استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

استخراج المرام من استقصاء الإفحام13%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 456

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 456 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 227030 / تحميل: 8321
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وقد نُوقشت قضيّة رأس المال في بحوث مُتعدّدة، نذكر منها بحث البعّاج: (مغزى الحلقات المفرغة) الذي انتهى إلى أنّها وسيلة تضليليّة؛ لتسويغ بقاء تخلّف دول العجز في العالم المعاصر واستمراره (1) .

أمّا تدنّي إنتاجيّة العمل، فهو - كما يظهر مَن ولجَ هذا الموضوع - نتيجة لِما تقدّم من معايير، ولم تصمد التفسيرات السوسيولوجيّة بعَزو التخلّف إلى نمط الثقافة والدين والأنظمة الاجتماعيّة والفروق العنصريّة واللون، وتصنيف البشر إلى مجتمعات راكدة وأُخرى راكدة هجينة، إلاّ بمساسها بالمدخل الفكريّ؛ لتوضيح تصوّر الإسلام للمدخل السليم لتفسير التخلّف، وإلاّ فهي دراسات منحازة تضمّ بين جنباتها أغراضاً غير علميّة، وتحتوي على درجة من التعصّب ورمي شعوب العالم الثالث بعيب (الأدْنَويّة)، وتهدف إلى تقرير آراء عنصريّة تلصق التفوّق الطبيعيّ بعناصر وسلالات بشريّة في العالم (*) ، وهكذا لم تقف معايير المنظومة أمام التفسير الإسلاميّ للتخلّف.

ثانياً: التنمية

1 - التصوّر والإجرائيّة في النُظم الاقتصاديّة الوضعيّة المُعاصرة

لقد تعدّدت الزوايا التي ينظر الباحثون من خلالها إلى التّنمية.

فقد لاحظ بعضهم أنّها (الزيادة المُستمرّة في إنتاج الثروات الماديّة) (2) .

ولاحظ آخرون أنّها عمليّة زيادة الدَخل الفرديّ أو الإنتاج الاجتماعيّ، وقد اعترض على ذلك عونار ميردال (3) .

ويلاحظ هانسن ( Hansen ) ارتباط التنمية بالعلاقات الدوليّة.

ويربطها اسمان بالتحوّلات الحضاريّة للدول الأقلّ تصنيعاً من الاقتصاد الرعويّ أو الزراعيّ إلى التنظيم الصناعيّ للأنشطة الاقتصاديّة.

____________________

(*) وقد تخطّى البحث تفسير التخلّف باستعمال منهجيّة المراحل خشية التطويل، كما جاء عند الألمان والأمريكان، مثل نظريّة والت روستو.

(1) البعّاج، اُنظر كذلك حتى التفسير الماركسي عند ( Nurkse )، أو ( Lebenshtin Ianger ) الذي يركّز على ضرورة التراكم.

(2) س. كوزيتتس.

(3) تحليل بالدوين (مبير)، اُنظر: ميردال في نقد النموّ، ترجمة عيسى عصفور، سوريا، 1980م.

٢١

أمّا (فريد ويكسر)، فيراها عمليّة شموليّة بأبعاد مُختلفة.

وركّز (حجبر) على أنّها إطلاق قوى مُعيّنة خلال مدّة زمنيّة طويلة نسبيّاً تُحدث زيادة في الدخل أكبر من زيادة السكّان.

هذه الرّؤى تدور حول محورين هما: العلاقات المورديّة، وانخفاض متوسّط الدخل الفرديّ.

وقد توصّل عدد من الباحثين إلى وضع اليد على خطأ منهجيّ صاحَب تلك الدراسات على مدى نصف قرن؛ وهو أنّها تفصل بين الجوانب الاقتصاديّة والإطار الاجتماعيّ والدوافع العقائديّة؛ لتحسين هذا الإطار وتكييفه، بلحاظ توزيع إمكانات النموّ وثماره (1) .

كما توصّلوا إلى ضرورة التفريق بين مفاهيم النموّ ( Growth )، ومفهوم التنمية ( Development )، ومفهوم التحديث ( Modernization ). ولوحظ أنّ تلك الدراسات ركّزت على النموّ؛ متأثّرة بالتدرّج التاريخيّ لتطوّره من خلال أفكار مُجتهدي المدرسة الاقتصاديّة الكلاسيكيّة، فقد ظهرت مقولات النموّ عند سمث ( Sm i th ) من أفكاره في تقسيم العمل وتقرير حقّ الفرد المُطلق، بوصفه أساساً لتطوّر ثروة الأُمم، وتأكيداته على التوازن الآلي بين تأثيرات العرْض والطلب على السوق، فأعطاه دور المعيار في ماذا يُنتج؟ ولمَن؟ وافتراضات المدرسة بصيرورة كلّ اقتصاد لدرجة التشغيل وتطويره، ومن ثَمّ تحقّق الكفاءة الإنتاجيّة، وتطوّر المعدّات، وتعظيم الادّخارات؛ لتوسيع حجم السوق الداخليّة والخارجيّة، وتأكيداته على تراكميّة النموّ.

وهكذا تطوّرت مفهومات النموّ عند (ريكاردو) في نظريّته في التوزيع الوظيفيّ على العناصر المساهمة في الإنتاج، بالتركيز على مقولة العمل ونظريّته في الرَيع التفاضليّ، وبظهور (مارشال) ظهرت أفكار ومتغيّرات جديدة دخلت في محاور دراسة النموّ، مثل التطوّرات الفنّية والاندماج، ونظريّة الوفورات وأثرها على تقليل الكُلَف وتطوير المهارات.

____________________

(1) اُنظر: النجفي (سالم)، التنمية الاقتصاديّة الزراعيّة، جامعة الموصل، ص: 16 و17.

٢٢

وبَرز الجانب المذهبي للرأسماليّة في أفكار (شومبيز) في آرائه في النُظم، وأثره في إحداث النموّ، حتى ظهرت الكينزيّة التي انحاز تحت ظلّها العلميّ محرّك النموّ إلى جانب الطلب بما يبرز أثر الركود العالميّ (1930م)، فأدخلت تعديلات هامّة على دراسة النموّ في ظلّ التفكير الليبرالي، فطالبت بإعطاء الدولة دوراً في التطوير، وتعكّزت على التوزيع وإعادة التوزيع؛ لتنشيط أثر الاستهلاك بغية إيجاد الطلب الفعّال بوصفه مطوّراً للإنتاج.

إنّ الخيط الذي يربط هذا العرض السريع لتطوّر دراسات النموّ الاقتصاديّ، خلال قرنين من الزمن، يُمكن وصفه بأنّ التنمية في ظلّ الاتّجاه الفرديّ ظلّت عمليّة إبداعات الأفراد لتحقيق الرخاء المادّي، أي أنّ تصوّر الليبراليّة للمشكلة الاقتصاديّة دعاها إلى تكليف كلّ فرد بحلّ هذه المشكلة بجهده ونشاطه، وعلى النطاق الجزئيّ، وبجمْع هذه الجهود سيصار إلى تذليل آثار المشكلة في مجمل الاقتصاد القوميّ، بينما ظلّت الآثار التي تسهم فيها قوانين التوزيع في إحداث وتائر النموّ أو تسريعه مهملة، ما عدا تعديلات طفيفة ظهرت في الفكر الكينزي، لم تلبث أن تلاشت وسط الإهمال الذي تفرضه النظريّة برمّتها في فرض قيود معيّنة على الفرد حين يتصرّف تصرّفاً مطلقاً بالثروة والدخل.

  لذلك فإنّ المقياس الذي تُقاس به التنمية، والذي ينسجم مع النسيج النظريّ الليبراليّ في تصوّر النموّ، هو حجم الثورة الكليّة المُتحصّلة للمجتمع خلال مدّة زمنيّة مُعيّنة. وعليه، فقد اعتمد حجم الدخل القوميّ، مقدار الدخل الفرديّ الحقيقيّ، أو حجم التراكم الرأسمالي لسنة الأساس وآثاره ونسب ارتفاعاته، مقاييس في تصنيف المجموعـات البشريّـة (1) .

إلاّ أنّ ذلك الفصل المُتعمّد عن الجوانب غير الاقتصاديّة في التصوّر، قد برز بعد التنفيذ في الشطر الغربيّ من الأرض، عبّر عنه صراحة روستو ( Rosstow ) بوصفه لمرحلة الاستهلاك الوفير القائل: إنّ هذه المرحلة جعلت المواطن الأمريكيّ يطرح على ذاته أسئلة لا تمسّ مسألة النموّ، إنّما تشخّص حالة الفراغ

____________________

(1) اُنظر: د. العمادي (محمّد)، التنمية والتخطيط، دمشق، ط2، 1966م، ص: 71 - 77. مقياس جير الدماير، بالدوين.

٢٣

الذي انتاب المجتمع بعد تحقيقه لمرحلة الرفاهية ( Economic Welfare )، وظهرت في تردّد الأمريكي في الإجابة عن أسئلةٍ مثل: هل يزداد الإنجاب؟ هل يرحل إلى الكواكب الأُخرى؟ هل يجعل العطلة الأسبوعيّة ثلاثة أيّام؟ هل يعود إلى القيَم الروحيّة؟ (1) .

نستطيع القول ممّا تقدّم:

أ - إنّ النصّ الذي عبّر فيه روستو عن الإحساسات الجماعيّة، لِما بعد النموّ، يشير بوضوح إلى أنّ التنمية الغربيّة تتوقّف عند غاية الرفاهية، عند تحقيق الجانب المادّي للحياة.

ب - إنّ التنمية الغربيّة قامت على أساس الضغط على الجانب الإنسانيّ، تجلّى ذلك في تحديد الإنجاب، وعلى الجانب الروحيّ للإنسان الغربيّ في إعراضه عن القيم الروحيّة، وفي تكثيف العمل الأسبوعيّ، إذ إنّ إنقاص ساعات العمل بالشكل المطلق يعني، عِبر زيادة إنتاجيّة العمل وحصيلة التقدّم الفنّي والتكنولوجيّ، زيادة في استغلال جهد إنسانيّ أكبر بالمفهوم النسبيّ (*) .

جـ - إنّ القوّة المادّية المُتحصّلة من التنمية دفَعته إلى بواعث عدوانيّة، وسيطرة جنونيّة على الكون.

2 - التنمية في تصوّر المذهبيّة الاشتراكية (الجماعيّة)

إنّ المُتسالم عليه عند الباحثين أنّ مقولات التنمية قد وجدت تنظيرات ونضجاً في ظلّ التفكير الاشتراكيّ للمشكلة الاقتصاديّة، بينما حظي النموّ ( Grwoth ) بالقسط الأوفر في التفكير الاقتصاديّ الليبرالي.

