استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

استخراج المرام من استقصاء الإفحام13%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 456

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 456 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 226861 / تحميل: 8305
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

هذا ، ونقل عن كتاب( الإمامة والسياسة ) مع نسبته إلى ابن قتيبة ، جماعة آخرون من أعلام القوم :

كابن خلدون في : تاريخه المعروف...٢ : ١٦٦ .

وأبي عبد الله محمّد بن علي التوزري المصري في كتابه :( صلة السمط وسمة المرط في الأدب والتاريخ ) (١) ، في الفصل الثاني من الباب ٣٤ .

وشاه سلامة الله البدايوني ـ أحد علماء الهند ـ في كتابه :( معركة الآراء ) : ١٢٦ .

وذكر حيدر علي الفيض آبادي في كتابه : منتهى الكلام في الردّ على الشيعة : أنّهم ـ أي الشيعة ـ يعتمدون على كتاب ( الإمامة والسياسة ) لابن قتيبة اعتمادهم على القرآن الكريم...!!

فنقول : والعياذ بالله من هذا الكلام... فالإماميّة إنّما تستند إلى هذا الكتاب لكونه من مؤلّفات أحد أعلام أهل السنّة المنحرفين عن أهل البيتعليهم‌السلام ، ومن باب الإلزام والاحتجاج ، ولا تقول الشيعة بصحّة كلّ ما فيه من الأخبار ، بل شأنه شأن سائر الكتب ، فيه الحق والباطل ، فكيف يُقاس بالقرآن الكريم الذي( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ.... ) (٢) .

هذا ، وقد نسب كتاب ( الإمامة والسياسة ) إلى ابن قتيبة ، جلّ المؤلّفين المعاصرين أمثال :

فريد وجدي في : دائرة المعارف .

وعمر رضا كحّالة في : معجم المؤلّفين .

ـــــــــــــــــــ

(١) انظر : معجم المؤلفين ١١ : ٥٧ .

(٢) سورة فصّلت : ٤٢ .

١٠١

وإلباس سركيس في : معجم المطبوعات العربيّة .

وجرجي زيدان في : تاريخ آداب اللغة العربيّة .

وها هو كتاب ( الإمامة والسياسة ) مطبوع ـ بتحقيق غير واحدٍ من المحقّقين ـ طبعات عديدة في بلاد مختلفة ، قال جرجي زيدان : ومنه نسخ خطيّة في مكتبات باريس لندن .

قلت : ومنه نسخة نفيسة جدّاً ، ترجع إلى القرن الثالث أو الرابع في مكتبة المجلس بطهران .

عبد الله بن الزبير

وأمّا عبد الله بن الزبير ، فقوادحه تفوق الحصر والعدّ ، ونحن نتعرّض لبعضها مع الاختصار...

أوّل شهادة زور في الإسلام

إنّ أوّل ما نذكره مِن مطاعن الرجل وقبائحه : كذبه وإقامته شهادة زورٍ في قضيّة كلاب الحوأب ؛ وذلك أنّه لمّا وصلت عائشة ـ في مسيرها إلى البصرة تقود الجيوش من أجل قتال عليّعليه‌السلام ـ إلى منطقة الحوأب ونبحتها كلابها ، تذكّرت قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأرادت الرجوع إلى الحجاز ، فرأى ابن الزّبير أنّها إنْ رجعت انكسر جيشهم وخسروا المعركة ، فجاء وحلَف بأنّ هذا المكان ليس الحوأب ، وأقام شهوداً على ذلك أيضاً ، فكانت أوّل شهادة زور في الإسلام ، وقد قال رسول الله :( من سَنّ سنّةً سيّئة فعليه وزرها ، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة...) وهكذا انخدعت عائشة وواصلت سيرها ، ووقعت الحرب وأُريقت الدماء وهُتكت الأعراض... كما هو مثبت في كُتب التاريخ...

١٠٢

ونحن نكتفي هنا بإيراد بعض الأخبار في كذب ابن الزبير وشهادته الكاذبة :

قال السمعاني(١) :

( وورد في حديث عصام بن قدامة ، عن عكرمة ، عن ابن عبّاس : أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لنسائه :( ليت شعري أيّتكنّ صاحبة الجمل الأدبب ، وقيل : الأحمر ،تنبحها كلاب الحوأب ) .

وروى إسماعيل بن أبي خالد كذلك ، عن قيس بن أبي حازم عن عائشة : أنّها مرّت بماء ، فنبحتها كلاب الحوأب ، فسألت عن الماء ، فقالوا : هذا ماء الحوأب ، والقصّة في ذلك :

أنّ طلحة والزبير بعد قتل عثمان وبيعة عليّ ، خرجا إلى مكّة ، وكانت عائشة حاجّة تلك السنة ، بسبب اجتماع أهل الفساد والعيث من البلاد بالمدينة لقتل عثمان ، خرجت عائشة هاربة من الفتنة ، فلمّا لحقها طلحة والزبير حملاها إلى البصرة في طلب دم عثمان من عليّرضي‌الله‌عنه ، وكان ابن الزبير عبد الله ابن أُختها أسماء ذات النطاقين ، فلمّا وصلت عائشة رضي الله عنها معهم إلى هذا الماء نبحت الكلاب عليها، فسألت عن الماء واسمه ، فقيل لها : الحوأب ، فتذكّرت قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أيّتكنّ ينبح عليها كلاب الحوأب ) ، فتوقّفت وعزمت على الرجوع ، فدخل عليها ابن أُختها ابن الزبير وقال : ليس هذا ماء الحوأب ، حتّى قيل أنّه حلَف على ذلك وكفّر عن يمينه والله أعلم ، ويمّمت عائشة إلى البصرة وكانت وقعة الجمل المعروفة ) .

وقال قاضي القضاء محبّ الدين أبو الوليد محمّد بن محمّد بن الشحنة

ـــــــــــــــــــ

(١) قال الذهبي: ( الإمام الحافظ الكبير الأوحد الثقة ، محدّث خراسان ، أبو سعد عبد الكريم... السمعاني...) وأرخ وفاته بسنة ٥٦٢ سير أعلام النبلاء ٢٠ : ٤٥٦ .

١٠٣

الحنفي الحلبي (١) :

( في سنة ست وثلاثين : أرسل عليّ بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه إلى البلاد عمّاله ، فبعث عمارة بن شهاب إلى الكوفة ، وكان من المهاجرين ، وولّى عثمان بن حنيف الأنصاري البصرة ، وعبيد الله بن عبّاس اليمن ، وقيس بن سعد الأنصاري مصر ، وسهل بن حنيف الأنصاري الشام ، فرجع من الطريق لمّا سمِع بعصيان معاوية ، وكذلك عمارة لقيه طلحة بن خويلد الذي كان ادّعى النبوّة في خلافة أبي بكررضي‌الله‌عنه فقال له : إنّ أهل الكوفة لا يستبدلون بأبي موسى الأشعري ، فرجع ، ولمّا وصل عبيد الله إلى اليمن خرج الذي كان بها من قبل عثمان ـ وهو يعلى بن منبّه ـ بما بها من الأموال إلى مكّة ، وصار مع عائشة وطلحة والزبير ، وجمعوا جمعاً عظيماً وقصدوا البصرة ، ولم يوافقهم عبد الله بن عمر ، وأعطى يعلى بن منبّه لعائشة رضي الله عنها جملاً كان اشتراه بمائة دينار اسمه عسكر ، وقيل بثمانين ، وركبته ، ومرّوا بمكان اسمه الحوأب ، فنبحتهم كلابه .

فقالت عائشة : أيّ ماء هذا ؟

فقيل لها : هذا ماء الحوأب ، فصرخت وقالت : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول ـ وعنده نساؤه ـ :( ليت شعري أيّتكنّ تنبحها كلاب الحوأب ) ، ثمّ ضربت عضد بعيره فأناخته وقالت : ردّوني ، فأقاموا يوماً وليلة .

فقال لها عبد الله بن الزبير : إنّه كذب ، ليس هذا ماء الحوأب .

ولم يزل بها وهي تمتنع ، فقال : النجا النجا ، فقد أدرككم عليّ .

ـــــــــــــــــــ

(١) المتوفّى سنة ٨١٥ توجد ترجمته في : الضوء اللامع ١٠: ٣ وشذرات الذهب ٧ : ١١٣ .

١٠٤

فارتحلوا فوصلوا البصرة) (١) .

وقال ابن قتيبة في كتاب ( الإمامة والسياسة ) :

( فلمّا انتهوا إلى ماء الحوأب في بعض الطريق ومعهم عائشة ، نبحها كلاب الحوأب ، فقالت لمحمّد بن طلحة : أيّ ماء هذا ؟ قال : هذا ماء الحوأب فقالت : ما أراني إلاّ راجعة قال : ولِمَ ؟ قالت : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لنسائه :( كأنّي بإحداكنّ قد نبحها كلاب الحوأب ، وإيّاك أنْ تكوني هي أنت يا حميراء ) ، فقال لها محمّد بن طلحة : تقدّمي ـ رحمك الله ـ ودعي هذا القول .

وأتى عبد الله بن الزبير ، فحلف لها بالله لقد خلّفته أوّل الليل ، وأتاها ببيّنة زور من الأعراب ، فشهدوا بذلك )(٢) .

قبائح ابن الزبير في هذه القصّة

وقد ارتكب ابن الزير في هذه القصّة قبائح عديدة ، تكفي الواحدة منها للعنه والطعن فيه ، فكيف إذا اجتمع الجميع في الواقع واتّسع الفتق على الراقع ؟ :

١ ـ إنّه ارتكب الكذب ، إذ قال لعائشة : إنّ هذا المكان ليس ( الحوأب ) .

