استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

استخراج المرام من استقصاء الإفحام13%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 456

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 456 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 227136 / تحميل: 8330
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ) .

«الأذن» في الأصل تطلق على الجزء الظاهر من الحاسة السامعة (الصيوان) ، لكنّها تطلق على الأفراد الذين يصغون كثيرا لكلام الناس أو كما يقال : سمّاع.

هؤلاء المنافقون اعتبروا هذه الصفة ـ والتي هي سمة ايجابية للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتي يجب توفرها في أي قائد كامل ـ نقطة ضعف في سيرته ومعاملتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكأنّهم غفلوا عن أن القائد إذا أراد أن يحبه الناس لا بدّ أن يظهر لهم كل محبّة ولطف ، وأن يقبل عذر المعتذر ما أمكن ، ويستر على عيوبهم ، (إلّا أن تكون هذه الصفة الحميدة سببا لاستغلالها من قبل البعض).

من هنا نلاحظ أنّ القرآن قد ردّهم مباشرة ، وأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول لهم بأنّه إذا كان يصغي لكلامكم ، ويقبل أعذاركم ، أو كما تظنون بأنّه أذن ، فإنّ ذلك في مصلحتكم ولمنفعتكم( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ ) ، فإنّه بذلك يحفظ ماء وجوهكم وشخصيتكم ، ولا يجرح شعوركم وعواطفكم ، وبذلك ـ أيضا ـ يسعى لحفظ وحدتكم واتحادكم ومودتكم ، ولو أراد أن يرفع الستار عن أفعالكم القبيحة ، ويفضح الكاذبين على رؤوس الأشهاد ، لضرّكم ذلك وشق عليكم ، وافتضح عدّة منكم ، وعندها سيغلق أمامهم باب التوبة ممّا يؤدي إلى توغلهم في الكفر والابتعاد عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن كان من المحتمل هدايتهم.

إن القائد الرحيم والمحنّك يجب أن يكون مطّلعا على كل شيء ، لكن لا ينبغي له أن يجابه أفراده بأمورهم الخاصّة والمجهولة عند الآخرين حتى يتربى من لهم الاستعداد والقابلية وتبقى اسرار الناس في طي الكتمان.

ويحتمل في تفسير الآية أن يراد معنى آخر ، وهو أنّ الله سبحانه وتعالى يقول في جواب هؤلاء الذين يعيبون على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إصغاءه للآخرين : ليس الأمر كما تظنون بأنّه يسمع كل ما يقال له ، بل إنّه يصغي إلى الكلام الذي فيه نفعكم ، أي أنّه يسمع الوحي الإلهي ، والاقتراح المفيد ، ويقبل اعتذار الأفراد إذا كان هذا القبول

١٠١

في صالح المعتذرين والمجتمع(1) .

ومن أجل أن لا يستغل المتتبعون لعيوب الناس ذلك ، ولا يجعلون هذه الصفة وسيلة لتأكيد كلامهم ، أضاف الله تعالى أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤمن بالله ويطيع أوامره ، ويصغي إلى كلام المؤمنين المخلصين ، ويقبله ويرتب عليه الأثر ،( يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) ، وهذا يعني أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان له طريقان وأسلوبان في عمله :

أحدهما : الحفاظ على الظاهر والحيلولة دون هتك الأستار وفضح أسرار الناس.

والثّاني : في مرحلة العمل ، فقد كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في البداية يسمع من كل أحد ، ولا ينكر على أحد ظاهرا ، أمّا في الواقع العملي فإنّه لا يعتني ولا يقبل إلّا أوامر الله واقتراحات وكلام المؤمنين المخلصين ، والقائد الواقعي يجب أن يكون كذلك فإن تأمين مصالح المجتمع لا يتم إلّا عن هذا الطريق ، لذلك عبر عنه بأنّه رحمة للمؤمنين( وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) .

ويمكن أن يطرح هنا سؤال ، وهو أننا نلاحظ في بعض الآيات التعبير عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه( رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ) ،(2) لكننا نقرأ هنا أنّه رحمة للمؤمنين ، فهل يتطابق ذلك العموم مع هذا التخصيص؟

إلّا أنّنا إذا لا حظنا نقطة دقيقة سيتّضح جواب هذا السؤال ، وهي أنّ للرحمة درجات ومراتب متعددة ، فإحداها مرتبة (القابلية والاستعداد) ، والأخرى (الفعلية).

فمثلا : المطر رحمة إلهية ، أي أنّ هذه القابلية واللياقة موجودة في كل قطرات المطر ، فهي منشأ الخير والبركة والنمو والحياة ، لكن من المسلّم أنّ آثار هذه

__________________

(1) في الحقيقة ، بناء على التّفسير الأوّل فإنّ( أُذُنُ خَيْرٍ ) التي هي مضاف ومضاف إليه من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة ، وعلى التّفسير الثّاني فهي من قبيل إضافة الوصف إلى المفعول ، فعلى الاحتمال الأوّل يكون المعنى ، إنّه إنسان يقبل الكلام وهو خير لكم ، وعلى الاحتمال الثّاني فالمعنى : إنّه يسمع الكلام المفيد الذي ينفعكم ، لا أنّه يسمع كل كلام.

(2) الأنبياء ، 107.

١٠٢

الرحمة لا تظهر إلّا في الأراضي المستعدّة ، وعلى هذا فإنّه يصح قولنا : إنّ جميع قطرات المطر رحمة ، كما يصح قولنا : إنّ هذه القطرات أساس الرحمة في الأراضي التي لها القابلية والاستعداد لتقبل هذه الرحمة ، فالجملة الأولى إشارة إلى مرحلة (الاقتضاء والقابلية) ، والجملة الثّانية إشارة إلى مرحلة (الوجود والفعل) ، وعلى هذا فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أساس الرحمة لكل العالمين بالقوة ، أمّا بالفعل فهو مختص بالمؤمنين.

بقي هنا شيء واحد ، وهو أنّ هؤلاء الذين يؤذون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكلامهم ويتتبعون أحواله لعلهم يجدون عيبا يشهّرون به يجب أن لا يتصوروا أنّهم سوف يبقون بدون جزاء وعقاب ، فصحيح أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مأمور ، ومن واجبه ـ كقائد ـ أن يقابل هؤلاء برحابة صدر ولا يفضحهم ، لكن هذا لا يعني أنّهم سوف يبقون بدون جزاء ، ولهذا قال تعالى في نهاية الآية :( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

* * *

١٠٣

الآيتان

( يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) )

سبب النّزول

يستفاد من أقوال بعض المفسّرين أنّ الآيتين المذكورتين مكملتان للآية السابقة ، ومن الطبيعي أن يكون سبب نزولها نفس السبب السابق ، إلّا أن جمعا آخر من المفسّرين ذكر سببا آخر لنزول هاتين الآيتين ، وهو أنّه لما نزلت الآيات التي ذمت المتخلفين عن غزوة تبوك ووبختهم قال أحد المنافقين : أقسم بالله أنّ هؤلاء أشرافنا وأعياننا ، فإن كان ما يقوله محمّد حقّا فإنّ هؤلاء أسوا حالا من الدواب ، فسمعه أحد المسلمين وقال : والله إن ما يقوله لحق ، وإنّك أسوأ من الدابة. فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبعث إلى ذلك المنافق فأحضر ، فسأله عن سبب قوله ذلك الكلام ، فحلف أنّه لم يقل ذلك ، فقال الرجل المؤمن الذي كان طرفا في خصومة الرجل وأبلغ كلامه لرسول الله : اللهم صدّق الصادق وكذّب الكاذب. فنزلت الآيتين أعلاه.

١٠٤

التّفسير

المنافقون والتظاهر بالحق :

إن إحدى علامات المنافقين وأعمالهم القبيحة والتي أشار إليها القرآن مرارا هي إنكارهم الأعمال القبيحة والمخالفة للدين والعرف ، وهم إنّما ينكرونها من أجل التغطية على واقعهم السيء وإخفاء الصورة الحقيقية لهم ، ولما كان المجتمع يعرفهم ويعرف كذبهم في هذا الإنكار فقد كانوا يلجؤون إلى الأيمان الكاذبة من أجل مخادعة الناس وإرضائهم.

وفي الآيات السابقة الذكر نرى أنّ القرآن المجيد يكشف الستار عن هذا العمل القبيح ليفضح هؤلاء من جهة ، ويحذّر المسلمين من تصديق الإيمان الكاذبة من جهة أخرى.

في البداية يخاطب القرآن الكريم المسلمين وينبههم إلى أنّ هدف هؤلاء من القسم هو إرضاؤكم( يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ ) ، ومن الواضح إذن أن هدف هؤلاء من هذه الأيمان لم يكن بيان الحقيقة ، بل إنّهم يسعون عن طريق المكر والخديعة إلى أن يصوروا لكم الأشياء والواقع على غير صورته الحقيقة ، ويصلون عن هذا الطريق إلى مقاصدهم ، وإلّا فلو كان هدفهم هو إرضاء المؤمنين الحقيقيين عنهم ، فإنّ إرضاء الله ورسوله أهم من إرضاء المؤمنين ، غير أنا نرى أنّهم بأعمالهم هذه قد أسخطوا الله ورسوله ، ولذا عقبت الآية فقالت :( وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ ) .

ممّا يلفت النظر أن الجملة المذكورة لما كانت تتحدث عن الله ورسوله ، فعلى القاعدة النحوية ينبغي أن يكون الضمير في «يرضوه» ضمير التثنية غير أن المستعمل هنا هو ضمير المفرد ، وهذا الاستعمال والتعبير يشير إلى أن رضا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من رضا الله. بل أنّه لا يرتضي من الأعمال إلّا ما يرتضيه الله سبحانه ، وبعبارة أخرى : فإنّ هذا التعبير يشير إلى حقيقة (توحيد الأفعال) ، لأنّ النّبي

١٠٥

الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يملك استقلالية العمل في مقابل الله ، بل إن غضبه ورضاه وكل أعماله تنتهي إلى الله ، فكل شيء من أجل الله وفي سبيله.

