ أصحابنا الإماميّة ـ رحمهم الله ـ كان اجتنابُهم عن مخالطة مَن كان مِن الشيعة على الحقّ أوّلاً ، ثمّ أُنكر إمامة بعض الأئمّةعليهم‌السلام في أقصى المراتب ، وكانوا يحترزون عن مُجالستهم والتكلّم معهم ، فضلاً عن أخذ الحديث عنهم ، بل كان تظاهرهم بالعداوة لهم أشدّ من تظاهرهم بها للعامّة....

( قال ) : فإذا قَبِل علماؤنا ـ سيّما المتأخّرون منهم ـ روايةً رواها رجلٌ مِن ثقات أصحابنا عن أحد هؤلاء ، وعوّلوا عليها ومالوا إليها وقالوا بصحّتها ، مع علمهم بحاله ، فقبولهم لها وقولهم بصحّتها لا بدّ من ابتنائه على وجهٍ صحيح لا يتطرّق به القدح إليهم ، ولا إلى ذلك الرجل الثقة الراوي عمّن هذا حاله ، كأنْ يكون سُماعه منه قبل عدوله عن الحق وقوله بالوقوف ، أو بعد توبته ورجوعه إلى الحق ، أو أنّ النقل إنّما وقَعَ من أصلِه الذي ألّفه واشتهر عنه قبل الوقف ، أو من كتابه الذي ألّفهُ بعد الوقف ، ولكنّه أخَذَ ذلك الكتاب عن شيوخ أصحابنا

ـــــــــــــــــــ

(١) وتوجد ترجمته في : خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر٣ : ٤٤٠ ـ ٤٤٥ .

٦

الذين عليهم الاعتماد...) ثمّ ذكر أمثلة لذلك ، واستشهد بكلمات أعلام الطائفة (١) .

وأمّا مِن أئمّة السنيّة ، فقال النووي في ( شرح صحيح مسلم ) : ( فصلٌ ـ في حكم المختلط : إذا خَلَط الثقة ـ لاختلال ضبطه بخَرَفٍ أو هَرَمٍ أو لذهاب بصره أو نحو ذلك ـ قُبِل حديث مَن أخذ عنه قَبل الاختلاط ، ولا يُقبَل حديثُ مَن أخذ بعد الاختلاط ، أو شككنا في وقت أخذه ) ، ثمّ ذكَر بعض المُخَلِّطين... ثمّ قال : ( واعلم : أنّ ما كان من هذا القبيل محتجّاً به في الصحيحين ، فهو ممّا عُلِمَ أنّه أُخِذَ قَبل الاختلاط...)(٢) .

وعلى الجملة ، فقد عرفت أنّ رواية أصحابنا عن أبي الجارود كانت قبل ضلالته ، وأنّ المُعتبر في قَبول الرواية هو حال وقت الأداء... فسقط الطّعن في تفسير القمّي ، لكون أبي الجارود في أسانيده .

٢ ـ أبو الجارود من رجال الترمذي

ثمّ إنّ الطعن في ( أبي الجارود ) يُوجِب الطعن في ( صحيح الترمذي ) الذي هو أحَد الصحّاح الستّة عند القوم ، والذي قال مؤلّفه عنه ( مَن كان في بيته هذا الكتاب ، فكأنّما في بيته نبيٌّ يتكلّم )(٣) ، كما لا يخفى على مَن راجع كُتُب الرجال(٤) ، وإليك طرفاً مِن كلماتهم في ذمّه :

( قال ابن معين : كذّاب ، وقال النسائي : متروك ، وقال ابن حبّان : رافضي

ـــــــــــــــــــ

(١) مشرق الشمسين : ٧ ـ ٨ ط مع الحبل المتين له ـ حجري .

(٢) المنهاج ـ شرح صحيح مسلم بن الحجّاج ١: ٣٤ وانظر : تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي ٢: ٣٢٣ ـ ٣٣١.

(٣) تهذيب التهذيب ٩ : ٣٨٩ .

(٤) الكاشف عن أسماء رجال الكُتب الستّة ١ : ٢٨٧ رقم ١٧٢٤ ، تقريب التهذيب ١ : ٢٧٠.

٧

يضع الحديث في المثالِب والفضائل ، وقال الحسين بن موسى النوبختي في كتاب مقالات الشيعة : قال الجاروديّة ـ وهُم أصحاب أبي الجارود زياد بن المنذر ـ : إنّ عليّاً أفضل الخَلْق بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتبرّؤا من أبي بكر وعُمَر ، وزعموا أنّ الإمامة مقصورة في وِلْد فاطمة ، وبعضُهم يرى الرجعة ويُحلّ المتعة ) (١) .

وقال الشهرستاني في( الملل والنحل ) : ( وأمّا أبو الجارود ، فكان يُسمّى سُرحوباً ، سمّاه بذلك أبو جعفر محمّد بن عليّ الباقررضي‌الله‌عنه ، وسُرحوب شيطانٌ أعمى يَسكن البحر )(٢) .

٣ ـ صحّح البيهقي روايته

وقد صحّح الحافظ البيهقي حديث أبي الجارود كما جاء في( السيرة الحلبيّة ) : ( قال ابن كثير في بعض الأحاديث الواردة أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سَمِع الأذان في السماء ليلة المعراج : هذا الحديث ليس كما زعم البيهقي : إنّه صحّح بل هو منكر ، تفرّد به زياد بن المنذر أبو الجارود الذي تُنسَب إليه الفرقة الجاروديّة ، وهو من المتّهمين )(٣) .

٤ ـ رواياته في تفسير شاهي

وقد وردت روايات أبي الجارود في ( تفسير شاهي ) ، كالرواية بتفسير

ـــــــــــــــــــ

(١) تهذيب المال ٩ : ٥١٧ ـ ٥٢٠ .

(٢) الملل والنحل ١ : ١٠٩ .

(٣) السيرة الحلبيّة ٢ : ٣٠٢ باب بدء الأذان ومشروعيّته .

٨

قوله تعالى ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي... ) (١) ، نقلاً عن بعض التفاسير : ( في رواية أبي الجارود ، عن أبي جعفر رضي‌الله‌عنه ، في قوله تعالى : ( قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي... ) يعني نفسه ، ومَن تبعه عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه .

وهذا التفسير من التفاسير المشهورة المعروفة عند أهل السنّة ، وقد ذكره صاحب( التحفة ) وغيره في عِداد تفاسير أهل السنّة المُعتمدة .

٥ ـ رواياته في تفسير ابن شاهين

وللحافظ أبي حفص عُمَر بن أحمد بن شاهين تفسيرٌ كبير ، أكثَرَ فيه الرواية عن أبي الجارود في تفسير الآيات ، بل أورَد فيه كلّ تفسيره.....

وابن شاهين حافظٌ ، واعظٌ ، مفسّرٌ ، ثقةٌ ، صَدُوقٌ ، مُكثرٌ من الحديث... كما بتراجمه...(٢)

قال ابن حَجَر العسقلاني : ( عُمر بن أحمد ، بن عثمان ، بن أحمد ، بن محمّد ، بن أيّوب ، بن ازداد ، بن سراح ، الواعظ ، أبو حفص ابن شاهين وشاهين أحد أجداد جدّه لأُمّه ، ولد سنة ٢٩٧.... رَوى عنه : ابنه عبد الله ، وابن أبي الفوارس ، وهلال الحفّار ، والبرقاني ، والأزهري ، والخلال ، والتنوخي ، والعتيقي ، والجوهري وآخرون .

قال الخطيب : أنا أبو الحسن الهاشمي القاضي قال : قال لنا ابن شاهين : صنّفت ثلاثمِئة وثلاثين مصنّفاً ، منها : التفسير الكبير ألف جزء ، والمسند...

ـــــــــــــــــــ

(١) سورة يوسف : ١٠٨ .

(٢) مرآة الجنان ٢ : ٣٢٠ سنة ٣٨٥ ، الأنساب ـ الشاهيني ٣ : ٤١٢ .

