استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

استخراج المرام من استقصاء الإفحام17%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 456

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 456 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 227029 / تحميل: 8320
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

٦١

٦٢

٦٣

٦٤

٦٥

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه الاستعانة

نحمدك يا من أَطلع في فلك الهداية شمس النبوة ، وقمر الولاية ، ونصلي على قطب مداره وآله ، أهلّة سماء الإهتداء ، ونسلّم تسليماً كثيراً. وبعد :

فيقول أقل الخلائق محمد المشتهر بهاء الدين العاملي عامله الله بإحسانه : هذه الحديقة الثالثة والأربعون من كتابنا الموسوم بحدائق الصالحين في شرح صحيفة مولانا وإمامنا قبلة أهل الحق واليقين علي بن الحسين زين العابدين سلام الله عليه وعلى آبائه الطاهرين ، تتضمن شرح الدعاء الثالث والأربعين ، وهودعاؤهعليه‌السلام  عند الاستهلال أمليتها مع وفور الملال ، لتوزع البال ، واختلال الحال ، راجياً من الله تعالى أن يوفقني لإِكمال بقية الحدائق ، إنَّه مفيض الخير وملهم الحقائق.

وكان من دعائهعليه‌السلام  إذا نظر إلى الهلال :

سمّي هلالاً لجريان عادتهم برفع الأصوات عند رؤيته ، مأخوذ من الإهلال ، وهو رفع الصوت ، ومنه قولهم : أَهلّ المعتمر ، إذا رفع صوته بالتلبية ، واستهل الصبي إذا صاح عند الولادة.

وقد اضطربوا في تحديد الوقت الذي يسمّى فيه بهذا الاسم ، فقال في

٦٦

 « الصحاح » : الهلال أول ليلة ، والثانية والثالثة ، ثمّ هو قمر(١) .

وزاد صاحب القاموس فقال [٤ / أ] : الهلال غرة القمر ، أو إلى ليلتين ، أوإلى ثلاث ، أو إلى سبع ، ولليلتين من آخر الشهر ستّ وعشرين وسبع وعشرين ، وفي غيرذلك قمر(٢) . إنتهى.

قال الشيخ الجليل أبو علي الطبرسي(٣) نور الله مرقده ـ في تفسيره الموسوم بمجمع البيان عند قوله تعالى :( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ) (٤) ـ : اختلفوا في أنه إلى كم يسمّى هلالاً ، وإلى كم يسمى قمراً؟.

فقال بعضهم : يسمّى هلالاً لليلتين من الشهر ، ثمّ لا يسمّى هلالاً إلى ان يعود في الشهر الثاني.

و قال آخرون : يسمّى هلالاً ثلاث ليال ، ثمّ يسمّى قمراً.

و قال آخرون : يسمّى هلالاً حتى يحجّر ، وتحجيره أن يستدير بخيط دقيق ؛ وهذا قول الأصمعي(٥) .

________________________

(١) صحاح اللغة ٥ : ١٨٥١ مادة ( هلل ).

(٢) القاموس المحيط ٤ : ٧١ مادة ( هلل ).

(٣) الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي المشهدي ، أبو علي الطبرسي ، أمين الإِسلام ، عالم فاضل ، مفسر فقيه ، ثقة جليل القدر ، بيته بيت علم ومعرفة ، فولده مؤلف مكارم الأخلاق ، وسبطه صاحب المشكاة ، وهكذا سائر أقاربه. روى عن جمع منهم : أبو علي بن الشيخ الطوسي ، وعبد الجبار بن علي المقرىء. وممن عنه روى ابن شهر أشوب ، ومنتجب الدين ، والقطب الراوندي ، والدروستي. له مصنفات كثيرة منها : مجمع البيان ، جوامع الجامع ، اعلام الورى. مات سنة ٤٨ هـ = ١١٥٣ م في سبزوار ، وحمل جثمانه إلى المشهد الرضوي.

انظر : رياض العلماء ٤ : ٣٤٠ / روضات الجنات ٥ : ٣٥٧ ت٥٤٤ / الكنى والألقاب ٢ : ٤٤٤ / أعيان الشيعة ٨ : ٣٣٩٨ / تنقيح المقال ٢ : ٧ ت ٩٤٦١ / شهداء الفضيلة : ٤٥ / مجالس المؤمنين ١ : ٤٩٠ / مستدرك الوسائل ( الخاتمة ) ٣ : ٣٨٧ / معالم العلماء : ١٣٥ ت ٩٢٠ / المقابر : ١٠ / نقد الرجال : ٣٦٦.

(٤) البقرة ، مدنية ، ٢ : ١٨٩.

(٥) أبو سعيد ، عبد الملك بن قريب ـ بضم القاف ، وقيل عاصم ـ بن علي بن أصمع الباهلي

٦٧

وقال بعضهم : يسمّى هلالاً حتى يبهر ضوؤه سواد الليل ، ثم يقال قمراً ، وهذا يكون في الليلة السابعة(١). إنتهى كلامه زيد إكرامه.

ولا يخفى أن قوله ـ وهذا يكون إلى آخره ـ يخالف بظاهره(٢) قول صاحب القاموس « أو إلى سبع » ، ووجه التوفيق بينهما غيرخفّي(٣) .

قالوا : وإنّما يسمى بعد الهلال قمراً لبياضه ، فإن الأقمر هو الأبيض(٤) .

و قيل : لأنَّه يقمر الكواكب ، أي يغلبها بزيادة النور.

ويسمّى في الليلة الرابعة عشرة بدراً ، قال في الصحاح : سمّي بذلك لمبادرته الشمس في الطلوع كأنه يعجلها المغيب(٥) .

وقال بعضهم : سمي بدراً لكماله ، تشبيهاً له بالبدرة الكاملة وهي عشرة آلاف درهم(٦) .

________________________

البصري ، عالم لغوي ، راوية لشعر ألعرب ، لقب بشيطان الشعر ، يحفظ عشرة آلاف ارجوزة ، روى عن سليمان التميمي ، وأبي عمرو بن العلا ، ومسعر بن كدام ، وسلمة بن بلال ، وكثيرغيرهم ؛ وعنه حدث أبو عبيد ، ويحيى بن معين ، وإسحاق الموصلي ، وسلمة بن عاصم ، وأبوحاتم السجستاني ، وأبو العيناء ، وخلق كثير. كان قليل الرواية للحديث ، مكثر التأليف ، له : الإبل ، الأضداد ، خلق الانسان ، المترادف ، الفرق ، الشاء ، الوحوش وغيرها. مات سنة ٢١٦ هـ = ٨٣١ م.

انظر : تاريخ بغداد ١٠ : ٤١٠ ت ٥٥٧٦ / الأنساب : ٤٢ ، أ / وفيات الأعيان ٣ : ١٧٠ ت٣٧٩ / ميزان الاعتدال ٢ : ٦٦٢ ت ٥٢٤٠ / مرآة الجنان ٢ : ٦٤ / طبقات القراء ١ : ٤٧٠ ت ١٩٦٥ / تهذيب التهديب ٦ : ٣٦٨ ت ٧٧١ / بغية الوعاة ٢ : ١١٢ ت ١٥٧٣ / سيرأعلام النبلاء ١٠ : ١٧٥ت ٣٢ / أخبارأصفهان ٢ : ١٣٠.

(١) مجمع البيان ١ : ٢٨٣. وفي هامش الأصل : الإشارة إلى بهر ضوئه سواد الليل « منه » قدس سره.

(٢) إذ الظاهر خروج ما بعد ( حتى ) عمَّا قبلها ، ويؤيده أن بهر ضوئه سواد الليل يمتد ليالي كثيرة ليس هوفيها هلالاً ألبتة « منه ». هامش الأصل.

(٣) بجعل ما بعد ( حتى ) داخلاً فيما قبلها ، وإرادة البهر في الليلة الاُولى منه فقط ، أعني السابعة « منه ». قدس سره ، هامش المخطوطة.

(٤) أنظر : الصحاح ٢ : ٧٩٨ ـ ٧٩٩ ، القاموس المحيط : ٥٩٨ ، مادة ( قمر ) فيهما.

(٥) الصحاح ٢ : ٥٨٦ ، مادة ( بَدَرَ ).

(٦) أنظر : تاج العروس ٣ : ٣٤ ـ ٣٥.

٦٨

مقدمة :

لا ريب في استحباب الدعاء عند رؤية الهلال ، تأسياً بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد فعله أمير المؤمنينعليه‌السلام  ، والأئمة من ولده سلام الله عليهم(١) [٤ / ب]

و ذهب ابن أبي عقيل(٢) رحمه‌الله  إلى وجوب الدعاء عند رؤية هلال شهررمضان(٣) .

و هو قول نادر لا نعلم له فيه موافقاً ، وربما حمل قوله بالوجوب على إرادة تأكيد الاستحباب صوناً له عن مخالفة الجمهور.

والدعاء الذي أوجبه هو هذا :

« الحمد لله الذي خلقتي وخلقك ، وقدَّر منازلك ، وجعلك مواقيت للناس ؛ اللّهمّ أهلّه علينا إهلالاً مباركاً ؛ اللهم أدخله علينابالسلامة والإسلام ، واليقين والإيمان ، والبر والتقوى ، والتوفيق لما

________________________

(١) راجع : الكافي ٤ : ٧٠ ، باب ما يقال في مستقبل شهر رمضان ، الأحاديث ١ ـ ٨ / من لا يحضره الفقيه ٢ : ٦٢ باب ٢٩ ، القول عند رؤية هلال شهر رمضان ، ألأحاديث ٢٦٨ ـ ٢٧٠ / التهذيب ٤ : ١٩٦ باب ٥٠ ، الدعاء عند طلوع الهلال ، الأحاديث ٥٦٢ ـ ٥٦٤ / أمالي الصدوق : ٤٨حديث ١ / عيون أخبار الرضاعليه‌السلام  ٢ : ٧١ حديث ٣٢٩ / أمالي الشيخ الطوسي٢ : ١٠٩.

(٢) الحسن بن علي بن أبي عقيل العماني ، أبو محمد الحذاء ، فقيه متكلم ، جليل القدر ، من وجوه أصحابنا ، ثقة ، من أوائل من استعمل ألنظر ، وبحث الأصول والفروع عند ابتداء الغيبة الكبرى ، يعدّ من مشايخ جعفر بن قولويه ، يعبر عنه وابن الجنيد ، في كتب الفقه ، بالقديمين ، له : ألمتمسك بحبل آل الرسول ، والكر والفر في الإمامة. من أعيان المائة الرابعة ، ومن معاصري الشيخ الكليني ، انظر : رجال النجاشي : ٤٨ رقم ١٠٠ / الفهرس للشيخ : ٥٤ رقم ١٩٣ و ١٩٤ رقم ٨٨٦ / رياض العلماء ١ : ٢٠٣ ـ ٢٠٩ / أعيان الشيعة ٥ : ١٥٧ / أمل الآمل ٢ : ٦١ ، ٦٨ ، ٧٤ / السرائر : ٩٩ / تنقيح ألمقال ١ : ٢٩١ ، رقم ٢٥١٩ / روضات الجنّات ٢ : ٢٥٩ رقم ١٩٣ / المقابيس : ٧ / نقد الرجال : ٩٣ رقم ٩٢ ، معالم العلماء : ٣٧ رقم ٢٢٢ / الخلاصة : ٤٠رقم ٩.

