استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

استخراج المرام من استقصاء الإفحام13%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 456

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 456 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 227071 / تحميل: 8323
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

عكرمة مولى ابن عبّاس

وأمّا عكرمة ، فإنّهم وإنْ ذكروا له محامد كثيرة ومناقب عالية ، حتّى نقلوا عن الشعبي : ما بقي أحدٌ أعلم بكتاب الله من عكرمة(١) .

وعن سعيد بن جُبير : أنّ عكرمة أعلم منه(٢) .

وعن البخاري وأبي حاتم وغيرهما : أنّه ثقة .

بل رَوَوا عن يحيى بن معين قوله : ( إذا رأيت إنساناً يقع في عكرمة وفي حمّاد بن سلمة ، فاتّهمه على الإسلام )(٣) .

بل عن شهر بن حوشب : ( عكرمة حَبْرُ هذه الأُمّة )(٤) .

هو من أعلام الخوارج

لكنّ الرجل مِن أعلام الخوارج وكبار النواصب ، وهذا ثابتٌ مشهور عنه وممّا لا ريبَ فيه لأحد ، وقد نصَّ على ذلك من الأئمّة أمثال : يحيى بن بُكير ، ومصعب الزبيري ، وعطاء ، وابن المديني ، وأحمد ، والحاكم ، وأبي بكر الجعابي ، والرياشي ، والذهبي ، وابن خلّكان ، وياقوت ، والكرماني... وغيرهم ممّن

ـــــــــــــــــــ

(١) الإتقان في علوم القرآن ٤ : ٢٤١ .

(٢) رجال المشكاة للشيخ عبد الحق الدهلوي ـ ترجمة عكرمة .

(٣) تاريخ مدينة دمشق ٤١ : ١٠٣/ ٤٧٤٣ ، تهذيب الكمال ٧ : ٢٦٣/ ١٤٨٢ ، سير أعلام النبلاء ٥ : ٣١/ ٩ .

(٤) ميزان الاعتدال ٣ : ٩٣/ ٥٧١٦ .

٢٠١

يطول المقام بذكرهم .

قوادحه كما في ميزان الاعتدال

وله قوادح ومعائب كثيرة أيضاً، ونحن نكتفي بإيراد ترجمته في( ميزان الاعتدال ) ، لاشتمالها على طرفٍ من كلمات الأئمّة في ذمّه والطعن فيه :

( عفّان : ثنا وهيب ، قال : شهدت يحيى بن سعيد الأنصاري وأيّوب ، فذكرا عكرمة فقال يحيى : كذّاب ، وقال أيّوب : لم يكن [بكذّاب] .

جرير بن يزيد عن يزيد ، بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحرث قال : دخلت على عليّ بن عبد الله ، فإذا عكرمة في وثاق عند باب الحش ، فقلت له : ألا تتّق الله ؟ فقال : إنّ هذا الخبيث يكذب على أبي .

ويُروى عن ابن المسيّب أنّه كذّب عكرمة .

الخصيب بن ناصح : ثنا خالد بن خداش : شهدت حمّاد بن زيد ـ في آخر يوم مات فيه ـ فقال : أُحدّثكم بحديث لم أُحدّث به قط ؛ لأنّي أكره أنْ ألقى الله ولم اُحدّث به ، سمعت أيّوب يحدّث عن عكرمة قال : إنّما أنزل الله متشابه القرآن ليضلّ به .

قلت : ما أسوءها عبارة بل أخبثها ، بل أنزله ليهدي به ، وليضلّ به الفاسقين .

فطر بن خليفة : قلت لعطاء : إنّ عكرمة يقول : قال ابن عبّاس : سبق الكتاب الخفّين ، فقال : كذب عكرمة ، سمعت ابن عبّاس يقول : لا بأس بمسح الخفّين وإنْ دخلت الغائط قال عطاء : والله إنْ كان بعضهم ليرى أنّ المسح على القدمين يجزي .

إبراهيم بن ميسرة ، عن طاووس قال : لو أنّ مولى عبد الله بن عبّاس اتّقى الله وكفّ مِن حديثه ، لشدّت إليه المطايا .

مسلم بن إبراهيم : ثنا الصلت أبو شعيب قال : سألت محمّد بن سيرين عن عكرمة فقال : ما يسوءني أنْ يكون مِن أهل الجنّة ، ولكنّه كذّاب .

إبراهيم بن المنذر : ثنا هشام بن عبد الله المخزومي ، سمعت ابن أبي ذئب يقول : رأيت عكرمة وكان غير ثقة .

قال محمّد بن سعد : كان عكرمة كثير العلم والحديث ، بحراً من البحور ، وليس يحتجّ بحديثه ، ويتكلّم النّاس فيه .

٢٠٢

وقال مطرف بن عبد الله : سمعت مالكاً يكره أنْ يذكر عكرمة ، ولا يرى أنْ يروى عنه .

قال أحمد بن حنبل : ما علمت أنّ مالكاً حدّث بشيء لعكرمة ، إلاّ في الرجل يطأ امرأته قبل الزيارة ، رواه عن ثور عن عكرمة .

أحمد بن أبي خيثمة قال : رأيت في كتاب علي ابن المديني : سمعت يحيى بن سعيد يقول : حدّثوني ـ والله ـ عن أيّوب أنّه ذكر له أنّ عكرمة لا يُحسن الصلاة ، فقال أيّوب : وكان يصلّي ؟

الفضل السيناني عن رجلٍ قال : رأيت عكرمة قد أقيمُ قائماً في لعب النرد .

يزيد بن هارون : قدم عكرمة البصرة ، فأتاه أيّوب ويونس وسليمان التيمي فسمع صوت غناء فقال : اُسكتوا ، ثمّ قال : قاتله الله ، لقد أجاد فأمّا يونس وسليمان فما عادا إليه .

عمرو بن خالد بمصر : حدّثنا خلاّد بن سليمان الحضرمي ، عن خالد بن أبي عمران قال : كنّا بالمغرب وعندنا عكرمة في وقت الموسم فقال : وددت أنّ بيدي حربة فأعترض بها مَن شهد الموسم يميناً وشمالاً .

ابن المديني : عن يعقوب الحضرمي ، عن جدّه قال : وقف عكرمة على باب المسجد فقال : ما فيه إلاّ كافر قال : وكان يرى رأي الأباضيّة .

يحيى بن بكير ، قال : قدم عكرمة مصر وهو يُريد المغرب ، قال : فالخوارج الذين هم بالمغرب عنه أخذوا .

قال ابن المديني : كان يرى رأي نجدة الحروي .

وقال مصعب الزبيري : كان عكرمة يرى رأي الخوارج ، وادّعى على ابن عبّاس أنّه كان يرى رأي الخوارج .

خالد بن يزيد [نِزَار] ثنا عمر بن قيس ، عن عطاء بن أبي رباح : أنّ عكرمة كان أباضيّاً.

٢٠٣

أبو طالب : سمعت أحمد بن حنبل يقول : كان عكرمة من أعلم النّاس ، ولكنّه كان يرى رأي الصفريّة، ولم يدَع موضعاً إلاّ خرج إليه : خراسان والشام واليمن ومصر وإفريقيّة ، كان يأتي الأُمراء فيطلب جوائزهم ، وأتى الجند إلى طاووس فأعطاه ناقة .

وقال مصعب الزبيري : كان عكرمة يرى رأي الخوارج ، فطلبه مُتَولّي المدينة ، فتغيّب عند داود بن الحصين حتّى مات عنده .

وروى سليمان بن معبد السنجي قال : مات عكرمة وكثير عزّة في يوم ، فشهد النّاس جنازة كثير ، وتركوا جنازة عكرمة .

وقال عبد العزيز الدراوردي : مات عكرمة وكثير عزّة في يوم ، فما شهدهما إلاّ سودان المدينة .

إسماعيل بن أبي أُويس ، عن مالك ، عن أبيه قال: أُتي بجنازة عكرمة مولى ابن عبّاس وكثير عزّة بعد العصر ، فما علمت أنّ أحداً من أهل المسجد حلّ حبوته إليهما .

قال جماعة : مات سنة خمس ومِئة .

وقال الهيثم وغيره : سنة ست .

وقال جماعة : سنة سبع ومِئة .

٢٠٤

عن ابن المسيّب أنّه قال لمولاه برد : لا تكذب علَيّ كما كذب عكرمة على ابن عبّاس )(١) .

قوادحه كما في معجم الأُدباء

وقال ياقوت الحموي بترجمة عكرمة من( معجم الأُدباء ) :

( ومات ـ فيما قرأت بخط الصولي من كتاب البلاذري ـ سنة خمس ومئة ، وقيل ست ومئة ، وهو ابن ثمانين سنة .

قال : وكان موته وموت كثير عزّة في يوم واحد ، فوُضعا جميعاً وصُلّي عليهما ، وكان كثير شيعيّاً وعكرمة يرى رأي الخوارج ، ذكره الحاكم أبو عبدا لله محمّد بن عبد الله البيّع في تاريخ نيسابور .

وذكر القاضي أبو بكر محمّد بن عمر الجعابي ـ في كتاب الموالي ـ عن ابن الكلبي قال : وعكرمة هلك بالمغرب ، وكان قد دخل في رأي الحروريّة الخوارج ، فخرج يدعو بالمغرب إلى الحروريّة .

أبو علي الأهوازي قال : لمّا توفّي عبد الله بن عبّاس ، كان عكرمة عبداً مملوكاً ، فباعه عليّ بن عبد الله بن عبّاس من خالد بن يزيد بن معاوية بأربعة آلاف دينار ، فأتى عكرمة عليّاً فقال له : ما خير لك ، أتبيع علم أبيك ، فاستقال

ـــــــــــــــــــ

(١) ميزان الاعتدال ٣ : ٩٤ ـ ٩٧/ ٥٧١٦ .

