استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

استخراج المرام من استقصاء الإفحام8%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 456

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 456 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 227165 / تحميل: 8333
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

وكان أبو الخطّاب المذكور مِن أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء ، مُتقناً لِعلم الحديث النبويّ وما يتعلّق به ، عارفاً بالنحو واللغة وأيّام العرب وأشعارها ، أكثرَ بطلب الحديث في أكثر بلاد الأندلس الإسلاميّة ، ولَقِي بها علماءها ومشائخها ، ثمّ رحل منها إلى برّ العدوة ، ودخل مراكش واجتمع بفضلائها ، ثمّ ارتحل إلى افريقيّة ومنها إلى الديار المصريّة ، ثمّ إلى الشام والشرق وإلى العراق .

وسمع ببغداد مِن بعض أصحاب ابن الحصين ، وسمع بواسط من أبي الفتح محمّد بن أحمد بن المندائي ، ودخل إلى عراق العجم وخراسان وما والاها ومازندران ، كلّ ذلك في طلب الحديث والاجتماع بأئمّة الحديث ، وأخذ عنهم ، وهو في تلك الحال يُؤخذ عنه ويُستفاد منه ، وسمِع بأصبهان مِن أبي جعفر الصيدلاني ، وبنيسابور مِن منصور ابن عبد المنعم الفراوي )(١) .

وقال السيوطي في( بغية الوعاة ) :

( عمر بن الحسن بن عليّ بن محمّد بن الجميل بن فرح بن دحية الكلْبي الأندلسي البلنسي الحافظ ، أبو الخطّاب ، كان من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء ، متقناً لِعِلْم الحديث وما يتعلّق به ، عارفاً بالنحو واللغة وأيّام العرب وأشعارها ، سمِع الحديث ورحل ، وله بنى الكامل دار الحديث الكامليّة بالقاهرة ، وجعله شيخاً ، حدّث عنه ابن الصلاح وغيره ، ومات ليلة الثلاثاء رابع عشر ربيع الأوّل سنة ثلاثٍ وثلاثينَ وستّمِئة )(٢) .

وقال في كتابه( حسن المحاضرة ) :

ـــــــــــــــــــ

(١) وفيات الأعيان ٣ : ٤٤٨ ـ ٤٥٠ / ٤٩٧ .

(٢) بغية الوعاة في طبقات اللغويّين والنّحاة ٢ : ٢١٨ / ١٨٣٢ .

٣٤١

 ( ابن دحية ، الإمام العلاّمة الحافظ الكبير ، أبو الخطّاب ، عمر بن الحسن الأندلسي البلنسي ، كان بصيراً بالحديث متقناً به ، له حظٌّ وافرٌ مِن اللغة ومشاركة في العربيّة ، له تصانيف ، توطّن مصر وأدّب الملك الكامل ، ودرّس بدار الحديث الكامليّة ، مات أربع عشرة ربيع الأوّل سنة ثلاثٍ وثلاثينَ وستّمِئة )(١) .

موقف البخاري من حديث الغدير وكلمات الأعلام فيه

ومن غرائب تعصّبات البخاري : طعنه في حديث الغدير المروي عن أكثر من مِئة صحابي ، والبالغ أضعاف شروط التواتر ، والمصرَّح بتواتره مِن قبل الأئمّة الثقات المتبحّرين في الحديث عند أهل السنّة ، كما لا يخفى على مَن اقتطف الأزهار من( الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة ) ، واستفاد مِن( الفوائد المتكاثرة في الأخبار المتواترة ) وكلاهما للحافظ السيوطي ، أو راجع( شرح الجامع الصغير ) لنور الدين العزيزي ، أو (شرح الجامع الصغير ) للمناوي ، أو( المرقاة ) لعليّ القاري ، أو( الأربعين في مناقب أمير المؤمنين ) لجمال الدين المحدّث الشيرازي ، أو( السيف المسلول ) لثناء الله تلميذ وليّ الله والد صاحب التحفة ، أو( أسنى المطالب ) لابن الجزري ، وغيرَ هذهِ الكتب .

قال ابن تيميّة ـ في حديث الغدير ـ: ( وأمّا قوله : مَن كُنت مولاه فعليٌّ مولاه ، فليس في الصحاح ، لكنْ ممّا رواه العلماء ، وتنازع الناس في صحّته ، فنُقِل عن البخاري وإبراهيم الحربي وطائفة مِن أهل العلم أنّهم طعنوا فيه

ـــــــــــــــــــ

(١) حسن المحاضرة بمحاسن مصر والقاهرة ١ : ٢٠١ .

٣٤٢

وضعّفوه )(١) .

اللّهمّ إلاّ أنْ يكون قد طعن في بعض طرقه ، فنسب إليه ابن تيميّة الطعن في أصله...!!

فإنْ كان البخاري قد طعن في أصل حديث الغدير ، فقد نصَّ غيرَ واحدٍ مِن أعلام القوم على عدم الاعتبار بكلام مَن طعن فيه كائناً مَن كان... يقول البدخشي : ( هذا حديثٌ صحيحٌ مشهور ، ولم يتكلَّم في صحّته إلاّ مُتعصِّبٌ جاحدٌ لا اعتبار بقوله ، فإنّ الحديث كثيرُ الطُرق جداً ، وقد استوعبها ابن عقدة في كتابٍ مفرد ، وقد نصَّ الذهبي على كثيرٍ مِِِِِِِِِِن طرقه بالصحّة ، ورواه من الصحابة عددٌ كثير )(٢) .

وكذلك نسب الحافظ ابن الجزري مُنكِر حديث الغدير إلى الجهل والعصبيّة(٣) .

ترجمة ابن الجزري

وابن الجزري الشافعي ، حافظٌ شهير ، وله تآليف معتمدة ، وقد أثنى العلماء عليه وعلى كتبه :

فقد ترجم له ابن حجر ووصفه بالحافظ الإمام المُقرئ ، وقال : ( انتهت إليه رئاسة علم القراءات في الممالك ، وكان قديماً صنّف الحصن الحصين في الأدعية ، وله به أهل اليمن واستكثروا منه... وكانت عنايته بالقراءات أكثر ،

ـــــــــــــــــــ

(١) منهاج السنة ٤ : ١٣٦ .

(٢) نزل الأبرار بما صحَّ من مناقب أهل البيت الأطهار : ٢١ .

(٣) أسنى المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب : ٤٨ .

٣٤٣

فجمع ذيل طبقات القرّاء للذهبي وأجاد فيه ، ونظم قصيدةً في قرائة الثلاثة ، وجمع النشر في القراءات العشر... وكان يلقّب في بلاده : الإمام الأعظم... وبالملة ، فإنّه كان عديم النظير ، طائر الصيت ، انتفع الناس بكُتبه وسارت في الآفاق مسير الشمس )(١) .

وترجم له السخاوي ترجمةً مطوّلة ، فذكر مشايخه في مختلف العلوم ، وأنّه قد أذن له غير واحدٍ بالإفتاء والتدريس والإقراء ، وأنّه ولي مشيخة الإقراء بالعادليّة ثمّ مشيخة دار الحديث الأشرفية... وهكذا ذكر أسفاره إلى البلاد المختلفة ، وأورد طرفاً من أخباره فيها... ثمّ ذكر تصانيفه ووصفها بكونها مفيدةً ، ومنها( أسنى المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب ) .

قال : وقد ذكره الطاووسي في مشيخته وقال : إنّه تفرّد بعلوّ الرواية وحفظ الأحاديث والجرح والتعديل ومعرفة الرواة المتقدّمين والمتأخّرين... ثمّ ذكر السخاوي كلام ابن حجر في حقّه... )(٢) .

هذا ، وقد توفي ابن الجزري سنة ٨٣٣ .

استرابة البخاري في بعض حديث الإمام الصادقعليه‌السلام !!

ومِن أمارات بُغض البخاري لأهل بيتِ النبوّة وانحرافه عنهم : عدم إخراجه عن الإمام الصادقعليه‌السلام في كتابه ، بل استرابته في بعض حديثه ، والعياذ بالله !!

قال ابن تيميّة في كلامٍ له عن الإمامعليه‌السلام :

ـــــــــــــــــــ

(١) إنباء الغمر بأبناء العمر ٣ : ٤٦٧ .

(٢) الضوء اللامع لأهل القرن التاسع ٩ : ٢٥٥ ـ ٢٦٠ .

٣٤٤

 ( فهؤلاء الأئمّة الأربعة ليس منهم مَن أخذ عن جعفر شيئاً مِن قواعد الفقه ، لكنْ روَوا عنه الأحاديث كما روَوا عن غيره ، وأحاديث غيره أضعاف أحاديثه ، وليس بين حديث الزهري وحديثه نسبة ، لا في القوّة ولا في الكثرة ، وقد استراب البخاري في بعض حديثه لمّا بلغه عن يحيى بن سعيد القطّان فيه كلام ، فلم يخرج له ، ويمتنع أنْ يكون حفظه للحديث كحفظ مَن يحتجّ بهم البخاري )(١) .

فانظر إلى كلام هذا الناصب العنيد ، كيف يطعن في الإمام العظيم استناداً إلى القطّان والبخاري ، مع أنّ علمائهم الكبار ، مِن السّابقين واللاّحقين ، يقولون بضرورة حبّ أهل البيت واحترامهم والإقتداء بهم والأخذ منهم ، وحتّى أنّهم ينزّهون أهل السنّة مِن بغض أهل البيت ، ويبرءون ممّن اعترض علهيم أو تكلّم فيهم أو أعرض عنهم ، ويجعلون نسبة هذه الأُمور إلى أهل السنّة من تعصّبات الإماميّة ضدّهم، يقول الكابلي في تعداد تعصّبات الشيعة :

( التاسع عشر : إنّ أهل السنّة أفرطوا في بُغض أهل البيت ، ذكر ذلك ابن شهر آشوب وكثير مِن علمائهم ، ولقَّبوهم بالنواصب ، وهو كذبٌ صرد وعصبيّةٌ ظاهره ، فإنّهم يقولون إنّ الله تعالى أوجب محبّة أهل بيت نبيّه على جميع بريّته ، ولا يُؤمن أحدٌ حتّى يكون عترة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحبّ إليه مِن نفسه ، ويَروُون في ذلك أحاديث منها ، ما رواه البيهقي وأبو الشيخ والديلمي : أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( لا يُؤمن أحدٌ حتّى أكون أحبُّ إليه مِن نفسه ، ويكون عترتي أحبّ إليه من نفسه ) .

وأخرج الترمذي والحاكم عن ابن عبّاسرضي‌الله‌عنه أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

ـــــــــــــــــــ

(١) منهاج السنّة ٧ : ٥٣٣ .

٣٤٥

قال :( أحبّوا أهل بيتي بحبّي ) .

إلى غير ذلك من الأخبار .

ويقولون : مَن ترك المودّة في أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد خانه ، وقد قال الله تعالى : ( لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ... ) ، ومَن كره أهل بيته فقد كرههصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولقد أجاد مَن أفاد :

فَلا تَعدِل بأهلِ البَيتِ خَلْقاً

فأهلُ البيتِ هُم أهلُ السعادة

فبُغضُهم مِن الإنسانِ خُسرٌ

حقيقيٌّ وحُبّهُم عبادة

ويوجبون الصّلاة عليهم في الصلوات قال الشيخ الجليل فريد الدين أحمد بن محمّد النيسابوري رحمه الله : مَن آمن بمحمّدٍ ولم يُؤمن بأهل بيته فليس بمؤمن ، أجمع العلماء والعرفاء على ذلك ولم ينكره أحد )(١) .

