استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

استخراج المرام من استقصاء الإفحام13%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 456

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 456 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 227596 / تحميل: 8347
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

وكان أبو الخطّاب المذكور مِن أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء ، مُتقناً لِعلم الحديث النبويّ وما يتعلّق به ، عارفاً بالنحو واللغة وأيّام العرب وأشعارها ، أكثرَ بطلب الحديث في أكثر بلاد الأندلس الإسلاميّة ، ولَقِي بها علماءها ومشائخها ، ثمّ رحل منها إلى برّ العدوة ، ودخل مراكش واجتمع بفضلائها ، ثمّ ارتحل إلى افريقيّة ومنها إلى الديار المصريّة ، ثمّ إلى الشام والشرق وإلى العراق .

وسمع ببغداد مِن بعض أصحاب ابن الحصين ، وسمع بواسط من أبي الفتح محمّد بن أحمد بن المندائي ، ودخل إلى عراق العجم وخراسان وما والاها ومازندران ، كلّ ذلك في طلب الحديث والاجتماع بأئمّة الحديث ، وأخذ عنهم ، وهو في تلك الحال يُؤخذ عنه ويُستفاد منه ، وسمِع بأصبهان مِن أبي جعفر الصيدلاني ، وبنيسابور مِن منصور ابن عبد المنعم الفراوي )(١) .

وقال السيوطي في( بغية الوعاة ) :

( عمر بن الحسن بن عليّ بن محمّد بن الجميل بن فرح بن دحية الكلْبي الأندلسي البلنسي الحافظ ، أبو الخطّاب ، كان من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء ، متقناً لِعِلْم الحديث وما يتعلّق به ، عارفاً بالنحو واللغة وأيّام العرب وأشعارها ، سمِع الحديث ورحل ، وله بنى الكامل دار الحديث الكامليّة بالقاهرة ، وجعله شيخاً ، حدّث عنه ابن الصلاح وغيره ، ومات ليلة الثلاثاء رابع عشر ربيع الأوّل سنة ثلاثٍ وثلاثينَ وستّمِئة )(٢) .

وقال في كتابه( حسن المحاضرة ) :

ـــــــــــــــــــ

(١) وفيات الأعيان ٣ : ٤٤٨ ـ ٤٥٠ / ٤٩٧ .

(٢) بغية الوعاة في طبقات اللغويّين والنّحاة ٢ : ٢١٨ / ١٨٣٢ .

٣٤١

 ( ابن دحية ، الإمام العلاّمة الحافظ الكبير ، أبو الخطّاب ، عمر بن الحسن الأندلسي البلنسي ، كان بصيراً بالحديث متقناً به ، له حظٌّ وافرٌ مِن اللغة ومشاركة في العربيّة ، له تصانيف ، توطّن مصر وأدّب الملك الكامل ، ودرّس بدار الحديث الكامليّة ، مات أربع عشرة ربيع الأوّل سنة ثلاثٍ وثلاثينَ وستّمِئة )(١) .

موقف البخاري من حديث الغدير وكلمات الأعلام فيه

ومن غرائب تعصّبات البخاري : طعنه في حديث الغدير المروي عن أكثر من مِئة صحابي ، والبالغ أضعاف شروط التواتر ، والمصرَّح بتواتره مِن قبل الأئمّة الثقات المتبحّرين في الحديث عند أهل السنّة ، كما لا يخفى على مَن اقتطف الأزهار من( الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة ) ، واستفاد مِن( الفوائد المتكاثرة في الأخبار المتواترة ) وكلاهما للحافظ السيوطي ، أو راجع( شرح الجامع الصغير ) لنور الدين العزيزي ، أو (شرح الجامع الصغير ) للمناوي ، أو( المرقاة ) لعليّ القاري ، أو( الأربعين في مناقب أمير المؤمنين ) لجمال الدين المحدّث الشيرازي ، أو( السيف المسلول ) لثناء الله تلميذ وليّ الله والد صاحب التحفة ، أو( أسنى المطالب ) لابن الجزري ، وغيرَ هذهِ الكتب .

قال ابن تيميّة ـ في حديث الغدير ـ: ( وأمّا قوله : مَن كُنت مولاه فعليٌّ مولاه ، فليس في الصحاح ، لكنْ ممّا رواه العلماء ، وتنازع الناس في صحّته ، فنُقِل عن البخاري وإبراهيم الحربي وطائفة مِن أهل العلم أنّهم طعنوا فيه

ـــــــــــــــــــ

(١) حسن المحاضرة بمحاسن مصر والقاهرة ١ : ٢٠١ .

٣٤٢

وضعّفوه )(١) .

اللّهمّ إلاّ أنْ يكون قد طعن في بعض طرقه ، فنسب إليه ابن تيميّة الطعن في أصله...!!

فإنْ كان البخاري قد طعن في أصل حديث الغدير ، فقد نصَّ غيرَ واحدٍ مِن أعلام القوم على عدم الاعتبار بكلام مَن طعن فيه كائناً مَن كان... يقول البدخشي : ( هذا حديثٌ صحيحٌ مشهور ، ولم يتكلَّم في صحّته إلاّ مُتعصِّبٌ جاحدٌ لا اعتبار بقوله ، فإنّ الحديث كثيرُ الطُرق جداً ، وقد استوعبها ابن عقدة في كتابٍ مفرد ، وقد نصَّ الذهبي على كثيرٍ مِِِِِِِِِِن طرقه بالصحّة ، ورواه من الصحابة عددٌ كثير )(٢) .

وكذلك نسب الحافظ ابن الجزري مُنكِر حديث الغدير إلى الجهل والعصبيّة(٣) .

ترجمة ابن الجزري

وابن الجزري الشافعي ، حافظٌ شهير ، وله تآليف معتمدة ، وقد أثنى العلماء عليه وعلى كتبه :

فقد ترجم له ابن حجر ووصفه بالحافظ الإمام المُقرئ ، وقال : ( انتهت إليه رئاسة علم القراءات في الممالك ، وكان قديماً صنّف الحصن الحصين في الأدعية ، وله به أهل اليمن واستكثروا منه... وكانت عنايته بالقراءات أكثر ،

ـــــــــــــــــــ

(١) منهاج السنة ٤ : ١٣٦ .

(٢) نزل الأبرار بما صحَّ من مناقب أهل البيت الأطهار : ٢١ .

(٣) أسنى المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب : ٤٨ .

٣٤٣

فجمع ذيل طبقات القرّاء للذهبي وأجاد فيه ، ونظم قصيدةً في قرائة الثلاثة ، وجمع النشر في القراءات العشر... وكان يلقّب في بلاده : الإمام الأعظم... وبالملة ، فإنّه كان عديم النظير ، طائر الصيت ، انتفع الناس بكُتبه وسارت في الآفاق مسير الشمس )(١) .

وترجم له السخاوي ترجمةً مطوّلة ، فذكر مشايخه في مختلف العلوم ، وأنّه قد أذن له غير واحدٍ بالإفتاء والتدريس والإقراء ، وأنّه ولي مشيخة الإقراء بالعادليّة ثمّ مشيخة دار الحديث الأشرفية... وهكذا ذكر أسفاره إلى البلاد المختلفة ، وأورد طرفاً من أخباره فيها... ثمّ ذكر تصانيفه ووصفها بكونها مفيدةً ، ومنها( أسنى المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب ) .

قال : وقد ذكره الطاووسي في مشيخته وقال : إنّه تفرّد بعلوّ الرواية وحفظ الأحاديث والجرح والتعديل ومعرفة الرواة المتقدّمين والمتأخّرين... ثمّ ذكر السخاوي كلام ابن حجر في حقّه... )(٢) .

هذا ، وقد توفي ابن الجزري سنة ٨٣٣ .

استرابة البخاري في بعض حديث الإمام الصادقعليه‌السلام !!

ومِن أمارات بُغض البخاري لأهل بيتِ النبوّة وانحرافه عنهم : عدم إخراجه عن الإمام الصادقعليه‌السلام في كتابه ، بل استرابته في بعض حديثه ، والعياذ بالله !!

قال ابن تيميّة في كلامٍ له عن الإمامعليه‌السلام :

ـــــــــــــــــــ

(١) إنباء الغمر بأبناء العمر ٣ : ٤٦٧ .

(٢) الضوء اللامع لأهل القرن التاسع ٩ : ٢٥٥ ـ ٢٦٠ .

٣٤٤

 ( فهؤلاء الأئمّة الأربعة ليس منهم مَن أخذ عن جعفر شيئاً مِن قواعد الفقه ، لكنْ روَوا عنه الأحاديث كما روَوا عن غيره ، وأحاديث غيره أضعاف أحاديثه ، وليس بين حديث الزهري وحديثه نسبة ، لا في القوّة ولا في الكثرة ، وقد استراب البخاري في بعض حديثه لمّا بلغه عن يحيى بن سعيد القطّان فيه كلام ، فلم يخرج له ، ويمتنع أنْ يكون حفظه للحديث كحفظ مَن يحتجّ بهم البخاري )(١) .

فانظر إلى كلام هذا الناصب العنيد ، كيف يطعن في الإمام العظيم استناداً إلى القطّان والبخاري ، مع أنّ علمائهم الكبار ، مِن السّابقين واللاّحقين ، يقولون بضرورة حبّ أهل البيت واحترامهم والإقتداء بهم والأخذ منهم ، وحتّى أنّهم ينزّهون أهل السنّة مِن بغض أهل البيت ، ويبرءون ممّن اعترض علهيم أو تكلّم فيهم أو أعرض عنهم ، ويجعلون نسبة هذه الأُمور إلى أهل السنّة من تعصّبات الإماميّة ضدّهم، يقول الكابلي في تعداد تعصّبات الشيعة :

( التاسع عشر : إنّ أهل السنّة أفرطوا في بُغض أهل البيت ، ذكر ذلك ابن شهر آشوب وكثير مِن علمائهم ، ولقَّبوهم بالنواصب ، وهو كذبٌ صرد وعصبيّةٌ ظاهره ، فإنّهم يقولون إنّ الله تعالى أوجب محبّة أهل بيت نبيّه على جميع بريّته ، ولا يُؤمن أحدٌ حتّى يكون عترة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحبّ إليه مِن نفسه ، ويَروُون في ذلك أحاديث منها ، ما رواه البيهقي وأبو الشيخ والديلمي : أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( لا يُؤمن أحدٌ حتّى أكون أحبُّ إليه مِن نفسه ، ويكون عترتي أحبّ إليه من نفسه ) .

وأخرج الترمذي والحاكم عن ابن عبّاسرضي‌الله‌عنه أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

ـــــــــــــــــــ

(١) منهاج السنّة ٧ : ٥٣٣ .

٣٤٥

قال :( أحبّوا أهل بيتي بحبّي ) .