٢ ـ وقد حلف على ذلك كاذباً .

٣ ـ وأقام شهود الزور على كذبه .

٤ ـ وجعل يقول : النجاء النجاء ، فقد أدرككم علي .

ـــــــــــــــــــ

(١) روضة المناظر في علم الأوائل والأواخر ، حوادث السنة ٣٦ .

(٢) الإمامة والسياسة : ٦٣ .

١٠٥

٥ ـ وكان السبب في تلك المفسدة الكبيرة التي قاموا بها وأراقوا الدماء فيها .

هذا ، وقد جاء في بعض الأخبار مشاركة طلحة والزبير في إقامة تلك الشهادة الكاذبة والآثمة :

قال سبط ابن الجوزي : قال ابن جرير في تاريخه :

(... فمرَّت على ماء يُقال له الحوأب ، فنبحتها كلابه ، فقالت : ما هذا المكان ؟ فقال لها سائق الجمل العرني : هذا الحوأب ، فاسترجعت وصرخت بأعلى صوتها ، ثمّ ضربت عضد بعيرها فأناخته ، ثمّ قالت : أنا ـ والله ـ صاحبة كلاب الحوأب ، ردّوني إلى حرم الله ورسوله ـ قالتها ثلاثاً ـ .

قال ابن سعد ـ فيما حكاه عن هشام بن محمّد الكلبي ـ استرجَعت وذكرت قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( كيف بك إذا نبحتك كلاب الحوأب ) ؟

فقال لها طلحة والزبير : ما هذا الحوأب ، وقد غلط العرني ثمّ أحضروا خمسين رجلاً فشهدوا معهما على ذلك وحلفوا .

قال الشعبي : فهي أوّل شهادة زور أُقيمت في الإسلام )(١) .

خروجه لقتال الإمامعليه‌السلام

ولا خلاف في أنّ عبد الله بن الزبير مِن الخارجين على الإمام ، والمبادرين لمحاربة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهذا من أعظم معاصيه وأقبح مخازيه ، وقد أفادت الأحاديث النبويّة الثابتة بأنّ قتال الإمامعليه‌السلام كُفر ؛

ـــــــــــــــــــ

(١) تذكرة خواصّ الأُمّة : ٦٨ وانظر : تاريخ الطبري ٤ : ٤٦٩.

١٠٦

لأنّ قتال المسلم أشنع وأقبح من سبابه ، وإذا كان سبّ أمير المؤمنين كفراً ، فمحاربته وقتاله كفر ، بالأولويّة القطعيّة .

أمّا الدليل على أنّ المحاربة والقتال أشدّ من السب ، فقد أخرج البخاري في كتاب الإيمان بإسناده عن عبد الله : ( إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر ) (١) .

وفي كتاب الفتن بإسناده : ( قال عبد لله : قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر ) (٢) .

وفي كتاب الأدب ، بإسناده عن عبد الله قال : ( قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر ) (٣) .

وقال المنذري في( الترغيب والترهيب ) :( عن ابن مسعودرضي‌الله‌عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر ) .

رواه البخاري ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة) (٤) .

فقال ابن حجر في شرحه :

( لمّا كان القتال أشدّ من السباب ؛ لأنّه مفضٍ إلى إزهاق الروح ، عبّر عنه بلفظ أشدّ من لفظ الفسق ، وهو الكفر )(٥) .

وأمّا الدليل على أنّ سبّ عليّعليه‌السلام كفر ، فالأحاديث الصحيحة الثابتة :

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ١ : ١٩ كتاب الإيمان ـ باب خوف المؤمن من أنْ يحبط عملُهُ... .

(٢) صحيح البخاري ٩ : ٦٣ كتاب الفتن ـ باب قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا ترجعوا بعدي كفّاراً...) .

(٣) صحيح البخاري ٨ : ١٨ كتاب الأدب ، باب ما يُنهى من السّباب واللعن .

(٤) الترغيب والترهيب ٣ : ٤٦٦/ ٢ .

(٥) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ١ : ٩٣ .

١٠٧

أخرج الحاكم :

( أخبرنا أحمد بن كامل القاضي ، حدّثنا محمّد بن سعد العوفي ، حدّثنا يحيى بن أبي بكر ، حدّثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبد الله الجدلي قال : دخلت على أُمّ سلمة رضي الله عنها فقالت لي : أيُسبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكم ؟ فقلت : معاذ الله أو سبحان الله أو كلمة نحوها .

فقالت : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :( مَن سبّ عليّاً فقد سبّني ) . هذا حديثٌ صحيح الإسناد ولم يُخرجاه .

وقد رواه بكير بن عثمان البجلي ، عن أبي إسحاق بزيادة ألفاظ : حدّثنا أبو جعفر أحمد بن عبيد الحافظ بهمدان ، حدّثنا أحمد بن موسى بن إسحاق التميمي ، حدّثنا جندل بن والق ، حدّثنا بُكير بن عثمان البجلي قال : سمعت أبا إسحاق التميمي يقول : سمعت أبا عبد الله الجدلي يقول : حججت ـ وأنا غلام ـ فمررت بالمدينة ، وإذا الناس عنقٌ واحد فأتبعتهم ، فدخلوا على أُم سلمة زوج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسمعتها تقول : يا شبث بن ربعي ، فأجابها رجل جلف جاف : لبّيك يا أُمّاه قالت : يُسبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ناديكم ؟ ! قال : وأنّى ذلك .

قالت : فعليّ بن أبي طالب قال : إنّا لنقول أشياء نريد عرض الدنيا ، قالت : فإنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :( من سبّ عليّاً فقد سبّني ، ومن سبّني فقد سبّ الله تعالى ) (١) .

وأخرج الحاكم :

( أخرج محمّد بن أحمد بن تميم القنطري ، حدّثنا أبو قلابة الرقاشي ،

ـــــــــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٢١ كتاب معرفة الصحابة .

١٠٨

حدّثنا أبو عاصم ، عن عبد الله بن مؤمّل ، حدّثني أبو بكر بن عبيد الله بن أبي مليكة عن أبيه قال : جاء رجلٌ من أهل الشام ، فسبّ عليّاً عند ابن عبّاس ، فحصبهُ ابن عبّاس فقال : يا عدّو الله ، آذيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً ) لو كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيّاً لآذيته هذا حديثٌ صحيح الإسناد ولم يُخرجاه ) (١) .

وما ذكره بعض المتكلّمين المتعصّبين في الدفاع عن أصحاب الجمل الناكثين ، من أنّهم ما كانوا يقصدون المحاربة ، ووقوع الحرب كان بلا إرادة من الطرفين ، فإنكار للبداهة ، وتخديع للعلوم ، ويكفينا في هذا المقام كلام ابن عبّاس في جواب ابن الزبير ، وإفحامه له ، وذلك ما رواه ابن عبد ربّه في كتابه( العقد ) حيث قال :

( قال ابن الزبير لعبد الله بن عبّاس : قاتلت أُمّ المؤمنين وحواريَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأفتيت بتزويج المتعة .

فقال : أمّا أُمّ المؤمنين ، فأنت أخرجتها وأبوك وخالك ، وبنا سُمّيت أُمّ المؤمنين ، فكنّا لها خير بنين ، فتجاوز الله عنها وقاتلت أنت وأبوك عليّاً ، فإنْ كان عليٌّ مؤمناً ، فقد ضللتم بقتالكم المؤمنين ، وإنْ كان عليٌّ كافراً فقد بُؤتم بسخطٍ من الله بفراركم من الزحف. وأمّا المتعة فإنّي سمعت عليّ بن أبي طالب يقول :( سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رخّص فيها ، فأفتيت بها ، ثمّ عمر نهى عنها ) . وأوّل مجمر سطع في المتعة مجمر آل الزبير )(٢) .

ـــــــــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٢١ ـ ١٢٢ كتاب معرفة الصحابة .

(٢) العقد الفريد ٤ : ٤١٤ .

١٠٩

ترجمة ابن عبد ربّه

وقد ترجم كبار العلماء لابن عبد ربّه الأندلسي ، وأثنوا عليه الثناء الجميل :

قال ابن ماكولا : ( أحمد بن محمّد بن عبد ربّه... أندلسي مشهور بالعلم والأدب والشعر ، وهو صاحب كتاب العقد في الأخبار ، وشعره كثير جدّاً ، وهو مجيد )(١) .

وقال اليافعي : ( كان رأس العلماء المكثرين [من المحفوظات] والإطّلاع على أخبار النّاس )(٢) .

وقال ابن خلّكان : ( كان العلماء المكثرين من المحفوظات والإطّلاع على أخبار الناس ، وصنّف كتابه العقد ، وهو من الكتب الممتعة ، حوى من كلّ شيء )(٣) .

وقال السيوطي : ( قال ابن الفرضي : عالم الأندلس بالأخبار والأشعار وأديبها وشاعرها ، كتب الناس تصنيفه وشعره ، سمع من بقي بن مخلّد وابن وضّاح والخشني مات يوم الأحد لاثنتي عشرة بقيت من جمادى الأُولى ، سنة ٣٢٨ وهو ابن ٨٢ سنة وثمانية أشهر )(٤) .

وقال الذهبي : ( الأديب الإخباري العلاّمة ، مصنّف العقد... )(٥) .

ـــــــــــــــــــ

(١) الإكمال ٦ : ٣٦ .

(٢) مرآة الجنان ٢ : ٢٢٢ حوادث سنة ٣٢٨ .

(٣) وفيات الأعيان ١ : ١١٠/ ٤٦ .

(٤) بغية الوعاة في طبقات اللغويّين والنحاة ١ : ٣٧١/ ٧٢٧ .

