استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

استخراج المرام من استقصاء الإفحام13%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 456

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 456 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 227122 / تحميل: 8328
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

اِستخْـراجُ المَـرَامِ مِن استِقصَاءِ الإفْحام

لِلعَلَمِ الحُجَّةِ آيَةِ اللهِ السَّيّد حامِد حُسين اللّكهَنَوي

بُحوُثٌ وَرُدُودٌ

تأليف

السَّيد عَليّ الحُسَينيّ الميلانْيّ

القِسمُ الثَّانِي

التَّفسيرُ وَالمُفَسِّرُونَ وَالصِّحَاحُ السِّتَّةُ وأصحابُها

١

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الكتاب : استخراج المرام من استقصاء الإفحام ـ ٢

المؤلّف : السيّد علي الحُسيني الميلاني

الطبعة : الأُولى ـ ١٣٨٣ ـ ١٤٢٥

المطبعة : شريعَت ـ قم

الناشر : المؤلّف

٢

الباب الثاني : التفسير والمفسّرون عند أهل السنّة

المدخل

بحثٌ حول تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي

اعلم :

إنّ صاحب( منتهى الكلام ) بعد أنّ تكلّم على ( كتاب سُلَيم بن قَيس الهِلالي ) ، تعرّضَ ـ بنفس الأُسلوب ـ لكتاب ( تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي ) .

كلام صاحب منتهى الكلام في تفسير القمّي

فزَعَم أنّ هذا التفسير هو في الحقيقة تفسير أهل البيتعليهم‌السلام وكأنّهُ كلام الإمام الباقر والإمام الصادق ،...

وذكر أنّ جامع هذا التفسير هو عليّ بن إبراهيم القمّي ، وأنّ أبا جعفر الكُليني مِن تلامذتِه ـ كما ذكر عُلماء الإماميّة في كتبهم الرجاليّة ويشهد به كتاب الكافي ـ وهو من أصحاب الإمام بخلاف تلميذه الكليني ، فقد كان في أيّام الغيبة ، كما في كُتب الرجال .

ثمّ جَعَل يطعن في الكتاب ومؤلّفِه... فقال : بأنّ جُلّ الروايات فيه هي عن ( أبي الجارود ) ، وهو ـ بلا ريبٍ ـ مُلحدٌ زنديق ملعون على ألسِنَة أئمّة الهدى ، بل لقد لقّبه المعصوم بـ ( الشيطان )... كما لا يخفى على مَن لاحظ كُتُب القوم ، مثل : (تبصرة العوام ) و(تذكرة الأئمّة عليهم‌السلام ) و(منهج المقال )

و(خلاصة الأقوال ) وأمثالها من كُتُب الرجال .

ذكر الفاضل الإسترآبادي نقلاً عن الكشّي : ( الأعمى السُرحوب ـ بالسين المُهملة المضمومة ، والراء والحاء المهملتين والباء المنقّطة تحتها نقطة واحدة بعد الواو ـ مذمومٌ لا شبهة في ذمّه ، سمّي سُرحوباً باسم الشيطان الأعمى يَسكُن البحر .

٣

 ( قال ) : له تفسيرٌ يَنسبه إلى الإمام محمّدٍ الباقر ، وعن أبي بَصير قال أبو عبد اللهعليه‌السلام :( كثير النوا ، وسالم بن أبي حفصة ، وأبو الجارود ، كذّابون مُكذِّبون كُفّار عليهم لعنة الله ) ، قال: قلت : جُعِلت فداك ، كذّابون قد عرفتهم ، فما معنى مكذِّبون ؟ قال :( كذّابون ، يأتوننا فيُخبروننا أنّهم يصدّقوننا وليس كذلك ، ويَسمعون حديثنا فيكذّبون به ) )(١) .

قالوا : وقد كان يقول بإمامةِ زيد ويَنكر إمامة جعفر الصّادقعليه‌السلام ، وهو المؤسّس لفرقة الجاروديّة من الزيديّة...

والشيخ محمّد باقر صاحب البحار ـ وبالرغم من الاستدلال والاستشهاد بروايات تفسير هذا الزنديق ، والأخ الأكبر لشيطان الطاق ـ قد ذَكر ما تقدّم في كتابه ( تذكرة الأئمّة ) وأضاف أنّه قد ارتدّ في آخر عمره وعمي ، فلقّبه الإمام الباقر بـ( سُرحوب ) وهو اسم شيطان يَسكن البحر ، ومذهب أصحابه أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نصّ بالخلافة على عليّ بالصفة لا بالتسمية .

وإذا كان هذا حال علماء الشيعة وكتبهم ، فكيف يجوز لهم الطعن في علماء أهل السنّة والجماعة والتكلّم في مؤلّفاتهم ؟!

الجواب

إنّ أساس الطّعن في ( تفسير القمّي ) هو الطّعن في ( زياد بن المنذر أبي الجارود ) ، لكنّ ما ذَكَره في هذا الرجل مُندفعٌ بوجوه :

ـــــــــــــــــــ

(١) رجال الكشّي : ٢٠٠.

٤

١ ـ كان أبو الجارود في أوّل الأمر مُستقيماً

لقد كان أبو الجارود مستقيم الأمر ، صحيح العقيدة ، ثمّ تغيّر وضلّ ، فمِن أين يَثبُت أنّ رواياته في هذا التفسير كانت في حال التغيّر ؟ بل إنّ كلام الفاضل المجلسي في( اللّوامع ) صريحٌ في أنّ روايات الأصحاب عنه كانت في حال استقامته ، وكذا في رجال( روضة المتّقين ) ، فإنّه قال ما نصّه : ( صنّف الأصل في حال الاستقامة ، وروى أصحابنا عنه ، ثمّ ضلّ ، فاعتبروا أصله كما في غيره من الكَفَرَة )(١) .

هذا وقد ناقش بعض علمائنا في خبر تسمية الإمام الباقرعليه‌السلام له بـ ( السُرحوب ) ، أمّا سنداً فلأنّه مُرسَل ، وأمّا دلالةً فلأنّ زياداً كان مستقيماً على عهد الإمامعليه‌السلام وإنّما تغيَّر بعد وفاته بعدّةٍ سنين فراجع .

المعتبر في قبول الرواية حال الأداء

ثم إنّه قد تقرّر لدى علماء الفريقين ، أنّ المعتبر في قبول الرواية حال الراوي في وقت الأداء ، فإذا كان حاله سليماً في وقت الأداء تُقبل روايته ولو كان قبل ذلك مقدوحاً ، أو خرج بعد ذلك عن الاستقامة... ولأجل التيقّن من هذا الذي ذَكَرته أنْقل كلاماً لأحد أكابر أصحابنا ، وكلاماً لأحد أكابر الأئمّة عند أهل السنّة .

أمّا مِن أصحابنا ، فالشيخ بهاء الدين العاملي المتوفّى سنة ١٠٣١ وهو

ـــــــــــــــــــ

(١) روضة المتّقين للشيخ محمّد تقي المجلسي ١٤ : ٣١٤ .

٥

العالم النحرير الذي جاء مَدحه في ( ريحانة الألباء ) لشهاب الدين الخفاجي ـ وهو شيخ مشايخ وليّ الله والد صاحب التحفة ـ قائلاً : ( لا يَدرك بحر وصفه الإغراق ، ولا تلحقه حَرَكَات الأفكار ولو كان في مضمار الدهر لها السباق ، زيّن عبائره العلوم النقليّة والعقليّة ، ومَلَك بنقد ذهنه الجواهر السنيّة...) (١) .

لقد قال شيخنا البهائي في كتاب( مشرق الشمسَين ) ما نصّه : ( المُعتبرُ حالُ الراوي وقت الأداء لا وقت التحمّل ، فلو تحمّل الحديث طِفلاً أو غير إمامي أو فاسقاً ، ثمّ أدّاه في وقتٍ يُظَنّ أنّه كان مُستجمِعاً فيه لشرائط القَبول قُبِل...)

( قال ) : المُستفاد من تَصفّح كُتُب علمائنا المؤلّفة في السيَر والجرح والتعديل : إنّ أصحابنا الإماميّة ـ رحمهم الله ـ كان اجتنابُهم عن مخالطة مَن كان مِن الشيعة على الحقّ أوّلاً ، ثمّ أُنكر إمامة بعض الأئمّةعليهم‌السلام في أقصى المراتب ، وكانوا يحترزون عن مُجالستهم والتكلّم معهم ، فضلاً عن أخذ الحديث عنهم ، بل كان تظاهرهم بالعداوة لهم أشدّ من تظاهرهم بها للعامّة....

( قال ) : فإذا قَبِل علماؤنا ـ سيّما المتأخّرون منهم ـ روايةً رواها رجلٌ مِن ثقات أصحابنا عن أحد هؤلاء ، وعوّلوا عليها ومالوا إليها وقالوا بصحّتها ، مع علمهم بحاله ، فقبولهم لها وقولهم بصحّتها لا بدّ من ابتنائه على وجهٍ صحيح لا يتطرّق به القدح إليهم ، ولا إلى ذلك الرجل الثقة الراوي عمّن هذا حاله ، كأنْ يكون سُماعه منه قبل عدوله عن الحق وقوله بالوقوف ، أو بعد توبته ورجوعه إلى الحق ، أو أنّ النقل إنّما وقَعَ من أصلِه الذي ألّفه واشتهر عنه قبل الوقف ، أو من كتابه الذي ألّفهُ بعد الوقف ، ولكنّه أخَذَ ذلك الكتاب عن شيوخ أصحابنا

ـــــــــــــــــــ

(١) وتوجد ترجمته في : خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر٣ : ٤٤٠ ـ ٤٤٥ .