إلى غير ذلك من الأخبار .

ويقولون : مَن ترك المودّة في أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد خانه ، وقد قال الله تعالى : ( لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ... ) ، ومَن كره أهل بيته فقد كرههصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولقد أجاد مَن أفاد :

فَلا تَعدِل بأهلِ البَيتِ خَلْقاً

فأهلُ البيتِ هُم أهلُ السعادة

فبُغضُهم مِن الإنسانِ خُسرٌ

حقيقيٌّ وحُبّهُم عبادة

ويوجبون الصّلاة عليهم في الصلوات قال الشيخ الجليل فريد الدين أحمد بن محمّد النيسابوري رحمه الله : مَن آمن بمحمّدٍ ولم يُؤمن بأهل بيته فليس بمؤمن ، أجمع العلماء والعرفاء على ذلك ولم ينكره أحد )(١) .

أقـول :

فلو كانوا صادقين في قولهم ( مَن آمن بمحمّدٍ ولم يُؤمن بأهلِ بيته فليس بمؤمن ) ، وأنّه قد ( أجمع العلماء والعرفاء على ذلك ولم ينكره أحد ) ، فما ظنّهم بالقطّان والبخاري وابن تيميّة وأمثالهم ؟

وقد ذكر الشاه عبد العزيز الدهلوي ـ في الكلام على حديث :مَثُلُ أهل بيتي كسفينة نوح... ـ : إنّ هذا الحديث يفيد بأنّ الفلاح والهداية منوطٌ بحبّ أهل البيت واتّباعهم ، وأنّ التخلّف عن ذلك موجبٌ للهلاك ، ثمّ زعم أنّ هذا المعنى يختصُّ بأهل السنّة(٢) !!

فإنْ كان صادقاً فيما يقول : فما رأيه فيمن تكلّم في الإمام أبي عبد الله الصّادقعليه‌السلام ؟

هذا ، ولا يتوهّمنّ أحدٌ أنّ تكلّم القطّان والبخاري وأتباعهما في الإمام ليس عن بُغض له وعناد ، وإنّما هو تحقيقٌ في العلم واحتياطٌ في الدين ، فإنّه توهّم فاسد جدّاً ، فإنّه لو لم يكن ما ذكره ابن تيميّة انحرافاً وبُغضاً وعناداً ، فأين العِناد والعداوة والبغض ؟ وبماذا يكون ؟ ومَن المنحرف عنهم والمتعصّب ضدّهم والناصب لهم ؟

ـــــــــــــــــــ

(١) الصواقع الموبقة ـ مخطوط .

(٢) التحفة الاثني عشريّة : ٢١٩ .

٣٤٦

وهل شدّة الاحتياط والتورّع أدّت إلى أخذ روايات عكرمة الضالّ المُضلّ والناصب المقيت ، وطرح أخبار الإمام الصادق وغيره من أئمّة أهل البيت ؟

وكيف يُقبل هذا الاعتذار للبخاري ؟! وكيف يُعتذر له بذلك ؟ وقد أخرج عن الذهلي ـ مع ما كان بينهما مِن الطعن المُوجب للفسق ـ ومع التدليس في اسمه ، ولم يخرج عن الإمام الصادق ؟!

ولو كان لمثل هذا الاعتذار مجالٌ لَما قال ابن تيميّة : ( ويمتنع أنْ يكون حفظه للحديث كحفظِ مَن يحتجّ بهم البخاري ) !!

طعن القطّان في الإمام الصادق !!

هذا ، وطعن القطّان في الإمام الصّادقعليه‌السلام مذكورٌ في سائر الكتب الرجاليّة ، وهو في جملتين إحداهما : ( في نفسي منه شيء ) والأُخرى : ( مجالد أحبّ إليّ منه ) !!

قال الذهبي : ( جعفر بن محمّد الصادق أبو عبد الله ، وأُمّه أُمّ فروة بنت القاسم بن محمّد ، وأُمّها أسماء بنت عبد الرحمان بن أبي بكر ، فكان يقول :

ولّدني الصديق مرّتين سمع أباه والقاسم وعطاء وعنه : شعبة والقطّان وقال : في نفسي منه شيء... )(١) .

وقال : ( جعفر بن محمّد بن عليّ ، ثقةٌ ، لم يخرج له البخاري ، وقد وثّقه يحيى بن معين وابن عدي ، وأمّا القطّان فقال : مجالد أحبّ إليّ منه )(٢) .

ترجمة مجالد بن سعيد

هذا ، والحال أنّ مجالد بن سعيد قد طَعَن فيه كثيرٌ من أئمّة القوم :

قال الذهبي : ( مجالد بن سعيد بن عُمير الهمداني ، مشهور ، صاحبُ حديثٍ على لينٍ فيه روى عن قيس بن أبي حازم والشعبي وعنه : يحيى القطّان وأبو أُسامة وجماعة .

ـــــــــــــــــــ

(١) الكاشف ١ : ١٣٩ / ٨٠٧ .

(٢) المغني في الضعفاء ١ : ٢١١ / ١١٥٦ .

٣٤٧

قال ابن معين وغيره : لا يحتجّ به ، وقال أحمد : يرفع كثيراً ممّا لا يرفعه الناس ، ليس بشيء وقال النسائي : ليس بالقويّ ، وذكر الأشج : إنّه شيعي ، وقال الدارقطني : ضعيف وقال البخاري : كان يحيى بن سعيد يُضعّفه ، وكان ابن مهدي لا يروي عنه ، وقال الفلاّس : سمعت يحيى بن سعيد يقول : لو شئت أنْ يجعلها لي مجالد كلّها عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله فعل وقيل لخاله الطحّان : دخلتَ الكوفة فلم لم تكتب عن مجالد ؟ قال : لأنّه كان طويل اللّحية ، قلت : مَن أنكر ما له عن الشعبي عن مسروق عن عائشة مرفوعاً : لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضّة )(١) .

فانظر مَن هذا الذي قدّمه القطّان على الإمام الصّادقعليه‌السلام ؟ وأحكم على القطّان والبخاري وأضرابهما بما يقتضيه الدين والعدل ؟

موقف الذهبي

والذهبي ، وإنْ وثّق الإمامعليه‌السلام ، لكنّه لم يرد على تعصّبات القطّان والبخاري ضد الإمام ، بل بالعكس ، فقد أورده في كتابه( الميزان ) لتكلّمهما فيه ، حيثُ قال : ( جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين الهاشمي ، أبو عبد الله ، أحد الأئمّة الأعلام ، بَرٌّ، صادقٌ ، كبير الشأن ، لم يحتجّ به البخاري ، قال يحيى بن سعيد : مجالد أحبّ إليّ منه ، في نفسي منه شيء ، وقال مصعب بن عبد الله عن الدراوردي قال : لم يروِ مالك عن جعفر حتّى ظهر أمر بني العبّاس ، قال مصعب بن عبد الله : كان مالك لا يروي عن جعفر حتّى يضمّه إلى أحد وقال أحمد بن سعيد بن أبي مريم : سمعت يحيى يقول : كنت لا أسأل يحيى بن سعيد عن حديث جعفر بن محمّد ، فقال لي : لم لا تسألني عن حديث جعفر ؟ قلت : لا أُريده ، فقال لي : إنْ كان يحفظ فحديث أبيه المسند )(٢) .

هذا ، في الوقت الذي بنى في كتابه هذا على أنْ لا يذكر فيه مَن قدح فيه البخاري وابن عدي ، من الصحابة والأئمّة في الفروع... كما صرّح بذلك في مقدّمة الكتاب حيث قال : ( أمّا بعد ، هدانا الله وسدّدنا ووفّقنا لطاعته ، فهذا كتابٌ جليلٌ مبسوط ، في إيضاح نَقَلة العلم النبويّ وحمَلَة الآثار ، ألّفته بعد كتابي المنعوت بالمُغني ،

ـــــــــــــــــــ

(١) ميزان الاعتدال ٦ : ٢٣ / ٧٠٧٦ .

(٢) ميزان الاعتدال ٢ : ١٤٣ / ١٥٢١ .

٣٤٨

وطوّلت فيه العبارة ، وفيه أسماء عدّة مِن الرواة زائداً على من في المغني ، زدت معظمهم من الكتاب الحافل المذيّل عل الكامل لابن عدي .

وقد ألّف الحفّاظ مصنّفات جمّة في الجرح التعديل ما بين اختصار وتطويل ، فأوّل من جمع كلامه في ذلك : الإمام الذي قال فيه أحمد بن حنبل : ما رأيت بعيني مثل يحيى بن سعيد القطّان ، وتكلّم في ذلك بعده تلامذته : يحيى بن معين ، وعليّ بن المديني ، وأحمد بن حنبل ، وعمرو بن عليّ الفلاّس ، وأبو خيثمة ، وتلامذتهم : كأبي زرعة ، وأبي حاتم ، والبخاري ، ومسلم ، وأبي إسحاق الجوزجاني السعدي ، وخلق .

ومِن بعدهم مثل : النسائي ، وابن خزيمة ، والترمذي ، والدولابي ، والعقيلي ، وله مصنّفٌ مفيدٌ في معرفة الضعفاء ، ولأبي حاتم ابن حبّان كتابٌ كبيرٌ عندي في ذلك ، ولأبي أحمد ابن عدي كتابُ الكامل هو أكمل الكتب وأجلّها في ذلك ، وكتاب أبي الفتح الأزدي ، وكتاب أبي محمّد ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل والضعفاء ، وللدارقطني في الضعفاء ، وللحاكم وغير ذلك ، وقد ذيّل ابن طاهر المقدسي على الكامل لابن عدي بكتابٍ لم أره ، وصنّف أبو الفرج بان الجوزي كتاباً كبيراً في ذلك ، كنت اختصرته أوّلاً ثمّ ذيّلت عليه ذيلاً بعد ذيل .

والساعة ، فقد استخرت الله عزّ وجلّ في عمل هذا المصنّف ، ورتّبته على حروف المعجم حتّى في الآباء ليقرب تناوله ، ورمزت على اسم الرجل من أخرج له في كتابه مِن الأئمّة الستّة : البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي والترمذي وابن ماجة ، برموزهم السائرة ، فإن اجتمعوا على إخراج رجل فالرمز (ع) ، وإنْ اتفق عليه أرباب السنن الأربعة فالرمز (غ) .