٩

قال : وسمِعت محمّد بن عُمر الداودي يقول : كان ابن شاهين شيخاً ثقة يشبه الشيوخ ، إلاّ أنّه كان لحّاناً ، وكان لا يعرف مِن الفقه قليلاً ولا كثيراً... قال الداودي : وقال لي الدار قطني يوماً : ما أعمى قلب ابن شاهين ! حَمَل إليّ كتابه الذي صنّفه في التفسير ، وسألني أنْ أُصلِح ما أجد فيه مِن الخطأ ، فرأيته وقد نقل تفسير أبي الجارود وفرّقه في الكتاب ، وجعله عن أبي الجارود ، عن زياد بن المنذر ، وإنّما هو عن أبي الجارود زياد بن المنذر .

وقال حمزة السهمي : سمعت الدار قطني يقول : ابن شاهين يُخطئ ويَلحُّ على الخطأ وهو ثقة )(١) .

من غرائب أوهام صاحب منتهى الكلام

ومِن غرائب أوهام صاحب كتاب منتهى الكلام أنّه لمّا كان ـ في كتابٍ آخر له ـ بصدد الطّعن في عليّ بن إبراهيم وتفسيره ، بسبب الرواية عن أبي الجارود فيه ، استند إلى كلام العلاّمة الحلّي في( خلاصة الأقوال ) وقوله فيه : ( أضرّ في وسط عمره ) ، فتوّهم أنّ هذه الكلمة جرحٌ مِن العلامة لأبي الجارود ، ولَم يفهم أنّ معنى الكلمة : كونه ضريراً ـ أي أعمى ـ في وسَط عمره... وهذا ليس بجرحٍ وقدح ، كما هو واضح .

وقد ذَكَر هذا الوصف بترجمة كثير مِن العلماء :

كحمّاد بن زيد ، أحد الأعلام ، المتوفّى سنة ١٧٩.

وأحمد بن يوسف الكواشي المفسّر الفقيه الشافعي ، المتوفّى سنة ٦٨٠ .

وابن كثير الدمشقي صاحب التاريخ والتفسير ، المتوفّى سنة ٧٧٤ .

ـــــــــــــــــــ

(١) لسان الميزان ٤ : ٣٢٧

١٠

وصف بعض الأعاظم بـ ( الشيطان )

وأمّا التشنيع على تفسير القمّي : بإخراج روايات مؤمن الطّاق فيه ، فتلكَ شكاةٌ ظاهرٌ عنك عارُها... فإنّ الإماميّة يفتخرون بالرواية عن هذه الشخصيّة العظيمة... كيف ؟ وقد ذكر الحافظ ابن حَجَر : أنّ الإمام الصادقعليه‌السلام كان يقدّمه ويثني عليه(١) .

وليس وصفه بـ ( الشيطان ) بضائره أبَداً... فلقد وُصِف غير واحدٍ مِن الأعلام بهذا الوصف...

فقد ذكروا بترجمة محمّد بن سعد بن أبي وقّاص : ( كان يلقّب ظلّ الشيطان لقصره )(٢) .

وبترجمة عمرو بن سعيد العاص : ( سُمِّي لطيمَ الشيطان )(٣) .

بل ذكر الراغب الأصفهاني في( محاضرات الأُدباء ) : انّه قد مرّ عُمَر بصبيانٍ ـ وفيهم عبد الله بن الزبير ـ فعدا الصبيان ووقف عبد الله بن الزبير ، فقال عُمَر : ولِم لم تذهب مع الصبيان ؟ فقال : يا أمير المؤمنين لم أجْنِ عليك فأخافك ، ولم يكن للطريق ضيق فأوسع عليك فقال : أيّ شيطانٍ يكون هذا ؟

ـــــــــــــــــــ

(١) لسان الميزان ٦ : ٣٧٩/ ضمن ( ٧٨٧٢ ) .

(٢) تقريب التهذيب ٢ : ١٦٣.

(٣) فوات الوفيّات ٣ : ١٦١.

١١

قول بعض عرفائهم :

أشهد أنْ لا إله لكم إلاّ إبليس

وأيّ قُبحٍ في أنْ يُلقّب أحدٌ باسم الشيطان ، وهُم ينقلون عن بعض كِبار عرفائهم ما تقشعرّ منه الجلود ؟

لقد ذكر الشيخ العارف الكبير عبد الوهّاب الشعراني بترجمة أحد كبار عُرفائهم الأخيار ، أنّه جاء يوم الجمعة فسألوه الخطبة فقال : بسم الله ، فطَلَع المنبر ، وحَمِد الله وأثنى عليه ومجّده ، ثمّ قال : ( وأشهد أنْ لا إله لكم إلاّ إبليسعليه‌السلام ) .

فقال الناس : كَفَر .

فسلّ السيف ونزل ، فهرّ بالناس كلّهم .

فجلس عند المنبر إلى أذان العصر ، وما يجرؤ أحدٌ يدخل الجامع...(١) .

نقودٌ أُخرى لكلام الفيض آبادي

وبقيت نقاطٌ أُخرى ننبّه عليها :

أوّلاً : إنّ إسناد الروايات إلى أئمّة الهدىعليهم‌السلام في( تفسير القمّي ) لا يدلُّ بالضرورة على ثبوت صدور تلك الأخبار عنهم ، وإلاّ لزم أنْ يلتزم أهلُ السنّة بقطعيّة صُدور كلّ ما أُسند إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كُتُبِهم... فلا صاحب( البحار ) ولا صاحب كتاب( الفوائد المدنيّة ) ولا غيرهما مِن علماء الإماميّة يرى صحّة جميع ما جاء في هذا التفسير .

ـــــــــــــــــــ

(١) لواقح الأنوار في طبقات الأخيار ـ ترجمة الشيخ محمّد الخضرمي .

١٢

وثانياً : دعوى أنّ ( عليّ بن إبراهيم القمّي ) مِن أصحاب الإمامعليه‌السلام لا دليلَ عليها في كُتب أصحابنا الإماميّة أصلاً .

وثالثاً : دعوى أنّ جُلّ روايات هذا التفسير عن أبي الجارود ، مخالفة للواقع ؛ إذْ أكثر رواياته هي عن غيره من الرواة ، كما لا يخفى على مَن لاحظه بالتفصيل .

ورابعاً : إنّه لا ملازمة بين فساد العقيدة والكذب في الحديث ، وكم من محدّثٍ تكلّموا في عقيدته ، ثُمّ نصّوا على كونه ثقةً في الرّواية...

وخامساً : انتساب كتاب( تذكرة الأئمّة ) غير ثابت .

وسادساً : دعوى أنّ السيخ المجلسي قد استدلّ أو استشهد بروايات تفسير أبي الجارود ، عُهدَتها على مُدّعيها .

وبعـد

فكأنّ هذا الرجل الذي يُحاول الطّعن في( تفسير القمّي ) وسنده ، في غفلةٍ عن حال كُتب أصحابه في التفسير ورواة أخبارها ، فإليكم بعض الكلام في ذلك ، تحت عنوان ( التفسير والمُفسّرون ) عند أهل السنّة :

مقدّمة

كلمات في ذمّ كتبهم التفسيريّة

رُوي عن أحمد بن حنبل كلمة موجزة في التفسير والمفسّرين عند القوم تدلّ على معنىً عظيم ، فقد جاء في( تذكرة الموضوعات ) :

١٣

( قال أحمد بن حنبل : ثلاث كُتُب ليس لها أُصول : المغازي ، والملاحم ، والتفسير ) (١) .

وقد ثَقُل هذا الكلام على القوم ، وجعلوا يذكرون له المحامل والتأويلات....

( قال الخطيب : هذا محمولٌ على كُتُبٍ مخصوصةٍ في هذه المعاني الثلاثة غير معتمدٍ عليها ؛ لعدم عدالة ناقليها وزيادة القصّاص فيها )(٢) .

لكنْ لا يخفى عدم صحّة هذا الحمل... على أنّ في كُتب الحديث أيضاً كُتباً غيرَ معتمدٍ عليها لعدم عدالة ناقليها ، فكان عليه أنْ يذكر كتب الحديث كذلك...

وقال السيوطي في( الإتقان ) ناقلاً عن ابن تيميّة في أقسام التفسير :

( وأمّا القسم الذي يُمكن معرفة الصحيح منه ، فهذا موجود كثيراً ولله

ـــــــــــــــــــ

(١) تذكرة الموضوعات : ٨٢ .

(٢) تذكرة الموضوعات : ٨٢ .