٢٠٥

خالداً فأقاله وأعتقه ، وكان يرى رأي الخوارج ويميل إلى استماع الغناء ، وقيل عنه : إنّه كان يكذب على مولاه .

وقال عبد الله بن الحارث : دخلت على عليّ بن عبد الله بن عبّاس ، وعكرمة موثّق على باب الكنيف ، فقلت : أتفعلون هذا بمولاكم ؟ فقال : إنّ هذا يكذب على أبي .

وقد قال ابن المسيّب لمولاه : لا تكذب علَيّ كما كذب عكرمة على ابن عبّاس .

وقال يزيد بن هارون : قدم عكرمة مولى ابن عبّاس البصرة ، فأتاه أيّوب السختياني وسليمان التيمي ويونس بن عبيد ، فينا هو يحدّثهم إذ سمع غناء ، فقال عكرمة : اُسكتوا ، فتسمّع ثمّ قال : قاتله الله فلقد أجاد ، أو قال : ما أجود ما قال ، فأمّا سليمان ويونس فلم يعودا إليه ، وعاد إليه أيّوب ، فقال : يزيد بن هارون : لقد أحسن أيّوب .

الرياشي : عن الأصمعي ، عن نافع المدني قال : مات كثير الشاعر وعكرمة في يوم واحد .

قال الرياشي : فحدّثنا ابن سلام : أنّ النّاس كانوا في جنازة كثير ؛ لأنّ عكرمة كان يرى رأي الخوارج ، وتطلّبه بعض الولاة ، فتغيّب عند داود بن الحصين حتّى مات عنده سنة سبع ومئة في أيّام هشام بن عبد الملك ، وهو يومئذٍ ابن ثمانين سنة .

حمّاد بن زائدة : ثنا عثمان بن مرّة قلت للقاسم : إنّ عكرمة مولى ابن عبّاس قال : ثنا ابن عبّاس أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن المُزفّت والمُقّيَّر والدِباء والحَنْثَم والجِرَار ، فقال : يا ابن أخي ، إنّ عكرمة كذّاب ، يحدّث غدوةً حديثاً يُخالفه عشيّاً .

يحيى بن بكير : سمعت ابن عم يقول لنافع : اتّق الله ـ ويحك يا نافع ـ ولا تكذب علَيّ كما كذب عكرمة على ابن عبّاس .

يزيد بن أبي زياد [عن عبد الله بن الحارث] قال : دخلت على عليّ بن عبد الله بن عبّاس ، وعكرمة مقيّدٌ على باب الحش ، قلت : ما لهذا كذا ؟ قال : إنّه يكذب ) انتهى بالاختصار(١) .

ـــــــــــــــــــ

(١) معجم الأُدباء ٢ : ١٨٢ ـ ١٩٠ / ٤٦ .

٢٠٦

الحسنُ البصري

وأمّا الحسن ، فمِن أشهر الأئمّة وكبار الفقهاء والمحدّثين عندهم ، وقد وصَفوه بأعلى المناقب وأجلّ الفضائل ، كما لا يخفى على من راجع( تهذيب الكمال ) و( تهذيب التهذيب ) وغيرهما من كتب التراجم والرجال .

هو مِن القدريّة

لكنّه ـ بناءً على أُصولهم ـ محكومٌ عليه بالكفر ؛ لأنّه كان لا يرى الشرّ بقدرٍ من الله ، ومن قال بهذه المقالة فهو عندهم كافر... قال الذهبي في ( تذهيب التهذيب ) :

( روى معمر عن قتادة عن الحسن قال : الخير بقدر والشرّ ليس بقدر .

قلت : هذه اللّفظة أبلغ ما نقل عن الحسن في القدر )(١) .

ذم القدريّة في روايات القوم

ولا بأس بإيراد طرفٍ من الروايات الواردة في ذمّ القدريّة :

أخرج الترمذي :

( عن عكرمة عن ابن عبّاس قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( صنفان مِن أُمّتي ليس لهما في الإسلام نصيب : المُرجئة ، والقدريّة ) وفي الباب

ـــــــــــــــــــ

(١) تذهيب التهذيب ـ تهذيب التهذيب ٢ : ٢٣٦ .

٢٠٧

عن عمر وابن عمر ورافع بن خديج هذا حديثٌ حسنٌ غريب )(١) .

وأخرج أبو داود :

( عن ابن عمر ، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( القدريّة مجوسُ هذه الأُمّة ؛ إنْ مرضوا فلا تعودوهم ، وإنْ ماتوا فلا تشهدوهم ) (٢) .

وأخرج أيضاً :

( عن حذيفة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لكلّ اُمّة مجوس ، ومجوس هذه الأُمّة الذين يقولون لا قدر ؛ من مات منهم فلا تشهدوا جنازته ، ومَن مرض منهم فلا تعودوهم ، وهُم شيعة الدجّال ، وحقّ على الله أنْ يلحقهم بالدجّال ) (٣) .

وفي( التمهيد في بيان التوحيد ) :

( روي : إنّ رجلاً دخل على عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه وقال : أخبرني عن القدر .

فقال له :( طريقٌ مظلم فلا تسلكه ) ، فسكت ساعة ، ثمّ قال له : أخبرني عن القدر ، فقال :( بحر عميقٌ لا تَلِجْهُ ) .

فسكت ساعة ، ثمّ قال له : أخبرني عن القدر ، فقال :( سرّ الله فلا تُفشِه ) .

فسكت ساعة ، ثمّ قال : أخبرني عن القدر .

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح الترمذي ٤ : ٤٥٤/ ٢١٤٩ كتاب القدر الباب ١٣ .

(٢) سنن أبي داود ٥ : ٤٦/ ٤٦٩١ كتاب السنة الباب ١٧ .

(٣) سنن أبي داود ٥ : ٤٦/ ٤٦٩٢ كتاب السنة الباب ١٧ .

٢٠٨

فبدأ عليّرضي‌الله‌عنه بالسؤال ، فقال له :( أخبرني مشيّتك مع مشيّة الله ، أو دون مشيّة الله ) ؟

فتحيّر الرجل ، فقال لعليّ : قل أنت .

فقال له :( إنْ قلت : بأنّ مشيّتي مع مشيّة الله تعالى ، فقد ادّعيت المشاركة مع الله تعالى ، وإنْ قلت : بأنّ مشيّتي دون مشيّة الله ، فقد ادّعيت الإلوهيّة ، فعلمت أنّ مشيّتك تحت مشيّة الله ) .

فقال الرجل : تبت إلى الله ، وقام

فقال عليّرضي‌الله‌عنه لأصحابه :( قوموا وصافحوه ، فإنّه الآن أسلم ) .

ففي هذا دليلٌ على أنّ مَن أنكر القدر يصير كافراً ؛ ولأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( القدريّة مجوس هذه الأُمة ؛ إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإنْ ماتوا فلا تشيّعوا جنائزهم ، أولئك هم شيعة الدجّال ، وحقّ على الله أنْ يلحقهم بالدجّال ، ولأنّهم أنكروا النصّ ، لأنّ الله تعالى قال : ( وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ... ) ) .

وجاء فيه أيضاً :

( فإن قال : بأنّ الله تعالى لم يخلُق الشر والكفر وذلك مخلوق غير الله ، فقد أثبت صانعاً وخالقاً غير الله ، فيكون مُشركاً بالله تعالى ويكون كافراً ، وإنْ قال : بأنّ الشرّ مخلوق الله تعالى بدون إرادته ومشيّته ، فقد اعتقد بأنّ الله تعالى مجبورٌ مكرهٌ في تخليقه ، وهذا كفر ؛ فثبت أنّ الكلّ بمشيّة الله وبإرادته وقضاءه وقدره ، ومَن أنكر القدر فهو كافر بالله العظيم )(١) .

ـــــــــــــــــــ

(١) التمهيد في بيان التوحيد : ٢٤ .

٢٠٩

وقال النووي في( المنهاج ) :

( قال الإمام ـ يعني إمام الحرمين ـ في كتاب الإرشاد في أُصول الدين : وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( القدريّة مجوس هذه الأُمّة ، شبّههم بهم لتقسيمهم الخير والشرّ في حكم الإدارة كما قسمت المجوس ، فصرفت الخير إلى يَزدَان والشر إلى أهرِمَن ، ولا خفاء باختصاص هذا الحديث بالقدريّة )(١) .

وفي( كنزر العمّال ) :

(( إنّ الله عزّ وجلّ لم يبعث نبيّاً قبلي ، إلاّ كان في أُمّته مِن بعده مرجئة وقدريّة يشوّشون عليه أمر أُمّته من بعده ، ألا إنّ الله عزّ وجلّ لعن المرجئة والقدريّة على لسان سبعين نبيّاً ، ألا وإنّ أُمّتي لأُمّةٌ مرحومةٌ لا عذاب عليها في الآخرة ، وإنّما عذابها في الدنيا ، ألا إنّ صنفين مِن أُمتي لا يدخلون الجنّة : المرجئة والقدريّة ) . ابن عساكر عن معاذ :

( صنفان من أُمّتي لعنهم الله على لسان سبعين نبيّاً : القدريّة والمرجئة الذين يقولون : الإيمان إقرارٌ ليس فيه عمل ) . الديلمي عن حذيفة )(٢) .