وفيه من تُكُلّم فيه مع ثقته وجلالته بأدنى لين وبأقلّ تجريح ، فلولا أنّابن عدي أو غيره مِن مؤلّفي كتب الجرح ذكروا ذلك الشخص لما ذكرته لثقته ، ولم أر من الرأي أنْ أحذف اسم أحد ممّن له ذكر بتليينٍ مّا في كتب الأئمّة المذكورين ، خوفاً من أنْ يُتَعَقَّب عليّ ، إلاّ أنّي ذكرته لضعفٍ فيه عندي ، إلاّ ما كان في كتب البخاري وابن عدي وغيرهما من الصّحابة ، فإنّي أسقطتهم لجلالة الصحابة رضي الله عنهم ، ولا أذكرهم في

٣٤٩

هذا المصنّف ، فإنّ الضعف إنّما جاء مِن جهة الرواة إليهم ، وكذا لا أذكر في كتابي مِن الأئمّة المتبوعين في الفروع أحداً ، لجلالتهم في الإسلام وعظمتهم في النفوس ، فإنْ ذكرت أحداً منهم فأذكره على الإنصاف ، وما يضرّه ذلك عند الله ولا عند الناس ، إذ إنّما يضرّ بالإنسان الكذِب ، والإصرار على كثرة الخطأ ، والتجرّي على تدليس الباطل فإنّه خيانة ، والمرءُ المسلم يطبع على كلّ شيء إلاّ الخيانة والكذِب ) (١) .

أفهل كان شأن الإمامعليه‌السلام أقلّ مِن شأن عمرو بن العاص وبسر ابن أرطاة وأمثالهما مِن فَسَقَة الصحابة؟

أفهل كان شأن الشافعي وغيره أجلّ مِن شأن الإمام الصّادق ؟

لكنّه التعصّب والنّصب... والعياذ بالله...

ترجمة القطّان

ثمّ انظر إلى تراجم القطّان وكلماتهم في مدحه والثناء عليه ، والمبالغة في تعظيمه وتبجيله :

قال السمعاني : ( القطّان ـ بفتح القاف وتشديد الطاء المهملة في آخرها نون ، هذه النسبة إلى بيع القطن ، والمشهور بها هو : أبو سعيد يحيى بن

ـــــــــــــــــــ

(١) ميزان الاعتدال ١ : ١١٣ .

٣٥٠

سعيد بن فروخ الأحول القطّان ، مولى بني تميم ، مِن أئمّة أهل البصرة ، يروي عن يحي بن سعيد الأنصاري وهشام بن عروة ، روى عنه أهلُ العراق ، ماتَ يوم الأحد سنة ثمانٍ وتسعين ومِئة ، وكان إذا قيل له في علّته يعافيك الله قال : أحبّه إليّ أحبّه إلى الله عزّ وجلّ ، وكان مِن سادات أهل زمانه حفظاً ووَرَعاً وعقلاً وفهماً وفضلاً وديناً وعلماً ، وهو الذي مهّد لأهل العراق رسم الحديث ، وأمعن في البحث عن الثقات وترك الضعفاء ، ومنه تعلّم علمَ الحديث أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعليّ ابن المديني .

ذكر عمرو بن عليّ الفلاّس أنّ يحيى بن سعيد القطّان كان يختم القرآن كلّ يوم وليلة ، ويدعو لألف إنسان ، ثمّ يخرج بعد العصر فيحدّث الناس ، وكان يروي عن سميّه يحيى بن سعيد الأنصاري ، وهشام بن عروة ، والأعمش ، وابن جريج ، والثوري ، وشعبة ، ومالك ، في آخرين وكان يقول : لزمت شعبة عشرين سنة ، فما كنت أرجع مِن عنده إلاّ بثلاثةِ أحاديث وعشرة أكثرما كنت أسمع منه في كلّ يوم وقال يحيى بن معين : أقام يحيى بن سعيد عشرين سنة يختم القرآن في كلّ ليلة ، ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة ، وما رُئي يطلب جماعةً قط )(١) .

وقال النووي :

( يحيى بن سعيد القطّان هو : أبو سعيد يحيى بن سعيد بن فروخ التميمي مولاهم البصري ، القطّان ، الإمام ، من تابعي التابعين ، سمع : يحيى بن سعيد الأنصاري وحنظلة بن أبي سفيان وابن عجلان وسيف بن سليمان وهشام بن حسام ، وابن جري وسعيد بن عروبة وابن أبي ذئب والثوري وابن

ـــــــــــــــــــ

(١) الأنساب ٤ : ٥١٩ .

٣٥١

عيينة ، ومالاً ومسعراً وشعبة وخلائق .

وروى عنه : الثوري ، وابن عيينة ، وشعبة ، وابن مهدي ، وعفّان ، وأحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وعليّ بن المديني ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو عبيد القاسم بن سلاّم ، وأبو خيثمة ، وأبو بكر ابن أبي شيبة ، ومسدد ، وعبيد الله بن عمر القواريري ، وعمرو بن عليّ ، وابن مثنّى ، وابن بشّار ، وخلائق مِن الأئمّة وغيرهم .

واتفقوا على إمامته وجلالته ، ووفور حفظه وعلمه وصلاحه .

قال أحمد بن حنبل : ما رأيت مثل يحيى القطّان في كلّ أحواله ، وقال يحيى بن معين : أقام يحيى القطّان عشرين سنة يختم القرآن في كلّ يومٍ وليلة ، ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة ، وما رُئي يطلب جماعةً قط ، يعني ما فاتته فيحتاج إلى طلبها ـ وقال أحمد بن حنبل : يحيى القطّان إليه المنتهى في التثبّت بالبصرة، وهو أثبت مِن وكيع وابن مهدي وأبي نعيم ويزدي بن هارون ، وقد روى عن خمسين شيخاً ممّن روى عنهم سفيان وقال : لم يكن في زمان يحيى مثله .

وقال أبو زرعة : هو من الثقات الحفّاظ ، وقال يحيى بن معين : قال لي عبد الرحمان بن مهدي : لا ترى بعينك مثل يحيى بن القطّان ، وقال ابن منجويه : كان يحيى القطّان مِن سادات أهل زمانه ورعاً وحفظاً وفهماً وفضلاً وديناً وعلماً ، وهو الذي مهّد لأهل العراق رسم الحديث وأمعن في البحث عن الثقات وترك الضعفاء وقال بندار : كتب عبد الرحمان بن مهدي عن يحيى عن يحيى القطّان ثلاثين ألفاً وحفظها ، قال زهير : رأيت يحيى القطّان بعد وفاته ، عليه قميص ، مكتوب بين كتفيه :بسم الله الرحمن الرحيم ، براءة ليحيى بن سعيد من النار .

٣٥٢

قال ابن سعد : توفّي يحيى القطّان في صفَر سنة ثمانٍ وتسعين ومِئة ، وكان مولده سنة عشرين ومئة )(١) .

وقال الذهبي :

( يحيى بن سعيد بن فروخ ، الحافظ الكبير ، أبو سعيد التميمي مولاهم البصري القطّان ، عن : عروة وحميد والأعمش ، وعنه : أحمد وعليّ ويحيى قال أحمد : ما رأيت مثله وقال بندار : إمام أهل زمانه يحيى القطّان ، واختلفت إليه عشرين سنة فما أظن أنّه عصى الله قط ، ولِد القطّان ١٢٠ ومات ١٩٨ في صفر ، وكان رأساً في العلم والعمل )(٢) .

وقال محمّد بن حبّان :

( يحيى بن سعيد بن فروخ القطّان مولى بني تميم ، كنيته أبو سعيد ، الأحول ، مِن أهل البصرة ، يروي عن يحيى بن سعيد الأنصاري وهشام بن عروة ، روى عنه أهل العراق ، ماتَ يوم الأحد يوم الثاني عشر مِن صَفر سنة ثمان وسبعين ومِئة ، وكان إذا قيل له في علّته يعافيك الله قال : أحبّه إليّ أحبّه إلى الله جلّ وعلا ، وصلّى عليه إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس ، وهو أمير البصرة ، وكان مِن سادات أهل زمانه حفظاً وورعاً وعقلاً وفهماً وفضلاً وديناً وعلماً ، وهو الذي مهّد لأهل العراق رسم الحديث وأمعن في البحث عن الثقات ، وترْك الضعفاء ، ومنه تعلّم علْم الحديث أحمد ابن حنبل ويحي بن معين ، وعليّ بن المديني وسائر شيوخنا .

حدّثني محمّد ابن الليث الورّاق قال : سمعت عبد الله بن جعفر بن الزبرقان يقول : سمعت عمرو بن عليّ الفلاّس يقول : كان يحيى بن سعيد القطّان يختم القرآن كلّ يوم

ـــــــــــــــــــ

(١) تهذيب الأسماء واللغات ٢ : ١٥٤ / ٢٤٣ .

(٢) الكاشف ٣ : ٢٤٣ / ٦٢٥٨ .

٣٥٣

وليلة ، ويدعو لألفِ إنسان ، ثمّ يخرج بعد العصر فيحدّث الناس )(١) .

وقال اليافعي :

( الإمام أبو سعيد يحيى بن سعيد القطّان البصري الحافظ ، أحد الأعلام قال بندار : اختلفتُ إليه عشرين سنة فما أظنّ أنّه عصى الله قط قال أحمد بن حنبل : ما رأيت مثله وقال ابن معين : أقام يحيى القطّان عشرين سنة يختم في كلّ ليلة ، ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة )(٢) .

وقال عبد الحق الدهلوي :

( يحيى بن سعيد القطّان ، بفتح القاف وتشديد الطاء المهملة ، أبو سعيد ، الأحول التميمي ، مولى بني تميم ، ويُقال ليس لأحدٍ عليه ولاء ، البصري ، إمامٌ كبير ، ثقةٌ حافظٌ عالم ، عارفٌُ بالحديث ، مشهور مكثر ، وكان رأساً في العلم والعمل .

وقال ابن المديني : ما رأيت أعلم بالرجال منه ولا أعلم بصواب الحديث والخطأ من ابن مهدي ، فإذا اجتمعا على ترك حديثِ رجلٍ تُرِك حديثُه ، وإذا حدّث عنه أحدهُما حُدِّث عنه ، وقال مرّة : لم أرَ أحداً أثبت من القطّان .

وقال ابن معين : قال ابن مهدي : لا ترى عينك مثل يحيى القطّان وقال أحمد : ما رأيت مثله وقال بندار : إمامُ أهل زمانه يحيى القطّان ، واختلفت إليه عشرين سنة فما أظنّ أنّه عصى الله قط وقال ابن سعد : كان ثقةً مأموماً رفيعاً حجّة وقال العجلي : بصريٌّ ثقةٌ نقيُّ الحديث ، كان لا يحدّث إلاّ عن ثقة وقال أبو حاتم : ثقةٌ حافظ وقال أبو زرعة : من الثقات الحفّاظ وقال النسائي : ثقة ثبت مرضي وقال أبو بكر ابن منجويه : كان من سادات أهل زمانه حفظاً

ـــــــــــــــــــ

(١) كتاب الثقات ٧ : ٦١١ .

(٢) مرآة الجنان ١ : ٣٥٢ .