روي أنّ رجلا في زمن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ضمن كلامه : من أطاع الله ورسوله فقد فاز، ومن عصاهما فقد غوى. فلما سمع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلامه غضب ـ حيث أن الرجل ذكر الله ورسوله بضمير التثنية فكأنّه جعل الله ورسوله في درجة واحدة ـ وقال : «بئس الخطيب أنت ، هلا قلت : ومن عصى الله ورسوله»(1) ؟!

وفي الآية الثّانية نرى أنّ القرآن يهدد المنافقين تهديدا شديدا ، فقال :( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ) ومن أجل أن يؤكّد ذلك أضاف تعالى( ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ) .

(يحادد) مأخوذ من (المحادّة) وأصلها (حدّ) ، ومعناها نهاية الشيء وطرفه ، ولما كان الأعداء والمخالفون يقفون في الطرف الآخر المقابل ، لذا فإن مادة (المحادّة) قد وردت بمعنى العداوة أيضا ، كما نستعمل كلمة (طرف) في حياتنا اليومية ونريد منها المخالفة والعداوة.

* * *

__________________

(1) تفسير أبي الفتوح الرازي ، ذيل الآية.

١٠٦

الآيات

( يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66) )

سبب النّزول

ذكرت عدّة أسباب لنزول هذه الآيات ، وكلّها ترتبط بأعمال المنافقين بعد غزوة تبوك. فمن جملتها : إنّ جمعا من المنافقين كانوا قد اجتمعوا في مكان خفي وقرّروا قتل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند رجوعه من غزوة تبوك ، وكانت خطتهم أن ينصبوا كمينا في إحدى عقبات الجبال الصعبة ، وعند ما يمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تلك العقبة ينفرون بعيره ، فأطلع الله نبيّه على ذلك ، فأمر جماعة من المسلمين بمراقبة الطريق والحذر ، فلمّا وصل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى العقبة ـ وكان عمار يقود الدابة وحذيفة يسوقها ـ اقترب المنافقون متلثّمين لتنفيذ مؤامرتهم فأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حذيفة أن يضرب وجوه دوابهم ويدفعهم ، ففعل حذيفة ذلك.

فلمّا جاوز النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العقبة ـ وقد زال الخطر ـ قال لحذيفة : هل عرفتهم؟ فقال:

١٠٧

لم أعرف أحدا منهم ، فعرّفه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهم ، فقال حذيفة : ألا ترسل إليهم من يقتلهم؟ فقال : «إني أكره أن تقول العرب : إنّ محمّدا لما انقضت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل أصحابه».

وقد نقل سبب النزول هذا عن الإمام الباقرعليه‌السلام ، وجاء أيضا في العديد من كتب التّفسير والحديث.

وذكر سبب آخر للنزول وهو : أنّ مجموعة من المنافقين لما رأوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد تهيّأ للقتال واصطف أمام الأعداء ، قال هؤلاء بسخرية : أيظن هذا الرجل أنّه سيفتح حصون الشام الحصينة ويسكن قصورها ، إن هذا الشيء محال ، فأطلع الله نبيّه على ذلك ، فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسدوا عليهم المنافذ والطرق ، ثمّ ناداهم ولا مهم وأخبرهم بما قالوا ، فاعتذروا بأنّهم إنّما كانوا يمزحون وأقسموا على ذلك.

التّفسير

مؤامرة أخرى للمنافقين :

لا حظنا في الآيات السابقة كيف أنّ المنافقين اعتبروا نقاط القوّة في سلوك النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نقاط ضعف ، وكيف حاولوا استغلال هذه المسألة من أجل بثّ التفرقة بين المسلمين. وفي هذه الآيات إشارة إلى نوع آخر من برامجهم وطرقهم.

فمن الآية الأولى يستفاد أنّ الله سبحانه وتعالى يكشف الستار عن أسرار المنافقين أحيانا ، وذلك لدفع خطرهم عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفضحهم أمام الناس ليعرفوا حقيقتهم ، ويحذروهم وليعرف المنافقون موقع اقدامهم ويكفّوا عن تآمرهم ، ويشير القرآن إلى خوفهم من نزول سورة تفضحهم وتكشف خبيئة أسرارهم فقال :( يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ ) .

إلّا أنّ العجيب في الأمر أن هؤلاء ولشدة حقدهم وعنادهم لم يكفّوا عن استهزائهم وسخريتهم ، لذلك تضيف الآية : بأنّهم مهما سخروا من أعمال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١٠٨

فإن الله لهم بالمرصاد وسوف يظهر خبيث أسرارهم ويكشف عن دنيء نيّاتهم ، فقال :( قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ ) .

تجدر الإشارة إلى أنّ جملة (استهزءوا) من قبيل الأمر لأجل التهديد كما يقول الإنسان لعدوّه : اعمل كل ما تستطيع من أذى وإضرار لترى عاقبة أمرك ، ومثل هذه الأساليب والتعبيرات تستعمل في مقام التهديد.

كما يجب الالتفات إلى أنّنا نفهم من الآية بصورة ضمنية أنّ هؤلاء المنافقين يعلمون بأحقية دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصدقها ، ويعلمون في ضميرهم ووجدانهم ارتباط النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالله سبحانه وتعالى ، إلّا أنهم لعنادهم وإصرارهم بدل أن يؤمنوا به ويسلموا بين يديه ، فإنّهم بدأوا بمحاربته وإضعاف دعوته المباركة ، ولذلك قال القرآن الكريم :( يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ ) .

وينبغي الالتفات إلى أنّ جملة( تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ ) لا تعني أن أمثال هذه الآيات كانت تنزل على المنافقين ، بل المقصود أنّها كانت تنزل في شأن المنافقين وتبيّن أحوالهم.

أمّا الآية الثّانية فإنّها أشارت إلى أسلوب آخر من أساليب المنافقين ، وقالت :( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ) (1) . أي إذا سألتهم عن الدافع لهم على هذه الأعمال المشينة قالوا : نحن نمزح وبذلك ضمنوا طريق العودة ، فهم من جهة كانوا يخططون المؤامرات ، ويبثون السموم ، فإذا تحقق هدفهم فقد وصلوا إلى مآربهم الخبيثة أمّا إذا افتضح أمرهم فإنّهم سيتذرعون ويعتذرون بأنّهم كانوا يمزحون ، وعن هذا الطريق سيتخلصون من معاقبة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والناس لهم.

إن المنافقين في أي زمان ، تجمعهم وحدة الخطط ، والضرب على نفس الوتر ،

__________________

(1) خوض على وزن حوض ، وهو ـ كما ورد في كتب اللغة ـ بمعنى الدخول التدريجي في الماء ، ثمّ أطلقت على الدخول في مختلف الأعمال من باب الكناية ، إلّا أنّها جاءت في القرآن غالبا بمعنى الدخول أو الشروع بالأعمال أو الأقوال القبيحة البذيئة.

١٠٩

لذا فلهم نغمة واحدة ، وهم كثيرا ما يستفيدون ويتبعون هذا الطرق ، بل إنّهم في بعض الأحيان يطرحون أكثر المسائل جدية لكن بلباس المزاح الساذج البسيط ، فإن وصلوا إلى هدفهم وحققوه فهو ، وإلّا فإنّهم يفلتون من قبضة العدالة بحجّة المزاح.

غير أنّ القرآن الكريم واجه هؤلاء بكل صرامة ، وجابههم بجواب لا مفرّ معه من الإذعان للواقع ، فأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخاطبهم( قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ ) ، أي إنّه يسألهم : هل يمكن المزاح والسخرية حتى بالله ورسوله وآيات القرآن؟!

هل إنّ هذه المسائل التي هي أدق الأمور وأكثرها جدية قابلة للمزاح؟!

هل يمكن إخفاء قضية تنفير البعير وسقوط النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تلك العقبة الخطيرة ، والتي تعني الموت ، تحت عنوان ونقاب المزاح؟ أم أنّ السخرية والاستهزاء بالآيات الإلهية وإخبار النّبي بالانتصارات المستقبلية من الأمور التي يمكن أن يشملها عنوان اللعب؟ كل هذه الشواهد تدل على أنّ هؤلاء كان لديهم أهداف خطيرة مستترة خلف هذه الأستار والعناوين.

ثمّ يأمر القرآن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول للمنافقين بصراحة :( لا تَعْتَذِرُوا ) ، والسبب في ذلك أنّكم( قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ ) ، فهذا التعبير يشعر أن هذه الفئة لم تكن منذ البداية في صف المنافقين ، بل كانوا مؤمنين لكنّهم ضعيفو الإيمان ، بعد هذه الحوادث الآنفة الذكر سلكوا طريق الكفر.

ويحتمل أيضا في تفسير العبارة أعلاه أن هؤلاء كانوا منافقين من قبل ، إلّا أنّهم لم يظهروا عملا مخالفا ، فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين كانوا مكلّفين أن يعاملوهم كأفراد مؤمنين ، لكن لما رفع النقاب بعد أحداث غزوة تبوك ، وظهر كفرهم ونفاقهم أعلم هؤلاء بأنّهم لم يعودوا من المؤمنين.

واختتمت الآية بهذه العبارة :( إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ

١١٠

كانُوا مُجْرِمِينَ ) فهي تبيّن أنّ طائفة قد استحقت العذاب نتيجة الذنوب والمعاصي ، وهذا دليل على أن أفراد الطائفة الأخرى إنّما شملهم العفو الإلهي لأنّهم غسلوا ذنوبهم ومعاصيهم بماء التوبة من أعماق وجودهم.