٦

الذين عليهم الاعتماد...) ثمّ ذكر أمثلة لذلك ، واستشهد بكلمات أعلام الطائفة (١) .

وأمّا مِن أئمّة السنيّة ، فقال النووي في ( شرح صحيح مسلم ) : ( فصلٌ ـ في حكم المختلط : إذا خَلَط الثقة ـ لاختلال ضبطه بخَرَفٍ أو هَرَمٍ أو لذهاب بصره أو نحو ذلك ـ قُبِل حديث مَن أخذ عنه قَبل الاختلاط ، ولا يُقبَل حديثُ مَن أخذ بعد الاختلاط ، أو شككنا في وقت أخذه ) ، ثمّ ذكَر بعض المُخَلِّطين... ثمّ قال : ( واعلم : أنّ ما كان من هذا القبيل محتجّاً به في الصحيحين ، فهو ممّا عُلِمَ أنّه أُخِذَ قَبل الاختلاط...)(٢) .

وعلى الجملة ، فقد عرفت أنّ رواية أصحابنا عن أبي الجارود كانت قبل ضلالته ، وأنّ المُعتبر في قَبول الرواية هو حال وقت الأداء... فسقط الطّعن في تفسير القمّي ، لكون أبي الجارود في أسانيده .

٢ ـ أبو الجارود من رجال الترمذي

ثمّ إنّ الطعن في ( أبي الجارود ) يُوجِب الطعن في ( صحيح الترمذي ) الذي هو أحَد الصحّاح الستّة عند القوم ، والذي قال مؤلّفه عنه ( مَن كان في بيته هذا الكتاب ، فكأنّما في بيته نبيٌّ يتكلّم )(٣) ، كما لا يخفى على مَن راجع كُتُب الرجال(٤) ، وإليك طرفاً مِن كلماتهم في ذمّه :

( قال ابن معين : كذّاب ، وقال النسائي : متروك ، وقال ابن حبّان : رافضي

ـــــــــــــــــــ

(١) مشرق الشمسين : ٧ ـ ٨ ط مع الحبل المتين له ـ حجري .

(٢) المنهاج ـ شرح صحيح مسلم بن الحجّاج ١: ٣٤ وانظر : تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي ٢: ٣٢٣ ـ ٣٣١.

(٣) تهذيب التهذيب ٩ : ٣٨٩ .

(٤) الكاشف عن أسماء رجال الكُتب الستّة ١ : ٢٨٧ رقم ١٧٢٤ ، تقريب التهذيب ١ : ٢٧٠.

٧

يضع الحديث في المثالِب والفضائل ، وقال الحسين بن موسى النوبختي في كتاب مقالات الشيعة : قال الجاروديّة ـ وهُم أصحاب أبي الجارود زياد بن المنذر ـ : إنّ عليّاً أفضل الخَلْق بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتبرّؤا من أبي بكر وعُمَر ، وزعموا أنّ الإمامة مقصورة في وِلْد فاطمة ، وبعضُهم يرى الرجعة ويُحلّ المتعة ) (١) .

وقال الشهرستاني في( الملل والنحل ) : ( وأمّا أبو الجارود ، فكان يُسمّى سُرحوباً ، سمّاه بذلك أبو جعفر محمّد بن عليّ الباقررضي‌الله‌عنه ، وسُرحوب شيطانٌ أعمى يَسكن البحر )(٢) .

٣ ـ صحّح البيهقي روايته

وقد صحّح الحافظ البيهقي حديث أبي الجارود كما جاء في( السيرة الحلبيّة ) : ( قال ابن كثير في بعض الأحاديث الواردة أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سَمِع الأذان في السماء ليلة المعراج : هذا الحديث ليس كما زعم البيهقي : إنّه صحّح بل هو منكر ، تفرّد به زياد بن المنذر أبو الجارود الذي تُنسَب إليه الفرقة الجاروديّة ، وهو من المتّهمين )(٣) .

٤ ـ رواياته في تفسير شاهي

وقد وردت روايات أبي الجارود في ( تفسير شاهي ) ، كالرواية بتفسير

ـــــــــــــــــــ

(١) تهذيب المال ٩ : ٥١٧ ـ ٥٢٠ .

(٢) الملل والنحل ١ : ١٠٩ .

(٣) السيرة الحلبيّة ٢ : ٣٠٢ باب بدء الأذان ومشروعيّته .

٨

قوله تعالى ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي... ) (١) ، نقلاً عن بعض التفاسير : ( في رواية أبي الجارود ، عن أبي جعفر رضي‌الله‌عنه ، في قوله تعالى : ( قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي... ) يعني نفسه ، ومَن تبعه عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه .

وهذا التفسير من التفاسير المشهورة المعروفة عند أهل السنّة ، وقد ذكره صاحب( التحفة ) وغيره في عِداد تفاسير أهل السنّة المُعتمدة .

٥ ـ رواياته في تفسير ابن شاهين

وللحافظ أبي حفص عُمَر بن أحمد بن شاهين تفسيرٌ كبير ، أكثَرَ فيه الرواية عن أبي الجارود في تفسير الآيات ، بل أورَد فيه كلّ تفسيره.....

وابن شاهين حافظٌ ، واعظٌ ، مفسّرٌ ، ثقةٌ ، صَدُوقٌ ، مُكثرٌ من الحديث... كما بتراجمه...(٢)

قال ابن حَجَر العسقلاني : ( عُمر بن أحمد ، بن عثمان ، بن أحمد ، بن محمّد ، بن أيّوب ، بن ازداد ، بن سراح ، الواعظ ، أبو حفص ابن شاهين وشاهين أحد أجداد جدّه لأُمّه ، ولد سنة ٢٩٧.... رَوى عنه : ابنه عبد الله ، وابن أبي الفوارس ، وهلال الحفّار ، والبرقاني ، والأزهري ، والخلال ، والتنوخي ، والعتيقي ، والجوهري وآخرون .

قال الخطيب : أنا أبو الحسن الهاشمي القاضي قال : قال لنا ابن شاهين : صنّفت ثلاثمِئة وثلاثين مصنّفاً ، منها : التفسير الكبير ألف جزء ، والمسند...

ـــــــــــــــــــ

(١) سورة يوسف : ١٠٨ .

(٢) مرآة الجنان ٢ : ٣٢٠ سنة ٣٨٥ ، الأنساب ـ الشاهيني ٣ : ٤١٢ .

٩

قال : وسمِعت محمّد بن عُمر الداودي يقول : كان ابن شاهين شيخاً ثقة يشبه الشيوخ ، إلاّ أنّه كان لحّاناً ، وكان لا يعرف مِن الفقه قليلاً ولا كثيراً... قال الداودي : وقال لي الدار قطني يوماً : ما أعمى قلب ابن شاهين ! حَمَل إليّ كتابه الذي صنّفه في التفسير ، وسألني أنْ أُصلِح ما أجد فيه مِن الخطأ ، فرأيته وقد نقل تفسير أبي الجارود وفرّقه في الكتاب ، وجعله عن أبي الجارود ، عن زياد بن المنذر ، وإنّما هو عن أبي الجارود زياد بن المنذر .

وقال حمزة السهمي : سمعت الدار قطني يقول : ابن شاهين يُخطئ ويَلحُّ على الخطأ وهو ثقة )(١) .

من غرائب أوهام صاحب منتهى الكلام

ومِن غرائب أوهام صاحب كتاب منتهى الكلام أنّه لمّا كان ـ في كتابٍ آخر له ـ بصدد الطّعن في عليّ بن إبراهيم وتفسيره ، بسبب الرواية عن أبي الجارود فيه ، استند إلى كلام العلاّمة الحلّي في( خلاصة الأقوال ) وقوله فيه : ( أضرّ في وسط عمره ) ، فتوّهم أنّ هذه الكلمة جرحٌ مِن العلامة لأبي الجارود ، ولَم يفهم أنّ معنى الكلمة : كونه ضريراً ـ أي أعمى ـ في وسَط عمره... وهذا ليس بجرحٍ وقدح ، كما هو واضح .

وقد ذَكَر هذا الوصف بترجمة كثير مِن العلماء :

كحمّاد بن زيد ، أحد الأعلام ، المتوفّى سنة ١٧٩.

وأحمد بن يوسف الكواشي المفسّر الفقيه الشافعي ، المتوفّى سنة ٦٨٠ .

وابن كثير الدمشقي صاحب التاريخ والتفسير ، المتوفّى سنة ٧٧٤ .

ـــــــــــــــــــ

(١) لسان الميزان ٤ : ٣٢٧

١٠

وصف بعض الأعاظم بـ ( الشيطان )

وأمّا التشنيع على تفسير القمّي : بإخراج روايات مؤمن الطّاق فيه ، فتلكَ شكاةٌ ظاهرٌ عنك عارُها... فإنّ الإماميّة يفتخرون بالرواية عن هذه الشخصيّة العظيمة... كيف ؟ وقد ذكر الحافظ ابن حَجَر : أنّ الإمام الصادقعليه‌السلام كان يقدّمه ويثني عليه(١) .

وليس وصفه بـ ( الشيطان ) بضائره أبَداً... فلقد وُصِف غير واحدٍ مِن الأعلام بهذا الوصف...

فقد ذكروا بترجمة محمّد بن سعد بن أبي وقّاص : ( كان يلقّب ظلّ الشيطان لقصره )(٢) .

وبترجمة عمرو بن سعيد العاص : ( سُمِّي لطيمَ الشيطان )(٣) .

