استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

استخراج المرام من استقصاء الإفحام13%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 456

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 456 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 227132 / تحميل: 8330
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

7 - فرض البيعة بالقوّة ليزيد الفاجر:

لقد كانت الخلافة أيام أبي بكر وعمر وعثمان ذات مسحة إسلامية وكانوا يحكمون تحت شعار خلافة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

على أنّ معاوية حينما بدأ بالسيطرة على زمام السلطة فإنّه - رغم الخداع والتضليل الذي عرفنا شيئاً عنه - لم يجترئ على تحدّي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ورسالته بشكل علني وصريح في بداية حكمه; إذ كان يستغل المظاهر الإسلامية لإحكام القبضة ولتحقيق مزيد من السيطرة على رقاب أبناء الأمة الإسلامية. ومن هنا وصف معاوية بالدهاء والذكاء المفرط; لأنه كان يُلبس باطله لباساً إسلامياً.

ولكن تحميله ليزيد الفاجر المعلن بفسقه على الأمة جاء هتكاً صريحاً للقيم الإسلامية واستهتاراً واضحاً لعرف المسلمين؛ وذلك لما عرفه المسلمون جميعاً من أنّ الخلافة الإسلامية ليست حكماً قيصرياً ولا كسروياً لينتقل بالوراثة، ولا يستحق هذا المنصب إلاّ العالم بالكتاب والسنّة، العامل بهما والقادر على تحقيق أهداف الرسالة الإسلامية وتطبيق أحكامها.

هذا مضافاً إلى أنّ فرض البيعة ليزيد على المسلمين كان جريمة كبرى ذات أبعاد اجتماعية وسياسية خطيرة تنتهي بتصفية الإسلام ومحوه من على وجه الأرض، لولا ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام سبط الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله الحافظ لدين جدّه من الضياع والدمار.

ولأجل الوقوف على عظمة هذه الجريمة; لابدّ أن نعرف أوّلاً من هو يزيد؟ وما هو السبب الذي جعله غير صالح للخلافة؟ ولماذا يكون فرض بيعته عدواناً صريحاً على الإسلام وارتداداً عنه وعودة إلى الجاهلية التي ناهضها الإسلام؟

١٠١

البحث الثاني: من هو يزيد بن معاوية؟

قبل الحديث عن تولّي يزيد للحكم وموقف الإمام الحسينعليه‌السلام من ذلك لابدّ وأن نعرف من هو يزيد في منظار الإسلام والمسلمين؟ وما هو رأي الإسلام في البيت الأموي بصورة عامة؟

لا يشك أحد من الباحثين والمؤرّخين في أنّ الأمويين كانوا من ألدّ أعداء الإسلام وأنكد خصومه منذ أن بزغ فجره وحتى آخر مرحلة من مراحل حكمهم. وأنهم لم يدخلوا فيه إلاّ بعد أن استنفدوا جميع إمكاناتهم في محاربته حتّى باؤوا بالفشل. ولمّا دخلوا فيه مرغمين أخذوا يخطّطون لتشويه معالمه وإعادة مظاهر الجاهلية بكلّ أشكالها بأسلوب جديد وتحت ستار الإسلام.

وكان معاوية يرتعش جزعاً ويضجر عندما كان يسمع النداء باسم النبي محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويشعر بانطلاق هذا الاسم المبارك في أجواء العالم الإسلامي من أعلى المآذن في كلّ يوم.

وهكذا كان غيره من حكّام ذلك البيت الذين حكموا باسم الإسلام وهم يعملون على تقويضه وإبرازه على غير واقعه وتشويه قوانينه وتشريعاته ومُثله.

ويزيد بن معاوية الذي وقف الإمام الحسينعليه‌السلام منه ذلك الموقف الخالد كان كما يصفه المؤرّخون والمحدّثون مستهتراً إلى حدّ الإسراف في الاستهتار، وممعناً في الفحشاء والمنكرات إلى حدّ الغلوّ في ذلك(1) .

____________________

(1) سيرة الأئمّة الاثني عشر: 2 / 41.

١٠٢

ولادة يزيد ونشأته وصفاته:

ولد يزيد سنة (25 أو 26 هـ )(1) وأمه ميسون بنت بجدل الكلبية، وقد ذكر المؤرّخون: أنّ ميسون بنت بجدل الكلبية أمكنت عبد أبيها من نفسها، فحملت بيزيد (لعنه الله) وإلى هذا أشار النسّابة الكلبي بقوله:

فإن يكن الزمان أتى علينا

بقتل الترك والموت الوحي

فقد قَتل الدعيُّ وعبدُ كلب

بأرض الطف أولادَ النبي

أراد بالدعيّ عبيد الله بن زياد لعنه الله... ومراده بعبد كلب يزيد بن معاوية، لأنّه من عبد بجدل الكلبي(2) .

وفيما يتّصل بصفاته الجسميّة فقد وصفه ابن كثير - في بدايته - بأنّه كان كثير اللحم عظيم الجسم وكثير الشعر مجدوراً(3) .

أمّا صفاته النفسية فقد ورث صفات الغدر والنفاق والطيش والاستهتار من سلفه، حتّى قال المؤرّخون: وكان يزيد قاسياً غدّاراً كأبيه، (إن كان من معاوية طبعاً) ولكنّه ليس داهيةً مثله، كانت تنقصه القدرة على تغليف تصرّفاته القاسية بستار من اللباقة الدبلوماسية الناعمة، وكانت طبيعته المنحلّة وخُلقه المنحطّ لا تتسرّب اليها شفقة ولا عدل. كان يقتل ويعذّب نشواناً للمتعة واللّذة التي يشعر بها، وهو ينظر إلى آلام الآخرين، وكان بؤرة لأبشع الرذائل، وها هم ندماؤه من الجنسين خير شاهد على ذلك، لقد كانوا من حثالة المجتمع(4) .

____________________

(1) حياة الإمام الحسينعليه‌السلام : 2 / 179.

(2) بحار الأنوار: 44 / 309.

(3) سيرة الأئمّة الاثني عشر: 2 / 42.

(4) حياة الإمام الحسين: 2 / 181 - 182.

١٠٣

وقد نشأ يزيد عند أخواله في البادية من بني كلاب الذين كانوا يعتنقون المسيحية قبل الإسلام، وكان مرسل العنان مع شبابهم الماجنين فتأثّر بسلوكهم إلى حد بعيد، فكان يشرب معهم الخمر ويلعب معهم بالكلاب.

ولع يزيد بالصيد:

ومن مظاهر صفات يزيد ولعه بالصيد، فكان يقضي أغلب أوقاته فيه، قال المؤرّخون: كان يزيد بن معاوية كلفاً بالصيد لاهياً به، وكان يُلبِسُ كلابَ الصيد الأساورَ من الذهب والجلال المنسوجة منه، ويهب لكلّ كلب عبداً يخدمه(1) .

شغفه بالقرود:

وكان يزيد - فيما أجمع عليه المؤرّخون - ولعاً بالقرود، وكان له قرد يجعله بين يديه ويكنّيه بأبي قيس، ويسقيه فضل كأسه، ويقول: هذا شيخ من بني اسرائيل أصابته خطيئة فمسخ، وكان يحمله على أتان وحشية ويرسله مع الخيل في حلبة السباق، فحمله يوماً فسبق الخيل فسرّ بذلك وجعل يقول:

تمسّك أبا قيس بفضل زمامها

فليس عليها إن سقطتَ ضمانُ

فقد سبقتَ خيل الجماعة كلّها

وخيل أمير المؤمنين أتانُ

وأرسله مرّةً في حلبة السباق فطرحته الريح فمات فحزن عليه حزناً شديداً، وأمر بتكفينه ودفنه كما أمر أهل الشام أن يعزّوه بمصابه الأليم، وأنشأ راثياً له:

كم من كرام وقوم ذوو محافظة

جاءوا لنا ليعزوا في أبي قيس

____________________

(1) راجع الفخري لابن الطقطقي: 45، وتاريخ اليعقوبي: 2/230، وتاريخ الطبري: 4/368، والبداية والنهاية: 8/236 - 239.

١٠٤

شيخ العشيرة أمضاها وأجملها

على الرؤوس وفي الأعناق والريس

لا يُبعد الله قبراً أنت ساكنه

فيه جمال وفيه لحية التيس(1)

وذاع بين الناس هيامه وشغفه بالقرود حتى لقّبوه بها، ويقول رجل من تنوخ هاجياً له:

يزيد صديق القرد ملّ جوارنا

فحنّ إلى أرض القرود يزيد

فتبّاً لمن أمسى علينا خليفة

صحابته الأدنون منه قرود(2)

إدمانه على الخمر:

والظاهرة البارزة من صفات يزيد إدمانه على الخمر حتى أسرف في ذلك إلى حد كبير، فلم يُرَ في وقت إلاّ وهو ثمل لا يعي من فرط السكر، ومن شعره في الخمر:

أقول لصحب ضمّت الخمر شملهم

وداعي صبابات الهوى يترنّم

خذوا بنصيب من نعيم ولذّة

فكلّ وإن طال المدى يتصرّم(3)

وينقل المؤرّخون عن عبد الله بن حنظلة الذي خرج على يزيد بعد أن اصطحب وفداً من أهل المدينة إلى الشام في أعقاب استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام وصفه ليزيد بقوله: والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نُرمى بالحجارة من السماء، إنّه رجل ينكح الاُمهات والبنات والأخوات، ويشرب الخمر ويدع الصلاة، والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت لله بلاءً حسناً(4) .

____________________

(1) حياة الإمام الحسينعليه‌السلام : 2 / 182، نقلاً عن جواهر المطالب: 143.

(2) أنساب الأشراف: 2 / 2.

(3) حياة الإمام الحسين: 2 / 183، نقلاً عن تأريخ المظفري.

(4) تأريخ ابن عساكر: 7 / 372، وتأريخ الخلفاء للسيوطي: 81.

١٠٥

وقال أعضاء الوفد: قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر ويعزف بالطنابير ويلعب بالكلاب(1) .

ونقل عن المنذر بن الزبير قوله في وصفه: والله إنّه ليشرب الخمر، والله إنّه ليسكر حتى يدع الصلاة(2) .