دفاع الذهبي عن الحسن البصري

ومن لطائف الأٌمور : محاولة الذهبي للدفاع عن الحسن ، بدعوى أنّه لمّا حوقق على القول بالقدر تبرّأ من ذلك ، قال الذهبي :

( الحسن بن يسار مولى الأنصار ، سيّد التابعين في زمانه بالبصرة ، كان

ـــــــــــــــــــ

(١) شرح صحيح مسلم ١ : ١٥٤ كتاب الإيمان ـ إثبات القَدر .

(٢) كنز العمّال ١ : ١٣٥/ ٦٣٥ و٦٣٦ .

٢١٠

ثقة في نفسه ، حجّةً ، رأساً في العلم والعمل ، عظيم القدر ، وقد بدت منه هفوة في القدر لم يقصدها لذاتها ، فتكلّموا ، فما ألتفت إلى كلامهم ؛ لأنّه لمّا حوقق عليها تبرّأ منها )(١) .

لكنْ ما معنى ( لم يقصدها لذاتها ) ؟ ألم يكن كلامه ظاهراً في معناه الذي فهمه القوم منه فتكلّموا فيه ؟ إنّ ما يقوله الذهبي دعوى بلا دليل ، بل هو مجرّد تخرّص وتخمين ، بل هو أشبه بهذيان المجانين ، ويكذّبه كلامه هو حيث قال بعد العبارة السابقة :

( قال حمّاد بن زيد عن أيّوب قال : كذب على الحسن ضربان مِن الناس : قومٌ رأيهم القدر لينفقوه في الناس بالحسن ، وقوم في صدورهم بغضٌ له ، وأنا نازلته في القدر غير مرّة حتّى خوّفته بالسلطان ، فقال : لا أعود فيه بعد اليوم .

وقال أيّوب : ولا أعلم أحداً يستطيع أنْ يعيب الحسن إلاّ به ، وأدركت الحسن ـ والله ـ ما يقوله )(٣) .

وإذا كان الحسن يُنازله الرجال في القدر غير مرّة ، ولا يرجع عن القول به إلاّ بعد التخويف بالسلطان ، فما معنى أنّه لم يكن قاصداً لما تفوَّه ؟

وما ذكره الذهبي في الدفاع عنه مِن أنّه قد تاب عن المقالة المذكورة ورجع عنها ، لا يرفع الإشكال ؛ لأنّ الحسن من القائلين بالتقيّة إلى يوم القيامة ، كما رواه البخاري عنه في( الصحيح ) (٣) ، وأهل السنّة يقولون بعدم قبول التوبة ممّن يقول بالتقيّة .

ـــــــــــــــــــ

(١) ميزان الاعتدال ١ : ٥٢٧/ ١٩٦٨ .

(٢) تذهيب التهذيب .

(٣) صحيح البخاري ٩ : ٢٥ كتاب الإكراه .

٢١١

كان الحسن مدلّساً

وكان الحسن البصري يكثر التدليس في الحديث ، نصَّ على ذلك الذهبي(١) .

وقال ابن حجر في( التقريب ) :

( وكان يرسل كثيراً ويدلّس قال البزّار : كان يروي عن جماعةٍ لم يسمع منهم ، فيتجوّز ويقول : حدّثنا وخطبنا ، يعني قومه الذين حدّثوا وخطبوا بالبصرة )(٢) .

وفي( تهذيب التهذيب ) :

( قال ابن المديني : سمعت يحيى ـ يعني القطان ـ وقيل له : كان الحسن يقول : سمعت عمران بن حصين قال : أمّا عن نفسه فلا وقال ابن المديني وأبو حاتم : لم يسمع منه ، وليس يصحّ ذلك من وجهٍ مثبت )(٣) .

هذا ، وقد نصّ ابن حجر في( شرح نخبة الفكر ) على أنّ التدليس بصيغةٍ صريحة كذب(٤) ، وقد أوضح القاري في ( شرحه ) المراد من الصيغة الصريحة فقال : ( وهي لفظة أخبرني أو حدّثني أو سمعته )(٥) .

وذكر ابن الجوزي أنّ التدليس في تلبيس إبليس ، حيث قال في كتاب( تلبيس إبليس ) :

ـــــــــــــــــــ

(١) ميزان الاعتدال ١ : ٥٢٧/ ١٠٦٨ .

(٢) تقريب التهذيب ١ : ١٦٦/ ١٣٥٧ .

(٣) تهذيب التهذيب ٢ : ٢٣٤/ ٤٨٨ .

(٤) شرح نخبة الفكر : ٨٢ .

(٥) شرح شرح نخبة الفكر : ٤١٩ .

٢١٢

 ( ومن تلبيس إبليس على علماء المحدّثين : رواية الحديث الموضوع من غير أنْ يبيّنوا أنّه موضوع ، وهذه جناية منهم على الشرع ، ومقصودهم تنفيق أحاديثهم وكثرة رواياتهم ، وقد قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) : من روى عنّي حديثاً يرى أنّه كذب فهو أحد الكاذبين ، ومن هذا الفن تدليسهم في الرواية ، فتارة يقول أحدهم : فلان عن فلان ، أو قال فلان عن فلان ، يوهم أنّه سمع منه ولم يسمع ، وهذا قبيح ؛ لأنّه يجعل المنقطع في مرتبة المتصّل )(١) .

وقال النووي في( شرح مسلم ) :

( التدليس قسمان : أحدهما : أنْ يروي عمّن عاصره ما لم يسمع منه ، موهماً سماعة قائلاً : قال فلان أو عن أو نحوه وربّما يسقط شيخه أو أسقط غيره لكونه ضعيفاً أو صغيراً ، تحسيناً لصورة الحديث ، وهذا القسم مكروه جدّاً ، ذمّة أكثر العلماء ، وكان شعبة من أشدّهم ذمّاً له ، وظاهر كلامه أنّه حرام وتحريمه ظاهر ، فإنّه يوهم الاحتجاج بما لا يجوز الاحتجاج به ، ويتسبّب أيضاً إلى إسقاط العمل بروايات نفسه ، مع ما فيه من الغرور ، ثمّ إنّ مفسدته دائمة ، وبعض هذا يكفي في التحريم ، فكيف باجتماع هذه الأُمور )(٢) .

لعبه بالشطرنج

وكان الحسن البصري يلعب بالشطرنج(٣) ، وقد ثبت في الأخبار أنّ اللاّعب بالشطرنج ملعون ، إلى غير هذا من الأحاديث الواردة في تحريمه

ـــــــــــــــــــ

(١) تلبيس إبليس : ١٣٦ ـ ١٣٧.

(٢) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجّاج ١ : ٣٣.

(٣) حياة الحيوان ٢ : ٦٢ ( العقرب ) .

٢١٣

وتحريم اللّعب به والنظر إليه...

نسبته المعصية إلى يوسفعليه‌السلام

وهو ممّن نسب المعصية إلى يوسفعليه‌السلام ، كما عرفت من كلام الرازي ، وعرفت أيضاً ما في هذه النسبة من كلامه .

فساد مذهبه يوجب الحكم بكفره

وعلى الإجمال ، فقد كان هذا الرجل منحرفاً في العقيدة حتّى قالوا بكفره ، وممّن نصَّ على ذلك عبد العزيز البخاري في( كشف الأسرار ) حيث قال :

( كثير مِن أصحاب الحديث قبلوا رواية سلفنا ، كالحسن وقتادة وعمرو بن عبيد ، مع علمهم بمذهبهم وإكفارهم من يقول بقولهم ، وقد نصّوا على ذلك )(١) .

ـــــــــــــــــــ

(١) كشف الأسرار ـ شرح أُصول البزودي ٣ : ٢٧ .

٢١٤

عطاء بن أبي رباح

وأمّا عطاء ، فيكفيه فضلاً وفخراً : كونه شيخ الإمام الأعظم وما قاله أبو حنيفة في حقّه .

قال الذهبي في( ميزان الاعتدال ) :

( عطاء بن أبي رباح ، سيّد التابعين علماً وعملاً وإتقاناً في زمانه بمكّة ، روى عن عائشة وأبي هريرة والكبار ، وعاش تسعين سنة أو أزيد ، وكان حجةً ، إماماً ، كبير الشأن ، أخذ عنه أبو حنيفة وقال : ما رأيت مثله )(١) .

لعبه بالشطرنج

لكنّه كان يلعب بالشّطرنج ، كما في( حياة الحيوان ) (٢) . وقبائح الشطرنج كثيرة جدّاً ، ولنذكر بعض ذلك فيما يلي من كتاب( كنز العمّال ) :

( ملعونٌ مَن لعب بالشطرنج ، والناظر إليها كالآكل لحم الخنزير ) عبدان وأبو موسى وابن حزم عن حبة بن مسلم .

( ملعونٌ مَن لعب بالشطرنج ) الديلمي عن أنَس .

( إذا مررتم بهؤلاء الذين يلعبون بهذه الأزلام ، والشطرنج ، والنرد وما كان مِن هذه ، فلا تسلّموا عليهم ، وإنْ سلّموا عليكم فلا تردّوا عليهم ) الديلمي عن

ـــــــــــــــــــ

(١) ميزان الاعتدال ٣ : ٧٠/ ٥٦٤٠ .

(٢) حياة الحيوان ٢ : ٦٢ .

٢١٥

أبي هريرة .

( ألا إنّ أصحاب الشاه في النار ، الذين يقولون قتلت والله شاهك الديلمي عن ابن عبّاس .

إنّ الله تعالى ينظر في كلّ يوم ثلاثمائة وستّين نظرة، لا ينظر فيها إلى صاحب الشاه ، يعني الشطرنج الديلمي عن واثلة .