وبصرف النظر عن الأساس النظريّ والواقع التاريخيّ لهذه المُسلّمة، فإنّ النتيجة الحتميّة للتطوّر الاقتصاديّ في العالم الشرقيّ تتمثّل في أنّ الفكر

____________________

(*) ولست أظنّ القارئ يطالب هنا بالدليل أو المصداق، وإن كان الأمر لصيق بالجانب السياسيّ للنموّ الذي يعرض عنه بحثنا؛ لأنّه في صدد تقويم العناصر الفنّية.

(1) روستو (والت)، مراحل النموّ الاقتصاديّ، ترجمة إبراهيم جناتي، القاهرة، 1977م.

٢٤

الذي يقف خلفه حاول جادّاً إحداث تحوّلات هيكليّة من خلال الاستثمارات العامّة، باستخدام التخطيط الشامل ( Centralized Economic Planning )، بما يؤدّي إلى تكوين قاعدة استقطاب للموارد المتاحة كافّة.

وبأُسلوب التوزيع المركزيّ للدخل، وفق قاعدة (كلّ حسب عمله)، دفع النشاط العامّ إلى تحقيق تزايد مُنتظم في متوسّط الإنتاجيّة للفرد، وبالتالي في قدرات المجتمع، مستهدفاً - كما تشير أدبيّات التنمية - إلى توفير الحاجات الأساسيّة وفق مبدأ يتمثّل في (إحداث التغييرات الجذريّة في علاقات وقوى الإنتاج، ومن ثَمّ في البنيان الثقافيّ الملائم معها) (1) .

وعليه، اعتمد ذلك التطبيق مسألة الملكيّة الاجتماعيّة، وخوّل الدولة صلاحية تنظيم الإنتاج وتخطيطه مركزيّاً، وتوزيع عوائده بموازنة صارمة بين الاستهلاك الضروريّ والتراكم المخصّص؛ لتوسيع قاعدة الإنماء عموديّاً وأفقيّاً. وقد اعتمدت السياسة الاقتصاديّة القائمة على أساس ذلك الفكر على المناورة في انخفاض حجم الاستهلاك ورفعه لصالح التراكم؛ تمشّياً مع الأهداف البعيدة والمتوسّطة والقصيرة للتخطيط الاقتصاديّ، مع الأخذ بالحسبان الاعتبارات السياسيّة في المراحل المختلفة. ويلاحظ الباحثون أنّ الفكر الماركسيّ جعل الباعث على إحداث النموّ الاقتصاديّ مواجهة جماعيّة بقيادة الدولة في الغالب للمشكلة الاقتصاديّة، بحيث صارت التنمية بالأساس مسؤوليّة الدولة، وحقّ الفرد عليها لتحقيق ذلك السداد المقبول لحاجاته الأساسيّة، وبسدادها تتجدّد قوى الإنتاج، ويستمرّ النموّ الاقتصاديّ (2) .

وهذا يتيح لنا القول: إنّ مفهوم التنمية - كما يراه أصحاب هذا الاتّجاه - ينزع إلى الربط الجدليّ بين الإنتاج والتوزيع، بعلاقة تأثير متبادلة بينهما، وتسخير الثاني - التوزيع - لمصلحة الإنتاج، وتجديده وتحقيق تراكم مناسب، سواء بالضغط على مستوى الأُجور الفعليّة، أمْ على مستويات الاستهلاك، فضلاً عن تحديد لوسائل الإنتاج.

____________________

(1) اُنظر في هذا الصدد:

د. الكواري (علي)، نحو فهم أفضل للتنمية، مركز دراسات الوحدة العربيّة - بيروت، 1984م، ص: 70.

د. محيي الدين (عمرو)، التخلّف والتنمية، ص: 210.

د. عبد الله (إسماعيل صبري)، نحو نظام عالمي، ص: 220.

د. مرسي (فؤاد)، (م. س.)، ص: 176.

(2) عبد الله (إسماعيل صبري)، (م. س.)، ص: 220.

مرسي (فؤاد)، (م. س.)، ص: 176.

٢٥

3 - مفهوم التّنمية في الفكر الاقتصاديّ الإسلاميّ

إنّ المُنطلق الذي ينطلق منه تحديد مفهوم الإسلام للتنمية هو: كيف يرى الإسلام المشكلة الاقتصاديّة؟ وما هو الحلّ الذي قدّمه لها؟

  إنّ التصوّر الإسلاميّ يُسلّم أوّلاً بأنّ الموارد المبثوثة في الكون هي من الوفرة بحيث تغطّي الحاجات القائمة والمفترض قيامها عموديّاً وأُفقيّاً إلى يوم القيامة. وهذه الحقيقة إحدى مُعطيات القرآن الكريـم، ولـه فيها دلالـة واضحـة (1) :

( وَآتَاكُم مِن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدّوا نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ) [إبراهيم: 34] (2) . ويقف الإسلام إزاء هذه المُسلّمة موقف المحرّض بالوسائل العقائديّة والأخلاقية، ومستخدماً القانون المحرّض على العمل واستثمار هذه الموارد.

إنّ النّدرة المعترف بها في الإسلام هي ندرة الطيّبات، (أي السِلع والخدمات المبذول عليها عمل يكيّفها لإشباع الحاجات) (3) .

لذلك فإنّ الجُهد الإنسانيّ هو الكفيل والمسؤول في آنٍ واحد في إحداث وفرة الطيّبات، بينما لا توكل التنمية في الفكر الليبرالي، بقولها بندرة الموارد، إلى الجهد الإنسانيّ وحده، وحيث إنّ الإنسان مأمور بسدّ مُتطلّباته للتوصّل إلى تحصيل قدرته على العبادة بالمعنى الأخصّ، ومأمور بعمارة الأرض لقوله تعالى: ( هُوَ أَنشَأَكُم مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيَها ) [هود:61]، وحيثيّات كهذه تشير إلى أنّ العمل والإنتاج ليسا ردود فعل للحاجة الإنسانيّة، أو استجابة لها بقدَر ما هما حُكم شرعيّ ينظّم الاستجابة الإنسانيّة لتحدّي الحاجة.

نخلص من ذلك إلى القول: إنّ الركن الأوّل في مفهوم التنمية في الإسلام هو الضرورة الشرعيّة للإنتاج، واستخدام أقصى الطاقات البشريّة فيه، ولمّا كان الإنسان هو حلقة الوصل أو محلّ الارتباط في تبادل التأثير بين كفاية التوزيع، وتحقّق القدرة على الأداء الإنتاجيّ، فقد احتلّ التوزيع الركنيّة الثانية في مفهوم الإسلام للتنمية؛ ذلك أنّ التوزيع الإسلاميّ للثروة والدخل قائم على معيارَي العمل والحاجة، وهنا يسهم التوزيع في مساعدة القوى الإنتاجيّة على الحركة الفعّالة

____________________

(1) اُنظر: الكُبيسي (أحمد عواد)، الحاجات في مذهب الاقتصاد، ص: 82 و83.

(2) اُنظر آيات الكتاب الكريم: [إبراهيم: 32 - 34].

(3) د. صقر (محمّد أحمد)، الاقتصاد الإسلاميّ مفاهيم ومُرتكزات، دار النهضة العربية - القاهرة، ط1، 1988م، ص: 23 و24.

٢٦

في إعطائها القوّة المادّية، وتسهم المُسلّمات العقائديّة والأحكام التكليفيّة في إعطاء تلك القوى الدفع الروحيّ المعنويّ.

ما يرتّب، في فهْم التصوّر الإسلاميّ للتنمية، أنّ لها ركنين هما: عدالة التوزيع والإمكانات المادّية، وعدالة توزيع ثمار النموّ لأجل إنتاج يتطلّع إلى عمارة الأرض.

لأجل ذلك كلّه فمفهوم الإسلام للتنمية مفهوم شموليّ لا يُؤكّد على جانب العرض (الإنتاج)، كما هو دأب المدرسة الكلاسيكيّة، ولا يتركّز في جانب التوزيع هدفاً، كما في الماركسيّة، إنّما يجمع بينهما في توليفة متوازنة لإنتاج مفهوم شموليّ للتنمية، ينتج عنه أنّ أُسلوب الإسلام في الإنماء لا يصاب بسوء التوزيع، كما هو محور الكُلفة الاجتماعيّة للتنمية الرأسماليّة، ولا بهبوط الإنتاج كمّاً أو نوعاً، كما هو محور الكُلفة في التنمية الماركسيّة، فضلاً من التأثير السلبيّ لكلّ من هذه النقائص على الركن الآخر.

من ذلك كلّه يستطيع الباحث أن يوجز بعض مفاصل الفهْم الإسلاميّ للتنمية، وعلى الوجه الآتي:

أ - إنّ الإنتاج مسؤوليّة شرعيّة يترتّب التخلّي عنها جزاءات قانونيّة في الدنيا والآخرة.

ب - الامتثال لهذه المسؤوليّة بوصفها حُكماً شرعيّاً عينيّاً يجعل مفاصل الإنتاج مُتعدّدة، فيها الفرد والمجتمع والدولة.

جـ - يجعل الإسلام للعمل مكافأة مادّية وروحيّة، المادّية بشرعيّة الملكيّة، والروحيّة بأجر الامتثال للحكم الشرعيّ.

د - إنّ النمط التوزيعيّ يُهيّئ جميع قوّة العمل المُتاحة للإسهام بالإنماء الاقتصاديّ، طالما ضمِن لأفرادها حدّ الكفاية.

هـ - إنّ غاية التنمية في الإسلام تتخطّى مرحلة زيادة الثروة القوميّة، ومرحلة إشباع الحاجات المادّية فقط، إنّها تضمّ هاتين المرحلتين وتُسخّرهما معاً لهدف أسمى، وهو تسهيل أمر العبوديّة لله تعالى (1) .

____________________

(1) اُنظر في تفصيلات هذه الخصائص:

النجّار (عبد الهادي علي)، الإسلام والاقتصاد، سلسلة المعرفة، الكويت، ص: 75.

العلي (أحمد بويهي)، التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة ومستوى المعيشة، مجلّة البحوث الإدارية - بغداد، العدد الأوّل، ك2، 1978م، ص: 145.

٢٧

4 - أدلّة الوجوب المُستفادة مِن الكتاب الكريم

لقد مرّ بنا الاستدلال بقوله تعالى: ( هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) [هود: 61]. وقد جاء في تفسيرها عن الجصّاص قوله:

((استعمركم): أي أمركم من عمارتها بما تحتاجون إليه، وفيه الدلالة على وجوب عمارة الأرض للزراعة والغراس والأبنية) (1) .

وجاء في الميزان: (المراد بالاستعمار هُنا الطلب الإلهيّ من الإنسان المُستخلَف أن يجعل الأرض عامرة؛ لكي ينتفع بها، بما يطلب من فوائدها) (2) .