ووصفه أبو عمر بن حفص بقوله: والله رأيت يزيد بن معاوية يترك الصلاة مسكراً...(3)

ويتبدّى الكفر في وصفه للخمر في الأبيات الآتية:

شميسة كرم برجها قعردنِّها

ومشرقها الساقي ومغربها فمي

اذا اُنزلت من دنِّها في زجاجة

حكت نفراً بين الحطيم وزمزمِ

فإن حَرُمَتْ يوماً على دين أحمد

فخذها على دين المسيح ابن مريمِ(4)

وعنه قال المسعودي: وكان يزيد صاحب طرب وجوارح وكلاب وقرود وفهود ومنادمة على الشراب، وجلس ذات يوم على شرابه وعن يمينه ابن زياد وذلك بعد قتل الحسين، فأقبل على ساقيه فقال:

إسقني شربةً تُروّي مُشاشي

ثم مِلْ فاسقِ مثلها ابن زيادِ

صاحب السرّ والأمانة عندي

ولتسديد مغنمي وجهادي

ثم أمر المغنّين فغنّوا، وغلب على أصحاب يزيد وعمّاله ما كان يفعله من الفسوق، وفي أيامه ظهر الغناء بمكة والمدينة، واستعملت الملاهي وأظهر الناس شرب الشراب(5) .

____________________

(1) تأريخ ابن عساكر: 7 / 372، وتأريخ الخلفاء للسيوطي: 81.

(2) البداية والنهاية: 8 / 216، الكامل لابن الأثير: 4 / 45.

(3) المصدر السابق.

(4) تتمة المنتهى: 43.

(5) مروج الذهب: 2 / 94.

١٠٦

ويؤكّد في مكان آخر: وكان يسمّى يزيد السكران الخمّير(1) .

وكان ليزيد جماعة من الندماء الخليعين والماجنين يقضي معهم لياليه الحمراء بين الشراب والغناء (وفي طليعة ندمائه الأخطل الشاعر المسيحي الخليع، فكانا يشربان ويسمعان الغناء، وإذا أراد السفر صحبه معه، ولمّا هلك يزيد وآل أمر الخلافة إلى عبد الملك بن مروان قرّبه، فكان يدخل عليه بغير استئذان، وعليه جبّة خزّ، وفي عنقه سلسلة ذهب، والخمر يقطرمن لحيته)(2) .

إن مطالعة الحياة الماجنة ليزيد في حياة أبيه تكفي لفهم دليل امتناع عامة الصحابة والتابعين من الرضوخ لبيعة يزيد بالخلافة.

إنّ نوايا يزيد ونزعاته المنحرفة قد تجلّت بشكل واضح خلال فترة حكمه القصيرة، حتى أنّه لم يبال بإظهار ما كان يضمره من حقد للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وما كان ينطوي عليه من إلحاد برسالتهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن دنّس يديه بقتل سبط الرسول وريحانته أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام وهو متسلّط - بالقهر - على رقاب المسلمين باسم الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إلحاد يزيد وحقده على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

لقد أترعت نفس يزيد بالحقد على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والبغض له، لأنّه وتره باُسرته يوم بدر، ولمّا أباد العترة الطاهرة جلس على أريكة الملك جذلان مسروراً، فقد استوفى ثأره من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وتمنّى حضور أشياخه ليروا كيف أخذ بثأرهم، وجعل يترنّم بأبيات عبد الله بن الزبعرى:

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسلْ

____________________

(1) مروج الذهب: 2 / 94.

(2) الأغاني لأبي الفرج الإصفهاني: 7 / 170.

١٠٧

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً

ثم قالوا يا يزيد لا تشلْ

قد قتلنا القرم من أشياخهم

وعدلناه ببدر فاعتدلْ

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزلْ

لست من خندف إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعلْ(1)

بل إنّ يزيداً جاهر بإلحاده وكفره عندما تحرّك عبد الله بن الزبير ضدّه في مكة، فقد وجّه جيشاً لإجهاض تحرّك ابن الزبير وزوّده برسالة إليه، ورد فيها البيت الآتي:

ادع إلهك في السماء فإنّني

أدعو عليك رجال عك وأشعرا(2)

جرائم حكم يزيد:

ذكر المؤرّخون أنّ يزيد ارتكب خلال فترة حكمه القصيرة التي لم تتجاوز ثلاث سنين ونصف، ثلاث جرائم مروّعة لم يشهد لها التأريخ نظيراً، بحيث لم تسوّد تأريخ الأمويين إلى الأبد فحسب; وإنّما شوّهت تأريخ العالم الإسلامي كذلك، ومن هذه الجرائم:

1 - انتهاك حرمة أهل بيت الوحي بقتل الإمام الحسين السبطعليه‌السلام ومن معه من أسرته وأصحابه وسبي نسائه وأطفاله وعرضهم على الجماهير من بلد إلى بلد سنة (61 هـ ) وهم ذرية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وملايين المسلمين تقدّسهم وتذكر فيهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وكلّ ما في الإسلام من حقّ وخير.

2 - إقدامه بعد ملحمة عاشوراء على انتهاك حرمة مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقتل أهلها وإباحة أعراضهم لجيش الشام، لأنّهم استعظموا قتل الإمام

____________________

(1) حياة الإمام الحسينعليه‌السلام : 2 / 187، نقلاً عن البداية والنهاية: 8 / 192.

(2) مروج الذهب: 2 / 95.

١٠٨

الحسينعليه‌السلام وأنكروه عليه.

3 - إقدامه على حصار مكّة وتدمير الكعبة وقتل آلاف الأبرياء في الحرم الذي جعله الله حراماً وآمناً.

السرّ الكامن وراء نزعات يزيد الشرّيرة:

رجّح بعض المؤرّخين أنّ بعض نساطرة النصارى تولّى تربية يزيد وتعليمه، فنشأ نشأةً سيّئة ممزوجةً بخشونة البادية وجفاء الطبع، وقالوا: إنّه كان من آثار تربيته المسيحية أنّه كان يقرّب المسيحيين ويكثر منهم في بطانته الخاصة، وبلغ من اطمئنانه إليهم أن عهد بتربية ولده إلى مسيحي، كما اتّفق على ذلك المؤرّخون(1) .

ولا يمكن أن تعلّل هذه الصلة الوثيقة وتعلّقه الشديد بالأخطل وغيره إلاّ بتربيته ذات الصبغة المسيحية. هكذا حاول بعض المؤرّخين والكتّاب أن يعلّل استهتار يزيد بالإسلام ومقدّساته وحرماته.

وهذا التعليل يمكن أن يكون له ما يسوّغه لو كانت لحياة البادية وللتربية المسيحية تلك الصبغة الشاذّة التي برزت في سلوك يزيد من مطلع شبابه إلى أن أصبح وليّاً لعهد أبيه وحاكماً من بعده.

في حين أن العرب في حاضرتهم وباديتهم كانت لهم عادات وأعراف كريمة قد أقرّها الإسلام كالوفاء وحسن الجوار والكرم والنجدة وصون الأعراض وغير ذلك ممّا تحدّث به التأريخ عنهم، ولم يعرف عن يزيد شيء من ذلك، كما وأنّ التأريخ لم يحدّث عنهم بأنّهم استحلّوا نكاح الأخوات والعمّات كما حدّث التأريخ عنه. والذين ولدوا في البادية على النصرانية طيلة

____________________

(1) سيرة الأئمّة الاثني عشر: 2 / 42 وراجع أيضاً: حياة الإمام الحسينعليه‌السلام : 2 / 180. عن المناقب: 71 للقاضي نعمان المصري، وسمو المعنى في سموّ الذات: 59 العلائلي.

١٠٩

حياتهم قبل الفتح الإسلامي وعاشوا في ظلّ أعرافها وعاداتها حينما دخلوا في الإسلام تغلّبوا على كلّ ما اعتادوه وألفوه عن الآباء والأجداد.

فلابدّ إذن من القول بأنّ لذلك الانحراف الشديد والوبيء في شخصية يزيد وسلوكه سبباً وراء التربية والحضانة المسيحية.

إلى هنا نكون قد وقفنا على صورة واضحة عن واقع شخصية يزيد المنحرفة عن خطّ الإسلام انحرافاً لا يسوغ لأيّ مسلم الانقياد لها والسكوت عليها ما دام الإسلام يمنع الإباحية والفسق ويدعو إلى العدل والتقوى، ويحاول تحقيق مجتمع عامر بالتقوى، ويريد للمسلمين قيادة تحرص على تحقيق أهداف الإسلام المُثلى.

ومن هنا كان علينا أن نطالع بدقّة كل مواقف الإمام الحسينعليه‌السلام باعتباره القائد الرسالي الحريص على مصالح الرسالة والأمة الإسلامية وندرس تخطيطه الرسالي للوقوف أمام الانحراف الهائل الذي كان يمتدّ بسرعة في أعماق المجتمع الإسلامي آنذاك.

١١٠

الفصل الثاني:

مواقف الإمام الحسينعليه‌السلام وإنجازاته

البحث الأوّل: موقفهعليه‌السلام من البيعة ليزيد

1 - دعوة انتهازية وخطّة شيطانية:

عندما ارتفعت راية الحقّ مرفرفةً فوق ربوع مكّة ومعلنةً عن انتصارها; دخل أبو سفيان ومعاوية في الإسلام ونار الحقد تستعر في قلبيهما ونزعة الثأر من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيتهعليهم‌السلام تكمن في صدريهما، فتحوّلا من كونهما كافرين إلى كونهما مستسلِمَين طليقين من طلقاء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله . ولم يطل العهد حتى حكم عثمان بن عفان فتسرّب ما كان مختبئاً في القلب وظهر على لسان أبي سفيان وهو يخاطب عثمان بقوله: صارت إليك بعد تيم وعديّ فأدرها كالكرة فإنّما هو الملك ولا أدري ما جنّة ولا نار(1) .

وخاطب أبو سفيان بني أمية ثانيةً: يا بني أمية! تلقّفوها تلقّف الكرة، فو الذي يحلف به أبو سفيان مازلت أرجوها لكم، ولتصيرنّ إلى صبيانكم ورثة(2) .

وحين أطلّ معاوية من نافذة السقيفة على كرسيّ الحكم بانت نتائج

____________________

(1) الاستيعاب: 2 / 690.

(2) مروج الذهب: 1 / 440، تأريخ ابن عساكر: 6 / 407.

١١١

الانحراف واتّضحت خطورته; فإنّه قد لاحظ، أنّ أبا بكر وعمر وعثمان قد ملكوا قبله ولم تسمح لهم الظروف بإعادة صرح الجاهلية من جديد، ولا زال صوت الحقّ هادراً كلّ يوم بالتوحيد وبالرسالة لمحمّد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (1) .

كما أنّ الانحراف السياسي الذي ولّدته السقيفة وتربّت عليه فئات من الأمة استثمره معاوية أيّما استثمار، فقد احتجّ على الناس بأنّ أبا بكر بويع بدون نصّ سماويّ أو أمر من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّه خالف سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ جعل عمر خليفةً من بعده، وصنع عمر ما لم يصنعه قبله وخالف بذلك الله ورسوله وأبا بكر. ووفق هذا المنطق فإنّ الأمة ومصير الرسالة الإسلامية تكون ألعوبة بيد معاوية يسوسها كيف يشاء. من هنا قرّر أن يبايع بالخلافة ليزيد(2) من بعده.