٣٥٤

وورعاً وفهماً وفضلاً وديناً وعلماً ، وهو الذي مهّد لأهل العراق رَسْم الحديث ، وأمعَن في البحث عن الثقات وترك الضعفاء ، ولِد سنة عشرين ومِئة ، ومات في صفَر سنة ثمانٍ وتسعين ومِئة روى عن : هشام بن عروة و عبد الله بن عمر العمري ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، والأعمش والثوري وشعبة ومالك وغيرهم من الأئمّة .

وروى عنه : عبد الرحمان بن مهدي وأحمد بن حنبل وعليّ ابن المديني ومسدّد ويحيى بن معين ومحمّد بن المثنّى...)(١) .

أقول :

ومن هذه العبارات وأمثالها في مدح القطّان ـ مع علم قائليها بمقالته في الإمام الصادق ( عليه الصلاة والسلام ) ـ تعرف مواقف القوم مِن أئمّة أهل البيت ، فلا يُقبل دفاع بعض الناس عن أهل السنّة ، وأسفهم بأنّهم مُحبّون لأهل البيت ومحترمون لهم ومستمسكون بهم...

قصة كتاب العلل لابن المديني

وممّا يُذكَر في مقام الطعن في البخاري وورعه وأمانته وثقته : قصّته مع كتاب شيخه ابن المديني في العلل :

قال مسلمة بن قاسم في ( تاريخه ) ـ على ما نقل عنه(٢) ـ : ( وسبب تأليف البخاري الكتاب الصحيح ، أنّ عليّ بن المديني ألّف كتاب العلل ، وكان ضنيناً به لا يخرجه إلى أحد ، ولا يحدّث به ، لشرفه وعظم خطره وكثرة فائدته ، فغاب عليّ ابن المديني في بعض حوائجه ، فأتى البخاري إلى بعض بنيه ،

ـــــــــــــــــــ

(١) رجال المشكاة = تحصيل الكمال ـ ترجمة القطّان .

(٢) انظر ترجمته في لسان الميزان ٦ : ٤٣ .

٣٥٥

فبذل له مِئة دينار على أنْ يخرج له كتاب العِلل ، ليراه ويكون عنده ثلاثة أيّام ، ففتنه المال وأخذ منه مِئة دينار ، ثمّ تلطّف مع أُمّه فأخرجت الكتاب ، فدفعه إليه وأخذ عليه العهود والمواثيق أنْ لا يحبسه عنه أكثر مِن الأمد الذي ذكر ، فأخذ البخاري الكتاب ـ وكان مِئة جزء ـ فدفعه إلى مِئة من الورّاقين ، وأعطى كلّ رجلٍ منهم ديناراً على نسخه ومقابلته في يومٍ وليلة ، فكتبوا له الديوان في يومٍ وليلة وقُوبل ، ثمّ صرفه إلى ولد عليّ بن المديني وقال : إنّما نظرت إلى شيء فيه .

وانصرف عليّ بن المديني فلم يعلم بالخبر ، ثمّ ذهب البخاري فعكف على الكتاب شهوراً واستحفظه ، وكان كثير الملازمة لابن المديني ، وكان ابن المديني يعقد يوماً لأصحاب الحديث ، يتكلّم في عِلَله وطرفه ، فلمّا أتاه البخاري بعد مدّة قال له : ما حبسك عنّا ؟ قال : شغلٌ عرض لي ، ثمّ جعل عليٌّ يلقي الأحاديث ويسألهم عن عِلَلها ، فيبادر البخاري بالجواب بنصّ كلام عليٍّ في كتابه ، فعجب لذلك ثمّ قال له : مِن أين علمت هذا ، هذا قولٌ منصوص ، والله ما أعلم أحداً في زماني يعلم هذا العِلم غيري .

فرجع إلى منزله كئيباً حزيناً ، وعَلِم أنّ البخاري خدَع أهله بالمال حتّى أباحوا له الكتاب ، ولم يزَل مغموماً بذلك ، ولم يلبث إلاّ يسيراً حتّى مات ، واستغنى البخاري عن مُجالسة عليّ والتفقّه عنده بذلك الكتاب ، وخرج إلى خراسان ، وتفقّه بالكتاب ، ووضَع الكتاب الصحيح والتواريخ ، فعظم شأنه وعلا ذكره ، وهو أوّل مَن وضع في الإسلام كتاب الصحيح ، فصار الناس له تبعاً ، وبكتابه يقتدي العلماء في تأليف الصحيح ) .

يفيد هذا النص أنّ البخاري كان السبب في موت شيخه عليّ بن المديني ، لتصرّفه في كتاب العِلل الذي وضعه شيخه ، بعد أخذه مِن أهله بالحيلة والخديعة والمكر والكذب...

٣٥٦

طعن مسلم فيمن قال بمقالة البخاري

هذا ، وقد صرّح مسلم بن الحجّاج بالطعن والتشنيع على بعض الأقوال وأصحابها في باب رواية الحديث ونقله ، والحال أنّ البخاري مِن القائلين بذلك القول ، وهذا نصّ كلام مسلم في باب ما تصحّ به رواية الرواة بعضهم عن بعض ، والتنبيه على مَن غلط في ذلك :

( وقد تكلّم بعضٌ منتحلي الحديث مِن أهل عصرنا في تصحيح الأسانيد وتسقيمها ، بقول لو ضربنا عن حكايته وذكر فساده صفحاً ، لكان رأياً متيناً ومذهباً صحيحاً ، إذ الإعراض عن القول المطرح أحرى لإماتته وإخمال ذكر قائله ، وأجدر أنْ لا يكون ذلك تنبيهاً للجهّال عليه ، غير أنّا لمّا تخوّفنا مِن شرور العواقب واغترار الجهلة بمحدثات الأُمور ، وإسراعهم إلى اعتقاد خطأ المخطئين والأقوال الساقطة عند العلماء ، رأينا الكشف عن فساد قوله ورَدّ مقالته بقدر ما يليق بها مِن الردّ ، أجدى على الأنام وأحمد للعاقبة إنْ شاء الله .

وزعم القائل الذي افتتحنا الكلام على الحكاية عن قوله والإخبار عن سوء رويّته : أنّ كلّ إسنادٍ لحديثٍ فيه فلان عن فلان ، وقد أحاط العلم بأنّهما قد كانا في عصرٍ واحد ، وجائز أنْ يكون الحديث الذي روى الراوي عمّن روى عنه قد سمِعه منه وشافهه به ، غير أنّه لا نعلم له منه سُماعاً ، ولم نجد في شيء مِن الروايات أنّهما التقيا قط أو تشافها بحديث ، أنّ الحجّة لا تقوم عنده بكلّ خبر جاء هذا المجيء ، حتّى يكون عنده العلم بأنّهما قد اجتمعا من دهرهما مرّة فصاعداً أو تشافها بالحديث بينهما ، أو يرد خبر فيه بيان اجتماعهما وتلاقيهما مرّة مِن دهرهما فما فوقها ، فإنْ لم يكن عنده علمُ ذلك ، ولم تأتِ به روايةٌ صحيحةٌ تخبِر أنّ هذا الراوي عن صاحبه قد لقِيه مرّة وسمع منه شيئاً ، لم يكن في نقله الخبر عمّن روى عنه عِلم ذلك والأمر كما وصفنا حجّة ، وكان الخبر عنده موقوفاً ، حتّى يرد عليه سماعه منه لشيءٍ مِن الحديث ، قلّ أو كثُر في رواية مثل ما ورد .

وهذا القول ـ يرحمك الله ـ في الطعن في الأسانيد قولٌ مُخترَع مُستحدَث غير مسبوق صاحبه إليه ، ولا مساعد له من أهل العلم عليه ، وذلك أنّ القول الشائع المتّفق

٣٥٧

عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديماً وحديثاً : أنّ كلّ رجلٍ ثقة روى عن مثله حديثاً ، وجائز ممكن له لقاؤه والسماع منه لكونهما جميعاً كانا في عصرٍ واحد ـ وإنْ لم يأتِ في خبرٍ قط أنّهما اجتمعا ولا تشافها بكلام ـ فالرواية ثابتة والحجّة بها لازمة ، إلاّ أنْ يكون هناك دلالة بيّنة أنّ هذا الراوي لم يلقَ مَن روى عنه ، أو لم يسمع منه شيئاً ، فأمّا والأمر مبهمٌ على الإمكان الذي فسّرنا ، فالرواية على السماع أبداً حتّى تكون الدلالة التي بيّنّا .

فيُقال لمخترع هذا القول الذي وصفنا مقالته أو للذابّ عنه ، قد أعطيت في جملة قولك أنّ خبر الواحد الثقة عن الواحد الثقة حجّةٌ يلزم به العمل ، ثمّ أدخلت فيه الشرط بعد ، فقلت حتّى نعلم أنّهما قد كانا التقيا مرّةً فصاعداً أو سمع منه شيئاً ، فهل تجد هذا الشرط الذي اشترطته عن أحدٍ يلزم قوله ، وإلاّ فهلمّ دليلاً على ما زعمت ، فإنْ ادّعى قول أحدٍ من علماء السلَف بما زعم من إدخال الشريطة في تثبيت الخبر طُولب به ، ولنْ يجد هو ولا غيره إلى إيجاده سبيلاً ) .

وأيضاً قال : ( وكان هذا القول الذي أحدثه القائل الذي حكيناه في توهينالحديث بالعلّة التي وصف ، أقلّ مِن أنْ يُعرّج عليه ويُثار ذكره ، إذ كان قولاً مُحدثاً وكلاماً خلفاً ، لم يقُله أحدٌ من أهل العلم سلَف ، ويستنكره من بعدهم خلَف ، فلا حاجة بنا في ردّه بأكثر ممّا شرحنا ، إذا كان قدر المقالة وقائلها القدر الذي وصفناه ، والله المستعان على دفع ما خالف مذهب العلماء ، وعليه التكلان ) (١) .

وقال النووي في شرح هذا الكلام :

( حاصل هذا الباب أنّ مسلماً ـ رحمه الله ـ ادّعى إجماع العلماء قديماً وحديثاً على أنّ المعنعن ـ وهو الذي فيه عن فلان ـ محمولٌ على الاتّصال والسماع ، إذا أمكن لقاء مَن أُضيفت العنعنة إليهم بعضهم بعضاً ، يعني مع براءتهم من التدليس ، ونقل مسلم عن بعض أهل عصره أنّه قال لا يقوم الحجّة بها ، ولا الحمل على الاتّصال ، حتّى يثبت أنّهما التقيا في عمرهما مرّة فأكثر ، ولا يكفي إمكان تلاقيهما .

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح مسلم ١ : ٣٥ .