١٤

الحمد ، وإنْ قال الإمام أحمد : ثلاثةٌ ليس لها أصل : التفسير والملاحم والمغازي ؛ وذلك لأنّ الغالب عليها المراسيل ) (١) .

لكنْ إذا كان الغالب عليها المراسيل ، فما معنى حمد الله على وجودها ؟ !

وكون الغالب عليها المراسيل وجهٌ آخر مِن وجوه الطعن في تفاسيرهم...

لكنّ بعض الأئمّة يصرّحون بأنّ كُتب التفسير عندهم مشحونة بالموضوعات ، فقد قال المناوي في ( فيض القدير ) :

( اجتهدت في تهذيب عَزْوِ الأحاديث إلى مُخرجيها مْن أئمّة الحديث مِن الجوامع والسُنَن والمسانيد ، فلا أعزو إلى شيء منها إلاّ بعد التفتيش عن حاله وحال مُخرجه ، ولا أكتفي بعزوِه إلى مَن ليس مِن أهله وإنْ جلّ ، كعظماء المفسّرين ، قال ابن الكمال : كتب التفسير مشحونة بالأحاديث الموضوعة )(٢) .

بل لقد نصَّ المحدّث شاه ولي الله الدهلوي ، في تفسيره ( الفوز الكبير ) ، بأنّ الأخبار المطوَّلة المرويّة في كُتب التفسير في قصص الأنبياء السابقين ، كلّها منقولة عن علماء أهل الكتاب ، وفي البخاري مرفوعاً : لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم .

وقال شيخهم الأعظم ابن عربي ، في الباب الثاني والسبعين بعد الثلاثمائة ، من( الفتوحات المكيّة ) :

( وفيه علم تنزيه الأنبياء عمّا نَسَب إليهم المفسّرون من الطامّات ممّا لم يجيء في كتاب الله ، وهُم يزعمون أنّهم قد فسّروا كلام الله فيما أخبر به

ـــــــــــــــــــ

(١) الإتقان في علوم القرآن ٤: ٢٠٥.

(٢) فيض القدير في شرح الجامع الصغير ١ : ٢٠ .

١٥

عنهم ، نسألُ اللهَ العصمةَ في القول والعمَل ، فلقد جاؤوا في ذلك بأكبر الكبائر ، كمسألة إبراهيم الخليل عليه‌السلام وما نسبوا إليه من الشكّ ، وما نظروا في قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( نحن أولى بالشكّ مِن إبراهيم ، فإنّ إبراهيم ما شكّ في إحياء الموتى ، ولكنْ لمّا علم أنّ لإحياء الموتى وجوهاً مختلفة ، لم يدرِ بأيّ وجهٍ منها يكون إحياء الموتى ، وهو مجبول على طلب العلم ، فعيّن الله له وجهاً مِن تلك الوجوه حتّى سكّنَ الله قلبه ، فعَلِم كيف يُحيي الله الموتى ) .

وكذلك قصّة يوسف ولوط وموسى وداود ومحمّد ، على جميعهم أفضل الصّلاة والسّلام .

وكذلك ما نَسَبُوه في قصّة سليمانعليه‌السلام إلى المَلَكَين .

وكلّ ذلك نقلوه عن اليهود ، واستحلّوا عرض الأنبياء والملائكة بما ذكرته اليهود الذين جرحهم الله تعالى ، وملأوا كُتبهم في تفسير القرآن العزيز بذلك ، وما في ذلك نصٌّ في كتاب الله ولا في سنّة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والله يَعصمنا من غلطات الأفكار والأقوال والأفعال ) .

وأورد الشيخ عبد الوهّاب الشعراني كلام الشيخ ابن عربي المتقدّم ، حيث قال ما نصّه :

( قال الشيخ في الباب الثاني والسبعين وثلاثمائة من الفتوحات المكّيّة : يجب قطعاً تنزيه الأنبياء ممّا نسبه إليهم بعض المفسّرين من الطامّات ، ممّا لم يجيء في كتاب الله ولا سنّة صحيحة ، وهُم يزعمون أنّهم قد فسّروا قصصهم الّتي قصّها الله تعالى علينا .

وكذبوا والله في ذلك ، وجاؤوا فيه بأكبر الكبائر .

وذلك كمسألة إبراهيم الخليل على نبيّنا وعليه الصلاة والسلام ، وما نسبوه إليه مِن وقوع الشكّ بحسب ما يتبادر إلى الأذهان ، وما نظروا في قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( نحن أولى بالشكّ مِن إبراهيم ، وذلك أنّ إبراهيم عليه‌السلام لم يشكّ في إحياء الله تعالى الموتى ، معاذ الله أنْ يشكّ نبيٌّ في مثل ذلك ، وإنّما كان يعلم أنّ لإحياء الموتى طُرُقاً ووجوهاً متعدّدة ، لم يدرِ بأيّ وجهٍ منها يكون إحياء الله تعالى للموتى ، وهو مجبولٌ على طلب الزيادة مِن العِلم ، فعيّن الله تعالى وجهاً مِن تلك الوجوه فسكّن ما كان عنده ، وعَلِم حينئذٍ كيف يحيي الموتى ، فما كان السّؤال إلاّ عن معرفةِ الكيف لا غير ) .

١٦

وكذلك القول في قصّة سُليمان وما نسبوه إلى المَلَكين هاروت وماروت .

كلّ ذلك لم يرد في كتابٍ ولا سنّة ، وإنّما ذلك نُقِل عن اليهود ، فاستحلّوا أعراض الأنبياء والملائكة بما ذكروه لهم من جرحهم أنبياء الله تعالى ، وملأوا تفاسيرهم للقرآن مِن ذلك ، فالله يحفظنا وإخواننا مِن غَلَطَات الأفكار والأفعال والأقوال ، آمين ، إنتهى .

وأيضاً ، قال في الباب الرابع والخمسين ومئة : ينبغي للواعظ أنْ يراقب الله تعالى ، في أنبيائه وملائكته ويَستحي مِن الله عزّ وجلّ ، ويتجنّب الطامّات في وعظهِ ، كالقول في ذات الله بالفكر ، والكلام على مقامات الأنبياء عليهم الصّلاة والسلام مِن غير أنْ يكون وارثاً لهم ، فلا يتكلّم قطّ على زلاّتهم بحسب ما يتبادر إلى أذهان الناس بالقياس إلى غيرهم ؛ فإنّ الله تعالى قد أثنى على الأنبياء حُسن الثناء بعد أنْ اصطفاهم مِن جميع خلقه ، فكيف يستحلّ أعراضهم بما ذكره المؤرّخون عن اليهود .

قال : ثمّ إنّ الداهية العُظمى جَعْلُهم ذلك تفسيراً لكلام الله تعالى .

وفي تفسيرهم : قال المفسّرون في قصّة داود أنّه نظر إلى امرأة أُوريا فأعجبته ، فأرسله في غزاة لِيَموت فيأخذها .

وكقولهم في يوسف ـ على نبيّنا وعليه الصلاة والسلام ـ أنّه همّ بالمعصية ، وأنّ الأنبياء لم يُعصَموا عن مثل ذلك .

وكقولهم في قصّة لوط( .. لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) العجز والبحر ونحو ذلك .

ويعتمدون على تأويلات فاسدة وأحاديث واهية ، نُقِلت عن قومٍ قالوا في الله ما قالوا مِن البهتان والزّور .

١٧

فمَن أورَد مثلَ ذلك في مَجلسه مِن الوعّاظ ، مَقَته الله والأنبياء والملائكة ؛ لكونِه جعَل دهليزاً ومهاداً لِمَن في قلبه زيغ يدخل منه إلى ارتكاب المعاصي ، ويحتجّ بما سمِعه منه في حقّ الأنبياء ويقول : إذا كان الأنبياء وقَعوا في مثل ذلك فمَن أكون أنا ، وحاشى الأنبياء كلّهم عن ذلك الذي فهمه هذا الواعظ ، فو الله ، لقد أفسد الواعظ الأُمّة ، وعليه وِزر كلّ مَن كان سَبَباً لاستهانته بما وقع فيه مِن المعاصي ، ولكنّه قد ورد أنّه لا تقوم السّاعة حتّى يصعد الشيطان على كرسي الوعظ ويَعِظ النّاس ، وهؤلاء من جنوده الذين يتقدّمونه )(١) .

ـــــــــــــــــــ

(١) اليواقيت والجواهر ٢ : ٢٣٢ ـ ٢٣٣ .