أقـول :

فلو كانوا صادقين في قولهم ( مَن آمن بمحمّدٍ ولم يُؤمن بأهلِ بيته فليس بمؤمن ) ، وأنّه قد ( أجمع العلماء والعرفاء على ذلك ولم ينكره أحد ) ، فما ظنّهم بالقطّان والبخاري وابن تيميّة وأمثالهم ؟

وقد ذكر الشاه عبد العزيز الدهلوي ـ في الكلام على حديث :مَثُلُ أهل بيتي كسفينة نوح... ـ : إنّ هذا الحديث يفيد بأنّ الفلاح والهداية منوطٌ بحبّ أهل البيت واتّباعهم ، وأنّ التخلّف عن ذلك موجبٌ للهلاك ، ثمّ زعم أنّ هذا المعنى يختصُّ بأهل السنّة(٢) !!

فإنْ كان صادقاً فيما يقول : فما رأيه فيمن تكلّم في الإمام أبي عبد الله الصّادقعليه‌السلام ؟

هذا ، ولا يتوهّمنّ أحدٌ أنّ تكلّم القطّان والبخاري وأتباعهما في الإمام ليس عن بُغض له وعناد ، وإنّما هو تحقيقٌ في العلم واحتياطٌ في الدين ، فإنّه توهّم فاسد جدّاً ، فإنّه لو لم يكن ما ذكره ابن تيميّة انحرافاً وبُغضاً وعناداً ، فأين العِناد والعداوة والبغض ؟ وبماذا يكون ؟ ومَن المنحرف عنهم والمتعصّب ضدّهم والناصب لهم ؟

ـــــــــــــــــــ

(١) الصواقع الموبقة ـ مخطوط .

(٢) التحفة الاثني عشريّة : ٢١٩ .

٣٤٦

وهل شدّة الاحتياط والتورّع أدّت إلى أخذ روايات عكرمة الضالّ المُضلّ والناصب المقيت ، وطرح أخبار الإمام الصادق وغيره من أئمّة أهل البيت ؟

وكيف يُقبل هذا الاعتذار للبخاري ؟! وكيف يُعتذر له بذلك ؟ وقد أخرج عن الذهلي ـ مع ما كان بينهما مِن الطعن المُوجب للفسق ـ ومع التدليس في اسمه ، ولم يخرج عن الإمام الصادق ؟!

ولو كان لمثل هذا الاعتذار مجالٌ لَما قال ابن تيميّة : ( ويمتنع أنْ يكون حفظه للحديث كحفظِ مَن يحتجّ بهم البخاري ) !!

طعن القطّان في الإمام الصادق !!

هذا ، وطعن القطّان في الإمام الصّادقعليه‌السلام مذكورٌ في سائر الكتب الرجاليّة ، وهو في جملتين إحداهما : ( في نفسي منه شيء ) والأُخرى : ( مجالد أحبّ إليّ منه ) !!

قال الذهبي : ( جعفر بن محمّد الصادق أبو عبد الله ، وأُمّه أُمّ فروة بنت القاسم بن محمّد ، وأُمّها أسماء بنت عبد الرحمان بن أبي بكر ، فكان يقول :

ولّدني الصديق مرّتين سمع أباه والقاسم وعطاء وعنه : شعبة والقطّان وقال : في نفسي منه شيء... )(١) .

وقال : ( جعفر بن محمّد بن عليّ ، ثقةٌ ، لم يخرج له البخاري ، وقد وثّقه يحيى بن معين وابن عدي ، وأمّا القطّان فقال : مجالد أحبّ إليّ منه )(٢) .

ترجمة مجالد بن سعيد

هذا ، والحال أنّ مجالد بن سعيد قد طَعَن فيه كثيرٌ من أئمّة القوم :

قال الذهبي : ( مجالد بن سعيد بن عُمير الهمداني ، مشهور ، صاحبُ حديثٍ على لينٍ فيه روى عن قيس بن أبي حازم والشعبي وعنه : يحيى القطّان وأبو أُسامة وجماعة .

ـــــــــــــــــــ

(١) الكاشف ١ : ١٣٩ / ٨٠٧ .

(٢) المغني في الضعفاء ١ : ٢١١ / ١١٥٦ .

٣٤٧

قال ابن معين وغيره : لا يحتجّ به ، وقال أحمد : يرفع كثيراً ممّا لا يرفعه الناس ، ليس بشيء وقال النسائي : ليس بالقويّ ، وذكر الأشج : إنّه شيعي ، وقال الدارقطني : ضعيف وقال البخاري : كان يحيى بن سعيد يُضعّفه ، وكان ابن مهدي لا يروي عنه ، وقال الفلاّس : سمعت يحيى بن سعيد يقول : لو شئت أنْ يجعلها لي مجالد كلّها عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله فعل وقيل لخاله الطحّان : دخلتَ الكوفة فلم لم تكتب عن مجالد ؟ قال : لأنّه كان طويل اللّحية ، قلت : مَن أنكر ما له عن الشعبي عن مسروق عن عائشة مرفوعاً : لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضّة )(١) .

فانظر مَن هذا الذي قدّمه القطّان على الإمام الصّادقعليه‌السلام ؟ وأحكم على القطّان والبخاري وأضرابهما بما يقتضيه الدين والعدل ؟

موقف الذهبي

والذهبي ، وإنْ وثّق الإمامعليه‌السلام ، لكنّه لم يرد على تعصّبات القطّان والبخاري ضد الإمام ، بل بالعكس ، فقد أورده في كتابه( الميزان ) لتكلّمهما فيه ، حيثُ قال : ( جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين الهاشمي ، أبو عبد الله ، أحد الأئمّة الأعلام ، بَرٌّ، صادقٌ ، كبير الشأن ، لم يحتجّ به البخاري ، قال يحيى بن سعيد : مجالد أحبّ إليّ منه ، في نفسي منه شيء ، وقال مصعب بن عبد الله عن الدراوردي قال : لم يروِ مالك عن جعفر حتّى ظهر أمر بني العبّاس ، قال مصعب بن عبد الله : كان مالك لا يروي عن جعفر حتّى يضمّه إلى أحد وقال أحمد بن سعيد بن أبي مريم : سمعت يحيى يقول : كنت لا أسأل يحيى بن سعيد عن حديث جعفر بن محمّد ، فقال لي : لم لا تسألني عن حديث جعفر ؟ قلت : لا أُريده ، فقال لي : إنْ كان يحفظ فحديث أبيه المسند )(٢) .

هذا ، في الوقت الذي بنى في كتابه هذا على أنْ لا يذكر فيه مَن قدح فيه البخاري وابن عدي ، من الصحابة والأئمّة في الفروع... كما صرّح بذلك في مقدّمة الكتاب حيث قال : ( أمّا بعد ، هدانا الله وسدّدنا ووفّقنا لطاعته ، فهذا كتابٌ جليلٌ مبسوط ، في إيضاح نَقَلة العلم النبويّ وحمَلَة الآثار ، ألّفته بعد كتابي المنعوت بالمُغني ،

ـــــــــــــــــــ

(١) ميزان الاعتدال ٦ : ٢٣ / ٧٠٧٦ .

(٢) ميزان الاعتدال ٢ : ١٤٣ / ١٥٢١ .

٣٤٨

وطوّلت فيه العبارة ، وفيه أسماء عدّة مِن الرواة زائداً على من في المغني ، زدت معظمهم من الكتاب الحافل المذيّل عل الكامل لابن عدي .

وقد ألّف الحفّاظ مصنّفات جمّة في الجرح التعديل ما بين اختصار وتطويل ، فأوّل من جمع كلامه في ذلك : الإمام الذي قال فيه أحمد بن حنبل : ما رأيت بعيني مثل يحيى بن سعيد القطّان ، وتكلّم في ذلك بعده تلامذته : يحيى بن معين ، وعليّ بن المديني ، وأحمد بن حنبل ، وعمرو بن عليّ الفلاّس ، وأبو خيثمة ، وتلامذتهم : كأبي زرعة ، وأبي حاتم ، والبخاري ، ومسلم ، وأبي إسحاق الجوزجاني السعدي ، وخلق .

ومِن بعدهم مثل : النسائي ، وابن خزيمة ، والترمذي ، والدولابي ، والعقيلي ، وله مصنّفٌ مفيدٌ في معرفة الضعفاء ، ولأبي حاتم ابن حبّان كتابٌ كبيرٌ عندي في ذلك ، ولأبي أحمد ابن عدي كتابُ الكامل هو أكمل الكتب وأجلّها في ذلك ، وكتاب أبي الفتح الأزدي ، وكتاب أبي محمّد ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل والضعفاء ، وللدارقطني في الضعفاء ، وللحاكم وغير ذلك ، وقد ذيّل ابن طاهر المقدسي على الكامل لابن عدي بكتابٍ لم أره ، وصنّف أبو الفرج بان الجوزي كتاباً كبيراً في ذلك ، كنت اختصرته أوّلاً ثمّ ذيّلت عليه ذيلاً بعد ذيل .

والساعة ، فقد استخرت الله عزّ وجلّ في عمل هذا المصنّف ، ورتّبته على حروف المعجم حتّى في الآباء ليقرب تناوله ، ورمزت على اسم الرجل من أخرج له في كتابه مِن الأئمّة الستّة : البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي والترمذي وابن ماجة ، برموزهم السائرة ، فإن اجتمعوا على إخراج رجل فالرمز (ع) ، وإنْ اتفق عليه أرباب السنن الأربعة فالرمز (غ) .

وفيه من تُكُلّم فيه مع ثقته وجلالته بأدنى لين وبأقلّ تجريح ، فلولا أنّابن عدي أو غيره مِن مؤلّفي كتب الجرح ذكروا ذلك الشخص لما ذكرته لثقته ، ولم أر من الرأي أنْ أحذف اسم أحد ممّن له ذكر بتليينٍ مّا في كتب الأئمّة المذكورين ، خوفاً من أنْ يُتَعَقَّب عليّ ، إلاّ أنّي ذكرته لضعفٍ فيه عندي ، إلاّ ما كان في كتب البخاري وابن عدي وغيرهما من الصّحابة ، فإنّي أسقطتهم لجلالة الصحابة رضي الله عنهم ، ولا أذكرهم في

٣٤٩

هذا المصنّف ، فإنّ الضعف إنّما جاء مِن جهة الرواة إليهم ، وكذا لا أذكر في كتابي مِن الأئمّة المتبوعين في الفروع أحداً ، لجلالتهم في الإسلام وعظمتهم في النفوس ، فإنْ ذكرت أحداً منهم فأذكره على الإنصاف ، وما يضرّه ذلك عند الله ولا عند الناس ، إذ إنّما يضرّ بالإنسان الكذِب ، والإصرار على كثرة الخطأ ، والتجرّي على تدليس الباطل فإنّه خيانة ، والمرءُ المسلم يطبع على كلّ شيء إلاّ الخيانة والكذِب ) (١) .

أفهل كان شأن الإمامعليه‌السلام أقلّ مِن شأن عمرو بن العاص وبسر ابن أرطاة وأمثالهما مِن فَسَقَة الصحابة؟

أفهل كان شأن الشافعي وغيره أجلّ مِن شأن الإمام الصّادق ؟

لكنّه التعصّب والنّصب... والعياذ بالله...