وفي الآيات القادمة ـ كالآية 74 ـ قرينة على هذا المبحث.

وقد وردت روايات عديدة في ذيل الآية ، تبيّن أن بعض هؤلاء المنافقين الذين مرّ ذكرهم في هذه الآيات قد ندموا على ما بدر منهم من أعمال منافية للدين والأخلاق فتابوا، غير أن البعض الآخر قد بقي على مسيرته حتى النهاية.

ولمزيد التوضيح والاطلاع راجع : تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 239.

* * *

١١١

الآيات

( الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) )

١١٢

التّفسير

علامات المنافقين :

البحث في هذه الآيات يدور كالسابق حول سلوك المنافقين وعلاماتهم وصفاتهم ، «فالآية الأولى من هذه الآيات تشير إلى أمر كلّي ، وهو أن روح النفاق يمكن أن تتجلّى بأشكال مختلفة وتبدو في صور متفاوتة بحيث لا تلفت النظر في أوّل الأمر ، خصوصا أن روح النفاق هذه يمكن أن تختلف بين الرجل والمرأة ، لكن يجب أن لا يخدع الناس بتغيير صور النفاق بين المنافقين ، المنافقين يشتركون في مجموعة من الصفات تعتبر العامل المشترك فيما بينهم ، لذلك يقول الله سبحانه :( الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ) .

وبعد ذلك يشرع القرآن الكريم في ذكر خمس صفات لهؤلاء :

الأولى والثّانية : إنّهم يدعون الناس إلى فعل المنكرات ويرغبونهم فيها من جهة ، ويبعدونهم وينهونهم عن فعل الأعمال الصالحة من جهة أخرى( يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ ) أي أنّهم يسلكون طريقا ويتّبعون منهاجا هو عكس طريق المؤمنين تماما ، فإنّ المؤمنين يسعون دائما ـ عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ إلى أن يصلحوا المجتمع وينقوه من الشوائب والفساد ، بينما يسعى المنافقون إلى إفساد كل زاوية في المجتمع واقتلاع جذور الخير والأعمال الصالحة من بين الناس من أجل الوصول إلى أهدافهم المشؤومة ، ولا شك أنّ وجود مثل هذا المحيط الفاسد والبيئة الملوّثة ستساعدهم كثيرا في تحقيق أهدافهم.

الثّالثة : إنّ هؤلاء بخلاء لا يتمتعون بروح الخير للناس فلا ينفقون في سبيل الله ، ولا يعينون محروما ، ولا يستفيد أقوامهم ومعارفهم من أموالهم ، فعبّر عنهم القرآن :( وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ) ولا شك أنّ هؤلاء إنّما يبخلون بأموالهم لأنّهم لا يؤمنون بالآخرة والثواب والجزاء المضاعف لمن أنفق في سبيل الله ، بالرغم من أنّهم كانوا

١١٣

يبذلون الأموال الطائلة من أجل الوصول إلى أغراضهم وآمالهم الشريرة الدنيئة ، وربّما بذلوها رياء وسمعة ، لكنّهم لا يقدمون على البذل على أساس الإخلاص لله سبحانه وتعالى.

الرّابعة : إنّ كل أعمالهم وأقوالهم وسلوكهم يوضح أن هؤلاء قد نسوا الله ، والوضع الذي يعيشونه يبيّن أن الله قد نسيهم في المقابل ، وبالتالي فإنّهم قد حرموا من توفيق الله وتسديده ومواهبه السنية ، أي أنّه سبحانه قد عاملهم معاملة المنسيين ، وآثار وعلامات هذا النسيان المتقابل واضحة في كل مراحل حياتهم ، وإلى هذا تشير الآية :( نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ ) .

وهنا نودّ الإشارة إلى أن نسبة النسيان إلى الله جلّ وعلا ليست نسبة واقعية وحقيقية ـ كما هو المعلوم بديهة ـ بل هي كناية عن معاملة لهؤلاء معاملة الناسي ، أي إنّه لا يشملهم برحمته وتوفيقه لأنّهم نسوه في البداية ، ومثل هذا التعبير متداول حتى في الحياة اليومية بين الناس ، فقد نقول لشخص مثلا : إنّنا سوف ننساك عند إعطاء الأجرة أو الجائزة لأنّك قد نسيت واجبك ، وهذا تعبير يعني أنّنا سوف لا نعطيه أجره ومكافأته. وهذا المعنى ورد كثيرا في روايات أهل البيتعليهم‌السلام (1) .

وممّا ينبغي الالتفات إليه أنّ موضوع نسيان الله تعالى قد عطف بفاء التفريع على نسيان هؤلاء القوم ، وهذا يعني أنّ نتيجة نسيان هؤلاء لأوامر الله تعالى وطغيانهم وعصيانهم هي حرمانهم من مواهب الله ورحمته وعنايته.

الخامسة : إنّ المنافقين فاسقون وخارجون من دائرة طاعة أوامر الله سبحانه وتعالى ، وقالت الآية :( إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) .

ونلاحظ أنّ هذه الصفات المشتركة متوفرة في المنافقين في كل الاعصار. فمنافقو عصرنا الحاضر وإن تلبسوا بصور وأشكال جديدة ، إلّا أنّهم يتحدون في الصفات والأصول المذكورة أعلاه مع منافقي العصور الغابرة ، فإنّهم كسابقيهم

__________________

(1) راجع تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 239 ـ 240.

١١٤

يدعون الناس إلى الفساد ويرغبونهم فيه ، وينهون الناس عن فعل الخير ويمنعونهم إن استطاعوا ، وكذلك في بخلهم وإمساكهم وعدم إنفاقهم ، وبعد كل ذلك فإنّهم يشتركون في الأصل الأهم ، وهو أنّهم قد نسوا الله سبحانه وتعالى في جميع مراحل حياتهم ، وتعديهم على قوانينه وفسقهم. وممّا يثير العجب أنّ هؤلاء بالرغم من كل هذه الصفات القبيحة السيئة يدّعون الإيمان بالله والإعتقاد الرصين بأحكام الدين الإسلامي وأصوله ومناهجه!

في الآية التي تليها نلاحظ الوعيد الشديد والإنذار بالعذاب الأليم والجزاء الذي ينتظر هؤلاء حيث تقول :( وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ ) وأنّهم سيخلدون في هذه النّار المحرقة( خالِدِينَ فِيها ) وأن هذه المجازاة التي تشمل كل أنواع العذاب والعقوبات تكفي هؤلاء ، إذ( هِيَ حَسْبُهُمْ ) وبعبارة أخرى : إنّ هؤلاء لا يحتاجون إلى عقوبة أخرى غير النّار ، حيث يوجد في نار جهنم كل أنواع العذاب : الجسمية منها والروحية.

وتضيف الآية في خاتمتها أن الله تعالى قد أبعد هؤلاء عن ساحة رحمته وجازاهم بالعذاب الأبدي( وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ ) ، بل إن البعد عن الله تعالى يعتبر بحد ذاته أعظم وأشد عقوبة وآلمها.

تكرر التأريخ والإعتبار به :

من أجل توعية هؤلاء المنافقين ، وضعت الآية الآتية مرآة التاريخ أمامهم ، ودعتهم إلى ملاحظة حياتهم وسلوكهم ومقارنتها بالمنافقين والعتاة المردة الذين تمردوا على أوامر الله سبحانه وتعالى ، وأعطتهم أوضح الدروس وأكثرها عبرة ، فذكّرهم بأنّهم كالمنافقين الماضين ويتبعون نفس المسير وسيلقون نفس المصير :( كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) علما أنّ هؤلاء( كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً ) .

وكما أنّ هؤلاء قد تمتعوا بنصيبهم في هذه الحياة الدنيا ، وصرفوا أعمارهم في

١١٥

طريق قضاء الشهوات والمعصية والفساد والانحراف ، فإنّكم قد تمتعتم بنصيبكم كهؤلاء :( فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ ) والخلاق في اللغة بمعنى النصيب والحصة ، يقول الراغب في مفرداته : أنّها مأخوذة من مادة (خلق) ، ويحتمل ـ على هذا ـ أن الإنسان قد يستفيد ويتمتع بنصيبه في هذه الحياة الدنيا بما يناسب خلقه وخصاله.

ثمّ تقول بعد ذلك : إنّكم كمن مضى من أمثالكم قد أوغلتم وسلكتم مسلك الاستهزاء والسخرية ، تماما كهؤلاء :( وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا ) (1) .

ثمّ تبيّن الآية عاقبة أعمال المنافقين الماضين لتحذر المنافقين المعاصرين للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكل منافقي العالم في جملتين :

الأولى : إن كل أعمال المنافقين قد ذهبت أدراج الرياح ، في الدنيا والآخرة ، ولم يحصلوا على أي نتيجة حسنة ، فقالت :( حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) .

الثّانية : إنّ هؤلاء هم الخاسرون الحقيقيون بما عملوه من الأعمال السيئة :( وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ) .

إن هؤلاء المنافقين يمكن أن يستفيدوا ويحققوا بعض المكاسب والامتيازات من أعمال النفاق ، لكن ما يحصلون عليه مؤقت ومحدود ، فإنّنا إذا أمعنا النظر فسنرى أن هؤلاء لم يجنوا من سلوك هذا الطريق شيئا ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، كما يعكس التاريخ هذه الحقيقة ، ويبيّن كيف أنّ المنافقين على مرّ الدهور والأيّام قد توالت عليهم النكبات وأزرت بهم وحكمت عليهم بالفناء والزوال ، كما أن ممّا لا شك فيها أنّ هذه العاقبة الدنيوية تبيّن المصير الذي ينتظرهم في الآخرة.