بل ذكر الراغب الأصفهاني في( محاضرات الأُدباء ) : انّه قد مرّ عُمَر بصبيانٍ ـ وفيهم عبد الله بن الزبير ـ فعدا الصبيان ووقف عبد الله بن الزبير ، فقال عُمَر : ولِم لم تذهب مع الصبيان ؟ فقال : يا أمير المؤمنين لم أجْنِ عليك فأخافك ، ولم يكن للطريق ضيق فأوسع عليك فقال : أيّ شيطانٍ يكون هذا ؟

ـــــــــــــــــــ

(١) لسان الميزان ٦ : ٣٧٩/ ضمن ( ٧٨٧٢ ) .

(٢) تقريب التهذيب ٢ : ١٦٣.

(٣) فوات الوفيّات ٣ : ١٦١.

١١

قول بعض عرفائهم :

أشهد أنْ لا إله لكم إلاّ إبليس

وأيّ قُبحٍ في أنْ يُلقّب أحدٌ باسم الشيطان ، وهُم ينقلون عن بعض كِبار عرفائهم ما تقشعرّ منه الجلود ؟

لقد ذكر الشيخ العارف الكبير عبد الوهّاب الشعراني بترجمة أحد كبار عُرفائهم الأخيار ، أنّه جاء يوم الجمعة فسألوه الخطبة فقال : بسم الله ، فطَلَع المنبر ، وحَمِد الله وأثنى عليه ومجّده ، ثمّ قال : ( وأشهد أنْ لا إله لكم إلاّ إبليسعليه‌السلام ) .

فقال الناس : كَفَر .

فسلّ السيف ونزل ، فهرّ بالناس كلّهم .

فجلس عند المنبر إلى أذان العصر ، وما يجرؤ أحدٌ يدخل الجامع...(١) .

نقودٌ أُخرى لكلام الفيض آبادي

وبقيت نقاطٌ أُخرى ننبّه عليها :

أوّلاً : إنّ إسناد الروايات إلى أئمّة الهدىعليهم‌السلام في( تفسير القمّي ) لا يدلُّ بالضرورة على ثبوت صدور تلك الأخبار عنهم ، وإلاّ لزم أنْ يلتزم أهلُ السنّة بقطعيّة صُدور كلّ ما أُسند إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كُتُبِهم... فلا صاحب( البحار ) ولا صاحب كتاب( الفوائد المدنيّة ) ولا غيرهما مِن علماء الإماميّة يرى صحّة جميع ما جاء في هذا التفسير .

ـــــــــــــــــــ

(١) لواقح الأنوار في طبقات الأخيار ـ ترجمة الشيخ محمّد الخضرمي .

١٢

وثانياً : دعوى أنّ ( عليّ بن إبراهيم القمّي ) مِن أصحاب الإمامعليه‌السلام لا دليلَ عليها في كُتب أصحابنا الإماميّة أصلاً .

وثالثاً : دعوى أنّ جُلّ روايات هذا التفسير عن أبي الجارود ، مخالفة للواقع ؛ إذْ أكثر رواياته هي عن غيره من الرواة ، كما لا يخفى على مَن لاحظه بالتفصيل .

ورابعاً : إنّه لا ملازمة بين فساد العقيدة والكذب في الحديث ، وكم من محدّثٍ تكلّموا في عقيدته ، ثُمّ نصّوا على كونه ثقةً في الرّواية...

وخامساً : انتساب كتاب( تذكرة الأئمّة ) غير ثابت .

وسادساً : دعوى أنّ السيخ المجلسي قد استدلّ أو استشهد بروايات تفسير أبي الجارود ، عُهدَتها على مُدّعيها .

وبعـد

فكأنّ هذا الرجل الذي يُحاول الطّعن في( تفسير القمّي ) وسنده ، في غفلةٍ عن حال كُتب أصحابه في التفسير ورواة أخبارها ، فإليكم بعض الكلام في ذلك ، تحت عنوان ( التفسير والمُفسّرون ) عند أهل السنّة :

مقدّمة

كلمات في ذمّ كتبهم التفسيريّة

رُوي عن أحمد بن حنبل كلمة موجزة في التفسير والمفسّرين عند القوم تدلّ على معنىً عظيم ، فقد جاء في( تذكرة الموضوعات ) :

١٣

( قال أحمد بن حنبل : ثلاث كُتُب ليس لها أُصول : المغازي ، والملاحم ، والتفسير ) (١) .

وقد ثَقُل هذا الكلام على القوم ، وجعلوا يذكرون له المحامل والتأويلات....

( قال الخطيب : هذا محمولٌ على كُتُبٍ مخصوصةٍ في هذه المعاني الثلاثة غير معتمدٍ عليها ؛ لعدم عدالة ناقليها وزيادة القصّاص فيها )(٢) .

لكنْ لا يخفى عدم صحّة هذا الحمل... على أنّ في كُتب الحديث أيضاً كُتباً غيرَ معتمدٍ عليها لعدم عدالة ناقليها ، فكان عليه أنْ يذكر كتب الحديث كذلك...

وقال السيوطي في( الإتقان ) ناقلاً عن ابن تيميّة في أقسام التفسير :

( وأمّا القسم الذي يُمكن معرفة الصحيح منه ، فهذا موجود كثيراً ولله

ـــــــــــــــــــ

(١) تذكرة الموضوعات : ٨٢ .

(٢) تذكرة الموضوعات : ٨٢ .

١٤

الحمد ، وإنْ قال الإمام أحمد : ثلاثةٌ ليس لها أصل : التفسير والملاحم والمغازي ؛ وذلك لأنّ الغالب عليها المراسيل ) (١) .

لكنْ إذا كان الغالب عليها المراسيل ، فما معنى حمد الله على وجودها ؟ !

وكون الغالب عليها المراسيل وجهٌ آخر مِن وجوه الطعن في تفاسيرهم...

لكنّ بعض الأئمّة يصرّحون بأنّ كُتب التفسير عندهم مشحونة بالموضوعات ، فقد قال المناوي في ( فيض القدير ) :

( اجتهدت في تهذيب عَزْوِ الأحاديث إلى مُخرجيها مْن أئمّة الحديث مِن الجوامع والسُنَن والمسانيد ، فلا أعزو إلى شيء منها إلاّ بعد التفتيش عن حاله وحال مُخرجه ، ولا أكتفي بعزوِه إلى مَن ليس مِن أهله وإنْ جلّ ، كعظماء المفسّرين ، قال ابن الكمال : كتب التفسير مشحونة بالأحاديث الموضوعة )(٢) .

بل لقد نصَّ المحدّث شاه ولي الله الدهلوي ، في تفسيره ( الفوز الكبير ) ، بأنّ الأخبار المطوَّلة المرويّة في كُتب التفسير في قصص الأنبياء السابقين ، كلّها منقولة عن علماء أهل الكتاب ، وفي البخاري مرفوعاً : لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم .

وقال شيخهم الأعظم ابن عربي ، في الباب الثاني والسبعين بعد الثلاثمائة ، من( الفتوحات المكيّة ) :

( وفيه علم تنزيه الأنبياء عمّا نَسَب إليهم المفسّرون من الطامّات ممّا لم يجيء في كتاب الله ، وهُم يزعمون أنّهم قد فسّروا كلام الله فيما أخبر به

ـــــــــــــــــــ

(١) الإتقان في علوم القرآن ٤: ٢٠٥.

(٢) فيض القدير في شرح الجامع الصغير ١ : ٢٠ .

١٥

عنهم ، نسألُ اللهَ العصمةَ في القول والعمَل ، فلقد جاؤوا في ذلك بأكبر الكبائر ، كمسألة إبراهيم الخليل عليه‌السلام وما نسبوا إليه من الشكّ ، وما نظروا في قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( نحن أولى بالشكّ مِن إبراهيم ، فإنّ إبراهيم ما شكّ في إحياء الموتى ، ولكنْ لمّا علم أنّ لإحياء الموتى وجوهاً مختلفة ، لم يدرِ بأيّ وجهٍ منها يكون إحياء الموتى ، وهو مجبول على طلب العلم ، فعيّن الله له وجهاً مِن تلك الوجوه حتّى سكّنَ الله قلبه ، فعَلِم كيف يُحيي الله الموتى ) .

وكذلك قصّة يوسف ولوط وموسى وداود ومحمّد ، على جميعهم أفضل الصّلاة والسّلام .

وكذلك ما نَسَبُوه في قصّة سليمانعليه‌السلام إلى المَلَكَين .

وكلّ ذلك نقلوه عن اليهود ، واستحلّوا عرض الأنبياء والملائكة بما ذكرته اليهود الذين جرحهم الله تعالى ، وملأوا كُتبهم في تفسير القرآن العزيز بذلك ، وما في ذلك نصٌّ في كتاب الله ولا في سنّة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والله يَعصمنا من غلطات الأفكار والأقوال والأفعال ) .

وأورد الشيخ عبد الوهّاب الشعراني كلام الشيخ ابن عربي المتقدّم ، حيث قال ما نصّه :

( قال الشيخ في الباب الثاني والسبعين وثلاثمائة من الفتوحات المكّيّة : يجب قطعاً تنزيه الأنبياء ممّا نسبه إليهم بعض المفسّرين من الطامّات ، ممّا لم يجيء في كتاب الله ولا سنّة صحيحة ، وهُم يزعمون أنّهم قد فسّروا قصصهم الّتي قصّها الله تعالى علينا .

وكذبوا والله في ذلك ، وجاؤوا فيه بأكبر الكبائر .