١٨

طبقة الصّحابة

وطبقات المفسّرين عند علمائهم المعتمدين سِت.

فالطبقة الأُولى : الخلفاء والصّحابة .

قال الحافظ جلال الدين السيوطي :

( النوع الثمانون ـ في طبقات المفسّرين :

اشتهر بالتفسير من الصحابة عشرة : الخلفاء الأربعة ، وابن مسعود ، وابن عبّاس ، وأُبَي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وأبو موسى الأشعري ، وعبد الله بن الزبير )(١) .

الخلفاء والتفسير

والظاهر أنّ إدخال الخلفاء الثلاثة في زُمرة المفسّرين من الصحابة ، ليس إلاّ مِن باب التأدّب تجاههم ، والتبرّك بأسمائهم ! لتصريحهم بِنُدرة رواية التفسير عن الثلاثة ، والنادر كالمعدوم ، ففي ( الإتقان ) مثلاً : ( فأمّا الخلفاءُ ، فأكثر من رُوي عنه منهم : عليّ بن أبي طالب ، والرواية عن الثلاثة نزرةٌ جدّاً ) ثمّ قال : ( ولا أحفظ عن أبي بكر في التفسير إلاّ آثاراً قليلة جدّاً ، لا تكاد تتجاوز العشرة )(٢) .

هذا ، وسيأتي عن بعضهم التصريح بقلّة الرواية في التفسير عن

ـــــــــــــــــــ

(١) الإتقان في علوم القرآن ٤ : ٢٣٣ .

(٢) الإتقان في علوم القرآن ٤ : ٢٣٣

١٩

أميرِ المؤمنين أيضاً ، حتّى كادت تكون معدومة عندهم ، وإذا كان هذا حال الروايات عن ( أكثر من رُوي عنه منهم ) فما ظنّك بروايات البقيّة ؟

والسبب في قلّة رواية التفسير عن الثلاثة : جهلهم بذلك ، وعدم تعلّم شيء منه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء ذلك في ( صحيح البخاري ) عن أبي هُريرة ، فإنّه قال في مقام تبرئة نفسه عن الكذب على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

( إنّ إخواننا مِن المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق ، وإنّ إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم ، وإنّ أبا هُريرة كان يلزم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشبع بطنه ، ويحضر ما لا يحضرون ، ويحفظ ما لا يحفظون )(١) .

وقد أسمَع ذلك أُبي بن كعب عمر ، حينما اعترض عليه في بعض الآيات ، فاعترف عُمَر بن الخطّاب بجهله واعتذر إليه :

في ( كنز العمّال ) : ( عن ابن جريج عن عمرو بن دينار قال : سمِعت بجالة التميمي قال : وجد عُمَر بن الخطّاب مُصحفاً في حجر غلام فيه : النبيّ أولى بالمؤمنين مِن أنفسهم ، وهو أبوهم فقال : اُحككها يا غلام فقال : والله لا أحكّها وهي في مصحف أُبي بن كعب ، فانطلقوا إلى أُبي ، فقال له أُبي : شغلني القرآن وشغَلَك الصفق بالأسواق ، إذ تعرض رداءك على عنقك بباب ابن العجماء )(٢) .

وفي ( كنز العمّال ) أيضاً : ( عن الحسن : إنّ عُمَر بن الخطّاب ردّ على أُبي

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ١ : ٤٠ كتاب العلم ، باب حفظ العلم .

(٢) كنز العمّال ١٣ : ٢٥٩/ ٣٦٧٦٣

٢٠

ابن كعب قراءة آيةٍ ، فقال له أُبي : لقد سمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنتَ يلهيك ـ يا عُمر ـ الصفق بالبقيع فقال عمر : صدَقت ) (١) .

بل لقد اعترف بذلك عُمر نفسه في بعض الموارد ، كالحديث في ( البخاري ) ، في قضيّة خبر أبي موسى في حكم الاستيذان وشهادة أبي سعيد الخدري له ، قال عُمر : ( خفِي عليَّ هذا مِن أمر النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ألهاني الصفق بالأسواق )(٢) .

وفي ( حياة الحيوان ) : ( كان أبو بكر الصدّيق بزّازاً ، وكذلك عثمان وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وكان عُمر دلاّلاً يسعى بين البائع والمشتري )(٣) .

وأمّا عليّعليه‌السلام ، فإنّه وإنْ نصّ السيوطي على أنّه أكثر مَن رُوي عنه التفسير من الخلفاء ، لكنّ بعض المتعصّبين منهم ينفي ذلك ، ويحمله على الأكثريّة الإضافيّة ، ألا ترى المتكلّمين منهم ـ حينما يُريدون الردّ على استدلال أهل الحقّ على أعلميّة الإمام بالقرآن والتفسير ، بانتشار هذا العلم عنه بين المسلمين ـ يُبادرون إلى القول بأنّ ما رُوي عن عليّ ليس إلاّ أخباراً آحاداً ، حتّى أنّ ابن تيميّة يقول بأنّ رواية ابن عبّاس في التفسير عن عليّ ( قليلةٌ جدّاً ، ولم يخرج أصحاب الصحيح شيئاً مِن حديثه عن عليّ )(٤) ويقول : ( وما يُعرف بأيدي المسلمين تفسيرٌ ثابتٌ عن عليّ )(٥) .

بل لقد قال غير واحدٍ منهم : بأنّ كلّ ما رُوي عنهعليه‌السلام فهو مكذوبٌ عليه :

ـــــــــــــــــــ

(١) كنز العمّال ١٣ : ٢٦١/ ٣٦٧٦٦ .

(٢) صحيح البخاري ٣ : ٧٢ كتاب البيوع ، باب الخروج في التجارة .

(٣) حياة الحيوان ١ : ٢٧٥ ( الجزور ) .

(٤) منهاج السنّة ٤ : ٢٤٢ .

(٥) منهاج السنّة ٤ : ٢٤٢ .

٢١

قال الذهبي في ( ميزان الاعتدال ) : ( حصين ، عن الشعبي : ما كُذِب على أحدٍ مِن هذهِ الأُمّة ما كُذِب على عليٍّرضي‌الله‌عنه . وقال أيّوب : كان ابن سيرين يَرى أنّ عامّة ما يُروى عن عليٍّ باطل )(١) .

وفي ( البخاري ) : ( وكان ابن سيرين يرى أنّ عامّة ما يُروى عن عليّ الكذب )(٢) .

وعلى هذا... فلِنعطف عنان البحث والكلام نحو سائر الصحابة الأعلام ، الذين ذكرهم السيوطي في الطبقة الأُولى :

ـــــــــــــــــــ

(١) ميزان الاعتدال ١ : ٤٣٦/ ١٦٢٧ .

(٢) صحيح البخاري ٥ : ٢٤ باب مناقب المهاجرين ـ باب مناقب عليّ بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسنرضي‌الله‌عنه .

٢٢

عبد الله بن مسعود

فأمّا ابن مسعود ، فهذا ما رَووه أو ذكروه في كُتُبِهم ، ممّا هو مِن القوادح على أُصولهم ، فيه وفي مُصحَفِه ، وما أخرجوا عنه في التفسير .

بين عثمان وابن مسعود

إنّ من ضروريّات التاريخ أنّ عُثمان بن عفّان قد أحرق مصحف ابن مسعود ، فقال علماؤهم دفاعاً عنه وتبريراً لِما فعل :

( إنّه لو بَقيَ مصحفه في أيدي الناس ، لأدّى ذلك إلى فتنةٍ كبيرةٍ في الدين ) ، ثمّ علّلوا ذلك بقولهم : ( كثرة ما فيه مِن الشذوذ المنكرة عند أهل العلم بالقرآن )(١) .

وقال الراغب الإصفهاني في( المحاضرات ) :

( أثبت ابن مسعود في مصحفه : ولو كان لابن آدم واديان مِن ذهب لابتغى إليهما ثالثاً ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب ، ويتوب الله على مَن تاب )(٢) .

ـــــــــــــــــــ

(١) تاريخ الخميس ٢ : ٢٧٣ وغيرهما .

(٢) محاضرات الأُدباء ٤ : ٤٣٤ .

٢٣

وقال :

 ( أثبت ابن مسعود بسم الله في سورة البراءة )(١) .