(٣) حكاه عنه العلامة في المختلف : ٢٣٦.

٦٩

تحبّ وترضى ».

وكأنَّه ـ قدّس الله روحه ـ وجد الأمر بهذا الدعاء في بعض الروايات فحمله على الوجوب ، كما هو مقرر في الأُصول ، ولم يلتفت إلى تفرده بين الأصحاب رضوان الله عليهم بهذا الحكم.

وهذا كحكمه ـرحمه‌الله  ـ بعدم انفعال الماء القليل بملاقاة النجاسة ما لم يتغير(١) ، ولا يعرف به قائل ، من أصحابنا رضي الله عنهم ، سواه.

و حسن الظن به ـ أعلى الله قدره ـ يعطي أنه لم ينعقد في عصره إجماع على ما يخالف مذهبه في المسألتين ، أو أنَّه انعقد ولم يصل إليه ، والله أعلم بحقيقة الحال.

تتمّة :

يمتد وقت الدعاء بامتداد وقت التسمية هلالاً ، والأولى عدم تاخيره عن الاُولى ، عملاً بالمتيقن المتفق عليه لغة وعرفاً. فإن لم يتيسَّر فعن الثانية؟ لقول أكثر أهل اللغة بالامتداد إليها ؛ فإن فاتت فعن الثالثة ؛ لقول كثير منهم بانّها آخرلياليه.

و أما ما ذكره صاحب القاموس ، وشيخنا الشيخ أبو عليرحمه‌الله  ـ من إطلاق الهلال عليه إلى السابعة ـ(٢) فهو خلاف المشهور لغة وعرفاً ، وكأنَّه مجاز ، من قبيل إطلاقه عليه في الليلتين الأخيرتين ، والله أعلم.

________________________

(١) انفرد العمانيقدس‌سره بفتاوى نادرة ، أوردها الفقهاء وأغلب من ترجم له ، منها : قوله بعدم نجاسة الماء القليل بمجرد الملاقاة. ومنها : عدم نجاسة ماء البئر بمجرد الملاقاة. ومنها : جواز تفريق ألسورة من دون الحمد على ركعات السنن. وغيرها انظر : ذكرى الشيعة : ١٩٥ ، المسألة الخامسة / والمختلف : ١ ، ٤.

(٢) تقدم كلامهما في صحيفة : ٦٦.

٧٠

تبصرة :

حكم العلّامة(١) ـ أعلى الله مقامه ـ باستحباب الترائي للهلال ليلتي الثلاثين من شعبان وشهررمضان على الأعيان ، وبوجوبه فيهما على الكفاية.

واستدلَّ ـ طاب ثراه على الوجوب ـ بأن الصوم [٥ / ] واجب في أول شهررمضان ، وكذا الإفطار في العيد ، فيجب التوصل إلى معرفة وقتهما ، لأنَّ ما لايتم الواجب إلَّا به فهو واجب(٢) . هذا كلامه زيد إكرامه.

و أقول : للبحث فيه مجال ، لأنَّه إنَّما يجب صوم ما يعلم أو يظنّ أنّه من شهر رمضان ، لا ما يشك في كونه منه ، وهكذا إنما يجب إفطار ما يعلم أو يظنّ أنَّه العيد ، لا ما يشكّ في أنه هو(٣) ، كيف والأغلب في الشهر أن يكون تامّاً(٤) ، كما يشهد به التتبع؟!.

________________________

(١) الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي ، الشهير بالعلّامة ، حاله في الجلالة ، والفقاهة ، والوثاقة ، ووفور العلم في الفنون ، مشهود لها ، كفاه فخراً تلقيبه بالعلّامة ، أول من قسم الأخبار إلى أربعة اقسام. له مؤلفات منها : الخلاصة في الرجال ، منتهى ألمطلب ، تحرير الأحكام ، المختلف ، نهاية الوصول ، الألفين في الإمامة ، مختصر شرح نهج البلاغة ، القواعيد وغيرها. توفي سنة ٧٢٦ = ١٣٢٥ م ونقل جثمانه الشريف إلى النجف الأشرف ، ودفن عند المنارة اليسرى للداخل للحرم العلوي الشريف ومرقده الطاهر يزار ويتبرك به.

انظر : رجال العلامة : ٤٥ رقم ٥٢ / روضات الجنات ٢ : ٢٦٩ رقم ١٩٨ / تنقيح المقال ١ : ٣١٤رقم ٢٧٩٤ / الدرر الكامنة ٢ : ٤٩ رقم ١٥٧٨ وأيضاً ٢ : ٧١ رقم ١٦١٨ / لسان الميزان ٢ : ٣١٧رقم ١٢٩٥ / مرآة الجنان ٤ : ٢٧٦ رجال أبن داود : ٧٨ رقم ٤٦٦ / لؤلؤة البحرين : ٢١٠رقم ٨٢ / رجال بحر العلوم ٢ : ٢٥٧ / نقد الرجال : ٩٩ رقم ١٧٥ / امل الآمل : ١ / ٨١ رقم ٢٢٤ / رياض العلماء ١ : ٣٥٨ / جامع الرواة ١ : ٢٣٠ / مصفى المقال : ١٣١.

(٢) انظر : تذكرة الفقهاء ١ : ٢٦٨ في الفصل السابع من أقسام الصوم / منتهى المطلب ٢ : ٥٩٠.

(٣) وأيضاً فدليله لوتم لدل على الوجوب العيني ، فتامل ،( منه ). قدس سره ، هامش المخطرط.

(٤) وأما ما يوجد في بعض الروايات ، « من أنّ شعبان لا يتم أبداً ورمضان لا ينقص أبداً » فلم يقل به علماؤنا رضي الله عنهم ، وإنّما هو قول بعض الحشوية ، والقول به لا يجامع القول بوجوب الترائي للهلال ليلتي الثلاثين من الشهرين. فلا استحباب ،( منه ). قدس سره ، هامش الأصل.

٧١

هداية :

ا لأدعية المأثورة عند النظر إلى الهلال كثيرة ، فبعضها يعمّ كلّ الشهور ، وبعضها يختص بشهر رمضان.

فمن القسم الأول :

ما رواه الشيخ الصدوق ، عماد الإسلام ، محمد بن علي بن بابويه(١) رحمه‌الله  في كتاب من لا يحضره الفقيه ؛ ورواه أيضا شيخ الطائفة ، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي(٢) عطر الله تربته ، في كتاب تهذيب الأخبار ، ومصباح المتهجد ، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام  أنه قال : « إذا رأيت الهلال فلا تبرح ، وقل :

( اللهم إني أسألك خير هذا الشهر ، وفتحه ونوره ، ونصره ، وبركته ، وطهوره ورزقه ؛ وأسألك خير ما فيه وخير ما بعده ، وأعوذ

________________________

(١) أبو جعفر ، محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي ، رئيس المحدثين ، جليل القدر ، حافظ للحديث ، ثبت ، بصير بالرجال ، كفاه فخراً ولادته بدعاء الحجة عجّل الله فرجه ، نزل الري ، وورد بغداد سنة ٣٥٥ ، حدَّث بها ، وسمع منه جمع كثيرمن الفريقين ، له اكثرمن ٣٠٠ مصنفاً ، رحل إلى الأمصار لطلب الحديث ، حتى بلغ عدد شيوخه اكثر من ٢٥٠ شيخاً ، تخرجعليه جمع من أعيان الطائفة ووجوهها ، أمثال الشيخ المفيد ، والتلعكبري ، وابن القصار ، والنجاشي ، والمرتضى ، من كتبه : من لا يحضره الفقيه ، التوحيد ، كمال الدين ، الأمالي ، عيون الأخبار ، الخصال ، مات سنة ٣٨١ = ٩٩١ م.

انظر : الفهرست : ١٥٦ رقم ٦٩٥ / رجال النجاشي : ٣٨٩ رقم ١٠٤٩ / معالم العلماء : ١١١ رقم ٧٦٤ / رجال بن داود : ١٧٩ رقم ١٤٥٥ / رجال العلامة : ١٤٧ رقم / ٤٤ / روضات الجنات ٦ : ١٣٢ رقم ٥٧٤ / تنقيح المقال ٣ : ١٥٤ رقم ١١١٠٤ / أمل الآمل ٢ : ٢٨٣ / تاريخ بغداد ٣ : ٨٩ رقم ١٠٧٨ رجال بحر العلوم ٣ : ١٩٢ ، وغيرها كثير.

(٢) أبو جعفر الطوسي ، محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي ، نسبة إلى طوس خراسان ، شيخ الإمامية بلا منازع ، ووجههم ، جليل القدر ، عظيم المنزلة ، ثقة ، عين صدوق ، له اليد الطولى في الأخبار ، والرجال ، والفقه. له اكئر من ٤٠ مؤلفاً لا زالت تحتل المكانة السامية بين آلاف المؤلفات ، غرة ناصعة في جبين الدهر ، منها : كتاب الخلاف ، الأبواب في الرجال ، التهذيب ، الاستبصار ، التبيان في التفسير ، الاقتصاد وغيرها روى عن ابن الحاشر ، وابن الصلت الاهوازي ، وابن الغضائري ، وابن الجنيد ، وشيخ الأمة المفيد ، وغيرهم. أخذ عنه

٧٢

بك من شر ما فيه وشر ما بعده ؛ اللهم أدخله علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام والبركة ، والتوفيق لما تحب وترضى ) » (١) .

و منه ما رواه الشيخ الصدوق أيضاً ، في كتاب عيون أخبار الرضاعليه‌السلام  ، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام  قال : « كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا رأى الهلال قال : «أيها الخلق المطيع ، الدائب السريع ، المتصرف في ملكوت الجبروت بالتقدير ، ربي وربك الله. أللهم أهلّه علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام والإحسان ، وكما بلَّغتنا أوله فبلّغنا آخره ، واجعله شهراً مباركاً ، تمحو فيه السيئات ، وتثبت لنا فيه الحسنات ، وترفع لنا فيه الدرجات ، يا عظيم الخيرات ) »(٢) .

و منه ما أورده السيد الجليل الطاهر ، ذو المناقب والمفاخر ، رضي الدين علي بن طاووس(٣) قدس الله نفسه ، ونوّر رمسه ، في كتاب الزوائد

________________________

جمع منهم ولده ، وابن شهر آشوب ، وابن البراج ، وحسكا ، وأبو الصلاح ، والطبري ، والآبي ، والطرابلسي ، توفي سنة ٤٦٠ هـ = ١٠٦٧ م ودفن بداره في النجف الأشرف.