وذلك كمسألة إبراهيم الخليل على نبيّنا وعليه الصلاة والسلام ، وما نسبوه إليه مِن وقوع الشكّ بحسب ما يتبادر إلى الأذهان ، وما نظروا في قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( نحن أولى بالشكّ مِن إبراهيم ، وذلك أنّ إبراهيم عليه‌السلام لم يشكّ في إحياء الله تعالى الموتى ، معاذ الله أنْ يشكّ نبيٌّ في مثل ذلك ، وإنّما كان يعلم أنّ لإحياء الموتى طُرُقاً ووجوهاً متعدّدة ، لم يدرِ بأيّ وجهٍ منها يكون إحياء الله تعالى للموتى ، وهو مجبولٌ على طلب الزيادة مِن العِلم ، فعيّن الله تعالى وجهاً مِن تلك الوجوه فسكّن ما كان عنده ، وعَلِم حينئذٍ كيف يحيي الموتى ، فما كان السّؤال إلاّ عن معرفةِ الكيف لا غير ) .

١٦

وكذلك القول في قصّة سُليمان وما نسبوه إلى المَلَكين هاروت وماروت .

كلّ ذلك لم يرد في كتابٍ ولا سنّة ، وإنّما ذلك نُقِل عن اليهود ، فاستحلّوا أعراض الأنبياء والملائكة بما ذكروه لهم من جرحهم أنبياء الله تعالى ، وملأوا تفاسيرهم للقرآن مِن ذلك ، فالله يحفظنا وإخواننا مِن غَلَطَات الأفكار والأفعال والأقوال ، آمين ، إنتهى .

وأيضاً ، قال في الباب الرابع والخمسين ومئة : ينبغي للواعظ أنْ يراقب الله تعالى ، في أنبيائه وملائكته ويَستحي مِن الله عزّ وجلّ ، ويتجنّب الطامّات في وعظهِ ، كالقول في ذات الله بالفكر ، والكلام على مقامات الأنبياء عليهم الصّلاة والسلام مِن غير أنْ يكون وارثاً لهم ، فلا يتكلّم قطّ على زلاّتهم بحسب ما يتبادر إلى أذهان الناس بالقياس إلى غيرهم ؛ فإنّ الله تعالى قد أثنى على الأنبياء حُسن الثناء بعد أنْ اصطفاهم مِن جميع خلقه ، فكيف يستحلّ أعراضهم بما ذكره المؤرّخون عن اليهود .

قال : ثمّ إنّ الداهية العُظمى جَعْلُهم ذلك تفسيراً لكلام الله تعالى .

وفي تفسيرهم : قال المفسّرون في قصّة داود أنّه نظر إلى امرأة أُوريا فأعجبته ، فأرسله في غزاة لِيَموت فيأخذها .

وكقولهم في يوسف ـ على نبيّنا وعليه الصلاة والسلام ـ أنّه همّ بالمعصية ، وأنّ الأنبياء لم يُعصَموا عن مثل ذلك .

وكقولهم في قصّة لوط( .. لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) العجز والبحر ونحو ذلك .

ويعتمدون على تأويلات فاسدة وأحاديث واهية ، نُقِلت عن قومٍ قالوا في الله ما قالوا مِن البهتان والزّور .

١٧

فمَن أورَد مثلَ ذلك في مَجلسه مِن الوعّاظ ، مَقَته الله والأنبياء والملائكة ؛ لكونِه جعَل دهليزاً ومهاداً لِمَن في قلبه زيغ يدخل منه إلى ارتكاب المعاصي ، ويحتجّ بما سمِعه منه في حقّ الأنبياء ويقول : إذا كان الأنبياء وقَعوا في مثل ذلك فمَن أكون أنا ، وحاشى الأنبياء كلّهم عن ذلك الذي فهمه هذا الواعظ ، فو الله ، لقد أفسد الواعظ الأُمّة ، وعليه وِزر كلّ مَن كان سَبَباً لاستهانته بما وقع فيه مِن المعاصي ، ولكنّه قد ورد أنّه لا تقوم السّاعة حتّى يصعد الشيطان على كرسي الوعظ ويَعِظ النّاس ، وهؤلاء من جنوده الذين يتقدّمونه )(١) .

ـــــــــــــــــــ

(١) اليواقيت والجواهر ٢ : ٢٣٢ ـ ٢٣٣ .

١٨

طبقة الصّحابة

وطبقات المفسّرين عند علمائهم المعتمدين سِت.

فالطبقة الأُولى : الخلفاء والصّحابة .

قال الحافظ جلال الدين السيوطي :

( النوع الثمانون ـ في طبقات المفسّرين :

اشتهر بالتفسير من الصحابة عشرة : الخلفاء الأربعة ، وابن مسعود ، وابن عبّاس ، وأُبَي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وأبو موسى الأشعري ، وعبد الله بن الزبير )(١) .

الخلفاء والتفسير

والظاهر أنّ إدخال الخلفاء الثلاثة في زُمرة المفسّرين من الصحابة ، ليس إلاّ مِن باب التأدّب تجاههم ، والتبرّك بأسمائهم ! لتصريحهم بِنُدرة رواية التفسير عن الثلاثة ، والنادر كالمعدوم ، ففي ( الإتقان ) مثلاً : ( فأمّا الخلفاءُ ، فأكثر من رُوي عنه منهم : عليّ بن أبي طالب ، والرواية عن الثلاثة نزرةٌ جدّاً ) ثمّ قال : ( ولا أحفظ عن أبي بكر في التفسير إلاّ آثاراً قليلة جدّاً ، لا تكاد تتجاوز العشرة )(٢) .

هذا ، وسيأتي عن بعضهم التصريح بقلّة الرواية في التفسير عن

ـــــــــــــــــــ

(١) الإتقان في علوم القرآن ٤ : ٢٣٣ .

(٢) الإتقان في علوم القرآن ٤ : ٢٣٣

١٩

أميرِ المؤمنين أيضاً ، حتّى كادت تكون معدومة عندهم ، وإذا كان هذا حال الروايات عن ( أكثر من رُوي عنه منهم ) فما ظنّك بروايات البقيّة ؟

والسبب في قلّة رواية التفسير عن الثلاثة : جهلهم بذلك ، وعدم تعلّم شيء منه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء ذلك في ( صحيح البخاري ) عن أبي هُريرة ، فإنّه قال في مقام تبرئة نفسه عن الكذب على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

( إنّ إخواننا مِن المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق ، وإنّ إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم ، وإنّ أبا هُريرة كان يلزم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشبع بطنه ، ويحضر ما لا يحضرون ، ويحفظ ما لا يحفظون )(١) .

وقد أسمَع ذلك أُبي بن كعب عمر ، حينما اعترض عليه في بعض الآيات ، فاعترف عُمَر بن الخطّاب بجهله واعتذر إليه :

في ( كنز العمّال ) : ( عن ابن جريج عن عمرو بن دينار قال : سمِعت بجالة التميمي قال : وجد عُمَر بن الخطّاب مُصحفاً في حجر غلام فيه : النبيّ أولى بالمؤمنين مِن أنفسهم ، وهو أبوهم فقال : اُحككها يا غلام فقال : والله لا أحكّها وهي في مصحف أُبي بن كعب ، فانطلقوا إلى أُبي ، فقال له أُبي : شغلني القرآن وشغَلَك الصفق بالأسواق ، إذ تعرض رداءك على عنقك بباب ابن العجماء )(٢) .

وفي ( كنز العمّال ) أيضاً : ( عن الحسن : إنّ عُمَر بن الخطّاب ردّ على أُبي

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ١ : ٤٠ كتاب العلم ، باب حفظ العلم .

(٢) كنز العمّال ١٣ : ٢٥٩/ ٣٦٧٦٣

٢٠

1 ـ الشّيخ الطوسي المعروف بشيخ الطائفة (460 ه‍ ـ ق) ، وله بحث صريح وقاطع بهذا الشأن في أوّل تفسيره المعروف ب (التبيان).

2 ـ الشريف المرتضى ، ويعتبر من كبار علماء الإمامية في القرن الرّابع الهجري.

3 ـ الشّيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه المعروف برئيس المحدثين ، حيث يقول في بيان عقائد الإمامية : (إن اعتقادنا بالقرآن أنّه سالم من أي تحريف).

4 ـ المفسّر الكبير الشّيخ الطبرسي ، وله في مقدمة تفسيره بحث مفصل بهذا الشأن.

5 ـ المرحوم الشّيخ محمد حسين كاشف الغطاء ، من كبار العلماء المتأخرين.

6 ـ المرحوم المحقق اليزدي ، وقد نقل في كتابه (العروة الوثقى) مسألة عدم تحريف القرآن عن جمهور مجتهدي الشيعة.

7 ـ بالإضافة إلى جمع من العلماء الآخرين ، أمثال : الشّيخ المفيد ، الشّيخ البهائي، القاضي نور الله مع سائر محققي الشيعة.

وقد نحى هذا المنحى علماء ومحققوا أهل السنة.

وقد نقل عن بعض محدّثي الشيعة وبعض أهل السنة ، اعتقادهم بوقوع التحريف في القرآن. إلّا أن كبار علماء الفريقين بأدلتهم القاطعة قد أبطلوا زعم هؤلاء وأدخلوه في حيز النسيان.