ومن المعلوم الواضح لدى كلّ أحدٍ : أنّ مَن أدرج في القرآن أدعية القنوت وغيرها ممّا ليس من القرآن ، وكان قرآنه يشتمل على الشذوذ المنكرة عند أهل العلم بالقرآن ، بحيث لو بقي في أيدي الناس لأدّى إلى فتنةٍ كبيرةٍ في الدين ، ولانجرَّ إلى قبائحٍ كثيرةٍ ، وصار المسلمون مختلفين في كتابهم كاختلاف اليهود والنصارى في كتابهم ، ولم يرفع اليد عن كلّ ذلك إلاّ بالسبّ والشتم... كان من المقدوحين والمجروحين...

بل المُستفاد من تتبّع كلمات القوم في المقام أنْ ليس لابن مسعود على أُصولهم من الإيمان والإسلام نصيب ، فضلاً عن الجلالة والسيادة والفضل والسعادة ؛ لأنّه كان مِن المُخالفين لعثمان والمنكرين عليه ، حتّى أنّه كان يدعو عليه على رؤوس الأشهاد :

قال الحلَبي في( السيرة ) :

( وكان الوليد شاعراً ظريفاً شجاعاً كريماً ، يشرب الخمر كلّ ليلة من أوّل الليل إلى الفجر ، فلمّا أذّن المؤذّن لصلاة الفجر ، خرج إلى المسجد وصلّى بأهل الكوفة الصبح أربع ركَعَات ، وصار يقول في ركوعه وسجوده : اشرب واسقني ، ثمّ قاءَ في المحراب ، ثمّ سلّم وقال : هل أزيدكم ؟

فقال له ابن مسعود : لا زادك الله خيراً ولا مَن بعثك إلينا )(٢) .

هذا، وقد نصّ صاحب( التحفة ) على أنْ مَن يطعن في الصهرين ـ يعني : عليّاً وعثمان ـ فهو ليس من أهل الإيمان .

ـــــــــــــــــــ

(١) محاضرات الأُدباء ٤ : ٤٣٤ .

(٢) إنسان العيون = السيرة الحلبيّة ٢ : ٢٨٤ ، وفيه : شرب الخمر ليلةً...

٢٤

وقال ابن حَجَر في( الصواعق ) في مطاعن عثمان :

( ومنها : أنّه حَبَس عطاء ابن مسعود وأُبَي بن كعب ، ونَفَى أبا ذر إلى الربَذَة ، وأشخص عبادة بن الصّلت مِن الشام إلى المدينة لمّا اشتكاه معاوية ، وهَجَر ابن مسعود ، وقال لابن عوف : إنّك منافق ، وضرب عمّار بن ياسر ، وانتهك حُرمة كعب بن عجرة ، فضربه عشرين سوطاً ونفاه إلى بعض الجبال ، وكذلك حرمة الأشتر النخعي .

وجواب ذلك : أمّا حبْسه لعطاءِ ابن مسعود وهجره له ، فلِما بلغه ممّا يُوجب ذلك ، إلقاءً [إبقاءً] لأُبّهة الولاية )(١) .

فكان قد وقَع مِن ابن مسعود ما استحقّ به حبْس العطاء والهجر ، بل يظهر مِن ذلك أنّه ما كان يعتقد بولاية عثمان وخلافته ، فلو كان يعتقد لَمَا ألقى أُبّهتها !

وقال الفخر الرازي في( نهاية العقول ) :

( قوله : سادساً : ضرب ابن مسعود وعمّاراً وسيّر أبا ذر إلى الربَذَة .

قلنا : كما فعل ذلك ، فقد قيل عن هؤلاء أنّهم أقدموا على أفعالٍ استوجبوا ذلك )(٢) .

ومن الضروري : إنّ الأفعال المستوجبة لضرب أعيان الصحابة وهتك عدولهم ، ليست إلاّ الكبائر المُوبقة والمعاصي المهلكة...

٢٥

مشكلة الفاتحة والمعوّذتين وطُرق حلّها

ثمّ إنّ ابن مسعود كان لا يرى الفاتحة والمعوّذتين قرآناً ، وهذا ممّا يحزّ في قلوب القوم ، ويجعلهم يضطربون في حلّه .

قال الراغب في فصل بيان ما ادّعي أنّه من القرآن ممّا ليس في المُصحف ، وما ادّعي أنّه ليس منه وهو فيه :

( وأسقط ابن مسعود من مصحفه أُمّ القرآن والمعوّذتين )(١) .

وفي( المسند ) : ( عن عبد الرحمان بن يزيد قال : كان عبد الله يحكّ المعوّذتين مِن مصاحفه ويقول : إنّهما ليستا مِن كتاب الله تبارك وتعالى )(٢) .

وفي( الدرّ المنثور ) : ( أخرج عبد بن حميد ومحمّد بن نصر المروزي في كتاب الصّلاة ، وابن الأنباري في المصاحف ، عن محمّد بن سيرين : إنّ أُبي ابن كعب كان يكتب فاتحة الكتاب والمعوّذتين ، واللّهمّ إيّاك نعبد ، واللّهمّ إنّا نستعينك ، ولم يكتب ابن مسعود شيئاً منهنَّ ، وكتب عثمان بن عفّان فاتحة الكتاب والمعوّذتين )(٣) .

وفي (الدرّ المنثور) أيضاً : ( أخرج عبد بن حميد عن إبراهيم قال : كان عبد الله لا يكتب فاتحة الكتاب في المصحف وقال : لو كتبتها لكتبت في أوّل كلّ شيء )(٤) .

وفي ( تاريخ الخميس ) بعد العبارة المنقولة آنفاً : ( ولحذفه المعوّذتين من

ـــــــــــــــــــ

(١) محاضرات الأُدباء ٤ : ٤٣٤ .

(٢) مسند أحمد بن حنبل ٦ : ١٥٤/ ٢٠٦٨٣ .

(٣) الدرّ المنثور ١ : ١٠. وفيه : إيّاك نستعين ، بدل : اللهمّ إنّا نستعينك .

(٤) الدرّ المنثور ١ : ١٠ .

٢٦

مصحفه ، مع الشهرة عند الصحابة أنّهما من القرآن ) (١) .

هذا ، وقد قالوا بأنّ إنكار الفاتحة والمعوّذتين كُفر ، فقد جاء في( الإتقان ) :

( قال النووي في شرح المهذّب : أجمَع المسلمون على أنّ المعوّذتين والفاتحة مِن القرآن ، وأنّ مَن جَحَد منها شيئاً كَفَر )(٣) .

وإذا كان ( مَن أنكر شيئاً منها كَفَر ) فقد أنكر ابن مسعود كلّها !!

ومن هنا وقعوا في المشكلة :

قال السيوطي في ( الإتقان ) : ( مِن المشكل على هذا الأصل : ما ذكره الإمام فخر الدين الرازي قال : نُقِل في بعض الكتب القديمة ، أنّ ابن مسعود كان ينكر كون سورة الفاتحة والمعوّذتين من القرآن ، وهو في غاية الصعوبة ؛ لأنّا إنْ قلنا : إنّ النقل المتواتر كان حاصلاً في عصر الصحابة بكون ذلك من القرآن ، فإنكاره يُوجب الكفر ، وإنْ قلنا : لم يكن حاصلاً في ذلك الزمان ، فيلزم أنْ [يكون] القرآن ، ليس بمتواتر في الأصل )(٣) .

وتحيّروا كيف يَخرجون مِن هذهِ العويصة :

١ ـ تكذيب الأخبار

قال في ( الإتقان ) نقلاً عن الرازي بعد ما تقدّم : ( والأغلب على الظنّ أنّ نقل هذا المذهب عن ابن مسعود نقلٌ باطل ، وبهِ يحصل الخلاص عن هذه

ـــــــــــــــــــ

(١) تاريخ الخميس ٢ : ٢٧٣ .

(٢) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٧١ .

(٣) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٧٠ ـ ٢٧١ .

٢٧

العقدة ) (١) .

وهكذا أجاب القاضي أبو بكر والنووي وابن حزم... وزعموا أنّ به يحصل الخلاص عن هذه العقدة ، ولكنْ لات حين مناص ، فقد تعقّب المحقّقون ذلك وتتبّعوا الأخبار به ، ووجدوها صحيحةً ، ولا مَجال لتكذيب الأخبار الصحيحة أبداً..