انظر : البداية والنهاية ١٢ : ٩٧ / لسان الميزان ٥ : ١٣٥ رقم ٤٥٢ / الكامل ١٠ : ٢٤ / المنتظم ٨ : ١٧٣ / جامع الرواة ٢ : ٩٢ / مقابيس الأنوار : ٤ / معالم العلماء : ١١٤ رقم ٧٦٦ / تنقيح المقال ٣ : ١٠٤ رقم ٨٠٥٦٣ / الخلاصة : ١٤٨ رقم ٤٦ / رجال النجاشي : ٤٠٣ رقم ١٠٦٨ / الفهرست للطوسي : ١٥٩ رقم ٦٩٩.

(١) من لا يحضره الفقيه ٢ : ٦٢ حديث ٢٦٨ / التهذيب ٤ : ١٩٧ حديث ٥٦٤ / ومصباح المتهجد : ٤٨٦ وفيهما هكذا( والبركة والتقوى والتوفيق ).

(٢) عيون أخبار الرضا ٢ : ٧١ حديث ٣٢٩.

(٣) رضي الدين ، علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن طاووس الحسني العلوي ، البيان والقلم أعجز من أن يذكره بشيء ، إذ جلالته وفضله ، وزهده وعبادته ، وعظم منزلته شيء لا يحاط به.كان كثير ألحفظ ، نقي الكلام ، شاعراً بليغاً ، له مصنفات كثيرة منها : فرج ألهموم ، رسالة في الإجازات ، مصباح الزائر ، فرحة ألناظر ، الطرائف ، الطرف ، غياث سلطان الورى لسكان الثرى ، وغيرها كثير ، مات سنة ٦٦٤ هـ = ١٢٦٥ م.

انظر : روضات الجنات ٤ : ٣٢٥رقم ٤٠٥ / عمدة الطالب : ٢١٩ / تنقيح المقال ٢ : ٣١٠ رقم ٨٥٢٩ / المقابيس : ١٢ / نقد الرجال : ٢٤٤ رقم ٢٤١ / جامع الرواة ٢ : ٦٠٣ / رياض العلماء ٤ : ١٦١ / لؤلؤة البحرين : ٢٣٥ رقم ٨٤ / خاتمة المستدرك ٣ : ٤٦٧ / معجم رجال الحديث

٧٣

والفوائد(١) . وهو أن يقول عند رؤيته [ ٦ / ] : «ربي وربك الله رب العالمين. اللهمَّ صلّ على محمد وآل محمد ، وأهله علينا وعلى أهل بيوتاتنا ، وأشياعنا بأمن وإيمان ، وسلامة وإسلام ، وبرّ وتقوى ، وعافية مجللة ، ورزق واسع حسن ، وفراغ من الشغل ، واكفنا بالقليل من النوم ، ووفقنا للمسارعة فيما تحب وترضى وثبتنا عليه ؛ اللهم بارك لنا في شهرناهذا ، وارزقنا بركته وخيره ، وعونه وغُنمه ، ونُوره ويُمنه ، ورحمته ومغفرته ، واصرف عنَّا شره وضره ، وبلاءه وفتنته ؛ اللهمّ ما قسمت فيه من رزق أو خير أو عافية أو فضل ، أو مغفرة أو رحمة فأجعل نصيبنا منه الاكثر ، وحظّنا فيه الأوفر » (٢) .

ومنه ما أورده أيضاً في الكتاب المذكور وهو أن يقول عند رؤيته :

« الله أكبر ـ ثلاثا ـ ربي وربك الله لا إله إلَّا هو رب العالمين ،

________________________

١٢ : ١٨٨ / الأعلام ٥ : ٢٦ / معجم المؤلفين ٧ : ٢٤٨ وغيرها.

(١) اختلفت الآراء في مؤلف الكتاب( الزوائد والفوائد ) ، وكذا في اسمه ، حيث ورد تارة : الزوائدوالفوائد ، وأخرى : زوائد الفوائد.

وأما المؤلف فقد نسبه العلامة المجلسي في البحار ١ : ١٣ ، وصاحب الروضات ٤ : ٣٣٨ ، وشيخ الذريعة ١٢ : ٥٩ ، الى رضي الدين علي بن علي بن طاووس ، اي « الابن ». واليه مال السيد المشكاة كما حكى عن مقدمته للصحيفة السجادية.

ونسبه الشيخ البهائي لرضي الدين علي بن طاووس « الأب » كما هنا وفي موضع آخر وهو واضح.

ثم إن ما نسبه صاحب الروضات الى الشيخ البهائي من نسبته الكتاب الى الابن في الحديقة الهلالية فهو كما ترى. ولا أعلم كيف استفاد ذلك من هذه العبارة الصريحة.

والحق موقوف على الحصول على نسخة كاملة للكتاب لمعرفة المؤلف إذ النسخة ألموجودة في جامعة طهران ـ على ما جاء وصفها في فهرستها للمخطوطات ١ : ١٢٧ ـ ناقصة الأول والآخر ، والكاتب امي والنسخة مغلوطة جدا ، ومع هذه الصفات لا يمكن الركون والاعتماد في النسبة عليها.

هذا كلّه اضافة إلى ما كرره في الإقبال من النقل عن كتاب الزوائد والفوائد صريحاً.

ومع اعتراف شيخ الذريعة قدس سره بذلك لا أعرف وجها لحمله كلام ابن طاووس على إرادة المعنى اللغوي الوصفي وصرفه عن ظاهره حيث يقول السيد في عمل ذي الحجة ما لفظه : [ وقد ذكرنا في كتاب الزوائد والفوائد في عمل ] تلاحظ.

(٢) الزوائد والفوائد : مخطوط ، ألإقبال : ١٨.

٧٤

ا لحمد لله الذي خلقني وخلقك ، وقدّرك منازل ، وجعلك اية للعالمين ، يباهي الله بك الملائكة ؛ الّلهم أهله علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام ، والغبطة والسرور ، والبهجة والحبور ، وثبتنا على طاعتك ، والمسلارعة فيما يرضيك ؛ اللهم بارك لنا في شهرناهذا ، وارزقنا خيره وبركته ، ويمنه وعونه وقوته ، واصرف عناشره وبلاءه وفتنته ، برحمتك يا أرحم الراحمين » (١) .

و من القسم الثاني :

ما رواه ركن الملة ، ثقة الإسلام ، محمد بن يعقوب الكليني(٢) ـ سقى الله ضريحه صوب الرضوان ـ في كتاب الكافي ؛ ورواه آية الله العلَّآمة طاب ثراه في التذكرة ، ومنتهى المطلب ؛ عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقرعليه‌السلام  قال : « كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أهل شهررمضاناستقبل القبلة ورفع يديه فقال: ( الّلهمّ أهلّه علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام والعافية المجللة ، والرّزق الواسع ، ودفع الأسقام ؛ اللهمّ ارزقنا صيامه وقيامه وتلاوة القرآن فيه ، وسلّمه لنا ،

________________________

(١) الزوائد والفوائد : مخطوط ، الإقبال : ١٩.

(٢) أبو جعفر الرازي ، محمد بن يعقوب بن اسحاق الكليني ، المشهور بثقة الإسلام ، شيخ الطائفة ووجههم في الري ، القلم عاجز عن بيان فضله ، وجلالة قدره ، وورعه وعلو منزلته ، هو اشهر.

من أن يحيط به بيان ، له كتب منها الكافي اشهرها ، أحد الاصول الحديثية المعتمدة لدى الطائفة ، صنفه في عشرين سنة ، يعد من مجددي المذهب على رأس المائة الثالثة ، توفي والصيمري آخر السفراء في سنة واحدة ، وسميت بسنة تناثر النجوم.

مات ببغداد سنة ٣٢٨ = ٩٣٩ م ودفن في بقعة على يسار العابر من الرصافة.

انظر : تنقيح المقال ٣ : ٢٠١ رقم ١١٥٤٠ / رجال بحر العلوم ٣ : ٣٢٥ / رجال الشيخ : ٤٩٥ رقم ٢٧ / الفهرست : ١٣٥ رقم ٥٩١ / رجال النجاشي : ٣٧٧ / ١٠٢٦ / فلك النجاة : ٣٣٧ / جامع الأصول ١١ : ٣٢٣ / روضات الجنات ٦ : ١٠٨ رقم ٨ / تاج العروس ٩ : مادة كلين / عوائد الأيام : ٢٩٧ / الكامل ٦ : ٢٧٤ / لسان الميزان ٥ : ٤٣٣ رقم ١٤١٩ / وانظر مقدمة الكافي بقلم البحاثة الأستاذ حسين محفوظ في طبعة ١٣٨٨ لدار الكتب الاسلامية.

٧٥

وتسلّمه منّا ، وسلّمنا فيه ) (١) .

و منه ما أورده الشيخ الصدوق طاب ثراه في كتاب من لا يحضره الفقيه أيضاً ، نقلا عن أبيهرضي‌الله‌عنه في الرسالة ـ وذكر السيد الجليل الطاهر المشار إليه [٧ / ] أنّه مروي عن الصادقعليه‌السلام  ـ قال : إذا رأيت هلال شهر رمضان فلا تشر إليه ، ولكن استقبل القبلة وارفع يديك إلى الله عزّ وجلّ وخاطب الهلال ، وقل :« ربي وربك الله رب العالمين ؛ اللّهمّ أهلّه علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام ، والمسارعة إلى ما تحب وترضى ؛اللّهمَّ بارك لنا في شهرنا هذا ، وارزقنا عونه وخيره ، واصرف عنّاضرّه وشرّه ، وبلاءه وفتنته » (٢) .

تنبيه :

يستفاد من هذه الروايات بعض الآداب التي ينبغي مراعاتها حال قراءة الدعاء عند رؤية الهلال :

فمنها : أن تكون قراءة الدعاء قبل الانتقال من المكان الذي رأى فيه الهلال ، كما تضمنته الرواية الأول ، فإن قولهعليه‌السلام  « لا تبرح » أي لا تَزُل عن مكانك الذي رأيته فيه(٣) .

و منها : استقبال القبلة حال الدعاء ، كما تضمنه الحديث المروي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من أنَّه كان يفعل ذلك(٤) .

و منها : رفع اليدين إلى الله عزَّ وجلَّ وقت قراءة الدعاء ، كما تضمنه الحديثان الأخيران(٥) .

________________________

(١) الكافي ٤ : ٧٠ حديث ١ / تذكرة الفقهاء ١ : ٢٦٨ / منتهى المطلب ٢ : ٥٩٠ وفي المصادر هكذا ( اللهم سلمه لنا ) / الفقيه ٢ : ٦٢ حديث ٢٦٩.

(٢) الفقيه ٢ : ٦٢ ذيل الحديث ٢٦٩ ، والاقبال : ١٨.

(٣) انظرصحيفة ٧١ ، وهي ما روي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام .

(٤) انظر صحيفة ٧٤ ، وهي رواية الامام الباقرعليه‌السلام .