وأفاد العلّامة الشريف المرتضى في جواب (المسائل الطرابلسيات) «إن صحة نقل القرآن واضحة وبيّنة كمعرفتنا لعواصم العالم والحوادث المهمّة في التأريخ والكتب الشهيرة» فهل هناك من يشك في وجود مدن كمكّة والمدينة أو لندن وباريس وإن لم يزرها؟! أو هل هناك من ينكر وقوع الهجوم المغولي على الشرق ، الثورة الفرنسية ،

٢١

الحرب العالمية الأولى أو الثّانية؟!

فإنّ لم يكن هناك من يشك أو ينكر ، بسبب تواتر ذكر وجودها ، فكذلك آيات القرآن الكريم ، وهذا ما سيأتي بيانه إن شاء الله.

وإذا كان بعض المغرضين قد نسبوا للشيعة اعتقادهم بتحريف القرآن ، فغايتهم إشعال فتيل التفرقة والفتنة بين الشيعة والسنة ، وقد فندت كتب كبار علماء الشيعة هذه الأباطيل الفاقدة لأي دليل منطقي.

ولا نستغرب من الفخر الرازي قوله في ذيل الآية مورد البحث : (إنّ الآية :( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) دليل على بطلان قول الشيعة في حصول التغيير والزيادة والنقصان في القرآن) ، ممّا نعلمه عن هذا الرجل من حساسية وتعصب تجاه الشيعة.

وهنا لا بدّ من كلمة : إن كان يقصد بالشيعة كبار علمائهم ومحققيهم ، فليس هناك من يعتقد بذلك.

وإن كان يقصد بوجود قول ضعيف بهذا الشأن بين أوساط الشيعة ، فإنّ نظيره موجود في أوساط السنة أيضا ، وهو ما لم يعتن به من قبل الطرفين.

وقد تطرق لذلك بوضوح المحقق الشّيخ جعفر المعروف بكاشف الغطاء في كتابه (كشف الغطاء) بقوله : لا ريب أنّه (أي القرآن) محفوظ من النقصان بحفظ الملك الديان، كما دل عليه صريح القرآن ، وإجماع العلماء في كل زمان ، ولا عبرة بنادر(1) .

إنّ التأريخ الإسلامي مزدحم بالتهم الباطلة المتغذية من ثدي العصبية المقيتة ، مع علمنا القاطع بأنّ أعداء الإسلام يقفون وراء حياكة ونشر هذه التهم لإيقاع البغضاء بين أبناء الدين الواحد ، وأنّ غاية ما يسعون إليه أن يروا المسلمين أمّة

__________________

(1) تفسير آلاء الرحمن ، 35.

٢٢

مفككة غير قادرة على القيام بمهامها الوحدوية التوحيدية.

ترى كاتبا معروفا (من أهل الحجاز) في عرض ذمّه للشيعة من خلال كتابه (الصراع) يقول : (والشيعة هم أبدا أعداء المساجد)(1) .

والحال لو أجرينا إحصاء لعدد المساجد في شوارع وأسواق وأزقة المدن الشيعية لأخذ منّا الوقت الطويل لكثرتها ، لدرجة أنّ بعضا من الشيعة بات يشكل على كثرة المساجد في المنطقة الواحدة ويرى لو يلتفت المحسنون لدور الأيتام والمستشفيات الخيرية وما شاكلها ، بدلا من بناية المساجد لكفاية الموجود ومع هذا ترى كاتبا معروفا يتحدث بصراحة عن أمر يدعو إلى الضحك.

وعليه فلا ينبغي الاستغراب لما افتراه الفخر الرازي.

أدلة عدم تحريف القرآن :

1 ـ أدلة عدم تحريف القرآن كثيرة ـ فبالإضافة الى الآية محل البحث وآيات أخر ـ كيفية تعامل الناس مع هذا الكتاب السماوي العظيم عبّر التأريخ.

وقبل البداء ينبغي التنويه بأنّ من احتمل التحريف في القرآن ، إنّما أراد بذلك حصول النقص فيه ، ولم نر من احتمل الزيادة في القرآن.

ونظرة فاحصة إلى تاريخ حياة المسلمين نرى من خلالها أنّهم كانوا يعايشون القرآن في كافة مرافق حياتهم ، فهو القانون والدستور الحاكم ، ونظام الدولة ، وهو الكتاب المقدس السماوي ورمز العبادة وبعد هذا كله هل يحتمل أن تطرأ عليه الزيادة أو النقصان؟!

يحدثنا التأريخ بأنّ القرآن ما كان ليفارق الإنسان المسلم في : صلاته ، المسجد ، البيت ، ميدان الحرب عند مواجهة الأعداء ، بل إنّ المسلمين كانوا

__________________

(1) الصراع ، لعبد الله علي القصيمي ، ج 2 ، ص 23 ، على ما نقل عنه العلّامة الأميني في الغدير ، ج 3 ، ص 300.

٢٣

يجعلون تعليم القرآن مهورا للنساء. فكان للقرآن الحضور الفاعل في كل صغيرة وكبيرة من شؤون المسلمين ، حتى أن الطفل ينمو على هديه.

ومرّة أخرى نقول : أو يعقل أن يصاب هذا الكتاب السماوي المقدس بسهام التحريف والتغيير وهو محفوظ في قلوب وسلوك المسلمين على مرّ التأريخ؟!

لقد تمّ جمع القرآن ـ كما ذكرنا في المجلد الأوّل من هذا التّفسير ـ في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واهتمّ به المسلمون الأوائل أقصى درجات الاهتمام ، في مجال تعلم أحكامه ، وحفظه ، لدرجة أصبحت فيها مكانة الفرد الاجتماعية تقاس بقدر حفظه من سور القرآن الكريم ، حتى أصبح عدد حفاظ القرآن من الكثرة بحيث أنّه في إحدى المعارك قتل فيها أربعة آلاف منهم(1) .

وكذلك الحال في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما استشهد سبعون رجلا من الصحابة الذين حفظوا القرآن في معركة بئر معونة ـ وهي إحدى المناطق المجاورة للمدينة ـ(2) .

من هذين المثلين (وأمثالهما كثير) يتّضح لنا أن حفظة وقراء ومعلمي القرآن الكريم من الكثيرة بحيث يستشهد منهم في معركة واحدة ذلك العدد الضخم.

وهذا طبيعي جدا إذا ما نظرنا إلى طريقة تعامل المسلمين مع القرآن ، باعتباره القانون الحاكم النافذ ، والكتاب المقدس الذي لا يوجد سواه.

لم يكن القرآن الكريم كتابا مهملا في زوايا البيوت والمساجد يعلوه غبار النسيان حتى تسنح الفرصة لمن يريد أن يزيد فيه أو ينقص ، بل إنّ مسألة حفظه كانت وما زالت عبادة عظيمة وسنّة متبعة تمتد جذورها في عمق التاريخ الإسلامي.

وبعد أن ظهرت الطباعة كان القرآن الكريم أكثر الكتب من حيث الطبع

__________________

(1) منتخب كنز العمال ، كما نقل عنه (البيان في تفسير القرآن) ، ص 260.

(2) سفينة البحار ، ج 1 ، ص 57.

٢٤

والانتشار بين صفوف المسلمين في كافة بلدانهم ، ولا تخلو مدينة إسلامية من حفاظ للقرآن. والأمثلة أكثر من أن تقال ، ففي البلدان الإسلامية هناك مدارس خاصة لقراءة وحفظ القرآن وذكر أحد المطلعين : أنّه يوجد في بعض بلاد الإسلامية ما يقرب من مليون ونصف المليون حافظ للقرآن.

وبناء على ما ذكره فريد وجدي في كتابه (دائرة المعارف) : إن من شروط امتحان القبول في كلية الأزهر في مصر ، هو حفظ القرآن الكريم كاملا ودرجة النجاح في ذلك (20) من (40) كحد أدنى.

خلاصة القول : إنّ حفظ القرآن منذ عصر ظهور الإسلام أصبح سنّة حية في حياة المسلمين ، من خلال ما أمر وأكّد عليه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وهو ما تعضده الرّوايات الكثيرة) ، وإلى هنا نعاود طرح السؤال : هل هناك مجال لاحتمال وجود التحريف في القرآن؟!

2 ـ بالإضافة إلى ما تقدم تواجهنا مسألة (كتّاب الوحي) وهم الأشخاص الذين أو كل إليهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مهمّة تسجيل الآيات القرآنية بعد نزولها ، ويذكر أن عددهم كان بين 14 ـ 43 رجلا.

يقول أبو عبد الله الزنجاني في كتابه القّيم (تأريخ القرآن) : (كان للنبي كتّاب يكتبون الوحي وهم ثلاثة وأربعون ، أشهرهم الخلفاء الأربعة ، وكان ألزمهم للنّبي زيد بن ثابت وعلي بن أبي طالبعليه‌السلام ) فكيف لكتاب له كل هؤلاء الكتّاب أن تمتد إليه يد التحريف؟!

3 ـ دعوة الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام للعمل بالقرآن الموجود بين أيدينا. ولو تفحصنا كلامهمعليهم‌السلام لوجدنا أنّهم قد دعوا الناس لتلاوة ودراسة القرآن والعمل على هديه منذ صدر الإسلام وعلى امتداد وجودهم المبارك بين الناس ، وهذا دليل على أن الأيادي المفسدة ما استطاعت النيل من هذا الكتاب السماوي.

٢٥

وخطب الإمام عليعليه‌السلام في نهج البلاغة خير شاهد ينطق بهذا الادعاء : فنقرأ

في الخطبة (133): «وكتاب الله بين أظهركم ، ناطق لا يعيا لسانه ، وبيت لا تهدم أركانه ، وعز لا تهزم أعوانه».

ويقول في الخطبة (176): «واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش ، والهادي الذي لا يضل ...».