ترجمة القطّان

ثمّ انظر إلى تراجم القطّان وكلماتهم في مدحه والثناء عليه ، والمبالغة في تعظيمه وتبجيله :

قال السمعاني : ( القطّان ـ بفتح القاف وتشديد الطاء المهملة في آخرها نون ، هذه النسبة إلى بيع القطن ، والمشهور بها هو : أبو سعيد يحيى بن

ـــــــــــــــــــ

(١) ميزان الاعتدال ١ : ١١٣ .

٣٥٠

سعيد بن فروخ الأحول القطّان ، مولى بني تميم ، مِن أئمّة أهل البصرة ، يروي عن يحي بن سعيد الأنصاري وهشام بن عروة ، روى عنه أهلُ العراق ، ماتَ يوم الأحد سنة ثمانٍ وتسعين ومِئة ، وكان إذا قيل له في علّته يعافيك الله قال : أحبّه إليّ أحبّه إلى الله عزّ وجلّ ، وكان مِن سادات أهل زمانه حفظاً ووَرَعاً وعقلاً وفهماً وفضلاً وديناً وعلماً ، وهو الذي مهّد لأهل العراق رسم الحديث ، وأمعن في البحث عن الثقات وترك الضعفاء ، ومنه تعلّم علمَ الحديث أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعليّ ابن المديني .

ذكر عمرو بن عليّ الفلاّس أنّ يحيى بن سعيد القطّان كان يختم القرآن كلّ يوم وليلة ، ويدعو لألف إنسان ، ثمّ يخرج بعد العصر فيحدّث الناس ، وكان يروي عن سميّه يحيى بن سعيد الأنصاري ، وهشام بن عروة ، والأعمش ، وابن جريج ، والثوري ، وشعبة ، ومالك ، في آخرين وكان يقول : لزمت شعبة عشرين سنة ، فما كنت أرجع مِن عنده إلاّ بثلاثةِ أحاديث وعشرة أكثرما كنت أسمع منه في كلّ يوم وقال يحيى بن معين : أقام يحيى بن سعيد عشرين سنة يختم القرآن في كلّ ليلة ، ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة ، وما رُئي يطلب جماعةً قط )(١) .

وقال النووي :

( يحيى بن سعيد القطّان هو : أبو سعيد يحيى بن سعيد بن فروخ التميمي مولاهم البصري ، القطّان ، الإمام ، من تابعي التابعين ، سمع : يحيى بن سعيد الأنصاري وحنظلة بن أبي سفيان وابن عجلان وسيف بن سليمان وهشام بن حسام ، وابن جري وسعيد بن عروبة وابن أبي ذئب والثوري وابن

ـــــــــــــــــــ

(١) الأنساب ٤ : ٥١٩ .

٣٥١

عيينة ، ومالاً ومسعراً وشعبة وخلائق .

وروى عنه : الثوري ، وابن عيينة ، وشعبة ، وابن مهدي ، وعفّان ، وأحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وعليّ بن المديني ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو عبيد القاسم بن سلاّم ، وأبو خيثمة ، وأبو بكر ابن أبي شيبة ، ومسدد ، وعبيد الله بن عمر القواريري ، وعمرو بن عليّ ، وابن مثنّى ، وابن بشّار ، وخلائق مِن الأئمّة وغيرهم .

واتفقوا على إمامته وجلالته ، ووفور حفظه وعلمه وصلاحه .

قال أحمد بن حنبل : ما رأيت مثل يحيى القطّان في كلّ أحواله ، وقال يحيى بن معين : أقام يحيى القطّان عشرين سنة يختم القرآن في كلّ يومٍ وليلة ، ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة ، وما رُئي يطلب جماعةً قط ، يعني ما فاتته فيحتاج إلى طلبها ـ وقال أحمد بن حنبل : يحيى القطّان إليه المنتهى في التثبّت بالبصرة، وهو أثبت مِن وكيع وابن مهدي وأبي نعيم ويزدي بن هارون ، وقد روى عن خمسين شيخاً ممّن روى عنهم سفيان وقال : لم يكن في زمان يحيى مثله .

وقال أبو زرعة : هو من الثقات الحفّاظ ، وقال يحيى بن معين : قال لي عبد الرحمان بن مهدي : لا ترى بعينك مثل يحيى بن القطّان ، وقال ابن منجويه : كان يحيى القطّان مِن سادات أهل زمانه ورعاً وحفظاً وفهماً وفضلاً وديناً وعلماً ، وهو الذي مهّد لأهل العراق رسم الحديث وأمعن في البحث عن الثقات وترك الضعفاء وقال بندار : كتب عبد الرحمان بن مهدي عن يحيى عن يحيى القطّان ثلاثين ألفاً وحفظها ، قال زهير : رأيت يحيى القطّان بعد وفاته ، عليه قميص ، مكتوب بين كتفيه :بسم الله الرحمن الرحيم ، براءة ليحيى بن سعيد من النار .

٣٥٢

قال ابن سعد : توفّي يحيى القطّان في صفَر سنة ثمانٍ وتسعين ومِئة ، وكان مولده سنة عشرين ومئة )(١) .

وقال الذهبي :

( يحيى بن سعيد بن فروخ ، الحافظ الكبير ، أبو سعيد التميمي مولاهم البصري القطّان ، عن : عروة وحميد والأعمش ، وعنه : أحمد وعليّ ويحيى قال أحمد : ما رأيت مثله وقال بندار : إمام أهل زمانه يحيى القطّان ، واختلفت إليه عشرين سنة فما أظن أنّه عصى الله قط ، ولِد القطّان ١٢٠ ومات ١٩٨ في صفر ، وكان رأساً في العلم والعمل )(٢) .

وقال محمّد بن حبّان :

( يحيى بن سعيد بن فروخ القطّان مولى بني تميم ، كنيته أبو سعيد ، الأحول ، مِن أهل البصرة ، يروي عن يحيى بن سعيد الأنصاري وهشام بن عروة ، روى عنه أهل العراق ، ماتَ يوم الأحد يوم الثاني عشر مِن صَفر سنة ثمان وسبعين ومِئة ، وكان إذا قيل له في علّته يعافيك الله قال : أحبّه إليّ أحبّه إلى الله جلّ وعلا ، وصلّى عليه إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس ، وهو أمير البصرة ، وكان مِن سادات أهل زمانه حفظاً وورعاً وعقلاً وفهماً وفضلاً وديناً وعلماً ، وهو الذي مهّد لأهل العراق رسم الحديث وأمعن في البحث عن الثقات ، وترْك الضعفاء ، ومنه تعلّم علْم الحديث أحمد ابن حنبل ويحي بن معين ، وعليّ بن المديني وسائر شيوخنا .

حدّثني محمّد ابن الليث الورّاق قال : سمعت عبد الله بن جعفر بن الزبرقان يقول : سمعت عمرو بن عليّ الفلاّس يقول : كان يحيى بن سعيد القطّان يختم القرآن كلّ يوم

ـــــــــــــــــــ

(١) تهذيب الأسماء واللغات ٢ : ١٥٤ / ٢٤٣ .

(٢) الكاشف ٣ : ٢٤٣ / ٦٢٥٨ .

٣٥٣

وليلة ، ويدعو لألفِ إنسان ، ثمّ يخرج بعد العصر فيحدّث الناس )(١) .

وقال اليافعي :

( الإمام أبو سعيد يحيى بن سعيد القطّان البصري الحافظ ، أحد الأعلام قال بندار : اختلفتُ إليه عشرين سنة فما أظنّ أنّه عصى الله قط قال أحمد بن حنبل : ما رأيت مثله وقال ابن معين : أقام يحيى القطّان عشرين سنة يختم في كلّ ليلة ، ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة )(٢) .

وقال عبد الحق الدهلوي :

( يحيى بن سعيد القطّان ، بفتح القاف وتشديد الطاء المهملة ، أبو سعيد ، الأحول التميمي ، مولى بني تميم ، ويُقال ليس لأحدٍ عليه ولاء ، البصري ، إمامٌ كبير ، ثقةٌ حافظٌ عالم ، عارفٌُ بالحديث ، مشهور مكثر ، وكان رأساً في العلم والعمل .

وقال ابن المديني : ما رأيت أعلم بالرجال منه ولا أعلم بصواب الحديث والخطأ من ابن مهدي ، فإذا اجتمعا على ترك حديثِ رجلٍ تُرِك حديثُه ، وإذا حدّث عنه أحدهُما حُدِّث عنه ، وقال مرّة : لم أرَ أحداً أثبت من القطّان .

وقال ابن معين : قال ابن مهدي : لا ترى عينك مثل يحيى القطّان وقال أحمد : ما رأيت مثله وقال بندار : إمامُ أهل زمانه يحيى القطّان ، واختلفت إليه عشرين سنة فما أظنّ أنّه عصى الله قط وقال ابن سعد : كان ثقةً مأموماً رفيعاً حجّة وقال العجلي : بصريٌّ ثقةٌ نقيُّ الحديث ، كان لا يحدّث إلاّ عن ثقة وقال أبو حاتم : ثقةٌ حافظ وقال أبو زرعة : من الثقات الحفّاظ وقال النسائي : ثقة ثبت مرضي وقال أبو بكر ابن منجويه : كان من سادات أهل زمانه حفظاً

ـــــــــــــــــــ

(١) كتاب الثقات ٧ : ٦١١ .

(٢) مرآة الجنان ١ : ٣٥٢ .

٣٥٤

وورعاً وفهماً وفضلاً وديناً وعلماً ، وهو الذي مهّد لأهل العراق رَسْم الحديث ، وأمعَن في البحث عن الثقات وترك الضعفاء ، ولِد سنة عشرين ومِئة ، ومات في صفَر سنة ثمانٍ وتسعين ومِئة روى عن : هشام بن عروة و عبد الله بن عمر العمري ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، والأعمش والثوري وشعبة ومالك وغيرهم من الأئمّة .

وروى عنه : عبد الرحمان بن مهدي وأحمد بن حنبل وعليّ ابن المديني ومسدّد ويحيى بن معين ومحمّد بن المثنّى...)(١) .

أقول :

ومن هذه العبارات وأمثالها في مدح القطّان ـ مع علم قائليها بمقالته في الإمام الصادق ( عليه الصلاة والسلام ) ـ تعرف مواقف القوم مِن أئمّة أهل البيت ، فلا يُقبل دفاع بعض الناس عن أهل السنّة ، وأسفهم بأنّهم مُحبّون لأهل البيت ومحترمون لهم ومستمسكون بهم...

قصة كتاب العلل لابن المديني

وممّا يُذكَر في مقام الطعن في البخاري وورعه وأمانته وثقته : قصّته مع كتاب شيخه ابن المديني في العلل :

قال مسلمة بن قاسم في ( تاريخه ) ـ على ما نقل عنه(٢) ـ : ( وسبب تأليف البخاري الكتاب الصحيح ، أنّ عليّ بن المديني ألّف كتاب العلل ، وكان ضنيناً به لا يخرجه إلى أحد ، ولا يحدّث به ، لشرفه وعظم خطره وكثرة فائدته ، فغاب عليّ ابن المديني في بعض حوائجه ، فأتى البخاري إلى بعض بنيه ،

ـــــــــــــــــــ

(١) رجال المشكاة = تحصيل الكمال ـ ترجمة القطّان .