( إنّ لله تبارك لوحاً ينظر فيه في كلّ يوم ثلاثمئة وستّين نظرة ، يرحم بها عباده ، ليس لأهل الشاه فيها نصيب الخرائطي في مساوي الأخلاق عن واثلة ) .

( عن عليّ :( النرد والشطرنج من الميسر ) ) ش وابن المنذر وابن أبي حاتم ق .

( من لعب بالميسر ثمّ قام يصلّي ، فمثله مثل الذي يتوضّأ بالقيح ودم الخنزير ، فيقول الله : لا يقبل له صلاة ) طب عن أبي عبد الرحمان الخطمي .

( عن عليّ ، أنّه مرّ على قوم يلعبون بالشطرنج ، فوثب عليهم فقال :( أما والله لغير هذا خُلِقتم ، ولولا أنْ تكون سنّة لضربت بها وجوهكم ) ) ق كر .

( عن عليّ : إنّه مرّ على قومٍ يلعبون الشطرنج فقال :( ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ، لأنْ يمسّ أحدكم جمراً حتّى يطفى خيرٌ له من أنْ يمسّها ) ش وعبد ابن حميد وابن أبي الدنيا في ذمّ الملاهي وابن المنذر وابن أبي حاتم ق .

( عن عليّ قال :( لا نسلّم على أصحاب النردشير والشطرنج ) . كر .

٢١٦

( يأتي على الناس زمانٌ يلعبون بها ، ولا يلعب بها إلاّ كلّ جبّار ، والجبّار في النّار ـ يعني الشطرنج ـ ولا يوقّر فيه الكبير ولا يرحم فيه الصغير ، يقتل بعضهم بعضاً على الدنيا ، قلوبهم قلوب الأعاجم وألسنتهم ألسنة العرب ، لايعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً ، يمشي الصالح فيهم مستخفّاً ، أولئك شرار خلق الله ، لا يَنظر الله إليهم يوم القيامة ) الديلمي عن أنَس (١) .

هذا ، وقد ذهب إلى حرمة الشّطرنج كافّة الأئمّة الأربعة ، كما نصَّ على ذلك صاحب( الصواقع ) في فصل المكائد حيث قال :

( الثلاثون والمئة : طعن أهل السنّة بأنّهم يجوّزون اللّعب بالشطرنج ، فإنّه ينخدع به أمرقعان ، وهو افتراء ، فإنّ اللّعب بالشطرنج حرام عند أبي حنيفة ومالك وأحمد على الصحيح ، وورد في حرمته أحاديث وآثار ، وعند الشافعي في القول الأوّل مكروه ، بشرط عدم إخراج الصّلوات عن وقتها ، وإخلال تحفّظ الواجبات بواسطة الاشتغال به ، وأنْ يخلو عن القمار ، وأنْ لا يصير سبباً للنزاع والكذب ، وأنْ لا يكون أسبابه مصوّرةً بصورة الحيوانات ، فإنْ فقد شيء من هذه الشروط صار حراماً ، وبالإصرار يصير كبيرةً كذا في الإحياء ،. وقد صحّ عن الشافعي أنّه رجع إلى قول الأئمّة الثلاثة ، نصّ عليه الإمام أبو حامد الغزالي ، واللّعب كلّه حرام عند أهل السنّة... )(٢) .

فظهر من هناك أنّ عطاء بن أبي رباح كان بعيداً عن الفضل والصّلاح ، محروماً عن الرشد والفلاح ، منحازاً عن حيازة مغانم الأرباح ، منهمكاً في الضلال والفسق والطلاح ، حيث جوّز ما يلعن على مرتكبه بالغداء والرواح .

تركه النهي عن المنكر

ومن قوادحه : إنّه لم ينكر على خالد بن عبد الله القسري بدعته في مكّة

ـــــــــــــــــــ

(١) كنز العمّال ١٥ : ٢١٥ ـ ٢٢٦ .

(٢) الصواقع الموبقة ـ مخطوط .

٢١٧

المكرّمة ، فقد جاء في كتاب( إتحاف الورى ) ما نصّه :

( وقد فعل خالد بن عبد الله القسري بمكّة المشرّفة أفعالاً من غير معرفةٍ للسنّة التي فعل فيها ، فأحببت ذكر ذلك هنا ، لئلاّ يخلو منه هذا الكتاب .

فمن ذلك : إنّ النّاس كانوا يقومون شهر رمضان في أعلى المسجد ، تركز حربة خلف المقام بربوة ، فيصلّي الإمام خلف الحربة والناس وراءه ، فمن أراد صلّى مع الإمام ، ومن أراد طاف وركع خلف المقام فلمّا ولّي خالد ابن عبد الله القسري بمكّة لعبد الملك بن مروان وحضر شهر رمضان ، أمر خالد الأئمّة أنْ يتقدّموا فيصلّوا خلف المقام ، وأراد الصفوف حول الكعبة ، وذلك أنّ النّاس ضاق عليهم أعلا المسجد ، فأرادهم حول الكعبة ، فقيل له : يمتنع بذلك الناس من الطواف ،

قال : فأنا آمرهم يطوفون بين كلّ ترويحتين بطواف سبعاً ، فأمرهم ففعلوا بين كلّ ترويحتين ، فقيل له : فإنّه يكون في مؤخّر الكعبة وجوانبها من لا يعلم بانقضاء طواف الطائفين من فصل وغيره ، فيتهيّأ للصلاة ، فأمر عبيد الكعبة أنْ يكبّروا حول الكعبة ويرفعوا أصواتهم في الطواف بالتكبير ، فإذا بلغوا الركن الأسود في الطواف السادس سكتوا ، فيكون ذلك إعلاماً للنّاس أنّ الطواف على انقضاء ، فيتهيّأ من الحَجر ومن في جوانب المسجد من مصلٍّ وغيره ، فيخفّف صلاته ، ثمّ يعود الطائفون للتكبير حتّى يفرغوا من السبع ، ثمّ يقوم منادٍ فينادي : الصلاة رحمكم الله ، ولا تنقضي صلاتهم حتّى يطلع الفجر ، وكان على جبل أبي قبيس يرقب طلوع الفجر للمتسحرين ، فإذا بان له نادى : أمسكوا رحمكم الله .

٢١٨

وكان عطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار ونظراؤهم من العلماءيحضرون ذلك، فلا ينكرونه ) (١) .

كان يأخذ من كلّ أحدٍ ويروي المرسلات

قالوا : وكان عطاء بن أبي رباح متساهلاً في الرواية ، يأخذ من كلّ أحدٍ ، ويروي المراسيل ، حتّى تكلّم فيه بعض الأئمّة ، ففي( تدريب الراوي ) :

( تكلّم الحاكم على مراسيل سعيد فقط دون سائر مَن ذُكر معه ، ونحن نذكر ذلك ، فمراسيل عطاء قال ابن المديني : كان عطاء يأخذ من كل ّضرب ، مُرسلات مجاهد أحبّ إليّ من مرسلاته بكثير ، وقال أحمد بن حنبل : مرسلات سعيد بن المسيّب أصحّ المُرسلات ، ومرسلات إبراهيم النخعي لا بأس بها ، ولا في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح ؛ فإنّهما كانا يأخذان من كلِّ أحد )(٢) .

وفي( ميزان الاعتدال ) :

( قال يحيى القطان : مرسلات مجاهد أحبّ إلينا من مرسلات عطاء بكثير ، كان عطاء يأخذ من كلّ ضرب وقال أحمد : ليس في المرسل أضعف من مرسل الحسن وعطاء ، كانا يأخذان عن كلّ أحد )(٣) .

بل لقد تركه بعض الأئمّة الكبار ، وإنْ حاول الذهبي حمل الترك على معنىً آخر ، ففي ( ميزان الاعتدال ) :

( روى محمّد بن عبد الرحيم عن عليّ بن المديني قال : كان عطاء بأخرة

ـــــــــــــــــــ

(١) إتحاف الورى بأخبار أُمّ القرى ـ حوادث السنة : ٩٣.

(٢) تدريب الراوي ـ شرح تقريب النواوي ١ : ٢٠٣ ـ ٢٠٤ .

(٣) ميزان الاعتدال ٣ : ٧٠/ ٥٦٤٠ .

٢١٩

قد تركه ابن جريج وقيس بن سعد .

قلت : لم يَعْنِ الترك الإصلاحي ، بل عنى أنّهما بطّلا الكتابة عنه ، وإلاّ فعطاء ثبت رضي )(١) .

لكنّه حمل بارد جدّاً ؛ لأنّ المتبادر مِن الترك في مثل هذه المواضع هو الترك الإصلاحي ، وهو عدم كونه أهلاً لأنْ يُروى عنه .

ـــــــــــــــــــ

(١) ميزان الاعتدال ٣ : ٧٠/ ٥٦٤٠ .

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

( فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ )

فلم يخلصه أصدقاؤه ، ولا الذين كانوا يحملون أمتعته ولا أمواله ولا أي أحد من عذاب الله ، ومضى قارون وأمواله ومن معه في قعر الأرض!

أمّا آخر آية ـ محل البحث ـ فتحكى عن التبدل العجيب لأولئك الذين كانوا يتفرجون على استعراض قارون بالأمس ويقولون : يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون ، وما شابه ذلك!. وإذا هم اليوم يقولون : واها له ، فإنّ الرزق بيد الله( وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ ) .

لقد ثبت عندنا اليوم أن ليس لأحد شيء من عنده! فكلّ ما هو موجود فمن الله ، فلا عطاؤه دليل على رضاه عن العبد ، ولا منعه دليل على تفاهة عبده عنده!.