وقد يستدلّ أيضاً بقوله تعالى: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) [البقرة: 30]، ومهام خلافة الله في الأرض، كما يرى المفسّرون: (إقامة الحقّ وعمارة الأرض) (3) . وهناك استدلالات أُخرى تُنظر في مظانّها من الكتاب والسنّة والقواعد الفقهيّة وتطبيقات عصر الراشدين (4) .

5 - فلسفة الاستخلاف ومفهوم التنمية في الفِكر الإسلاميّ

ترتكز جميع النُظم الاقتصاديّة في العالم على أساس نظريّ يقرّر نمط التعامل مع طبيعة التصرّف بالثروة والدخل، فيقوم النظام الفرديّ على أساس الحقّ الفرديّ المُطلق للفرد بموجب حصّته من العمل، في أيّ ظروف كانت في الاستحواذ على جزء من الثروة القوميّة، والتصرّف المطلق بالدخل الناتج عن العمل فيها. ويقوم النظام الجماعي على أساس عدم أحقّية الفرد في تملّك وسائل الإنتاج غالباً، ويقرّ التخطيط الشامل للأجر والأسعار طبيعة التصرّف بالدخل، وفق مُتغيّرات ودَوال يعتمدها ذلك التخطيط.

أمّا بالنسبة للتصوّر الإسلامي، فكيف يرسم طبيعة التصرّف بالملكيّة؟

لتوضيح طبيعة التصرّف لا بدّ من عرض القوانين المركزيّة في مذهبيّة الاستخلاف: إنّ الشريعة الإسلاميّة تقرّر ابتداءً أنّ الملكيّة الحقيقيّة لله تعالى، ونمط العلاقة بين الخالق والكون علاقة ملك تامّ وحقيقيّ، فيه أعلى درجات

____________________

(1) الجصّاص، أحكام القرآن: 3/165.

(2) طباطبائي (محمد حسين)، الميزان في تفسير القرآن، مؤسّسة الأعلمي - بيروت، ط 2: 10/310.

اُنظر: الطبرسي (أبو علي الفضل بن الحسن)، مجمع البيان، مطبعة دار الفكر: 12/178.

(3) الطبرسي، (م. س.): 1/ 74.

البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، مطبعة مصطفى محمّد: 1/135.

(4) المياحي (عبد الأمير كاظم)، (م. س.)، ص: 75 - 81.

٢٨

الاختصاص، يظهر ذلك من قوله تعالى: ( للّهِ‏ِ مُلْكُ السّموَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) [المائدة: 120].

قال المفسّرون: إنّ معنى الآية: (لله ملك السماوات والأرض دون كلّ مَن سواه لقدرته عليه وحده)، وقيل: (إنّ هذا جواب لسؤال مُضمر في الكلام، كأنّه قيل: مَن يُعطيهم ذلك الفوز العظيم؟ فقيل: الذي له ملك السماوات والأرض).

فهو يقدر على المعدومات بأن يوجدها، وعلى الموجودات بأن يعدمها (1) ؛ وبناءً على ذلك، فإنّ مطلق الموارد والطاقات والسلع الحرّة والاقتصاديّة تدخل في طبيعة هذا المِلك.

وأهمّ ثمرة تكمن وراء تقرير هذه الحقيقة انتفاء الملكيّة الحقيقيّة الأصليّة للإنسان، فالإنسان، مِن حيث كونه غير موجِد وغير مُدبّر لديمومة الموارد والطاقات، لا يصحّ اعتباره مالكاً؛ لأنّه ليس سبباً للإيجاد والتدبير، إلاّ أنّ الله تعالى أوكَل للإنسان حقّاً في استثمار الموارد المُتاحة في الكون وإعمار الأرض، والانتفاع بتلك الموارد وفق نيابة مشروطة، واختباراً له في طريقة التعامل مع هذه النيابة، كما حدّدتها الشريعة، ويدلّ على هذا القانون قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) [البقرة: 30].

وقوله تعالى: ( وَلَقَدْ مَكّنّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ ) [الأعراف: 10]. قال الطبرسي: (التمكين من التصرّف فيها، والمعايش: أنواع الرزق ووجوه النِعم، وقيل: المكاسب والإقدار عليها بالعلم والقدرة والآلات. ومع كلّ هذه النِعم قلّ شكرُكم) (2) ؛ أي بعدم التزامكم بضوابط الاستخلاف...

وأخيراً، فإنّ القانون الثالث للاستخلاف هو أنّ الله القادر جعل هذه الموارد قابلة لتقديم المعطيات للإنسان، وأنّها وضعت مهيّأة للانتفاع بها إذا ما مارس الإنسان عليها جُهداً، فهي ليست عصيّة على مَن استخلفه الله، يدلّ

____________________

(1) اُنظر: الطبرسي، (م. س.) 3/270.

(2) الطبرسي، (م. ن): 4: 400.

٢٩

على ذلك قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ) [لقمان: 20].

قال الطبرسي: ( مَا فِي السَّمَوَاتِ ) : أي الشمس والقمر والنجوم، الفضاء كلّه مُسخّر للإنسان، وما في الأرض من الحيوان والنبات وغير ذلك، ممّا تنتفعون به وتتصرّفون فيه بحسب ما تريدون.

( وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ) ، يقصد بالظاهرة: ما يُمكّنكم جهدكم من خلْقِه وإحيائه سلعاً نافعاً، خلَق القدرة فيكم على العمل، وخلَق الشهوة فيكم؛ أي خلق الرغبة في العمل.

أمّا الباطنة: فالتي لا يعرفها إلاّ مَن أمعن النظر فيها (1) ؛ أي الموارد المكتشفة باستخدام العلم والمعرفة، والتي تبقى محجوبة عن الإنتاج ما لم يتحرَّها الإنسان بسلطان القدرة العلميّة والعمليّة.

6 - النتائج ذات العلاقة بالتنمية

أ - يترتّب على القانون الأوّل: نفي الملكيّة الحقيقيّة عن الإنسان، إنّما جُلّ الأمر تمكينه بوساطة الحُكم الشرعي للحيازة والانتفاع بالموارد لفرد أو مجموعة، أو للأمّة على اختلاف في الشكل واتّحاد في المُحتوى.

ب - الحيازة بموجب تلكم مفتوحة، فلا تمييز لطبقة النُبلاء؛ لأنّ الوسائل الشرعيّة للحيازة عامّة للجميع، وأهمّ الوسائل ضرورة العَمل، واعتباره الشرعي سبباً للمعاوضة المُنتجة للملكيّة.

وبهذا تشكّل الملكيّة، في منطق هذه القوانين، (حكماً شرعيّاً قدّر وجوده في عينٍ أو منفعة، يقتضي - ذلك الحُكم - تمكين مَن أُضيف إليه انتفاعه بالعين أو المنفعة أو الاعتياض عنها، ما لم يوجد مانع من ذلك) (2) .

جـ - لمّا كان الحُكم الشرعيّ سبباً للملكيّة (حيازةً أو انتفاعاً) دائميّاً، فإنّ انتهاك السبب يعني فساد النتيجة المُترتّبة عليه.

____________________

(1) الطبرسي، (م. ن): 8/320.

(2) القرافي (شهاب الدين أبو العبّاس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن)، الفروق، دار إحياء الكتب العربيّة: 3/308.

٣٠

د - العلاقة بين الإنسان (المُستخلف) وبين الموارد، ليست علاقة صراع أساسه الندرة، بل علاقة تكامليّة بين الموارد الكافية والمُسخّرة، والتكليف الإلهيّ للإنسان بالعمل وعمارة الأرض.

أي أنّ كلّ جزء من مخلوقات الله يؤدّي دوراً في عمليّة الإعمار، وكلّ هذه الأدوار يكمّل بعضها بعضاً، متّجهة نحو هدف واحد هو إعمار الأرض، وتحسين مستوى الحياة لأغراض تسيير عبادة الله تعالى.

هـ - لمّا كان الإنسان في اعتبار التصوّر الشامل في الإسلام للتنمية هو المستفيد الوحيد من التسخير والاستخلاف، فإنّه يتوجّب عليه ولوج الحياة بكلّ فاعليّة وإيجابيّة، فتعطيل الموارد بعدم الاستخدام أو سوء الاستخدام يُسبّب مناط الحكم أو علّته بسحب الحقّ (1) ، ولأشكال الاستخلاف علاقة خاصّة بالتنمية تشكّل لها حافزاً إيجابيّاً مؤثّراً (2) .

فالأُصول المذهبيّة للاقتصاد الإسلاميّ، إذن، ثلاثة:

1 - الملكيّة: ملكيّة الموارد المادّية والبشريّة، الطبيعة والإنسان، هي لله عزّ وجلّ.

2 - الاستخلاف: هو إنابة المالك لعباده من البشر حيازة تلك الموارد والاختصاص بها.

3 - التسخير: من حيث إنّ الموارد الطبيعيّة، بعوالمها الثلاثة: النباتيّ والحيوانيّ والمعدنيّ، المكتشفة حاليّاً والتي لم تُكتشف بعد، مُسخّرة لهؤلاء البشر.

وتتجسّد وحدة القوانين المركزيّة الثلاثة هذه في مهمّة عمارة الأرض؛ باعتبارها التكليف الشرعيّ للإنسان، الغاية منه إنتاج المستلزمات المادّية الضروريّة له لتأديته مهمّة عبادة الخالق تعالى: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ ) [الذاريات: 56].

____________________

(1) اُنظر: السبهاني (عبد الجبّار عبيد)، الاستخلاف والتركيب الاجتماعي في الإسلام، رسالة ماجستير مقدّمة إلى كلّية الإدارة والاقتصاد، رونيو 88، جامعة بغداد، 1985م.

محمود محمّد بابللي، السوق الإسلاميّة المشتركة، ص: 40.

د. الحسب (فاضل)، في الفكر الاقتصاديّ الإسلاميّ، دار المعرفة، ص: 39.

(2) المياحي (عبد الأمير كاظم)، (م. س)، ص: 101.

٣١

ثالثاً: العمل الإنسانيّ وأقسام الحُكم التكليفي

العمل: هو الجُهد البشريّ المنظّم بمجموعة من الوسائل، بمستوى معيّن من التقنيّة والتكنولوجيا، المُستهدف تحويل الموارد المُتاحة (السلع الحرّة) إلى سلع اقتصاديّة، بأن يضيف إليها قيمة أي كمّية عمل معيّنة.

ونسْب العمل إلى الإنسان؛ باعتباره ينتج من عمليّات عقليّة مستعيناً بالتقنيّة، ولكونه جهداً هادفاً إلى غاية اقتصادية.