(٢) انظر ترجمته في لسان الميزان ٦ : ٤٣ .

٣٥٥

فبذل له مِئة دينار على أنْ يخرج له كتاب العِلل ، ليراه ويكون عنده ثلاثة أيّام ، ففتنه المال وأخذ منه مِئة دينار ، ثمّ تلطّف مع أُمّه فأخرجت الكتاب ، فدفعه إليه وأخذ عليه العهود والمواثيق أنْ لا يحبسه عنه أكثر مِن الأمد الذي ذكر ، فأخذ البخاري الكتاب ـ وكان مِئة جزء ـ فدفعه إلى مِئة من الورّاقين ، وأعطى كلّ رجلٍ منهم ديناراً على نسخه ومقابلته في يومٍ وليلة ، فكتبوا له الديوان في يومٍ وليلة وقُوبل ، ثمّ صرفه إلى ولد عليّ بن المديني وقال : إنّما نظرت إلى شيء فيه .

وانصرف عليّ بن المديني فلم يعلم بالخبر ، ثمّ ذهب البخاري فعكف على الكتاب شهوراً واستحفظه ، وكان كثير الملازمة لابن المديني ، وكان ابن المديني يعقد يوماً لأصحاب الحديث ، يتكلّم في عِلَله وطرفه ، فلمّا أتاه البخاري بعد مدّة قال له : ما حبسك عنّا ؟ قال : شغلٌ عرض لي ، ثمّ جعل عليٌّ يلقي الأحاديث ويسألهم عن عِلَلها ، فيبادر البخاري بالجواب بنصّ كلام عليٍّ في كتابه ، فعجب لذلك ثمّ قال له : مِن أين علمت هذا ، هذا قولٌ منصوص ، والله ما أعلم أحداً في زماني يعلم هذا العِلم غيري .

فرجع إلى منزله كئيباً حزيناً ، وعَلِم أنّ البخاري خدَع أهله بالمال حتّى أباحوا له الكتاب ، ولم يزَل مغموماً بذلك ، ولم يلبث إلاّ يسيراً حتّى مات ، واستغنى البخاري عن مُجالسة عليّ والتفقّه عنده بذلك الكتاب ، وخرج إلى خراسان ، وتفقّه بالكتاب ، ووضَع الكتاب الصحيح والتواريخ ، فعظم شأنه وعلا ذكره ، وهو أوّل مَن وضع في الإسلام كتاب الصحيح ، فصار الناس له تبعاً ، وبكتابه يقتدي العلماء في تأليف الصحيح ) .

يفيد هذا النص أنّ البخاري كان السبب في موت شيخه عليّ بن المديني ، لتصرّفه في كتاب العِلل الذي وضعه شيخه ، بعد أخذه مِن أهله بالحيلة والخديعة والمكر والكذب...

٣٥٦

طعن مسلم فيمن قال بمقالة البخاري

هذا ، وقد صرّح مسلم بن الحجّاج بالطعن والتشنيع على بعض الأقوال وأصحابها في باب رواية الحديث ونقله ، والحال أنّ البخاري مِن القائلين بذلك القول ، وهذا نصّ كلام مسلم في باب ما تصحّ به رواية الرواة بعضهم عن بعض ، والتنبيه على مَن غلط في ذلك :

( وقد تكلّم بعضٌ منتحلي الحديث مِن أهل عصرنا في تصحيح الأسانيد وتسقيمها ، بقول لو ضربنا عن حكايته وذكر فساده صفحاً ، لكان رأياً متيناً ومذهباً صحيحاً ، إذ الإعراض عن القول المطرح أحرى لإماتته وإخمال ذكر قائله ، وأجدر أنْ لا يكون ذلك تنبيهاً للجهّال عليه ، غير أنّا لمّا تخوّفنا مِن شرور العواقب واغترار الجهلة بمحدثات الأُمور ، وإسراعهم إلى اعتقاد خطأ المخطئين والأقوال الساقطة عند العلماء ، رأينا الكشف عن فساد قوله ورَدّ مقالته بقدر ما يليق بها مِن الردّ ، أجدى على الأنام وأحمد للعاقبة إنْ شاء الله .

وزعم القائل الذي افتتحنا الكلام على الحكاية عن قوله والإخبار عن سوء رويّته : أنّ كلّ إسنادٍ لحديثٍ فيه فلان عن فلان ، وقد أحاط العلم بأنّهما قد كانا في عصرٍ واحد ، وجائز أنْ يكون الحديث الذي روى الراوي عمّن روى عنه قد سمِعه منه وشافهه به ، غير أنّه لا نعلم له منه سُماعاً ، ولم نجد في شيء مِن الروايات أنّهما التقيا قط أو تشافها بحديث ، أنّ الحجّة لا تقوم عنده بكلّ خبر جاء هذا المجيء ، حتّى يكون عنده العلم بأنّهما قد اجتمعا من دهرهما مرّة فصاعداً أو تشافها بالحديث بينهما ، أو يرد خبر فيه بيان اجتماعهما وتلاقيهما مرّة مِن دهرهما فما فوقها ، فإنْ لم يكن عنده علمُ ذلك ، ولم تأتِ به روايةٌ صحيحةٌ تخبِر أنّ هذا الراوي عن صاحبه قد لقِيه مرّة وسمع منه شيئاً ، لم يكن في نقله الخبر عمّن روى عنه عِلم ذلك والأمر كما وصفنا حجّة ، وكان الخبر عنده موقوفاً ، حتّى يرد عليه سماعه منه لشيءٍ مِن الحديث ، قلّ أو كثُر في رواية مثل ما ورد .

وهذا القول ـ يرحمك الله ـ في الطعن في الأسانيد قولٌ مُخترَع مُستحدَث غير مسبوق صاحبه إليه ، ولا مساعد له من أهل العلم عليه ، وذلك أنّ القول الشائع المتّفق

٣٥٧

عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديماً وحديثاً : أنّ كلّ رجلٍ ثقة روى عن مثله حديثاً ، وجائز ممكن له لقاؤه والسماع منه لكونهما جميعاً كانا في عصرٍ واحد ـ وإنْ لم يأتِ في خبرٍ قط أنّهما اجتمعا ولا تشافها بكلام ـ فالرواية ثابتة والحجّة بها لازمة ، إلاّ أنْ يكون هناك دلالة بيّنة أنّ هذا الراوي لم يلقَ مَن روى عنه ، أو لم يسمع منه شيئاً ، فأمّا والأمر مبهمٌ على الإمكان الذي فسّرنا ، فالرواية على السماع أبداً حتّى تكون الدلالة التي بيّنّا .

فيُقال لمخترع هذا القول الذي وصفنا مقالته أو للذابّ عنه ، قد أعطيت في جملة قولك أنّ خبر الواحد الثقة عن الواحد الثقة حجّةٌ يلزم به العمل ، ثمّ أدخلت فيه الشرط بعد ، فقلت حتّى نعلم أنّهما قد كانا التقيا مرّةً فصاعداً أو سمع منه شيئاً ، فهل تجد هذا الشرط الذي اشترطته عن أحدٍ يلزم قوله ، وإلاّ فهلمّ دليلاً على ما زعمت ، فإنْ ادّعى قول أحدٍ من علماء السلَف بما زعم من إدخال الشريطة في تثبيت الخبر طُولب به ، ولنْ يجد هو ولا غيره إلى إيجاده سبيلاً ) .

وأيضاً قال : ( وكان هذا القول الذي أحدثه القائل الذي حكيناه في توهينالحديث بالعلّة التي وصف ، أقلّ مِن أنْ يُعرّج عليه ويُثار ذكره ، إذ كان قولاً مُحدثاً وكلاماً خلفاً ، لم يقُله أحدٌ من أهل العلم سلَف ، ويستنكره من بعدهم خلَف ، فلا حاجة بنا في ردّه بأكثر ممّا شرحنا ، إذا كان قدر المقالة وقائلها القدر الذي وصفناه ، والله المستعان على دفع ما خالف مذهب العلماء ، وعليه التكلان ) (١) .

وقال النووي في شرح هذا الكلام :

( حاصل هذا الباب أنّ مسلماً ـ رحمه الله ـ ادّعى إجماع العلماء قديماً وحديثاً على أنّ المعنعن ـ وهو الذي فيه عن فلان ـ محمولٌ على الاتّصال والسماع ، إذا أمكن لقاء مَن أُضيفت العنعنة إليهم بعضهم بعضاً ، يعني مع براءتهم من التدليس ، ونقل مسلم عن بعض أهل عصره أنّه قال لا يقوم الحجّة بها ، ولا الحمل على الاتّصال ، حتّى يثبت أنّهما التقيا في عمرهما مرّة فأكثر ، ولا يكفي إمكان تلاقيهما .

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح مسلم ١ : ٣٥ .

٣٥٨

قال مسلم : وهذا قولٌ ساقطٌ مخترعٌ مستحدث ، لم يسبق قائله إليه ولا مساعد له من أهل العلم عليه ، وأنّ القول به بدعة باطلة ، وأطنب مسلم في الشناعة على قائله ، واحتجّ مسلم بكلام مختصره : إنّ المُعنعن عند أهل العلم محمولٌ على الاتّصال ، إذا ثبت التلاقي مع احتمال الإرسال ، فكذا إذا أمكن التلاقي ، وهذا الذي صار إليه مسلم قد أنكره المحقّقون وقالوا : هذا الذي صار إليه مسلم ضعيف ، والذي ردّه هو المختار الصحيح الذي عليه أئمّة هذا الفن ، مثل عليّ بن المديني ، والبخاري وغيرهما )(١) .

أحاديثٌ باطلة في كتاب البخاري

وكما تكلّمنا باختصارٍ عن البخاري ، فلنتكلّم في كتابه الموصوف بالصحيح ، على ضوء أقوال كبار أئمّة الحديث ، مقتصرين على طعنهم وقدحهم في عدّةٍ من أحاديثه :

حديث خِطبة عائشة

( فمنها ) الحديث في خطبة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عائشة وقول أبي بكر له : ( إنّما أنا أخوك ) ، وهذا نصّه :

( عن عروة : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطَب عائشة ، فقال له أبو بكر : إنّما أنا أخوك ، فقال :( أنت أخي في دين الله وكتابه ، وهي لي حلال ) (٢) .

قال ابن حجَر عن الحافظ مغلطاي : ( في صحّة هذا الحديث نظر ؛ لأنّ الخلّة لأبي بكر إنّما كانت بالمدينة ، وخِطبة عائشة كانت بمكّة ، فكيف يلتئم قوله : إنّما أنا أخوك.

وأيضاً : فالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما باشر الخطبة بنفسه ، كما أخرجه ابن أبي عاصم ، مِن طريق يحيى بن عبد الرحمان بن حاطب ، عن عائشة : إنّ النبيّ أرسل خولة بنت حكيم إلى أبي بكر يخطب عائشة ، فقال لها أبو بكر :

ـــــــــــــــــــ

(١) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجّاج ١ : ١٢٧ ـ ١٢٨ .

(٢) صحيح البخاري ٧ : ٨ .

٣٥٩

وهل تصلح له ، إنّما هي بنت أخيه ؟ فرجعَت فذكرت ذلك للنبيّ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ارجعي فقولي له : أنت أخي في الإسلام وابنتك تصلح لي فأتت أبا بكر فذكرت ذلك له ، فقال : ادعي رسول الله ، فجاء فأنكحه )(١) .