(٥) العبر في خبر من غبر ٢ : ٢٩

١١٠

بل إنّ فساد التأويل المذكور يتّضح من كلام ابن الزبير أيضاً ، إذ لو كان وقوع الحرب غير مقصود من الطرفين ، لَما سأل ابن عبّاس عن السبب لحربه عائشة وأشياعها...

على أنّ هذا السؤال مِن أحسن الشواهد على أنْ لا حياء لابن الزبير ، إذْ يسأل ابن عبّاس عن الدليل على كونه مع أمير المؤمنين ، الذي يدور معه الحقّ حيثما دار !!

كان عمر يرى الزبير وأصحابه مفسدين

ومن كلامٍ لعمر بن الخطّاب مع الزبير أيضاً يتّضح منه أنّ أهل الجمل إنّما خرجوا للإفساد ، وأنّه لا يُوجد أيّ محملٍ صحيح لخروجهم إلى البصرة ضدّ أمير المؤمنينعليه‌السلام :

أخرج الحاكم في (المستدرك ) :( حدّثنا أبو علي الحافظ ، حدّثنا الهيثم ابن خلف الدوري ، حدّثنا إسماعيل بن موسى السدّي ، حدّثنا عبد السلام بن حرب ، حدّثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، قال : جاء الزبير إلى عمر بن الخطّاب يستأذنه في الغزو ، فقال عمر : اجلس في بيتك ، فقد غزوت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : فردّد ذلك عليه ، فقال له عمر في الثالثة ـ أو التي تليها ـ اُقعد في بيتك ، فو الله إنّي لأجد بطرف المدينة منك ومن أصحابك أنْ تخرجوا فتفسدوا على أصحاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) (١) .

ـــــــــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١١٩ ـ ١٢٠ كتاب معرفة الصحابة .

١١١

كلامٌ لابن طلحة الشافعي

وهكذا يبطل الاعتذار لأهل الجمل بوجهٍ من الوجوه ، بما ذكره الفقيه محمّد بن طلحة الشّافعي ، في هذا المقام ، وهذا نصّ كلامه بطوله ضمن بيان وقائع شجاعة أمير المؤمنينعليه‌السلام :

( فمنها : وقعة الجمل ، فإنّ المجتمعين لها رفضوا عليّاًعليه‌السلام ونقضوا بيعته ونكثوا عهده وغدروا به ، وخرجوا عليه ، وجمعوا النّاس لقتاله ، مستخفّين بعقد بيعته التي لزمهم فرض حكمها ، مسفّين إلى إثارة فتنة عامّة باؤوا بإثمها ، لم يرَ إلاّ مقاتلتهم على إسراع نكثهم لبيعته ، ومقابلتهم على الإقلاع عن مكثهم على الوفاء لله تعالى بطاعته .

وكان من الدّاخلين في البيعة أوّلاً ، الملتزمين بها ، ثمّ من المحرّضين ثانياً على نكثها ونقضها ، طلحة والزبير ، فأخرجا عائشة وجمعها ممّن استجاب لهما ، وخرجوا إلى البصرة ، ونصبوا لعليّ حبائل الغوائل وألّبوا عليه مطيعيهم ، من الرامح والنابل ، مظهرين المطالبة بدم عثمانرضي‌الله‌عنه ، مع علمهما في الباطن أنّ عليّاً ليس بالقاتل ، فلمّا رحل من المدينة طالباً إلى البصرة وقرب منها ، كتب إلى طلحة والزبير يقول :

( أمّا بعد ، فقد علمتما أنّي لم أرد النّاس حتّى أرادوني ، ولم أُبايعهم حتّى أكرهوني ، وأنتما ممّن أرادوا بيعتي وبايعوا ، ولم تُبايعا لسلطانٍ غالب ولا لغرضٍ حاضر ، فإنْ كنتما بايعتما طائعين ، فتوبا إلى الله عزّ وجلّ عمّا أنتما عليه ، وإنْ كنتما بايعتما مكرهين فقد جعلتما السبيل عليكما بإظهاركما الطاعة وكتمانكما المعصية وأنت ـ يا زبير ـ فارس قريش ، وأنت ـ يا طلحة ـ شيخ المهاجرين ، ودفعكما هذا الأمر قبل أنْ تدخلا فيه كان أوسع لكما مِن خروجكما منه بعد إقراركما به وأمّا قولكما إنّني قتلت عثمان بن عفّان ، فبيني وبينكما مَن تخلّف عنّي وعنكما مِن أهل المدينة ، ثمّ يُلزم كلّ امرئ بقدر ما احتمل ، وهؤلاء بنو عثمان ـ إنْ قُتل مظلوماً كما تقولان ـ أولياؤه ، وأنتما رجلان من المهجرين ، وقد بايعتماني ونقضتما بيعتي ، وأخرجتما أُمّكما مِن بيتها الذي أمرها الله عز ّوجلّ أنْ تقرّ فيه ، والله حسبكما ، والسّلام .

١١٢

وكتب إلى عائشة :

أمّا بعد ، فإنّك خرجت مِن بيتك عاصيةً لله تعالى ولرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تطلبين أمراً كان عنك موضوعاً ، ثمّ تزعمين أنّك تريدين الإصلاح بين الناس ، فخبّريني ما للناس وقود العساكر ؟ وزعمت أنّك طالبة بدم عثمان ، وعثمان رجل من بني أُميّة ، وأنت امرأة من بني تيم بن مرّة ، ولعمري ، إنّ الذي عرّضك للبلاء وحملك على المعصية لأعظم إليك ذنباً من قتلة عثمان ، وما غضبت حتّى أغضبت ، ولا هِجت حتّى هيّجت ، فاتّقي الله يا عائشة ، وارجعي إلى منزلك ، وأسبلي عليك سترك ، والسّلام ) .

فجاء الجواب إليه :

يا ابن أبي طالب ، جلّ الأمر عن العتاب ، ولنْ ندخل في طاعتك ، فاقض ما أنت قاض ، والسّلام .

ثمّ تراءى الجمعان ، وقرب كلّ من الآخر ، ورأى عليّعليه‌السلام تصميم عزم أولئك على قتاله ، فجمع أصحابه ولم يترك منهم أحداً ، وخطبهم خطبة بليغة منها :

( واعلموا أيّها النّاس ، أنّي تأنّيت هؤلاء القوم وراقبتهم وناشدتهم ، كيما يرجعوا ويرتدعوا ، فلم يفعلوا ولم يستجيبوا ، وقد بعثوا إليّ أنْ أثبت للجلاد وأبرز للطعان ، وقد كنت وما اُهدّد بالحرب ولا أدعى إليها ، وقد أنصف القارّة من راماها ، ولعمري ، لئن أبرقوا وأرعدوا ورأوا نكايتي ، فأنا أبو الحسن الذي فللت حدّهم وفرّقت جماعتهم ، فبذلك القلب ألقى عدوّي وأنا على بيّنةٍ من ربّي لما وعدني من النصر والظفر ، وإنّي لعلى غير شبهةٍ من أمري ، ألا وإنّ الموت لا يفوته المقيم ولا يعجزه الهارب ، ومن لم يُقتل يمت ، وإنّ أفضل الموت القتل ، والذي نفس عليٍّ بيده لألف ضربةٍ بالسيف أهون علَيّ من ميتةٍ على الفراش .

ثمّ رفع يده إلى السّماء وهو يقول :

اللّهمّ ، إنّ طلحة بن عبيد الله أعطاني صفقة يمينه طائعاً ثمّ نكث بيعتي ، اللّهمّ فعاجله ولا تُمهله ، اللّهمّ وإنّ الزبير بن العوّام قطع قرابتي ، ونكث عهدي ، وظاهر عدوّي ، ونصب الحرب لي وهو يعلم أنّه ظالم ، اللّهمّ فاكفنيه كيف شئت وأنّى شئت ) .

ثمّ تقارب النّاس للقتال ، وتعبّؤوا متسلّحين لابسين دروعهم ، متأهّبين لذلك ، هذا كلّه وعليٌّ بين الصفّين عليه قميصٌ ورداء ، وعلى رأسه عمامة سوداء ، وهو راكبٌ على بلغة رسول الله الشهباء ، فلمّا رأى أنّه لم يبقَ إلاّ التصافح بالصّفاح والتناطح بالرماح ، صاح بأعلى صوته :( أين الزبير بن العوّام ، فليخرج إليّ ) ؟

١١٣

فقال النّاس : يا أمير المؤمنين ! أتخرج إلى الزبير وأنت حاسر ، وهو مدجّج في الحديد ؟!

فقال عليٌّ :( ليس علَيّ منه بأس ) .

ثمّ نادى الثانية :( أين الزبير بن العوّام ، فليخرج إليّ ) .

فخرج إليه الزبير [ وقال : يا علي ، أنا آمن من سيفك ؟

فقال عليٌّ :أنت آمن ].

فدنا منه حتّى واقفه ، فقال له عليٌّ :( يا أبا عبد الله ، ما حملك على ما صنعت ) ؟

فقال الزبير : حملني على ذلك الطلب بدم عثمان .

فقال له :( عليك أنت وصاحبك قتلتموه ، فيجب عليك أنْ تقيد من نفسك .

ولكن أُنشدك الله الذي لا إله إلاّ هو ، الذي أنزل الفرقان على نبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أما تذكر يوم قال لك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا زبير أتحبُّ عليّاً ؟ قلت : وما يمنعني من حبّه وهو ابن خالي : فقال لك : أمّا أنت فستخرج عليه يوماً وأنت ظالم له ) ؟

فقال الزبير: اللّهمّ بلى قد كان ذلك.