وقد خلت الساحة السياسية للزمرة الأُموية بعد فتن ومصاعب أشعلها معاوية مستغلاًّ جهالة طبقات من الأمة، وموظّفاً كلّ الطاقات التي وقفت ضدّ الإمام عليعليه‌السلام لصالحه في مواجهة تيار الحقّ بقيادة الإمام الحسنعليه‌السلام . واستأثر بالحكم بعد قتله للإمام الحسنعليه‌السلام واستهتاره بقيم الإسلام وتعاليمه. وكان حاذقاً في إحكام سيطرته وملكه، ولكنّه لم يجرؤ لإعلان خطّته تثبيتاً لملك بني أُمية باستخلاف يزيد من بعده وفي الأمة من هو صاحب الخلافة الشرعية وهو الإمام الحسنعليه‌السلام ومن بعده أخوه الإمام الحسينعليه‌السلام الذي كان على الأمة أن تعود لقيادته بعد افتقادها للحسنعليه‌السلام .

يضاف إلى ذلك أنّ أحداً من الخلفاء الثلاثة لم يوصِ بالخلافة لولده من بعده. ونظراً لما كان ينطوي عليه يزيد من ضعف واستهتار ومجون

____________________

(1) مروج الذهب: 2 / 343، وشرح النهج: 2 / 357.

(2) الإمامة والسياسة: 1 / 189.

١١٢

فقد مضى معاوية بكلّ جدٍّ ليحبك الأمر ويدبّره بطريقة يخدع بها الأمة، بل يقهرها على قبول البيعة ليزيد. من هنا بادر إلى قتل الإمام الحسن السبطعليه‌السلام وخيار المؤمنين في خطوة أُولى ليرفع بذلك أهمّ الموانع التي كانت تحول بينه وبين تنفيذ خطّته.

على أنّ أصحاب النفوس الرذيلة والمطامع الدنيوية على استعداد تام لبلوغ أتفه المطامع من أيّ طريق كان. فقد روي أنّ المغيرة بن شعبة - الذي كان والياً من قبل معاوية على الكوفة - علم بأنّ معاوية ينوي عزله فأسرع إلى نسج خيوط مؤامرة جلبت الويلات على الأمة الإسلامية وليكون بذلك سمساراً يصافق على ما لا يملك; إذ همس في أذن يزيد يمنّيه بخلافة أبيه ويزيّن له الأمر ويسهّله. ووجد معاوية أنّ خطّة شيطانية يمكن أن يكون المغيرة عاملاً لتنفيذها(1) ، فسأله مخادعاً: ومن لي بهذا؟ فردّ عليه المغيرة: أكفيك أهل الكوفة ويكفيك زياد أهل البصرة، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك. وهكذا قبض المغيرة على ربح عاجل لصفقة مؤجّلة، ورجع إلى الكوفة بكلّ قوّة لينفّذ الخطّة وهو يقول: لقد وضعت رِجل معاوية في غرز بعيد الغاية على أمة محمّد(2) .

ورفض زياد بن أبيه هذه الخطّة الخبيثة; ولعلّه لما كان يلمسه من رذائل في شخصية يزيد بحيث تجعله غير صالح لزعامة الأمة. وقد أثارت هذه الخطّة مطامع أطراف أخرى من بني أُمية، فمدّ كل من مروان بن الحكم وسعيد بن عثمان بن عفان عنقه لذلك(3) .

____________________

(1) الكامل في التأريخ: 3 / 249، وتأريخ اليعقوبي: 2 / 195، والإمامة والسياسة: 2 / 262.

(2) الكامل في التأريخ: 3 / 249.

(3) وفيات الأعيان: 5 / 389، والإمامة والسياسة: 1 / 182، وتأريخ اليعقوبي: 2 / 196.

١١٣

وجمّد معاوية رسمياً وبشكل مؤقّت خطّته لأخذ البيعة ليزيد؛ وذلك ليتّخذ إجراءات أخرى تمهّد للإعلان الرسمي وفي الفرصة المناسبة لذلك.

2 - أساليب معاوية لإعلان بيعة يزيد:

لمس معاوية رفض العائلة الأُموية المنحرفة لحكم يزيد من بعده، فكيف بصاحب الحقّ الشرعي - الإمام الحسنعليه‌السلام ومن بعده الإمام الحسينعليه‌السلام - وعدد من أبناء الصحابة؟!

من هنا مضى جادّاً باتّخاذ سبل أخرى تتراوح بين مخادعة الأمة وبين قهرها بالقوّة على بيعة الخليع يزيد، ومن تلك السبل:

أ - استخدام الشعراء لإسباغ فضائل على يزيد ولبيان مقدرته وإشاعة أمره، لكي تخضع الأمة لولايته(1) ، وأوعز إلى ولاته والخطباء في الأمصار لنشر تلك الفضائل المفتعلة.

ب - بذل الأموال الطائلة وشراء ذمم المعارضين ممّن كان يقف ضدّ يزيد لا بدافع العقيدة والحرص على الإسلام وإنّما بدوافع شخصية وذاتية(2) .

ج - استقدام وفود من وجهاء الأنصار(3) ومناقشة قضية يزيد معهم لمعرفة الرافض والمؤيّد منهم، ومعرفة نقاط الضعف لكي ينفذ منها إليهم.

د - إيقاع الخلاف بين عناصر بني أُمية الطامعين في الحكم كي يضعف منافستهم ليزيد، فقد عزل عامله على يثرب سعيد بن العاص واستعمل مروان ابن الحكم مكانه، ثم عزل مروان واستعمل سعيداً(4) .

هـ - اغتيال الشخصيات الإسلامية البارزة والتي كانت تحظى باحترام

____________________

(1) الأغاني: 8 / 71، وشعراء النصرانية بعد الإسلام: 234: للويس شيخو اليسوعي.

(2) الكامل في التأريخ: 3 / 250.

(3) الكامل في التأريخ: 3 / 250.

(4) تأريخ الطبري: 4 / 18.

١١٤

كبير في نفوس الجماهير، فاغتال الإمام الحسنعليه‌السلام وسعد بن أبي وقّاص وعبد الرحمن بن خالد وعبد الرحمن بن أبي بكر(1) .

و - استخدام سلاح الحرمان الاقتصادي ضدّ بني هاشم للضغط عليهم وإضعاف دورهم، فقد حبس عنهم العطاء سنة كاملة(2) ; إذ وقفوا مع الإمام الحسينعليه‌السلام يرفضون البيعة ليزيد.

3 - محاولات الإمام الحسينعليه‌السلام لإيقاظ الأمة:

لم يخلد الإمام الحسينعليه‌السلام إلى السكون والخمول حتى عند إقراره الصلح مع معاوية، فقد تحرّك انطلاقاً من مسؤوليّته تجاه الشريعة والأمة الإسلامية وبصفته وريث النبوّة - بعد أخيه الإمام الحسنعليه‌السلام - مراعياً ظروف الأمة وساعياً إلى المحافظة عليها. وقد عمل الإمامعليه‌السلام في فترة حكم معاوية على تحصين الأمة ضدّ الانهيار التام فأعطاها من المقوّمات المعنوية القدرَ الكافي، كي تتمكّن من البقاء صامدةً في مواجهة المحن. وإليك جملة من هذه المواقف:

1 - مواجهةُ معاوية وبيعةِ يزيد.

2 - محاولة جمع كلمة الأمة.

3 - فضح جرائم معاوية.

4 - استعادة حقّ مضيّع.

5 - تذكير الأمة بمسؤوليّاتها.

____________________

(1) مقاتل الطالبيّين: 29، وتأريخ الطبري: 5 / 253، والكامل في التأريخ: 3 / 352.

(2) الكامل في التأريخ: 3 / 252، والإمامة والسياسة: 1 / 200.

١١٥

مواجهةُ معاوية وبيعة يزيد:

أعلن الإمام الحسينعليه‌السلام رفضه القاطع لبيعة يزيد وكذا زعماء يثرب، فقرّر معاوية أن يسافر إلى يثرب ليتولّى بنفسه إقناع المعارضين، فاجتمع بالإمام وعبد الله بن عباس، فأشاد بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأثنى عليه، وعرض بيعة ابنه ومنحه الألقاب الفخمة ودعاهما إلى بيعته، فانبرى الإمامعليه‌السلام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

(أمّا بعد يا معاوية فلن يؤدّي المادح وإن أطنب في صفة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد فهمتُ ما لبست به الخلف بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من إيجاز الصفة، والتنكّب عن استبلاغ النعت، وهيهات هيهات يا معاوية!! فضح الصبحُ فحمةَ الدجى، وبهرت الشمسُ أنوار السرج، ولقد فضّلت حتى أفرطت، واستأثرت حتى أجحفت، ومنعت حتى بخلت، وجُرت حتى تجاوزت، ما بذلت لذي حقّ من اسم حقّه من نصيب، حتى أخذ الشيطان حظّه الأوفر ونصيبه الأكمل.

وفهمتُ ما ذكرته عن يزيد من اكتماله، وسياسته لأمة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، تريد أن توهم الناس في يزيد كأنّك تصفُ محجوباً أو تنعت غائباً، أو تخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاص، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش، والحمام السبق لأترابهنّ، والقيان ذوات المعازف، وضروب الملاهي، تجده ناصراً.

ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه! فوالله ما برحتَ تقدح باطلاً في جور وحنقاً في ظلم حتى ملأتَ الأسقية، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود، ولات حين مناص، ورأيتك

١١٦

عرّضت بنا بعد هذا الأمر، ومنعتنا عن آبائنا تراثاً ولعمر الله لقد أورثنا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ولادة، وجئت لنا بما حججتم به القائم عند موت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فأذْعنَ للحجّة بذلك وردّه الإيمان إلى النصف.

فركبتم الأعاليل وفعلتم الأفاعيل، وقلتم كان ويكون حتى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك، فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار.

وذكرتَ قيادةَ الرجلِ القومَ بعهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وتأميرَه له، وقد كان ذلك لعمرو ابن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول وببعثه له وما صار لعمرو يومئذ حتى أنف القوم إمرته وكرهوا تقديمه وعدّوا عليه أفعاله، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله لا جَرَمَ يا معشرَ المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري، فكيف تحتجُّ بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الأحكام وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب؟ أم كيف ضاهيتَ بصاحب تابعاً وحولك من يُؤمن في صحبته، ويُعتمد في دينه وقرابته، وتتخطّاهم إلى مسرف مفتون؟ تريد أن تُلبس الناس شبهةً يسعد بها الباقي في دنياه وتشقى بها في آخرتك، إنّ هذا لهو الخسران المبين، وأستغفر الله لي ولكم.