٣٥٨

قال مسلم : وهذا قولٌ ساقطٌ مخترعٌ مستحدث ، لم يسبق قائله إليه ولا مساعد له من أهل العلم عليه ، وأنّ القول به بدعة باطلة ، وأطنب مسلم في الشناعة على قائله ، واحتجّ مسلم بكلام مختصره : إنّ المُعنعن عند أهل العلم محمولٌ على الاتّصال ، إذا ثبت التلاقي مع احتمال الإرسال ، فكذا إذا أمكن التلاقي ، وهذا الذي صار إليه مسلم قد أنكره المحقّقون وقالوا : هذا الذي صار إليه مسلم ضعيف ، والذي ردّه هو المختار الصحيح الذي عليه أئمّة هذا الفن ، مثل عليّ بن المديني ، والبخاري وغيرهما )(١) .

أحاديثٌ باطلة في كتاب البخاري

وكما تكلّمنا باختصارٍ عن البخاري ، فلنتكلّم في كتابه الموصوف بالصحيح ، على ضوء أقوال كبار أئمّة الحديث ، مقتصرين على طعنهم وقدحهم في عدّةٍ من أحاديثه :

حديث خِطبة عائشة

( فمنها ) الحديث في خطبة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عائشة وقول أبي بكر له : ( إنّما أنا أخوك ) ، وهذا نصّه :

( عن عروة : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطَب عائشة ، فقال له أبو بكر : إنّما أنا أخوك ، فقال :( أنت أخي في دين الله وكتابه ، وهي لي حلال ) (٢) .

قال ابن حجَر عن الحافظ مغلطاي : ( في صحّة هذا الحديث نظر ؛ لأنّ الخلّة لأبي بكر إنّما كانت بالمدينة ، وخِطبة عائشة كانت بمكّة ، فكيف يلتئم قوله : إنّما أنا أخوك.

وأيضاً : فالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما باشر الخطبة بنفسه ، كما أخرجه ابن أبي عاصم ، مِن طريق يحيى بن عبد الرحمان بن حاطب ، عن عائشة : إنّ النبيّ أرسل خولة بنت حكيم إلى أبي بكر يخطب عائشة ، فقال لها أبو بكر :

ـــــــــــــــــــ

(١) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجّاج ١ : ١٢٧ ـ ١٢٨ .

(٢) صحيح البخاري ٧ : ٨ .

٣٥٩

وهل تصلح له ، إنّما هي بنت أخيه ؟ فرجعَت فذكرت ذلك للنبيّ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ارجعي فقولي له : أنت أخي في الإسلام وابنتك تصلح لي فأتت أبا بكر فذكرت ذلك له ، فقال : ادعي رسول الله ، فجاء فأنكحه )(١) .

حديث شفاعة إبراهيم لآزر

( ومنها ) الحديث في شفاعة سيّدنا إبراهيمعليه‌السلام لآزر في يوم القيامة .

وهذا الافتراء ذكره البخاري على حسب ديدنه في غير موضعٍ من كتابه السقيم ، وفيه غاية الإزراء بشأن إبراهيم على نبيّنا وآله وعليه سلام الرب الرحيم ، كما لا يخفى على مَن له ذهن مستقيم ، حيث أثبتوا له في ذلكأوّلاً : مخالفة أمر الله تعالى وثانياً : إصراره على المخالفة والمجادلة حيث لم ينته ـ بناءً على افتراءهم ـ لمّا نهى الله عن الاستغفار له في دار الدنيا ، وثالثا : مخالفته للدلائل العقليّة الدالّة على المنع مِن الاستغفار للمشركين ،ورابعاً : الخطأ والغفلة في ظنّ أنّ تعذيب الكافر خزيٌ له بل خزيٌ أعظم ، وأيّ خزي أعظم من هذا ؟ فإنّ ذلك ممّا لا يتخيّله مَن له أدنى عقل ودراية ، فضلاً عن النبيّ المعصوم المبعوث للهداية ، وخامساً : للجهل بالمراد مِن وعده تعالى بأن لا يخزيه .

وهذه هي ألفاظ الحديث في كتاب التفسير :

( حدّثا إسماعيل قال : حدّثنا أخي ، عن ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هُريرة ، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :يلقى إبراهيم أباه فيقول : يا رب ، إنّك وعدتني ألاّ تخزني يوم يُبعثون ، فيقول الله :إنّي حرّمت

ـــــــــــــــــــ

(١) فتح الباري ـ شرح صحيح البخاري ٩ : ١٠١ .

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

«ما لنا والدخول بين السلاطين».

إنّ حياتهم العملية لمْ تكن صدى لعقيدتهم التي آمنوا بها ، فقد كانوا يمنّون قادتهم بالوقوف معهم ثمّ يتخلّون عنهم في اللحظات الحاسمة.

ومِنْ مظاهر ذلك التناقض : أنّهم بعدما أرغموا الإمام الحسن (عليه السّلام) على الصلح مع معاوية وغادر مصرهم جعلوا ينوحون ويبكون على ما فرّطوه تجاهه ، ولمّا قتلوا الإمام الحُسين (عليه السّلام) ودخلت سبايا أهل البيت (عليهم السّلام) مدينتهم أخذوا يعجّون بالنياحة والبكاء ، فاستغرب الإمام زين العابدين (عليه السّلام) ذلك منهم ، وراح يقول : «إنّ هؤلاء يبكون وينوحون مِنْ أجلنا! فمَنْ قتلنا؟!».

إنّ فقدان التوازن في حياة ذلك المجتمع جرّ لهم الويلات والخطوب وألقاهم في شرّ عظيم.

الغدر والتذبذب :

والظاهرة الاُخرى في المجتمع الكوفي الغدر ، فقد كان مِنْ خصائصهم التي اشتهروا بها ، وقد ضُرِبَ بهم المثل فقيل : أغدر مِنْ كوفيّ(1) ، كما ضُرِبَ المثل بعدم وفائهم فقيل : الكوفي لا يوفي(2) .

وقد وصفهم أمير المؤمنين (عليهم السّلام) بقوله : «اُسود روّاغة ، وثعالب روّاغة». وقال فيهم : «إنّهم اُناس مجتمعة أبدانهم ، مختلفة أهواؤهم ، وإنّ مَنْ فاز بهم فاز بالسهم الأخيب». وإنّه أصبح لا يطمع في نصرتهم

__________________

(1) الفرق بين الفِرق ـ لعبد القاهر البغدادي / 26.

(2) آثار البلاد ـ لزكريا القزويني / 167.

٤٢١

ولا يصدق قولهم(1) .

لقد كان الجانب العملي في حياتهم هو التقلّب والتردّد والتخاذل ، وقد غرّوا زيد بن علي الثائر العظيم فقالوا له : إنّ معك مئة ألف رجل مِنْ أهل الكوفة يضربون دونّك بأسيافهم(2) ، وقد أحصى ديوانه منهم خمسة عشر ألفاً كانوا قد بايعوه على النصرة(3) ، ثمّ لمّا أعلن الثورة هبط عددهم إلى مئتي وثمانية عشر رجلاً(4) .

وقد نصح داود بن علي زيداً بأنْ لا ينخدع بأهل الكوفة ، فقال له : يابن عمّ ، إنّ هؤلاء يغرّونك مِنْ نفسك ؛ أليس قد خذلوا مَنْ كان أعزّ عليهم منك جدّك علي بن أبي طالب حتّى قُتِلَ؟ والحسن مِنْ بعده بايعوه ثمّ وثبوا عليه فانتزعوا رداءه مِنْ عنقه ، وانتهبوا فسطاطه وجرحوه؟ أو ليس قد أخرجوا جدّك الحُسين وحلفوا له بأوكد الأيمان ثمّ خذلوه وأسلموه ، ثمّ لمْ يرضوا بذلك حتّى قتلوه(5) ؟

وكانوا ينكثون البيعة بعد البيعة ، وقد ألمع إلى هذه الظاهرة أعشى همدان الذي كان شاعر ثورة محمّد بن الأشعث الذي ثار على الحجّاج ، يقول داعياً على أهل الكوفة :

أبى اللهُ إلاّ أنْ يتمّمَ نورَهُ

ويُطفئَ نورَ الفاسقين فيخمدا

ويُنزل ذلاً بالعراقِ وأهلهِ

لما نقضوا العهد الوثيق المؤكّدا

وما أحدثوا مِنْ بدعةٍ وعظيمةٍ

مِن القول لمْ تصعد إلى الله مصعدا

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 238.

(2) تاريخ الطبري 2 / 3 / 1677.

(3) الطبري 2 / 3 / 1685.

(4) (5) الطبري 2 / 3 / 1679.

٤٢٢

وما نكثوا مِن بيعةٍ بعد بيعةٍ

إذا ضمنوها اليوم خاسوا بها غدا(1)

وقد عرفوا بهذا السمت عند جميع الباحثين ، ويرى (فلهوزن) إنّهم متردّدون متقلّبون ، وإنّهم لمْ يألفوا النظام والطاعة ، وإنّ الإخلاص السياسي والعسكري لمْ يكنْ معروفاً لهم على الإطلاق ، وأكّد ذلك الباحث (وزتر شنين) يقول : إنّ مِنْ صفاتهم المميّزة البارزة الهوائية والتقلّب ، ونقص الثقة بأنفسهم(2) .

ولمْ يكنْ هذا التذبذب في حياتهم مقتصراً على العامّة ، وإنّما كان شائعاً حتّى عند رجال الفكر والأدب ؛ فسراقة الشاعر المعروف وقف في وجه المختار ، واشترك في قتاله يوم جبّانة السبيع ، فلمّا انتصر المختار وقع سراقة أسيراً بين يدي أصحابه فزُجّ به في السجن ، فأخذ سراقة يستعطفه وينظم القصيد في مدحه ، ويذكر مبادئ ثورته ويبالغ في تمجيده ، فكان ممّا قاله فيه :

نُصرتَ على عدوِّك كلّ يومٍ

بكلّ كتيبةٍ تنعى حُسينا

كنصرِ محمّد في يوم بدرٍ

ويوم الشِّعبِ إذ لاقى حُنينا

فأسجح(3) إذ ملكت فلو ملكنا

لجرنا في الحكومةِ واعتدينا

تقبّل توبةً منّي فإنّي

سأشكرُ إنْ جعلتَ النقد دينا

ولمّا عفا عنه المختار خرج مِن الكوفة ، فلمْ يبعد عنها قليلاً حتّى أخذ يهجو المختار ويحرّض عليه. وقد قال في هجائه :

ألا أبلغ أبا إسحاقَ أنّي

رأيتُ البلقَ دهماً مصمتاتِ

__________________

(1) تاريخ الطبري 2 / 1113.

(2) السيادة العربية / 74.

(3) السجح : حسن العفو.