حديث شفاعة إبراهيم لآزر

( ومنها ) الحديث في شفاعة سيّدنا إبراهيمعليه‌السلام لآزر في يوم القيامة .

وهذا الافتراء ذكره البخاري على حسب ديدنه في غير موضعٍ من كتابه السقيم ، وفيه غاية الإزراء بشأن إبراهيم على نبيّنا وآله وعليه سلام الرب الرحيم ، كما لا يخفى على مَن له ذهن مستقيم ، حيث أثبتوا له في ذلكأوّلاً : مخالفة أمر الله تعالى وثانياً : إصراره على المخالفة والمجادلة حيث لم ينته ـ بناءً على افتراءهم ـ لمّا نهى الله عن الاستغفار له في دار الدنيا ، وثالثا : مخالفته للدلائل العقليّة الدالّة على المنع مِن الاستغفار للمشركين ،ورابعاً : الخطأ والغفلة في ظنّ أنّ تعذيب الكافر خزيٌ له بل خزيٌ أعظم ، وأيّ خزي أعظم من هذا ؟ فإنّ ذلك ممّا لا يتخيّله مَن له أدنى عقل ودراية ، فضلاً عن النبيّ المعصوم المبعوث للهداية ، وخامساً : للجهل بالمراد مِن وعده تعالى بأن لا يخزيه .

وهذه هي ألفاظ الحديث في كتاب التفسير :

( حدّثا إسماعيل قال : حدّثنا أخي ، عن ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هُريرة ، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :يلقى إبراهيم أباه فيقول : يا رب ، إنّك وعدتني ألاّ تخزني يوم يُبعثون ، فيقول الله :إنّي حرّمت

ـــــــــــــــــــ

(١) فتح الباري ـ شرح صحيح البخاري ٩ : ١٠١ .

٣٦٠

الجنّة على الكافرين )(١) .

وفي رواية أُخرى ( فيقول : يا رب ، إنّك وعدتني أنْ لا تخزني يوم يُبعثون ، فأيّ خزيٍ أُخزى مِن أبي الأبعد )(٢) .

قال الفخر الرّازي : ( وأمّا قوله تعالى :( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ.... ) ففيه مسائل : المسألة الأُولى : في تعلّق هذه الآية بما قبلها وجوه :

الأوّل : إنّ المقصود منه أنْ لا يتوهّم إنسان أنّه تعالى منع محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بعض ما أذن لإبراهيمعليه‌السلام فيه .

والثاني : أنْ يُقال : إنّا ذكرنا في سبب اتّصال هذه الآية بما قبلها المبالغة في إيجاب الانقطاع عن الكفّار أحيائهم وأمواتهم ، ثمّ بيّن تعالى أنّ هذا الحكم غير مختصّ بدين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتكون المبالغة في تقرير وجوب الانقطاع كانت مشروعة أيضاً في دين إبراهيمعليه‌السلام ، فتكون المبالغة في تقرير وجوب المقاطعة والمباينة من الكفّار أكمل وأقوى .

الثالث : إنّه تعالى وصَف إبراهيم في هذه الآية بكونه حليماً أي قليل الغضب ، وبكونه أوّاهاً ، أي كثير التوجّع والتفجّع عند نزول المضار بالناس ، والمقصود أنّ مِن كان موصوفاً بهذه الصفة ، كان ميل قلبه إلى الاستغفار لأبيه شديد ، وكأنّه قيل : إنّ إبراهيم مع جلالة قدره ، ومع كونه موصوفاً بالأوّاهيّة والحليميّة ، منعه الله مِن الاستغفار لأبيه الكافر ، فلأن يكون غيره ممنوعاً من هذا المعنى كان أولى )(٣) .

ـــــــــــــــــــ

(١) صحي البخاري ٦ : ٢٠٢ كتاب التفسير ، سورة الشعراء .

(٢) صحيح البخاري ٤ : ٢٧٧ ـ ٢٧٨ كتاب أحاديث الأنبياء .

(٣) تفسير الرازي ١٦ : ٢١٠ .

٣٦١

وعلى الجملة ، فإنّه ـ بعد العلم بأنّ إبراهيمعليه‌السلام كان ممنوعاً مِن ذا الاستغفار ، وأنّه قد تبرّء منه ـ لا يستريب مسلمٌ في أنّ حديث البخاري موضوع !

ومع قطع النظر عن هذا ، فإنّ الدلائل العقليّة أيضاً قائمة على منع الاستغفار للمشركين ، كما قال الرّازي :

( قوله تعالى :( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ) يحتمل أنْ يكون المعنى : ما ينبغي لهم ذلك فيكون كالوصف ، وأنْ يكون معناه ليس لهم ذلك على معنى النهي .

فالأوّل معناه : أنّ النبوّة والإيمان يمنع من استغفار المشركين ، والثاني معناه : لا يستغفروا ، والأمران متقاربان .

وسبب هذا المنع ما ذكره الله تعالى في قوله :( ....مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) .

وأيضاً : قال :( إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ.... ) والمعنى : أنّه تعالى لمّا أخبر عنهم أنّه يدخلهم النّار فطلب الغفران لهم ، جارِ مجرى طلَب أنْ يخلف الله وعده ووعيده وإنّه لا يجوز ، وأيضاً : لمّا سبق قضاء الله تعالى بأنّه يعذّبهم ، فلو طلبوا غفرانه لصاروا مردودين ، وذلك يوجب نقصان درجة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحطّ مرتبته .

وأيضاً : إنّه تعالى قال :( ...ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ... ) وقال :( ...أأَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) ، فهذا الاستغفار يوجب دخول الخلف في أحد هذين النصّين وأنّه لا يجوز )(١) .

وعلى الجملة ، فإنّ هذا الحديث موضوعٌ باطل ، ولا سبيل إلى إصلاحه بوجهٍ مِن الوجوه .

ولعلّه لذا اضطرّ بعضهم إلى التصرّف في لفظه ، بوضع كلمة ( رجل )

ـــــــــــــــــــ

(١) تفسير الرّازي ١٦ : ٢٠٩ .

٣٦٢

مكان اسم سيّدنا إبراهيمعليه‌السلام ، ما في( فتح الباري ) : ( وفي رواية أيّوب : يلقى رجلٌ أباه يوم القيامة فيقول له : أيّ ابنٍ كنت لك ؟ فيقول : خيرُ ابن ، فيقول : هل أنت مطيعي اليوم ؟ فيقول : نعم ، فيقول : خذ بأزرتي ، فيأخذ بأزرته ، ثمّ ينطلق حتّى يأتي ربّه... )(١) .

ولكنْ لا مناص من الاعتراف ببطلانه... كما عن الحافظ الإسماعيلي وغيره .

قال ابن حجر : ( وقد استشكل الإسماعيلي هذا الحديث مِن أصله ، وطعن في صحّته ، فقال بعد أنْ أخره : هذا حديثٌ في صحّته نظر ، مِن جهة أنّ إبراهيم عالِمٌ أنّ الله لا يُخلف الميعاد ، فكيف يجعل ما بأبيه خزياً له مع علمه بذلك ؟

وقال غيره : هذا الحديث مخالفٌ لظاهر قوله تعالى :( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ.... ) (٢) .

وأمّا محاول ابن حر تأويل هذا الحديث وتوجيهه بقوله :

( والجواب عن ذلك : أنّ أهل التفسير اختلفوا في الوقت الذي تبرّأ إبراهيم فيه من أبيه.

فقيل : كان ذلك في حياة الدنيا لمّا مات آزر مشركاً وهذا الوجه أخرجه الطبري مِن طريق حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عبّاس ، وإسناده صحيح ، وفي رواية : فلمّا مات لم يستغفر له ، ومِن طريق علي بن أب طلحة عن ابن عبّاس نحوه قال : استغفر له ما كان حيّاً ، فلمّا مات أمسك ، وأورد أيضاً مِن طريق مجاهد وقتادة وعُمر بن دينار نحو ذلك .

ـــــــــــــــــــ

(١) فتح الباري ـ شرح صحيح البخاري ٨ : ٤٠٥ .

(٢) فتح الباري ٨ : ٤٠٦ .

٣٦٣

وقيل : إنّما تبرّأ منه يوم القيامة لمّا أيس منه حين مُسخ ، على ما صرّح به في رواية ابن المنذر التي أشرت إليها ، وهذا أخرجه الطبري أيضاً من طريق عبد الملك بن أبي سليمان ، سمعت سعيد بن جُبير يقول : إنّ إبراهيم يقول يوم القيامة : ربّ والدي ، ربّ والدي ، فإذا كانت الثالثة أخذ بيده فيلتفت إليه وهو غضبان فيتبرّ منه ، ومن طريق عبدي بن عمير قال : يقول إبراهيم لأبيه : إنّي كنت آمرك في الدنيا فتعيني ، ولست تاركك اليوم ، فخذ بحقوتي ، فيأخذ بضبعيه فيمسخ ضبعاً ، فإذا رآه إبراهيم مسخ تبرّء منه .

ويمكن المع بين القولين : بأنّه تبرّء منه لمّا مات مشركاً ، فترك الاستغفار ، لكن لمّا رآه يوم القيامة أدركته الرأفة والرقّة فسأل فيه ، فلا رآه مُسخ يئس منه حينئذ ، وتبرّأ منه تبرّياً أبديّاً .

وقيل: إنّ إبراهيم لم يتيقّن موته على الكفر ، لجواز أنْ يكون آمن في نفسه ولم يطلع إبراهيم على ذلك ، ويكون وقت تبريته منه بعد الحالة التي وقعت في هذا الحديث )(١) .

فسقوطها واضح لدى كلّ عاقلٍ فضلاً عن الفاضل .

لأنّ حاصل الجواب الأوّل هو بيان الاختلاف في وقت تبرّي إبراهيم مِن آزر ، وأيّ ربطٍ لهذا بأصل الإشكال ؟ اللّهمّ إلاّ أنْ يُريد ابن حجَر أنّه بناءً على القول بكون التبرّي في يوم القيامة ، فلا منافاة بين ذلك وبين الآية المباركة( وَمَا كَانَ... ) ، لكنّه وجهٌ سخيف جدّاً ، وذلك لأنّه :

أوّلاً : تأويلٌ للآية( ...فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ.... ) الظاهرة في وقوع ذلك في الزمان الماضي ، ورفع اليد عن الظاهر بلا دليلٍ ممنوعٌ ، كما هو معلوم .

وثانياً : إذا كان التبرّي في دار الدنيا ، كما هو مفاد رواياتٍ متعدّدة ، وقد صحّح ابن حجر نفسُه بعضها ، فالتنافي بين الشفاعة والآية المباركة لازمٌ لا محالة .

وثالثاً : على فرض ثبوت الاختلاف في وقت التبرّي ، ورجحان القول الثاني على الأوّل ، يندفع الإشكال المنقول عن غير الإسماعيلي ، أمّا إشكال الإسماعيلي فلا يندفع بما ذكر .

ورابعاً : حمل التبرّي على يوم القيامة ، يوجب الاختلاف في سياق الآية المباركة ؛ لأنّ الغرض من ذكر القصّة إفادة أنّ إبراهيمعليه‌السلام قد مُنع من الاستغفار لأهل

ـــــــــــــــــــ

(١) فتح الباري ٨ : ٤٠٦ .