(٥) انظر صحيفة ٧٤ ، ٧٥ وهما روايتا الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام .

٧٦

ولا خصوصية لهذين الأمرين بهلال شهر رمضان ، وإن تضمن الخبران انّ فعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك كان في هلاله ، وكذلك أمر الصادقعليه‌السلام  بذلك ، بل لا خصوصية لهما بدعاء الهلال ، فانهما يعمّان كلدعاء [ ٨ / ].

و منها : أن لا يشير إلى الهلال بيده ولا برأسه ، ولا بشيء من جوارحه ، كما تضمنته الرواية الأخيرة(١) ، ولعلّ هذا أيضا غيرمختص بهلال شهر رمضان.

و منها : أن يخاطب الهلال بالدعاء ، ولعل المراد خطابه بما يتعلق به من الألفاظ ، نحو « ربي وربك الله رب العالمين » وكأوَّل الدعاء الذي أوجبه ابن أبي عقيلرحمه‌الله  (٢) ، وكاكثر ألفاظ هذا الدعاء الذي نحن بصدد شرحه.

و قد يُظنّ التنافي بين مخاطبة الهلال واستقبال القبلة في البلاد التي قبلتها على سمت المشرق.

وليس بشيء ، لأنَّ الخطاب ليس إلَّا توجيه الكلام نحو الغير للإفهام ، وهو لا يستلزم مواجهة المخاطب واستقباله ، إذ قد يخاطب الإنسان من هو وراءه.

ويمكن أن يقال : استقبال الداعي الهلال وقت قراءة ما يتعلق بمخاطبته من فصول الدعاء ، واستقبال القبلة في الفصول الاُخر.

وأما رفع اليدين فالظاهر أنَّه في جميع الفصول ، وإن كان تخصيصه بما عدا الفصول المخاطب بها الهلال غير بعيد ، والله أعلم.

تذكرة فيها تبصرة :

قد عرفت أنَّه يمتد وقت الدعاء بامتداد وقت التسمية هلالاً ، ولو قيل بامتداد ذلك إلى ثلاث ليال لم يكن بعيدا ، فلو نذر قراءة دعاء الهلال عند

________________________

(١) انظر صحيفة ٧٥. وهي رواية الإمام الصادقعليه‌السلام .

(٢) انظر صحيفة ٦٨ ، و ٧٣.

٧٧

رؤيته ، وقلنا بالمجازية فيما فوق الثلاث [٩ / أ] ، لم تجب عليه القراءة برؤيته فيما فوقها ، حملاً للمطلق على الحقيقة ؛ وهل تشرع؟ ألظاهر نعم إن رآه في تتمة السبع ، رعاية لجانب الاحتياط ، أما فيما فوقها فلا ، لأنه تشريع.

و لو رآه يوم الثلاثين فلا وجوب على الظاهر لعدم تسميته حينئذٍ هلالاً.

و ما في حسنة حماد بن عثمان(١) ـ عن الصادقعليه‌السلام  من إطلاق إسالهلال عليه قبل الغروب(٢) ـ لعله مجاز ، إذ الأصل عدم النقل.

ولو لم يره حتى مضت الثلاث فاتفق وصوله إلى بقعة شرقية هو فيها هلال فرآه هناك لم يبعد القود بوجوبه عليه حينئذٍ ، كما لا يبعد القول بوجوب الصوم على من رأى هلال شهر رمضان فصام ثلاثين ثم سافر إلى بلد مضى فيه من شهررمضان تسعة وعشرون ولم يُر فيه الهلال ليلة الثلاثين ، وهو مختار العلامة طاب ثراه في القواعد(٣) .

وقد استدلَّ عليه ـ ولده فخر المحققين(٤) رحمه‌الله  في الإيضاح بأنَّ

________________________

(١) حمَّاد بن عثمان بن زياد الرواسي ، الملقب بالناب ، من أصحاب الأئمة الصادق والكاظم والرضا: ، من الثقات الأجلاء ، وهكذا اخوته ، فهم من بيت فضل وعلم من خيار الشيعة ، وهو ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه ، وأقرّوا له بالفقه ، لم يختلف في توثيقه اثنان ، روى عنه ابن أبي عمير ، والوشّاء ، والحسن بن علي بن فضال ، وفضالة ، وغيرهم مات سنة ١٩٠ هـ =٨٠٥ م.

راجع : تنقيح المقال ١ : ٣٦٥ رقم ٣٣١٣ / رجال الشيخ : ١٧٣ رقم ١٣٩ و ٣٤٦ رقم ٢ و ٣٧١رقم ١ / الفهرست : ٦٠ رقم ٢٣٠ / الخلاصة : ٥٦ رقم ٣ / جامع الرواة ١ : ٢٧١ / مجمع الرجال ٢ : ٢٢٧.

(٢) التهذيب ٤ : ١٧٦ حديث ٤٨٨ / والاستبصار ٢ : ٧٣ حديث ٢٢٥ ألكافي ٤ : ٧٨ حديث ١٠. والغروب اشارة الى آخر الشهر.

(٣) قواعد الأحكام : ٦٩ ـ ٧٠.

(٤) أبو طالب ، محمد بن الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي ، فخر المحققين وجه وجوه الطائفة ، جليل القدر ، عظيم المنزلة ، رفيع الشأن ، جيد التصنيف لما امتاز به من وفور العلم والفقاهة ، وطول الباع في كثير من ألعلوم ، أوصى اليه والده العلامة في آخر القواعد ـ الذي صنفه له ولمَّا يبلغ العاشرة ـ باتمام ما بقي ناقصاً من كتبه ، بلغ رتبة الاجتهاد في العاشرة من عمره ، له مصنفات

٧٨

الاعتبار في الأهلَّة بالموضع الذي فيه الشخص ألآن لا بموضع كان يسكنه ، وإلاَّ لوجب على الغائب عن بلده الصوم برؤية الهلال في بلده ، وهو باطل إجماعاً(١) ، هذا ملخص كلامه.

و أقول : فيه بحث ، فإنَّ من اعتبر موضعاً كان يسكنه لم يعتبره من حيث سبق سكناه فيه ، بل من حيث رؤيته الهلال فيه سابقأ ، فكلّفه العمل بمقتضى تلك الرؤية ، فمن أين يلزمه وجوب الصوم على الغائب عن بلده برؤية غيره الهلال فيه؟! فتأمل.

بسط كلام لإبراز مرام :

تحقق أمثال هذه المسائل المبنية على تخالف الآفاق في تقدم طلوع الأهلّة وتأخرها ظاهر ، بناء على ما ثبت من كروية الأرض ، والذين أنكروا كرويتها فقدأنكروا تحققها ، ولم نطلع لهم على شبهة في ذلك فضلا عن دليل.

و الدلائل الآتية المذكورة في المجسطي(٢) ـ وغيره ـ شاهدة بكرويتها ، وان كانت شهادة الدليل الّلمِّي المذكور في الطبيعي مجروحة [٩ / ب].

و قد يتوهم أن القول بكرويّتها خلاف ما عليه أهل الشرع ، وربّما استند ببعض الآيات الكريمة كقوله تعالى :( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ

________________________

منها : ايضاح الفوائد ، شرح خطبة القواعد ، الفخرية في النية ، حاشية الارشاد ، الكافية في الكلام ، مات سنة ٧٧١ هـ = ١٣٦٩.

انظر : هدية الأحباب : ٢٨٨ / روضات الجنات ٦ : ٣٣٠ رقم ٥٩١ / جامع الرواة ٢ : ٩٦ تنقيح المقال ٣ : ١٠٦ رقم ١٠٥٨١ / الفوائد الرضوية : ٤٨٦ / خاتمة المستدرك ٣ : ٤٥٩ نقد الرجال : ٣٠٢ رقم ٢٥٣ أمل الآمل ٢ : ٢٦٠ رقم ٧٦٨ / أعيان الشيعة ٩ : ١٥٩.

(١) إيضاح الفوائد ١ : ٢٥٢.

(٢) المجسطي ـ بكسر الميم والطاء وفتح الجيم وتخفيف الياء ـ كلمة يونانية ، اصلها ماجستوس ، اسم لأهم بل لأشرف ما صنّف في عالم الهندسة الفلكية بأدلتها التفصيلية ، وكل من جاء بعد كان عيالاً عليه من دون استثناء ، مؤلفه الحكيم بطليموس الفلوزي ، عُرِّب قديماً بواسطة جمع ، ونقح أيضا وشرح. للتفصيل راجع كشف الظنون ٢ : ١٥٩٤ / ولغة نامه دهخدا ٤١ : ٤٥٥ / وفرهنك جامع فارسي( آنندراج ) ٦ : ٣٨٥٤.

٧٩

فِرَاشاً ) (١) ، وقوله سبحانه :( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا) (٢) وقوله جلَّ شأنه :( وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ) (٣) ، وأمثال ذلك ، ولا دلالة في شيء منها على ما ينافي الكروية.

قال في الكشّاف عند تفسير الاية الاُولى ، فإن قلت : هل فيه دليل على أنّ الأرض مسَّطحة وليست بكرّية؟.

قلت : ليس فيه إلَّا أنَّ الناس يفتر شونها كما يفعلون بالمفارش ، وسواءكانت على شكل السطح أو شكل الكرة فالافتراش غير مستنكر ولا مدفوع؛ لعظم حجمها ، واتساع جرمها ، وتباعد أطرافها. وإذا كان متسهّلاً في الجبل وهو وتد من أوتاد الأرض ، فهو في الأرض ذات الطول والعرض أسهل(٤) . إنتهى كلامه.

و قال(٥) في التفسير الكبير : من الناس من يزعم أنَّ الشرط في كون الأرض فراشاً أن لا تكون كرة ، فاستدلَّ بهذه الاية على أن الأرض ليست كرة ، وهذا بعيد جدا ، لأنَّ الكرة إذا عظمت جداً كان كل قطعة منها كالسطح(٦) ، انتهى.

و كيف يتوهم متوهم أن القول بكروية الأرض خلاف ما عليه أهل الشرع!! وقد ذهب إليه كثيرمن علماء الإسلام ، وممن قال به صريحاً من فقهائنا ـ رضوان الله عليهم ـ العلّامة آية الله ، وولده فخر المحققين قدس سرهما.

________________________

(١) البقرة ، مدنية ، ٢ : ٢٢.

(٢) النبأ ، مكية ، ٧٨ : ٦.

(٣) الغاشية ، مكية ، ٨٨ : ٢٠

(٤) تفسير الكشاف ١ : ٩٤

(٥) أبوعبدالله محمد بن عمر بن الحسين الطبرستاني الرازي ، ابن الخطيب الشافعي الأشعري. العالم الاُصولي المتكلّم المشارك في العلوم. أخذ عن والده والكمال السمناني والجيلي. له التفسير ، المباحثالمشرقية ، الملخّص ، المحصّل. توفي سنة ٦٠٦ هـ = ١٢٠٩ م بهراة.