ما حكم العمل في الشريعة الإسلاميّة؟ وهل يمكن الاستدلال بالقرآن الكريم، وبخاصّةٍ الآيات الدالّة على العمل، إشارةً إلى العمل الدنيويّ، أو نتوقّف فيه على ما توقّف عليه أغلب المفسّرين مِن أنّ المُراد القرآني، وفقاً للظهور، وهو حجّة عند الأصوليّين على العمل العبادي بالمعنى الأخص بمصاديق ظاهرة، كإقامة الصلاة والصوم والحجّ... إلخ؟ أو نقطع بالقول: إنّه كلّ جهد اقترن بالباعث الذي يتّجه نحو تحصيل مرضاة الله تعالى؟ أي لا يعدّ العمل جهداً شرعيّاً يدخل ضمن موضوع الحُكم التكليفي، إلاّ إذا اقترن بالنيّة.

قبل الإجابة عن هذه التساؤلات، لا بدّ من التفريق بين مقولة العمل في الفكر الوضعيّ وبين مقولته في الفكر الإسلامـيّ.

فهو في الوضعيّ: (الجُهد البدني أو العقليّ الذي ينزل في مجالات النشاط الاقتصاديّ لغرض الكسب) (1) .

أمّا في الفكر الإسلامي: فهناك - إضافة لما تقدّم - قيد يلحق هذا المفهوم، وهو الجهد المبرّر شرعاً، أي المُنسجم مع أحكام الشريعة.

يرى ابن كثير أنّ الحلال مِن الكسب هو عون على العمل الصالح (2) ، بما يشير إلى أنّ الشريعة ترى العمل مقدّمة للكسب الحلال (3) .

____________________

(1) السعيد (صادق مهدي)، اقتصاد وتشريع العمل، بغداد، مطبعة المعارف، ط4، 1969م، ص: 10.

(2) ابن كثير (عماد الدين أبو الفداء إسماعيل)، تفسير القرآن، دار الأندلس - بيروت، ط1، 1385م: 5/22.

(3) على أنّنا هنا لا نحكم على المقدّمة حُكماً أُصوليّاً؛ لأنّ في مقدّمات الوجوب والواجب، خلافاً أُصوليّاً مُتشعّباً. لا يُريد الباحث استعراضه هُنا أو الحُكم باتّخاذ القاعدة طريقاً للاستنباط؛ لأنّ ما تطرّق إليه الخلاف لا يصحّ به الاحتجاج القطعيّ. اُنظر: عليان (رشدي)، العقل عند الشيعة، مطبعة دار السلام - بغداد، ط1، 1973 م، ص: 440.

٣٢

إنّ العمل الذي يعترف به القرآن هو العمل الصالح، وهو الجُهد الاقتصاديّ الذي يبذل في إنتاج السِلع والخدمات المسموح بها شرعاً، ولإشباع الحاجات المعتبرة والمُعترف بها مِن قِبَل الشرع كذلك (1) .

وقد أشارت السنّة إلى ذلك بعدد من الأحاديث نذكر منها:

قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إنّ مِن الذنوب ما لا تكفّرها الصلاة ولا الصيام ولا الحجّ ولا العمرة)، قالوا: فما يكفّرها يا رسول الله؟ قال: (الهموم في طلب المعيشة).

وقوله: (مَن أمسى كالاًّ مِن عمل يده أمسى مغفوراً له) (2) .

إنّ هذا الحثّ - كما يراه الأُصوليّون - لا يخرج عن الإباحة أو الاستحباب، وكذلك لا يخرج الحثّ عليه في آيات سورة الجمعة (3) عن الإباحة والرُخصة والإذن، وهذا هو الأمر المستعمل فيه (4) .

والأمر منوط هنا بأنّ بعض المسلمين توهّم، في بدء الرسالة، بأنّ العمل أيّام الحجّ محظور، فأزال الله هذا الوهْم بالإباحة التي لا تتنافى مع الإخلاص في أعمال الحجّ، فإذا انتقلنا إلى تعريف الحُكم التكليفي: (الاعتبار الشرعيّ المتعلّق بأفعال العباد تعلّقاً مُباشر) (5) ، سيظهر أنّ لموضوع العمل نظريّتين هما: الكلّية والفرديّة. وقد أجمع جمهور الأُصوليّين من المسلمين - ما عدا أُصوليي الحنفيّة - على تقسيم الحُكم التكليفي إلى: الوجوب، الندب، الإباحة، الكراهية، الحُرمة.

فيُراد بالوجوب: الإلزام بالفعل، مع عدم الترخيص بالترك إلاّ لضرورة مُعتبرة شرعاً، وينطبق على هذا ما كانت الأُمّة بحاجة إليه حاجّة ماسّة.

ويراد بالندب: ما دعا الشارع إلى فعله، ولم يُلزم به، فهو المستحب مِن الأعمال، كالأعمال التي تتوقّف عليها حاجات الأُمّة التحسينيّة.

أمّا الإباحة: فإنّها تشمل الأعمال التي تكمل وتزيد نمط الحياة جمالاً وسعةً، والحاجات الكماليّة المبرّرة الخالية من الإسراف والتبذير.

ويدخل في الكراهة ما كان طريقاً إلى محرّم، أو كانت مفاسده أكثر من

____________________

(1) اُنظر: سيله (عبد الرحمان)، الأسعار في الفكر الاقتصاديّ، رسالة ماجستير، رونيو، ص: 58 و59.

(2) اُنظر: الهيثمي (نور الدين علي)، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: 4/64.

(3) اُنظر الآية 10 من السورة.

(4) اُنظر: الطوسي (أبو جعفر محمّد بن الحسن)، في تفسير التبيان، تحقيق أحمد حبيب القصير، الأعلمي - بيروت، مجلّد 10، ص: 9.

(5) اُنظر: مباحث الحُكم عند الأُصوليين: 1/55، الإحكام في أُصول الأحكام، للآمدي: 1/49.

٣٣

محاسنه مِن الجانب العملي.

  إنّ الذي عليه المسلمون يتمثّل في أنّ الأوامر والنواهي وليدتا المصالح والمفاسد، وحيث أنّ النهي عن الشيء لا يستلزم الأمر بحرمة تركه على الفرد من حيث هو فرد، ولمّا كانت الذمّة الفرديّة مشغولة بتحقّق النتائج، فإنّ الأسباب لا تعدّ من الأحكام التكليفيّة لإمكان اندراجها ضمن الحكم الوضعيّ، كالشرط والسبب. ولقد أنكر صاحب (الكفاية) كون الشرط أو السبب قابلاً للجعل الشرعيّ؛ لأنّه مجعولٌ بالتكوين، وهذا ما تُشير إليه فلسفة الاستخلاف.

إذ ربّما يكون العمل اختياريّاً بالنسبة للإنسان؛ ولذلك تبقى الترغيبات مُتوفّرة على تحسين الفاعليّة بخفض التكاليف، والإتقان، ويربط العمل بالنيّة؛ لقول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (الساعي على الأرملة والمسكين كالمُجاهد في سبيل الله) (1) . فإنّ مفاصل السياسة الاقتصاديّة التي تتوفّر غالباً على مجال الإباحة قد ترفع العمل إلى مصاف الوجوب أو إلى الكراهة، ونادراً إلى الحرمة، إضافةً إلى العناوين الأوّليّة في حرمة العمل المُنتج لسلعة مُحرّمة (2) .

وهذه هي النقلة الثانية لمُناقشة مقولة العمل على مستوى الاقتصاد الكلّي ( Macro )، ذلك أنّ العمل البشريّ هو التكليف الشرعيّ للإنسان بوصفه المقدّمة العقليّة لتحصيل أسباب ديمومة العيش، فلا يدخل من حيث كونه مفردة منحلة إلى الفرد ضمن الحكم التكليفي، كإقامة الصلاة باعتبارها ليست مقدّمة؛ إذ هي نتيجة العمل وترتّب نتائجه.

إنّ الذي حدّدته الشريعة هو: أنّ العمل الذي يرضى عنه الباري: هو الجُهد الذي يسهم في تحصيل المَنفعة الشاملة للمُستخلف، باتّجاه عمارة الحياة والكون، بوصف هذا التكليف عمليّة شرعيّة كلّية أمَر بها القرآن في غير موضع.

____________________

(1) اُنظر الترمذي، صحيح الترمذي، ط1، 1934م، ص: 146.

(2) مكاسب الشيخ الأنصاري، 1/15.

٣٤

٣٥

المصادر

- القرآن الكريم.

1 - الأنصاري (مرتضى)، المكاسب، منشورات جامعة النجف الدينيّة - النجف.

2 - بانللي (محمود محمّد)، السوق الإسلاميّة المُشتركة، دار الكتاب اللبناني - بيروت، ط1، 1975م.

3 - البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، مطبعة مصطفى محمّد - مصر، جـ 1، ب. ن.

4 - الجصّاص، أحكام القرآن، دار الكتاب العربي - بيروت.

5 - الحسب (فاضل عبّاس)، في الفكر الاقتصاديّ الإسلاميّ، عالم المعرفة - بيروت، 1981م.

6 - روستو (والت)، مراحل النموّ الاقتصاديّ، ترجمة إبراهيم جناتي، القاهرة، ب. ن، 1977م.

7 - السبهاني (عبد الجبّار عبيد)، الاستخلاف والتركيب الاجتماعيّ في الإسلام، رسالة ماجستير، كلّية الإدارة والاقتصاد - جامعة بغداد، نيسان 1985م.

8 - صقر (محمّد أحمد)، الاقتصاد الإسلاميّ، مفاهيم ومرتكزات، القاهرة، ب. ن.

٣٦

9 - الطباطبائي (محمّد حسين)، الميزان في تفسير القرآن، الأعلمي - بيروت، 1973م.

10 - الطبرسي (أبو علي الفضل بن الحسن)، مجمع البيان، شركة المعارف الإسلاميّة، 1379هـ.

11 - عبد الله (إسماعيل صبري)، مجمع البيان، شركة المعارف القاهرة.

12 - علي (أحمد بريهي)، بحوث التنمية الاقتصاديّة، مجلّة البحوث الاقتصاديّة والإداريّة - بغداد، مركز البحوث الاقتصاديّة والإدارية، العدد (1)، 1978م.

13 - العمادي (محمّد)، التنمية والتخطيط، دمشق، ط2، 1966م.

14 - غونار (ميردال)، العالم الفقير يتحدّى، ترجمة عصفور، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1975م.

15 - القرافي (أحمد بن إدرسي)، الفروق، دار إحياء الكُتب العربيّة.

16 - كبيسي (أحمد عوّاد)، الحاجات في مذهب الاقتصاد الإسلاميّ، مطبعة العاني - بغداد، 1987م.

17 - الكواري (علي)، نحو فهم أفضل للتنمية، مركز دراسات الوحدة العربيّة - بيروت.

18 - محيي الدين (عمرو)، التخلّف والتنمية، دار النهضة العربيّة - بيروت، 1975م.

19 - مرسي (فؤاد)، التخلّف والتنمية، دار الوحدة للطباعة - ط1، مصر، 1982م.

20 - المياحي (عبد الأمير كاظم)، التنمية في الاقتصاد الإسلاميّ، رسالة ماجستير، كلّية الشريعة، جامعة بغـداد، 1987م.