ففي ( الإتقان ) : ( قال ابن حَجَر في شرح البخاري : قد صحّ عن ابن مسعود إنكار ذلك ، فأخرج أحمد وابن حبّان عنه أنّه كان لا يكتب المعوّذتين في مصحفه وأخرج عبد الله بن أحمد في زيادات المسند ، والطبراني وابن مردويه من طريق الأعمش ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي قال : كان ابن مسعود يحكّ المعوّذتين من مصاحفه ويقول : إنّهما ليستا من كتاب الله .

وأخرج البزّار والطبراني مِن وجه آخر عنه أنّه كان يحكّ المعوّذتين من المصحف ويقول : إنّما أمر النبيّ أن يتعوّذ بهما ، وكان [عبدالله] لا يقرأ بهما .

أسانيدها صحيحة .

قال البزّاز : لم يُتابع ابن مسعود على ذلك أحد من الصحابة وقد صحّ أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ بهما في الصّلاة .

قال ابن حجَر : فقول مَن قال إنّه كذبٌ عليه ، مردود ، والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يُقبل ، بل الروايات صحيحة )(٢) .

فهذا الطريق ـ طريقُ الطعن في هذهِ الروايات ـ لا يفيد .

ـــــــــــــــــــ

(١) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٧١ .

(٢) الإتقان في علوم القرآن ١ : ٢٧١ ـ ٢٧٢ .

٢٨

٢ ـ الإبهام

ومنهم مَن سلَك طريقَ الإبهام ، فوضَع بدل كلمة حكّ ابن مسعود وإنكاره الفاتحة والمعوّذتين ، كلمة ( كذا وكذا ) وتخيّل أنّه بذلك يُمكن إخفاء الحقيقة والخروج عن العقدة ، وقد جاء ذلك في ( صحيح البخاري ) حيث قال :

( حدّثنا عليّ بن عبد الله ، حدّثنا سُفيان ، حدّثنا عبدة بن أبي لُبابة ، عن زر ابن حبيش ، وحدّثنا عاصم عن زر قال : سألت أُبيّ بن كعب : يا أبا المنذر ، إنّ أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا ، فقال أُبّي : سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لي :( قل ) ، فقلت : [قال] فنحن نقول كما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )(١) .

على أنّ في هذا النقل مزيداً مِن الطعن والجرح على ابن مسعود...

وقال ابن حجر في ( فتح الباري ) :

( هكذا وقع هذا اللّفظ مُبهماً ، وكأنّ بعض الرواة أبهمه استعظاماً ، وأظنّ ذلك مِن سفيان ، فإنّ الإسماعيلي أخرجه مِن طريق عبد الجبّار بن العلاء ، عن سُفيان كذلك على الإبهام ، وكنت أظنّ أوّلاً أنّ الذي أبهمه البخاري... )(٢) .

٣ ـ التأويل والحمل

ومنهم مَن سلَك طريق التأويل للأخبار المنقولة عن ابن مسعود :

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ٦ : ٢٢٣ كتاب التفسير ـ سورة قل أعوذ بربّ الناس .

(٢) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٨ : ٦٠٣

٢٩

قال ابن حجَر في ( فتح الباري ) :

( وقد تأوّل القاضي أبو بكر الباقلاّني في كتاب الانتصار ، وتبعه عياض وغيره ما حكي عن ابن مسعود فقال : لم ينكر ابن مسعود كونهما من القرآن ، وإنّما أنكر إثباتهما في المُصحف ، فإنّه كان يرى أنْ لا يكتب في المصحف شيئاً ، إلاّ إنْ كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أذِن في كتابته فيه ، وكأنّه لم يبلغه الإذن في ذلك قال : فهذا تأويلٌ منه وليس جحداً لكونهما قرآناً وهو تأويل حسن ) .

لكنّه تأويلٌ عجيب وتوجيهٌ غريب ، فأيّ مانعٍ مِن درْج ما هو قرآن في القرآن حتّى لا يجوّز ابن مسعود ذلك ، ويهتمّ بمحوه من المصحف ؟ إنّ مثل هذا التأويل غيرُ مُجدٍ للدفاع عن حرمة ابن مسعود والمحافظة على مقامه...

إنّ هذا التأويل لا يُمكن قبوله أصلاً ، ولذا قال ابن حَجَر بعد العبارة المتقدّمة :

( إلاّ أنّ الرواية الصريحة التي ذكرتها تدفع ذلك حيث جاء فيها : ويقول : إنّهما ليستا مِن كتاب الله ) إلاّ أنّه حاول التأويل لهذه الرواية فقال :

( نعم ، يُمكن حمل لفظ ( كتاب الله ) على ( المُصحف ) فيتمّ التأويل المذكور وقال غير القاضي : لم يكن اختلاف ابن مسعود مع غيره في قرآنيّتهما ، وإنّما كان في صفة من صفاتهما ، انتهى .

وغاية ما في هذا أنّه أبهم ما بيّنه القاضي )(١) .

لكنّ هذا التأويل باطل أيضاً ، إذ لا يساعده لفظ الرواية عند البزّار والطبراني التي أوردها ابن حجر أيضاً ، فإنّها صريحة في أنّ ابن مسعود كان

ـــــــــــــــــــ

(١) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٨ : ٦٠٤ .

٣٠

يقول بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما عوّذ بالمعوّذتين ، ولم يكن يقرأ بهما ، وهذا يدلّ بكلّ وضوح على أنّ ابن مسعود ما كان يرى المعوّذتين قرآناً ، اللّهمّ إلاّ أنْ يزعموا أنّ عدم القراءة بالمعوّذتين لا يثبت عدم كونهما قرآناً ، وحينئذٍ ، فما هو الكلام المعبّر عن ذلك ؟

ومِن هنا نرى أنّ بعض المتكلّمين منهم لمّا لم يتمكّنوا مِن توجيه رأي ابن مسعود ، ولا مِن إنكار ما لاقاه مِن عثمان ، اضطرّ إلى هتك حرمة ابن مسعود وتوهينه... ولم يتعرّض لشيء مِن هذه التأويلات...

وكيف يُمكن تأويل ما اُخرج في ( المسند ) من أنّه ( لقد كان ابن مسعود يرى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعوّذ بهما الحسن والحسين ، ولم يسمعه يقرؤهما في شيء مِن صلواته ، فظنّ أنّهما معوّذتان ، وأصرَّ على ظنّه ، وبالغ في إنكار كونهما من القرآن )(١) ؟

ولذا نرى الحافظ ابن حجَر يتراجع عن كلّ التأويلات ، وقد قال في آخر كلامه السّابق :

( ومَن تأمَّل سياق الطُرق التي أوردتُها للحديث ، استبعَد هذا الجمع ) .

واختار بالآخرة الحمل على عدم تواتر المعوّذتين عند ابن مسعود ، قال :

( قد قال ابن الصبّاغ في الكلام على مانعي الزكاة : وإنّما قاتلهم أبو بكر على منع الزكاة ، ولم يقل إنّهم كفروا بذلك ، وإنّما لم يكفروا ؛ لأنّ الإجماع لم يكن استقر ، قال : ونحن الآن نكفّر مَن جحدها ، وكذلك ما نُقل عن ابن مسعود في المعوّذتين ، يعني : إنّه لم يثبت عنده القطع بذلك ، ثمّ حصل الاتفاق بعد ذلك .

ـــــــــــــــــــ

(١) مسند أحمد بن حنبل ٦: ١٥٤/ ٢٠٦٨٤ .

٣١

وقد استشكل هذا الموضع الفخر الرازي فقال : إنْ قلنا : إنّ كونهما مِن القرآن كان متواتراً في عصرِ ابن مسعود ، لزِم تكفير مَن أنكرهما ، وإنْ قلنا : إنّه لم يكن متواتراً ، لزِم أنّ بعض القرآن لم يتواتر قال : وهذه عقدةٌ صعبة .

وأُجيب : باحتمال أنّه كان متواتراً في عصر ابن مسعود ، ولكنْ لم يتواتر عند ابن مسعود ، فانحلّت العقدة بعون الله تعالى )(١) .