له ترجمة في : تاريخ الحكماء : ١ ٢٩ / وفيات الأعيان ٤ : ٢٤٨ ت / طبقات السبكي ٥ : ٢٣ / وانظرسيرأعلام النبلاء ٢١ : ٥٠٠ ت ٢٦١ ومصادره.

(٦) التفسير الكبير للفخر الرازي ٢ : ١٠٤.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

الجنّة على الكافرين )(١) .

وفي رواية أُخرى ( فيقول : يا رب ، إنّك وعدتني أنْ لا تخزني يوم يُبعثون ، فأيّ خزيٍ أُخزى مِن أبي الأبعد )(٢) .

قال الفخر الرّازي : ( وأمّا قوله تعالى :( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ.... ) ففيه مسائل : المسألة الأُولى : في تعلّق هذه الآية بما قبلها وجوه :

الأوّل : إنّ المقصود منه أنْ لا يتوهّم إنسان أنّه تعالى منع محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بعض ما أذن لإبراهيمعليه‌السلام فيه .

والثاني : أنْ يُقال : إنّا ذكرنا في سبب اتّصال هذه الآية بما قبلها المبالغة في إيجاب الانقطاع عن الكفّار أحيائهم وأمواتهم ، ثمّ بيّن تعالى أنّ هذا الحكم غير مختصّ بدين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتكون المبالغة في تقرير وجوب الانقطاع كانت مشروعة أيضاً في دين إبراهيمعليه‌السلام ، فتكون المبالغة في تقرير وجوب المقاطعة والمباينة من الكفّار أكمل وأقوى .

الثالث : إنّه تعالى وصَف إبراهيم في هذه الآية بكونه حليماً أي قليل الغضب ، وبكونه أوّاهاً ، أي كثير التوجّع والتفجّع عند نزول المضار بالناس ، والمقصود أنّ مِن كان موصوفاً بهذه الصفة ، كان ميل قلبه إلى الاستغفار لأبيه شديد ، وكأنّه قيل : إنّ إبراهيم مع جلالة قدره ، ومع كونه موصوفاً بالأوّاهيّة والحليميّة ، منعه الله مِن الاستغفار لأبيه الكافر ، فلأن يكون غيره ممنوعاً من هذا المعنى كان أولى )(٣) .

ـــــــــــــــــــ

(١) صحي البخاري ٦ : ٢٠٢ كتاب التفسير ، سورة الشعراء .

(٢) صحيح البخاري ٤ : ٢٧٧ ـ ٢٧٨ كتاب أحاديث الأنبياء .

(٣) تفسير الرازي ١٦ : ٢١٠ .

٣٦١

وعلى الجملة ، فإنّه ـ بعد العلم بأنّ إبراهيمعليه‌السلام كان ممنوعاً مِن ذا الاستغفار ، وأنّه قد تبرّء منه ـ لا يستريب مسلمٌ في أنّ حديث البخاري موضوع !

ومع قطع النظر عن هذا ، فإنّ الدلائل العقليّة أيضاً قائمة على منع الاستغفار للمشركين ، كما قال الرّازي :

( قوله تعالى :( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ) يحتمل أنْ يكون المعنى : ما ينبغي لهم ذلك فيكون كالوصف ، وأنْ يكون معناه ليس لهم ذلك على معنى النهي .

فالأوّل معناه : أنّ النبوّة والإيمان يمنع من استغفار المشركين ، والثاني معناه : لا يستغفروا ، والأمران متقاربان .

وسبب هذا المنع ما ذكره الله تعالى في قوله :( ....مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) .

وأيضاً : قال :( إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ.... ) والمعنى : أنّه تعالى لمّا أخبر عنهم أنّه يدخلهم النّار فطلب الغفران لهم ، جارِ مجرى طلَب أنْ يخلف الله وعده ووعيده وإنّه لا يجوز ، وأيضاً : لمّا سبق قضاء الله تعالى بأنّه يعذّبهم ، فلو طلبوا غفرانه لصاروا مردودين ، وذلك يوجب نقصان درجة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحطّ مرتبته .

وأيضاً : إنّه تعالى قال :( ...ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ... ) وقال :( ...أأَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) ، فهذا الاستغفار يوجب دخول الخلف في أحد هذين النصّين وأنّه لا يجوز )(١) .

وعلى الجملة ، فإنّ هذا الحديث موضوعٌ باطل ، ولا سبيل إلى إصلاحه بوجهٍ مِن الوجوه .

ولعلّه لذا اضطرّ بعضهم إلى التصرّف في لفظه ، بوضع كلمة ( رجل )

ـــــــــــــــــــ

(١) تفسير الرّازي ١٦ : ٢٠٩ .

٣٦٢

مكان اسم سيّدنا إبراهيمعليه‌السلام ، ما في( فتح الباري ) : ( وفي رواية أيّوب : يلقى رجلٌ أباه يوم القيامة فيقول له : أيّ ابنٍ كنت لك ؟ فيقول : خيرُ ابن ، فيقول : هل أنت مطيعي اليوم ؟ فيقول : نعم ، فيقول : خذ بأزرتي ، فيأخذ بأزرته ، ثمّ ينطلق حتّى يأتي ربّه... )(١) .

ولكنْ لا مناص من الاعتراف ببطلانه... كما عن الحافظ الإسماعيلي وغيره .

قال ابن حجر : ( وقد استشكل الإسماعيلي هذا الحديث مِن أصله ، وطعن في صحّته ، فقال بعد أنْ أخره : هذا حديثٌ في صحّته نظر ، مِن جهة أنّ إبراهيم عالِمٌ أنّ الله لا يُخلف الميعاد ، فكيف يجعل ما بأبيه خزياً له مع علمه بذلك ؟

وقال غيره : هذا الحديث مخالفٌ لظاهر قوله تعالى :( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ.... ) (٢) .

وأمّا محاول ابن حر تأويل هذا الحديث وتوجيهه بقوله :

( والجواب عن ذلك : أنّ أهل التفسير اختلفوا في الوقت الذي تبرّأ إبراهيم فيه من أبيه.

فقيل : كان ذلك في حياة الدنيا لمّا مات آزر مشركاً وهذا الوجه أخرجه الطبري مِن طريق حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عبّاس ، وإسناده صحيح ، وفي رواية : فلمّا مات لم يستغفر له ، ومِن طريق علي بن أب طلحة عن ابن عبّاس نحوه قال : استغفر له ما كان حيّاً ، فلمّا مات أمسك ، وأورد أيضاً مِن طريق مجاهد وقتادة وعُمر بن دينار نحو ذلك .

ـــــــــــــــــــ

(١) فتح الباري ـ شرح صحيح البخاري ٨ : ٤٠٥ .

(٢) فتح الباري ٨ : ٤٠٦ .

٣٦٣

وقيل : إنّما تبرّأ منه يوم القيامة لمّا أيس منه حين مُسخ ، على ما صرّح به في رواية ابن المنذر التي أشرت إليها ، وهذا أخرجه الطبري أيضاً من طريق عبد الملك بن أبي سليمان ، سمعت سعيد بن جُبير يقول : إنّ إبراهيم يقول يوم القيامة : ربّ والدي ، ربّ والدي ، فإذا كانت الثالثة أخذ بيده فيلتفت إليه وهو غضبان فيتبرّ منه ، ومن طريق عبدي بن عمير قال : يقول إبراهيم لأبيه : إنّي كنت آمرك في الدنيا فتعيني ، ولست تاركك اليوم ، فخذ بحقوتي ، فيأخذ بضبعيه فيمسخ ضبعاً ، فإذا رآه إبراهيم مسخ تبرّء منه .

ويمكن المع بين القولين : بأنّه تبرّء منه لمّا مات مشركاً ، فترك الاستغفار ، لكن لمّا رآه يوم القيامة أدركته الرأفة والرقّة فسأل فيه ، فلا رآه مُسخ يئس منه حينئذ ، وتبرّأ منه تبرّياً أبديّاً .

وقيل: إنّ إبراهيم لم يتيقّن موته على الكفر ، لجواز أنْ يكون آمن في نفسه ولم يطلع إبراهيم على ذلك ، ويكون وقت تبريته منه بعد الحالة التي وقعت في هذا الحديث )(١) .

فسقوطها واضح لدى كلّ عاقلٍ فضلاً عن الفاضل .

لأنّ حاصل الجواب الأوّل هو بيان الاختلاف في وقت تبرّي إبراهيم مِن آزر ، وأيّ ربطٍ لهذا بأصل الإشكال ؟ اللّهمّ إلاّ أنْ يُريد ابن حجَر أنّه بناءً على القول بكون التبرّي في يوم القيامة ، فلا منافاة بين ذلك وبين الآية المباركة( وَمَا كَانَ... ) ، لكنّه وجهٌ سخيف جدّاً ، وذلك لأنّه :

أوّلاً : تأويلٌ للآية( ...فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ.... ) الظاهرة في وقوع ذلك في الزمان الماضي ، ورفع اليد عن الظاهر بلا دليلٍ ممنوعٌ ، كما هو معلوم .

وثانياً : إذا كان التبرّي في دار الدنيا ، كما هو مفاد رواياتٍ متعدّدة ، وقد صحّح ابن حجر نفسُه بعضها ، فالتنافي بين الشفاعة والآية المباركة لازمٌ لا محالة .

وثالثاً : على فرض ثبوت الاختلاف في وقت التبرّي ، ورجحان القول الثاني على الأوّل ، يندفع الإشكال المنقول عن غير الإسماعيلي ، أمّا إشكال الإسماعيلي فلا يندفع بما ذكر .

ورابعاً : حمل التبرّي على يوم القيامة ، يوجب الاختلاف في سياق الآية المباركة ؛ لأنّ الغرض من ذكر القصّة إفادة أنّ إبراهيمعليه‌السلام قد مُنع من الاستغفار لأهل

ـــــــــــــــــــ

(١) فتح الباري ٨ : ٤٠٦ .

٣٦٤

الشرك ، وأنّه قد تبرّأ من أبيه مع كونه أوّاهاً حليماً ، فيكون غيره من سائر المؤمنين ممنوعاً من ذلك بالأولويّة.. وهذا ما فهمه الفخر الرّازي أيضاً إذ قال :

( اعلم أنّه تعالى إنّما وصفه بهذين الوصفين في هذا المقام ؛ لأنّه تعالى وصفه بشدّةِ الرقّة والشفقة والخوف والوجَل ، ومَن كان كذلك فإنّه تعظم رقّته على أبيه وأولاده ، فبيّن تعالى أنّه مع هذه العادة تبرّ مِن أبيه وغلظ قلبه عليه ، لما ظهر له إصراره على الكفر ، فإنّهم بهذا المعنى أولى ، ولذلك وصفه أيضاً بأنّه حليم ؛ لأنّ أحد أسباب الحِلم رقّة القلب وشدّة العطف ؛ لأنّ المرء إذا كان حاله هكذا اشتدّ حلمه عن الغضب )(١) .