وذهل معاوية من خطاب الإمامعليه‌السلام ، وضاقت عليه جميع السبل

فقال لابن عباس: ما هذا يا ابن عباس؟ فقال ابن عباس: لعمر الله إنّها لذرّية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأحد أصحاب الكساء ومن البيت المطهّر، فاسأله عمّا تريد فإنّ لك في الناس مقنعاً حتى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين(1) .

وقد اتّسم موقف الإمام الحسينعليه‌السلام مع معاوية بالشدّة والصرامة، وأخذ يدعو المسلمين علناً إلى مقاومة معاوية، ويحذّرهم من سياسته الهدّامة التي تحمل الدمار إلى الإسلام.

____________________

(1) حياة الإمام الحسين: 2 / 219 - 220.

١١٧

محاولة جمع كلمة الأمة والاستجابة لحركة الجماهير:

وأخذت الوفود تترى على الإمام من جميع الأقطار الإسلامية وهي تعجّ بالشكوى وتستغيث به نتيجة الظلم والجور الذي حلّ بها، وتطلب منه القيام بإنقاذها من الاضطهاد، ونقلت العيون في يثرب إلى السلطة المحلّية أنباء تجمّع الناس واختلافهم إلى الإمامعليه‌السلام وكان الوالي مروان بن الحكم، ففزع من ذلك وخاف من عواقبه جداً، فرفع مذكّرة إلى معاوية جاء فيها: أمّا بعد فقد كثر اختلاف الناس إلى الحسين، والله إنّي لأرى لكم منه يوماً عصيباً(1) .

واضطرب معاوية من تحرّك الإمام الحسينعليه‌السلام فكتب إليه رسالةً جاء فيها: أمّا بعد، فقد أنهيت إليّ عنك أمور، إن كانت حقّاً فإنّي لم أظنّها بك رغبة عنها، وإن كانت باطلة فأنت أسعد الناس بمجانبتها، وبحظ نفسك تبدأ، وبعهد الله توفي فلا تحملني على قطيعتك والإساءة إليك، فإنّك متى تنكرني أنكرك، ومتى تكدني أكدك، فاتّق الله يا حسين في شقّ عصا الأمة، وأن تردّهم في فتنة(2) .

فضح جرائم معاوية:

كتب الإمامعليه‌السلام إلى معاوية مذكّرةً خطيرةً كانت ردّاً على رسالته يحمّله فيها مسؤوليّات جميع ما وقع في البلاد من سفك الدماء وفقدان الأمن وتعريض الأمة للأزمات. وتعدّ من أروع الوثائق الرسمية التي حفلت بذكر الأحداث التي صدرت من معاوية، وهذا نصّها: (أمّا بعد، بلغني كتابك تذكر فيه أ نّه انتهت اليك عنّي اُمور أنت عنها راغب وأنا بغيرها عندك جدير، وأنّ الحسنات لا يهدي لها

____________________

(1) حياة الإمام الحسين: 2/223.

(2) المصدر السابق: 2 / 224.

١١٨

ولا يسدّد إليها إلاّ الله تعالى. أمّا ما ذكرت أ نّه رقى إليك عنّي فإنّه إنّما رقاه إليك الملاّقون المشاءون بالنميمة، المفرّقون بين الجمع، وكذب الغاوون، ما أردت لك حرباً ولا عليك خلافاً، و إنّي لأخشى الله في ترك ذلك منك، ومن الإعذار فيه إليك وإلى أوليائك القاسطين حزب الظلمة.

ألستَ القاتل حجر بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلّين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم، ويستعظمون البدع، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولا يخافون في الله لومة لائم؟ قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم الأيْمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة، جرأةً على الله واستخفافاً بعهده.

أوَلستَ قاتل عمرو بن الحمق الخزاعي صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله العبد الصالح الذي أبلتْه العبادة فنحل جسمُه واصفرّ لونُه؟ فقتلته بعد ما أمّنته وأعطيته ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس الجبال.

أوَلستَ بمدّعي زياد بن سمية المولود على فراش عبيد ثقيف، فزعمَت أ نّه ابن أبيك؟ وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (الولدُ للفراش وللعاهر الحجر) فتركت سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تعمّداً، وتبعت هواك بغير هدىً من الله، ثم سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم ويسملُ أعينهم ويصلبهم على جذوع النخل، كأنّك لست من هذه الأمة وليسوا منك.

أوَلستَ قاتل الحضرمي الذي كتب فيه اليك زياد أ نّه على دين عليّكرم الله وجهه، فكتبتَ إليه أن اقتل كلّ من كان على دين عليّ؟ فقتلهم ومثّل بهم بأمرك، ودين عليّ هو دين ابن عمّهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين رحلة الشتاء ورحلة الصيف.

وقلت فيما قلت: اُنظر لنفسك ودينك ولأمة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله واتّق شقّ عصا هذه الأمة

١١٩

وأن تردّهم إلى فتنة، وإنّي لا أعلم فتنةً أعظم على هذه الأمة من ولايتك عليها، ولا أعظم لنفسي ولديني ولأمة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل من أن اُجاهرك، فإنْ فعلتُ فإنه قربة إلى الله، وإن تركتُه فإنّي استغفر الله لديني واسأله توفيقه لإرشاد أمري.

وقلت فيما قلت: إنّي إن أنكرتك تنكرني، وإن أكدك تكدني، فكدني ما بدا لك، فإنّي أرجو أن لا يضرّني كيدك، وأن لا يكون على أحد أضرّ منه على نفسك، لأنّك قد ركبت جهلك وتحرّصت على نقض عهدك، ولعمري ما وفيتَ بشرط، ولقد نقضتَ عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان والعهود والمواثيق، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا أو قُتلوا، ولم تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلَنا وتعظيمهم حقَّنا، مخافة أمر لعلّك إن لم تقتلهم مُتّ قبل أن يفعلوا، أو ماتوا قبل أن يدركوا.

فأبشر يا معاوية بالقصاص، واستيقن بالحساب، واعلم أنّ لله تعالى كتاباً لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها، وليس الله بناس لأخذك بالظنّة، وقتلك أولياءه على التُّهم، ونفيك إيّاهم من دورهم إلى دار الغربة، وأخذك الناس ببيعة ابنك الغلام الحدث، يشرب الشراب، ويلعب بالكلاب، ما أراك إلاّ قد خسرت نفسك، وبترت دينك، وغَشَشْتَ رعيّتك، وسمعت مقالة السفيه الجاهل، وأخفت الورع التقيّ)(1) .

ولا توجد وثيقة سياسية في ذلك العهد عرضت لعبث السلطة وسجّلت الجرائم التي ارتكبها معاوية غير هذه الوثيقة، وهي صرخة في وجه الظلم والاستبداد.

استعادة حقّ مضيّع:

وكان معاوية ينفق أكثر أموال الدولة لتدعيم ملكه، كما كان يهب

____________________

(1) حياة الإمام الحسينعليه‌السلام : 2/235 عن الإمامة والسياسة: 1 / 284، والدرجات الرفيعة: 334، وراجع الغدير: 10 / 161.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

طبقة المتأخّرين

قال السيوطي بعد الطبقات الأربع :

( ثمّ ألّف في التفسير خلائق ، فاختصروا الأسانيد ونقلوا الأقوال بَتْراً ، فدخل مِن هنا الدخيل والتبس الصحيحُ بالعليل ، ثمّ صار كلّ مَن يسنح له قول يورده ، ومَن يخطر بباله شيءٌ يعتمده ، ثمّ ينقل ذلك عنه مَن يجيء بعده ظانّاً أنّ له أصلاً غير مُلتفتٍ إلى تحرير ما ورد عن السلف الصالح ، ومَن يرجع إليهم في التفسير ، حتّى رأيت مَن حكى في قوله تعالى :( غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ) نحو عشر أقوال ، وتفسيرها باليهود والنصارى هو الوارد عن النبيّ وجميع الصحابة والتابعين وأتباعهم ، حتّى قال ابن أبي حاتم : لا أعلم في ذلك اختلافاً بين المفسّرين ) .

ثمّ قال : بعد الطبقات الخمس :

( ثمّ صنّف بعد ذلك قومٌ برعوا في علومٍ ، فكان كلٌّ منهم يقتصر في تفسيره على الفنِّ الذي يغلب عليه .

فالنحوي تراه ليس له همٌّ إلاّ الإعراب وتكثير الأوجه المحتملة فيه ، ونقل قواعد النحو ومسائله وفروعه وخلافيّاته ، كالزجّاج والواحدي في البسيط ، وأبي حيّان في البحر والنهر...

وصاحب العلوم العقليّة ، خصوصاً الإمام فخر الدين قد ملأ تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة وشبهها ، وخرج مِن شيءٍ إلى شيء حتّى يقضي الناظر العجب مِن عدم مطابقة المورد للآية ، وقال أبو حيّان في البحر : جمع الإمام الرّازي في تفسيره أشياءً كثيرةً طويلة لا حاجة بها في علم التفسير ، ولذلك قال بعض العلماء : فيه كلّ شيء إلاّ التفسير.

والمُبتدِع ليس له قصد إلاّ تحريف الآيات وتسويتها على مذهبه الفاسد ، بحيث أنّه متى لاح له شاردةٌ مِن بعيد اقتنصها أو وجد موضعاً له فيه أدنى مجال ، سارع إليه )(١) .

أقـول :

والآن ، فلننظر في أحوال هذه الطبقة من المفسّرين :

ـــــــــــــــــــ

(١) الإتقان في علوم القرآن ٤ : ٢٤٢ ـ ٢٤٣ .

٣٠١

الزجّاج

فأمّا الزجّاج ، وتراجمه موجودةٌ في وفيات الأعيان ، ومرآة الجنان ، وتاريخ بغداد ، والوافي بالوفيات ، وبغية الوعاة(١) وغيرها...