21 - النجّار (عبد الهادي)، الإسلام والاقتصاد، سلسلة عالم المعرفة - الكويت، 1980م.

22 - النجفي (سالم)، التنمية الاقتصاديّة الزراعيّة، جامعة الموصل.

٣٧

البحث الثاني

الحاجة الاقتصاديّة

في المذهب الاقتصاديّ الإسلاميّ

٣٨

٣٩

مقدّمة

يُمكن مُعالجة مقولة الحاجة في المذهب الإسلامي الاقتصادي، مِن جانب كونها مقولة إنتاجيّة، ومِن خلال تبيّن أثرها في تكييف الفَهم الإسلامي للمشكلة الاقتصاديّة. ويظهره ارتباط جانب العرض في الحاجة نفسها مع جانب الطَلب عند مُعالجتها من حيث هي مقولة توزيعيّة، مِن خلال النَمط الإسلامي في توزيع الثروة والدَخَل. وبطبيعة الحال ينحلّ التبادل إلى ما يخدم جانب العرض في الحاجة نفسها، من حيث هو تسهيل لعنصري القيمة الاستعمالي والتبادلي في السلعة أو إنضاج لهما، فهو يخدم جزءاً مِن التبادل من جانب الطَلب على السِلع التي تشبع تلك الحاجات القائمة فعلاً، أو قوّةً (الحاجة الكامنة).

لذلك يكوّن التبادل الرابطة بين حَجم الحاجات وأنواعها مِن جهة كونها مقولة إنتاجيّة، وبين دورها وأثرها في نمط استهلاك إسلاميّ، من حيث هي مقولة توزيعيّة.

1 - الحاجة في الفِكر الاقتصادي الحديث والمعاصر

تُعدّ الحاجة بما تحمل مِن خصائص الرُكن الثاني الذي يكوّن المشكلة الاقتصاديّة مع ما يُسمّى بنُدْرة الموارد، فالمشكلة التي صلحت دافعاً لتكوين علم الاقتصاد وتطوّره، تقوم على أساس أنّ الموارد المُتاحة لا تكفي لهذا التعدّد غير القابل للحصر من جهة، وعدم كفاية الموارد الطبيعيّة المُتاحة لسدّ هذا التعدّد من جهة أُخرى، فلا بدّ - إذن - مِن استخدام العَقل البشريّ بوصفه المُنظّم والمُرشد للحاجات بما يتلاءم مع المُتاح مِن العرض، مورداً كان أمْ سلعاً مُنتجة.

ويرى أغلب الاقتصاديّين أنّ للحاجة خصائص أهمّها:

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

وهذا منقطع ، لم يتّصل ما بين البخاري وصدقة بن خالد ، ولا يصحّ فيهذا الباب شيء أبداً ، وكلّ ما فيه فموضوع ) (١) .

حديث المؤمن لا يزني حين يزني

( ومنها ) ما أخرجه البخاري في كتاب الأشربة قال :

( حدّثنا أحمد بن صالح قال : ثنا ابن وهب قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب قال : سمِعت أبا سلمة عن عبد الرحمان وابن المسيّب يقولان : قال أبو هريرة : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ( المؤمن لا يزني حين يزني ، وهو مؤمن )(٢) .

وهذا الحديث كذَّبه أبو حنيفة ، كما في كتاب( العالم والمتعلّم ) (٣) ، فقد جاء فيه :

( قال المتعلّم : ما قولك في أُناسٍ رَوَوا أنّ المؤمن إذا زنى خُلِع الإيمانُ من رأسه كما يُخلَع القميص ، ثمّ إذا تاب أعاد الله إيمانه ، أتشكّ في قولهم أو تصدّقهم ؟ فإنْ صدّقت قولهم دخلت في قول الخوارج ، وإنْ شككت في قولهم شكَكْت في قول الخوارج ورجعت عن العدل الذي وصفت ، وإنْ كذّبت قولهم الذي قالوا : كذّبت بقول النبيّعليه‌السلام ، فإنّهم رَوَوا عن رجالٍ شتّى حتّى انتهى به إلى رسول اللهعليه‌السلام .

قال العالم : كذَب هؤلاء ، ولا يكون تكذيبي هؤلاء وردّي عليهم تكذيباً للنبيّعليه‌السلام ، إنّما يكون التكذيب لقول النبيّعليه‌السلام أنْ يقول الرجل

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ٧ : ١٩٣ .

(٢) صحيح البخاري ٧ : ١٩٠ .

(٣) هذا الكتاب لأبي حنيفة ، والمقصود من ( العالم ) أبو حنيفة ، ومن ( المتعلّم ) تلميذه : أبو مطيع البلخي وهو راوي الكتاب .

٤٠١

أنا مكذّبٌ للنبيّعليه‌السلام ، وأمّا إذا قال أنا مؤمنٌ بكلّ شيء تكلّم به النبيّعليه‌السلام ، غير أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يتكلّم بالجور ولم يُخالف القرآن ، فهذا مِن التصديق بالنبيّ وبالقرآن وتنزيهٌ له من الخلاف على القرآن ، ولو خالف النبيّعليه‌السلام القرآن وتقوّل على الله ، لم يدعه تبارك وتعالى حتّى يأخذه باليمين ويقطع منه الوتين ، كما قال تعالى في القرآن ، ونبيّ الله لا يُخالف كتاب الله ، ومُخالف كتاب الله لا يكون نبيّ الله .

وهذا الذي رووه خلاف القرآن ، ألا ترى إلى قوله تعالى :( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي... ) (١) ثمّ قال( وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ... ) (٢) ولم يعن به من اليهود ولا من النصارى ، ولكن عنى به من المسلمين .

فردّي على كلّ رجلٍ يحدّث عن النبيّعليه‌السلام بخلاف القرآن ، ليس ردّاً على النبيّ ولا تكذيباً له ، ولكن ردّاً على مَن يحدّث عن النبيّعليه‌السلام بالباطل ، والتهمة دخلت عليه لا على نبيّ الله ، وكلّ شيء تكلّم به النبيّعليه‌السلام سمعنا به أو لم نسمعه ، فعلى الرأس والعين ، قد آمنّا به ونشهد أنّه كما قال النبيّعليه‌السلام ، ونشهد أيضاً على النبيّعليه‌السلام أنّه لم يأمر بشيء نهى الله عنه يُخالف أمر الله تعالى ، ولم يقطع شيئاً وصَلَه الله تعالى ولا وصَف أمراً وصف الله تعالى ذلك الأمر بِخلاف ما وصَفَه النبيّعليه‌السلام ، ونشهد أنّه كان موافقاً لله عزّ وجلّ في جميع الأُمور ، لم يبتدع ولم يتقوّل غير ما قال الله تعالى ، ولا كان من التكلّفين ، ولذلك قال الله تعالى :( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ

ـــــــــــــــــــ

(١) سورة النور ٢٤ : ٢ .

(٢) سورة النساء ٤ : ١٦ .

٤٠٢

فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ) (١) .

حديث شريك في الإسراء

( ومنها ) حديث البخاري عن شريك في إسراء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا لفظه :

( حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله قال : حدّثني سليمان ، عن شريك بن عبد الله ، أنّه قال : سمعت أنَس بن مالك يقول : ليلة أُسريَ برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مِن مسجد الكعبة ، إنّه جاءه ثلاثة نفر ، قبل أنْ يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أوّلهم : أيّهم هو ؟ فقال أوسطهم : هو خيرهم .

فقال آخرهم : خذوا خيرهم ، فكانت تلك الليلة ، فلم يرهم حتّى أتوه ليلة أُخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه ، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم ، فلم يكلّموه حتّى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم ، فتولاّه منهم جبرئيل ، فشقّ جبرئيل ما بين نحره إلى لبّته حتّى فرغ من صدره وجوفه ، فغسله من ماء زمزم بيده حتّى أنقى جوفه ، ثمّ أُتي بطست من ذهب فيه نور من ذهب مَحْشُوٌّا إيماناً وحكمة ، فحشا به صدره ولغاديده ـ يعني عروق حلقه ـ ثم أطبقه ، ثمّ عرج به إلى السماء الدنيا ، فضرب باباً من أبوابها ، فناداه أهل السماء : مَن هذا ؟ فقال جبرئيل : قالوا : ومَن معك ؟ قال : معي محمّد ، قالوا : وقد بعث ؟ قال : نعم ، قالوا : فمرحباً به... )(٢) .

وأخرجه مسلم قال : ( حدّثنا هارون بن سعيد الأيلي ، ثنا ابن وهب ، قال :

ـــــــــــــــــــ

(١) سور النساء ٤ : ٨٠ .

(٢) صحيح البخاري ٩ : ٢٦٥ كتاب التوحيد .

٤٠٣

أخبرني سليمان ـ وهو ابن بلال ـ قال : حدّثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر قال : سمعت أنَس بن مالك ، يحدّثنا عن ليلة أُسري برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مسجد الكعبة : أنّه جاءه ثلاثة نفر قبل أنْ يُوحى إليه ، وهو نائم في المسجد الحرام وساق الحديث بقصّته نحو حديث ثابت البناني ، وقدّم فيه شيئاً وأخّر وزاد ونقص )(١) .

قال النووي بشرحه :

( قوله : وذلك قبل أنْ يُوحى إليه وهو غلطٌ لم يُوافق عليه ، فإنّ الإسراء أقلّ ما قيل فيه أنّه كان بعد مبعثه بخمسة عشر شهراً ، وقال الحربي : كان ليلة سبع وعشرين مِن شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة وقال الزهري : كان ذلك بعد مبعثه بخمس سنين وقال ابن إسحاق : أُسري به وقد فشا الإسلام بمكّة والقبائل .

وأشبه هذه الأقوال قول الزهري وابن إسحاق ، إذ لم يختلفوا أنّ خديجة صلّت معه بعد فرض الصلاة عليه ، ولا خلاف في أنّها توفّيت قبل الهجرة بمدّةٍ قيل بثلاث سنين وقيل بخمس .

ومنها : إنّ العلماء مجمعون على أنّ فرض الصّلاة كان ليلة الإسراء ، فكيف يكون هذا قبل أنْ يُوحى إليه ؟

وأمّا قوله ـ في رواية شريك ـ : وهو نائم ، وفي رواية أُخرى : بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان ، فقد يحتجّ به من يجعلها رؤيا نوم ، ولا حجّة فيه ، إذْ قد يكون ذلك حالة أوّل وصول الملَك إليه ، وليس في الحديث ما يدلّ على كونه نائماً في القصّة كلّها .

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح مسلم ١ : ١٤٨ / ٢٦٢ باب بدء الوحي من كتاب الإيمان .

٤٠٤

هذا كلام القاضي ، وهذا الذي قاله في رواية شريك وأنّ أهل العلم أنكروها ، قد قاله غيره .