٣٦٤

الشرك ، وأنّه قد تبرّأ من أبيه مع كونه أوّاهاً حليماً ، فيكون غيره من سائر المؤمنين ممنوعاً من ذلك بالأولويّة.. وهذا ما فهمه الفخر الرّازي أيضاً إذ قال :

( اعلم أنّه تعالى إنّما وصفه بهذين الوصفين في هذا المقام ؛ لأنّه تعالى وصفه بشدّةِ الرقّة والشفقة والخوف والوجَل ، ومَن كان كذلك فإنّه تعظم رقّته على أبيه وأولاده ، فبيّن تعالى أنّه مع هذه العادة تبرّ مِن أبيه وغلظ قلبه عليه ، لما ظهر له إصراره على الكفر ، فإنّهم بهذا المعنى أولى ، ولذلك وصفه أيضاً بأنّه حليم ؛ لأنّ أحد أسباب الحِلم رقّة القلب وشدّة العطف ؛ لأنّ المرء إذا كان حاله هكذا اشتدّ حلمه عن الغضب )(١) .

وعلى هذا ، فلو كان المراد التبرّي في الآخرة ، فأين تكون أولويّة أُمّة الإسلام بذلك ؟

هذا ، وكأنّ ابن حجر عالم بضعف هذا الجواب ، فاضطرّ إلى أنْ يقول : ( ولا يُمكن الجواب... ) لكنّه غير مطمئن بهذا الجواب ، ولذا ذكره بلفظ ( يُمكن ) .

كما أنّ السيوطي قد اقتصر على هذا الجواب إذ قال في كتاب( التوشيح ) : ( واستشكل سؤال إبراهيم ذلك مع علمه بأنّه تعالى لا يُخلف الميعاد ، في إدخال الكافرين النار وأُجيب : بأنّه لمّا رآه أدركته الرأفة والرقّة ، فلم يستطع إلاّ أنْ يسأل فيه )(٢) .

لكن هذا الجواب ـ في الحقيقة ـ التزامٌ بالإشكال ؛ لأنّه بيان للداعي إلى الاستغفار ، وهو الرحمة والرأفة ، فيعود الإشكال بأنّه كيف تحقّقت منه هذه الرأفة وصدرت هذه الرحمة ، مع علمه بعدم الجواز والحرمة ؟ اللّهمّ إلاّ أنْ يقولوا : بأنّ الرحمة والرأفة تُجوّز طلب ما لا يجوز ، وهذا بديهي البطلان وضحكة للصبيان ، لا يقول به عاقلٌ بل جاهلٌ فضلاً عن فاضل ! وأمّا قول ابن حجر : ( وقيل : إنّ إبراهيم... ) .

فإنْ أراد مِن ذكره بيان ضعفه ، فلا كلام فيه... وإنْ أراد دفع الإشكال به ، فهو يُنافي الأخبار الصحيحة الواردة في عِلم سيّدنا إبراهيم بموت آزر على الكفر ، وقد أورد ابن حجر بعضها ، وفي( الدر المنثور ) :

( أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله ( ..فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ.. ) (٣) حين مات وعلم أنّ التوبة قد انقطعت منه .

ـــــــــــــــــــ

(١) تفسير الرّازي ١٦ : ٢١١ .

(٢) التوشيح في شرح الصحيح ٤ : ٢٥٠ .

(٣) سورة التوبة ٩ : ١١٤ .

٣٦٥

وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وأبو بكر الشافعي في فوائده والضياء في المختارة ، عن ابن عبّاس قال : لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتّى مات( ...فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ.... ) يقول : لمّا مات على كفره )(١) .

حديث الصلاة على ابن أبي سلول

( ومنها ) ما أخرجه ـ مسلم أيضاً ـ في كتاب التفسير : ( عن ابن عمر قال : لمّا توفّي عبد الله بن أُبيّ ، جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسأله أنْ يعطيه قميصه يُكفِّن فيه أباه ، فأعطاه ، ثمّ سأله أنْ يصلّي عليه .

فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليصلّي عليه .

فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله فقال : يا رسول الله ، تصلّي عليه وقد نهاك ربّك أنْ تصلّي عليه ؟

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّما خيّرني الله فقال : ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً.... ) ) وسأزيده على السبعين .

قال : إنّه منافق !

قال : فصلّى عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال : فأنزل الله( وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ

ـــــــــــــــــــ

(١) الدر المنثور ٤ : ٣٠٠ .

٣٦٦

قَبْرِهِ .. ) (١) .

وهذا الحديث ـ الذي وضعوه فضيلةً لعمر بن الخطّاب ـ مكذوبٌ حتماً وموضوعٌ قطعاً وقد نصّ ـ والحمد لله ـ على ذلك غير واحدٍ من أئمّة القوم :

كالغزالي بعد ذكر أخبار : ( هذا مزيّف ، فإنّ هذه الوقائع لو جمعت ونقلت دفعةً واحدةً لم تُورث العلم ، ولي ذلك كوقائع حاتم وعليّ مع كثرتها .

على أنّ ما نقل في آية الاستغفار كذِب قطعاً ، إذ الغرض منه التناهي في تحقيق اليأس مَن المغفرة ، فلا يظنّ برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذهول عنه )(٢) .

وكالباقلاّني وإمام الحرمين في جماعةٍ ، كما ذكر شرّاح البخاري :

قال القسطلاني : ( وقد استشكل فهم التخيير من الآية على كثير ، وسبق جواب الزمخشري عن ذلك ، وقال صاحب الانتصاف : مفهوم الآية زلّت فيه الأقدام ، حتّى أنكر القاضي أبو بكر الباقلاّني صحّة الحديث وقال : لا يجوز أنْ يقبل هذا ، ولا يصحّ أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاله .

وقال إمام الحرمين في مختصره : هذا الحديث غير مخرّج في الصحيح وقال في البرهان : لا يصحّحه أهل الحديث وقال الغزالي في المستصفى : الأظهر أنّ هذا الخبر غير صحيح وقال الداودي الشارح : هذا الحديث غير محفوظ ، وهذا عجيب... )(٣) .

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ٦ : ١٣١ .

(٢) المنخول في علم الأُصول : ٢١٢ .

(٣) إرشاد الساري إلى صحيح البخاري ٧ : ١٥٥ .

٣٦٧

وقال ابن حجر : ( قال ابن المنير : مفهوم الآية زلّت فيه الأقدام ، حتّى أنكر القاضي أبو بكر صحّة الحديث وقال : لا يجوز أنْ يقبل هذا ولا يصحّ أنّ الرسول قاله انتهى .

ولفظ القاضي أبي بكر الباقلاّني في التقريب : هذا الحديث مِن أخبار الآحاد التي لا يُعلم ثبوتها ، وقال إمامُ الحرمين في مختصره : هذا الحديث غير مُخرّج في الصحيح ، وقال في البرهان : لا يصحّحه أهلُ الحديث ، وقال الغزالي في المستصفى : الأظهر أنّ هذا الخبر غير صحيح ، وقال الداودي الشارح : هذا الحديث غير محفوظ )(١) .

حديث : كذِب إبراهيم ثلاث كِذبات

( ومنها ) ما أُخرج في الكتابين من أنّ إبراهيمعليه‌السلام كذَب ثلاث كذبات ، ففي( الجمع بين الصحيحين ) :

( عن محمّد عن أبي هريرة : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( لم يكذِب إبراهيم النبيّ قط ، إلاّ ثلاث كِذبات ، ثنتين في ذات الله : قوله : ( إِنِّي سَقِيمٌ ) وقوله : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) ، وواحدة في شأن سارة ، فإنّه قدِم أرض جبّار ومعه سارة ـ وكانت أحسن الناس ـ فقال لها : إنّ هذا الجبّار إنْ يعلم أنّك امرأتي يغلبني عليك ، فإنْ سألك فأخبريه أنّك أُختي في الإسلام ) (٢) .

وقد تكلّم الفخر الرّازي على هذا الحديث وأبطله ، وعبَّر عن رواته بالحشويّة ، فانظر إلى نصّ كلامه حيث قال :

( واعلم أنّ بعض الحشويّة روى عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال :

ـــــــــــــــــــ

(١) فتح الباري ـ شرح صحيح البخاري ٨ : ٢٧٢ .

(٢) الجمع بين الصحيحين ٣ : ١٨٤ / ٢٤١٥ .

٣٦٨

 ( ما كذب إبراهيم إلاّ ثلاث كذبات ) .

فقلت : الأولى أنْ لا يقبل مثل هذه الأخبار .

فقال ـ على طريق الاستنكار ـ : إنْ لم نقبله لزمَنا تكذيب الرواة .

فقلت له : يا مسكين ، إنْ قبلناه لزمنا الحُكم بتكذيب إبراهيمعليه‌السلام ، وإنْ رددناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة ، ولا شكّ أنّ صَون إبراهيم عن الكذِب أولى مِن صون طائفة من المجاهيل عن الكذِب )(١) .

هذا ، وقد أورد عمر بن عادل كلام الرّازي هذا وارتضاه(٢) .

حديث : أنّ نبيّاً أحرق بيت النمل

( ومنها ) ما أخرجه البخاري مِن أنّ نبيّاً من الأنبياء أحرق بيت النمل بسبب أنّ نملةً لدغته ! قال :

( حدّثنا إسماعيل ، ثني مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : نزل نبيّ من الأنبياء تحت شجرة ، فلدغته نملة ، فأمر بجهازه فأُخرج من تحتها ، ثمّ أمر ببيتها فأُحرِق بالنار ، فأوحى الله إليه : فهلاّ نملة واحدة !! )(٣) .

ويكفي في إبطال هذا الحديث كلام الفخر الرّازي ، الذي أورده الشاه عبد العزيز الدهلوي واستحسنه وارتضاه حيث قال : ( وللإمام فخر الدين الرّازي في هذا المقام كلام يصدّقه العقل ، ويقع في القلب إذ قال : إنّ الروافض عندي

ـــــــــــــــــــ

(١) تفسير الرّازي ٢٦ : ١٤٨ .

(٢) اللباب في علوم الكتاب ١٦ : ٣٢٤ .

(٣) صحيح البخاري ٤ : ٢٦٢ ، كتاب بدء الخلق .

٣٦٩

أقلّ عقلاً وفهماً من نملة سليمان ؛ لأنّ النملة قد خاطبت رفيقاتها قائلةً :( يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) فهي قد علمت أنّ جنود سليمان قد أثّرت فيهم المعاشرة معه فكانوا مهذّبين ببركة صحبته ، حتّى أنّهم لا يحطّمون النمل عن علمٍ وعمد ، ولا يظلمون الضعيف عن قصدٍ ، لكنّ الروافض لم يفهموا أنّ صحبة النبيّ الخاتم ـ وهو أفضل الأنبياء ـ تؤثّر في صحابته الملازمين له على الدّوام ، فلا يرتكبون الخيانة والشرّ ، فكيف ينسبون إليهم الظلم لبنت رسول الله وصهره وولده ، وإحراق بيتهم عليهم ، والاستيلاء على أموالهم ، وإيذائهم بشتّى أنوا الأذى ؟ )(١) .

وذلك : لأنّ البخاري وسائر مَن يقول بصحّة هذا الحديث سيكونون أقلّ فهماً مِن النملة ؛ لأنّهم بتصديقهم هذا الحديث يجوّزون الظلم على النبيّ المعصوم !!