ونطالع قولهعليه‌السلام في نفس الخطبة المذكورة : «وما جالس هذا القرآن أحد إلّا قام عنه بزيادة أو نقصان : زيادة في هدى ، أو نقصان من عمى».

ونتابع ذات الخطبة حتى نصل لقولهعليه‌السلام : «وإنّ الله سبحانه لم يعط أحدا بمثل هذا القرآن ، فإنّه حبل الله المتين ، وسببه الأمين».

ونقرأ في الخطبة (198): «ثمّ أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه ، وسراجا لا يخبو توقده ، ، ومنهاجا لا يضل نهجه ، ، وفرقانا لا يخمد برهانه» وأمثال ذلك كثير في كلام علي والأئمّةعليهم‌السلام .

ولو فرضنا أنّ يد التحريف قد طالت كتاب السماء ، فهل من الممكن أن يدعو إليه الأئمّةعليهم‌السلام بهذه القوة؟ ويصفونه بأنّه : صراط هداية ، وسيلة التفريق بين الحق والباطل ، النّور الذي لا يطفأ أبدا ، مصباح هداية لا يخبو ، حبل الله المتين والعروة الوثقى.

4 ـ وإذا ما سلمنا ب (خاتمية) النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ الدين الإسلامي هو خاتم الأديان الإلهية ، وإنّ رسالة القرآن باقية إلى يوم القيامة.

فهل يصدق أنّ الله سبحانه سوف لا يحفظ دليل دينه وحجّة نبيّه الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ وهل يجتمع تحريف القرآن مع بقاء الإسلام عبر آلاف السنين ودوامه حتى نهاية العالم؟!

5 ـ وهناك دليل آخر على أصالة القرآن وحفظه من أية شائبة نتلمسه في روايات الثقلين المروية عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطرق متعددة معتبرة.

٢٦

فقد روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّي تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا»(1) .

فهل يصح هذا التعبير عن كتاب تطاله يد التحريف؟!

6 ـ بالإضافة إلى كل ذلك فالقرآن طرح على المسلمين باعتباره الحد الفاصل المأمون الجانب في تمييز الأحاديث الصادقة من الكاذبة ، وتشير كثير من الرّوايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام إلى أن صدق أو كذب أي حديث يتبيّن من خلال عرضه على القرآن ، فما وافق القرآن فهو حق وما خالفه فهو باطل.

فلو افترضنا أنّ تحريفا قد طرأ على القرآن (ولو بصورة نقصان) فهل يمكن اعتباره فاصلا بين الحق والباطل ، أو معيارا دقيقا لتمييز الحديث الصحيح من السقيم؟!

روايات التّحريف :

يستند القائلون بتحريف القرآن مرّة على روايات قد أسيء فهمها نتيجة عدم الوصول لما كانت ترمز إليه من معنى ، وأخرى على روايات ضعيفة السند ويمكن تقسيم روايات التحريف إلى ثلاثة أقسام :

1 ـ الرّوايات القائلة : إنّ عليّاعليه‌السلام شرع بجمع القرآن بعد وفاة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعند ما تمّ جمعه عرضه على جمع من الصحابة ممن تربعوا في مقام الخلافة فلم يقبلوه منه ، فقال عليعليه‌السلام : إنّكم لن تروه بعد الآن أبدا.

وبنظرة فاحصة إلى تلك الرّوايات نصل إلى أن القرآن الذي كان عند علي

__________________

(1) حديث الثقلين من الأحاديث المتواترة ، رواه عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمع من الصحابة مثل : أبو سعيد الخدري ، زيد بن أرقم ، زيد بن ثابت ، أبو هريرة ، حذيفة بن أسيد ، جابر بن عبد الله الأنصاري ، عبد الله حنطب ، عبد بن حميد ، جبير بن مطعم ، ضمّرة الأسلمي ، أبو ذر الغفاري ، أبو رافع ، أم سلمة وغيرهم.

٢٧

عليه‌السلام لا يختلف مع بقية النسخ من حيث المضمون ، سوى اختلافه من حيث العرض والترتيب في ثلاثة أمور :

الأوّل : أن آياته وسوره كانت مرتبة حسب تأريخ النّزول.

الثّاني : تثبيت سبب النّزول لكل آية وسورة.

الثّالث : تضمن تفسير النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للآيات بالإضافة إلى ذكر الناسخ والمنسوخ.

فالقرآن الذي جمعه أمير المؤمنينعليه‌السلام ليس إلّا عين القرآن الموجود سوى أنّه أضاف إليه : (التّفسير) و (التأويل) و (سبب النّزول) و (تبيان الناسخ والمنسوخ) وما شابه ذلك. وبعبارة أخرى ، وكان قرآنا مع تفسيره الأصيل.

كما أنّه ورد في كتاب سليم بن قيس : (إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام لما رأى غدر الصحابة وقلّة وفائهم لزم بيته ، وأقبل على القرآن ، فلما جمعه كله ، وكتابه بيده ، وتأويله الناسخ والمنسوخ ، بعث إليه أن أخرج فبايع ، فبعث إليه إني مشغول فقد آليت على نفسي لا أرتدي بردائي إلا لصلاة حتى أؤلف القرآن وأجمعه)(1) .

2 ـ الرّوايات المشيرة إلى «التحريف المعنوي» للقرآن.

إنّ التحريف ـ كما نعلم ـ على ثلاثة ضروب : لفظي ، معنوي ، وعملي.

فالتحريف اللفظي : هو تغيير ألفاظ وعبارات القرآن وحصول الزيادة والنقصان فيها. (وهذا ما نرفضه بشدة ـ وجميع محققي الإسلام ـ وننكره إنكارا قاطعا).

والتحريف المعنوي : هو تفسير الآية خلافا لمفهومها ومعناها الحقيقي.

أمّا التحريف العملي : فهو العمل على خلاف المقتضي.

ففي تفسير علي بن إبراهيم عن أبي ذررضي‌الله‌عنه أنّه قال : لما نزلت هذه الآية( يَوْمَ

__________________

(1) بحار الأنوار ، ج 92 ، ص 41.

٢٨

تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ترد عليّ أمتي يوم القيامة على خمس رايات ، فراية مع عجل هذه الأمة ، فأسألهم : ما ذا فعلتم بالثقلين من بعدي؟ فيقولون : أمّا الأكبر فحرفناه ونبذناه وراء ظهورنا ...»(1) .

وواضح أن التحريف هنا يقصد به التحريف المعنوي للقرآن ونبذه وراء الظهور.

3 ـ الرّوايات المختلفة :

فقد سعى أعداء الدين والمنحرفون عن الصراط المستقيم ، وتبعهم الجهلة ، في اختلاق بعض الرّوايات للحطّ من شرف القرآن وقدسيته ، ومنها الرّوايات التي رواها أحمد بن محمّد بن السياري والبالغة (188) رواية(2) ، وقد استدل العلّامة الشّيخ النّوري بكثير من هذه الرّوايات في كتابه (فصل الخطاب).

والسياري هذا مطعون عند كثير من علماء (علم الرجال) ويقولون عليه كان : فاسد المذهب ، لا يعتمد عليه ، وضعيف الحديث.

وعلى قول بعضهم : إنّه من أهل الغلو ، منحرف ، معروف بالتقول بالتناسخ ، وكذاب ، ويقول عنه الكشي (صاحب كتاب الرجال المعروف) : إنّ الإمام الجوادعليه‌السلام وصف ادعاءات السياري في رسالته بأنّها باطلة.

مع أنّ روايات التحريف غير مقتصرة على السياري ، إلّا أنّ أكثرها وأهمها تعود إليه.

وبين هذه الرّوايات المزيفة ما تضحك الثكلى ، وينكرها كل ذي لب لبيب ، وعلى سبيل المثال ما جاء في إحداها بخصوص الآية الثّالثة من سورة النساء( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) أنّه : قد سقط بين شرطها وجزاءها ثلث القرآن!!!

__________________

(1) تفسير البرهان ، ذيل الآية (106) من سورة آل عمران.

(2) أورد هذا الإحصاء مؤلف كتاب (البرهان المبين).

٢٩

وقد ذكرنا في تفسير الآية المذكورة ، أن الشرط والجزاء في الآية مرتبطان ارتباطا تاما ، ولم يسقط من بينهما ولو كلمة واحدة.

أضف إلى ذلك ، أن ثلث القرآن ما يعادل أربعة عشر جزء منه تقريبا ، فكيف يدعى هذا المدعى مع ما للقرآن من كتّاب وحي وحفاظ وقراء منذ عهد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهل يعقل أن يحصل ذلك دون أن يلتفت إليه أحد؟!

وكأنّ هؤلاء لم يعيشوا ويعايشوا التاريخ بواقعيته وجلاءه ، ألم يثبت التأريخ بأنّ الشيء الأساسي في حياة المسلمين هو القرآن؟ أو لم يكن القرآن يتلى في آناء الليل وأطراف النهار في جميع البيوت والمساجد؟ إذن فكيف يحتمل إسقاط كلمة واحدة دون أن يلتفت إليه أحد ، فضلا عن كون السقط ثلث القرآن؟!

لا يسعنا إلّا أن نقول : إنّ كذبه بهذه المواصفات لدليل جلي على سذاجة واضعي مثل هذه الأحاديث.

وقد اعتمد الكثير من المتذرعين في إثبات تحريف القرآن على كتاب (فصل الخطاب) المشار إليه آنفا.