وقد ذكر البخاري رواية شريك هذه عن أنَس في كتاب التوحيد من صحيحه ، وأتى بالحديث مطوّلاً .

قال الحافظ عبد الحق في كتابه الجمع بين الصحيحين ـ بعد ذكر هذه الرواية ـ هذا الحديث بهذا اللفظ مِن رواية شريك بن أبي نمر عن أنَس ، وقد زاد فيه زيادةً مجهولةً ، وأتى فيه بألفاظٍ غير معروفة وقد روى حديث الإسراء جماعة من الحفّاظ المتقنين والأئمّة المشهورين ، كابن شهاب وثابت البناني وقتادة ـ يعني عن أنَس ـ فلم يأتِ أحدٌ منهم بما أتى به شريك ، وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث .

قال : والأحاديث التي تقدّمت قبل هذا هي المعوّل عليها هذا كلام الحافظ عبد الحق )(١) .

وقال الكرماني بشرحه :

( قال النووي : جاء في رواية شريك أوهام أنكرها العلماء ، من ملّتها : أنّه قال : ذلك قبل أنْ يوحى إليه ، وهو غلطٌ لم يُوافق عليه وأيضاً : العلماء أجمعوا على أنّ فرض الصلاة كان ليلة الإسراء ، فكيف يكون قبل الوحي ؟

أقول : وقول جبرئيل في جواب بوّاب السماء إذ قال : أبعث ؟ نعم ، صريح في أنّه كان بعده)(٢) .

وقال ابن قيّم الجوزيّة :

( فصلٌ ـ قال الزهري : عرج بروح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى

ـــــــــــــــــــ

(١) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجّاج ، باب بدء الوحي ، المجلّد ١ ج٢ : ٢٠٩ ـ ٢١٠ .

(٢) الكواكب الدراري في شرح البخاري ٢٥ : ٢٠٤ .

٤٠٥

بيت المقدِس وإلى السماء قبل خروجه إلى المدينة بسنةٍ ، وقال ابن عبد البرّ وغيره : كان بين الإسراء والهجرة سنة وشهران انتهى .

وكان الإسراء مرّةً واحدةً وقيل : مرّة يقظة ومرّةً مناماً ، وأربابُ هذا القول كأنّهم أرادوا أنْ يجمعوا بين حديث شريك وقوله ثمّ استيقظت ، وبين سائر الروايات ، ومنهم من قال : بل كان هذا مرّتين ، مرّةً قبل الوحي ، لقوله في حديث شريك : وذلك قبل أنْ يوحى إليه ، ومرّةً بعد الوحي ، كما دلّت عليه سائر الأحاديث ، ومنهم مَن قال : بل ثلاثِ مرّات ، مرّةً قبل الوحي ومرّتين بعده .

وكلّ هذا خبط ، وهذه طريقة ضعفاء الظاهريّة مِن أرباب النقل الذين إذا رأوا في القصّة لفظةً تُخالف سياق بعض الروايات جعلوه مرّةً أُخرى ، فكلّما اختلفت عليهم الروايات عدّدوا الوقائع .

والصواب الذي عليه أئمّة النقل : أنّ الإسراء كان مرّةً واحدةً بمكّة بعد البعثة .

ويا عجباً لهؤلاء الذين زعموا أنّه مراراً كيف ساغ لهم أنْ يظنّوا أنّه في كلّ مرّة تفرض عليه الصلاة خمسين ، ثمّ يتردّد بين ربّه وبين موسى حتّى تصير خمساً ثمّ يقول : أمضيت فريضتي وخفّفت عن عبادي ، ثمّ يعيدها في المرّة الثانية إلى خمسين ، ثمّ يحطّها عشراً عشراً.

وقد غلّط الحفّاظ شريكاً في ألفاظٍ مِن حديث الإسراء ، ومسلم أورد المسند منه ثمّ قال : فقدّم وأخّر وزاد ونقّص ، ولم يورد الحديث فأجاد رحمه الله )(١) .

ـــــــــــــــــــ

(١) زاد المعاد في هدي خير العباد ٣ : ٤١ ـ ٤٢ فصلٌ في المعراج النبويّ .

٤٠٦

صحيح مسلم

وأمّا مسلم بن الحجّاج... فإنّه ـ كما قالوا ـ كان يرتكب الغمز بالرجال الصادقين الثقات عندهم بلا حجّة ، ومِن ذلك ما كان منه في ( إبراهيم بن عبد الله السعدي ) قال الذهبي : ( إبراهيم بن عبد الله السعدي النيسابوري ، صدوقٌ ، له عن يزيد بن هارون ونحوه .

قال أبو عبد الله الحاكم : كان يستخفُّ بمسلم ، فغمزه مسلم بلا حجّة )(١) .

ولا ريب أنّ هذا يضرّ بعدالة مسلم ويمنع مِن الاعتماد عليه وعلى رواياته في كتابه ، ولذا قال ابن الجوزي : ( ومِن تلبيس إبليس على أصحاب الحديث : قدح بعضهم في بعض ، طلباً للتشفّي ، ويخرجون ذلك مخرج الجرح والتعديل الذي استعملت قدماء هذه الأُمّة للذبّ عن الشرع )(٢) .

أبو زرعة الرّازي وصحيح مسلم

هذا ، وقد اشتهر بين الأعلام طعن الإمام أبي زرعة الرّازي وتكلّمه في كتاب مسلم بن الحجّاج ، ففي ترجمة أحمد بن عيسى المصري من( التهذيب ) و( الميزان ) : ( قد قال سعيد البردعي : شهدت أبا زرعة ذُكر عنده صحيح مسلم فقال : هؤلاء قومٌ أرادوا التقدّم قبل أوانه ، فعملوا شيئاً يتسوّقون به )(٣) .

وقال أبو الفضل الأدفوي في( الإمتاع ) : ( وكان أبو زرعة يذمّ وضِع كتاب مسلم ويقول : كيف تسمّيه الصحيح وفيه فلان وفلان ؟ فذكر جماعة ) .

ـــــــــــــــــــ

(١) ميزان الاعتدال ١ : ٤٤ .

(٢) تلبيس إبليس : ١٣٥ .

(٣) ميزان الاعتدال ١ : ١٢٦ .

٤٠٧

الموضوعات في صحيح مسلم

وبعد الوقوف على طرفٍ من أسباب القدح في مسلم بن الحجّاج ، وعلى طعن من مثل أبي زرعة في كتابه عموماً ، فلا بدّ من إيراد بعض أحاديثه الموضوعة والباطلة :

حديث الضحضاح

فمن أحاديثه الموضوعة والمكذوبة : حديثه في أنّ أبا طالب في ضحضاحٍ من النار ، قال : ( حدّثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، ومحمّد بن أبي بكر المقدمي ، ومحمّد بن عبد الملك الأموي قالوا : حدّثنا أبو عوانة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن العبّاس بن عبد المطّلب أنّه قال : يا رسول الله ، هل نفعت أبا طالب بشيءٍ ، فإنّه كان يحوطك ويغضب لك ؟ قال : نعم ، هو في ضحضاحٍ من نار ، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار )(١) .

وهذه الأحاديث التي أخرجها البخاري ومسلم كلّها موضوعةٌ مُفتراة ، قد وُضِعت للطعن في أمير المؤمنينعليه‌السلام والتنقيص في شأنه ، ولأجل رفع شأن أبي بكر بن أبي فحافة...

إنّه ليكفي لتكذيب ما رَوَوه في موت سيّدنا أبي طالب على الكفر : ما

رواه ابن سعد في الطبقات قال : ( حدّثني الواقدي قال : قال عليّ : لمّا توفّي أبو طالب أخبرت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فبكى بكاءً شديداً ، ثمّ قال :

( اذهب فاغسله وكفّنه وواره ، غفر الله له ورحمه ) .

فقال له العبّاس : يا رسول الله ، إنّك ترجو له ؟

فقال :( إي والله إنّي لأرجو له ) .

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح مسلم ١ : ١٣٤ كتاب الإيمان ـ باب شفاعة النبيّ لأبي طالب .

٤٠٨

وجعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستغفر له أيّاماً لا يخرج مِن بيته .

وقال الواقدي : قال ابن عبّاس : عارض رسول الله جنازة عمّه أبي طالب وقال :( وصلتك رحم وجزاك الله خيراً ) (١) .

هذا ، وقد أجمع أهل البيتعليهم‌السلام على إيمان سيّدنا أبي طالب ، وإجماعهم حجّة قطعيّة كما تَقرّر في محلّه ، وقد ذكر علماء السنّة إجماعهم على ذلك ، ففي( روضة الأحباب ) عن ابن الأثير في( جامع الأُصول ) قوله : ( زعم أهل البيت أنّ أبا طالب مات مسلماً ، والله أعلم بصحّته ) .

على أنّ أهل السنّة يدّعون المتابعة لأهل البيت والانقياد لهم ، كما جاء في كتبهم ، بشرح ( حديث الثقلين ) وبذيل حديث( مثل أهل بيتي كسفينة نوح ) ، فإنْ كانوا صادقين في دعواهم تلك ، فلا محالة لا يخالفون أهل البيت في إجماعهم على إيمان أبي طالبعليه‌السلام .

على أنّ أحاديث مسلم في هذا الباب متناقضة متهافتة ، إذ الحديث المذكور يدلّ على أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد شفع له قبل القيامة وأخرجه بالفعل من غمرات العذاب إلى ضحضاحٍ من نارٍ ، وحديث أبي سعيد

صريحٌ في عدم وقوع الشفاعة في حقّه وأنّ عذابه لم يخفّف بل إنّ النبيّ يرجو أنْ تناله شفاعته في يوم القيامة وتنفعه في خروجه مِن الدركات السافلة إلى الضحضاح... فكان بعض تلك الأحاديث صريحاً في وقوع تخفيف العذاب عن أبي طالب بالفعل وبعض صريحاً في عدم حصول التخفيف ، فتهافتا وتناقضا بكلّ وضوح .

ـــــــــــــــــــ

(١) الطبقات الكبرى ١ : ١٢٣ ـ ١٢٤ .

٤٠٩

الحديث الدالّ على تعيين أبي بكر للخلافة !!

ومن ذلك : حديثه المتضمّن تعيين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر للخلافة من بعده ، وهو حديث موضوع مفترى قطعاً قال في كتاب المناقب :

((حدّثني عبيد الله بن سعيد، حدّثا يزيد بن هارون، أخبرنا إبراهيم بن سعد، حدّثنا صالح بن كيسان ، عن الزهري ، عن عروة عن عائشة ـ ري الله عنها ـ قالت: قال لي رسول الله في مرضه : أُدعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتّى أكتب كتاباً ، فإنّي أخاف أن يتمنَّ متمنٍّ ويقول القائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر )(١) .