__________________

(1) إن جملة( كَالَّذِي خاضُوا ) في الواقع بمعنى : كالذي خاضوا فيه ، وبعبارة أخرى ، فإنّها تشبيه لفعل منافقي اليوم بفعل المنافقين السابقين ، كما شبهت الجملة السابقة استفادة هؤلاء من النعم والمواهب الإلهية في طريق الشهوات كالسابقين منهم ، وعلى هذا فإنّ هذا التشبيه ليس تشبيه شخص بشخص لنضطر إلى أن نجعل (الذي) بمعنى (الذين) أي المفرد بمعنى الجمع ، بل هو تشبيه عمل بعمل.

١١٦

إن الآية الكريمة تنبه المنافقين المعاصرين للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتقول لهم : إنّكم ترون أنّ هؤلاء السابقين رغم تلك الإمكانات والقدرات والأموال والأولاد لم يصلوا إلى نتيجة ، وأنّ أعمالهم قد أصبحت هباء منثورا لأنّها لم تستند إلى أساس محكم ، بل كانت أعمال نفاق ومراوغة ، فإنّكم ستواجهون ذلك المصير بطريق أولى ، لأنّكم أقل من هؤلاء قدرة وقوة وامكانات.

وبعد هذه الآيات يتحول الحديث من المنافقين ويتوجه إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتبع أسلول الاستفهام الإنكاري ، فتقول الآية :( أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ ) (1) فإنّ هذه الأقوام كانت في الأزمان السالفة تسيطر على مناطق مهمّة من العالم ، إلّا أن كل فئة قد ابتليت بنوع من العقاب الإلهي نتيجة لانحرافها وطغيانها وإجرامها ، وفرارها من الحق والعدالة ، وإقدامها على الظلم والاستبداد والفساد.

فقوم نوح عوقبوا بالطوفان والغرق ، وقوم عاد (قوم هود) بالرياح العاصفة والرعب ، وقوم ثمود (قوم صالح) بالزلازل والهدم والدمار ، وقوم إبراهيم بسلب النعم ، وأصحاب مدين (قوم شعيب) بالصواعق المحرقة ، وقوم لوط بخسف المدن وفنائهم جميعا. ولم يبق من هؤلاء إلّا الجثث الهامدة ، والعظام النخرة تحت التراب أو في أعماق البحار.

إنّ هذه الحوادث المرعبة تهز وجدان وأحاسيس كل إنسان إذا امتلك أدنى إحساس وشعور عند مطالعتها وتحقيقها.

ورغم طغيان هؤلاء وتمردهم فانّ الله الرؤوف الرحيم لم يحرم هؤلاء من رحمته وعطفه لحظة ، وقد أرسل إليهم الرسل بالآيات البينات لهدايتهم وإنقاذهم من الضلالة إذ( أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ) إلّا أن هؤلاء لم يصغوا إلى آية موعظة ولم

__________________

(1) المؤتفكات مأخوذة من مادة الائتفاك ، بمعنى انقلاب الأسفل إلى الأعلى وبالعكس ، وهي إشارة إلى مدن قوم لوط التي قلب عاليها سافلها نتيجة الزلزلة.

١١٧

يقبلوا نصيحة من أنبياء الله وأوليائه ، ولم يقيموا وزنا لجهاد ومتاعب هؤلاء الأبرار وتحملهم كل المصاعب في سبيل هداية خلق الله ، وإذا كان العقاب قد نالهم فلا يعني أن اللهعزوجل قد ظلمهم ، بل هم ظلموا أنفسهم بما أجرموا فاستحقوا العذاب( فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) .

* * *

١١٨

الآيتان

( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) )

التّفسير

صفات المؤمنين الحقيقيين :

مرّ في الآيات السابقة ذكر بعض الصفات المشتركة بين المنافقين ، الرجال منهم والنساء ، وتلخصت في خمس صفات : الأمر بالمنكر ، والنهي عن المعروف ، والبخل وعدم الإنفاق ، ونسيان الله سبحانه وتعالى ، ومخالفة وعصيان أوامر الله.

وتذكر هذه الآيات صفات وعلامات المؤمنين والمؤمنات ، وتتخلص في خمس صفات أيضا ، فتقابل كل صفة منها صفة من صفات المنافقين ، واحدة بواحدة ، لكنّها في الاتجاه المعاكس.

١١٩

وتشرع الآية بذكر صفات المؤمنين والمؤمنات ، وتبدأ ببيان أنّ بعضهم لبعض ولي وصديق( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) .

إنّ أوّل ما يلفت النظر أن كلمة (أولياء) لم تذكر أثناء الكلام عن المنافقين ، بل ورد (بعضهم من بعض) التي توحي بوحدة الأهداف والصفات والأعمال ، ولكنّها تشير ضمنا إلى أن هؤلاء المنافقين وإن كانوا في صف واحد ظاهرا ويشتركون في البرامج والصفات ، إلّا أنهم يفتقدون روح المودة والولاية لبعضهم البعض ، بل إنّهم إذا شعروا في أي وقت بأنّ منافعهم ومصالحهم الشخصية قد تعرضت للخطر فلا مانع لديهم من خيانة حتى أصدقائهم فضلا عن الغرباء ، وإلى هذه الحالة تشير الآية (14) من سورة الحشر :( تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ) .

وبعد بيان هذه القاعدة الكلية ، تشرع ببيان الصفات الجزئية للمؤمنين :

1 ـ ففي البداية تبيّن أن هؤلاء قوم يدعون الناس إلى الخيرات( يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ) .

2 ـ إنّهم ينهون الناس عن الرذائل والمنكرات( وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) .

3 ـ إنّهم بعكس المنافقين الذين كانوا قد نسوا الله ، فإنّهم يقيمون الصلاة ، ويذكرون الله فتحيا قلوبهم وتشرف عقولهم( وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) .

4 ـ إنّهم ـ على عكس المنافقين والذين كانوا يبخلون بأموالهم ـ ينفقون أموالهم في سبيل الله وفي مساعدة عباد الله وبناء المجتمع وإصلاح شؤونه ، ويؤدون زكاة أموالهم( وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ ) .

5 ـ إنّ المنافقين فسّاق ومتمردون ، وخارجون من دائرة الطاعة لأوامر الله ، أمّا المؤمنون فهم على عكسهم تماما ، إذ( وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) .

أمّا ختام الآية فإنّه يتحدث عن امتيازات المؤمنين ، والمكافأة والثواب الذي ينتظرهم ، وأوّل ما تعرضت لبيانه هو الرحمة الإلهية التي تنتظرهم ف( أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ ) .

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

وهذا منقطع ، لم يتّصل ما بين البخاري وصدقة بن خالد ، ولا يصحّ فيهذا الباب شيء أبداً ، وكلّ ما فيه فموضوع ) (١) .

حديث المؤمن لا يزني حين يزني

( ومنها ) ما أخرجه البخاري في كتاب الأشربة قال :

( حدّثنا أحمد بن صالح قال : ثنا ابن وهب قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب قال : سمِعت أبا سلمة عن عبد الرحمان وابن المسيّب يقولان : قال أبو هريرة : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ( المؤمن لا يزني حين يزني ، وهو مؤمن )(٢) .

وهذا الحديث كذَّبه أبو حنيفة ، كما في كتاب( العالم والمتعلّم ) (٣) ، فقد جاء فيه :

( قال المتعلّم : ما قولك في أُناسٍ رَوَوا أنّ المؤمن إذا زنى خُلِع الإيمانُ من رأسه كما يُخلَع القميص ، ثمّ إذا تاب أعاد الله إيمانه ، أتشكّ في قولهم أو تصدّقهم ؟ فإنْ صدّقت قولهم دخلت في قول الخوارج ، وإنْ شككت في قولهم شكَكْت في قول الخوارج ورجعت عن العدل الذي وصفت ، وإنْ كذّبت قولهم الذي قالوا : كذّبت بقول النبيّعليه‌السلام ، فإنّهم رَوَوا عن رجالٍ شتّى حتّى انتهى به إلى رسول اللهعليه‌السلام .

قال العالم : كذَب هؤلاء ، ولا يكون تكذيبي هؤلاء وردّي عليهم تكذيباً للنبيّعليه‌السلام ، إنّما يكون التكذيب لقول النبيّعليه‌السلام أنْ يقول الرجل

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ٧ : ١٩٣ .

(٢) صحيح البخاري ٧ : ١٩٠ .

(٣) هذا الكتاب لأبي حنيفة ، والمقصود من ( العالم ) أبو حنيفة ، ومن ( المتعلّم ) تلميذه : أبو مطيع البلخي وهو راوي الكتاب .

٤٠١

أنا مكذّبٌ للنبيّعليه‌السلام ، وأمّا إذا قال أنا مؤمنٌ بكلّ شيء تكلّم به النبيّعليه‌السلام ، غير أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يتكلّم بالجور ولم يُخالف القرآن ، فهذا مِن التصديق بالنبيّ وبالقرآن وتنزيهٌ له من الخلاف على القرآن ، ولو خالف النبيّعليه‌السلام القرآن وتقوّل على الله ، لم يدعه تبارك وتعالى حتّى يأخذه باليمين ويقطع منه الوتين ، كما قال تعالى في القرآن ، ونبيّ الله لا يُخالف كتاب الله ، ومُخالف كتاب الله لا يكون نبيّ الله .

وهذا الذي رووه خلاف القرآن ، ألا ترى إلى قوله تعالى :( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي... ) (١) ثمّ قال( وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ... ) (٢) ولم يعن به من اليهود ولا من النصارى ، ولكن عنى به من المسلمين .