وعلى هذا ، فلو كان المراد التبرّي في الآخرة ، فأين تكون أولويّة أُمّة الإسلام بذلك ؟

هذا ، وكأنّ ابن حجر عالم بضعف هذا الجواب ، فاضطرّ إلى أنْ يقول : ( ولا يُمكن الجواب... ) لكنّه غير مطمئن بهذا الجواب ، ولذا ذكره بلفظ ( يُمكن ) .

كما أنّ السيوطي قد اقتصر على هذا الجواب إذ قال في كتاب( التوشيح ) : ( واستشكل سؤال إبراهيم ذلك مع علمه بأنّه تعالى لا يُخلف الميعاد ، في إدخال الكافرين النار وأُجيب : بأنّه لمّا رآه أدركته الرأفة والرقّة ، فلم يستطع إلاّ أنْ يسأل فيه )(٢) .

لكن هذا الجواب ـ في الحقيقة ـ التزامٌ بالإشكال ؛ لأنّه بيان للداعي إلى الاستغفار ، وهو الرحمة والرأفة ، فيعود الإشكال بأنّه كيف تحقّقت منه هذه الرأفة وصدرت هذه الرحمة ، مع علمه بعدم الجواز والحرمة ؟ اللّهمّ إلاّ أنْ يقولوا : بأنّ الرحمة والرأفة تُجوّز طلب ما لا يجوز ، وهذا بديهي البطلان وضحكة للصبيان ، لا يقول به عاقلٌ بل جاهلٌ فضلاً عن فاضل ! وأمّا قول ابن حجر : ( وقيل : إنّ إبراهيم... ) .

فإنْ أراد مِن ذكره بيان ضعفه ، فلا كلام فيه... وإنْ أراد دفع الإشكال به ، فهو يُنافي الأخبار الصحيحة الواردة في عِلم سيّدنا إبراهيم بموت آزر على الكفر ، وقد أورد ابن حجر بعضها ، وفي( الدر المنثور ) :

( أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله ( ..فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ.. ) (٣) حين مات وعلم أنّ التوبة قد انقطعت منه .

ـــــــــــــــــــ

(١) تفسير الرّازي ١٦ : ٢١١ .

(٢) التوشيح في شرح الصحيح ٤ : ٢٥٠ .

(٣) سورة التوبة ٩ : ١١٤ .

٣٦٥

وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وأبو بكر الشافعي في فوائده والضياء في المختارة ، عن ابن عبّاس قال : لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتّى مات( ...فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ.... ) يقول : لمّا مات على كفره )(١) .

حديث الصلاة على ابن أبي سلول

( ومنها ) ما أخرجه ـ مسلم أيضاً ـ في كتاب التفسير : ( عن ابن عمر قال : لمّا توفّي عبد الله بن أُبيّ ، جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسأله أنْ يعطيه قميصه يُكفِّن فيه أباه ، فأعطاه ، ثمّ سأله أنْ يصلّي عليه .

فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليصلّي عليه .

فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله فقال : يا رسول الله ، تصلّي عليه وقد نهاك ربّك أنْ تصلّي عليه ؟

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّما خيّرني الله فقال : ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً.... ) ) وسأزيده على السبعين .

قال : إنّه منافق !

قال : فصلّى عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال : فأنزل الله( وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ

ـــــــــــــــــــ

(١) الدر المنثور ٤ : ٣٠٠ .

٣٦٦

قَبْرِهِ .. ) (١) .

وهذا الحديث ـ الذي وضعوه فضيلةً لعمر بن الخطّاب ـ مكذوبٌ حتماً وموضوعٌ قطعاً وقد نصّ ـ والحمد لله ـ على ذلك غير واحدٍ من أئمّة القوم :

كالغزالي بعد ذكر أخبار : ( هذا مزيّف ، فإنّ هذه الوقائع لو جمعت ونقلت دفعةً واحدةً لم تُورث العلم ، ولي ذلك كوقائع حاتم وعليّ مع كثرتها .

على أنّ ما نقل في آية الاستغفار كذِب قطعاً ، إذ الغرض منه التناهي في تحقيق اليأس مَن المغفرة ، فلا يظنّ برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذهول عنه )(٢) .

وكالباقلاّني وإمام الحرمين في جماعةٍ ، كما ذكر شرّاح البخاري :

قال القسطلاني : ( وقد استشكل فهم التخيير من الآية على كثير ، وسبق جواب الزمخشري عن ذلك ، وقال صاحب الانتصاف : مفهوم الآية زلّت فيه الأقدام ، حتّى أنكر القاضي أبو بكر الباقلاّني صحّة الحديث وقال : لا يجوز أنْ يقبل هذا ، ولا يصحّ أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاله .

وقال إمام الحرمين في مختصره : هذا الحديث غير مخرّج في الصحيح وقال في البرهان : لا يصحّحه أهل الحديث وقال الغزالي في المستصفى : الأظهر أنّ هذا الخبر غير صحيح وقال الداودي الشارح : هذا الحديث غير محفوظ ، وهذا عجيب... )(٣) .

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ٦ : ١٣١ .

(٢) المنخول في علم الأُصول : ٢١٢ .

(٣) إرشاد الساري إلى صحيح البخاري ٧ : ١٥٥ .

٣٦٧

وقال ابن حجر : ( قال ابن المنير : مفهوم الآية زلّت فيه الأقدام ، حتّى أنكر القاضي أبو بكر صحّة الحديث وقال : لا يجوز أنْ يقبل هذا ولا يصحّ أنّ الرسول قاله انتهى .

ولفظ القاضي أبي بكر الباقلاّني في التقريب : هذا الحديث مِن أخبار الآحاد التي لا يُعلم ثبوتها ، وقال إمامُ الحرمين في مختصره : هذا الحديث غير مُخرّج في الصحيح ، وقال في البرهان : لا يصحّحه أهلُ الحديث ، وقال الغزالي في المستصفى : الأظهر أنّ هذا الخبر غير صحيح ، وقال الداودي الشارح : هذا الحديث غير محفوظ )(١) .

حديث : كذِب إبراهيم ثلاث كِذبات

( ومنها ) ما أُخرج في الكتابين من أنّ إبراهيمعليه‌السلام كذَب ثلاث كذبات ، ففي( الجمع بين الصحيحين ) :

( عن محمّد عن أبي هريرة : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( لم يكذِب إبراهيم النبيّ قط ، إلاّ ثلاث كِذبات ، ثنتين في ذات الله : قوله : ( إِنِّي سَقِيمٌ ) وقوله : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) ، وواحدة في شأن سارة ، فإنّه قدِم أرض جبّار ومعه سارة ـ وكانت أحسن الناس ـ فقال لها : إنّ هذا الجبّار إنْ يعلم أنّك امرأتي يغلبني عليك ، فإنْ سألك فأخبريه أنّك أُختي في الإسلام ) (٢) .

وقد تكلّم الفخر الرّازي على هذا الحديث وأبطله ، وعبَّر عن رواته بالحشويّة ، فانظر إلى نصّ كلامه حيث قال :

( واعلم أنّ بعض الحشويّة روى عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال :

ـــــــــــــــــــ

(١) فتح الباري ـ شرح صحيح البخاري ٨ : ٢٧٢ .

(٢) الجمع بين الصحيحين ٣ : ١٨٤ / ٢٤١٥ .

٣٦٨

 ( ما كذب إبراهيم إلاّ ثلاث كذبات ) .

فقلت : الأولى أنْ لا يقبل مثل هذه الأخبار .

فقال ـ على طريق الاستنكار ـ : إنْ لم نقبله لزمَنا تكذيب الرواة .

فقلت له : يا مسكين ، إنْ قبلناه لزمنا الحُكم بتكذيب إبراهيمعليه‌السلام ، وإنْ رددناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة ، ولا شكّ أنّ صَون إبراهيم عن الكذِب أولى مِن صون طائفة من المجاهيل عن الكذِب )(١) .

هذا ، وقد أورد عمر بن عادل كلام الرّازي هذا وارتضاه(٢) .

حديث : أنّ نبيّاً أحرق بيت النمل

( ومنها ) ما أخرجه البخاري مِن أنّ نبيّاً من الأنبياء أحرق بيت النمل بسبب أنّ نملةً لدغته ! قال :

( حدّثنا إسماعيل ، ثني مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : نزل نبيّ من الأنبياء تحت شجرة ، فلدغته نملة ، فأمر بجهازه فأُخرج من تحتها ، ثمّ أمر ببيتها فأُحرِق بالنار ، فأوحى الله إليه : فهلاّ نملة واحدة !! )(٣) .

ويكفي في إبطال هذا الحديث كلام الفخر الرّازي ، الذي أورده الشاه عبد العزيز الدهلوي واستحسنه وارتضاه حيث قال : ( وللإمام فخر الدين الرّازي في هذا المقام كلام يصدّقه العقل ، ويقع في القلب إذ قال : إنّ الروافض عندي

ـــــــــــــــــــ

(١) تفسير الرّازي ٢٦ : ١٤٨ .

(٢) اللباب في علوم الكتاب ١٦ : ٣٢٤ .

(٣) صحيح البخاري ٤ : ٢٦٢ ، كتاب بدء الخلق .

٣٦٩

أقلّ عقلاً وفهماً من نملة سليمان ؛ لأنّ النملة قد خاطبت رفيقاتها قائلةً :( يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) فهي قد علمت أنّ جنود سليمان قد أثّرت فيهم المعاشرة معه فكانوا مهذّبين ببركة صحبته ، حتّى أنّهم لا يحطّمون النمل عن علمٍ وعمد ، ولا يظلمون الضعيف عن قصدٍ ، لكنّ الروافض لم يفهموا أنّ صحبة النبيّ الخاتم ـ وهو أفضل الأنبياء ـ تؤثّر في صحابته الملازمين له على الدّوام ، فلا يرتكبون الخيانة والشرّ ، فكيف ينسبون إليهم الظلم لبنت رسول الله وصهره وولده ، وإحراق بيتهم عليهم ، والاستيلاء على أموالهم ، وإيذائهم بشتّى أنوا الأذى ؟ )(١) .

وذلك : لأنّ البخاري وسائر مَن يقول بصحّة هذا الحديث سيكونون أقلّ فهماً مِن النملة ؛ لأنّهم بتصديقهم هذا الحديث يجوّزون الظلم على النبيّ المعصوم !!

حديث أمر النبيّ بالأكل ممّا لم يذكر اسم الله عليه

( ومنها ) ما أخرجه البخاري في كتاب الذبائح قال :

( حدّثنا معلّى بن أسد ، حدّثنا عبد العزيز بن المختار قال : حدّثنا موسى بن عقبة قال : أخبرني سالم أنّه سمِع عبد الله يحدّث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّه لقي زيد بن عمرو بن فضيل بأسفل بلدح ـ وذاك قبل أنْ ينزل على رسول الله الوحي ـ فقدّم إليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سُفرةً فيها لحم ، فأبى أنْ يأكل منها ، ثمّ قال : إنّي لا آكل ممّا تذبحون على أنصباكم ، ولا

ـــــــــــــــــــ

(١) مختصر التحفة الاثنا عشريّة : ١٩٣ ـ باب الإمامة .