فالله تعالى يمتحن بهذه الأموال والثروة عباده أفرادا وأقواما ، ويكشف سريرتهم ونيّاتهم.

ثمّ أخذوا يفكرون في ما لو أجيب دعاؤهم الذي كانوا يصرون عليه ، وأعطاهم الله هذا المال ، ثمّ هووا كما هوى قارون ، فما ذا يكون قد نفعهم المال؟

لذلك شكروا الله على هذه النعمة وقالوا :( لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ ) .

فالآن نرى الحقيقة بأعيننا ، وعاقبة الغرور والغفلة ونهاية الكفر والشهوة!. ونعرف أن أمثال هذه الحياة المثيرة للقلوب بمظاهرها الخداعة ، ما أوحشها! وما أسوأ عاقبتها!.

ويتّضح من الجملة الأخيرة في هذه القصّة ـ ضمنا ـ أنّ قارون المغرور مات كافرا غير مؤمن ، بالرغم من أنّه كان يعدّ عارفا بالتوراة قارئا لها ، وعالما من بني إسرائيل ومن أقارب موسى.

* * *

٣٠١

بحوث

١ ـ نماذج قارونية بالأمس واليوم!

قصّة قارون ـ هذا الثري المغرور ـ التي ذكرها القرآن في سبع آيات بينات ـ بأسلوب جذّاب ـ تكشف الحجب عن حقاق كثيرة في حياة الناس!

هذه القصّة النّيرة توضح هذه الحقيقة ، وهي أن غرور الثروة ونشوتها قد ينجر بهما الإنسان ـ أحيانا ـ إلى أنواع الجنون جنون إظهار الثروة وعرضها ولفت أنظار الآخرين إلى التلذذ من تحقير الفقراء والمساكين.

كما أن هذا الغرور وهذه النشوة والعشق المطلق للفضة والذهب ، قد تكون سببا لأنّ يجرأ الإنسان أحيانا إلى ارتكاب أقبح الذنوب وأخسها ، كالإساءة إلى النّبي ومناهظة الحق والحقيقة واتهام أطهر الأفراد ، واستخدام الثروة لإنفاقها على الفواحش في سبيل الوصول إلى الغرض المطلوب.

أن الغرور والنشوة الناشئين من كثرة الثروة ، لا يسمحان للإنسان أن يسمع نصيحة الآخرين ، ويستجيب لمن يريد له الخير!.

وهؤلاء المغرورون الجهلة يتصورون أنّهم أعلم الناس وأكثرهم اطلاعا ، وفي اعتقادهم أن ثروتهم التي وقعت في أيديهم ، وربّما تقع عن طريق الغصب أحيانا ، هي دليل على عقلهم وذكائهم وأن جميع الناس جهلة كما يظنون ، وأنّهم ـ وحدهم ـ العلماء فحسب!.

ويبلغ بهم الأمر حدّا أن يظهروا قدرتهم أمام الخالق ، وكأنّهم مستقلّون ، ويدّعون أنّ ما وصلهم هو عن طريق ابتكارهم وذكائهم ، واستعدادهم وخلّاقيتهم ومعرفتهم التي لا نظير لها!

ورأينا عاقبة هؤلاء المغرورين المنحرفين ، وكيف ينتهون ، وإذا كان قارون وأتباعه وثروته جميعا قد خسفت بهم الأرض فهووا إلى قعرها ، فإنّ الآخرين يفنون بأشكال مختلفة وأحيانا تبتلع الأرض حتى ثروتهم العظيمة بشكل

٣٠٢

آخر أو يبدّلون ثروتهم الكبيرة بالقصور والبساتين والأراضي الشاسعة ثمّ لا يستفيدون منها أبدا وقد يشترون الأراضي الموات والبائرة ، على أمل تقسيمها صغيرة لتباع كل قطعة بسعر باهض! وهكذا تبتلع الأرض ثروتهم.

أمثال هؤلاء الأفراد من سقيمي العقول حين لا يجدون طريقا لصرف ثروتهم العظيمة يتوجهون إلى القيم الخيالية وينفقون أموالهم على الخزف المتكسّر على أنّه من التراث القديم كالأكواز والأقداح الخزفية ، والطوابع ، والأوراق النقدية المتعلقة بالسنوات القديمة ، ويحافظون عليها في مكان حريز من بيوتهم على أنّها أغلى التحف ، وهي لا تستحق أن توضع إلّا في المزابل لو نظرنا إليها بعين البصيرة والاعتبار!

أولئك الذين يحيون مثل هذه الحياة الناعمة الخيالية قد يتفق أن يرى في مدينتهم أو في مناطقهم ـ وأحيانا في جيرانهم ـ من لا عهد له بالشبع ، ويسهرون لياليهم على الطوى جائعين ، ومن العجيب أنّهم يرون هذه الحالة فلا تهتز لها ضمائرهم ، ولا يتأثر لأجلها وجدانهم!.

كما يتفق لحيواناتهم أن تعيش حياة الرفاه ، وتستفيد من رعاية الأطباء والأدوية الخاصّة! في حين أن أناسا محرومين يعيشون في ظروف صعبة وسيئة إلى جوارهم ، وربّما يرقدون في المستشفى ، ويئنّون ولا من مصرخ لهم ، ولا من علاج لمرضهم!.

جميع هذه البحوث تنطبق أحيانا على بعض الأفراد في مجتمع ما ، وقد تنطبق على دولة معينة قبال دول الدنيا كلها ، أي قد نجد دولة قارونية مستكبرة أمام الدول الضعيفة ، كما نلاحظ في العصر الحاضر في شأن الدول الاستكبارية كأمريكا وكثير من الدول الأوروبية.

لقد هيأ هؤلاء حياة التنعّم والرفاه ـ في أرقى صورها ـ باستثمار أبناء العالم الثّالث والدول الفقيرة العزلاء بحيث أنّهم يرمون فضلات طعامهم في المزابل ،

٣٠٣

ولو قدر أن تجمع بصورة صحيحة ، لأمكن عندئذ تغذية الملايين المحرومة الجائعة من هذه المواد الغذائية الإضافية.

وما نقوله من أن بعض الدول فقيرة هي في الحقيقة ليست دولا فقيرة ، بل هي دول منيت بسرقة خيراتها وأغير عليها وربّما كان لديها أغلى المصادر والمعادن تحت الأرض ، لكن هؤلاء المغيرين ينهبون هذه الخيرات ويتركون أهلها على الأرض السوداء الجرداء.

فهؤلاء القارونيون يشيدون قواعد قصورهم الظالمة على أكواخ المستضعفين المهدّمة وإذا لم يتّحد المستضعفون يدا بيد ليقذفوا بالمستكبرين إلى قعر الأرض كما فعل بقارون ، فإنّ حالة الدنيا ستبقى هكذا.

فأولئك يشربون الخمور ويضحكون منتشين ، وهؤلاء يجلسون على بساط الفقر والحرمان باكين.

٢ ـ من أين جاء قارون بهذه الثروة العريضة؟

الطريف أنّنا نقرأ في الآيتين (٢٣) و (٢٤) من سورة المؤمن ما نستفيد منه بوضوح أنّ رسالة موسىعليه‌السلام كانت من البداية لمبارزة ثلاثة أشخاص! «فرعون» ، ووزيره «هامان» ، و «قارون» الثري المغرور.( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ ) .

ونستفيد من النصّ القرآني المتقدم أن قارون كان من جماعة فرعون ، وكان على خطه ؛ كما أنّنا نقرأ في التواريخ أنّه كان ممثلا لفرعون في بني إسرائيل من جهة(١) ، وأنّه كان أمين الصندوق عند فرعون ، والمسؤول على خزائنه من جهة أخرى(٢) .

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٥ ، ص ١٣ ، وتفسر مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ٢٦٦ ـ ذيل الآية محل البحث

(٢) مجمع البيان ، ج ٨ ، ص ٥٢٠ ذيل الآية ٢٤ من سورة المؤمن.

٣٠٤

ومن هنا تتّضح هويّة قارون فإنّ فرعون من أجل إذلال بني إسرائيل وسلب أموالهم اختار رجلا منافقا منهم ، وأودعه أزمّة أمورهم ، ليستثمر أموالهم لخدمة نظامه الجبار ، وليجعلهم حفاة عراة ، ويكتسب من هذه الطريقة ثروة ضخمة منهم!.

والقرائن تشير إلى أنّ مقدارا من هذه الثروة العظيمة وكنوز الأموال بقيت بعد هلاك فرعون عند قارون ، ولم يطلع موسىعليه‌السلام ـ إلى تلك الفترة ـ على مكان الأموال لينفقها على اتباعه الفقراء.

وعلى كل حال ، فسواء كانت هذه الثروة قد حصل عليها قارون في عصر فرعون ، أو حصل عليها عن طريق الإغارة على خزائنه بعد هلاكه ، أو كما يقول البعض قد حصل عليها عن طريق علم الكيمياء أو التجارة أو معرفته بأصول استثمار أموال المستضعفين.

مهما يكن الأمر فإنّ قارون آمن بموسى بعد انتصار موسى على فرعون ، وبدّل وجهه بسرعة ، وأصبح من قرّاء التوراة وعلماء بني إسرائيل في حين أنّ من البعيد أن تدخل ذرة من الإيمان في مثل قلب هذا المنافق!.

وأخيرا فحين أراد موسىعليه‌السلام أن يأخذ من قارون زكاة المال ، خدع به الناس ، وعرفنا كيف كانت عاقبته.

٣ ـ موقف الإسلام من الثّروة!