فردّي على كلّ رجلٍ يحدّث عن النبيّعليه‌السلام بخلاف القرآن ، ليس ردّاً على النبيّ ولا تكذيباً له ، ولكن ردّاً على مَن يحدّث عن النبيّعليه‌السلام بالباطل ، والتهمة دخلت عليه لا على نبيّ الله ، وكلّ شيء تكلّم به النبيّعليه‌السلام سمعنا به أو لم نسمعه ، فعلى الرأس والعين ، قد آمنّا به ونشهد أنّه كما قال النبيّعليه‌السلام ، ونشهد أيضاً على النبيّعليه‌السلام أنّه لم يأمر بشيء نهى الله عنه يُخالف أمر الله تعالى ، ولم يقطع شيئاً وصَلَه الله تعالى ولا وصَف أمراً وصف الله تعالى ذلك الأمر بِخلاف ما وصَفَه النبيّعليه‌السلام ، ونشهد أنّه كان موافقاً لله عزّ وجلّ في جميع الأُمور ، لم يبتدع ولم يتقوّل غير ما قال الله تعالى ، ولا كان من التكلّفين ، ولذلك قال الله تعالى :( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ

ـــــــــــــــــــ

(١) سورة النور ٢٤ : ٢ .

(٢) سورة النساء ٤ : ١٦ .

٤٠٢

فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ) (١) .

حديث شريك في الإسراء

( ومنها ) حديث البخاري عن شريك في إسراء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا لفظه :

( حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله قال : حدّثني سليمان ، عن شريك بن عبد الله ، أنّه قال : سمعت أنَس بن مالك يقول : ليلة أُسريَ برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مِن مسجد الكعبة ، إنّه جاءه ثلاثة نفر ، قبل أنْ يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أوّلهم : أيّهم هو ؟ فقال أوسطهم : هو خيرهم .

فقال آخرهم : خذوا خيرهم ، فكانت تلك الليلة ، فلم يرهم حتّى أتوه ليلة أُخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه ، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم ، فلم يكلّموه حتّى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم ، فتولاّه منهم جبرئيل ، فشقّ جبرئيل ما بين نحره إلى لبّته حتّى فرغ من صدره وجوفه ، فغسله من ماء زمزم بيده حتّى أنقى جوفه ، ثمّ أُتي بطست من ذهب فيه نور من ذهب مَحْشُوٌّا إيماناً وحكمة ، فحشا به صدره ولغاديده ـ يعني عروق حلقه ـ ثم أطبقه ، ثمّ عرج به إلى السماء الدنيا ، فضرب باباً من أبوابها ، فناداه أهل السماء : مَن هذا ؟ فقال جبرئيل : قالوا : ومَن معك ؟ قال : معي محمّد ، قالوا : وقد بعث ؟ قال : نعم ، قالوا : فمرحباً به... )(٢) .

وأخرجه مسلم قال : ( حدّثنا هارون بن سعيد الأيلي ، ثنا ابن وهب ، قال :

ـــــــــــــــــــ

(١) سور النساء ٤ : ٨٠ .

(٢) صحيح البخاري ٩ : ٢٦٥ كتاب التوحيد .

٤٠٣

أخبرني سليمان ـ وهو ابن بلال ـ قال : حدّثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر قال : سمعت أنَس بن مالك ، يحدّثنا عن ليلة أُسري برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مسجد الكعبة : أنّه جاءه ثلاثة نفر قبل أنْ يُوحى إليه ، وهو نائم في المسجد الحرام وساق الحديث بقصّته نحو حديث ثابت البناني ، وقدّم فيه شيئاً وأخّر وزاد ونقص )(١) .

قال النووي بشرحه :

( قوله : وذلك قبل أنْ يُوحى إليه وهو غلطٌ لم يُوافق عليه ، فإنّ الإسراء أقلّ ما قيل فيه أنّه كان بعد مبعثه بخمسة عشر شهراً ، وقال الحربي : كان ليلة سبع وعشرين مِن شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة وقال الزهري : كان ذلك بعد مبعثه بخمس سنين وقال ابن إسحاق : أُسري به وقد فشا الإسلام بمكّة والقبائل .

وأشبه هذه الأقوال قول الزهري وابن إسحاق ، إذ لم يختلفوا أنّ خديجة صلّت معه بعد فرض الصلاة عليه ، ولا خلاف في أنّها توفّيت قبل الهجرة بمدّةٍ قيل بثلاث سنين وقيل بخمس .

ومنها : إنّ العلماء مجمعون على أنّ فرض الصّلاة كان ليلة الإسراء ، فكيف يكون هذا قبل أنْ يُوحى إليه ؟

وأمّا قوله ـ في رواية شريك ـ : وهو نائم ، وفي رواية أُخرى : بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان ، فقد يحتجّ به من يجعلها رؤيا نوم ، ولا حجّة فيه ، إذْ قد يكون ذلك حالة أوّل وصول الملَك إليه ، وليس في الحديث ما يدلّ على كونه نائماً في القصّة كلّها .

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح مسلم ١ : ١٤٨ / ٢٦٢ باب بدء الوحي من كتاب الإيمان .

٤٠٤

هذا كلام القاضي ، وهذا الذي قاله في رواية شريك وأنّ أهل العلم أنكروها ، قد قاله غيره .

وقد ذكر البخاري رواية شريك هذه عن أنَس في كتاب التوحيد من صحيحه ، وأتى بالحديث مطوّلاً .

قال الحافظ عبد الحق في كتابه الجمع بين الصحيحين ـ بعد ذكر هذه الرواية ـ هذا الحديث بهذا اللفظ مِن رواية شريك بن أبي نمر عن أنَس ، وقد زاد فيه زيادةً مجهولةً ، وأتى فيه بألفاظٍ غير معروفة وقد روى حديث الإسراء جماعة من الحفّاظ المتقنين والأئمّة المشهورين ، كابن شهاب وثابت البناني وقتادة ـ يعني عن أنَس ـ فلم يأتِ أحدٌ منهم بما أتى به شريك ، وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث .

قال : والأحاديث التي تقدّمت قبل هذا هي المعوّل عليها هذا كلام الحافظ عبد الحق )(١) .

وقال الكرماني بشرحه :

( قال النووي : جاء في رواية شريك أوهام أنكرها العلماء ، من ملّتها : أنّه قال : ذلك قبل أنْ يوحى إليه ، وهو غلطٌ لم يُوافق عليه وأيضاً : العلماء أجمعوا على أنّ فرض الصلاة كان ليلة الإسراء ، فكيف يكون قبل الوحي ؟

أقول : وقول جبرئيل في جواب بوّاب السماء إذ قال : أبعث ؟ نعم ، صريح في أنّه كان بعده)(٢) .

وقال ابن قيّم الجوزيّة :

( فصلٌ ـ قال الزهري : عرج بروح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى

ـــــــــــــــــــ

(١) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجّاج ، باب بدء الوحي ، المجلّد ١ ج٢ : ٢٠٩ ـ ٢١٠ .

(٢) الكواكب الدراري في شرح البخاري ٢٥ : ٢٠٤ .

٤٠٥

بيت المقدِس وإلى السماء قبل خروجه إلى المدينة بسنةٍ ، وقال ابن عبد البرّ وغيره : كان بين الإسراء والهجرة سنة وشهران انتهى .

وكان الإسراء مرّةً واحدةً وقيل : مرّة يقظة ومرّةً مناماً ، وأربابُ هذا القول كأنّهم أرادوا أنْ يجمعوا بين حديث شريك وقوله ثمّ استيقظت ، وبين سائر الروايات ، ومنهم من قال : بل كان هذا مرّتين ، مرّةً قبل الوحي ، لقوله في حديث شريك : وذلك قبل أنْ يوحى إليه ، ومرّةً بعد الوحي ، كما دلّت عليه سائر الأحاديث ، ومنهم مَن قال : بل ثلاثِ مرّات ، مرّةً قبل الوحي ومرّتين بعده .

وكلّ هذا خبط ، وهذه طريقة ضعفاء الظاهريّة مِن أرباب النقل الذين إذا رأوا في القصّة لفظةً تُخالف سياق بعض الروايات جعلوه مرّةً أُخرى ، فكلّما اختلفت عليهم الروايات عدّدوا الوقائع .

والصواب الذي عليه أئمّة النقل : أنّ الإسراء كان مرّةً واحدةً بمكّة بعد البعثة .

ويا عجباً لهؤلاء الذين زعموا أنّه مراراً كيف ساغ لهم أنْ يظنّوا أنّه في كلّ مرّة تفرض عليه الصلاة خمسين ، ثمّ يتردّد بين ربّه وبين موسى حتّى تصير خمساً ثمّ يقول : أمضيت فريضتي وخفّفت عن عبادي ، ثمّ يعيدها في المرّة الثانية إلى خمسين ، ثمّ يحطّها عشراً عشراً.

وقد غلّط الحفّاظ شريكاً في ألفاظٍ مِن حديث الإسراء ، ومسلم أورد المسند منه ثمّ قال : فقدّم وأخّر وزاد ونقّص ، ولم يورد الحديث فأجاد رحمه الله )(١) .

ـــــــــــــــــــ

(١) زاد المعاد في هدي خير العباد ٣ : ٤١ ـ ٤٢ فصلٌ في المعراج النبويّ .

٤٠٦

صحيح مسلم

وأمّا مسلم بن الحجّاج... فإنّه ـ كما قالوا ـ كان يرتكب الغمز بالرجال الصادقين الثقات عندهم بلا حجّة ، ومِن ذلك ما كان منه في ( إبراهيم بن عبد الله السعدي ) قال الذهبي : ( إبراهيم بن عبد الله السعدي النيسابوري ، صدوقٌ ، له عن يزيد بن هارون ونحوه .

قال أبو عبد الله الحاكم : كان يستخفُّ بمسلم ، فغمزه مسلم بلا حجّة )(١) .

ولا ريب أنّ هذا يضرّ بعدالة مسلم ويمنع مِن الاعتماد عليه وعلى رواياته في كتابه ، ولذا قال ابن الجوزي : ( ومِن تلبيس إبليس على أصحاب الحديث : قدح بعضهم في بعض ، طلباً للتشفّي ، ويخرجون ذلك مخرج الجرح والتعديل الذي استعملت قدماء هذه الأُمّة للذبّ عن الشرع )(٢) .