إلاّ أنّ هذا الحمل أضعف وأفسد من الكلّ ، وذلك :

أوّلاً : إنّه يُنافي ما رواه القوم ـ كما في ( الاستيعاب ) وغيره ـ مِن أنّ ابن مسعود حضَر العرض الأخير للقرآن الكريم ، وعَلِم ما نُسِخ منه وما بُدّل ، وهذا نصّ ما رواه ابن عبد البر حيث قال :

( روى وكيع وجماعة معه ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان قال : قال لي عبد الله بن عبّاس : أيّ القراءتين تقرأ ؟ قلت : القراءة الأُولى قراءة ابن أُمّ عبد فقال لي : بل هي الآخرة ، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعرض القرآن على جبرئيل في كلّ عام مرّةً ، فلمّا كان العام الذي قبض فيه ، عرضه عليه مرّتين ، فحضر ذلك عبد الله ، فعلِم ما نُسِخ مِن ذلك وما بُدّل )(٢) .

وهل من الجائز أن يقال بأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعرض الموّذتين ، وجبريل أيضاً لم ينبّهه على ذلك ؟!

وثانياً : إذا كان تواتر المعوّذتين ثابتاً عند الصّحابة وغير ثابت عند ابن مسعود فقط ، نقول : إنْ كان سائر الصحابة قد أخبروه بكون المعوّذتين مِن القرآن فلم يقبل منهم ولم يصدّقهم ، أو لم يثبت بخبرهم تواترهما عنده ، لزم

ـــــــــــــــــــ

(١) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٨ : ٦٠٤ .

(٢) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ٣ : ٩٩٢/ ١٦٥٩ .

٣٢

فسق الصّحابة ، بل دلّ ذلك على كونِهم أسوَء حالاً من الكُفّار والفسّاق ؛ لأنّ التواتر يحصل بإخبار الكفّار أيضاً كما بُيِّنَ في محلّه وإنْ كان سائر الصّحابة لم يخبروه بكون المعوّذتين قرآناً ، مع علمهم بأنّه كان يحكّهما مِن المصاحف ـ كما في ( المسند ) : ( عن زر قال : قلت لأُبَي : إنّ أخاك يحكّهما مِن المصحف )، وكما في ( الرياض النضرة ) في مطاعن عثمان : ( وأمّا الخامسة عشر ، وهي إحراق مصحف ابن مسعود ، فليس ذلك ممّا يُعتذر عنه ، بل هو من أكبر المصالح ، فإنّه لو بقيَ في أيدي الناس أدّى ذلك إلى فتنةٍ كبيرةٍ في الدين ؛ لكثرة ما فيه من الشذوذ المنكرة عند أهل العلم بالقرآن ، ولحذفِهِ المعوّذتين من مُصحفه مع الشهرة عند الصحابة أنّهما من القرآن وقال عثمان لمّا عُوتب في ذلك : خشيت الفتنة في القرآن ) (١) ـ فالصّحابة ـ وعلى رأسهم عثمان ـ كلّهم فسّاق!!

وبعد ، فإذا كان ابن مسعود مُنكِراً للمعوّذتين ، فإنّ جميع ما يُشنِّع به المخالفون على أهل الحق ـ لوجود بعض الأخبار الظاهرة في تحريف القرآن ـ القابلة للحمل على المحامل الصحيحة في كُتبِنا ـ يتوجّه على ابن مسعود بالأولويّة القطعيّة ؛ فإنّه ينكر بصراحة سورتين كاملتين ، بل ثلاث سور ، هي المعوّذتان وأُمّ الكتاب ، وهو في نفس الوقت من أعلام الصحابة وأجلاّئهم ، ومن أئمّة القرآن والتفسير وأكابرهم !! بل هو محكومٌ عليه بالكُفر والخروج عن زمرة المسلمين ، وقد جاء في كتاب ( فصول الأحكام ) لعِماد الدين حفيد بُرهان الدين صاحب الهداية(٢) :

ـــــــــــــــــــ

(١) الرياض النضرة في مناقب العشرة ٣ : ٩٩.

(٢) المعروف بكتاب ( فصول العمادي ) كما في ( كشف الظنون ٢ : ١٢٧٠ ) وهو في فروع الحنفيّة وصاحب الهداية هو : برهان الدين المرغيناني المتوفّى سنة ٥٩٣

٣٣

 ( وبعض المشايخ على أنّه ـ أي مَن زعَم أنّ المعوّذتين ليسَتَا من القرآن ـ يكفر وحكى عن خاله ، الإمام جلال الدين أنّه قد ذكر في آخر تفسير أبي اللّيث حديثاً : مَن زعَم أنّ المعوّذتين ليسَتَا من القرآن فأولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ومثل هذا الوعيد إنّما ورد في حقّ الكفّار دون المؤمنين ) .

وتَلَخّص :

سقوط جميع التأويلات ، وبقاء العقدة العويصة على حالها .

فهذا حال ابن مسعود عند القوم على أُصولهم .

ولعلَّ هذا هو السبب في توقّف عبد الله بن عُمر عن قبول خبر ابن مسعود عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما في ( صحيح مسلم ) :

( عن أبي رافع ، عن عبد الله بن مسعود : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( ما من نبيٍّ بعَثَه الله في اُمةٍ قبلي ، إلاّ كان له من أُمّته حواريّون وأصحاب ، يأخذون بسنّته ويقتدون بأمره ، ثمّ إنّها تخلف من بعدهم خُلُوف يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون مال لا يُؤمرون ، فمَن جاهدهم بيده فهو مؤمن... وليس وراء ذلك مِن الإيمان حبّة خردل ) .

قال أبو رافع : فحدّثت عبد الله بن عمر ، فأنكره عليَّ ، فقدم ابن مسعود فنزل بقناةٍ ، فاستتبَعَني إليه عبد الله بن عمر يعوده ، فانطلقتُ معه ، فلمّا جلسنا سألتُ ابن مسعود عن هذا الحديث ، فحدّثنيه كما حدّثت ابن عمر ).

٣٤

عبد الله بن العبّاس

وأمّا الحبر الجليل والمفسّر النبيل عبد الله بن العبّاس ، الذين لقّبوه بـ ( ترجمان القرآن ) ، وقالوا بأنّه عَلِم تأويل القرآن بدعاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما قال ابن القيّم في ( زاد المعاد ) في الاستدلال على أنّ الخُلْع ليس بطلاق بقوله تعالى :( الطَّلاقُ مَرَّتَانِ... ) الآية : ( وهذا فهْم ترجمان القرآن، الذي دعا له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنْ يعلّمه الله تأويل القرآن، وهي دعوة مُستجابة بلا شك )(١) .

قوله بالمتعة وهي عند جمهورهم حرام

فهو ـ بمقتضى هفَواتهم الشنيعة وخُرافاتهم القبيحة ـ من المجوّزين للحرام ؛ لأنّه كان يقول بحلّيّة المتعة وهي عندهم من السفاح الزنا ، فاستحقّ بذلك أشدّ التشنيعات واتّصف بأقبح العيوب .

هذا ، مضافاً إلى روايتهم في الصحيح ـ وهي مكذوبة يقيناً ـ عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قد زَجَره عن هذا القول ، وحكَم عليه بأنّه رجلٌ تائه(٢) .

ـــــــــــــــــــ

(١) زاد المعاد في هدي خير العباد ٤ : ٣٧ .

(٢) صحيح مسلم ٢ : ١٠٢٧/ ١٤٠٧ كتاب النكاح الباب٣ ، المعجم الأوسط للطبراني ٣ : ١٢٧/ ٢٢٦٥، سنن البيهقي ٧ : ٢٠١ كتاب النكاح ، باب نكاح المتعة ، الناسخ والمنسوخ للنحّاس : ٩٩ .

٣٥

وعن عبد الله بن الزبير أنّه وصَفَه بالفاجر ، كما روى القاري في ( المرقاة ) :( عن عروة بن الزبير : إنّ عبد الله بن الزبير قام بمكّة فقال : إنّ أُناساً أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يُفتون بالمتعة ، ـ يُعرِّض برجل ـ فناداه فقال : إنّك لَجِلْف جاف ، فلعمري لقد كانت المتعة تُفعَل في عهد إمام المتقين ـ يُريد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فقال له ابن الزبير : فجرت بنفسك ، فو الله لئن فعلتها لأرجمنَّك بأحجارك. الحديث. رواه النسائي.