فقال عليٌّ :( فأُنشدك بالله الذي أنزل الفرقان على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أما تذكر يوم جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عند ابن عوف وأنت معه وهو آخذٌ بيدك ، فاستقبلته أنا فسلّمت عليه ، فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وجهي وضحكت أنا إليه ، فقلت أنت : لا يدع ابن أبي طالب زهوه أبداً ، فقال لك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مهلاً يا زبير ، فليس به زهو ، ولتخرجنّ عليه يوماً وأنت ظالم له ) .

فقال الزبير : اللّهمّ بلى ، ولكن أُنسيت ، فأمّا إذ ذكّرتني ذلك لأنصرفنّ عنك ، ولو ذكرت هذا لما خرجت عليك .

١١٤

ثمّ رجع الزبير إلى عائشة فقالت : ما ورائك يا أبا عبد الله؟

فقال الزبير : [والله] ورائي أنّني ما وقفت موقفاً قطّ ، ولا شهدت مشهداً في شركٍ ولا إسلام إلاّ ولي فيه بصيرة ، وإنّي اليوم لعلى شكّ مِن أمري ، وما أكاد أبصر موضع قدمي .

ثمّ شقّ الصفوف وخرج من بينهم ، فنزل على قومٍ من بني تميم ، فقام إليه عمرو بن جرموز المجاشعي وضيّفه ، فلمّا نام قام إليه ، فقتله ، فنفذت دعوة عليّ فيه في عاجلته .

وأمّا طلحة ، فجاءه سهم ـ وهو قائم للقتال ـ من مروان ، فقتله .

ثمّ التحم القتال ، واتّصلت الحرب وكثُر القتل والجرح ، ثمّ تقدّم رجل من أصحاب الجمل يُقال له عبد الله ، فجعل يجول بين الصفوف وهو يقول :

أين أبو الحسن ؟ ويرتجز ، فخرج إليه عليٌّعليه‌السلام ، وشدّ عليه بالسيف وضربه ضربةً أسقط بها عاتقه ، فسقط قتيلاً ، فوقف عليه عليٌّ وقال :( قد رأيت أبا الحسن ، فكيف وجدته ) ؟ ثمّ لم يزل القتل يؤجّج ناره والجمل يفنى أنصاره ، حتّى خرج رجلٌ مدجّج في السلاح ، يظهر بأساً ويروم مراساً ، ويعرّض بعليٍّعليه‌السلام حتّى قال :

أضربكم ولو أرى عليّاً

عمّمتُهُ أبيض مشرفياً

فخرج إليه عليٌّعليه‌السلام متنكّراً وحمل عليه ، فضربه ضربةً على وجهه ، فرمى بنصف قحف رأسه ، ثمّ انصرف .

فسمع صائحاً من ورائه ، فالتفت فرأى ابن خلف الخزاعي من أصحاب الجمل ، فقال : هل لك يا عليّ في المبارزة ؟ فقال عليّ :( ما أكره ذلك ، ولكن ويحك يا ابن خلف ، ما راحتك في القتل وقد علمت من أنا ) ؟ فقال له ابن خلف : ذرني يا ابن أبي طالب من مدحك نفسك ، وادن منّي لترى أيّنا يقتل صاحبه ، فثنى عليٌّ عنان فرسه إليهن فبدره ابن خلف بضربةٍ فأخذها عليٌّ في جحطته ، ثمّ عطف عليه بضربةٍ أطار بها يمينه ، ثمّ ثنّى بأُخرى أطار بها قحف رأسه .

١١٥

ثمّ استعرت الحرب حتّى عُقر الجمل فسقط ، وقد احمرّت البيداء بالدماء وخُذل الجمل وحزبه ، وقامت النوادب بالبصرة على القتلى ، وكان عدّة من قُتل من جند الجمل ستّة عشر ألفاً وسبعمائة وتسعين إنساناً ، وكان جملتهم ثلاثين ألفاً ، فأتى القتل على أكثر من نصفهم ، وقُتِل من أصحاب عليٍّ ألف رجل وسبعون رجلاً ، وكان عدّتهم عشرين ألفاً ، وفي مقابلة عليٍّعليه‌السلام ثلاثين ألفاً بعشرين ومقاتلتهم ، حتّى يقتل منهم أكثر من نصفهم ولم يُقتل من أصحابه غير عُشرهم ، حجّة واضحة تشهد بشجاعته وتسجل بشهامته .

وإذا تأمّل الناظر البصير ، ونظر المتأمّل الخبير فيما صدر من عليٍّ من أقواله وأفعاله ، علم علماً لا يرتاب فيه : أنّهعليه‌السلام يخوض لجج الحروب ، وينغمس في غمرات الموت ، ويُصادم ظباء الصوارم ، ويغمد مصلت سيفه في لباب الكماة ونحور الأبطال ، ولا يحمل لذلك عبأً ولا يُبالي به .

ولمّا انقضت وقعة الجمل ، وندمت عائشة على ما كان ، ورحلت إلى المدينة وسكنت النائرة ، ورحل عليٌّ إلى الكوفة ، قام إليه أبو بُردة بن عوف الأزدي فقال : يا أمير المؤمنين ، أرايت القتلى الذين قُتلوا حول الجمل ، بماذا قُتلوا ؟

فقال علي :( قُتلوا بما قَتلوا من شيعتي وعُمّالي بلا ذنبٍ كان منهم إليهم ، ثمّ صرت إليهم وأمرتهم أنْ يدفعوا إليّ قَتَلَة أصحابي ، فأبَوا علَيّ وقاتلوني ، وفي أعناقهم بيعتي ودماء قريب مِن ألف رجلٍ من أصحابي من المسلمين ، أفي شكٍّ أنت من ذلك يا أخا الأزد ) ؟

١١٦

فقال : الآن استبان لي خطاؤهم وأنّك أنت المُحقّ المصيب )(١) .

والنقاط المستفادة من هذا الكلام :

١ ـ قوله : ( فإنّ المجتمعين ) ظاهر الدلالة في أنّ أصحاب الجمل قد رفضوا اتّباع الإمامعليه‌السلام ، ونكثوا العهد ونقضوا البيعة معه وغدروه .

٢ ـ كتابهعليه‌السلام ، إلى طلحة والزبير ، فيه دلالة على أنّ طاعته كانت واجبةً في أعناق القوم .

٣ ـ إنّهما كانا يتّهمان عليّاًعليه‌السلام بقتل عثمان... وهذا كذبٌ عليه .

٤ ـ قول الإمام :( وهؤلاء بنو عثمان...) يفيد ،أوّلاً : أنّ الإمام كان لا يرى عثمان مظلوماً ، وأنّ طلحة والزبير وأمثالهما ليس لهم أنْ يطلبوا بدم عثمانثانياً .

٥ ـ إنّه قد أنّب الرجلين على إخراجهما عائشة من بيتها ؛ لأنّه منافٍ لما أمر به الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٦ ـ وقد دعا عليهما بقوله :( الله حسبكما ) وحسبهما دعاء الإمام عليهما .

٧ ـ وكذا في كتابه إلى عائشة فقد دلّ على أنّ خروجها من بيتها كان معصيةً لله ورسوله ، وأنّه لا مجوّز له أصلاً ، ولا وجه لطلبها بدم عثمان أبداً .

٨ ـ وقد ذكر أنّ ذنب المخرجين لها من بيتها أكبر من ذنب قتل عثمان ،

ـــــــــــــــــــ

(١) مطالب السؤال في مناقب آل الرسول : ١٥٤ ـ ١٥٩

١١٧

وإذا كان قتلة عثمان كَفَرة ـ كما في ( التحفة الاثنى عشريّة ) وغيرها ـ فالمخرجون لها كفّار بالأولويّة .

٩ ـ وأشار بقوله :( وما غضبت حتّى أغضبت...) إلى أنّها قد أغضبت بفعلها رسول الله ، ومن أغضب رسول الله أغضب الله ، كما في الحديث الشريف عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند الفريقين .

١٠ ـ وقوله :( فاتّقي الله يا عائشة ) ظاهر في ارتكابها أمراً محرّماً ومعصية واضحة .

١١ ـ وقوله لها :( وارجعي إلى منزلك...) دليلٌ صريحٌ على أنّها هاتكة لسترها .

١٢ ـ وما كتبته إلى الإمامعليه‌السلام خروجٌ عن حكم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوجوب إطاعة أمير المؤمنين والكون معه ، بالأحاديث الصحيحة الثابتة المتّفق عليها ، من حديث الثقلين وغيره... فتكون بمخالفتها لذلك من الضالّين الهالكين...

١٣ ـ وصريح كلام ابن طلحة أنّ أهل الجمل جاؤوا مُصمّمين على قتال الإمام ومحاربته ، فبطَلَ ما تفوّه به صاحب ( التحفة ) وغيره من أنّه لم يقصد الطرفان تسعير نار هذه الحرب .

١٤ ـ والإمامعليه‌السلام خطب القوم ووعظهم ، لعلّهم يرجعون عن ضلالتهم ويقلعون من كفرهم وعنادهم... لكنّهم تمادوا في غيّهم ، وأصرّوا على باطلهم ، فدعا الإمامعليه‌السلام على طلحة والزبير ، وكان دعاؤه عند الله مستجاباً ، فأعقبهما في الدنيا خُسراناً وفي الآخرة عذاباً .

١٥ ـ وقد تبيّن ممّا دار بين الإمام والزبير بن العوّام ، أنّ الزّبير كان يتعلّل بالطلب بدم عثمان ، ويتذرّع بذلك كاذباً ، إذ ذكّرهعليه‌السلام بكلام رسول الله ، ولم يجد مناصاً من الإذعان والرجوع... وبعد هذا التنبّه يأتي هذا السؤال : هل أعلم عائشة وسائر أهل الجمل بما نبّهه الإمامعليه‌السلام به أو لا ؟ فإنْ كان قد أعلمهم بذلك فلم ينفعهم النصح ، كان ذلك دليلاً آخر على كُفرهم ، لمحاربتهم الإمام مع العلم بكونهم ظالمين له ، وإنْ لم يكن أعلمهم بالحق الذي ذكّره الإمام به ، كان من الكاتمين للحقّ المُخفين له .