٤٢٣

كفرتُ بوحيكُمْ وجعلتُ نذراً

عليّ قتالكمْ حتّى المماتِ

أرى عينيّ ما لمْ تُبصراهُ

كلانا عالمٌ بالترّهاتِ

إذا قالوا أقولُ لهم كذبتمْ

وإنْ خرجوا لبستُ لهم أداتي(1)

لقد مضى يصبّ ثورته وسخريته على المختار وأصحابه في نفس الوزن الذي نظم فيه قصيدته السابقة. ومِن الطبيعي إنّ هذا التناقض في حياتهم كان ناجماً مِن الاضطراب النفسي ، وعدم التوازن في السلوك.

ومِن غرائب ذلك التناقض أنّ بعضهم كان يحتاط في أبسط الاُمور ولا يتحرّج مِن اقتراف أعظم الموبقات! فقد جاء رجل مِنْ أهل الكوفة إلى عبد الله بن عمر يستفتيه في دم البعوض يكون على الثوب أطاهر أم نجس ، فقال له ابن عمر : مِنْ أين أنت؟

ـ مِنْ أهل العراق.

فبُهر ابن عمر وراح يقول : انظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)! وقد سمعته يقول فيه وفي أخيه : «هما ريحانتاي مِن الدنيا»(2) !

ويعزو بعضهم السبب في هذا الاضطراب إلى الظروف السياسية القاسية التي مرّت عليهم ؛ فإنّ الحكم الاُموي كان قد عاملهم بمنتهى القسوة والشدّة ، فرماهم بأقسى الولاة وأشدّهم عنفاً ، أمثال المغيرة بن شعبة وزياد بن سُميّة ؛ ممّا جعل الحياة السياسية ضيّقة ومتحرّجة ، ممّا نجم عنه هذا التناقض في السلوك.

__________________

(1) أنساب الأشراف 5 / 234 ، الأخبار الطوال / 264.

(2) الصراط السوي في مناقب آل النّبي / 94 مِنْ مصوّرات مكتبة الإمام أمير المؤمنين.

٤٢٤

التمرّد على الولاة :

والطابع الخاص الذي عُرِفَ به المجتمع الكوفي التمرّد على الولاة والتبرّي منهم ، فلا يكاد يتولّى عليهم والٍ وحاكمٍ حتّى أعلنوا الطعن عليه ، فقد طعنوا في سعد بن أبي وقاص مؤسس مدينتهم واتّهموه بأنّه لا يحسن الصلاة(1) فعزله عمر ولّى مكانه الصحابي الجليل عمّار بن ياسر ، ولمْ يلبثوا أنْ شكوه إلى عمر فعزله وولّى مكانه أبا موسى الأشعري ، ولمْ تمضِ أيّام مِنْ ولايته حتّى طعنوا فيه ، وقالوا : لا حاجة لنا في أبي موسى(2) .

وضاق عمر بهم ذرعاً وبدا عليه الضجر ، فسأله المغيرة عن شأنه ، فقاله له : ما فعلت هذا يا أمير المؤمنين إلاّ مِنْ عظيم فهل نابك مِنْ نائب؟ فانبرى عمر يشكو إليه الألم الذي داخله مِنْ أهل الكوفة قائلاً : وأيّ نائب أعظم مِنْ مئة ألف لا يرضون عن أمير ، ولا يرضى عنهم أمير(3) .

وتحدّث عمر عنهم فقال : مَنْ عذيري مِنْ أهل الكوفة ؛ إنْ استعملت عليهم القوي فجروه ، وإنْ ولّيت عليهم الضعيف حقرّوه(4) . لقد جُبلوا على التمرّد فهم لا يُطيقون الهدوء والاستقرار.

ويرى (ديمومبين) إنّ هذه الظاهرة اعتادها الكوفيون مِنْ أيّام الفرس الذين دأبوا

__________________

(1) فتوح البلدان / 287.

(2) الطبري ، وجاء فيه أنّهم اتّهموه بأنّه يتاجر في أقواتهم.

(3) فتوح البلدان / 279.

(4) مختصر كتاب البلدان / 184 لابن الفقيه.

٤٢٥

على تغيير حكّامهم دوماً(1) ، ويذهب (فان فلوتن) إلى أنّ العرب المستقرّين بالكوفة كانوا قد تعوّدوا على حياة الصحراء بما فيها مِنْ ضغن وشحناء ، وحبّ الانتقام والتخريب والأخذ بالثأر ؛ فلذا تعوّدوا على التمرّد وعدم الطاعة للنظام(2) .

الانهزاميّة :

والظاهرة الغريبة التي عُرِفَ بها المجتمع الكوفي هي الانهزامية وعدم الصمود أمام الأحداث ، فإذا جدّ الجد ولّوا منهزمين على أعقابهم ، فقد أجمعوا في حماس على مبايعة مسلم ونصرته ، ولمّا أعلن الثورة على ابن مرجانة انفضّوا مِنْ حوله حتّى لمْ يبقَ معه إنسان يدلّه على الطريق ، وقد وقفوا مثل هذا الموقف مِنْ زيد بن علي ، فقد تركوه وحده يصارع جيوش الاُمويِّين ، وراح يقول : فعلوها حُسينية.

وبايعوا عبد الله بن معاوية ، فقالوا له : ادعُ إلى نفسك فبنو هاشم أوّلى بالأمر مِنْ بني مروان(3) ، وأخرجوه حيث كان مقيماً وأدخلوه القصر فبايعوه ، ولمّا زحف لقتاله والي الاُمويِّين عبد الله بن عمر فرّوا منهزمين ، ونظر عبد الله بن معاوية فإذا الأرض بيضاء مِنْ أصحابه فقد غدر به قائد قواته ؛ لأنّه كان على اتفاق مع والي الاُمويِّين فانهزم وانهزم معه الجيش(4) ، وكان عيسى بن زيد يقول فيهم : لا أعرف موضع ثقة يفي ببيعته ويثبت عند اللقاء(5) .

__________________

(1) النظم الإسلاميّة / 26.

(2) السيادة العربية / 11.

(3) (4) تاريخ الطبري 2 / 3 / 11880.

(5) مقاتل الطالبيِّين / 418.

٤٢٦

مساوئ الأخلاق :

واتّصفت الأكثرية الساحقة مِنْ أهل الكوفة بمساوئ الأخلاق. يقول فيهم عبد الله بن الحسن إنّهم : نفج العلانية ، خور السريرة ، هوج الردّة ، جزع في اللقاء ، تقدمهم ألسنتهم ولا تشايعهم ، وإن حوريتم خرتم ، وإنْ اجتمع الناس على إمام طعنتم ، وإنْ جئتم إلى مشاقّة نكصتم(1) .

ووصفهم المختار لعبد الله بن الزّبير حينما سأله عنهم ، فقال : لسلطانهم في العلانية أولياء وفي السرّ أعداء. وعلّق ابن الزّبير على قول المختار فقال : هذه صفة عبيد السوء ، إذا رأوا أربابهم خدموهم وأطاعوهم ، فإذا غابوا عنهم شتموهم(2) .

وهجاهم أعشى همدان بقوله :

وجبناً حشاه ربُّهمْ في قلوبهمْ

فما يقربونَ الناسَ إلاّ تهدّدا

فلا صدقَ في قولٍ ولا صبرَ عندهمْ

ولكنّ فخراً فيهم وتزيّدا(3)

ويقول فيهم أبو السرايا :

وما رستُ أقطارَ البلاد فلمْ أجدْ

لكمْ شبهاً فيما وطأتُ مِن الأرضِ

خلافاً وجهلاً وانتشار عزيمةٍ

ووهناً وعجزاً في الشدائدِ والخفضِ

لقد سبقتْ فيكم إلى الحشر دعوةٌ

فلا عنكمُ راضٍ ولا فيكمُ مَرضي(4)

__________________

(1) (2) الطبري 2 / 3 / 1681.

(3) الطبري 2 / 2 / 1114.

(4) يشير إلى دعوة الإمام الشهيد الحُسين (عليه السّلام) على أهل الكوفة يوم عاشوراء بقوله : «... ولا يرضي الولاة عنكم أبداً».

٤٢٧

سأبعد داري مِنْ قلى عن ديارِكُمْ

فذوقوا إذا ولّيتُ عاقبةَ البُغضِ(1)

وحلّل الدكتور يوسف خليف هذه الأبيات بقوله : وأبو السرايا في هذه الأبيات يردّد تلك الفكرة القديمة التي عُرِفَتْ عن أهل الكوفة مِنْ أنّهم أهل شقاق ونفاق ومساوئ أخلاق ، فيصفهم بالشقاق والجهل وتفرّق العزيمة والضعف والعجز ، ويرى أنّ هذه صفاتهم التي تلازمهم دائماً في الحرب والسلم ، وهي صفات لمْ تجعل أحداً مِنْ زعمائهم أو أئمتهم يرضى عنهم ، وهم منفردون بها مِنْ بين سائر البشر في جميع أقطار الأرض التي وطأتها قدماه ، ثمّ يعلن في النهاية ببغضه لهم واعتزامه البعد عنهم ؛ ليذوقوا مِنْ بعده سوء العاقبة وسوء المصير(2) .

ووصفهم أبو بكر الهذلي بقوله : إنّ أهل الكوفة قطعوا الرحم ووصلوا المثانة ، كتبوا إلى الحُسين بن علي إنّا معك مئة ألف وغرّوه ، حتّى إذا جاء خرجوا إليه وقتلوه وأهل بيته صغيرهم وكبيرهم ثمّ ذهبوا يطلبون دمه ، فهل سمع السامعون بمثل هذا؟!(3) .

الجشع والطمع :

وهناك نزعة عامّة سادت في أوساط المجتمع الكوفي ، وهي التهالك على المادة والسعي على حصولها بكلّ طريق. فلا يُبالون في سبيلها بالعار والخزي ، ولقد لعبت هذه الجهة دورها الخطير في إخفاق ثورة مسلم ؛ فقد بذل ابن زياد الأموال بسخاء للوجوه والأشراف فخفّوا إليه سِراعاً ،

__________________

(1) مقاتل الطالبيِّين / 544 ـ 546.

(2) حياة الشعر في الكوفة / 445.

(3) مختصر البلدان / 173.

٤٢٨

فغدروا بمسلم ونكثوا عهودهم ، وقد ملكهم ابن زياد بعطائه ؛ فأخرجهم لحرب ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعد أنْ أقسموا الأيمان المغلّظة على نصرته والذبّ عنه.