حديث أمر النبيّ بالأكل ممّا لم يذكر اسم الله عليه

( ومنها ) ما أخرجه البخاري في كتاب الذبائح قال :

( حدّثنا معلّى بن أسد ، حدّثنا عبد العزيز بن المختار قال : حدّثنا موسى بن عقبة قال : أخبرني سالم أنّه سمِع عبد الله يحدّث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّه لقي زيد بن عمرو بن فضيل بأسفل بلدح ـ وذاك قبل أنْ ينزل على رسول الله الوحي ـ فقدّم إليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سُفرةً فيها لحم ، فأبى أنْ يأكل منها ، ثمّ قال : إنّي لا آكل ممّا تذبحون على أنصباكم ، ولا

ـــــــــــــــــــ

(١) مختصر التحفة الاثنا عشريّة : ١٩٣ ـ باب الإمامة .

٣٧٠

نأكل إلاّ ممّا ذكر اسم الله عليه )(١) .

فهل يشكّ المسلم في كذب هذا الحديث ؟

والعجب مِن واضعه ، فلم يستح أنْ ينسب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر الرجل بالأكل ممّا لم يذكر اسم الله عليه ، في حين ينسب إلى الرجل الإباء عن الأكل ممّا لم يذكر اسم الله عليه ، فيكون أورع وأفضل من النبيّ ، والعياذ بالله ؟! وكيف يصدّقون بمثل هذا على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حين يبذلون كلّ جهودهم لتبرئه أبي بكر مِن شرب الخمر قبل التحريم ، ويكذّبون الخبر في ذلك، ويقولون : قد أعاذ الله الصدّيقين من فعل الخنا وأقوال أهله وإنْ كان قبل التحريم ، كما في ( نوادر الأصول ) للحكيم الترمذي وسيجيء عن قريب ؟ ألم يكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الصدّيقين ؟

تصرّف بعضهم في لفظ الحديث !

لكنّ ابن روزبهان التجأ إلى الكذب والافتراء على العلاّمة الحلّي ، واضطرّ إلى وضع تتمّةٍ لهذا الحديث الموضوع ، وذلك أنّه قال في الجواب عن كلام العلاّمة الحليّ :

( أقول : مِن غرائب ما يستدلّ به على ترك أمانة هذا الرجل وعدم الاعتماد والوثوق على نقله : رواية هذا الحديث ، فقد روى بعض الحديث ليستدلّ به على مطلوبه وهو الطعن في رواية الصحاح ، وما ذكر تمامه ، وتمام الحديث : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا قال زيد بن عمرو بن نفيل

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ٧ : ١٦٥ .

٣٧١

هذا الكلام قال : وإنّا أيضاً لا نأكل مِن ذبيحتهم وممّا لم يذكر عليه اسم الله تعالى ، فأكلا معاً .

وهذا الرجل لم يذكر هذه التتمّة ليتمكّن من الطعن في الرواية نسأل الله العصمة مِن التعصّب فإنّه بئس الضجيع )(١) .

أقول :

لكنَّ هذا الذي وصَف به العلاّمة الحلّي يرجع إليه ، وهو المتّصف به ؛ لأنّ الحديث في كتاب الذبائح من( صحيح البخاري ) كما تقدّم ، وهكذا نقله العلاّمة الحلّي ، ومن شاء فليراجع أصل كتاب البخاري !!

وقد أخرج البخاري هذا الحديث الموضوع في كتاب المناقب ، وليس فيه التتمّة التي زعمها ابن روزبهان ، وهذه عبارته : ( باب حديث زيد بن عمرو ابن نفيل ، حدّثني محمّد بن أبي بكر قال : حدّثنا سالم بن عبد الله بن عمر : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح ، قبل أنْ ينزل على النبيّ الوحي ، فقدّمت إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سفرة فأبى أنْ يأكل منها ، ثمّ قال زيد : إنّي لست آكل ممّا تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلاّ ما ذكر اسم الله عليه ، وإنّ زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول : الشاة خلقها الله ، وأنزل لها مِن السماء الماء وأنبت لها مِن الأرض ، ثمّ تذبحونها على غير اسم الله ، إنكاراً لذلك وإعظاماً له )(٢) .

فقد تبيّن أنّ العلاّمة الحلّي رحمه الله لم يخن في نقل الحديث ، فلم يزد عليه ولم يحذف منه شيئاً ، بل ابن روزوبهان قد كذب في دعوى التتمّة ،

ـــــــــــــــــــ

(١) إبطال الباطل ـ مخطوط .

(٢) صحيح البخاري ٥ : ١٢٤.

٣٧٢

لغرض الدفاع عن البخاري وكتابه ، فحقّ أنْ يقال في جوابه : إنّ من غرائب ما يستدلّ به على ترك أمانة هذا الرجل وعدم الاعتماد والوثوق على نقله : رواية تتمّة مخترعة لهذا الحديث ، وقد اخترعها ليستدلّ بها على مطلوبه وهو دفع الطعن في رواية الصحاح ، نسأل الله العصمة من التعصّب فإنّه بئس الضجيع .

وظهر أيضاً : أنّهم يحاولون التغطية على شناعة بعض أحاديثهم بالزيادة فيه أو النقيصة عنه ، على حسب ما عرض لهم من ضيق الخناق .

وكما تصرّف ابن روزبهان في الحديث بدعوى الزيادة كما تقدّم ، فقد تصرّف محمّد بن يوسف الصالحي الدمشقي في لفظه بشكلٍ آخر ، فقد قال في( سبُل الهدى والرشاد ) :

( روى البخاري والبيهقي من طريق موسى بن عقبة ، عن سالم بن عبد الله ابن عمر عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقي زيد ابن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح ، قبل أنْ ينزل عليه الوحي ، فقدّمت إلى رسول الله سفرة فيها لحم ، فأبى أن يأكل منها ، ثمّ قال لزيد : إنّي لست آكل ممّا تذبحون على أنصباكم ، ولا آكل إلاّ ما ذكر اسم الله عليه ، وإنّ زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول : الشاة خلقها الله تعالى وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض ، ثمّ تذبحونها على غير اسم الله تعالى ، إنكاراً لذلك وإعظاماً له )(١) .

لقد التفت هذا الرجل إلى شناعة لفظ هذا الحديث ، فلم يجد بُدّاً من أنْ يضيف اللاّم الجارة إلى لفظ زيد ، فصارت الجملة : ( ثمّ قال لزيد ) ليكون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو فاعل ( قال ) ، وتكون جملة : ( إنّي لست

ـــــــــــــــــــ

(١) سبُل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ٢ : ١٨٢ .

٣٧٣

آكل ) مقول قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... والحال أنّ لفظ البخاري في كتاب المناقب من ( صحيحه ) خالٍ من اللام والجملة هي : ( ثمّ قال زيد ) فكان زيد الفاعل للفعل ( قال ) وهو القائل : ( إنّي لست آكل ) !

وأمّا الضمير في ( أبى ) وإنْ احتمل ـ في رواية كتاب المناقب ـ عوده إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكنّه غير مُحتمل في لفظ رواية كتاب الذبائح ؛ لأنّ الحدث هناك بلفظ ( فقدّم ) ـ وكذلك هو في رواية الجرجاني والإسماعيلي كما سيأتي ـ وعليه ، فلا يكون الضمير في ( أبى ) عائداً على النبيّ ، بل يعود إلى زيد...

وسيأتي أنّ أحمد بن حنبل وغيره مِن الأئمّة ينسبون أكل ذبيحة الأنصاب في هذه القصّة إلى نفس رسول الله... فيكون الضمير في ( أبى ) في حديث كتاب المناقب أيضاً عائداً على ( زيد ) ؛ لأنّ الحديث يفسّر بعضه بعضاً .

ومن هنا ، فقد أسند ابن حجر والزركشي والسهيلي والقسطلاني وغيرهم من شرّاح الحديث الفعل ( أبى ) إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ...

والحاصل : إنّ القضية واحدة ، والحديث واحد ، فما لا يكون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الفاعل لِلَفظ ( أبى ) في حديث كتاب الذبائح ، كذلك لا يكون هو الفاعل له في لفظ كتاب المناقب... وإلاّ لزِم تكذيب حديث كتاب الذبائح بحديث كتاب المناقب ، فيكون الإشكال أقوى والإفحام آكد .

توجيه البعض معنى الحديث

وكيف كان ، فلا دلالة في حديث البخاري على إباء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الأكل من ذبيحة الأصنام ، ولذا اعترض ابن حجَر على ابن بطّال لمّا ادّعى ذلك ، وردّ عليه بعدم الوقوف على ذلك في روايةٍ من روايات القصّة... وهذا نصّ كلام ابن حجَر بشرح الحديث في كتاب المناقب :

( قوله : فقدّمت بضم القاف قوله : إلى النبيّ ، كذا الأكثر ، وفي رواية الجرجاني : فقدّم إليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سفرة قال عياض : الصّواب الأوّل قلت : رواية الإسماعيلي توافق رواية الجرجاني ، ولذا أخرجه الزبير بن بكار والفاكهي وغيرهما .

٣٧٤

وقال ابن بطّال : كانت السفرة لقريش ، قدّموها للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأبى أنْ يأكل منها ، فقدّمها النبيّ لزيد بن عمرو بن نفيل ، فأبى أنْ يأكل منها ، وقال مخاطباً لقريش الذين قدّموها أوّلاً : إنّا لا نأكل ما ذبح على أنصابكم انتهى .

وما قاله يحتمل ، ولكنْ لا أدري من أين له الجزم بذلك ؟ فإنّي لم أقف عليه في روايةٍ ، وقد تبعه ابن المنير في ذلك )(١) .

أقول :

لقد أجاد ابن حجر في الرّ على ابن بطّال ، لكنّ قوله ( وما قاله يحتمل ) باطل جدّاً ، فقد نقل ابن حجَر ـ كما سيأتي ـ عن أكابر الأئمّة تصريحهم بأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ والعياذ بالله ـ قد أكل من ذبيحة الأصنام ، ودعا زيداً إلى الأكل منها ، فأبى زيد عن ذلك... فلا أساس لقول ابن بطّال من الصحّة أصلاً .

على أنّ عبارة ابن بطّال صريحة في أنّ النبيّ ـ بعد أنْ أبى عن الأكل من تلك الذبيحة ، دعا زيداً إلى الأكل منها وهذا من القبح والشناعة بمكان ، إذ كيف يحتمل أنّ النبيّ ـ مع ما عليه من الصيانة والأمانة والأخلاق الكريمة والأوصاف الحميدة ـ يأبى عن أمرٍ ثمّ يدعو غيره إليه بلا ضرورة ، فيواجه بالإباء ويُجاب بما يقتضي الطعن والملامة ؟ كلاّ وحاشا ، لا يُجوّز ذلك ذو دينٍ وعقل...

التزام بعضهم بمفاده الباطل

إلاّ أنّ أكثر المحقّقين منهم لم يسلكوا سبيل الخيانة والتحريف ، كما صنع ابن روزبهان وصاحب سُبل الهدى ، بل استحوذ عليهم حبّ البخاري ، فصدّقوا بأكاذيبه وافتراءاته ، وسلّموا لغرائب مجعولاته وهفَواته ، فترى الدّاودي يذهب إلى أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأكل مِن ذبائح المشركين ، لكونه جاهلاً بحرمة الأكل منها ، أمّا زيد فقد علِم بذلك فلم يأكل !! قال ابن حجَر :

ـــــــــــــــــــ

(١) فتح الباري ـ رح صحيح البخاري ٧ : ١١٢ .