١١٨

عبد الله بن الزبير يُحاول إقناع أبيه

ولكن عبد الله بن الزبير حاول إقناع أبيه بالبقاء في المعركة واستمرار المحاربة والمشاركة في البغي والعدوان ، قال سبط ابن الجوزي :

( ثمّ التقوا منتصف جمادى الأُولى من هذه السنة ـ يعني سنة ست وثلاثين ـ فلمّا تراءى الجمعان ، خرج الزبير على فرسٍ وعليه سلاحه ، وخرج طلحة ، فخرج إليهما عليّ ودنا منهما وعليه قبا طاق ، حتّى اختلفت أعنّة خيلهم ، فقال لهما علي :( لعمري لقد أعددتما خيلاً وسلاحاً ، فهل أعددتما عند الله عذراً ؟ فاتّقيا الله ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً ، ألم أكن أخاكما في دينكما تحرّمان دمي وأحرّم دمكما ؟

فقال طلحة : ألّبت الناس على عثمان .

فقال :لعن الله من ألّب النّاس على عثمان ، وأين أنت يا طلحة ودم عثمان ؟

وأنت يا زبير ، أتذكر يوم مررت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بني غنم ، فنظر إليّ فضحكصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وضحكتُ إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقلتَ : لا يدع ابن أبي طالب زهوه ، فقال لك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّه ليس بمزهو ، ولتقاتلنّه وأنت ظالم له .

وفي رواية :أتذكر يوم لقيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بني بياضة وهو راكب على حمار ) ، وذكّره .

فقال الزبير : اللّهمّ نعم ، ولو ذكرت هذا ما خرجت من المدينة ، و والله لا أُقاتلك أبداً .

وفي رواية : فقال الزبير : فما الذي أصنع وقد التقتا حلقتا البطان ، ورجوعي علَيّ عار ؟

فقال له عليٌّ : ارجع بالعار ولا تجمع بين العار والنّار .

١١٩

فرج الزبير وهو يقول :

اخترت عاراً على نارٍ مؤجّجة

أنّى يقوم لها خلقٌ من الطّين

نادى عليٌّ بأمرٍ لست أجهله

عارٌ لعمرك في الدّنيا وفي الدّين

فقلت حسبك من لوم أبا حسن

فبعض هذا الذي قد قلت يكفيني

وهذا من جملة أبيات الزبير قالها لمّا خرج من العسكر ، وأوّلها :

ترك الأمور التي يخشى عواقبها

لله أجمل في الدنيا وفي الدين

أخال طلحة وسط القوم منجدلاً

ركن الضعيف ومأوى كلّ مسكين

قد كنت أنصره حيناً وينصرني

في النائبات ويرمي من يراميني

حتّى ابتليت بأمرٍ ضاق مصدرُه

فأصبح اليوم ما يعنيه يعنيني

ثمّ انصرف طلحة والزبير ، فقال عليٌّ لأصحابه :( أمّا الزبير فقد أعطى الله عهداً أنْ لا يُقاتلكم ) ، ثمّ عاد الزبير إلى عائشة وقال لها : ما كنت في موطن منذ عقلت عقلي إلاّ وأنا أعرف أمري ، إلاّ هذا .

قالت له : فما تريد أنْ تصنع ؟

قال : أذهب وأدعهم .

فقال له عبد الله ولده : جمعت هذين الفريقين ، حتّى إذا جدّ بعضهم لبعض أردت أنْ تتركهم وتذهب ، أحسست برايات ابن أبي طالب فرأيت الموت الأحمر منها أو من تحتها ، تحملها فتيةٌ أنجاد سيوفهم حداد .

فغضب الزبير وقال : ويحك قد حلفت أنْ لا أُقاتله .

فقال : كفّر عن يمينك .

فدعا غلاماً له يُقال له مكحول فأعتقه .

فقال عبد الرحمان بن سليمان التميمي :

لم أر كاليوم أخا خوان   أعجب من مكفّر الأيمان

بالعتق في معصية الرحمان

وقال آخر :

يعتق مكحولاً لصونِ دينه

كفّارة لله عن يمينه

والنكث قد لاح على جبينه

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

بقاء وحياة الأمّة الإسلامية ، وإن تركه وحيدا لا يعرض حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للخطر فحسب ، بل يعرّض دين الله ، وكذلك وجود وحياة المؤمنين أيضا أمام الخطر الجدي.

إنّ القرآن ـ في الواقع ـ يرغّب كل المؤمنين بملازمة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحمايته والدفاع عنه في مقابل كل الأخطار والعقبات باستعمال نوع من البيان والتعبير العاطفي ، فهو يقول : إنّ أرواحكم ليست بأعزّ من روح النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحياتكم ليست بأفضل من حياته ، فهل يسمح لكم إيمانكم أن تدعو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يواجه الخطر وهو أفضل وأعز موجود إنساني ، وقد بعث لنجاتكم وقيادتكم نحو الهدى وتستثقلون التضحية في سبيله حفاظا على أرواحكم وسلامتكم؟!

من البديهي أنّ التأكيد على أهل المدينة وأطرافها إنّما هو لأنّ المدينة كانت مقرّ الإسلام يومئذ ومركزه المشع ، وإلّا فإنّ هذا الحكم غير مختص بالمدينة وأطرافها ، وغير مختص بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ واجب كل المسلمين ، وفي جميع العصور أن يحترموا ويكرموا قادتهم كأنفسهم ، بل أكثر ، ويبذلون قصارى جهدهم في سبيل الحفاظ عليهم ، ولا يتركوهم يواجهون الصعاب والأخطار وحدهم ، لأنّ الخطر الذي يحدق بهؤلاء يحدق بالأمّة جميعا.

ثمّ تشير الآية إلى مكافآت المجاهدين المعدة مقابل كل صعوبة يلاقونها في طريق الجهاد، وتذكر سبعة أقسام من هذه المشاكل والصعاب وثوابها ، فتقول :( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ ) ، ومن المحتم أنّهم سيقبضون جوائزهم من الله

٢٦١

سبحانه ، واحدة بواحدة ، ف( إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) . وكذلك فإنّهم لا يبذلون شيئا في امر الجهاد :

( وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً ) ولا يقطعون أرضا في ذهابهم للوصول إلى ميدان القتال ، أو عند رجوعهم منه إلّا ثبت كل ذلك في كتبهم :

( وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ ) وإنّما يثبت ذلك( لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

وهنا يجب الانتباه لمسائل :

1 ـ إنّ جملة( لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً ) قد فسّرها أغلب المفسّرين كما ذكر أعلاه، وقالوا : إنّ المقصود هو أن المجاهدين في سبيل الله لا يتلقون ضربة من قبل العدو ، سواء جرحوا بها أو قتلوا أو أسروا وأمثال ذلك ، إلّا وتسجّل في صحائف أعمالهم ليجزوا عليها ، ومقابل كل تعب وصعوبة ما يناسبها من الأجر ، ومن الطبيعي أننا إذا لا حظنا أنّ الآية في مقام ذكر المصاعب وحسابها ، فإن ذلك ممّا يناسب هذا المعنى.

إلّا أنّنا إذا أردنا أن نفسر هذه العبارة بملاحظة ترتيب الفقرات وموقع هذه الجملة منها ، وما يناسبها لغويا ، فإنّ معنى الجملة يكون : إنّهم لا ينزلون بالعدو ضربة إلّا كتبت لهم ، لأنّ معنى نال من عدوه في اللغة : ضربه ، إلّا أن النظر إلى مجموع الآية يرجح التّفسير الأوّل.

2 ـ ذكر المفسّرون تفسيرين لجملة :( أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) : أحدهما على أساس أن كلمة (أحسن) وصف لأفعالهم ، والآخر على أنّها وصف لجزائهم.

فعلى التّفسير الأوّل وهو ما اخترناه ، وهو الأوفق لظاهر الآية ـ فأنّ أعمال المجاهدين هذه قد اعتبرت وعرّفت بأنّها أحسن أعمالهم في حياتهم ، وأنّ الله سبحانه سيعطيهم من الجزاء ما يناسب أعمالهم.

وعلى التّفسير الثّاني الذي يحتاج إلى تقدير كلمة (من) بعد كلمة (أحسن) فإنّها

٢٦٢

تعني إن جزاء الله أفضل وأثمن من أعمالهم ، وتقدير الجملة : ليجزيهم الله أحسن ممّا كانوا يعملون ، أي سيعطيهم الله أفضل ممّا أعطوا.

3 ـ إنّ الآيات المذكورة لا تختص بمسلمي الأمس ، بل هي للأمس واليوم ولكل القرون والأزمنة.

ولا شك أنّ الاشتراك في أي نوع من الجهاد ، صغيرا كان أم كبيرا ، يستبطن مواجهة المصاعب والمشاكل المختلفة ، الجسمية منها والروحية والمالية وأمثالها ، إلّا أن المجاهدين أناروا قلوبهم وأرواحهم بالإيمان بالله ووعوده الكبيرة. وعلموا أن كل نفس وكلمة وخطوة يخطونها في هذا السبيل لا تذهب سدى ، بل إنّها محفوظة بكل دقة دون زيادة أو نقصان ، وإنّ الله سبحانه سيعطيهم في مقابل هذه الأعمال ـ باعتبارها أفضل الأعمال ـ من بحر لطفه اللامتناهي أنسب المكافئات وأليقها ...إنّهم إذا عاشوا هذا الإحساس فسوف لا يمتنعون مطلقا من تحمل هذه المصاعب مهما عظمت وثقلت ، وسوف لا يدعون للضعف طريقا إلى أنفسهم مهما كان الجهاد مريرا ومليئا بالحوادث والعقبات.