التأثّر بالدعايات :

وظاهرة أخرى مِنْ ظواهر المجتمع الكوفي ، وهي سرعة التأثر بالدعايات مِنْ دون فحص ووقوف على واقعها ، وقد استغلّ هذه الظاهرة الاُمويِّون أيّام (مسكن) ؛ فأشاعوا في أوساط الجيش العراقي أنّ الحسن صالح معاوية ، وحينما سمعوا بذلك ماجوا في الفتنة وارتطموا في الاختلاف ، فعمدوا إلى أمتعة الإمام فنهبوها كما اعتدوا عليه فطعنوه في فخذه. ولمّا أذاعت عصابة ابن زياد بين جيوش مسلم أنّه جيش أهل الشام قد أقبل إليكم فلا تجعلوا أنفسكم عرضة للنقمة والعذاب ، فلمّا سمعوا ذلك انهارت أعصابهم وولّوا منهزمين ، وأمسى ابن عقيل وحده ليس معه إنسان يدلّه على الطريق.

هذه بعض مظاهر الحياة الاجتماعية في الكوفة ، وهي تكشف عن ضحالة ذلك المجتمع وانهياره أمام الأحداث ، فلمْ تكنْ له إرادة صلبة ولا وعي اجتماعي أصيل ؛ وقد جرّوا لهم بذلك الويل ، فدمّروا قضاياهم المصيرية وتنكّروا لجميع حقوقهم ، وفتحوا المجال للطاغية ابن مرجانة أنْ يتحكّم فيهم ، ويصبّ عليهم وابلاً مِن العذاب الأليم.

٤٢٩

الحياة الاقتصاديّة :

أمّا الحياة الاقتصادية في الكوفة فكانت تتّسم بعدم التوازن ، فقد كانت فيها الطبقة الأرستقراطية التي غرقت في الثراء العريض ، فقد منحتها الدولة الاُمويّة أيّام عثمان ومعاوية الهبات والامتيازات الخاصة ؛ فآثرت على حساب الضعفاء والمحرومين ، ومِنْ بين هؤلاء :

1 ـ الأشعث بن قيس : وقد اشترى في أيّام عثمان أراضي واسعة في العراق ، وكان في طليعة الإقطاعيين في ذلك العصر ، وهو الذي أرغم الإمام على قبول التحكيم ؛ لأنّ حكومته كانت تهدّد مصالحه وامتيازاته الخاصة.

2 ـ عمرو بن حُريث : وكان أثرى رجل في الكوفة(1) ، وقد لعب دوراً خطيراً في إفساد ثورة مسلم وشلّ حركتها.

3 ـ شبث بن ربعي : وهو مِن الطبقة الأرستقراطية البارزة في الكوفة(2) ، وهو أحد المخذّلين عن مسلم ، كما تولّى قيادة بعض الفرق التي حاربت الحُسين (عليه السّلام).

هؤلاء بعض المثرين في ذلك العصر ، وكانوا يداً لابن مرجانة وساعده القوي الذي أطاح بثورة مسلم ؛ فقد كانوا يملكون نفوذاً واسعاً في الكوفة ، وقد استطاعوا أنْ يُعلنوا معارضتهم للمختار رغم ما كان يتمتّع به مِن الكُتل الشعبية الضخمة المؤلفة مِن الموالي والعبيد ، وهم الذين أطاحوا بحكومته.

أمّا الأكثرية الساحقة في المجتمع الكوفي فكانت مرتبطة بالدولة ، تتلقّى موادّها المعاشية منها ؛ باعتبارها المعسكر الرئيس للدولة ، فهي التي تقوم

__________________

(1) في الطبري : أنّ عمرو بن حُريث كان أكثر أهل الكوفة مالاً.

(2) حياة الشعر في الكوفة / 168.

٤٣٠

بالاتفاق عليها ، وقد عانى بعضهم الحرمان والبؤس. وقد صوّر الشاعر الأسدي سوء حياته الاقتصادية بقصيدة يمدح بها بعض نبلاء الكوفة لينال مِنْ معروفه وكرمه ، يقول فيها :

يا أبا طلحةَ الجواد أغثني

بسجالٍ مَنْ سيبكَ المقسومْ

أحيي نفسي فدتك نفسي فإنّي

مفلسٌ قد علمتَ ذاك عديمْ

أو تطوع لنا بسلتِ دقيقٍ

أجرهُ إنْ فعلت ذاك عظيمْ

قد علمتمْ فلا تعامس عنّي

ما قضى الله في طعام اليتيمْ

ليس لي غيرُ جرّةٍ وأصيصٍ

وكتابٍ منمنمٍ كالوشومْ

وكساءٍ أبيعهُ برغيفٍ

قد رقعنا خروقَهُ بأديمْ

وأكافٍ أعارنيه نشيطٍ

هو لحافٌ لكلِّ ضيفٍ كريمْ(1)

أرأيت هذا الفقر المدقع الذي دعا الشاعر إلى هذا الاستعطاف والتذلل ، إنها مشكلة الفقر الذي أخذ بخناقه.

وعلّق شوقي ضيف على هذه الأبيات بقوله : ومِنْ هنا ارتفع صوت المال في القصيدة الاُمويّة ، واحتلّ جوانب غير قليلة منها ؛ فقد كان أساسياً في حياة الناس ، فطبيعي أنْ يكون أساسياً في فنّهم وشعرهم. أليس دعامة هامّة مَن دعائم الحياة؟! فلمْ لا يكون دعامة هامّة مِنْ دعائم البناء الفنّي؟ إنّه يستنر في قاع الحياة وقاع الشعر ؛ لأنّ الشعر إنّما هو تعبير عن الحياة(2) .

إنّ الحياة الاقتصادية تؤثّر أثراً عميقاً وفعّالاً في كيان المجتمع ، وتلعب دوراً خطيراً في توجيه المجتمع نحو الخير أو الشرّ ؛ وقد ثبت أنّ كثيراً مِن الجرائم التي يقترفها بعض المصابين في سلوكهم إنّما جاءت نتيجة لفقرهم وبؤسهم ، أو لجشعهم على تحصيل المادة ، وقد اندفع أكثر الجيش

__________________

(1) حياة الحيوان ـ الجاحظ 5 / 297 ـ 299.

(2) التطور والتجدد في الشعر الاُموي / 134.

٤٣١

الذي خرج لحرب الإمام الحُسين (عليه السّلام) حينما منّاهم ابن مرجانة بزيادة مرتّباتهم التي يتقاضونها مِن الدولة.

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ سوء الحالة الاقتصادية في الكوفة كانت مِن الأسباب الفعّالة في إخفاق ثورة مسلم ، وتحوّل الجماهير عنه حينما أغدق ابن زياد الأموال على الوجوه والعرفاء وغيرهم ، فاندفعوا إلى القيام بمناهضة مسلم وصرف الناس عنه.

عناصر السكّان :

كانت الكوفة أممية قد امتزجت فيها عناصر مختلفة في لغاتها ، ومتباينة في طباعها وعاداتهم وتقاليدها.

فكان فيها العربي والفارسي والنبطي إلى جانب العبيد وغيرهم ، ولمْ تعدْ مدينة عربية خالصة كمكة والمدينة ، وإنّما كانت مدينة أهلها أخلاط مِن الناس كما يقول اليعقوبي.

وقد هاجرت إليها هذه العناصر باعتبارها المركز الرئيسي للمعسكر الإسلامي. فمنها تتدفّق الجيوش الإسلاميّة للجهاد ، كما تتدفّق بها المغانم الكثيرة التي وعد الله بها المجاهدين ، وقد بلغ نصيب الجندي المقاتل مِنْ فيء المدائن اثني عشر ألفاً(1) ؛ ممّا دعا ذلك إلى الهجرة إليها باعتبارها السبيل إلى الثروة. ونلمع إلى بعض تلك العناصر :

__________________

(1) طبقات ابن سعد 6 / 4 ، مختصر كتاب البلدان / 166.

٤٣٢

العرب :

وحينما تمّ تأسيس الكوفة على يد فاتح العراق سعد بن أبي وقاص اتّجهت إليها أنظار العرب ، وتسابقوا إلى الهجرة إليها ، فقد سكنها في وقت مبكر سبعون بدرياً ، وثلاثمئة مِنْ أصحاب الشجرة(1) .

وقد ترجم ابن سعد في طبقاته مئة وخمسين صحابياً ممّن نزلوا الكوفة(2) . ويقول فيها السفّاح : وهي ـ أيّ الكوفة ـ منزل خيار الصحابة وأهل الشرف(3) .

أمّا القبائل العربية التي سكنتها فهي :

القبائل اليمنيّة :

وتسابقت القبائل اليمنية إلى سكنى الكوفة ، فكان عددهم فيما يقول المؤرّخون اثني عشر ألفاً(4) ، وهي :

1 ـ قضاعة.

2 ـ غسان.

3 ـ بجيلة.

4 ـ خثعم.

5 ـ كندة.

__________________

(1) طبقات ابن سعد 6 / 4.

(2) طبقات ابن سعد 6 / 43.

(3) مختصر كتاب البلدان / 73.

(4) معجم قبائل العرب 1 / 15 ، فتوح البلدان / 276 ، معجم البلدان 7 / 267.

٤٣٣

6 ـ حضرموت.

7 ـ الأزد.

8 ـ مذحج.

9 ـ حِمْيَر.

10 ـ همدان.

11 ـ النخع.

فهذه هي الاُسر التي تنتمي إلى اليمن وقد استوطنت الكوفة ، ونزلت في الجانب الشرقي مِن المسجد.

ويرى (فلهوزن) أنّ القبائل المشهورة مِن اليمن ، وهي : مذحج وهمدان وكندة ، قد كانت لها السيطرة والسيادة على الكوفة. ويقول عبد الملك بن مروان بعد دخوله إلى الكوفة ، حينما جاءته قبائل مذحج وهمدان : ما أرى لأحد مع هؤلاء شيئاً.

القبائل العدنانيّة :

أمّا القبائل العدنانية التي سكنت الكوفة ، فكان عددها ثمانية آلاف شخصاً ، وهي تتشكّل مِنْ أسرتين :

1 ـ تميم.

2 ـ بنو العصر.

قبائل بني بكر :

وسكنت الكوفة قبائل بني بكر ، وهي عدّة اُسر منها :

1 ـ بنو أسد.

٤٣٤

2 ـ غطفان.

3 ـ محارب.

4 ـ نمير.

وهناك مجموعة اُخرى مِن القبائل العربية استوطنت الكوفة ، وهي كنانة وجديلة وضبيعة وعبد القيس وتغلب وأياد وطي وثقيف وعامر ومزينة(1) .

ويرى (ماسنيون) أنّه إلى جانب القرشيين الذين سكنوا الكوفة عناصر شديدة البداوة مِنْ سكان الخيام ، وبيوت الشعر وأصحاب الإبل مِنْ بني دارم التميمي وجيرانهم اليمنيين القدماء مِنْ طيء ، وعناصر نصف رحالة مِنْ ربيعة وأسد مِن الغرب والشمال الغربي ، وبكر مِن الشرق والجنوب الشرقي ، وعبد القيس الذين جاءوا مِنْ هجر مِن الجنوب الشرقي.