أبو زرعة الرّازي وصحيح مسلم

هذا ، وقد اشتهر بين الأعلام طعن الإمام أبي زرعة الرّازي وتكلّمه في كتاب مسلم بن الحجّاج ، ففي ترجمة أحمد بن عيسى المصري من( التهذيب ) و( الميزان ) : ( قد قال سعيد البردعي : شهدت أبا زرعة ذُكر عنده صحيح مسلم فقال : هؤلاء قومٌ أرادوا التقدّم قبل أوانه ، فعملوا شيئاً يتسوّقون به )(٣) .

وقال أبو الفضل الأدفوي في( الإمتاع ) : ( وكان أبو زرعة يذمّ وضِع كتاب مسلم ويقول : كيف تسمّيه الصحيح وفيه فلان وفلان ؟ فذكر جماعة ) .

ـــــــــــــــــــ

(١) ميزان الاعتدال ١ : ٤٤ .

(٢) تلبيس إبليس : ١٣٥ .

(٣) ميزان الاعتدال ١ : ١٢٦ .

٤٠٧

الموضوعات في صحيح مسلم

وبعد الوقوف على طرفٍ من أسباب القدح في مسلم بن الحجّاج ، وعلى طعن من مثل أبي زرعة في كتابه عموماً ، فلا بدّ من إيراد بعض أحاديثه الموضوعة والباطلة :

حديث الضحضاح

فمن أحاديثه الموضوعة والمكذوبة : حديثه في أنّ أبا طالب في ضحضاحٍ من النار ، قال : ( حدّثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، ومحمّد بن أبي بكر المقدمي ، ومحمّد بن عبد الملك الأموي قالوا : حدّثنا أبو عوانة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن العبّاس بن عبد المطّلب أنّه قال : يا رسول الله ، هل نفعت أبا طالب بشيءٍ ، فإنّه كان يحوطك ويغضب لك ؟ قال : نعم ، هو في ضحضاحٍ من نار ، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار )(١) .

وهذه الأحاديث التي أخرجها البخاري ومسلم كلّها موضوعةٌ مُفتراة ، قد وُضِعت للطعن في أمير المؤمنينعليه‌السلام والتنقيص في شأنه ، ولأجل رفع شأن أبي بكر بن أبي فحافة...

إنّه ليكفي لتكذيب ما رَوَوه في موت سيّدنا أبي طالب على الكفر : ما

رواه ابن سعد في الطبقات قال : ( حدّثني الواقدي قال : قال عليّ : لمّا توفّي أبو طالب أخبرت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فبكى بكاءً شديداً ، ثمّ قال :

( اذهب فاغسله وكفّنه وواره ، غفر الله له ورحمه ) .

فقال له العبّاس : يا رسول الله ، إنّك ترجو له ؟

فقال :( إي والله إنّي لأرجو له ) .

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح مسلم ١ : ١٣٤ كتاب الإيمان ـ باب شفاعة النبيّ لأبي طالب .

٤٠٨

وجعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستغفر له أيّاماً لا يخرج مِن بيته .

وقال الواقدي : قال ابن عبّاس : عارض رسول الله جنازة عمّه أبي طالب وقال :( وصلتك رحم وجزاك الله خيراً ) (١) .

هذا ، وقد أجمع أهل البيتعليهم‌السلام على إيمان سيّدنا أبي طالب ، وإجماعهم حجّة قطعيّة كما تَقرّر في محلّه ، وقد ذكر علماء السنّة إجماعهم على ذلك ، ففي( روضة الأحباب ) عن ابن الأثير في( جامع الأُصول ) قوله : ( زعم أهل البيت أنّ أبا طالب مات مسلماً ، والله أعلم بصحّته ) .

على أنّ أهل السنّة يدّعون المتابعة لأهل البيت والانقياد لهم ، كما جاء في كتبهم ، بشرح ( حديث الثقلين ) وبذيل حديث( مثل أهل بيتي كسفينة نوح ) ، فإنْ كانوا صادقين في دعواهم تلك ، فلا محالة لا يخالفون أهل البيت في إجماعهم على إيمان أبي طالبعليه‌السلام .

على أنّ أحاديث مسلم في هذا الباب متناقضة متهافتة ، إذ الحديث المذكور يدلّ على أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد شفع له قبل القيامة وأخرجه بالفعل من غمرات العذاب إلى ضحضاحٍ من نارٍ ، وحديث أبي سعيد

صريحٌ في عدم وقوع الشفاعة في حقّه وأنّ عذابه لم يخفّف بل إنّ النبيّ يرجو أنْ تناله شفاعته في يوم القيامة وتنفعه في خروجه مِن الدركات السافلة إلى الضحضاح... فكان بعض تلك الأحاديث صريحاً في وقوع تخفيف العذاب عن أبي طالب بالفعل وبعض صريحاً في عدم حصول التخفيف ، فتهافتا وتناقضا بكلّ وضوح .

ـــــــــــــــــــ

(١) الطبقات الكبرى ١ : ١٢٣ ـ ١٢٤ .

٤٠٩

الحديث الدالّ على تعيين أبي بكر للخلافة !!

ومن ذلك : حديثه المتضمّن تعيين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر للخلافة من بعده ، وهو حديث موضوع مفترى قطعاً قال في كتاب المناقب :

((حدّثني عبيد الله بن سعيد، حدّثا يزيد بن هارون، أخبرنا إبراهيم بن سعد، حدّثنا صالح بن كيسان ، عن الزهري ، عن عروة عن عائشة ـ ري الله عنها ـ قالت: قال لي رسول الله في مرضه : أُدعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتّى أكتب كتاباً ، فإنّي أخاف أن يتمنَّ متمنٍّ ويقول القائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر )(١) .

وهذا الحديث أخرجه البخاري أيضاً ، ولفظه في كتاب المرضى :

( لقد هممت أو أردت أنْ أرسل إلى أبي بكر وابنه واعهد أنْ يقول القائلون أو يتمنّى المتمنّون ، ثمّ قلت : يأبى الله ويدفع المؤمنون ، أو يدفع الله ويأبى المؤمنون )(٢) .

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح مسلم ٤ : ١٨٥٧ / ٢٣٨٧ .

(٢) صحيح البخاري ٧ : ٢١٨ .

٤١٠

وهذا الحديث الذي قال النووي بشرحه: ( في هذا الحديث دلالة ظاهرة لفضل أبي بكر الصدّيقرضي‌الله‌عنه ، وإخبار منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما سيقع في المستقبل بعد وفاته ، وأنّ المسلمين يأبون عقد الخلافة لغيره )(١) .

ظاهر الكذب والبطلان ، لاتّفاق القوم أنفسهم على أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينصّ على أبي بكر بالخلافة ، ولو كان مثل هذا الكلام صادراً منه حقّاً لما احتجّوا بالأباطيل الواهيات ، ولما وقعت الاختلافات والنزاعات...

ولقد نصّ النووي ـ بشرح حديث : من كان رسول الله مستخلفاً لو استخلفه ؟ ـ : على أنّ ( فيه دلالة لأهل السنّة أنّ خلافة أبي بكر ليست بنصٍ مِن النبيّ على خلافته صريحاً ، بل أجمعت الصحابة على عقد الخلافة له وتقديمه بفضله ، ولو كان هناك نصّ عليه ، أو على غيره لم يقع المنازعة من الأنصار وغيرهم أوّلاً ، ولذَكر حافظُ النص ما معه ، ولرَجعوا ، ولكنْ تنازعوا أوّلاً ولم يكن هناك نص ، ثمّ اتفقوا على أبي بكر واستقرّ الأمر .

وأمّا ما تدّعيه الشيعة مِن النص على عليّ والوصيّة إليه ، فباطل لا أصل له باتّفاق المسلمين ، والاتفاق على بطلان دعواهم في زمن عليّ ، وأوّل مَن كذّبهم عليّ بقوله : ما عندنا إلاّ ما في هذه الصحيفة )(٢) .

فتراه يستدلّ بما كان في السقيفة ، ولو كان ما أورد مسلم صحيحاً لما احتاج إلى ذلك !!

وعلى الجملة ، فإنّ هذا الحديث لو صحّ لاستدلّ به القوم على إمامة أبي بكر ولم يقولوا بعدم النصّ على خلافته ، ولم يتشبّثوا بالخرافات والأباطيل

ـــــــــــــــــــ

(١) شرح مسلم للنووي ١٥ : ١٥٥ .

(٢) شرح مسلم للنووي ١٥ : ١٥٤ ـ ١٥٥ .

٤١١

الأُخرى ، فإنّه حتّى لو كان وارداً مورد الإخبار عن الغيب ، لكان الاستدلال به دون غيره أولى وأحرى...

وقد نصّ أبو السعادات ابن الأثير أيضاً على عدم النصّ على أبي بكر حيث قال : ( ولا يصدَّق الشيعة بنقل النص على إمامة عليّ ( كرّم الله وجهه ) والبكريّة على إمامة أبي بكررضي‌الله‌عنه ؛ لأنّ هذا وضعه الآحاد أوّلاً وأفشوه ، ثمّ كثر الناقلون في عصره وبعده من الأعصار ، فلذلك لم يحصل التصديق )(١) .

فوا أسفاه على البخاري ومسلم ، إذْ أُشرب في قلوبهما حبّ الشيخين ، فنقلا مثل هذه الأكاذيب والخرافات ، التي نصّ أئمّتهم على كونها من افتراءات البكريّة وأخبارهم الموضوعات .