٣٧٠

نأكل إلاّ ممّا ذكر اسم الله عليه )(١) .

فهل يشكّ المسلم في كذب هذا الحديث ؟

والعجب مِن واضعه ، فلم يستح أنْ ينسب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر الرجل بالأكل ممّا لم يذكر اسم الله عليه ، في حين ينسب إلى الرجل الإباء عن الأكل ممّا لم يذكر اسم الله عليه ، فيكون أورع وأفضل من النبيّ ، والعياذ بالله ؟! وكيف يصدّقون بمثل هذا على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حين يبذلون كلّ جهودهم لتبرئه أبي بكر مِن شرب الخمر قبل التحريم ، ويكذّبون الخبر في ذلك، ويقولون : قد أعاذ الله الصدّيقين من فعل الخنا وأقوال أهله وإنْ كان قبل التحريم ، كما في ( نوادر الأصول ) للحكيم الترمذي وسيجيء عن قريب ؟ ألم يكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الصدّيقين ؟

تصرّف بعضهم في لفظ الحديث !

لكنّ ابن روزبهان التجأ إلى الكذب والافتراء على العلاّمة الحلّي ، واضطرّ إلى وضع تتمّةٍ لهذا الحديث الموضوع ، وذلك أنّه قال في الجواب عن كلام العلاّمة الحليّ :

( أقول : مِن غرائب ما يستدلّ به على ترك أمانة هذا الرجل وعدم الاعتماد والوثوق على نقله : رواية هذا الحديث ، فقد روى بعض الحديث ليستدلّ به على مطلوبه وهو الطعن في رواية الصحاح ، وما ذكر تمامه ، وتمام الحديث : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا قال زيد بن عمرو بن نفيل

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ٧ : ١٦٥ .

٣٧١

هذا الكلام قال : وإنّا أيضاً لا نأكل مِن ذبيحتهم وممّا لم يذكر عليه اسم الله تعالى ، فأكلا معاً .

وهذا الرجل لم يذكر هذه التتمّة ليتمكّن من الطعن في الرواية نسأل الله العصمة مِن التعصّب فإنّه بئس الضجيع )(١) .

أقول :

لكنَّ هذا الذي وصَف به العلاّمة الحلّي يرجع إليه ، وهو المتّصف به ؛ لأنّ الحديث في كتاب الذبائح من( صحيح البخاري ) كما تقدّم ، وهكذا نقله العلاّمة الحلّي ، ومن شاء فليراجع أصل كتاب البخاري !!

وقد أخرج البخاري هذا الحديث الموضوع في كتاب المناقب ، وليس فيه التتمّة التي زعمها ابن روزبهان ، وهذه عبارته : ( باب حديث زيد بن عمرو ابن نفيل ، حدّثني محمّد بن أبي بكر قال : حدّثنا سالم بن عبد الله بن عمر : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح ، قبل أنْ ينزل على النبيّ الوحي ، فقدّمت إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سفرة فأبى أنْ يأكل منها ، ثمّ قال زيد : إنّي لست آكل ممّا تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلاّ ما ذكر اسم الله عليه ، وإنّ زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول : الشاة خلقها الله ، وأنزل لها مِن السماء الماء وأنبت لها مِن الأرض ، ثمّ تذبحونها على غير اسم الله ، إنكاراً لذلك وإعظاماً له )(٢) .

فقد تبيّن أنّ العلاّمة الحلّي رحمه الله لم يخن في نقل الحديث ، فلم يزد عليه ولم يحذف منه شيئاً ، بل ابن روزوبهان قد كذب في دعوى التتمّة ،

ـــــــــــــــــــ

(١) إبطال الباطل ـ مخطوط .

(٢) صحيح البخاري ٥ : ١٢٤.

٣٧٢

لغرض الدفاع عن البخاري وكتابه ، فحقّ أنْ يقال في جوابه : إنّ من غرائب ما يستدلّ به على ترك أمانة هذا الرجل وعدم الاعتماد والوثوق على نقله : رواية تتمّة مخترعة لهذا الحديث ، وقد اخترعها ليستدلّ بها على مطلوبه وهو دفع الطعن في رواية الصحاح ، نسأل الله العصمة من التعصّب فإنّه بئس الضجيع .

وظهر أيضاً : أنّهم يحاولون التغطية على شناعة بعض أحاديثهم بالزيادة فيه أو النقيصة عنه ، على حسب ما عرض لهم من ضيق الخناق .

وكما تصرّف ابن روزبهان في الحديث بدعوى الزيادة كما تقدّم ، فقد تصرّف محمّد بن يوسف الصالحي الدمشقي في لفظه بشكلٍ آخر ، فقد قال في( سبُل الهدى والرشاد ) :

( روى البخاري والبيهقي من طريق موسى بن عقبة ، عن سالم بن عبد الله ابن عمر عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقي زيد ابن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح ، قبل أنْ ينزل عليه الوحي ، فقدّمت إلى رسول الله سفرة فيها لحم ، فأبى أن يأكل منها ، ثمّ قال لزيد : إنّي لست آكل ممّا تذبحون على أنصباكم ، ولا آكل إلاّ ما ذكر اسم الله عليه ، وإنّ زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول : الشاة خلقها الله تعالى وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض ، ثمّ تذبحونها على غير اسم الله تعالى ، إنكاراً لذلك وإعظاماً له )(١) .

لقد التفت هذا الرجل إلى شناعة لفظ هذا الحديث ، فلم يجد بُدّاً من أنْ يضيف اللاّم الجارة إلى لفظ زيد ، فصارت الجملة : ( ثمّ قال لزيد ) ليكون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو فاعل ( قال ) ، وتكون جملة : ( إنّي لست

ـــــــــــــــــــ

(١) سبُل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ٢ : ١٨٢ .

٣٧٣

آكل ) مقول قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... والحال أنّ لفظ البخاري في كتاب المناقب من ( صحيحه ) خالٍ من اللام والجملة هي : ( ثمّ قال زيد ) فكان زيد الفاعل للفعل ( قال ) وهو القائل : ( إنّي لست آكل ) !

وأمّا الضمير في ( أبى ) وإنْ احتمل ـ في رواية كتاب المناقب ـ عوده إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكنّه غير مُحتمل في لفظ رواية كتاب الذبائح ؛ لأنّ الحدث هناك بلفظ ( فقدّم ) ـ وكذلك هو في رواية الجرجاني والإسماعيلي كما سيأتي ـ وعليه ، فلا يكون الضمير في ( أبى ) عائداً على النبيّ ، بل يعود إلى زيد...

وسيأتي أنّ أحمد بن حنبل وغيره مِن الأئمّة ينسبون أكل ذبيحة الأنصاب في هذه القصّة إلى نفس رسول الله... فيكون الضمير في ( أبى ) في حديث كتاب المناقب أيضاً عائداً على ( زيد ) ؛ لأنّ الحديث يفسّر بعضه بعضاً .

ومن هنا ، فقد أسند ابن حجر والزركشي والسهيلي والقسطلاني وغيرهم من شرّاح الحديث الفعل ( أبى ) إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ...

والحاصل : إنّ القضية واحدة ، والحديث واحد ، فما لا يكون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الفاعل لِلَفظ ( أبى ) في حديث كتاب الذبائح ، كذلك لا يكون هو الفاعل له في لفظ كتاب المناقب... وإلاّ لزِم تكذيب حديث كتاب الذبائح بحديث كتاب المناقب ، فيكون الإشكال أقوى والإفحام آكد .

توجيه البعض معنى الحديث

وكيف كان ، فلا دلالة في حديث البخاري على إباء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الأكل من ذبيحة الأصنام ، ولذا اعترض ابن حجَر على ابن بطّال لمّا ادّعى ذلك ، وردّ عليه بعدم الوقوف على ذلك في روايةٍ من روايات القصّة... وهذا نصّ كلام ابن حجَر بشرح الحديث في كتاب المناقب :

( قوله : فقدّمت بضم القاف قوله : إلى النبيّ ، كذا الأكثر ، وفي رواية الجرجاني : فقدّم إليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سفرة قال عياض : الصّواب الأوّل قلت : رواية الإسماعيلي توافق رواية الجرجاني ، ولذا أخرجه الزبير بن بكار والفاكهي وغيرهما .

٣٧٤

وقال ابن بطّال : كانت السفرة لقريش ، قدّموها للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأبى أنْ يأكل منها ، فقدّمها النبيّ لزيد بن عمرو بن نفيل ، فأبى أنْ يأكل منها ، وقال مخاطباً لقريش الذين قدّموها أوّلاً : إنّا لا نأكل ما ذبح على أنصابكم انتهى .

وما قاله يحتمل ، ولكنْ لا أدري من أين له الجزم بذلك ؟ فإنّي لم أقف عليه في روايةٍ ، وقد تبعه ابن المنير في ذلك )(١) .

أقول :

لقد أجاد ابن حجر في الرّ على ابن بطّال ، لكنّ قوله ( وما قاله يحتمل ) باطل جدّاً ، فقد نقل ابن حجَر ـ كما سيأتي ـ عن أكابر الأئمّة تصريحهم بأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ والعياذ بالله ـ قد أكل من ذبيحة الأصنام ، ودعا زيداً إلى الأكل منها ، فأبى زيد عن ذلك... فلا أساس لقول ابن بطّال من الصحّة أصلاً .

على أنّ عبارة ابن بطّال صريحة في أنّ النبيّ ـ بعد أنْ أبى عن الأكل من تلك الذبيحة ، دعا زيداً إلى الأكل منها وهذا من القبح والشناعة بمكان ، إذ كيف يحتمل أنّ النبيّ ـ مع ما عليه من الصيانة والأمانة والأخلاق الكريمة والأوصاف الحميدة ـ يأبى عن أمرٍ ثمّ يدعو غيره إليه بلا ضرورة ، فيواجه بالإباء ويُجاب بما يقتضي الطعن والملامة ؟ كلاّ وحاشا ، لا يُجوّز ذلك ذو دينٍ وعقل...

التزام بعضهم بمفاده الباطل

إلاّ أنّ أكثر المحقّقين منهم لم يسلكوا سبيل الخيانة والتحريف ، كما صنع ابن روزبهان وصاحب سُبل الهدى ، بل استحوذ عليهم حبّ البخاري ، فصدّقوا بأكاذيبه وافتراءاته ، وسلّموا لغرائب مجعولاته وهفَواته ، فترى الدّاودي يذهب إلى أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأكل مِن ذبائح المشركين ، لكونه جاهلاً بحرمة الأكل منها ، أمّا زيد فقد علِم بذلك فلم يأكل !! قال ابن حجَر :

ـــــــــــــــــــ

(١) فتح الباري ـ رح صحيح البخاري ٧ : ١١٢ .