ولا تردّد في أنّ ابن عبّاس هو الرجل المُعرَّض به وكان قد كفّ بصَرُه ، فلذا قال ابن الزبير : كما أعمى أبصارهم ، وهذا إنّما كان في حال خلافة ابن الزبير ، وذلك بعد وفاة عليّ ، وقد ثبت أنّه كان مستمرّ القول على جوازها) (١) .

قوله برؤية النبي ربّه

وأيضاً ، فإنّ ابن عبّاس ـ بحسب روايات القوم المكذوبة عليه قطعاً ـ كان من المفترين على الله والرسول ؛ إذ كان يقول بأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد رأى الله ـ سبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً ـ كما جاء في ( صحيح الترمذي ) :

( عن عكرمة عن ابن عبّاس قال : رأى محمّدٌصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّه قلت : أليس الله يقول :( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ... ) ؟ قال : ويحك ، ذاك إذا تجلّى بنورِه الذي هو نورُه ، وقد رأى محمّدٌ ربّه مرّتين هذا حديث حسن غريب )(٢) .

ـــــــــــــــــــ

(١) المرقاة في شرح المشكاة ٦ : ٣١٨/ ٣١٥٨ كتاب النكاح الباب ٣ .

(٢) صحيح الترمذي ٥ : ٣٩٥/ ٣٢٧٩ كتاب تفسير القرآن ، الباب ٥٤ .

٣٦

بل إنّه كان يُبالغ في هذا الاعتقاد ويصرّ عليه ، حتّى أنّه لمّا سُئل عنه مرّةً جعل يكرّر ذلك ويُؤكّده ، ففي ( عيون الأثر ) : ( في تفسير النقّاش : عن ابن عبّاس أنّه سُئل : هل رأى محمّدٌ ـصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ربّه ؟ فقال : رآه رآه رآه ، حتّى انقطع صوته )(١) .

إنكار عائشة ذلك

وقد أخرجوا أنّ عائشة قد بالغت في الإنكار على ابن عبّاس ، فقد جاء في ( صحيح الترمذي ) : ( حدّثنا ابن أبي عمر ، نا سفيان ، عن مجالد ، عن الشعبي قال : لقي ابن عبّاس كعباً بعَرَفَة ، فسألهُ عن شيءٍ ، فكبّر حتّى جاوبته الجبال ، فقال ابن عبّاس : إنّا بنو هاشم ، فقال كعب : إنّ الله قسّم رؤيته وكلامه بين محمّدٍ وموسى ، فكلّم موسى مرّتين ، ورآه محمّد مرّتين .

قال مسروق : فدخلتُ على عائشة فقلت : هل رأى محمّدٌ ربّه ؟ فقالتْ : لقد تكلّمتَ بشيء قفّ له شعري قلت : رويداً ، ثمّ قرأتُ( لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ) قالت : أين يذهب بك ؟ إنّما هو جبرئيل من أخبرك أنّ محمداً رأى ربّه أو كتم شيئاً ممّا أُمِر به ؟ أو يعلم الخمس التي قال الله تعالى( إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ... ) فقد أعظَم الفرية ، ولكنّه رأى جبرئيل ، ولم يره في صورته إلاّ مرّتين : مرّةً عند سدرة المنتهى ، ومرّةً في جياد ، له ستّ مائة جناح ، قد سدّ الأُفق )(٢)

ـــــــــــــــــــ

(١) عيون الأثر في المغازي والسير ١ : ٢٥٠ .

(٢) صحيح الترمذي ٥ : ٣٩٤/ ٣٢٧٨ كتاب تفسير القرآن ٥٤٥ .

٣٧

وقد أخرج البخاري ومسلم إنكار عائشة وتكذيبها رؤية النبيّ ربّه(١) .

وفي ( عيون الأثر ) :

( وقد تكلّم العلماء في رؤية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لربّه ليلة الإسراء ، فرُوي عن مسروق ، عن عائشة أنّها أنكرت أنْ يكون رآه قالت : ومُن زعم أنّ محمداً رأى ربّه فقد أعظم الفرية على الله ، واحتجّت بقوله سبحانه :( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ... ) (٢) .

وإذا كان ابن عبّاس قد أعظم الفرية على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد سقَطَت رواياته كلّها عن الاعتبار ، سَواء ما كان منها في الصحاح وفي غيرها من الكتب ، لِما قرّروا في محلّه من أنّ مَن كذب في خبرٍ وجَب إسقاط جميع أخباره :

قال النووي في ( التقريب ) : ( قال السمعاني : من كذب في خبرٍ واحدٍ وجب إسقاط ما تقدّم من حديثه ) .

وكذا قال شارحه السيوطي : ( من كذب في حديثٍ واحدٍ رُدَّ جميع حديثه السابق )(٣) .

تأويل إنكار عائشة

ومن القوم من تجاسر على عائشة ، فزعم أنّ تكذيبها رؤية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان رأياً منها لا روايةً عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ٦ : ١٧٥ كتاب التفسير ـ سورة والنجم ، صحيح مسلم ١/ ١٥٩/ ١٧٧ كتاب الإيمان الباب ٧٧ .

(٢) عيون الأثر في المغازي والسير ١ : ٢٥٠.

(٣) تداريب الراوي ـ شرح تقريب النواوي ١ : ٣٣٠ و٣٣٢.

٣٨

العجائب ذهاب النووي إلى ذلك ، كما في ( المواهب اللدنيّة ) حيثُ قال :

( قال النووي ـ تبعاً لغيره ـ لم تنفِ عائشة وقوع الرؤية بحديثٍ مرفوع ، ولو كان معها لذكرته ، وإنّما اعتمدت الاستنباط على ما ذكرته من ظاهر الآية ، وقد خالفها غيرها من الصحابة ، والصّحابي إذا قال قولاً وخالفه غيره منهم لم يكن ذلك القول حجّة اتفاقاً )(١) .

لكنْ يُبطله أنّ الحديث موجود في صحيح مسلم الذي شرحه النووي، وقد نبّه على ذلك الحافظ ابن حجَر أيضاً، حيث قال في ( فتح الباري ) :

( وجزْمه بأنّ عائشة لم تنفِ الرؤية بحديثٍ مرفوع ، تبع فيه ابن خزيمة ، فإنّه قال في كتاب التوحيد من صحيحه : النفي لا يُوجب علماً ، ولم تحكِ عائشة أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبرها أنّه لم يرَ ربّه ، وإنّما تأوّلت الآية إنتهى .

وهو عجب ، فقد ثبت ذلك عنها في صحيح مسلم الذي شرحه الشيخ ، فعنده من طريق داود بن أبي هِند ، عن الشعبي ، عن مسروق في الطريق المذكور قال مسروق : وكنت متّكياً فجلست فقلت : ألم يقل الله تعالى :( وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى ) ؟ فقالت : أنا أوّلُ هذه الأُمّة سألَ رسولَ الله عن ذلك ، فقال :( إنّما هو جبرئيل ) .

وأخرجه ابن مردويه من طريق أُخرى عن داود بهذا الإسناد : فقالت : أنا أوّل من سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذا ، فقلت : يا رسول الله ، هل رأيت ربّك ؟ فقال :( لا ، إنّما رأيت جبريل منهبطاً ) (٢) .

ـــــــــــــــــــ

(١) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة ٢ : ٣٨٩.

(٢) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٨ : ٤٩٣.

٣٩

أقول :

وإذا كان هذا في صحيح مسلم ، فكيف يقول القائلون منهم برؤيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّه ؟ نعوذ بالله من استيلاء الجهالة والانهماك في الضلالة !

إنكار الصحابة

وأنكر غير عائشة من الصحابة رؤية النبيّ ربّه ، قال في ( تاريخ الخميس ) :

( واختلف أيضاً في رؤية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّه ، فأنكرت عائشةرضي‌الله‌عنه ا... وقال جماعة بقول عائشة ، وهو المشهور عن ابن مسعود ، ومثله عن أبي هريرة في قوله( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) ـ قال : رآه بقلبهِ ولم يرَه بعينه )(٢) .

محاولة الجمع

وقد تكلّف بعض أكابر القوم الجمع بين إثبات ابن عبّاس ـ حسبَما

ـــــــــــــــــــ

(١) تاريخ الخميس ١ : ٣١٣ .

(٢) سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ٣ : ٦٣ .

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456