حديث أنّ عمر أوّل مَن أمر بالأذان

ومن ذلك : ما أخرجه مسلم في كتاب الصّلاة ، باب بدء الأذان :

( حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال : جدّثنا محمّد بن بكر ، ح وحدّثنا محمّد بن رافع قال : حدّثنا عبد الرزّاق قال : أخبرنا ابن جريج ، ح وحدّثني هارون ابن عبد الله ـ واللفظ له ـ قال : حدّثنا حجّاج بن محمّد قال : قال ابن جريج : أخبرني نافع مولى ابن عمر ، عن عبد الله بن عمر أنّه قال : كان المسلمون حين قدِموا المدينة يجتمعون فيتحيّنون الصّلوات ، وليس ينادي بها أحد ، فتكلّموا يوماً في ذلك ، فقال بعضهم : اتّخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى ، وقال بعضهم : قرناً مثل قرن اليهود ، فقال عمر : أو لا تبعثون منادياً

ـــــــــــــــــــ

(١) جامع الأُصول ١ : ١٢١ .

٤١٢

ينادي بالصّلاة قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( يا بلال ، قم فنادِ بالصّلاة ) (١) .

وهذا حديثٌ موضوع ، وضعه مَن يسعى وراء جعل المناقب لعمر بن الخطّاب ، وهو ينافي ما وضعوه في الأذان مِن أنّ تشريعه كان برؤيا رآها رجلٌ مِن الأنصار ، كما في سُنُن أبي داود وغيره .

على أنّ الحقّ ما روي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام مِن أنّ تشريع الأذان كان في ليلة الإسراء ، وقد أذّن جبرئيل في بيت المقدّس ، وما سواه فمن وضع الملحدين .

حديثان متناقضان في موضع صلاة النبيّ الظهر في حجّة الوداع

ومن ذلك : حديثان متناقضان أخرجهما مسلم ، وأخرج البخاري أحدهما ، في موضع صلاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الظهر يوم النحر في حجّة الوداع ، فأخرج عن عائشة وجابر أنّه صلاّها بمكّة ، وأخرج هو والبخاري عن ابن عمر أنّه صلاّها بمنى ، قال القاري في كتابه في( الرجال ) : ( قال ابن حزم في هاتين الروايتين : إحداهما كذب بلا شك ) .

وقد اختلف القوم في تعيين الصِدق مِن الكِذب منهما ، وقد شرح ابن القيّم اختلافهم في المقام حيث قال : ( فصلٌ : ثمّ رجع إلى منى ، واختلف أين صلّى الظهر يومئذ ، ففي الصحيحين عن ابن عمر أنّه أفاض يوم النحر ثمّ رجع فصلّى الظهر بمنى ، وفي صحيح مسلم عن جابر أنّه صلّى الظهر بمكّة ، وكذلك قالت عائشة ، واختلف في ترجيح أحد هذين القولين على الآخر ، فقال أبو

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح مسلم ١ : ٢٨٥ .

٤١٣

محمّد ابن حزم : قول عائشة وجابر أولى ، وتبعه على هذا جماعة ورجّحوا هذا القول بوجوه :

أحدها : إن راويه اثنان ، وهما أولى من الواحدالثاني : أنّ عايشة أخصّ الناس به ، ولها من القرب والاختصاص والمزيّة ما ليس لغيرها .

الثالث : أنّ سياق جابر لحجّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أوّلها إلى آخرها أتمّ سياق ، وقد حفظ القصّة وضبطها حتّى ضبط جزئيّاتها ، حتّى ضبط منها أمراً لا يتعلّق بالمناسك ، وهو نزول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة جمع الطريق ، فقضى حاجته عند الشعب ثمّ توضّأ وضوءاً خفيفاً ، فمَن ضبط هذا القدر فهو يضبط مكان صلاته يوم النحر بطريقٍ أولى .

الرابع : إنّ حجّة الوداع كانت في آذار ، وهي تساوي الليل والنهار ، وقد خرج من مزدلفة قبل طلوع الشمس إلى منى وخطب بها الناس ، ونحر بُدْناً عظيمةَ وقسمها ، وطبخ له مِن لحمها وأكل منه ، ورمى الجمرة وحلق رأسه وتطيّب وخطب ثمّ أفاض ، فطاف وشرب من ماء زمزم ومِن نبيذ السقاية ووقف عليهم وهم يسقون ، وهذه أعمال يبدو في الأظهر أنّها لا تنقضي في مقدار يُمكن معه الرجوع إلى منى بحيث يدرك وقت الظهر في فصل آذار .

الخامس : إنّ هذين الحديثين جاريان مجرى الناقل والمبقي ، فإنّ عادتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت في حجّته صلاته في منزله الذي هو نازل فيه بالمسلمين ، فجرى ابن عمر على العادة ، وضبط جابر وعائشة الأمر الذي هو خارج عن عادته ، فهو أولى بأنْ يكون هو المحفوظ .

٤١٤

ورجحت طائفة أُخرى قول ابن عمر لوجوه :

أحدها : أنّه لو صلّى الظهر بمكّة لم يُصَلِّ أصحابه بمنى وحداناً ولا زرافات ، بل لم يكن لهم بُدٌّ مِن الصلاة خلف إمامٍ يكون نائباً عنه ، ولم ينقل هذا أحدٌ قطّ ، ولم يقل أحدٌ أنّه استناب مَن يُصلّي بهم ، ولولا علمه أنّه يرجع إليهم فيصلّي بهم لقال : إنْ حضرَت الصّلاة ولستُ عندكم فليصلّ بكم فلان ، وحيث لم يقع هذا ولا هذا ، ولا صلّى الصحابة هناك وحداناً قطعاً ، ولا كان مِن عادتهم إذا اجتمعوا أنْ يصلّوا عزين ، علم أنّهم صلّوا معه على عادتهم.

الثاني : إنّه لو صلّى بمكّة ، لكان خلفه بعضُ أهل البلد وهو مقيم ، وكان يأمرهم أنْ يتمّوا صلاتهم ، ولنقل أنّهم قاموا فأتمّوا بعد سلامه صلاتهم ، وحيث لم ينقل هذا ولا هذا بل هو معلوم الانتفاء قطعاً ، عُلِم أنّه لم يُصلّ قطعاً حينئذٍ بمكّة .

وما نقله بعض من لا عِلم له أنّه قال : ( يا أهل مكّة ، أتمّوا صلاتكم فإنّا قوم سفر ) ، فإنّما قاله عام الفتح لا في حجّته .

الثالث : إنّه من المعلوم أنّه لمّا طاف ركَع ركعتيّ الطواف ، ومعلومٌ أنّ كثيراً من المسلمين كانوا خلفه يقتدون به في أفعاله ومناسكه ، فلعلّه لمّا ركَع ركعتيّ الطواف والناس خلفه يقتدون به ، ظنّ الظانّ أنّها صلاة الظهر ، ولا سيّما إذا كان ذلك في وقت الظهر ، وهذا الوهم لا يُمكن دفع احتماله ، بخلاف صلاته بمنى فإنّها لا تحتمل غير الفرض .

الرابع : إنّه لا يحفظ عنه في حجّه أنّه صلّى الفرض بجوفِ مكّة ، بل إنّما كان يصلّي بمنزله بالمسلمين مدّة مقامه ، كان يصلّي بهم أين نزلوا ، لا يصلّي في مكان آخر غير المنزل العام .

الخامس : إنّ حديث ابن عمر متّفق عليه ، وإنّ حديث جابر مِن أفراد مسلم ، فحديث ابن عمر أصحّ منه ، وكذلك هو في إسناده ، فإنّ راويه أحفظ وأشهر وأنفق ، فأين يقع حاتم بن إسماعيل من عبيد الله ؟ وأين يقع جعفر من حفظ نافع ؟

٤١٥

السادس : إنّ حديث عائشة قد اضطربت في وقت طوافه ، فروي عنها على ثلاثة أوجه : أحدها : أنّه طاف نهاراً ، الثاني : أنّه أخّر الطواف إلى الليل ، الثالث : أنّه أفاض مِن آخر يومه فلم يضبط فيه وقت الإفاضة ، ولا مكان الصّلاة ، بخلاف حديث ابن عمر .

السابع : إنّ حديث ابن عمر أصحّ منه بلا نزاع ، فإنّ حديث عائشة مِن رواية محمّد بن إسحاق ، عن عبد الرحمان بن القاسم ، عن أبيه عنها ، وابن إسحاق مختلف في الاحتجاج به ، ولم يصرّح بالسماع بل عنعنه ، فكيف يقدم على قول عبيد الله حدّثني نافع عن ابن عمر ؟

الثامن : إنّ حديث عائشة ليس بالبيّن إنّه صلّى الظهر بمكّة ، فإنّ لفظه هكذا : أفاض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في آخر يوم صلّى الظهر ثمّ رجع إلى منى ، فمكث فيها ليالي أيّام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس ، كلّ جمرة بسبعِ حَصَيَات ، فأين دلالة هذا الحديث الصريحة على أنّه صلّى الظهر يومئذٍ بمكّة ؟ وأين هذا في صريح الدلالة إلى قول ابن عمر أفاض يوم النحر ثمّ صلّى الظهر بمنى راجعاً ؟ وأين حديث اتّفق أصحاب الصحيح على إخراجه إلى حديث اختلف في الاحتجاج به ؟ والله أعلم )(١) .

حديثٌ في أوّل ما نزل من القرآن

ومن ذلك : ما أخرجه في أنّ أوّل ما نزل من القرآن :( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) ، وقد صرّح النووي بأنّه ضعيفٌ ، بل باطل... قال ولي الدين أبو زرعة أحمد بن زين الدين عبد الرحيم العراقي في شرح حديث بدء الوحي من ( شرح الأحكام الصغرى ) : ( فيه دلالةٌ واضحة على أنّ أوّل ما نزل من القرآن :( اقْرَأْ ) .