فقد ذكروا عنه قصّةً فيها الاعتراف بالخيانة والكذب طمعاً في حطام الدنيا ، وذلك ( أنّ القاسم بن عبيد الله ، كان قد وعده أنّه إنْ صار وزيراً أنْ يعطي الزجّاج عشرين ألف ، فلمّا أصبح وزيراً قال للزجّاج : ( أجلِس النّاس وخذ رقاعهم في الحوائج الكبار ، واستجعل عليها ولا تمتنع مِن مسألتي في شيء إلى أنْ يحصل لك القدر ) قال الزجّاج :

( ففعلت ذلك ، وكنت أعرض عليه كلّ يومٍ رقاعاً لي فيها ، وربّما قال لي : كم ضمن لك على هذا ؟ فأقول : كذا وكذا ، فيقول لي : غبنت ، هذا يساوي كذا وكذا ، ارجع فاستزده ، فأُراجع القوم واُماكسهم فيزيدونني ، حتّى أبلغ الحدّ الذي رسمه ، فحصّلت عشرين ألف دينار فأكثر في مدّة ، فقال لي بعد شهورٍ : حصل مال النذر ؟ فقلت : لا ، وجعل يسألني في كلّ شهر هل حصل ؟ فأقول : لا ، خوفاً مِن انقطاع الكسب ، إلى أنْ سألني يوماً فاستحييت مِن الكذِب المتّصل فقلت : قد حصل ببركة الوزير )(٢) .

ـــــــــــــــــــ

(١) وفيات الأعيان ١ : ٤٩/ ١٣ ، مرآة الجنان ٢ : ١٩٨ السنة ٣١١ ، تاريخ بغداد ٦ : ٨٩/ ٣١٢٦ ، الوافي بالوفيات ٥ : ٣٤٧/ ٢٤٢٦، بغية الوعاة ١ : ٤١١/ ٨٢٥ .

(٢) بغية الوعاة ١ : ٤١١ ـ ٤١٢/ ٨٢٥ .

٣٠٢

أبو حيّان الأندلسي

وأمّا أثير الدين أبو حيّان الأندلسي ، فترجمته في طبقات السبكي ، والوافي بالوفيات ، وبغية الوعاة ، والدرر الكامنة ، وفوات الوفيات وغيرها(١) .

لكنّ أبا حيّان كان يتكلّم في ابن تيميّة ويتهجّم عليه ويرميه بكلّ سوء(٢) وهذا مِن نقائصه ، وهو يوجب الحطّ له من المحبّين لابن تيميّة...

وأبو حيّان ـ كما في( بغية الوعاة ) ـ : ( كان يفتخر بالبخل ، كما يفتخر الناس بالكرم )(٣) وهذه رذيلة عظيمة لا يخفى قُبحها على أحد !!

ومن معايبه ما ذكره الصفدي في( الوافي ) قال :

( كان الشيخ تقيّ الدين قد نزل عن تدريس مدرسة لولده ـ نسيت أنا المدرسة واسم ابنه ـ فلمّا حضر الشيخ أثير الدين درس قاضي القضاة تقيّ الدين ابن بنت الأعز ، قرأ آيةً تفسيرها درْس ذلك اليوم وهي قوله تعالى :( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ ... ) الآية ، فبرز أبو حيّان بين الحلقة وقال : يا مولانا قاضي القضاة ، قدّموا أولادهم ، قدّموا أولادهم ، يكرّر ذلك فقال قاضي القضاة : ما معنى هذا ؟ قال ابن دقيق العيد : نزل لولده فلان عن تدريس المدرسة الفلانيّة ، فنقل المجلس إلى تقيّ الدين ابن دقيق العيد فقال : أمّا أبو

ـــــــــــــــــــ

(١) طبقات السبكي ٩ : ٢٧٦/ ١٣٣٦ ، الوافي بالوفيات ٥ : ٢٦٧/ ٢٣٤٥، بغية الوعاة ١ : ٢٨/ ٥١٦ ، الدرر الكامنة ٤ : ٣٠٢/ ٨٣٢ ، فوات الوفيات ٤ : ٧١/ ٥٠٦ .

(٢) الدرر الكامنة ٤ : ٣٠٨/ ٨٣٢ .

(٣) بغية الوعاة ١ : ٢٨٢/ ٥١٦ .

٣٠٣

حيّان فقيه دعابة أهل الأندلس ومُجونَهم ، وأمّا أنت يا قاضي القضاة ، يُبدَّل القرآن في حضرتك وما تنكر هذا الأمر .

فما كان عن قليل حتّى عزل ابن بنت الأعز من القضاء ابن دقيق العيد ، وكان إذا خلا شيء من الوظائف التي تليق بالشيخ أثير الدين أبي حيّان يقول الناس : هذه لأبي حيّان يخرجها الشيخ تقيّ الدين لغيره .

فهذا هو السبب الموجب لحطّ أبي حيّان وشناعته عليه...) .

وأمّا الفخر الرّازي ، فإنّه وإنْ كان من العلماء الأعلام وتفسيره في غاية الشهرة ، لكنّ السّيوطي تكلّم عليه ، ونقل بعض الكلام فيه ، في( الإتقان ) .

أمّا الذهبي ، فقد قال في( الميزان ) :

( الفخر ابن الخطيب ، صاحب التصانيف ، رأس في الذكاء والعقليّات ، لكنّه عريّ من الآثار ، وله تشكيكات على مسائل من دعائم الدين تُورث حيرة نسأل الله أنْ يثبّت الإيمان في قلوبنا ، وله كتاب السرّ المكتوم في مخاطبة النجوم ، سحرٌ صريح ، فلعلّه تاب مِن تأليفه إنْ شاء الله )(١) .

وابن تيميّة ذكر الرّازي في عداد الجبْريّة ، وهذه عبارته :

( ثمّ المثبتون للصّفات ، منهم : مَن يثبت الصّفات المعلومة بالسمع كما يثبت الصفات المعلومة بالعقل ، وهذا قولُ أهل السنّة الخاصّة : أهل الحديث ومَن وافقهم ، وهو قولُ أئمّة الفقهاء وقول أئمّة الكلام مِن أهل الإثبات ، كأبي محمّد بن كلاب ، وأبي العبّاس القلانسي ، وأبي الحسن الأشعري ، وأبي عبد الله ابن مجاهد ، وأبي الحسن الطبري ، والقاضي أبي بكر الباقلاّني ، ولم يختلف في ذلك قول الأشعري وقدماء أصحابه ، لكن المتأخّرين مِن أتباعه كأبي المعالي وغيره لا يثبتون إلاّ الصّفات العقليّة .

وأمّا الجبريّة ، فمنهم مَن ينفيها ومنهم من يتوقّف فيها ، كالرّازي

ـــــــــــــــــــ

(١) ميزان الاعتدال ٣ : ٣٤٠/ ٦٦٨٦ .

٣٠٤

والآمدي وغيرهما ، ونُفاة الصفات الجبريّة ، منهم مِن يتأوّل نصوصها ، ومنهم من يُفوّض معناها إلى الله )(١) .

وجاء ابن حجر في( لسان الميزان ) وفصّل الكلام حول الرّازي بعد كلام الذهبي ، وهذه عبارته :

( الفخر ابن الخطيب صاحب التصانيف ، رأسٌ في الذكاء والعقليّات لكنّه عريّ من الآثار ، وله تشكيكات على مسائل من دعائم الدين تُورث حيرة ، نسأل الله أنْ يثبّت الإيمان في قلوبنا ، وله كتاب السرّ المكتوم في مخاطبة النجوم ، سحرٌ صريح ، فلعلّه تاب مِن تأليفه إن شاء الله ، إنتهى .

وقد عاب التاج السبكي على المصنّف ذكره هذا الرجل في هذا الكتاب وقال : إنّه ليس مِن الرواة ، وقد تبرّأ المصنّف من الهوى والعصبيّة في هذا الكتاب ، فكيف ذكر هذا وأمثاله ممّن لا رواية لهم كالسيف الآمدي ، ثمّ اعتذر عنه بأنّه يرى أنّ القدْح في هؤلاء مِن الديانة ، وهذا بعينه التعصّب في المعتقد ، والفخر كان من أئمّة الأُصول ، وكتبه في الأصلَين شهيرةٌ سائرة ، وله ما يُقبل وما يُرَد ، وقد ترجم له جماعة من الكبار بما ملخّصه:

أنّه ولِد سنة ٥٤٣ وأشتغل على والده ، وكان من تلامذة البغوي ، ثمّ اشتغل على الكمال السمناني ، وتمهّر في عدّة علوم ، وعقد مجلس الوعظ ، وكان إذا وعَظ يحصل له وجدٌ زائد ، ثمّ أقبل على التصنيف ، فصنّف : التفسير الكبير ، والمحصول في أُصول الفقه ، والمعالم ، والمطالب العالية ، والأربعين ، والخمسين ، والملخّص ، والمباحث المشرقيّة ، وطريقةٌ في الخلاف ، ومناقب الشافعي .

وكان في أوّل أمره فقيراً ، ثمّ اتّفق أنّه صاهَر تاجراً متموّلاً وله ولدَان

ـــــــــــــــــــ

(١) منهاج السنّة ٢ : ٢٢٢ ـ ٢٢٣ .

٣٠٥

فزوّجهما ابنتيه ، ومات التاجر ، فتقلّب الفخر في ذلك المال وصار مِن رؤساء ذك الزّمان ، يقوم على رأسه خمسون مملوكاً بمناطق الذهب وحُلّل الوشي ؛ قاله ابن الرسب في تاريخه قال : وكانت له أوراد مِن صلاة وصيام لا يخلّ بها ، وكان مع تبحّره في الأُصول يقول : من التزم دين العجائز فهو الفائز ، وكان يُعاب بإيراد الشبه الشديد ويقصّر في حلّها ) .

( وقد ذكره ابن دحية بمدحٍ وذمّ ، وذكره أبو شامة فحكى عنه أشياء رديّة ، وكانت وفاته بهراة ، يوم عيد الفطر سنة ستٍّ وستمئة .

ورأيت في الإكسير في علم التفسير للنجم الطوفي ما ملخّصه : ما رأيت في التفاسير ، أجمع لغالب علم التفسير من القرطبي ، ومن تفسير الإمام فخر الدين ، إلاّ أنّه كثير العيوب ، فحدّثني شرف الدين النصيبي عن شيخه سراج الدين السرمياحي المصري ، أنّه صنّف كتاب المآخذ في مجلّدين ، بيّن فيهما ما في تفسر الفخر من الزيف والبَهرَج ، وكان ينقم عليه كثيراً ويقول : يورد شبه المخالفين في المذهب ، والدين على غاية ما يكون من التحقيق...

قال الطوفي : ولعَمري إنّ هذا دأبه في كتبه الكلاميّة والحكميّة حتّى اتّهمه بعض النّاس ، ولكنّه خلاف ظاهر حاله ؛ لأنّه لو كان اختار قولاً أو مذهباً ما كان عنده مَن يَخاف منه حتّى يتستّر عنه ، ولعلّ سببه أنّه كان يستفرغ قِواه في تقرير دليل الخصم ، فإذا انتهى إلى تقرير دليل نفسه لا يبقى عنده شيء مِن القوى ، ولا شكّ أنّ القوى النفسانيّة تابعة للقوى البدنيّة ، وقد صرّح في مقدّمة نهاية العقول أنّه يقرّر مذهب خصمه تقريراً ، لو أراد خصمه أنْ يقرّره لم يقدر على الزيادة على ذلك .