لا ينبغي أن نستنبط من المسائل التي ذكرناها آنفا أنّ الإسلام يقف من الثروة موقفا سلبيا ، وأنّه يخالف خط الثراء ، ولا ينبغي أن نتصور أنّ الإسلام يريد حياة الفقر والفقراء ، ويعدّ حياة الفقر من الكلمات المعنوية!.

بل على العكس من ذلك ، فإنّ الإسلام يعد الثروة عاملا مهمّا نحو الآخرة! وقد عبّر القرآن عن المال بالخير في الآية (١٨٠) من سورة البقرة( إِنْ تَرَكَ

٣٠٥

خَيْراً ) أي مالا.

ونقرأ في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام في هذا الصدد «نعم العون الدنيا على طلب الآخرة»(١) .

بل حتى الآيات ـ محل البحث ـ التي تذم قارون أشدّ الذم ، لأنّه اغتر بالمال ، هي شاهد بليغ على هذا الموضوع غاية ما في الأمر أنّ الإسلام يقبل بالثروة التي بواسطتها تبتغى الدار الآخرة ، كما قال علماء بني إسرائيل لقارون( وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ) .

والإسلام يرضى بالثروة التي نرى فيها «أحسن كما أحسن الله إليك» ولكن للجميع!.

والإسلام يوافق على ثروة يتحقق فيه القول «لا تنس نصيبك من الدنيا» ويمدحها.

وأخيرا فإنّ الإسلام لا يطلب ثروة ينبغي بها الفساد في الأرض وتنسى بها القيم الإنسانية وتكون نتيجتها الابتلاء بمسابقة جنون التكاثر ، أو أن ينفصل الإنسان عن ذاته ويحتقر الآخرين ، وربّما تجرّه إلى مواجهة الأنبياء كما فعل قارون في مواجهته لموسىعليه‌السلام !.

يريد الإسلام الثروة لتكون وسيلة لملء الفراغ الاقتصادي ، وأن يستفيد منها الجميع ، ولتكون ضمادا لجراح المحرومين ، وللوصول بها إلى إشباع الحاجات الاجتماعية وحلّ مشاكل المستضعفين

فالعلاقة بين هذه الثروة وهذه الأهداف المقدّسة ليست علاقة دنيوية ، أو ارتباطا بالدنيا ، بل هي علاقة أخروية.

كما نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أن أحد أصحابه جاءه شاكيا أمره ، وقال : والله إنّا لنطلي الدنيا ونحبّ أن نؤتاها. فقالعليه‌السلام : «تحبّ أن تصنع بها

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٢ ، ص ١٧ ، الحديث ٥ من الباب ١٦ من أبواب مقدمات التجارة.

٣٠٦

ما ذا؟»

قال : أعود بها على نفسي وعيالي ، وأصل بها وأتصدق بها وأحج وأعتمر فقال الامام الصادقعليه‌السلام : «ليس هذا طلب الدنيا ، هذا طلب الآخرة»(١) .

ومن هنا يتّضح فساد عقيدة طائفتين في هذا المجال :

طائفة من المسلمين ، أو بتعبير أدق : ممن يتظاهرون بالإسلام ، وبعيدون عن تعاليمه ، فيعرّفون الإسلام على أنّه محام عن المستكبرين.

وطائفة من الأعداء المغرضين الذين يريدون أن يمسخوا وجه الإسلام الأصيل ، ويجعلوه معاديا للثروة ، وأنّه يقف الى جانب الفقراء فحسب.

وأساسا فإنّ أمّة فقيرة لا تستطيع أن تعيش وحدها مرفوعة الرأس حرّة كريمة!.

فالفقر وسيلة للارتباط بالاجنبي والتبعية

والفقر أساس الخزي في الدنيا والآخرة!

والفقر يدعو الإنسان إلى الإثم والخطيئة.

كما نقرأ في حديث للإمام الصادق في هذا الصدد «غنى يحجزك عن الظلم ، خير من فقر يحملك على الإثم»(٢) .

إنّ على المجتمعات الإسلامية أن تسعى ـ مهما استطاعت ـ نحو التقدم لتكون غنيّة غير محتاجة ، ولتبلغ مرحلة الاكتفاء الذاتي ، وأن تقف على أقدامها وأن لا تضحّي باستقلالها وعزّتها وشرفها من أجل الفقر المذلّ الموجب للتبعية وتعلم أن منهج الإسلام الأصيل هو هذا لا غير.

* * *

__________________

(١) «وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ١٩ الحديث الثّالث الباب السابع من أبواب مقدمات التجارة.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ١٧ ، الحديث السابع الباب السادس من أبواب مقدمات التجارة.

٣٠٧

الآيتان

( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤) )

التّفسير

نتيجة حبّ التسلط والفساد في الأرض :

بعد البيان المثير لما حدث لثري مستكبر ومتسلط ، وهو قارون ، تبدأ الآية الأولى من هذا المقطع ببيان استنتاج كلي لهذا الواقع وهذا الحدث ، إذ تقول الآية( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً ) .

أجل ، فهم غير مستكبرين ولا مفسدين في الأرض وليس هذا فحسب ، بل قلوبهم مطهّرة من هذه المسائل ، وأرواحهم منزهة من هذه الأوساخ! فلا يريدون ذلك ولا يرغبون فيه.

وفي الحقيقة إنّ ما يكون سببا لحرمان الإنسان من مواهب الدار الآخرة ، هو هذان الأمران : «الرغبة في العلو» أيّ الاستكبار و «الفساد في الأرض» وهما

٣٠٨

الذنوب لأنّ كل ما نهى الله عنه فهو على خلاف نظام خلق الإنسان وتكامل وجوده حتما ، فارتكاب ما نهى الله عنه يدمر نظام حياة الإنسان ، لذا فهو أساس الفساد في الأرض! حتى مسألة الاستعلاء ـ بنفسها ـ هي أيضا واحدة من مصاديق الفساد في الأرض ، إلّا أن أهميته القصوى دعت إلى أن يذكر بالخصوص من بين جميع المصاديق للفساد في الأرض!.

وقد رأينا في قصّة «قارون» وشرح حاله أنّ السبب الأساس في شقوته وهلاكه هو العلوّ و «الاستكبار».

ونجد في الرّوايات الإسلامية اهتماما بهذه المسألة حتى أنّنا نقرأ حديثا عن الإمام أمير المؤمنين علىعليه‌السلام يقول : «إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها»(١) .

(وهذا أيضا فرع صغير من الاستعلاء).

ومن الطريف أنّ صاحب «تفسير الكشاف» يعلق بعد ذكر هذا الحديث فيقول : بعض الطامعين ينسبون «العلوّ» في الآية محل البحث لفرعون بمقتضى قوله :( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ ) ،(٢) والفساد لقارون بمقتضى قوله :( تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ ) ،(٣) ويدعون بأن من لم يكن كمثل فرعون وقارون فهو من أهل الجنّة والدار الآخرة ، وعلى هذا فهم يبعدون فرعون وقارون وأمثالهما من الجنّة فحسب ، ويرون الباقين من أهل الجنّة ، إلّا أنّهم لم يلاحظوا ذيل الآية( وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) بدقة ـ كما لاحظها الإمام عليعليه‌السلام (٤) .

وما ينبغي إضافته على هذا الكلام هو أن هؤلاء الجماعة أخطئوا حتى في معرفة قارون وفرعون لأنّ فرعون كان عاليا في الأرض وكان من المفسدين

__________________

(١) تفسير جوامع الجامع ، ذيل الآية محل البحث.

(٢) سورة القصص ، الآية ٤.

(٣) سورة القصص ، الآية ٧٧.

(٤) تفسير الفخر الرازي ، ذيل الآية محل البحث.

٣٠٩

( إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) ،(١) وقارون أيضا كان مفسدا وكان عاليا بمقتضى قوله :( فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ) .(٢)

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه كان يسير في الأسواق أيام خلافته الظاهرية ، فيرشد التائهين إلى الطريق ويساعد الضعفاء ، وكان يمرّ على الباعة والكسبة ويتلوا الآية الكريمة( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً ) . ثمّ يضيف سلام الله عليه : «نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من الناس»(٣) .

ومعنى هذا الكلام ، أنّه كما لم يجعل الخلافة والحكومة وسيلة للاستعلاء ، فلا ينبغي أن تجعلوا أموالكم وقدرتكم وسيلة للتسلط على الآخرين ، فأنّ العاقبة لأولئك الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا وكما يقول القرآن في نهاية الآية( وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) .

و «العاقبة» بمفهومها الواسع هي النتيجة الصالحة ، وهي الانتصار في هذه الدنيا ، والجنّة ونعيمها في الدار الأخرى وقد رأينا أنّ قارون وأتباعه إلى أين وصلوا وأيّة عاقبة تحمّلوا! مع أنّهم كانوا مقتدرين ولكن حيث كانوا غير متقين فقد ابتلوا بأسوأ العاقبة والمصير!.

ونختم كلامنا في شأن هذه الآية بحديث للإمام الصادقعليه‌السلام وهو أنّ الإمام الصادق حين تلا هذه الآية أجهش بالبكاء وقال : «ذهبت والله الأماني عند هذه الآية»(٤) .

وبعد ذكر هذه الحقيقة الواقعية ، وهي أن الدار الآخرة ليست لمن يحب

__________________

(١) سورة القصص ، الآية ٤.

(٢) سورة القصص ، الآية ٧٩.

(٣) نقل هذه الرواية زاذان عن أمير المؤمنين «مجمع البيان (ذيل الآية محل البحث)».

(٤) تفسير علي بن إبراهيم ذيل الآية محل البحث.