* * *

٢٦٣

الآية

( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) )

سبب النّزول

روي الطبرسيرحمه‌الله في مجمع البيان عن ابن عباس ، أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما سار إلى ميدان القتال ، كان جميع المسلمين يسيرون بين يديه باستثناء المنافقين والمعذورين ، إلّا أنّه بعد نزول الآيات التي ذمت المنافقين ، وخاصّة المتخلفين عن غزوة تبوك ، فإنّ المؤمنين صمموا أكثر من قبل على المسارعة إلى ميادين الحرب ، بل وحتى في الحروب التي لم يشارك فيها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه ، فإنّ جميع السرايا كانت تتوجه الى الجهاد ، ويدعون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده ، فنزلت الآية وأعلنت أنّه لا ينبغي في غير الضرورة أن يذهب جميع المسلمين إلى الجهاد ، بل يجب أن يبقى جماعة منهم ليتعلموا العلوم الإسلامية وأحكام الدين من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويعلموا أصحابهم المجاهدين عند رجوعهم من القتال.

وقد نقل هذا المفسّر الكبير سببا آخر للنّزول بهذا المضمون أيضا ، وهو أنّ

٢٦٤

جماعة من أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انتشروا بين القبائل يدعونهم إلى الإسلام ، فرحبّوا بهم وأحسنوا إليهم ، إلّا أنّ بعضهم قد لا مهم على تركهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتوجه إليهم ، وقد تأثر هؤلاء لذلك ورجعوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزلت الآية تؤيد عمل هؤلاء في الدعوة إلى الإسلام، وأزالت قلقهم.

وروي سبب ثالث للنزول في تفسير «التبيان» ، وهو أنّ الأعراب لما أسلموا توجّهوا جميعا نحو المدينة لتعلم الأحكام الإسلامية ، فسبّب ذلك ارتفاع قيمة البضائع والمواد الغذائية، وإيجاد مشاكل ومشاغل أخرى لمسلمي المدينة ، فنزلت الآية وعرّفتهم بأنّه لا يجب توجههم جميعا إلى المدينة وترك ديارهم وأخلاؤها ، بل يكفي أن يقوم بهذا العمل طائفة منهم.

التّفسير

محاربة الجهل وجهاد العدو :

إنّ لهذه الآية ارتباطا بالآيات السابقة حول موضوع الجهاد ، وتشير إلى حقيقة حياتية بالنسبة للمسلمين ، وهي : أنّ الجهاد وإن كان عظيم الأهمية ، والتخلف عنه ذنب وعار ، إلّا أنّه في غير الحالات الضرورية لا لزوم لتوجه المؤمنون كافة إلى ساحات الجهاد ، خاصّة في الموارد التي يبقى فيها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة ، بل يبقى منهم جماعة لتعلم أحكام الدين ويتوجه الباقون إلى الجهاد :( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ) .

فإذا رجع أصحابهم من الجهاد يقومون بتعليمهم هذه الأحكام والمعارف الإسلامية ، ويحذرونهم من مخالفتها :( وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ ) والهدف من ذلك أن يحذر هؤلاء عن مخالفة أوامر الله سبحانه بإنذارهم( لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) .

* * *

٢٦٥

ملاحظات

وهنا ملاحظات ينبغي التوقف عندها :

1 ـ إنّ ما قيل في تفسير هذه الآية إضافة إلى أنّه يناسب سبب نزولها المعروف ، فإنّه الأوفق مع ظاهر جمل الآية من أي تفسير آخر ، إلّا أنّ الشيء الوحيد هنا هو أنّنا يجب أن نقدر جملة «لتبقى طائفة» بعد «من كل طائفة» أي : لتذهب طائفة من كل فرقة ، وتبقى طائفة أخرى ، وهذا الموضوع بالطبع مع ملاحظة القرائن الموجودة في الآية لا يستوجب إشكالا. (فتأمل بدقة).

إلّا أنّ بعض المفسّرين احتمل عدم وجود أيّ تقدير في الآية ، والمقصود أن جماعة من المسلمين يذهبون إلى الجهاد تحت عنوان الواجب الكفائي ، ويعرفون في ساحات الجهاد أحكام الإسلام وتعاليمه ، ويرون بأنفسهم انتصار المسلمين على الأعداء ، الذي هو بذاته نموذج من آثار عظمة وأحقية هذا الدين ، وإذا ما رجعوا يكونون أوّل من يشرح لإخوانهم ما جرى(1) .

والاحتمال الثّالث الذي احتمله بعض المفسّرين. وهو أنّ الآية تبيّن حكما مستقلا عن مباحث الجهاد ، وهو أنّه يجب على المسلمين واجبا كفائيا أن ينهض من كل قوم عدّة أفراد بمسؤولية تعلم الأحكام والعلوم الإسلامية ، ويذهبوا إلى معاهد العلم الإسلامية الكبيرة ، وبعد تعلمهم العلوم يرجعون إلى أوطانهم ويبدؤون بتعليم الآخرين(2) .

ولكن التّفسير الأوّل كما تقدم ـ أقرب إلى مفهوم الآية ، وإن كانت إرادة كل هذه المعاني ليس ببعيد(3) .

2 ـ لقد تصور البعض وجود نوع من المنافاة بين هذه الآية والآيات السابقة ، إذ

__________________

(1) اختار الطبري هذا الرأي ، نقل ذلك القرطبي في تفسيره ، وذكره جماعة من المفسّرين في ذيل الآية كاحتمال.

(2) هذا التّفسير يناسب سبب النزول الذي أورده المرحوم الشيخ الطوسي في التبيان.

(3) نلفت انتباهكم إلى أنّنا نعتبر استعمال كلمة واحدة في عدّة معان أمرا جائزا.

٢٦٦

الآيات السابقة أمرت الجميع بالتوجه إلى ساحات الجهاد ، ووبخت المتخلفين بشدة ، أمّا هذه الآية فتقول. أنّه لا ينبغي للجميع ان يتوجهوا إلى ميدان الحرب.

ولكن من الواضح أنّ هذين الأمرين قد صدرا في ظروف مختلفة ، فمثلا في غزوة تبوك لم يكن هناك بد من توجه كل المسلمين إلى الجهاد لمواجهة الجيش القوي الذي أعدته إمبراطورية الروم لمحاربة الإسلام والقضاء عليه. أمّا في حالة مقابلة جيوش ومجاميع أصغر وأقل فليست هناك ضرورة لتوجه الجميع إلى الحرب ، خاصّة في الحالات التي يبقى فيها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه ، فإنّه يجب عليهم أن لا يخلوا المدينة مع احتمالات الخطر المتوقعة ، وأن لا يغفلوا عن التفرغ لتعلم المعارف والأحكام الإسلامية.

وعلى هذا فلا يوجد أي نوع من التنافي بين هذه الآيات ، وما تصوره البعض من التنافي هو اشتباه محض.

3 ـ لا شك أنّ المقصود من التفقه في الدين هو تحصيل جميع المعارف والأحكام الإسلامية ، وهي أعم من الأصول والفروع ، لأنّ كل هذه الأمور قد جمعت في مفهوم التفقه ، وعلى هذا ، فإنّ هذه الآية دليل واضح على وجوب توجه فئة من المسلمين وجوبا كفائيا على الدوام لتحصيل العلوم في مختلف المجالات الإسلامية ، وبعد الفراغ من التحصيل العلمي يرجعون إلى مختلف البلدان ، وخصوصا بلدانهم وأقوامهم ، ويعلمونهم مختلف المسائل الإسلامية.

وبناء على ذلك ، فإنّ الآية دليل واضح على وجوب تعلم وتعليم المسائل الإسلامية ، وبتعبير آخر فإنّها أوجبت التعلم والتعليم معا ، وإذا كانت الدنيا في يومنا الحاضر تفتخر بسنّها التعليم الإجباري ، فإنّ القرآن قد فرض قبل أربعة عشر قرنا هذا الواجب على المعلمين علاوة على المتعلمين.

4 ـ استدل جماعة من علماء الإسلام بهذه الآية على مسألة جواز التقليد ، لأنّ التقليد إنّما هو تعلم العلوم الإسلامية وإيصالها للآخرين في مسائل فروع الدين ،

٢٦٧

ووجوب اتباع المتعلمين لمعلمين.

وكما قلنا سابقا ، فإنّ البحث في هذه الآية لا ينحصر في فروع الدين ، بل تشمل حتى المسائل الأصولية ، وتتضمن الفروع أيضا على كل حال.

الإشكال الوحيد الذي يثار هنا ، هو أنّ الاجتهاد والتقليد لم يكن موجودا في ذلك اليوم ، والأشخاص الذين كانوا يتعلّمون المسائل ويوصلونها للآخرين حكمهم كحكم البريد والإرسال في يومنا هذا ، لا حكم المجتهدين ، أي إنهم كانوا يأخذون المسألة من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويبلغونها للآخرين كما هي من دون إبداء أي رأي أو وجهة نظر.

ولكن مع الأخذ بنظر الاعتبار المفهوم الواسع للاجتهاد والتقليد يتّضح الجواب عن هذا الإشكال.