ولا بدّ من الإشارة إلى غرض وغاية هذا الكتاب من خلال ما كتبه تلميذ المؤلف العلّامة الشيخ آغا بزرگ الطهراني في الجزء الأوّل من كتاب (مستدرك الوسائل) ، حيث يذكر أنّه سمع من استاذه مرارا : إنّ ما في كتاب فصل الخطاب لا يمثل عقيدتي الشخصية ، إنّما ألفته للبحث والمناقشة ، وأشرت فيه إلى عقيدتي في عدم تحريف القرآن دون أن أصرح ، وكان من الأفضل أن أسميه (فصل الخطاب في عدم تحريف الكتاب).

ثمّ يقول المحدث الطهراني : هذا ما سمعناه من قول شيخنا نفسه ، وأمّا عمله فقد رأيناه يقيم وزنا لما ورد في مضامين الأخبار ، ويراها أخبار آحاد لا بدّ أن تضرب عرض الحائط ، ولا أحد يستطيع نسبة التحريف إلى أستاذنا إلّا من هو غير عارف بعقيدته ومرامه.

٣٠

وأخيرا فالأيادي المغلولة لا يسعها في هذا المجال إلّا أن تبذل كل جهودها للنيل من أصالة وعظمة وقدسية كتاب السماء عند المسلمين عن طريق بث الخرافات والأباطيل.

وطالعتنا الصحف من مدّة ليست بالبعيدة بأنّ أياد إسرائيلية صهيونية قامت بطبع نسخة جديدة للقرآن غيروا فيها كثيرا من الآيات القرآنية ، وكما هو معهود فقد انتبه علماء المسلمين بسرعة لهذه الدسيسة الخبيثة وجمعوا تلك النسخ ، فباءت محاولتهم بالفشل والخذلان.

وفات هؤلاء الأعداء من أصحاب القلوب الداكنة ، أن نقطة واحدة لو غيّرت في القرآن فسيعيدها إلى نصابها المفسّرون والحفاظ وقراء هذا الكتاب العظيم( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ) (1) .

* * *

__________________

(1) التوبة ، 32.

٣١

الآيات

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) )

التّفسير

العناد والتعصب :

تواسي الآيات قلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقلوب المؤمنين لما كانوا يواجهونه من صعاب في طريق دعوتهم ، من خلال الإشارة إلى صراع الأنبياء السابقين مع أقوامهم الضالة والمتعصبة.

فتقول أوّلا :( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ ) .

ولكنّهم من العناد والتعصب لدرجة( وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) .

ذلك الاستهزاء وتلك السخرية لاعتبارات عدّة :

٣٢

ـ مرة ، يريدون بالسخرية إسقاط شخصية النّبي كي لا يؤثر في أوساط الفئة الواعية.

ـ وأخرى ، يحاولون بالاستهزاء تغطية ضعفهم وعجزهم أمام المنطق القوي والحجج الدامغة لرسل اللهعزوجل .

ـ وتارة ، يأخذهم الاستغراب لدعوات الأنبياء الثورية ضد طريقة حياتهم الموبوءة وتقاليدهم البالية ، ولما كانوا مكيفين لها ومسترخين بين أجوائها ، فيدفعهم جهلهم وتعصبهم الأعمى لما هو سائد ، لأنّ يستهزءوا.

ـ وأخرى ، محاولة تخدير وجدانهم السارح في المتاهات كي لا يصحوا على حين غرّة فيعتنق الحق وينهض بأعباء مسئوليته.

ـ وقد يكون الاستهزاء بسبب خطل مقياسهم ومعيارهم للقدوة والقائد فما تعارفوا عليه في مواصفات الزعيم أو القائد ، أن يكون من الطبقة الثرية المرفهة ، وقيمة الإنسان عندهم من خلال : لباسه الأنيق ، مركبة الفاره ، بيته الفخم ، وحياته المحفوفة بالزخارف وإذا نهض بدعوة الحق إنسان فقير لا يمتلك من حطام الدنيا شيئا ، فسيكون موضع سخريتهم!

ـ وأخيرا ، فقبولهم لدعوة الأنبياءعليهم‌السلام ـ حسب تصورهم ـ يستلزم تقويضا لكل شهواتهم الدنيوية ، وتحميلهم وظائف جديدة لا يطيقونها ، فليجؤون للاستهزاء لتبرير إعراضهم وانكارهم وإراحة ضمائرهم.

ثمّ يقول جلّ وعلا :( كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ) أي نوصل الآيات القرآنية الى اعماق وجدانهم وعقولهم.

ومع وضوح البلاغ والتأكيد وبيان المنطق الرباني وإظهار المعجزات ، ترى المتعصبين المستهزئين( لا يُؤْمِنُونَ بِهِ ) وهو ليس بجديد( وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ) .

ويصل أمر الغارقين في شهواتهم والمصرين في عنادهم على الباطل إلى أنّهم

٣٣

لا يؤمنون حتى( وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ) ومع ذلك( لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ) .

عجبا ، أن يصل الإنسان لهذا الدرك من العناد والتعصب!

إن الذنوب والجهل ومعاداة الحق تؤثر على الروح الطاهرة والفطرة السليمة ، فتحجبهما عن رؤية وجه الحقيقة الناصع ، وتمنعهما من إدراك الحقائق ، وإذا لم يتمكن الإنسان من رفع تلك الحجب وإزالة الموانع ، فإنّ صورة الحق ستتلوّث في نظره فينكر كل ما هو معقول ومحسوس معا ، ومن الممكن تطهير الفطرة في المراحل الأولى ، ولكن إذا رسخت في قلبه هذه الحالة وتجذرت وأمست «ملكة» وصفة أخلاقية ، فلا يمكن إزالتها بسهولة ، وعندها سوف لا تترك أقوى الأدلة العقلية ولا أوضح الأدلة الحسية أي تأثير في قلبه.

* * *

ملاحظات

1 ـ (شيع) جمع (شيعة) ، ويطلق على المجموعة والفرقة التي تمتلك نهجا مشتركا.

يقول الراغب الأصفهاني في كتاب (المفردات) ـ باب شيع : الشياع الانتشار والتقوية ، يقال شاع الخبر أي كثر وقوى ، وشاع القوم انتشروا وكثروا ، وشيعت النّار بالحطب قويتها ، والشيعة : من يتقوى بهم الإنسان.

أمّا العلّامة الطبرسي في (مجمع البيان) فيعتبر أنّ أصلها من المشايعة ، وهي المتابعة، يقال شايع فلان فلانا على أمره أي تابعه عليه ، ومنه شيعة عليعليه‌السلام وهم الذين تابعوهعلى أمره ودانوا بإمامته ، وفي حديث أم سلمة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «شيعة علي هم الفائزون يوم القيامة» إشارة لهذا المعنى.

وعلي أية حال فالشياع بمعنى الانتشار والتقوية ، أو المشايعة بمعنى

٣٤

المتابعة ، كلاهما دليل على وجود نوع من الاتحاد والارتباط الفكري والديني في مفهوم (الشيعة) و (التشيع).

وإطلاق لفظ (شيع) على الأقوام السابقة يدل على أنّهم في قبال دعوة الأنبياءعليهم‌السلام كانوا متحدين في توجههم ومتآزرين متعاضدين في عملهم.

فإن كان لأهل الضلال هذا الاتحاد والتنسيق أفلا ينبغي لأتباع الحق أن يسيروا على نور هدية متكاتفين ومتآزرين؟

2 ـ مرجع الضمير في «نسلكه» :

من لطف الباري جلّ شأنه أن يوصل ويفهم آياته للمجرمين والمخالفين بطرق شتى ، عسى أن تستقر في قلوبهم ، ولكنّ عدم صلاحية ولياقة المحل يكون سببا لخروجها من تلك الأجواف النتنة ، فتبقى قلوبا غير متأثرة ، شبيها بمرور الغذاء النافع في معدة مريضة فلا تتقبله وتقذفه إلى الخارج. (ويستفاد هذا المعنى من (السلوك) المادة الأصلية لعبارة «نسلكه»).

وعلى هذا الأساس فضمير «نسلكه» يعود إلى «الذكر» أي القرآن كما ورد في الآيات المتقدمة ، وكذلك حال الضمير في( لا يُؤْمِنُونَ بِهِ ) يعود إليه أيضا ، أي : إنّهم مع كل ذلك لا يؤمنون بالذكر.

فنلحظ التوافق التام بين الضميرين بالضبط كما جاء في سورة الشعراء في الآيتين 200 و 201.

وذهب بعض المفسّرين إلى أن ضمير «نسلكه» يعود إلى الاستهزاء المذكور في الآية المتقدمة لها ، فيكون المعنى : إنّا ندخل الاستهزاء والسخرية في قلوبهم نتيجة لذنوبهم وعنادهم.

ويكفينا لتضعيف هذا التّفسير أن نقول : إنّه يذهب بالتناسق بين الضميرين.

ونستفيد كذلك من عبارة «نسلكه» أنّ على المبلغ والمرشد أن لا يكتفي في أداء وظيفته بإيصال صوته الى أسماع الناس ، بل عليه أن يطرق كل الآفاق حتى

٣٥

يوصل صوت الحق إلى القلوب ليقرّ فيها.

وبعبارة أخرى ، ينبغي الاستفادة من جميع الوسائل السمعية والبصرية ، البرامج العملية ، الأدب ـ شعرا وقصة ـ والفن الأصيل الهادف. لتكون كلمة الحق واضحة لذوي القلوب الواعية ، والحجة تامة على من ظلم وعاند.