ثمّ عناصر متحضّرة مِن القبائل الجنوبية الأصيلة مِن العربية الذين نزحوا مِن اليمن وحضرموت ، وهؤلاء كانوا قسمين : عناصر نصف متحضّرة مِنْ كندة وبجبلة ، وعناصر متحضّرة تماماً مِنْ سكّان المدن والقرى اليمنية مِنْ مذحج وحِمْيَر وهمدان(2) .

إنّ العنصر العربي الذي استوطن الكوفة منذ تأسيسها كان مزيجاً مِن اليمانية والنزاريّة وغيرها ، ولكنّ اليمانية كانت أكثر عدداً ، كما كان تأثيرها في حياة المجتمع الكوفي أشدّ مِنْ غيرها.

الروح القبليّة :

وسادت في قبائل المجتمع العربي في الكوفة الروح القبلية فكانت كلّ قبيلة

__________________

(1) الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الكوفة / 42.

(2) خطط الكوفة / 12 ـ 13.

٤٣٥

تنزل في حي معين لها لا يشاركها فيه إلاّ حلفاؤها ، كما كان لكلّ قبيلة مسجدها الخاص ومقبرتها الخاصة. ويرى (ماسنيون) أنّ جبّانات الكوفة هي إحدى الصفات المميّزة لطبوغرافيتها(1) ، كما سمّيت شوارعها وسككها بالقبائل التي كانت تقطن فيها(2) ، وغدت المدينة صورة تامّة للحياة القبلية ، وبلغ الإحساس بالروح القبلية والتعصّب لها إلى درجة عالية ، فكانت القبائل تتنافس فيما بينها على إحراز النصر كما حدث في واقعة الجمل ؛ ومِنْ هنا غلب على الحياة فيها طابع الحياة الجاهلية(3) .

ويحدّثنا ابن أبي الحديد عن الروح القبلية السائدة في الكوفة بقوله : إنّ أهل الكوفة في آخر عهد عليٍّ كانوا قبائل ، فكان الرجل يخرج مِنْ منازل قبيلته فيمرّ بمنازل قبيلة اُخرى ، فينادي باسم قبيلته : يا للنخع أو يا لكندة ، فيتألّب عليه فتيان القبيلة التي مرّ بها فينادون : يا لتميم أو يا لربيعة ، ويقبلون إلى ذلك الصائح فيضربونه ، فيمضي إلى قبيلته فيستصرخها ، فتُسلّ السيوف وتثور الفتنة(4) .

لقد كانت الروح القبلية هي العنصر البارز في حياة المجتمع الكوفي ، وقد استغل ابن سُميّة هذه الظاهرة في إلقاء القبض على حِجْر وإخماد ثورته ؛ فضرب بعض الاُسر ببعض ، وكذلك استغل هذه الظاهرة ابنه للقضاء على حركة مسلم وهانئ وعبد الله بن عفيف الأزدي.

__________________

(1) (2) خطط الكوفة / 18.

(3) التطور والتجديد في الشعر الاُموي / 80 ـ 81.

(4) شرح نهج البلاغة 3 / 239.

٤٣٦

الفرس :

وإلى جانب العنصر العربي الذي استوطن الكوفة كان العنصر الفارسي ، وكانوا يسمّون الحمراء(1) ، وقد سألوا عن أمنع القبائل العربية فقيل لهم تميم فتحالفوا معهم(2) .

وأكبر موجة فارسية استوطنت الكوفة عقيب تأسيسها هي المجموعة الضخمة مِنْ بقايا فلول الجيوش الساسانية التي انضمت إلى الجيش العربي وأخذت تُقاتل معه ، وقد عُرفت في التاريخ باسم (حمراء ديلم) ، فكان عددهم فيما يقول المؤرّخون أربعة آلاف جندي ، يرأسهم رجل يسمّى (ديلم) ، قاتلوا معه تحت قيادة رستم في القادسية ، فلمّا انهزمت الفرس وقُتل رستم عقدوا أماناً مع سعد بن أبي وقاص ، وشرطوا عليه أن ينزلوا حيث شاؤوا ، ويحالفوا مَنْ أحبّوا ، وأنْ يفرض لهم العطاء ، وقد حالفوا زهرة بن حويّة التميمي أحد قادة الفتح ، وفرض لهم سعد في ألف ألف ، وأسلموا وشهدوا فتح المدائن معه كما شهدوا فتح جلولاء ، ثمّ تحوّلوا فنزلوا الكوفة(3) .

وقد كوّنت هذه الجالية مجموعة كبيرة في المجتمع الكوفي ، ويذكر (فلهوزن) أنّهم كانوا أكثر مِنْ نصف سكّان الكوفة ، وقد أخذ عددهم بازدياد حتّى تضاءلت نسبة العرب في الكوفة ، وتغلّبوا في عصر المأمون حتّى كانت اللغة الفارسية تحتلّ الصدارة في ذلك العصر(4) . ويقول الجاحظ :

__________________

(1) الأخبار الطوال / 296.

(2) تاريخ الطبري.

(3) فتوح البلدان / 280 ، خطط الكوفة / 11.

(4) فك العربية / 83 ـ 84.

٤٣٧

إنّ اللغة الفارسية أثّرت تأثيراً كبيراً في لغة الكوفة(1) .

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ الفرس كانوا يشكّلون عنصراً مهمّاً في الكوفة وكوّنوا بها جالية متميزة ، فكان أهل الكوفة يقولون : جئت مِنْ حمراء ديلم(2) .

ويقول البلاذري : إنّ زياداً سيّر بعضهم إلى الشام وسيّر قوماً منهم إلى البصرة(3) ، وقد شاركت هذه الجالية في كثير مِن الفتوحات الإسلاميّة ، كما شكّلت المدّ العالي للإطاحة بالحكم الاُموي.

الأنباط :

وكانت الأنباط مِن العناصر التي سكنت الكوفة ، وقد أثّروا في الحياة العامّة تأثيراً عقلياً واجتماعياً.

ويقول المؤرّخون : إنّ الأنباط ليسوا عنصراً خاصاً مِن البشر وإنّما هم مِن العرب ، وكانوا يستخدمون اللغة الدارمية في كتابتهم ، وكانوا يستوطنون بلاد العرب الصخرية وقد انتقلوا منها إلى العراق ، واشتغلوا بالزراعة ، وكانوا ينطقون بلغتهم الدارمية(4) ، وقد أثّروا تأثيراً بالغاً في حياة الكوفة.

يقول أبو عمرو بن العلاء لأهل الكوفة : لكم حذلقة النبط وصلفهم ، ولنا زهاء الفرس وأحلامهم(5) .

ويروي الطبري أنّ رجلاً مِنْ بني عبس أسر رجلاً مِنْ أهل نهاوند اسمه دينار ، وكان يواصل العبسي ويهدي إليه ، وقد قدم

__________________

(1) البيان والتبيين 1 / 19 ـ 20.

(2) اتجاهات الشعر العربي في القرن الثاني الهجري / 55.

(3) فتوح البلدان / 279.

(4) الحضارة الإسلاميّة / 97.

(5) البيان والتبيين 2 / 106.

٤٣٨

الكوفة في أيّام معاوية فقام في الناس وقال لهم : يا معشر أهل الكوفة ، أنتم أوّل مَنْ مررتم بنا كنتم خيار الناس ، فعمّرتم بذلك زمان عمر وعثمان ثمّ تغيّرتم ، وفشت فيكم خصال أربع : بخل وخبّ وغدر وضيق ، ولمْ يكن فيكم واحدة منهنّ فرافقتكم فإذا ذلك في مواليدكم ، فعلمت مِنْ أين أتيتم(1) .

ويرى (دي بود) أنّ التغيّر الاجتماعي ، وتبدّل الأخلاق في الكوفة قد نشأ في وقت مبكّر أيّام معاوية بن أبي سفيان(2) ، ومِن الطبيعي أنّ للأنباط ضلعاً كبيراً في هذا التغيير.

السريانيّة :

والعنصر الرابع الذي شارك في تكوين الكوفة هي السريانية ، فقد كانت منتشرة في العراق قبل الفتح الإسلامي ، وكان الكثيرون منهم مقيمين على حوض دجلة ، وبعضهم كان مقيماً في الحيرة والكوفة وقد ارتبطوا بأهل الكوفة وتأثّروا بعاداتهم وأخلاقهم ؛ فإنّ الحياة الاجتماعية ـ كما يقول علماء الاجتماع ـ حياة تأثير وتأثر ، فكلّ إنسان يتأثر ويؤثر فيمَنْ حوله.

هذه هي العناصر التي شاركت في استيطان الكوفة وبناء مجتمعها ، فهي لمْ تكن عربيةً خالصةً وإنّما امتزجت بها هذه العناصر ، وقد نشأت بينها المصاهرة ، فنشأ جيل مختلط مِنْ هذه العناصر ولكنْ التغلّب الجنسي كان للعرب ؛ باعتبارهم الأكثرية الساحقة في القطر ، فقد أصبحت التقاليد

__________________

(1) تاريخ الطبري.

(2) تاريخ الفلسفة في الإسلام / 15 ـ 18.

٤٣٩

الدينية والعادات الاجتماعية خاضعة للعرب ، كما كانت لهم الكلمة العليا في البلاد. وبهذا ينتهي بنا الحديث عن عناصر السكّان في الكوفة.

الأديان :

ولمْ يكن المجتمع الكوفي يدين بدين واحد وإنّما كانت فيه أديان متعدّدة ، ولكلّ دينٍ الحرية في إقامة طقوسه الدينية ، وهذه بعضها :

1 ـ الإسلام :

وكان الإسلام دين الأكثرية الساحقة للعرب الذين استوطنوا الكوفة ، فإنّها إنّما اُنشأت لتكون حامية للجنود الإسلاميّة التي كانت تبعث بهم الدولة لحركات الفتوح وعمليات الجهاد ، ولكنّ الإسلام لمْ ينفذ إلى أعماق قلوب الكثيرين منهم ، وإنّما جرى على ألسنتهم طمعاً بثمرات الفتوح التي أفاء الله بها على المجاهدين.

وقد أكّد علم الاجتماع أنّ التحوّل الاجتماعي لا يكون إلاّ بعد أجيال وأجيال ، وأنّ المجتمع يظلّ محافظاً على عاداته وتقاليده التي اكتسبها مِنْ آبائه ، ويؤيد ذلك ما مُنِيَ به مِن الحركات الفكرية التي تتنافى مع الإسلام ، والانقسامات الخطيرة بين صفوفه ، ونلمع إلى بعض تلك الانقسامات :

الخوارج :

واعتنق هذه الفكرة القرّاء وأصحاب الجباه السود حينما رفعت المصاحف في صفّين ، وقد أرغموا الإمام على قبول التحكيم بعد ما مُنِيَ

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456