وتوضيح ذلك : إن ممّا لا شك فيه أن علم الفقه على سعته التي نراها اليوم لم يكن له وجود ذلك اليوم ، وكان من السهل على المسلمين أن يتعلّموا المسائل من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكن هذا لا يعني أنّ علماء الإسلام كان عملهم هو بيان المسائل فقط ، لأن الكثير من هؤلاء كانوا يذهبون إلى الأماكن المختلفة كقضاة وأمراء ، ومن البديهي أن يواجهوا من المسائل ما لم يسمعوا حكمها بالذات من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّها كانت موجودة في عمومات وإطلاقات آيات القرآن المجيد. فكان هؤلاء قطعا يقومون بتطبيق الكليات على الجزئيات ـ وفي الاصطلاح العلمي : رد الفروع إلى الأصول ورد الأصول على الفروع ـ لمعرفة حكم هذه المسائل ، وكان هذا بحد ذاته نوعا من الاجتهاد البسيط.

إنّ هذا العمل وأمثاله كان موجودا في زمن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتما ، فعلى هذا فإنّ الجذور الأصلية للاجتهاد كانت موجودة بين أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو أنّ الصحابة لم يكونوا جميعا بهذه الدرجة.

ولما كان لهذه الآية مفهوما عاما ، فإنّها تشمل قبول أقوال موضحي وناقلي

٢٦٨

الأحكام ، كما تشمل قبول قول المجتهدين ، وعلى هذا ، فيمكن الاستدلال بعموم الآية على جواز التقليد.

5 ـ المسألة المهمّة الأخرى التي يمكن استخلاصها من الآية ، هي الأهمية الخاصّة التي أولاها الإسلام لمسألة التعليم والتعلم ، إلى الدرجة التي ألزم فيها المسلمين بأن لا يذهبوا جميعا إلى ميدان الحرب ، بل يجب أن يبقى قسم منهم لتعلم الأحكام والمعارف الإسلامية.

إنّ هذا يعني أن محاربة الجهل واجب كمحاربة الأعداء ، ولا تقل أهمية أحد الجهادين عن الآخر. بل إن المسلمين ما لم ينتصروا في محاربتهم للجهل واقتلاع جذوره من المجتمع ، فإنّهم سوف لا ينتصرون على الأعداء ، (لأنّ الأمّة الجاهلة محكومة بالهزيمة دائما).

أحد المفسّرين المعاصرين ذكر في ذيل هذه الآية بحثا جميلا ، وقال : كنت أطلب العلم في طرابلس وكان حاكمها الإداري من أهل العلم والفقه في مذهب الشافعية ـ فقال لي مرّة : لماذا تستثنى الدولة العلماء وطلاب العلوم الدينية من الخدمة العسكرية وهي واجبة شرعا وهم أولى الناس بالقيام بهذا الواجب؟ يعرّض بي ـ أليس هذا خطأ لا أصل له في الشرع؟ فقلت له على البداهة : بل لهذا أصل في نص القرآن الكريم ، وتلوت عليه الآية فاستكثر الجواب على مبتدئ مثلي لم يقرأ التّفسير وأثنى ورعا(1) .

* * *

__________________

(1) تفسير المنار ، ج 11 ، ص 78.

٢٦٩

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) )

التّفسير

قتال الأقرب فالأقرب :

أشارت الآية في سياق احكام الجهاد التي ذكرت لحد الآن في هذه السورة ـ إلى أمرين آخرين في هذا الموضوع الإسلامي المهم ، فوجهت الخطاب أوّلا إلى المؤمنين وقالت :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ ) .

صحيح أنّه تجب محاربة الكفار جميعا ، ولا فرق بينهم في ذلك ، إلّا أنّه من الوجهة التكتيكية وطريقة القتال يجب البدء بالعدو الأقرب ، لأنّ خطر العدوّ القريب أكبر ، كما أنّ الدعوة للإسلام وهداية الناس إلى دين الحق يجب أن تبدأ من الأقرب ، والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بدأ بأمر الله سبحانه بدعوة أقاربه وعشيرته ، ثمّ دعا أهل مكّة. ثمّ جزيرة العرب وقام بإرسال الرسل إليها ، وبعدها كتب الرسائل إلى ملوك العالم ، ولا شك أن هذا الأسلوب هو الأقرب للنجاح والوصول إلى الهدف.

ومن الطبيعي أن لكل قانون استثناء ، فقد يكون العدو الأبعد ـ في بعض الأحيان ـ أشد خطرا من العدو القريب ، وعندها تجب المبادرة إلى دفعه أوّلا ، لكن ، كما قلنا ، فإن هذا استثناء لا قانون ثابت ودائم.

٢٧٠

وأمّا ما قلناه من أنّ المبادرة إلى مجابهة العدو الأقرب هي الأهم والأوجب.

فإنّ أسبابه واضحة ، وذلك :

أوّلا : إنّ خطر العدو القريب أكبر وأشد من العدو البعيد.

ثانيا : إنّ اطلاعنا وعلمنا بالعدو القريب أكثر ، وهذا من العوامل المساعدة والمقربة للنصر.

ثالثا : إنّ التوجه لمحاربة العدو البعيد لا يخلو من خطورة اضافية ، فالعدو القريب قد يستغل الفرصة ويحمل على الجيش من الخلف ، أو يستغل خلو المقر الأصلي للإسلام فيهجم عليه.

رابعا : إنّ الوسائل اللازمة ونفقات محاربة العدوّ القريب أقل وأبسط ، والتسلط على ساحة الحرب في ظل ذلك أسهل.

لهذه الأسباب وأسباب أخرى ، فإنّ دفع العدو الأقرب هو الأوجب والأهم. والجدير بالذكر أنّ هذه الآية لما نزلت كان الإسلام قد استولى على كل جزيرة العرب تقريبا ، وعلى هذا فإن أقرب عدو في ذلك اليوم ربّما كان أمبراطورية الروم الشرقية التي توجه المسلمون إلى تبوك لمحاربتها.

وكذلك يجب أن لا ننسى أنّ هذه الآية بالرغم من أنّها تتحدث عن العمل المسلح والبعد المكاني ، إلّا أنّه ليس من المستبعد أن روح الآية حاكمة في الأعمال المنطقية والفواصل المعنوية ، أي إنّ المسلمين عند ما يعزمون على المجابهة المنطقية والإعلامية والتبليغية يجب أن يبدؤوا بمن يكون أقرب إلى المجتمع الإسلامي وأشدّ خطرا عليه ، فمثلا في عصرنا الحاضر نرى أن خطر الإلحاد والمادية يهدد كل المجتمعات ، فيجب تقديم التصدّي لها على مواجهة المذاهب الباطلة الأخرى ، وهذا لا يعني نسيان هؤلاء ، بل يجب إعطاء الأهمية القصوى للهجوم نحو الفئة الأخطر ، وهكذا في مواجهة الاستعمار الفكري والسياسي والاقتصادي التي تحوز الدرجة الأولى من الأهمية.

٢٧١

والأمر الثّاني فيما يتعلق بالجهاد في الآية ، هو أسلوب الحزم والشدّة ، فهي تقول : إن العدو يجب أن يلمس في المسلمين نوعا من الخشونة والشدّة :( وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ) وهي تشير إلى أنّ الشجاعة والشهامة الداخلية والاستعداد النفسي لمقابلة العدو ومحاربته ليست كافية بمفردها ، بل يجب اظهار هذا الحزم والصلابة للعدو ليعلم أنّكم على درجة عالية من المعنويات ، وهذا بنفسه سيؤدي إلى هزيمتهم وانهيار معنوياتهم.

وبعبارة أخرى فإنّ امتلاك القدرة ليس كافيا ، بل يجب استعراض هذه القوّة أمام العدو. ولهذا نقرأ في تأريخ الإسلام أنّ المسلمين عند ما أتوا إلى مكّة لزيارة بيت الله ، أمرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسرعوا في طوافهم ، بل أن يعدوا ويركضوا ليرى العدو ـ الذي كان يراقبهم عن كتب ـ قوتهم وسرعتهم ولياقتهم البدنية.

وكذلك نقرأ في قصّة فتح مكّة أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر المسلمين في الليل أن يشعلوا نيرانا في الصحراء ليعرف أهل مكّة عظمة جيش الإسلام ، وقد أثر هذا العمل في معنوياتهم. وكذلك أمر أن يجعل أبو سفيان كبير مكّة في زاوية ويستعرض جيش الإسلام العظيم قواته أمامه.

وفي النهاية تبشر الآية المسلمين بالنصر من خلال هذه العبارة :( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) ويمكن أن يشير هذا التعبير ـ إضافة لما قيل ـ إلى أن استعمال الشدّة والخشونة يجب أن يقترن بالتقوى ، ولا يتعدى الحدود الإنسانية في أي حال.

* * *

٢٧٢

الآيتان

( وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) )

التّفسير

تأثير آيات القرآن المتباين على القلوب :

تشير هاتان الآيتان إلى واحدة من علامات المؤمنين والمنافقين البارزة ، تكملة لما مرّ من البحوث حولهما.

فتقول أوّلا :( وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً ) (1) وهم يريدون بكلامهم هذا أن يبينوا عدم تأثير سور القرآن فيهم ، وعدم اعتنائهم بها ، ويقولون : إنّ هذه الآيات لا تحتوي على الشيء المهم والمحتوى الغني ، بل هي كلمات عادية ومعروفة.

__________________

(1) إنّ (ما) في جملة( إِذا ما أُنْزِلَتْ ) زائدة في الحقيقة ، وهي للتأكيد. وقال البعض أنّها صلة وهي تسلط أداة الشرط ـ إي (إذا) على جزائها ، وتؤكّد الجملة.

٢٧٣

ولكن القرآن يجيبهم بلهجة قاطعة ، ويقول ضمن تقسيم الناس الى طائفتين :( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) .

وهذا على خلاف المنافقين ومرضى القلوب من الجهل والحسد والعناد( وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ ) .

وفي النهاية ، فإنّ هؤلاء بعنادهم يغادرون الدنيا على الكفر :( وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ ) .