٣١٠

السلطة والمستكبرين ، بل هي للمتقين المتواضعين وطلبة الحق ، تأتي الآية الثّانية لتبيّن قانونا كليا وهو مزيج بين العدالة والتفضل ، ولتذكر ثواب الإحسان فتقول :( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ) .

وهذه هي مرحلة التفضل ، أي أنّ الله سبحانه لا يحاسب الناس كما يحاسب الإنسان نظيره بعين ضيّقة ، فإذا أراد الإنسان أن يعطي أجر صاحبه فإنّه يسعى أن يعطيه بمقدار عمله ، إلّا أنّ الله قد يضاعف الحسنة بعشر أمثالها وقد يضاعفها بمئات الأمثال وربّما بالآلاف ، إلّا أن أقلّ ما يتفضل الله به على العبد أن يجازيه عشرة أضعاف حسناته ، حيث يقول القرآن في الآية (١٦٠) من سورة الأنعام :( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) .

أمّا الحدّ الأكثر من ثواب الله وجزائه فلا يعلمه إلّا الله ، وقد جاءت الإشارة إلى جانب منه ـ وهو الإنفاق في سبيل الله ـ في الآية ٢٦١ من سورة البقرة إذ يقول سبحانه في هذا الصدد( ... مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) .

وبالطبع فإنّ مضاعفة الأجر والثواب ليس أمرا اعتباطيا ، بل له ارتباط وثيق بنقاء العمل وميزان الإخلاص وحسن النيّة وصفاء القلب ، فهذه هي مرحلة التفضل الإلهي في شأن المحسنين.

ثمّ يعقّب القرآن ليذكر جزاء المسيئين فيقول :( وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

وهذه هي مرحلة العدل الإلهي ، لأنّ المسيء لا يجازى إلّا بقدر إساءته ، ولا تضاف على إساءته أية عقوبة!.

الطريف هنا عند ذكر جزاء السيئة أن القرآن يعبر عن الجزاء بالعمل نفسه( إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) أي إن أعمالهم التي هي طبقا لقانون بقاء الموجودات في

٣١١

عالم الوجود ، تبقى ولا تتغير ، وتبرز في يوم القيامة متجسمة دون خفاء ، فهو (يوم البروز) في شكل يناسب العمل ، وهذا الجزاء يرافق المسيئين ويعذبهم!.

* * *

ملاحظات

١ ـ لم تكرر ذكر «السيئة» في هذه الآية مرتين؟

من المحتمل أن يكون ذكر السيئة مرتين في الآية ، لأن الله يريد أن يؤكّد على هذه المسألة ، وهي أن السيئة لا جزاء لها إلّا نفسها.

٢ ـ هل تشمل الحسنة الإيمان والتوحيد؟ فإذا كان كذلك فما معنى هذه الجملة( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ) ؟! وهل هناك خير من الإيمان والتوحيد؟!

وفي الإجابة على هذا السؤال نقول ـ بدون شك وترددّ ـ إن للحسنة معنى واسعا فهي تشمل المناهج الاعتقادية والأقوال والأعمال الخارجية ، وما هو أفضل من الاعتقاد بتوحيد الله فهو رضا الله سبحانه الذي يكون ثوابا للمحسنين ، فنحن نقرأ في الآية (٧٢) من سورة التوبة قوله تعالى :( وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ) !

٣ ـ لم عبّر القرآن عن الحسنة بصيغة الإفراد ، وعن السيئات بصيغة الجمع؟! يعتقد بعض المفسّرين أنّ هذا التعبير عائد إلى كثرة المسيئين وقلة المحسنين(١) .

كما ويحتمل أيضا أن الحسنات تتلخص في حقيقة التوحيد ، وأنّ جميع الحسنات تعود إلى «جذر» واحد وهو توحيد الله ، في حين أن السيئات ترجع إلى الشرك الذي هو مصداق التشتت والتعدد والكثرة.

* * *

__________________

(١) روح المعاني ، الآلوسي ذيل الآية.

٣١٢

الآيات

( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨) )

سبب النّزول

نقل جماعة من المفسّرين ـ سببا لنزول الآية الأولى من الآيات أعلاه عن ابن عباس مضمونه ما يلي :

حين كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله متوجها من مكّة إلى المدينة في سفر الهجرة وبلغ «الجحفة» وهي لا تبعد عن مكّة كثيرا تذكر وطنه «مكّة» هذه البقعة التي هي حرم الله وأمنه وفيها البيت العتيق «الكعبة» التي تعلق بها قلب النّبي وروحه تعلقا لا يقبل الانفكاك ظهرت آثار الشوق على وجه النّبي الكريم مزيجة بالحزن

٣١٣

والتأثر ، فنزل أمين الوحي جبريل على رسول الله وقال : أتشتاق الى بلدك وهو مولدك؟! فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم فقال جبرئيلعليه‌السلام : فإن الله يقول :( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ ) (١) يعني مكّة

ونعلم أنّ هذا الوعد العظيم تحقق أخيرا ، ودخل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بجيشه القوي وقدرته وعظمته الكبيرة مكّة ظافرا ، واستسلمت مكّة والحرم الآمن دون حرب للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فعلى هذا تعدّ الآية آنفة الذكر من الإخبار الإعجازي السابق لوقوعه ، إذ أخبر القرآن عن رجوع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مكّة بصورة قطعيّة ودون أي قيد وشرط ، ولم تطل المدّة حتى تحقق هذا الوعد الإلهي الكبير!.

التّفسير

الوعد بعودة النّبي إلى حرم الله الآمن :

هذه الآيات التي هي آخر الآيات في سورة القصص تخاطب نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله وتبشره بالنصر ، بعد أن جاءت الآيات الأولى لتبيّن قصّة موسى وفرعون وما جرى له مع قومه ، كما أنّ هذه الآيات فيها ارشادات وتعليمات مؤكّدة لرسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قلنا : إنّ الآية الأولى من هذه الآيات طبقا لما هو مشهور بين المفسّرين نزلت في «الجحفة» في مسير النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلى المدينة إذ كان متوجها إلى يثرب لتتحول بوجوده إلى «مدينة الرّسول» وأن يبذر النّواة الأصيلة «لحكومة إسلامية» فيها ويجعلها مقرّا لحكومة إلهية واسعة ، ويحقق فيها أهدافها.

لكن هذا الحنين والشوق والتعلق بمكّة يؤلمه كثيرا ، وليس من اليسير عليه الابتعاد عن حرم الله الآمن.

__________________

(١) راجع تفسير الميزان ، تفسير القرطبي ، ومجمع البيان «التّفسير الكبير» للفخر الرازي ، وتفاسير غيرها.

٣١٤

وهنا يشرق في قلبه الطاهر نور الوحي ، ويبشّره بالعودة إلى وطنه الذي ألفه فيقول :( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ ) .

فلا تكترث ولا تذهب نفسك حسرات ، فالله الذي أعاد موسى إلى أمّه هو الذي أرجعه أيضا إلى وطنه بعد غياب عشر سنوات في مدين ، ليشعل مصباح التوحيد ويقيم حكومة المستضعفين ويقضي على الفراعنة ودولتهم وقوّتهم.

هو الله سبحانه الذي يردك إلى مكّة بكلّ قوّة وقدرة ، ويجعل مصباح التوحيد على يدك مشرقا في هذه الأرض المباركة.

وهو الله الذي أنزل عليك القرآن ، وفرض عليك إبلاغه ، وأوجب عليك أحكامه.

أجل ، إنّ ربّ القرآن وربّ السماء والأرض العظيم ، يسير عليه أن يردّك إلى معادك ووطنك «مكّة».

ثمّ يضيف القرآن في خطابه للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أن يجيب على المخالفين الضالين بما علّمه الله( قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

إنّ طريق الهداية واضح ، وضلالهم بيّن ، وهم يتعبون أنفسهم عبثا ، فالله يعرف ذلك جيدا ، والقلوب التي تعشق الحق تعرف هذه الحقيقة أيضا.

وبالطبع فإنّ التّفسير الواضح للآية كما بيّناه آنفا ، إلّا أن جمعا من المفسّرين لديهم احتمالات أخرى في كلمة «معاد» من قبيل «العودة للحياة بعد الموت» «المحشر» او «الموت». كما فسّروه «بالجنّة» أو مقام «الشفاعة الكبرى» أو «بيت المقدس» الذي عرج النّبي منه أوّل مرة ، وغير هذه المعاني.

إلّا أنّه مع الالتفات إلى محتوى مجموع هذه السورة ـ القصص ـ وما جاء في قصّة موسى وفرعون وبني إسرائيل ، وما سقناه من شأن نزول الآية ، فيبعد تفسير المعاد بغير العودة إلى مكّة كما يبدو!.

أضف إلى ذلك أن المعاد في يوم القيامة لا يختصّ بالنّبي وحده ، والحال أن

٣١٥

الآية تتحدث عن النّبي ـ هنا ـ وتخاطبه وحده. ووجود هذه الآية بعد الآية التي تتحدث عن الثواب والجزاء في يوم القيامة ، لا دلالة فيها على هذا المعنى ، بل على العكس من ذلك ، لأنّ الآية السابقة تتحدث عن الانتصار في الدار الآخرة ، ومن المناسب أن يكون الحديث في هذه الآية عن الانتصار في هذه الدنيا.

أمّا الآية التالية فتتحدث عن نعمة أخرى من نعم الله العظيمة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فتقول :( وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) (١) .