ـــــــــــــــــــ

(١) زاد المعاد ٢ : ٢٨٠ كيفيّة حجّة الوداع .

٤١٦

وقد صحّ ذلك عن عائشة ، ورُوي عن أبي موسى الأشعري وعبيد بن عمير ، قال النووي : وهو الصواب الذي عليه الجماهير مِن السلف والخلف وفيه قولان آخران : أحدهما إنّ أوّل ما نزل :( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله وأبي سلمة بن عبد الرحمان ، قال النووي : وهو ضعيفٌ بل باطل...) .

حديثٌ في فضائل أبي سفيان

ومِن ذلك : ما أخرجه في فضائل أبي سفيان وهذه عبارته :

( حدّثنا عبّاس بن عبد العظيم العنبري وأحمد بن جعفر المعقري قالا : حدّثنا النضر ـ وهو ابن محمّد اليمامي ـ قال : حدّثنا عكرمة ، حدّثنا أبو زميل ، حدّثني ابن عبّاس قال : كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يُقاعدونه ، فقال لنبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا نبي الله ، ثلاث أعطنيهنّ ، قال :نعم ، قال : عندي أحسن العرب وأجمله أُمّ حبيبة بنت أبي سفيان أُزوّجكها قال :نعم ، قال : معاوية تجعله كاتباً بين يدك ، قال :نعم ، قال : وتؤمّرني حتّى أُقاتل الكفّار كما كنت أُقاتل المسلمين .

قال :نعم . قال أبو زميل : ولولا أنّه طلب ذلك من النبيّ ما أعطاه ذلك ؛ لأنّه لم يكن يُسأل شيئاً إلاّ قال : نعم )(١) .

قال في( زاد المعاد ) :

( وأمّا حديث عكرمة بن عمّار: عن أبي زميل ، عن ابن عبّاس : إنّ أبا سفيان قال للنبيّ...

فهذا الحديث غلطٌ ظاهر لا خفاء به .

قال أبو محمّد ابن حزم : وهو موضوع بلا شك ، كذّبه عكرمة بن عمّار .

قال ابن الجوزي ـ في هذا الحديث ـ : هو وهمٌ مِن بعض الرواة ، لا شكّ فيه ولا تردّد .

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح مسلم ٤ : ١٩٤٥ / ٢٥٠١ .

٤١٧

وقد اتّهموا به عكرمة بن عمّار ؛ لأنّ أهل التواريخ أجمعوا على أنّ أُمّ حبيبة كانت تحت عبيد الله بن جحش ، ولدت له ، وهاجر بها وهما مسلمان إلى أرض الحبشة ، ثمّ تنصّر وثبتت أُمّ حبيبة على إسلامها ، فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى النجاشي يخطبها عليه ، فزوّجه إيّاها وأصدقها عن رسول الله صداقاً ، وذلك في سنة سبع من الهجرة ، وجاء أبو سفيان في زمن الهدنة ودخل عليها فثنت فراش رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى لا يجلس عليه .

ولا خلاف أنّ أبا سفيان ومعاوية أسلما في فتح مكّة سنة ثمان .

وأيضاً : في هذا الحديث : إنّه قال له : وتؤمّرني حتّى أُقاتل الكفّار كما كنت أُقاتل المسلمين فقال : نعم .

ولا يعرف أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمّر أبا سفيان البتّة )(١) .

من كلمات الأئمّة في الكتابين

وعلى الجملة ، فإنّ الأحاديث الموضوعة والباطلة في كتاب مسلم كثيرة مثل كتاب البخاري ، وقد أوردنا طرفاً منها ونكتفي بها .

ومن هنا ، فقد قال الملاّ عليّ القاري في كتاب( الرجال ) ما نصّه :

( وقد وقع منه ـ أيّ من مسلم ـ أشياء لا تقوى عند المعارضة ، فقد وضع الحافظ الرشيد العطّار كتاباً على الأحاديث المقطوعة ، وبيّنها الشيخ محيي الدين النووي في أوّل شرح مسلم .

وما يقوله الناس : إنّ مَن روى له الشيخان فقد جاز القنطرة ، هذا أيضاً مِن التجاهل والتساهل .

فقد روى مسلم في كتابه عن الليث عن أبي مسلم وغيره من الضعفاء .

فيقولون إنّما روى عنهم في كتابه للاعتبار والشواهد والمتابعات .

وهذا لا يقوى ؛ لأنّ الحفّاظ قالوا : الاعتبار أُمور يتعرّفون بها حال الحديث وكتاب مسلم التزم فيه الصحّة ، فكيف يتعرّف حال الحديث فالذي فيه بطريق ضعيفة .

ـــــــــــــــــــ

(١) زاد المعاد في هدي خير العباد ١ : ١١٠ .

٤١٨

وقال الحافظ : أبو الزبير محمّد بن مسلم المكّي يدلّس في حديث جابر ، فما يصفه بالعنعنة لا يقبل ، وقد ذكر ابن حزم وعبد الحقّ عن الليث بن سعد أنّه قال لأبي الزبير : علّم لي على أحاديث سمعتها من جابر حتّى أسمعها منك ، فعلَّم لي على أحاديث أظنّ أنّها سبعة عشر حديثاً فسمعتها منه قال الحافظ : فما كان من طريق الليث عن أبي الزبير عن جابر فصحيح .

وفي مسلم عن طريق الليث من أبي الزبير عن جابر بالعنعنة أحاديث .

وقد روى أيضاً ، في كتابه عن جابر وابن عمر في حجّة الوداع ، أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توجّه إلى مكّة يوم النحر ، فطاف طواف الإفاضة ثمّ رجع فصلّى الظهر بمنى ، فيوجّهون ويقولون : أعادها لبيان الجواز ، وغير ذلك من التأويلات ، ولهذا قال ابن حزم في هاتين الروايتين أحدهما كذِب بلا شكّ .

وروى مسلم أيضاً حديث الإسراء فيه : وذلك قبل أنْ يُوحى إليه ، وقد تكلّم الحفّاظ في هذه اللّفظة وبيّنوا ضعفها .

وقد روى مسلم أيضاً : خلق الله التربة يوم السبت واتّفق الناس على أنّ السبت لم يقع فيه خلق ، وأنّ ابتداء الخلْق يوم الأحد .

وقد روى مسلم عن أبي سفيان أنّه قال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا أسلم : يا رسول الله ، أعطني ثلاثاً : تزوّج ابنتي أُمّ حبيبة ، وابني معاوية أجعله كاتباً ، وأمّرني أنْ أُقاتل الكفّار كما قاتلت المسلمين ، فأعطاه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما سأله .

والحديث معروف مشهور ، وفي هذا مِن الوهم ما لا يُحصى ، فأُمّ حبيبة تزوّجها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي بالحبشة ، وأصدقها النجاشي أربعمِئة دينار وحضر وخطب وأطعم ، والقصّة مشهورة ، وأبو سفيان وابنه معاوية إنّما أسلما عام الفتح وبين الهجرة إلى الحبشة والفتح عدّة سنين ، والجمهور على أنّها تزوّجها سنة ستّ ، وقيل سبْع ، وأسلم أبو سفيان عام الفتح سنة ثمان منٍ الهجرة ، وأمّا إمارة أبي سفيان فقد قال الحفّاظ أنّه لا يعرفونها .

٤١٩

فيجيبون بأجوبة غير طائلة ، فيقولون في إنكاح ابنته : إعتقد أنّ نكاحها بغير إذنه لا يجوز وهو حديث عهد بالكفر ، فأراد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجديد النكاح ، ويذكرون عن الزبير بن بكّار عن الزبير بن بكّار بأسانيدٍ ضعيفة أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمّره في بعض الغزوات ، وهذا لا يعرفه الأثبات .

وقد قال الحافظ : إنّ مسلماً لمّا وضَعَ كتابه الصحيح عرضه على أبي زرعة ، فأنكر عليه وتَغَيّظ وقال : سمَّيْتَه الصحيح وجعلته سُلَّماً لأهل البِدَع وغيرهم ) .

وقال ابن تيميّة :

( والمواضع المنتقدة غالبها في مسلم ، وقد انتصر طائفة لهما ـ يعني للبخاري ومسلم ـ فيها ، وطائفة قَوّت قول المنتقد ، والصحيح التفصيل ، فإنّ فيهما مواضعَ منتقدة بلا ريب مثل حديث : خلَق الله التربة يوم السبت ، وحديث : صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وأكثر )(١) .

وقال كمال الدين أبو الفضل الأدفوي في( الإمتاع في أحكام السماع ) :

( ثمّ أقول : إنّ الأُمّة تلقّت كلّ حديثٍ صحيح وحسن بالقبول وعملت به عند عدم العارض ، وحينئذٍ لا يختصّ بالصحيحين ، وقد تلقّت الأُمّة الكُتب الخمسة أو الستّة بالقبول ، وأطلق عليها جماعة اسم الصحيح ، ورجّح بعضهم بعضها على كتاب مسلم وغيره .

قال أبو سليمان أحمد الخطابي : كتاب السُنن لأبي داود كتابٌ شريف لم يصنّف في الدين كتابٌ مثله ، وقد رُزِق مِن الناس القبول كافّة ، فصار حكَماً بين فِرق العلماء وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم ، وكتاب السُنن أحسن وضعاً وأكثر فقهاً من كتب البخاري ومسلم .

وقال الحافظ أبو الفضل محمّد بن طاهر المقدسي : سمِعت الإمام أبا الفضل عبد الله بن محمّد الأنصاري بهراة يقول ـ وقد جرى بين يديه ذكر أبي عيسى الترمذي وكتابه فقال ـ : كتابه عندي أنفع مِن كتاب البخاري ومسلم .

ـــــــــــــــــــ

(١) منهاج السنّة ٧ : ٢١٥ وانظر ٥ : ١٠١ .

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456