٣٠٦

وذكر ابن خليل السكوني في كتابه الرد على الكشّاف : أنّ ابن الخطيب قال في كتبه في الأُصول : أنّ مذهب الجبر هو الصحيح ، وقال بصحّة بقاء الأعراض وبنفي صفات الله الحقيقيّة ، ويزعم أنّها مجرّد نسبٍ وإضافات كقول الفلاسفة ، وسلك طريق أرسطو في دليل التمانع ، ونقل عن تلميذه التاج الأرموي أنّه نصر كلامه ، فهجره أهل مصر وهمّوا به فاستتر ، ونقلوا عنه أنّه قال : عندي كذا وكذا مئةُ شبهةٍ على القول بحدوث العالم ، ومنها ما قاله شيخه ابن الخطيب في آخر الأربعين ، والمتكلّم يستدلّ على القِدم بوجوب تأخّر الفعل ولزوم أوليّته ، والفيلسوف يستدلّ على قِدمه باستحالة تعطّل الفاعل عن أفعاله .

وقال في شرح الأسماء الحسنى : أنّ من أَخَّرَ عقاب الجاني مع عِلمه بأنّه سيعاقبه فهو الحقود وقد تعقّب بأنّ الحقود من أخّر مع العجز ، أمّا مع القدرة فهو الحكيم ، والحقود إنّما في حقّ المخلوقين دون الخالق بالإجماع .

ثمّ أسند عن ابن الطبّاخ : أنّ الفخر كان شيعيّاً ، يقدّم محبّة أهل البيت كمحبّة الشيعة ، حتّى قال في بعض تصانيفه : وكان عليّ شجاعاً بخلاف غيره ، وعابَ عليه تسميته لتفسيره( مفاتيح الغيب ) ، ولمختصره في المنطق بـ( الآيات البيّنات ) ، وتقريره لتلامذته في وصفه : بأنّه الإمام المجتبى ، أُستاذ الدنيا ، أفضل العالم ، فخر ابن آدم ، حجّة الله على الخلق ، صدر صدور العرب والعجم هذا آخر كلامه )(١) انتهى .

وقال الشيخ عبد الوهّاب الشعراني في( إرشاد الطالبين إلى مراتب العلماء الكاملين ) :
( وقد طلب الشيخ فخر الدين الرّازي الطريق إلى الله تعالى ، فقال له الشيخ نجم الدين الكبرى : لا تطيق مفارقة صنمك الذي هو علمك ، فقال : يا

ـــــــــــــــــــ

(١) لسان الميزان ٥ : ٤٣٠ ـ ٤٣٥/ ٦٥٧١ .

٣٠٧

سيّدي ، لابدّ إْن شاء الله تعالى ، فأدخله الشيخ الخلوة وسلبه جميع ما معه مِن العلوم ، فصاح في الخلوة بأعلى صوته : لا أُطيق فأخرجه وقال : أعجبني صدقك وعدم نفاقك ) .

أبو عبد الرحمان السّلَمي

أقـول :

ومن أعلام المفسّرين عند القوم : أبو عبد الرحمان السلَمي ، وهو مِن كبار مشايخ الصوفيّة ، قال اليافعي بترجمته :

( الشيخ الكبير ، العارف بالله الشهير ، الحافظ أبو عبد الرحمان محمّد بن الحسين بن موسى النيسابوري السلَمي الصوفي ، صحب جدّه أبا عمرو بن نجيد ، وسمع الأصم وطبقته ، وصنّف التفسير والتاريخ وغير ذلك ، وبلغت مصنّفاته مئة .

وقال الخطيب : قدر أبي عبد الرحمان عند أهل بلده جليل )(١) .

وفي( الأنساب ) :

( صاحب التصانيف للصوفيّة التي لم يسبق إليها ، وكان مُكثراً مِن الحديث )(٢) .

وقال عبد الغافر في( تاريخ نيسابور ) :

( شيخ الطريقة في وقته ، الموفّق في جمع علوم الحقائق ومعرفة طريق التصوّف ،.. وقد ورث التصوّف عن أبيه وجدّه ، وجمع مِن الكتب ما لم يسبق إلى ترتيبه )(٣) .

ـــــــــــــــــــ

(١) مرآة الجنان ٣ : ٢١ السنة ٤١٢ .

(٢) الأنساب ٣ : ٢٧٩ .

(٣) المنتخب من السياق لتاريخ نيسابور : ١٩/ ٤ .

٣٠٨

وقال أبو نعيم في( الحلية ) :

( ومنهم : ذو الصيام والقيام ، مُقري الأئمّة والأعلام مدى السّنين والأعوام ، في التعبّد لبيب وفي التعليم أريب ، أبو عبد الرحمان السلَمي )(١) .

فالعجب كلّ العجب !! أنْ يكون هذا الصّوفيّ المتعبّد والعارف الكبير ، كذّاباً مفترياً يضع الحديث على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال ابن الجوزي في( تلبيس إبليس ) في حال الصوفيّة :

( وما زال إبليس يخطبهم بفنون البدع ، حتّى جعلوا لأنفسهم سنناً ، وجاء أبو عبد الرحمان السّلَمي فصنّف لهم كتاب السنن ، وجمع لهم حقائق التفسير ، فذكر عنهم فيه العجب في تفسيرهم القرآن بما يقع لهم ، مِن غير إسناد ذلك إلى أصلٍ من أُصول العلم ، وإنّما حملوه على مذاهبهم ، والعجب مِن ورعهم في الطعام وانبساطهم في القرآن ، وقد أخبرنا أبو منصور بن عبد الرحمان القزّاز قال : أخبرنا أبو بكر الخطيب قال : قال لي محمّد بن يوسف القطّان النيسابوري : كان أبو عبد الرحمان السلَمي غير ثقة ، ولم يكن سمِع مِن الأصم إلاّ شيئاً يسيراً ، فلمّا مات الحاكم أبو عبد الله ابن البيّع ، حدّث عن الأصم بتاريخ يحيى بن معين وبأشياءٍ كثيرةٍ سواه ، وكان يضع للصوفيّة الأحاديث )(٢) .

وقال المناوي :

( نقل الذهبي وغيره عن الخطيب عن القطّان : إنّه كان يضع للصوفيّة وفي اللسان كأصله إنّه ليس بعمدة )(٣) .

ـــــــــــــــــــ

(١) حلية الأولياء ٤ : ١٩١/ ٢٧٥ .

(٢) تلبيس إبليس ١٨٨ ـ ١٨٩ .

(٣) فيض القدير ـ شرح الجامع الصغير ١ : ١٨٩ .

٣٠٩

وفي( الميزان ) :

( محمّد بن الحسين أبو عبد الرحمان السلَمي النيسابوري ، شيخ الصوفيّة وصاحب تاريخهم وطبَقَاتهم وتفسيرهم تكلّموا فيه وليس بعمدة روى عن الأصم وطبقته ، عني بالحديث ورجاله ، وسأل الدارقطني .

قال الخطيب : قال لي : محمّد بن يوسف القطّان كان يضع الأحاديث للصوفيّة )(١) .

وقال السبكي عن الذهبي أنّه قال : ( له كتابٌ سمّاه حقائق التفسير ، ليته لم يصنِّفه ، فإنّه تحريفٌ وقرمطةٌ )(٢) .

وقال السيوطي في( الإتقان ) :

( قال ابن الصلاح في فتاويه : وجدت عن الإمام أبي الحسن الواحدي المفسّر أنّه قال : صنّف أبو عبد الرحمان السلَمي [شيخ القشيري] حقائق التفسير ، فإنْ كان قد اعتقد أنّ ذلك تفسير فقد كفر )(٣) .

وفي( منهاج السنّة ) في غير موضع :

إنّ ما ينقل في كتاب حقائق التفسير عن الإمام جعفر الصادق عامّته كذب عليه .

ـــــــــــــــــــ

(١) ميزا الاعتدال ٣ : ٥٢٣/ ٧٤١٩ .

(٢) طبقات الشافعيّة ٤ : ١٤٧/ ٣٢٠ .

(٣) الإتقان في علوم القرآن ٤ : ٢٢٣ .

٣١٠

الباب الثالث : الصِّحاح الستّة

مقـدّمة

الصحّاح عند أهل السنّة

أعلم أنّ الصحاح الستّة عند أكثر أهل السنّة هي الموطّأ وكتب : البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي ، إلاّ أنّها ليست في مرتبةٍ واحدة ، فقد ذكر الشاه وليّ الله الدهلوي في كتاب( حجّة الله البالغة ) : أنّ الطبقة الأُولى من كتب الحديث هي : الموطّأ وصحيح البخاري وصحيح مسلم ، ولعلّ أصحّها هو الموطّأ ، والطبقة الثانية هي : جامع الترمذي وسُنن أبي داود وسُنن النسائي ، فإنّ هذه وإنْ لم تكن في مرتبة الصحيحين إلاّ أنّها قريبة منها .

ولم يجعل صاحب( جامع الأُصول ) كتاب ابن ماجة في عِداد الصّحاح ، وإنّما جعل الموطّأ منها ، قال الشيخ عبد العزيز الدهلوي في رسالته في( أصول الحديث ) : ( والحق معه ) ، ثمّ نقل عن والده ولي الله أنّ( مسند أحمد ) أيضاً في هذه المرتبة ، لكونه أصلاً في معرفة الصحيح مِن السقيم ، وبه يُعرف ماله أصل عمّا ليس له أصل .

وعلى كلّ حالٍ ، فلا خلاف في تقدّم كتاب البخاري ومسلم على سائر كتبهم الحديثيّة .

قدح الفيض آبادي في الصحيحين .

وينبغي ـ قبل الورود في تحقيق حال الصحيحين وصاحبيهما مِن كلمات أعلام القوم ـ أنْ نذكر رأي ( المخاطب ) نفسه فيهما ، وذلك : أنّه لمّا أُلزم ببعض

الأحاديث المخرَّجة في الكتابين ، اضطرّ في كتابه( إزالة الغين ) إلى تكذيبها والطعن فيهما .

فكذّب حديث( إيتوني بدواةٍ وقرطاس ) وحكى عن الآمدي في مسنده القول بأنّ حديث القرطاس لا أساس له .