3 ـ سنّة الأولين :

تفيدنا الآية الآنفة الذكر بأنّ أساليب أهل الضلال الرامية لتخدير الناس ومحاولة تفريقهم وإبعادهم عن أولياء الله لا تختص بزمان ومكان معينين ، بل هي ممارسة موجودة منذ القدم وباقية ما بقي صراع الحق ضد الباطل على الأرض ولهذا لا ينبغي أن نستوحش من ذلك ونتراجع امام المشاكل والعراقيل التي يدبرها الأعداء.

ولا نسمح لليأس من أن يدخل قلوبنا ، ولا لأساليب الأعداء من أن تفقدنا الثّقة بالنفس فذكر سنن الأولين في القرآن ما هي إلّا مواساة وتسلية مؤثرة لقلوب دعاة الإيمان.

وإذا ما تصورنا يوما أن نشر دعوة الحق ورفع راية العدل والهداية لا يواجهان برد فعل الأعداء ، فإنّنا في خطأ كبير ، وأقل ما فيه أننا سنصاب بحالة اليأس المهلكة ، وما علينا إلّا أن نستوعب مسير خط الأنبياءعليهم‌السلام في مواجهاتهم لأعداء الله ، وأن نجسد ذلك الإستيعاب في سلوكنا ، بل وعلينا أن نزداد في كل يوم عمقا في دعوتنا.

4 ـ تفسير( فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ) :

يظهر هذا المقطع القرآني ـ بوضوح ـ تصويرا لحال المعاندين ، فلو أنّ بابا من السماء فتحت لهم وظلوا يصعدون وينزلون من خلاله ، لقالوا : سحرت عيوننا وحجبت عن رؤية الواقع! (يبدو أنّ المراد من السماء هنا : الفضاء الخارجي الذي لا يمكن النفوذ منه بسهولة).

علما بأنّ كلمة «ظلوا» تستعمل لاستمرار العمل في النهار وتقابلها كلمة

٣٦

(باتوا) من البيتوتة اللّيل.

ويميل إلى هذا المعنى غالب المفسّرين ولكن العجيب أن بعض المفسّرين احتملوا عودة ضمير «ظلّوا» إلى الملائكة ، فيكون المعنى : أنّهم لو رأوا الملائكة تصعد وتنزل من السماء بأمّ أعينهم لما آمنوا أيضا.

ولكن إضافة لعدم انسجام هذا الاحتمال مع تسلسل الآيات السابقة واللاحقة التي تتحدث عن المشركين ، أن ذكر الملائكة إنّما ورد قبل ست آيات (فعودة الضمير إلى الملائكة بعيد جدّا) فإنّ هذا المعنى يقلل من بلاغة العبارة القرآنية ، لأنّ القرآن يريد أن يقول أنّ المشركين لا يستسلمون للحق حتى لو صعدوا وهبطوا من السماء مرارا في ساعات النهار.

5 ـ معنى عبارة( سُكِّرَتْ أَبْصارُنا ) .

جمله «سكّرت» من مادة (سكر) أي : التغطية.

ويراد بها : أنّ الكافرين المعاندين يقولون : قد غطيت عيوننا عن رؤية الواقعيات ، وإذا رأينا أنفسنا نصعد إلى السماء وننزل إلى الأرض سنحكم على ذلك بأنّه وهم وخيال ، كما في ما يسمّى بالشعوذة التي يستفيد صاحبها من خفة حركة يده فيخدع أنظار الحاضرين بها.

ويضيفون القول :( بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ) ، فبالرغم من أنّ الشعوذة هي لون من ألوان السحر ، لكنّهم ربما يشيرون إلى ما هو أشد من الشعوذة التي تختص بخداع البصر فقط ، ألا وهو السحر الكامل الذي يغطي على كل وجود الإنسان ويفقد معه الإحساس بكل ما هو واقع!

فلو أغلقنا عين انسان ما فإنّه لا يفقد الشعور فيما لو أنّه يصعّد به إلى الأعلى أو ينزّل إلى الأسفل.

فمعنى الآية : لو أخذنا المشركين إلى أقطار السماوات لقالوا أوّلا : إنّنا أصبنا بالشعوذة ، وبعد أن يجدوا أنّ هذه العملية لا تتوقف على العين فقط فسيقولون حينها : إنّنا مسحورون!

* * *

٣٧

الآيات

( وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) )

التّفسير

تشير الآيات إلى جانب من عالم المخلوقات للدلالة على معرفة توحيد الله ، وبسياقها جاءت تكملة لبحثي القرآن والنّبوة المذكورين في الآيات السابقة.

قوله تعالى :( وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً ) .

«البروج» : جمع «برج» ويعني «الظهور» ، ولهذا يطلق على البيت الذي يبنى في سور المدينة أو على سور الحصن الذي يعتصم به المقاتلون ، وذلك لما له من بروز وارتفاع خاص. ويقال كذلك (تبرجت) للمرأة التي تظهر زينتها.

والبروج السماوية : هي منازل الشمس والقمر. وبعبارة أقرب إلى الذهن : لو نظرنا إلى الشمس والقمر بإمعان فسنراها في كل فصل من فصول السنة ولفترة زمنية معينة يقابلان أحد الصور الفلكية (الصور الفلكية : مجموعة نجوم على هيئة خاصة) فنقول : إنّ الشمس في برج الحمل(1) ـ مثلا ـ أو الثور أو الميزان أو العقرب

__________________

(1) الحمل : مجموع شمسية تظهر في السماء على هيئة الحمل تقريبا. وكذلك الثور والميزان وغيرها.

٣٨

أو القوس.

ويعتبر وجود الأبراج السماوية ، وكذلك النظام الدقيق في حركة منازل الشمس والقمر ضمن هذه البروج (وهو التقويم المجسّم لعالم وجودنا) ، يعتبر من الأدلة الواضحة على علم وقدرة الخالق جل وعلا.

إنّ هذا النظام العجيب بما يحمل من دقة في حساب تشكيله يكشف لنا وجود هدف لخلق هذا العالم ، وكلما أمعنا النظر في خلق الله ازددنا مقربة من معرفة الخالق الجليل.

ثمّ يضيف :( زَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ ) (1) .

انظروا لإحدى الليالي المظلمة ذات النجوم الكثيرة فسترون مجموعات نجمية ائتلفت فيما بينها في كل زاوية من زوايا السماء ، وكأنّها حلقات تنظيمية تتجاذب أطراف الحديث ، وترى تلك كأنّها ترمقنا شابحة ، وأخرى تغمزنا باستمرار وكأنّها تدعونا إليها ، ويخال من بعضها وكأنّها تقترب منّا لشدة تلألئها ، وتلك التي تنادينا بخافت ضوئها وينطق لسان حالها من أعماق السماء وجوفها المتباعد إنّني هنا!

هذه اللوحة الشاعرية الرائعة ربّما ألفها البعض على أنّها عادية نتيجة لتكرار المشاهدة ، ومع ذلك فلها جذب خاص وهي جديرة بالتأمل.

وحينما يبزغ القمر (وبأشكاله المختلفة) وسط تلك المجاميع ، يضيف إلى سحرها وجمالها رونقا جديدا.

وتراها خجلة ، لا تقوى على أن ترفع رأسها إلّا بعد غروب الشمس ، فتتلألأ الواحدة تلو الأخرى ، كأنّهن يخرجن على استحياء من خلف ستار وما إن يحل الطلوع حتى نراها تفر فرارا لتختفي.

__________________

(1) ضمير «زيناها» يعود إلى «السماء» لأنّها مؤنث مجازي.

٣٩

ومضافا الى ذلك فإنّ لها من الجمالية العلمية والأسرار المخفية ما لا يصدق ، ويكفيك لجماليتها أنّها جعلت أنظار العلماء تشخص إليها منذ آلاف السنين حتى زماننا الذي ما توصل العلماء إلى صناعة المرقبات (التلسكوبات) ، إلّا للوصول لاكتشاف أسرار جديدة عن هذا العالم الدائب الملتهب رغم صمته.

ويضيف في الآية التالية :( وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ ) .

الآية المذكورة ، من الآيات التي أشبعت شرحا وتفسيرا من قبل المفسّرين ، وكلّ منهم قد نحى منحى خاصا في فهم معناها.

وقد ورد ذات المضمون في سورة الصافات (الآيتان 6 و 7) وكذلك في سورة الجن الآية (9).

وربّما ارتسمت في أذهان البعض أسئلة لم يسعفوا بالإجابة عنها ، فكان لزاما علينا في بادئ الأمر أن نلقي نظرة إلى آراء كبار المفسّرين فيما يخص الموضوع الذي نحن بصدده ، ومن ثمّ نعرج إلى ما نراه راجحا من هذه الآراء :

1 ـ بعض المفسّرين ومنهم صاحب تفسير (في ظلال القرآن) قد اكتفوا بالتّفسير الإجمالي ولم يغوصوا إلى كثير من التفاصيل ، ولم يعيروا أهمية لكثير من المسائل على اعتبار أنّها حقائق فوق البشر ولا يمكننا إدراكها ، وما علينا إلّا أن نهتم بالآيات التي ترتب الآثار على حياتنا العملية وتنظم لنا السلوك والتوجه الى الحق.

فكتب يقول : وما الشيطان؟ وكيف يحاول استراق السمع؟ وأي شيء يسترق؟

كل هذا غيب من غيب الله لا سبيل لنا إليه إلّا من خلال النصوص ، ولا جدوى في الخوض فيه ، لأنّه لا يزيد شيئا في العقيدة ولا يثمر إلّا انشغال العقل البشري بما ليس من اختصاصه ، وبما يعطله عن عمله الحقيقي في هذه الحياة ، ثمّ

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456