* * *

ملاحظات

وهنا ملاحظات ينبغي التنبه لها :

1 ـ إنّ القرآن الكريم يؤكّد من خلال هاتين الآيتين على حقيقة ، وهي أنّ وجود البرامج والقوانين الحياتية لا تكفي بمفردها لسعادة فرد أو جماعة ، بل يجب أن يؤخذ بنظر الإعتبار وجود الأرضية المهيئة والاستعداد للتلقي كشرط أساسي.

إنّ آيات القرآن كقطرات المطر تصيب الحديقة الغناء والأرض السبخة ، فالذين ينظرون إلى الحقائق بروح التسليم والإيمان والعشق ، يتعلمون من كل سورة ـ بل من كل آية ـ درسا يزيد في إيمانهم ، ويفعّل سمات الإنسانية لديهم.

أمّا الذين ينظرون إلى هذه الآيات من خلف حجب العناد والكبر والنفاق ، فإنّهم لا يستفيدون منها ، بل وتزيد في كفرهم ورجسهم. وبتعبير أخر فإنّهم يعصون كل أمر فيها ليرتكبوا بذلك معصية جديدة تضاف إلى معاصيهم ، ويواجهون كل قانون بالتمرد عليه ، ويصرون على رفض كل حقيقة ، وهذا هو سبب تراكم المعاصي والآثام في وجودهم ، وبالتالي تتجذّر هذه الصفات الرذيلة في كيانهم ، وفي النهاية إغلاق كل طرق الرجوع بوجوههم وموتهم على الكفر.

٢٧٤

وبتعبير آخر فإنّ (فاعلية الفاعل) في كل برنامج تربوي لا تكفي لوحدها ، بل إنّ روح التقبل و (قابلية القابل) شرط اساسي أيضا.

2 ـ «الرجس» في اللغة بمعنى الخبيث النجس السيء ، وعلى قول الراغب في كتاب المفردات ، فإنّ هذا الخبث والتلوث أربعة أنواع : فتارة ينظر إليه من جهة الغريزة والطبع ، وأخرى من جهة الفكر والعقل ، وثالثة من جهة الشرع ، ورابعة من كل الجهات.

ولا شك أنّ السوء والخبث الناشئ من النفاق واللجاجة والتعنت أمام الحق سيولد نوعا من الشر والخبث الباطني والمعنوي بحيث يبدو أثره بوضوح في النهاية على الإنسان وكلامه وسلوكه.

3 ـ إنّ جملة( وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) مع ملاحظة أنّ أصل كلمة (بشارة) تعني السرور والفرح الذي تظهر آثاره على وجه الإنسان ، تبيّن مدى تأثير الآيات القرآنية التربوي في المؤمنين ، ووضوح هذا التأثير بحيث تبدو علاماته فورا على وجوههم.

4 ـ لقد اعتبرت هذه الآيات «المرض القلبي» نتيجة حتمية وملازمة للنفاق والصفات القبيحة. وكما قلنا سابقا فإنّ القلب في مثل هذه الموارد يعني الروح والعقل ، ومرض القلب في هذه المواضع بمعنى الرذائل الأخلاقية والانحرافات النفسية ، وهذا التعبير يوضح أنّ الإنسان إذا كان يتمتع بروح سالمة وطاهرة فلا أثر في وجوده لهذه الصفات الذميمة ، ومثل هذه الأخلاق السيئة كالمرض الجسمي خلاف طبيعة الإنسان ، وعلى هذا فإنّ التلوّث بهذه الصفات دليل على الانحراف عن المسير الأصلي والطبيعي ، ودليل على المرض الروحي والنفسي(1) .

5 ـ إنّ هذه الآيات تعطي درسا كبيرا لكل المسلمين ، لأنّها تبيّن هذه الحقيقة ، وهي أنّ المسلمين الأوائل كانوا يشعرون بروح جديدة مع نزول كل سورة من

__________________

(1) كان لنا بحث آخر عن مرض القلب ومفهومه في القرآن راجع الآية (16) من سورة البقرة.

٢٧٥

القرآن ، ويتربون تربية جديدة تصل إلى درجة بحيث تبدو آثارها بسرعة على محياهم ، بينما نرى اليوم أشخاصا ، ظاهرهم أنّهم مسلمون ، لا تؤثر فيهم السورة إذا قرءوها ، بل إن ختم القرآن كله لا يترك أدنى أثر عليهم!

هل أنّ سور القرآن فقدت تأثيرها؟ أم أن تسمم الأفكار ، ومرض القلوب ، ووجود الحجب المتراكمة من أعمالنا السيئة هي التي أدت إلى خلق حالة عدم الاهتمام ، وجعلت على القلوب أكنة لا يمكن اختراقها؟

يجب علينا أن نلتجئ إلى الله من حالنا هذا ، ونسأله أن يمن علينا بقلوب كقلوب المسلمين الأوائل.

* * *

٢٧٦

الآيتان

( أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) )

التّفسير

يستمر الكلام في هذه الآيات حول المنافقين ، وهي توبّخهم وتذمهم فتقول :( أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ) والعجيب أنّهم رغم هذه الامتحانات المتلاحقة لا يعتبرون( ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ) .

وهناك بحث بين المفسّرين في أنّه ما هو المراد من هذا الاختبار السنوي الذي يجري مرّة أو مرّتين؟

فالبعض يقول : إنّه الأمراض ، والبعض الآخر يقول : إنّه الجوع والشدائد الأخرى ، وثالث يقول : إنّه مشاهدة آثار عظمة الإسلام وأحقية النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ساحات الجهاد التي كان يحضرها هؤلاء المنافقون بحكم الضغط الاجتماعي وظروف البيئة التي يعيشونها ، ورابع يعتقد أنّه رفع الستار عن أسرارهم ،

٢٧٧

وفضيحتهم.

غير أنا إذا قرأنا آخر الآية حيث تذكر أنّ هؤلاء لم يتذكروا رغم كل ذلك ، سيتّضح أنّ هذا الاختبار من الاختبارات التي ينبغي أن تكون سببا في توعية هذه المجموعة.

ويظهر أيضا من تعبير الآية أنّ هذا الاختبار يختلف عن الاختبار العام الذي يواجهه كل الناس في حياتهم. وإذا أخذنا هذا الموضوع بنظر الإعتبار فسيظهر أن التّفسير الرّابع ـ أي إزاحة الستار عن أعمال هؤلاء السيئة وظهور باطنهم وحقيقتهم ـ أقرب إلى مفهوم الآية.

ويحتمل أيضا أن يكون للامتحان والابتلاء في هذه الآية مفهوم جامع بحيث يشمل كل هذه المواضيع.

ثمّ تشير الآية إلى الموقف الإنكاري لهؤلاء في مقابل الآيات الإلهية ، فتقول :( وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ ) .

إنّ خوف هؤلاء وقلقهم ناشي ، من أنّ تلك السورة تتضمن فضيحة جديدة لهم ، أو لأنّهم لا يفهمون منها شيئا لعمى قلوبهم ، والإنسان عدو ما يجهل.

وعلى كل حال ، فإنّهم كانوا يخرجون من المسجد حتى لا يسمعوا هذه الأنغام الإلهية، إلّا أنّهم كانوا يخشون أن يراهم أحد حين خروجهم ، ولذلك كان أحدهم يهمس في أذن صاحبه ويسأله :( هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ) ؟ وإذا ما اطمأنوا إلى أن الناس منشغلون بسماع كلام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغير ملتفتين إليهم خرجوا :( ثُمَّ انْصَرَفُوا ) .

إنّ جملة( هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ) ، كانوا يقولونها إمّا بألسنتهم ، أو بإشارة العيون ، في حين أن الجملة الثّانية( نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ ) تبيّن أمرا واحدا هو نفس ما عينته الجملة الأولى ، وفي الحقيقة فإنّ هل يراكم أحد تفسير لنظر بعضهم إلى البعض الآخر.

٢٧٨

وتطرقت الآية في الختام إلى ذكر علة هذا الموضوع فقالت : إنّ هؤلاء إنّما لا يريدون سماع كلمات الله سبحانه ولا يرتاحون لذلك لأنّ قلوبهم قد حاقت بها الظلمات لعنادهم ومعاصيهم فصرفها الله سبحانه عن الحق ، وأصبحوا أعداء للحق لأنّهم أناس جاهلون لا فكر لهم :( صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ) .

وقد ذكر المفسّرون لقوله تعالى :( صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ ) احتمالين :

الأوّل : إنّها جملة خبرية. كما فسرناها قبل قليل.

الثّاني : إنّها جملة إنشائية ، ويكون معناها اللعنة ، أي إنّ الله سبحانه يصرف قلوب هؤلاء عن الحق. إلّا أن الاحتمال الأوّل هو الأقرب كما يبدو.

* * *

٢٧٩

الآيتان

( لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) )

التّفسير

آخر آيات القرآن المجيد :

إنّ هذه الآيات برأي بعض المفسّرين ، هي آخر الآيات التي نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبها تنتهي سورة براءة ، فهي في الواقع إشارة إلى كل المسائل التي مرّت في هذه السورة ، لأنّها تبيّن من جهة لجميع الناس ، سواء المؤمنون منهم أم الكافرون والمنافقون ، أنّ جميع الضغوط والتكاليف التي فرضها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن الكريم ، والتي ذكرت نماذج منها في هذه السورة ، كانت كلها بسبب عشق النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهداية الناس وتربيتهم وتكاملهم.

ومن جهة أخرى فإنّها تخبر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يقلق ولا يتحرق لعصيان وتمرد الناس ، والذي ذكرت منه ـ أيضا ـ نماذج كثيرة في هذه السورة ، وليعلم أنّ الله سبحانه حافظه ومعينه على كل حال.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456