٣١١

وكذّب حديث( فدك ) ونقل عن أبي السعادات ابن الأثير قوله في مقدّمة( جامع الأُصول ) في ذكر المجروحين : ( ومنهم : قومٌ وضعوا الحديث لهوىً يدعون الناس إليه ، فمنهم مَن تاب عنه وأقرّ على نفسه ، قال شيخ مِن شيوخ الخوارج بعد أنْ تاب : إنّ هذه الأحاديث دِين ، فانظروا ممّن تأخذون دينكم ، فإنّا كنّا إذا هوينا أمراً صيّرناه حديثاً .

وقال أبو العيناء : وضعت أنا والجاحظ حديثَ فدك ، وأدخلناه على الشيوخ ببغداد ، فقبلوه، إلاّ ابن أبي شيبة العلوي ، فإنّه قال : لا يشبه آخر هذا الحديث أوّله ، وأبى أنْ يقبله...) .

فأين صارت دعوى إجماع الأُمّة على صحّة ما في الكتابين ؟ وأين راحت تلك الفضائل والمناقب التي يزعمونها لهما ، والخرافات التي يلفّقونها لصاحبيهما ؟ وأين ذهبت شدّة احتياط البخاري لدى كتابة الأحاديث وتدوين صحيحه ، حتّى أنّه لم يخرّج فيه شيئاً عن صادق أهل البيتعليه‌السلام !! مع روايته عن الكذّابين والنواصب والخوارج : كإسحاق بن سُويد ، وحريز بن عثمان ، وعمران بن حطّان ، وحصين بن نمير ، وعبد الله بن سالم ، وعكرمة مولى ابن عبّاس ، وقيس بن أبي حازم ، ووليد بن كثير ، وأمثالهم ، كما لا يخفى على ناظر( ميزان الاعتدال ) وغيره من كتب الرجال ؟ !

عجيبٌ أمر هؤلاء !!

إذا أرادوا تصحيح أحاديث هذين الكتابين والاستدلال بها أمام الإماميّة ، بالغوا في مدحهما حتّى كفّروا مَن تكلّم فيهما وهوّن أمرهما ، قال شاه وليّ الله في كتاب( حجة الله البالغة ) :

( وأمّا الصحيحان ، فقد اتّفق المحدّثون على أنّ جميع ما فيهما مِن المتّصل المرفوع صحيحٌ بالقطع ، وأنّهما متواتران إلى مصنّفهما ، وأنّه كلّ مَن يهوّن أمرهما فهو مُبتدِع متّبِع غير سبيل المؤمنين ) .

وحتّى وضعوا ما يدلّ على جلالتهما وعظمتهما على لسان النبيّ الصادق الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !! لقد جاء في( الدر الثمين في مبشّرات النبيّ الأمين ) لشاه وليّ الله الدهلوي .

٣١٢

( الحديث الثالث والثلاثون : أخبرني الشيخ أبو طاهر قال : أخبرنا الشيخ أحمد النخلي قال : أخبرنا شيخنا السيّد السند أحمد بن عبد القادر قال : أخبرنا الشيخ جمال القيرواني ، عن شيخه الشيخ يحيى الخطّاب المالكي قال : أخبرنا عمّي الشيخ برَكَات الخطّاب ، عن والده ، عن جدّه الشيخ محمّد بن عبد الرحمان الخطّاب شارح مختصر الخليل قال :

مشينا مع شيخنا العارف بالله تعالى الشيخ عبد المعطي التونسي لزيارة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا قربنا من الروضة الشريفة ترجّلنا ، فجعل الشيخ عبد المعطي يمشي خطوات ويقف ، حتّى وقف تجاه القبر الشريف ، فتكلّم بكلامٍ لم نفهمه ، فلمّا انصرفنا سألناه عن وقَفَاته فقال : كنت أطلب الإذن مِن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القدوم عليه ، فإذا قال لي أقدم قدمت ساعة ، ثمّ وقفت وهكذا حتّى وصلت إليه فقلت : يا رسول الله ، أكلّما روى البخاري عنك صحيح ؟

فقال : صحيح فقلت له : أرويه عنك يا رسول الله ؟

قال : أروه عنّي .

وقد أجاز الشيخ عبد المعطي نفعنا الله تعالى به الشيخ محمّد الخطّاب أنْ يرويه عنه ، وهكذا كلّ واحد أجاز من بعده ، وأجاز السيّد أحمد بن عبد القادر النخلي أنْ يرويه عنه بهذا السند ، وأجاز النخلي لأبي طاهر ، وأجاز أبو طاهر لنا .

ووجدت هذا الحديث بخطّ الشيخ عبد الحقّ الدهلوي بإسنادٍ له عن الشيخ عبد المعطي بمعناه ، وفيه : فلمّا فرغ مِن الزيارة وما يتعلّق بها ، سأله أنْ يروي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صحيح البخاري وصحيح مسلم ، فسمع الإجازة من النبيّ ، فذكر صحيح مسلم أيضاً ) .

كما ذكروا مناماتٍ فيها أمَر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدراسة كتاب البخاري ،!! فراجع( مقدّمة فتح الباري ) (١) .

ثمّ إنّه قد نصّ بعضهم على أنّ أحاديث الكتابين هي الدليل عندهم على أنَّ فرقتهم هي الفرقة الناجية في القيامة ، يقول المناوي بشرح حديث : ( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة... ) :

ـــــــــــــــــــ

(١) هدي الساري ـ مقدمة فتح الباري : ٥ .

٣١٣

 ( فإنْ قيل : ما وثوقك بأنّ تلك الفرقة الناجية هي أهل السنّة والجماعة ، مع أنّ كلّ واحدٍ مِن الفِرَق يزعم أنّه هي دون غيره ؟

قلنا : ليس ذلك بالإدّعاء والتشبّث باستعمال الوهم القاصر والقول الزاعم ، بل بالنقل عن جهابذة أهل الصنعة ، وأئمّة الحديث الذين جمعوا صِحاح الأحاديث في أمر المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحواله وأفعالهوحَرَكاته وسَكَناته ، وأحوال الصحب والتابعين ، كالشيخين وغيرهما من الثقات المشاهير ، الذين اتّفق أهل المشرق والمغرب على صحّة ما في كتبهم.....) (١) .

فكان المدرك لكون أهل السنّة هم الفرقة الناجية ما رواه الشيخان البخاري ومسلم ، في كتابيهما المعروفين بالصحيحين...

وإذا سقط الكتابان عن الاعتبار ، لاشتمالهما على الأخبار الموضوعة والمكذوبة ، بطل دعواهم على كونهم الفرقة الناجية ، وانهدم أساس مذهبهم ، وتلك هي الكارثة العظيمة...

وبعد :

فهذا بعض الكلام على الكتب المذكورة وأصحابها :

ـــــــــــــــــــ

(١) فيض القدير ـ شرح الجامع الصغير ٢ : ٢٠ ـ ٢١ .

٣١٤

صحيح البخاري

أما صحيح البخاري ، فإنّ أوّل شيء نذكره حوله ، هو أنّ أبا زرعة وأبا حاتم الرّازيين قد تركا البخاري ومنعا مِن الرواية عنه والأخذ منه .

ترك أبي زرعة وأبي حاتم البخاري

ففي( طبقات السبكي ) عن تقيّ الدين ابن دقيق العيد أنّه قال : ( أعراض المسلمين حفرةٌ مِن حُفَر النار ، وقَف على شفيرها طائفتان مِن الناس : المحدّثون والحكّام ) فقال السبكي :

( قلت : ومِن أمثلته قول بعضهم في البخاري : تركه أبو زرعة وأبو حاتم مِن أجل مسألة اللفظ فيا لله وللمسلمين ! أيجوز لأحدٍ أنْ يقول : البخاري متروك ؟ وهو حامل لواء الصناعة ، ومقدَّم أهل السنّة والجماعة )(١) .

وأورد الذهبي البخاريّ في كتاب( الضعفاء والمتروكين ) ، فقال المناوي متضجّراً مِن ذلك :

( زين الأُمّة ، افتخار الأئمّة ، صاحب أصحّ الكتب بعد القرآن ، صاحب ذيل الفضل على ممرّ الزمان ، الذي قال فيه إمام الأئمّة ابن خزيمة : ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث منه ، وقال بعضهم : إنّه آية مِن آيات الله يمشي على وجه الأرض .

قال الذهبي : كان مِن أفراد العالم مع الدين والورع والمتانة .

ـــــــــــــــــــ

(١) طبقات الشافعيّة ٢ : ٢٣٠ ، سير أعلام النبلاء ١٢ : ٤٦٢ .

٣١٥

هذا كلامه في الكاشف ومع ذلك غلب عليه الغض مِن أهل السنّة ، فقال في كتاب الضعفاء والمتروكين : ما سلِم من الكلام ، لأجل مسألة اللّفظ ، تركه لأجلها الرازيّان .

هذه عبارته ، وأستغفر الله تعالى ، نسأل الله تعالى السلامة ، ونعوذ به مِن الخذلان )(١) .

وقال في( ميزان الاعتدال ) بترجمة عليّ بن المديني :

( عليّ بن عبد الله بن جعفر بن الحسن ، الحافظ ، أحد الأعلام الأثبات وحافظ العصر.

ذكره العقيلي في كتاب الضعفاء فبئس ما صنع فقال : جنح إلى ابن أبي دؤاد والجهميّة ، وحديثه مستقيم إنْ شاء الله ، قال لي عبد الله بن أحمد : كان أبي حدّثنا عنه ، ثمّ أمسك عن اسمه وكان يقول حدّثنا رجلٌ ، ثمّ ترك حديثه بعد ذلك .

قلت : بل حديثه عنه في مسنده .

وقد تركه إبراهيم الحربي ، وذلك لميله إلى أحمد بن أبي دؤاد ، فقد كان مُحسناً إليه.

وكذا امتنع مِن الرواية عنه في صحيحه لهذا المعنى ، كما امتنع أبو زرعة وأبو حاتم من الرواية عن تلميذه محمّد لأجل مسالة اللّفظ .

وقال عبد الرحمان ابن أبي حاتم : كان أبو زرعة ترك الرواية عنه مِن أجل ما كان منه في المحنة...)(٢) .

ـــــــــــــــــــ

(١) فيض القدير ـ شرح الجامع الصغير ١ : ٢٤ .

(٢) ميزان الاعتدال ٥ : ١٦٧ / ٥٨٨٠ .

٣١٦

ترجمة أبي زرعة الرازي

وأبو زرعة الرّازي ، المتوفّى سنة ٢٦٤ ، مِن أعلام أئمّة القوم :

قال الذهبي : ( م ت س ق ـ عبيد الله بن عبد الكريم ، أبو زرعة الرّازي ، الحافظ ، أحد الأعلام ، عن أبي نعيم والقعنبي وقبيصة وطبقتهم في الآفاق وعنه : م ت س ق ، وأبو عوانة ، ومحمّد بن الحسين ، والقطّان ، وأُمم .