كان كثير من الناس قد سمعوا بالبشارة بظهور الدين الجديد ، ولعل طائفة من أهل الكتاب وغيرهم كانوا ينتظرون أن ينزل عليهم الوحي ويحمّلهم الله هذه المسؤولية ، ولكنّك ـ أيّها النّبي ـ لم تكن تظن أنّه سينزل عليك الوحي( وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ ) إلّا أن الله رآك أجدر بالأمر ، وأن هذا الدين الجديد ينبغي أن ينتشر ويتسع على يدك في هذا العالم الكبير!.

وبعض المفسّرين يرون هذه الآية منسجمة مع آيات سابقة كانت تتحدث عن موسىعليه‌السلام ، وتخاطب النّبي ـ أيضا ـ كقوله تعالى :( وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) .

فعلى هذا يكون المقصود بالكتاب هنا هو قصص الأنبياء السابقين إلّا أن هذا التفسير لا منافاة فيه مع التفسير المتقدم! بل يعدّ قسما منه في الواقع!.

ثمّ يضيف القرآن في خطابه للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن طالما كنت في هذه النعمة( فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ ) .

ومن المسلّم به أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن ظهيرا للكافرين أبدا ، إلّا أن الآية جاءت في مقام التأكيد على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبيان المسؤولية للآخرين ، وأن

__________________

(١) قال بعضهم : إن «إلّا» هنا تفيد الاستثناء ، فاضطروا إلى أن يقولوا بحذف كلمة والتقدير لها من عندهم وهو تحكّم إلّا أن البعض الآخر فسّر «إلّا» بمعنى «لكن» وأنّها تفيد الإستدراك ، وهذا الوجه أقرب للنظر!

٣١٦

وظيفتهم أن يتأسوا بالنّبي ولا يكون أيّ منهم ظهيرا للكافرين.

وهذا الموضوع ينسجم تماما مع الموضوع الذي قرأناه في شأن موسىعليه‌السلام ، إذ قال :( رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) وبيّنا معناه في شأن إعانة الظالمين في الآية (١٧) من سورة القصص ، أمّا الآيتان اللتان تختتم بهما سورة القصص ، فهما تأكيد على مسألة التوحيد بتعابير واستدلالات متعددة ـ ومختلفة.

التوحيد الذي هو أساس جميع المسائل الدينية التوحيد الذي هو الأصل وهو الفرع وهو الكلّ وهو الجزء!.

وفي هاتين الآيتين أربعة أوامر من الله لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأربعة صفات لله تعالى ، وبها يكتمل ما ورد في هذه السورة من أبحاث.

يقول أوّلا :( وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ ) وبالرغم من أن النهي موجه إلى الكفار ، إلّا أن مفهوم الآية عدم تسليم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أمام صدّ الكافرين ، وإحباطهم ومؤامراتهم ، وهذا تماما يشبه ما لو قلنا مثلا : لا ينبغي أن يوسوس لك فلان ، فمعناه : لا تستسلم لوسوسته!.

وبهذا الأسلوب يأمر الله النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقف راسخ القدم عند نزول الآيات ولا يتردد في الأمر ، وأن يزيل الموانع من قارعة الطريق مهما بلغت ، وليسر نحو هدفه مطمئنا ، فإنّ الله حاميه ومعه أبدا.

ويقول ابن عباس : وإن كان المخاطب هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلّا أنّ المراد عموم الناس ، وهو من قبيل المثل العربي المعروف «إيّاك أعني واسمعي يا جارة!».

وبعد هذا الخطاب الذي فيه جنبة نهي ، يأتي الخطاب الثّاني وفيه سمة إثبات فيقول :( وَادْعُ إِلى رَبِّكَ ) فالله الذي خلقك وهو الذي ربّاك ورعاك

والأمر الثالث ، بعد الأمر بتوحيد الله ، هو نفي جميع أنواع الشرك وعبادة الأصنام( وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) فإن طريق التوحيد واضحة بينة ، ومن

٣١٧

ساروا عليها فهم على صراط مستقيم!.

والأمر الرّابع تأكيد آخر على نفي جميع أنواع الشرك ، إذ يقول تعالى :( وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) .

وهذه الأوامر المتتابعة كل واحد منها يؤكّد الآخر ، يوضح أهمية التوحيد في المنهج الإسلامي ، إذ بدونه يكون كل عمل زيفا ووهما.

وبعد هذه الأوامر الأربعة تأتي أوصاف أربعة لله سبحانه ، وهي جميعا تأكيد على التوحيد أيضا.

فالأوّل قوله :( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) .

والثّاني قوله :( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) .

والوصف الثالث :( لَهُ الْحُكْمُ ) والحاكمية في عالمي التشريع والتكوين.

والرابع : أن معادنا إليه( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .

والأوصاف الثلاثة الأخيرة يمكن أن تكون دليلا على إثبات التوحيد وترك جميع أنواع عبادة الأصنام ، الذي أشير إليه في الوصف الأول!

لأنّه طالما كنّا هالكين جميعا وهو الباقي.

وطالما كان التدبير لنظام الوجود بيده والحكم له!

وطالما كان معادنا إليه وإليه نرجع! فما عسى أن يكون دور المعبودات غيره ، وأي أحد يستحق العبادة سواه!؟

والمفسّرون الكبار لديهم آراء مختلفة في تفسير جملة( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) تدور حول محور كلمتي «وجه» و «هالك».

لأنّ الوجه يطلق ـ من حيث اللغة ـ على المحيّا أو ما يواجهه الإنسان من الشخص المقابل ، ولكن الوجه حين يطلق على الخالق فإنّه يعني عندئذ ذاته المقدسة!.

وكلمة «هالك» مشتقّة من مادة «هلك» ومعناه الموت والعدم ، فعلى هذا

٣١٨

يكون معنى الجملة المتقدمة فناء جميع الموجودات عدا ذات الخالق المقدسة وهذا الفناء بالنسبة للموجودات الممكنة غير منحصر بفناء هذا العالم وانتهائه ، فالموجودات الآن فانية قبال الذات المقدسة ، وهي تحتاج إلى فيضه لحظة بعد لحظة ، وليس لديها في ذاتها أي شيء ، وكلّ ما لديها فمن الله!

ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ موجودات هذا العالم جميعها متغير وفي معرض التبدل ، وحتى طبقا لفلسفة «الحركة الجوهرية» فذاتها هي التغيير بعينه ، ونحن نعرف أن الحركة والتغيير معناهما الفناء والعودة الدائمية ، فكل لحظة تموت موجودات العالم وتحيا!.

فعلى هذا فإنّ الموجودات هالكة وفانية الآن ـ أيضا ـ غير أن الذات التي لا طريق الفناء إليها ولا تهلك ، هي الذات المقدسة!

كما نعلم أنّ الفناء أو العدم يتجلى بصورة واضحة في نهاية هذا العالم ، وكما يقول القرآن :( كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ) .(١)

ولا يخصّ الفناء ما على الأرض ، بل يشمل حتى أهل السماء( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ) .(٢) فهذا التّفسير منسجم مع ظاهر الآية والآيات الأخرى في القرآن ، غير أن بعض المفسّرين ذكروا تفاسير أخرى غير ما تقدم بيانه ، ومنها :

١ ـ أنّ المقصود من كلمة (وجه) هو العمل الصالح ، ومفهوم هذه الآية يكون حينئذ أن جميع الأعمال تمضي مع الرياح سوى ما يكون خالصا لله.

وقال بعضهم : إنّ المراد بالوجه هو انتساب الأشياء إلى الله ، فيكون مفهوم الآية أنّ كل شيء معدوم ذاتا إلّا من ناحية انتمائه إلى الله!

وقال بعضهم : المراد بالوجه هو الدين ، فيكون مفهوم الآية أن المذاهب كلها

__________________

(١) سورة الرحمن ، الآيتان ٢٦ و ٢٧.

(٢) سورة الزمر ، الآية ٦٨.

٣١٩

باطلة سوى دين الله.

وجملة( لَهُ الْحُكْمُ ) هي كما فسّروها بأنّها الحاكمية التشريعية. وهو تأكيد على التّفسير السابق!.

كما أن جملة( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) فسّروها بالرجوع إلى الله في أخذ الشريعة عنه! وهذا تأكيد آخر على هذا المعنى(١) .

وهذه التفاسير مع ما بيّناه آنفا لا نجد بينها منافاة في الحقيقة! لأنّنا حين عرفنا أن الشيء الوحيد الذي يبقى في هذا العالم هو الذات المقدسة لله فحسب! فيتّضح أن ما يرتبط بذات الله بنحو من الأنحاء فإنه يستحق البقاء والابدية.

فدين الله الصادر منه أبديّ ، والعمل الصالح الذي له أبديّ والقادة الإلهيّون الذين يرتبطون يتّسمون بالخلود.

والخلاصة ، كل ما هو مرتبط بالله ـ ولو بنحو من الأنحاء ـ فهو غير فان «فلاحظوا بدقّة».

* * *

مسألتان

١ ـ كيف تفنى جميع الأشياء؟!

من جملة الأسئلة التي أثيرت في ذيل الآية ، هو أنّه إذا كان لا بدّ من فناء جميع الأشياء في نهاية العالم ، فلا محيص من أن تتلاشى الأتربة التي تكونت من أبدان الناس ، في حين أن القرآن يصرّح مرارا بأن الله سيجمع هذه الاتربة وينشر الناس منها ، وأن الناس سينشرون في يوم القيامة من قبورهم!.

وطبقا لظاهر الآيات ـ أيضا ـ فإن الجنّة معدّة ، والنّار معدّة ومهيأة من قبل ،

__________________

(١) وردت روايات متعددة في تفسير «نور الثّقلين» في ذيل الآيات فسّرت بعضها الوجه بدين الله ، وبعضها برسل الله وما هو منسوب لله.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456