٣٧٥

 ( قال الداودي : كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل البعث يجانب المشركين في عباداتهم ، ولكنْ لم يكن يعلم ما يتعلَّق بأمر الذبائح ، وكان زيد قد علم ذلك من أهل الكتاب الذين لقيهم )(١) .

فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ والعياذ بالله ـ يأكل من ذبائح أهل الكتاب عن جهلٍ بحكمها ، وقد علم بذلك أهل الكتاب ، وتعلّمه منهم زيد بن عمرو ، ولم يأكل... فانظر كيف يطعن في رسول الله ويحطّ عليه ؟ وكيف يجوّز المؤمن الدّين في حقّ الرسول الأمين ، المؤيّد بالتأييد الإلهي والمسدّد بالمدد الربّاني ، أنْ يجهل حكماً مِن الأحكام الشرعيّة ، ويرتكب شيئاً من المحرّمات الإلهيّة ، ويدعو غيره لارتكابه ؟

تكلّفات الآخرين في حلّ العقدة

ومن القوم مَن يأبى تكذيب حديث البخاري ، ويستحيي من الإلتزام بمدلوله ومعناه الظاهر بل الصريح فيه ، فأُشكل عليه الأمر ، وجعل يتكلَّف للخروج من المأزق !

قال السهيلي ـ بعد نقل حديث البخاري في كتاب الذبائح ـ :

( وفيه سؤال : يقال : كيف وفّق الله زيداً إلى ترك أكل ما ذُبح على النصُب وما لم يُذكَر اسم الله عليه ، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أولى بهذه الفضيلة في الجاهليّة ، لِما ثبت مِن عصمة الله له ؟

فالجواب من وجهين :

أحدهما : إنّه ليس في الحديث حين لقيه ببلدح ، فقدّمت إليه السفرة ، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكل منها ، وإنّما في الحديث إنّ زيداً قال حين قدّمت إليه السفرة : لا آكل ممّا لم يذكر اسم الله عليه .

الجواب الثاني : إنّ زيداً إنّما فعل ذلك برأيٍ رآه لا بشرعٍ مُتقدّم ، وإنّما تقّدم شرع إبراهيم بتحريم الميتة لا بتحريم ما ذُبح لغير الله ، وإنّما نزل تحريم ذلك في الإسلام ، وبعض الأُصوليّين يقولون : الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة .

ـــــــــــــــــــ

(١) فتح الباري ـ شرح صحيح البخاري ٧ : ١١٣ .

٣٧٦

فإن قلنا : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأكل ممّا ذبح على النصُب ، فإنّما فعل أمراً مُباحاً وإنْ كان لا يأكل منها ، فلا إشكال ، وإنْ قلنا أيضاً : إنّها ليست على الإباحة ولا على التحريم ، وهو الصحيح ، فالذبائح خاصّة لها أصلٌ في تحليل الشرع المتقدّم ، فالشاة والبعير ونحو ذلك ممّا أحلّهالله تعالى في دين مَن كان قبلنا ، ولم يقدح في ذلك التحليل المتقدّم ما ابتدعوه ، حتّى جاء الإسلام وأنزل الله سبحانه : ( وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ.... ) ، ألا ترى كيف بقيت ذبائح أهل الكتاب على أصل التحليل بالشرع المتقدّم ، ولم يقدح في التحليل ما أحدثوه من الكفر وعبادة الصلبان ، فكذلك كان ما ذبحه أهل الأوثان محلّلاً بالشرع المتقدّم حتّى خصّه القرآن بالتحريم ) (١) .

أقول :

وهذا الكلام في غاية السخافة والركّة ، فإنّ مناط الإشكال ليس على مجرّد أكل ذبيحة الأصنام ، بل إنّ تجويز أكلها ودعوة الغير إلى ذلك قبيحٌ جدّاً ، فحصر الإشكال في الأكل دليلٌ على عدم التدبّر وقلّة التأمّل ، وكيف يُصدّق العاقل الديّن أنْ لا يتنزّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمّا تنزّه منه زيد ، وهو المعصوم بالعصمة الإلهيّة ـ بالإجماع القطعي ـ وأعقل الناس طُرّاً بلا خلاف :

قال القاضي عياض : ( وأمّا وفور عقله ، وذكاء لبّه ، وقوّة حواسّه ، وفصاحة لسانه ، واعتدال حركاته ، وحسن شمائله ، فلا مِرية أنّه كان أعقل الناس وأذكاهم ، ومَن تأمّل تدبيره أمر بواطن الخلْق وظواهرهم وسياسة العامّة والخاصّة ، مع عجيب شمائله وبديع سيره ـ فضلاً عمّا أفاضه مِن العلم وقدّره الشرع ، دون تعلّمٍ سَبَقَ ولا ممارسةٍ تقدّمت ولا مطالعة للكتب منه ـ لم يَمْتَرِ في رجحان عقله وثقوب فهمه لأوّل بديهة ، وهذا ما لا يحتاج إلى تقريرٍ لتحقّقه .

ـــــــــــــــــــ

(١) الروض الأنف ٢: ٣٦٠ ـ ٣٦٣.

٣٧٧

وقد قال وهب بن مُنبِّه : قرأت في أحد وسبعين كتاباً ، فوجدت فيجميعها أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرجح الناس عقلاً وأفضلهم رأياً وفي رواية أُخرى : فوجدت في جميعها أنّ الله تعالى لم يعطِ جميع الناس مِن بدء الدنيا إلى انقضائها مِن العقل في جنب عقله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلاّ كحبّة رملٍ من رمال الدنيا ) (١) .

فأيّ عاقلٍِ يقبل كلام السهيلي في حقّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع هذا المقام في العصمة والعقل والسداد ؟

على أنّ أكابر القوم وأئمّتهم يصرّحون بأكل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مِن ذبيحة الأصنام بالفعل .

يقول ابن حجَر : ( وقد وقع في حديث سعيد بن زيد الذي قدّمته ، وهو عند أحمد : فكان زيد يقول : عذت بما عاذ إبراهيم ، ثمّ يخرّ ساجداً للكعبة ، قال : فمرّ بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزيد بن حارثة وهما يأكلان من سفرةٍ لهما ، فدعياه ، قال : يا ابن أخي لا آكل ممّا ذُبح على النُصب ، قال : فما رُؤي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأكل ممّا ذُبح على النُصب من يومه ذلك .

وفي حديث زيد بن حارثة عند أبي يعلى والبزار وغيرهما قال : خرجت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً من مكّة وهو مردفي ، فذبحنا شاةً على بعض الأنصاب ، فأنضجناها ، فلقينا زيد بن عمرو ، فذكر الحديث مطوّلاً وفيه : فقال زيد : إنّي لا آكل ممّا لم يُذكر اسم الله عليه )(٢) .

فهذا حديث أحمد وغيره مِن الأئمّة الأعلام... فأيّ فائدةٍ في كلام السهيلي ؟

ـــــــــــــــــــ

(١) الشفا بتعريف حقوق المصطفى ١ : ١٦١ ـ ١٦٢ .

(٢) فتح الباري ـ شرح صحيح البخاري ٧ : ١١٣ .

٣٧٨

على أنّ ما ادّعاه ، مِن عدم حرمة أكل ما ذُبِح لغير الله في شريعة سيّدنا إبراهيمعليه‌السلام ، فكذِبٌ صِرف ، لكنّ القوم يرتكبونه ، حمايةً لأسلافهم وخرافاتهم !!

وقد كان مِن فضل الله أنْ ردّ الزركشي دعوى السهيلي هذه ، ونصَّ على حرمة ما ذُبِح لغير الله في الشرعيّة الإبراهيميّة ، إذ قال في( التنقيح ) بشرح الحديث مِن كتاب المناقب :

( فقدّمت له سفرة ، فأبى أنْ يأكل .

إنْ قيل : كان نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولى بهذه الفضيلة .

قلنا : ليس في الحديث أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكل مِن السّفرة .

وأجاب السهيلي : بأنّ زيداً إنّما قال ذلك برأيٍ منه ، لا بشرعٍ متقدّم ، وفي شرع إبراهيم تحريم الميتة لا تحريم ما ذُبِح لغير الله ، وإنّما نزل تحريم ذلك في الإسلام .

وهذا الذي قاله ضعيف ، بل كان في شريعة الخليل تحريم ما ذُبِح لغير الله ، وقد كان عدوّ الأصنام ، والله تعالى يقول :( ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً .... ) (١) )(٢) .

فالحمد لله على أنْ جرت كلمة الحقّ هذه على لسان الزركشي ، وظهر أنّ دعوى السهيلي كذِبٌ وبهتانٌ مبين ، قصد به الحماية على أسلافه الضالّين .

وجاء الخطّابي فسلك مسلكاً آخر... ذكره ابن حجَر حيث قال : ( قوله : على أنصابكم بالمهملة ، جمع نُصُب بضمّتين ، وهي أحجار

ـــــــــــــــــــ

(١) سورة النحل ١٩ : ١٢٣ .

(٢) التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح ٢ : ٧٩٧ .

٣٧٩

كانت حول الكعبة يذبحون عليها للأصنام .

قال الخطابي: كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يأكل ممّا يذبحون عليها للأصنام ، ويأكل ما عدا ذلك ، وإنْ كانوا لا يذكرون اسم الله عليه ؛ لأنّ الشرع لم يكن نزل بعد ، بل لم ينزل الشرع بمنع أكل ما لم يذكر اسم الله عليه إلاّ بعد البعث بمدّة طويلة )(١) .

أقول :

لكنّ هذا الكلام شعري خطابي ، ولا يرفع الإشكال عن حديث البخاري ؛ لأنّه صريح في أنّ اللّحم الذي أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زيداً بالأكل منه كان مذبوحاً على النُصُب ، حتّى أنّ زيداً قال للنبيّ : إنّي لست آكل ممّا تذبحون على أنصابكم ومن هنا أورد الخباري ، هذا الحديث في كتاب الذبائح ، باب ما ذبح على النصب والأصنام .

وأيضاً ، فما أخرجه أحمد والبزار وأبو يعلى ، ونقله ابن حجر العسقلاني ، صريح في أنّ ذلك اللّحم كان مذبوحاً على النُصُب .

على أنّ القول بأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأكل ممّا لم يذكر اسم الله عليه ، باطلٌ كذلك ، لما تقدَّم في كلام الزركشي مِن تحريم ما ذبح لغير الله في شريعة سيّدنا الخليلعليه‌السلام ، فكيف ينسب ذلك إلى رسول الله ؟

فظهر أنّ كلام الخطابي أيضاً ضرب في بارد الحديد ، لا ينفع أصلاً في الخلاص عن الإشكال الشديد ، وكيف يجوّز ذو عقلٍ وفهمٍ سديد أنّ البشير النذير أكل مِما ذُبِح على غير اسم الملك الحميد ؟ فالله يعصمنا بفضله مِن اتّباع الشيطان المريد .

ـــــــــــــــــــ

(١) فتح الباري ٧ : ١١٢ ـ ١١٣ .

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456