قال ابن راهويه : كلّ حديثٍ لا يعرفه أبو زرعة فليس له أصل .

مناقبه تطول )(١) .

وقال ابن حجر : ( م ت س ق ـ عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ ، أبو زرعة الرّازي ، إمامٌ ، حافظٌ ، ثقةٌ ، مشهورٌ ، من الحادية عشرة )(٢) .

وقال اليافعي : ( الحافظ ، أحد الأئمّة الأعلام... قال أبو حاتم : لم يخلّف بعده مثله ، علماً وفقهاً وصيانةً وصدقاً ، وهذا ممّا لا يرتاب فيه ، ولا أعلم مِن المشرق والمغرب مَن كان يفهم هذا الشأن مثله وقال إسحاق بن راهويه : كلّ حديث لا يحفظه أبو زرعة ليس له أصل )(٣) .

وقال الخطيب البغدادي : ( عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ ، أبو زرعة الرازي... كان إماماً ربّانيّاً متقناً حافظاً مُكثراً صادقاً قدِم بغداد غير مرّة ، وجالَس أحمد بن حنبل وذاكره وحدّث ، فروى عنه من البغداديّين : إبراهيم بن إسحاق الحربي ، وعبد الله بن أحمد بن حنبل ، وقاسم بن زكريّا

ـــــــــــــــــــ

(١) الكاشف ٢ : ٢٢٣ / ٣٦٠٧ .

(٢) تقريب التهذيب ١ : ٤٩٧ / ٤٨٥٠ .

(٣) مرآة الجنان ٢ : ١٣١ .

٣١٧

المطرز... حدّثني الأزهري ، حدّثنا عبيد الله بن محمّد العكبري قال : سمعت أحمد بن سلمان قال : سمعت عبد الله بن أحمد بن حنْبل قال : لمّا ورد علينا أبو زرعة نزل عندنا ، فقال لي أبي : يا بنيّ ، قد اعتضت بنوافلي مذاكرة هذا الشيخ .

أخبرني إبراهيم بن عمر البرمكي : حدّثنا عبيد الله بن محمّد بن محمّد ابن حمدان العكبري ، حدّثنا أبو حفص عُمر بن محمّد بن رجاء قال : سمعت عبد الله ابن أحمد بن حنبل يقول : لمّا قدِم أبو زرعة نزل عند أبي ، فكان كثير المذاكرة له ، فسمعت أبي يوماً يقول : ما صلّيت غير الفرض ، استأثرت بمذاكرة أبي زرعة على نوافلي .

أخبرني محمّد بن أحمد بن يعقوب ، أخبرنا محمّد بن نعيم الضبي ، حدّثنا أحمد بن الحسين القاضي عن بعض شيوخه قال : سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول : قلت لأبي : يا أبتِ مَنِ الحفّاظ ؟ قال : يا بني ، شبابٌ كانوا عندنا مِن أهل خراسان وقد تفرّقوا ، قلت : مَن هُم يا أبتِ ؟ قال : محمّد ابن إسماعيل ذاك البخاري ، وعبيد الله بن عبد الكريم ذاك الرّازي ، وعبد الله بن عبد الرحمان ذاك السمرقندي ، والحسن بن شجاع ذاك البلخي أخبرني محمّد بن عليّ المُقرئ ، أخبرنا أبو مسلم ابن مهران ، أخبرنا عبد المؤمن بن خلف النسفي قال : سمعت أبا عليّ صالح بن محمّد يقول : سمعت أبا زرعة يقول : كتبت عن رجلين مِئتي ألف حديث ، كتبت عن إبراهيم الفرّاء مِئة ألف حديث ، وعن ابن أبي شيبة عبد الله مِئة ألف حديث .

أخبرني أبو زرعة روح بن محمّد الرّازي ـ إجازة شافهني بها ـ أخبرنا عليّ ابن محمّد بن عمر القصّار ، حدّثنا عبد الرحمان بن أبي حاتم قال : قلت لأبي زرعة : تحزر ما كتبت عن إبراهيم بن موسى مِئة ألف ؟ قال : مِئة ألف كثير ، قلت : فخمسين ألفاً ؟ قال : نعم ، وستّين ألفاً ، وسبعين ألفاً أخبرني مِن عدّ كتاب الوضوء والصلاة فبلغ ثمانية عشر ألف حديث .

أخبرنا أبو بكر البرقاني قال : قال محمّد بن العبّاس العصمي ، حدّثنا يعقوب ابن إسحاق بن محمود الفقيه قال : حدّثنا صالح بن محمّد الأسدي قال : حدّثني سلمة بن شبيب ، حدّثني الحسن بن محمّد بن أعيَن ، حدّثنا زهير بن معاوية قال : حدّثتنا أُمّ عمرو بنت شمر قالت : سمعت سويد بن غفلة يقرأ( وعيسٌ عين ) يريد حور عين .

٣١٨

قال صالح : ألقيت هذا على أبي زرعة فبقي مُتعجّباً ، وقال : أنا أحفظ في القراءات عشرة آلاف حديث ، قلت : فتحفظ هذا ؟ قال : لا .

أخبرنا أبو القاسم رضوان بن محمّد بن الحسن الدينوري : حدّثنا أبو عليّ حمد بن عبد الله الأصبهاني قال : سمعت أبا عبد الله عمر بن محمّد بن إسحاق العطّار يقول : سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول : سمعت أبي يقول : ما جاوَز الجسر أفقه من إسحاق بن راهويه ، ولا أحفظ مِن أبي زرعة .

حدّثنا أبو طالب يحيى بن عليّ بن الطيّب الدسكري ـ لفظاً بحلوان ـ أخبرنا أبو بكر ابن المُقرئ ـ بأصبهان ـ حدّثنا عبد الله بن محمّد بن جعفر القزويني ـ بمصر ـ قال : سمعت أبا حفص عمر بن مقلاص يقول : كان أبو زرعة هاهنا عندنا بمصر ـ سنة تسع وعشرين ومِئتين ـ إذا فرغ مِن سماع ابن بكير وعمرو بن خالد والشيوخ ، اجتمع إليه أصحاب الحديث ، فيُملي عليهم وهو ابن سبع وعشرين سنة .

وقال عبد الله : سمعت يزيد بن عبد الصمد يقول : قدِم علنيا أبو زرعة الرّازي سنة ثمانٍ وعشرون فما رأينا مثله ، وكنّا نجلس إليه ، فلمّا أراد الخروج قلت له : يا أبا زرعة ، اجعلني خليفتك في هذه الحلقة ، قال : فقال لي : قد جعلتك .

قال عبد الله : سمعت محمّد بن عوف يقول : قدِم علينا أبو زرعة فما ندري ممّا يتعجّب منه ؟ ! ممّا وهب الله له مِن الصيانة والمعرفة ، مع الفهم الواسع قال محمّد : قال لي أبو زرعة : ولِدْتُ سنة مِئتين .

أخبرنا أبو زرعة الرازي ـ إجازة ـ أخبرنا عليّ بن محمّد بن عمر القصار حدّثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم قال : سمعت أبا زرعة يقول : أردت الخروج من مصر ، فجئت لأُودّع يحيى بن عبد الله بن بكير فقلت: تأمر بشيء ؟ فقال : أخلف الله علينا بخير.

أخبرنا عليّ بن محمّد المقرئ: أخبرنا صالح بن أحمد بن محمّد الهمذاني الحافظ، أخبرنا عبد الرحمن بن حمدان المرزبان، قال: قال أبو حاتم الرازي: إذا رأيت الرازي وغيره يبغض أبا زرعة فاعلم أنّه مبتدع.

٣١٩

أخبرنا أبو سعد الماليني ـ قراءة ـ حدّثنا عبد الله ابن عدي الحافظ قال : سمعت محمّد بن إبراهيم المُقرئ يقول : سمعت فضلك الصائغ يقول : دخلت المدينة ، فصرت الى باب أبي مصعب ، فخرج إليّ شيخ مخضوب ـ وكنت أنا ناعساً فحرّكني ـ فقال : يا مردريك ، من أين أنت ؟ لأيّ شيء تنام ؟ فقلت : أصلحك الله ، مِن الريّ ، مِن بعض شاكردي أبي زرعة ، فقال : تركت أبا زرعة وجئتني ؟ ! لقيت مالك بن أنَس وغيره ، فما رأت عيناني مثله .

وقال أيضاً : سمعت فضلك الصائغ يقول : دخلت على الربيع بمصر ، فقال لي : من أين أنت ؟ قلت : من أهل الري ـ أصلحك الله ـ من بعض شاكردي أبو زرعة فقال : تركت أبا زرعة وجئتني ؟ ! إنّ أبا زرعة آية ، وإنّ الله إذا جعل إنساناً آية أبان مِن شكله حتّى لا يكون له ثان .

حدّثنا أبو طالب الدسكري ، أنبأنا أبو بكر ابن المُقرئ ، حدّثنا عبد الله بن محمّد بن جعفر القزويني قاضي الرملة ـ بمصر ـ قال : سمعت يونس بن عبد الأعلى سنة تسعٍ وخمسين ومِئتين يقول ـ وذكر أبا زرعة الرّازي ـ فقال : أبو زرعة آية ، وإذا أراد الله أنْ يجعل عبداً مِن عباده آية جعله .

أخبرنا أبو سعد الماليني ، أخبرنا عبد الله ابن عدي ، أخبرنا أحمد بن محمّد بن سعيد قال : حدّثني الحضرمي قال : سمعت أبا بكر ابن أبي شيبة، وقيل ل : مَن أحفظ مَن رأيت ؟ قال : ما رأيت أحداً أحفظ مِن أبي زرعة الرّازي .

كتب إليّ أبو حاتم أحمد بن الحسن بن محمّد بن خاموش الواعظ ـ من الري ، بخطّه ـ قال : سمعت أحمد بن الحسن بن محمّد العطّار ، يذكر عن محمّد بن أحمد بن جعفر الصيرفي ، حدّثنا أبو جعفر أحمد بن محمّد بن سليمان التستري قال : سمعت أبا زرعة يقول : إنّ في بيتي ما كتبته منذ خمسين سنة ، ولم أُطالعه منذ كتبته ، وإنّي أعلم في أيّ كتابٍ هو ، في أيّ ورقةٍ هو ، في أيّ صفحةٍ هو، في أيّ سطرٍ هو .

قال : وسمعت أبا زرعة يقول : ما سمِعَت أُذني شيئاً مِن العلم إلاّ وعاه قلبي ، وإنّي كنت أمشي في سوق بغداد فأسمع من الغرف صوت المغنّيات ، فأضع أصبعي في أُذني مخافة أنْ يعيه قلبي .

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456