وهذا الحديث أخرجه البخاري أيضاً ، ولفظه في كتاب المرضى :

( لقد هممت أو أردت أنْ أرسل إلى أبي بكر وابنه واعهد أنْ يقول القائلون أو يتمنّى المتمنّون ، ثمّ قلت : يأبى الله ويدفع المؤمنون ، أو يدفع الله ويأبى المؤمنون )(٢) .

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح مسلم ٤ : ١٨٥٧ / ٢٣٨٧ .

(٢) صحيح البخاري ٧ : ٢١٨ .

٤١٠

وهذا الحديث الذي قال النووي بشرحه: ( في هذا الحديث دلالة ظاهرة لفضل أبي بكر الصدّيقرضي‌الله‌عنه ، وإخبار منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما سيقع في المستقبل بعد وفاته ، وأنّ المسلمين يأبون عقد الخلافة لغيره )(١) .

ظاهر الكذب والبطلان ، لاتّفاق القوم أنفسهم على أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينصّ على أبي بكر بالخلافة ، ولو كان مثل هذا الكلام صادراً منه حقّاً لما احتجّوا بالأباطيل الواهيات ، ولما وقعت الاختلافات والنزاعات...

ولقد نصّ النووي ـ بشرح حديث : من كان رسول الله مستخلفاً لو استخلفه ؟ ـ : على أنّ ( فيه دلالة لأهل السنّة أنّ خلافة أبي بكر ليست بنصٍ مِن النبيّ على خلافته صريحاً ، بل أجمعت الصحابة على عقد الخلافة له وتقديمه بفضله ، ولو كان هناك نصّ عليه ، أو على غيره لم يقع المنازعة من الأنصار وغيرهم أوّلاً ، ولذَكر حافظُ النص ما معه ، ولرَجعوا ، ولكنْ تنازعوا أوّلاً ولم يكن هناك نص ، ثمّ اتفقوا على أبي بكر واستقرّ الأمر .

وأمّا ما تدّعيه الشيعة مِن النص على عليّ والوصيّة إليه ، فباطل لا أصل له باتّفاق المسلمين ، والاتفاق على بطلان دعواهم في زمن عليّ ، وأوّل مَن كذّبهم عليّ بقوله : ما عندنا إلاّ ما في هذه الصحيفة )(٢) .

فتراه يستدلّ بما كان في السقيفة ، ولو كان ما أورد مسلم صحيحاً لما احتاج إلى ذلك !!

وعلى الجملة ، فإنّ هذا الحديث لو صحّ لاستدلّ به القوم على إمامة أبي بكر ولم يقولوا بعدم النصّ على خلافته ، ولم يتشبّثوا بالخرافات والأباطيل

ـــــــــــــــــــ

(١) شرح مسلم للنووي ١٥ : ١٥٥ .

(٢) شرح مسلم للنووي ١٥ : ١٥٤ ـ ١٥٥ .

٤١١

الأُخرى ، فإنّه حتّى لو كان وارداً مورد الإخبار عن الغيب ، لكان الاستدلال به دون غيره أولى وأحرى...

وقد نصّ أبو السعادات ابن الأثير أيضاً على عدم النصّ على أبي بكر حيث قال : ( ولا يصدَّق الشيعة بنقل النص على إمامة عليّ ( كرّم الله وجهه ) والبكريّة على إمامة أبي بكررضي‌الله‌عنه ؛ لأنّ هذا وضعه الآحاد أوّلاً وأفشوه ، ثمّ كثر الناقلون في عصره وبعده من الأعصار ، فلذلك لم يحصل التصديق )(١) .

فوا أسفاه على البخاري ومسلم ، إذْ أُشرب في قلوبهما حبّ الشيخين ، فنقلا مثل هذه الأكاذيب والخرافات ، التي نصّ أئمّتهم على كونها من افتراءات البكريّة وأخبارهم الموضوعات .

حديث أنّ عمر أوّل مَن أمر بالأذان

ومن ذلك : ما أخرجه مسلم في كتاب الصّلاة ، باب بدء الأذان :

( حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال : جدّثنا محمّد بن بكر ، ح وحدّثنا محمّد بن رافع قال : حدّثنا عبد الرزّاق قال : أخبرنا ابن جريج ، ح وحدّثني هارون ابن عبد الله ـ واللفظ له ـ قال : حدّثنا حجّاج بن محمّد قال : قال ابن جريج : أخبرني نافع مولى ابن عمر ، عن عبد الله بن عمر أنّه قال : كان المسلمون حين قدِموا المدينة يجتمعون فيتحيّنون الصّلوات ، وليس ينادي بها أحد ، فتكلّموا يوماً في ذلك ، فقال بعضهم : اتّخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى ، وقال بعضهم : قرناً مثل قرن اليهود ، فقال عمر : أو لا تبعثون منادياً

ـــــــــــــــــــ

(١) جامع الأُصول ١ : ١٢١ .

٤١٢

ينادي بالصّلاة قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( يا بلال ، قم فنادِ بالصّلاة ) (١) .

وهذا حديثٌ موضوع ، وضعه مَن يسعى وراء جعل المناقب لعمر بن الخطّاب ، وهو ينافي ما وضعوه في الأذان مِن أنّ تشريعه كان برؤيا رآها رجلٌ مِن الأنصار ، كما في سُنُن أبي داود وغيره .

على أنّ الحقّ ما روي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام مِن أنّ تشريع الأذان كان في ليلة الإسراء ، وقد أذّن جبرئيل في بيت المقدّس ، وما سواه فمن وضع الملحدين .

حديثان متناقضان في موضع صلاة النبيّ الظهر في حجّة الوداع

ومن ذلك : حديثان متناقضان أخرجهما مسلم ، وأخرج البخاري أحدهما ، في موضع صلاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الظهر يوم النحر في حجّة الوداع ، فأخرج عن عائشة وجابر أنّه صلاّها بمكّة ، وأخرج هو والبخاري عن ابن عمر أنّه صلاّها بمنى ، قال القاري في كتابه في( الرجال ) : ( قال ابن حزم في هاتين الروايتين : إحداهما كذب بلا شك ) .

وقد اختلف القوم في تعيين الصِدق مِن الكِذب منهما ، وقد شرح ابن القيّم اختلافهم في المقام حيث قال : ( فصلٌ : ثمّ رجع إلى منى ، واختلف أين صلّى الظهر يومئذ ، ففي الصحيحين عن ابن عمر أنّه أفاض يوم النحر ثمّ رجع فصلّى الظهر بمنى ، وفي صحيح مسلم عن جابر أنّه صلّى الظهر بمكّة ، وكذلك قالت عائشة ، واختلف في ترجيح أحد هذين القولين على الآخر ، فقال أبو

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح مسلم ١ : ٢٨٥ .

٤١٣

محمّد ابن حزم : قول عائشة وجابر أولى ، وتبعه على هذا جماعة ورجّحوا هذا القول بوجوه :

أحدها : إن راويه اثنان ، وهما أولى من الواحدالثاني : أنّ عايشة أخصّ الناس به ، ولها من القرب والاختصاص والمزيّة ما ليس لغيرها .

الثالث : أنّ سياق جابر لحجّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أوّلها إلى آخرها أتمّ سياق ، وقد حفظ القصّة وضبطها حتّى ضبط جزئيّاتها ، حتّى ضبط منها أمراً لا يتعلّق بالمناسك ، وهو نزول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة جمع الطريق ، فقضى حاجته عند الشعب ثمّ توضّأ وضوءاً خفيفاً ، فمَن ضبط هذا القدر فهو يضبط مكان صلاته يوم النحر بطريقٍ أولى .

الرابع : إنّ حجّة الوداع كانت في آذار ، وهي تساوي الليل والنهار ، وقد خرج من مزدلفة قبل طلوع الشمس إلى منى وخطب بها الناس ، ونحر بُدْناً عظيمةَ وقسمها ، وطبخ له مِن لحمها وأكل منه ، ورمى الجمرة وحلق رأسه وتطيّب وخطب ثمّ أفاض ، فطاف وشرب من ماء زمزم ومِن نبيذ السقاية ووقف عليهم وهم يسقون ، وهذه أعمال يبدو في الأظهر أنّها لا تنقضي في مقدار يُمكن معه الرجوع إلى منى بحيث يدرك وقت الظهر في فصل آذار .

الخامس : إنّ هذين الحديثين جاريان مجرى الناقل والمبقي ، فإنّ عادتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت في حجّته صلاته في منزله الذي هو نازل فيه بالمسلمين ، فجرى ابن عمر على العادة ، وضبط جابر وعائشة الأمر الذي هو خارج عن عادته ، فهو أولى بأنْ يكون هو المحفوظ .

٤١٤

ورجحت طائفة أُخرى قول ابن عمر لوجوه :

أحدها : أنّه لو صلّى الظهر بمكّة لم يُصَلِّ أصحابه بمنى وحداناً ولا زرافات ، بل لم يكن لهم بُدٌّ مِن الصلاة خلف إمامٍ يكون نائباً عنه ، ولم ينقل هذا أحدٌ قطّ ، ولم يقل أحدٌ أنّه استناب مَن يُصلّي بهم ، ولولا علمه أنّه يرجع إليهم فيصلّي بهم لقال : إنْ حضرَت الصّلاة ولستُ عندكم فليصلّ بكم فلان ، وحيث لم يقع هذا ولا هذا ، ولا صلّى الصحابة هناك وحداناً قطعاً ، ولا كان مِن عادتهم إذا اجتمعوا أنْ يصلّوا عزين ، علم أنّهم صلّوا معه على عادتهم.

الثاني : إنّه لو صلّى بمكّة ، لكان خلفه بعضُ أهل البلد وهو مقيم ، وكان يأمرهم أنْ يتمّوا صلاتهم ، ولنقل أنّهم قاموا فأتمّوا بعد سلامه صلاتهم ، وحيث لم ينقل هذا ولا هذا بل هو معلوم الانتفاء قطعاً ، عُلِم أنّه لم يُصلّ قطعاً حينئذٍ بمكّة .

وما نقله بعض من لا عِلم له أنّه قال : ( يا أهل مكّة ، أتمّوا صلاتكم فإنّا قوم سفر ) ، فإنّما قاله عام الفتح لا في حجّته .

الثالث : إنّه من المعلوم أنّه لمّا طاف ركَع ركعتيّ الطواف ، ومعلومٌ أنّ كثيراً من المسلمين كانوا خلفه يقتدون به في أفعاله ومناسكه ، فلعلّه لمّا ركَع ركعتيّ الطواف والناس خلفه يقتدون به ، ظنّ الظانّ أنّها صلاة الظهر ، ولا سيّما إذا كان ذلك في وقت الظهر ، وهذا الوهم لا يُمكن دفع احتماله ، بخلاف صلاته بمنى فإنّها لا تحتمل غير الفرض .