٣٧٥

 ( قال الداودي : كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل البعث يجانب المشركين في عباداتهم ، ولكنْ لم يكن يعلم ما يتعلَّق بأمر الذبائح ، وكان زيد قد علم ذلك من أهل الكتاب الذين لقيهم )(١) .

فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ والعياذ بالله ـ يأكل من ذبائح أهل الكتاب عن جهلٍ بحكمها ، وقد علم بذلك أهل الكتاب ، وتعلّمه منهم زيد بن عمرو ، ولم يأكل... فانظر كيف يطعن في رسول الله ويحطّ عليه ؟ وكيف يجوّز المؤمن الدّين في حقّ الرسول الأمين ، المؤيّد بالتأييد الإلهي والمسدّد بالمدد الربّاني ، أنْ يجهل حكماً مِن الأحكام الشرعيّة ، ويرتكب شيئاً من المحرّمات الإلهيّة ، ويدعو غيره لارتكابه ؟

تكلّفات الآخرين في حلّ العقدة

ومن القوم مَن يأبى تكذيب حديث البخاري ، ويستحيي من الإلتزام بمدلوله ومعناه الظاهر بل الصريح فيه ، فأُشكل عليه الأمر ، وجعل يتكلَّف للخروج من المأزق !

قال السهيلي ـ بعد نقل حديث البخاري في كتاب الذبائح ـ :

( وفيه سؤال : يقال : كيف وفّق الله زيداً إلى ترك أكل ما ذُبح على النصُب وما لم يُذكَر اسم الله عليه ، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أولى بهذه الفضيلة في الجاهليّة ، لِما ثبت مِن عصمة الله له ؟

فالجواب من وجهين :

أحدهما : إنّه ليس في الحديث حين لقيه ببلدح ، فقدّمت إليه السفرة ، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكل منها ، وإنّما في الحديث إنّ زيداً قال حين قدّمت إليه السفرة : لا آكل ممّا لم يذكر اسم الله عليه .

الجواب الثاني : إنّ زيداً إنّما فعل ذلك برأيٍ رآه لا بشرعٍ مُتقدّم ، وإنّما تقّدم شرع إبراهيم بتحريم الميتة لا بتحريم ما ذُبح لغير الله ، وإنّما نزل تحريم ذلك في الإسلام ، وبعض الأُصوليّين يقولون : الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة .

ـــــــــــــــــــ

(١) فتح الباري ـ شرح صحيح البخاري ٧ : ١١٣ .

٣٧٦

فإن قلنا : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأكل ممّا ذبح على النصُب ، فإنّما فعل أمراً مُباحاً وإنْ كان لا يأكل منها ، فلا إشكال ، وإنْ قلنا أيضاً : إنّها ليست على الإباحة ولا على التحريم ، وهو الصحيح ، فالذبائح خاصّة لها أصلٌ في تحليل الشرع المتقدّم ، فالشاة والبعير ونحو ذلك ممّا أحلّهالله تعالى في دين مَن كان قبلنا ، ولم يقدح في ذلك التحليل المتقدّم ما ابتدعوه ، حتّى جاء الإسلام وأنزل الله سبحانه : ( وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ.... ) ، ألا ترى كيف بقيت ذبائح أهل الكتاب على أصل التحليل بالشرع المتقدّم ، ولم يقدح في التحليل ما أحدثوه من الكفر وعبادة الصلبان ، فكذلك كان ما ذبحه أهل الأوثان محلّلاً بالشرع المتقدّم حتّى خصّه القرآن بالتحريم ) (١) .

أقول :

وهذا الكلام في غاية السخافة والركّة ، فإنّ مناط الإشكال ليس على مجرّد أكل ذبيحة الأصنام ، بل إنّ تجويز أكلها ودعوة الغير إلى ذلك قبيحٌ جدّاً ، فحصر الإشكال في الأكل دليلٌ على عدم التدبّر وقلّة التأمّل ، وكيف يُصدّق العاقل الديّن أنْ لا يتنزّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمّا تنزّه منه زيد ، وهو المعصوم بالعصمة الإلهيّة ـ بالإجماع القطعي ـ وأعقل الناس طُرّاً بلا خلاف :

قال القاضي عياض : ( وأمّا وفور عقله ، وذكاء لبّه ، وقوّة حواسّه ، وفصاحة لسانه ، واعتدال حركاته ، وحسن شمائله ، فلا مِرية أنّه كان أعقل الناس وأذكاهم ، ومَن تأمّل تدبيره أمر بواطن الخلْق وظواهرهم وسياسة العامّة والخاصّة ، مع عجيب شمائله وبديع سيره ـ فضلاً عمّا أفاضه مِن العلم وقدّره الشرع ، دون تعلّمٍ سَبَقَ ولا ممارسةٍ تقدّمت ولا مطالعة للكتب منه ـ لم يَمْتَرِ في رجحان عقله وثقوب فهمه لأوّل بديهة ، وهذا ما لا يحتاج إلى تقريرٍ لتحقّقه .

ـــــــــــــــــــ

(١) الروض الأنف ٢: ٣٦٠ ـ ٣٦٣.

٣٧٧

وقد قال وهب بن مُنبِّه : قرأت في أحد وسبعين كتاباً ، فوجدت فيجميعها أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرجح الناس عقلاً وأفضلهم رأياً وفي رواية أُخرى : فوجدت في جميعها أنّ الله تعالى لم يعطِ جميع الناس مِن بدء الدنيا إلى انقضائها مِن العقل في جنب عقله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلاّ كحبّة رملٍ من رمال الدنيا ) (١) .

فأيّ عاقلٍِ يقبل كلام السهيلي في حقّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع هذا المقام في العصمة والعقل والسداد ؟

على أنّ أكابر القوم وأئمّتهم يصرّحون بأكل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مِن ذبيحة الأصنام بالفعل .

يقول ابن حجَر : ( وقد وقع في حديث سعيد بن زيد الذي قدّمته ، وهو عند أحمد : فكان زيد يقول : عذت بما عاذ إبراهيم ، ثمّ يخرّ ساجداً للكعبة ، قال : فمرّ بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزيد بن حارثة وهما يأكلان من سفرةٍ لهما ، فدعياه ، قال : يا ابن أخي لا آكل ممّا ذُبح على النُصب ، قال : فما رُؤي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأكل ممّا ذُبح على النُصب من يومه ذلك .

وفي حديث زيد بن حارثة عند أبي يعلى والبزار وغيرهما قال : خرجت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً من مكّة وهو مردفي ، فذبحنا شاةً على بعض الأنصاب ، فأنضجناها ، فلقينا زيد بن عمرو ، فذكر الحديث مطوّلاً وفيه : فقال زيد : إنّي لا آكل ممّا لم يُذكر اسم الله عليه )(٢) .

فهذا حديث أحمد وغيره مِن الأئمّة الأعلام... فأيّ فائدةٍ في كلام السهيلي ؟

ـــــــــــــــــــ

(١) الشفا بتعريف حقوق المصطفى ١ : ١٦١ ـ ١٦٢ .

(٢) فتح الباري ـ شرح صحيح البخاري ٧ : ١١٣ .

٣٧٨

على أنّ ما ادّعاه ، مِن عدم حرمة أكل ما ذُبِح لغير الله في شريعة سيّدنا إبراهيمعليه‌السلام ، فكذِبٌ صِرف ، لكنّ القوم يرتكبونه ، حمايةً لأسلافهم وخرافاتهم !!

وقد كان مِن فضل الله أنْ ردّ الزركشي دعوى السهيلي هذه ، ونصَّ على حرمة ما ذُبِح لغير الله في الشرعيّة الإبراهيميّة ، إذ قال في( التنقيح ) بشرح الحديث مِن كتاب المناقب :

( فقدّمت له سفرة ، فأبى أنْ يأكل .

إنْ قيل : كان نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولى بهذه الفضيلة .

قلنا : ليس في الحديث أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكل مِن السّفرة .

وأجاب السهيلي : بأنّ زيداً إنّما قال ذلك برأيٍ منه ، لا بشرعٍ متقدّم ، وفي شرع إبراهيم تحريم الميتة لا تحريم ما ذُبِح لغير الله ، وإنّما نزل تحريم ذلك في الإسلام .

وهذا الذي قاله ضعيف ، بل كان في شريعة الخليل تحريم ما ذُبِح لغير الله ، وقد كان عدوّ الأصنام ، والله تعالى يقول :( ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً .... ) (١) )(٢) .

فالحمد لله على أنْ جرت كلمة الحقّ هذه على لسان الزركشي ، وظهر أنّ دعوى السهيلي كذِبٌ وبهتانٌ مبين ، قصد به الحماية على أسلافه الضالّين .

وجاء الخطّابي فسلك مسلكاً آخر... ذكره ابن حجَر حيث قال : ( قوله : على أنصابكم بالمهملة ، جمع نُصُب بضمّتين ، وهي أحجار

ـــــــــــــــــــ

(١) سورة النحل ١٩ : ١٢٣ .

(٢) التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح ٢ : ٧٩٧ .

٣٧٩

كانت حول الكعبة يذبحون عليها للأصنام .

قال الخطابي: كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يأكل ممّا يذبحون عليها للأصنام ، ويأكل ما عدا ذلك ، وإنْ كانوا لا يذكرون اسم الله عليه ؛ لأنّ الشرع لم يكن نزل بعد ، بل لم ينزل الشرع بمنع أكل ما لم يذكر اسم الله عليه إلاّ بعد البعث بمدّة طويلة )(١) .

أقول :

لكنّ هذا الكلام شعري خطابي ، ولا يرفع الإشكال عن حديث البخاري ؛ لأنّه صريح في أنّ اللّحم الذي أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زيداً بالأكل منه كان مذبوحاً على النُصُب ، حتّى أنّ زيداً قال للنبيّ : إنّي لست آكل ممّا تذبحون على أنصابكم ومن هنا أورد الخباري ، هذا الحديث في كتاب الذبائح ، باب ما ذبح على النصب والأصنام .

وأيضاً ، فما أخرجه أحمد والبزار وأبو يعلى ، ونقله ابن حجر العسقلاني ، صريح في أنّ ذلك اللّحم كان مذبوحاً على النُصُب .

على أنّ القول بأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأكل ممّا لم يذكر اسم الله عليه ، باطلٌ كذلك ، لما تقدَّم في كلام الزركشي مِن تحريم ما ذبح لغير الله في شريعة سيّدنا الخليلعليه‌السلام ، فكيف ينسب ذلك إلى رسول الله ؟

فظهر أنّ كلام الخطابي أيضاً ضرب في بارد الحديد ، لا ينفع أصلاً في الخلاص عن الإشكال الشديد ، وكيف يجوّز ذو عقلٍ وفهمٍ سديد أنّ البشير النذير أكل مِما ذُبِح على غير اسم الملك الحميد ؟ فالله يعصمنا بفضله مِن اتّباع الشيطان المريد .

ـــــــــــــــــــ

(١) فتح الباري ٧ : ١١٢ ـ ١١٣ .

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456