الرابع : إنّه لا يحفظ عنه في حجّه أنّه صلّى الفرض بجوفِ مكّة ، بل إنّما كان يصلّي بمنزله بالمسلمين مدّة مقامه ، كان يصلّي بهم أين نزلوا ، لا يصلّي في مكان آخر غير المنزل العام .

الخامس : إنّ حديث ابن عمر متّفق عليه ، وإنّ حديث جابر مِن أفراد مسلم ، فحديث ابن عمر أصحّ منه ، وكذلك هو في إسناده ، فإنّ راويه أحفظ وأشهر وأنفق ، فأين يقع حاتم بن إسماعيل من عبيد الله ؟ وأين يقع جعفر من حفظ نافع ؟

٤١٥

السادس : إنّ حديث عائشة قد اضطربت في وقت طوافه ، فروي عنها على ثلاثة أوجه : أحدها : أنّه طاف نهاراً ، الثاني : أنّه أخّر الطواف إلى الليل ، الثالث : أنّه أفاض مِن آخر يومه فلم يضبط فيه وقت الإفاضة ، ولا مكان الصّلاة ، بخلاف حديث ابن عمر .

السابع : إنّ حديث ابن عمر أصحّ منه بلا نزاع ، فإنّ حديث عائشة مِن رواية محمّد بن إسحاق ، عن عبد الرحمان بن القاسم ، عن أبيه عنها ، وابن إسحاق مختلف في الاحتجاج به ، ولم يصرّح بالسماع بل عنعنه ، فكيف يقدم على قول عبيد الله حدّثني نافع عن ابن عمر ؟

الثامن : إنّ حديث عائشة ليس بالبيّن إنّه صلّى الظهر بمكّة ، فإنّ لفظه هكذا : أفاض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في آخر يوم صلّى الظهر ثمّ رجع إلى منى ، فمكث فيها ليالي أيّام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس ، كلّ جمرة بسبعِ حَصَيَات ، فأين دلالة هذا الحديث الصريحة على أنّه صلّى الظهر يومئذٍ بمكّة ؟ وأين هذا في صريح الدلالة إلى قول ابن عمر أفاض يوم النحر ثمّ صلّى الظهر بمنى راجعاً ؟ وأين حديث اتّفق أصحاب الصحيح على إخراجه إلى حديث اختلف في الاحتجاج به ؟ والله أعلم )(١) .

حديثٌ في أوّل ما نزل من القرآن

ومن ذلك : ما أخرجه في أنّ أوّل ما نزل من القرآن :( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) ، وقد صرّح النووي بأنّه ضعيفٌ ، بل باطل... قال ولي الدين أبو زرعة أحمد بن زين الدين عبد الرحيم العراقي في شرح حديث بدء الوحي من ( شرح الأحكام الصغرى ) : ( فيه دلالةٌ واضحة على أنّ أوّل ما نزل من القرآن :( اقْرَأْ ) .

ـــــــــــــــــــ

(١) زاد المعاد ٢ : ٢٨٠ كيفيّة حجّة الوداع .

٤١٦

وقد صحّ ذلك عن عائشة ، ورُوي عن أبي موسى الأشعري وعبيد بن عمير ، قال النووي : وهو الصواب الذي عليه الجماهير مِن السلف والخلف وفيه قولان آخران : أحدهما إنّ أوّل ما نزل :( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله وأبي سلمة بن عبد الرحمان ، قال النووي : وهو ضعيفٌ بل باطل...) .

حديثٌ في فضائل أبي سفيان

ومِن ذلك : ما أخرجه في فضائل أبي سفيان وهذه عبارته :

( حدّثنا عبّاس بن عبد العظيم العنبري وأحمد بن جعفر المعقري قالا : حدّثنا النضر ـ وهو ابن محمّد اليمامي ـ قال : حدّثنا عكرمة ، حدّثنا أبو زميل ، حدّثني ابن عبّاس قال : كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يُقاعدونه ، فقال لنبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا نبي الله ، ثلاث أعطنيهنّ ، قال :نعم ، قال : عندي أحسن العرب وأجمله أُمّ حبيبة بنت أبي سفيان أُزوّجكها قال :نعم ، قال : معاوية تجعله كاتباً بين يدك ، قال :نعم ، قال : وتؤمّرني حتّى أُقاتل الكفّار كما كنت أُقاتل المسلمين .

قال :نعم . قال أبو زميل : ولولا أنّه طلب ذلك من النبيّ ما أعطاه ذلك ؛ لأنّه لم يكن يُسأل شيئاً إلاّ قال : نعم )(١) .

قال في( زاد المعاد ) :

( وأمّا حديث عكرمة بن عمّار: عن أبي زميل ، عن ابن عبّاس : إنّ أبا سفيان قال للنبيّ...

فهذا الحديث غلطٌ ظاهر لا خفاء به .

قال أبو محمّد ابن حزم : وهو موضوع بلا شك ، كذّبه عكرمة بن عمّار .

قال ابن الجوزي ـ في هذا الحديث ـ : هو وهمٌ مِن بعض الرواة ، لا شكّ فيه ولا تردّد .

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح مسلم ٤ : ١٩٤٥ / ٢٥٠١ .

٤١٧

وقد اتّهموا به عكرمة بن عمّار ؛ لأنّ أهل التواريخ أجمعوا على أنّ أُمّ حبيبة كانت تحت عبيد الله بن جحش ، ولدت له ، وهاجر بها وهما مسلمان إلى أرض الحبشة ، ثمّ تنصّر وثبتت أُمّ حبيبة على إسلامها ، فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى النجاشي يخطبها عليه ، فزوّجه إيّاها وأصدقها عن رسول الله صداقاً ، وذلك في سنة سبع من الهجرة ، وجاء أبو سفيان في زمن الهدنة ودخل عليها فثنت فراش رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى لا يجلس عليه .

ولا خلاف أنّ أبا سفيان ومعاوية أسلما في فتح مكّة سنة ثمان .

وأيضاً : في هذا الحديث : إنّه قال له : وتؤمّرني حتّى أُقاتل الكفّار كما كنت أُقاتل المسلمين فقال : نعم .

ولا يعرف أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمّر أبا سفيان البتّة )(١) .

من كلمات الأئمّة في الكتابين

وعلى الجملة ، فإنّ الأحاديث الموضوعة والباطلة في كتاب مسلم كثيرة مثل كتاب البخاري ، وقد أوردنا طرفاً منها ونكتفي بها .

ومن هنا ، فقد قال الملاّ عليّ القاري في كتاب( الرجال ) ما نصّه :

( وقد وقع منه ـ أيّ من مسلم ـ أشياء لا تقوى عند المعارضة ، فقد وضع الحافظ الرشيد العطّار كتاباً على الأحاديث المقطوعة ، وبيّنها الشيخ محيي الدين النووي في أوّل شرح مسلم .

وما يقوله الناس : إنّ مَن روى له الشيخان فقد جاز القنطرة ، هذا أيضاً مِن التجاهل والتساهل .

فقد روى مسلم في كتابه عن الليث عن أبي مسلم وغيره من الضعفاء .

فيقولون إنّما روى عنهم في كتابه للاعتبار والشواهد والمتابعات .

وهذا لا يقوى ؛ لأنّ الحفّاظ قالوا : الاعتبار أُمور يتعرّفون بها حال الحديث وكتاب مسلم التزم فيه الصحّة ، فكيف يتعرّف حال الحديث فالذي فيه بطريق ضعيفة .

ـــــــــــــــــــ

(١) زاد المعاد في هدي خير العباد ١ : ١١٠ .

٤١٨

وقال الحافظ : أبو الزبير محمّد بن مسلم المكّي يدلّس في حديث جابر ، فما يصفه بالعنعنة لا يقبل ، وقد ذكر ابن حزم وعبد الحقّ عن الليث بن سعد أنّه قال لأبي الزبير : علّم لي على أحاديث سمعتها من جابر حتّى أسمعها منك ، فعلَّم لي على أحاديث أظنّ أنّها سبعة عشر حديثاً فسمعتها منه قال الحافظ : فما كان من طريق الليث عن أبي الزبير عن جابر فصحيح .

وفي مسلم عن طريق الليث من أبي الزبير عن جابر بالعنعنة أحاديث .

وقد روى أيضاً ، في كتابه عن جابر وابن عمر في حجّة الوداع ، أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توجّه إلى مكّة يوم النحر ، فطاف طواف الإفاضة ثمّ رجع فصلّى الظهر بمنى ، فيوجّهون ويقولون : أعادها لبيان الجواز ، وغير ذلك من التأويلات ، ولهذا قال ابن حزم في هاتين الروايتين أحدهما كذِب بلا شكّ .

وروى مسلم أيضاً حديث الإسراء فيه : وذلك قبل أنْ يُوحى إليه ، وقد تكلّم الحفّاظ في هذه اللّفظة وبيّنوا ضعفها .

وقد روى مسلم أيضاً : خلق الله التربة يوم السبت واتّفق الناس على أنّ السبت لم يقع فيه خلق ، وأنّ ابتداء الخلْق يوم الأحد .

وقد روى مسلم عن أبي سفيان أنّه قال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا أسلم : يا رسول الله ، أعطني ثلاثاً : تزوّج ابنتي أُمّ حبيبة ، وابني معاوية أجعله كاتباً ، وأمّرني أنْ أُقاتل الكفّار كما قاتلت المسلمين ، فأعطاه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما سأله .

والحديث معروف مشهور ، وفي هذا مِن الوهم ما لا يُحصى ، فأُمّ حبيبة تزوّجها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي بالحبشة ، وأصدقها النجاشي أربعمِئة دينار وحضر وخطب وأطعم ، والقصّة مشهورة ، وأبو سفيان وابنه معاوية إنّما أسلما عام الفتح وبين الهجرة إلى الحبشة والفتح عدّة سنين ، والجمهور على أنّها تزوّجها سنة ستّ ، وقيل سبْع ، وأسلم أبو سفيان عام الفتح سنة ثمان منٍ الهجرة ، وأمّا إمارة أبي سفيان فقد قال الحفّاظ أنّه لا يعرفونها .

٤١٩

فيجيبون بأجوبة غير طائلة ، فيقولون في إنكاح ابنته : إعتقد أنّ نكاحها بغير إذنه لا يجوز وهو حديث عهد بالكفر ، فأراد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجديد النكاح ، ويذكرون عن الزبير بن بكّار عن الزبير بن بكّار بأسانيدٍ ضعيفة أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمّره في بعض الغزوات ، وهذا لا يعرفه الأثبات .

وقد قال الحافظ : إنّ مسلماً لمّا وضَعَ كتابه الصحيح عرضه على أبي زرعة ، فأنكر عليه وتَغَيّظ وقال : سمَّيْتَه الصحيح وجعلته سُلَّماً لأهل البِدَع وغيرهم ) .

وقال ابن تيميّة :

( والمواضع المنتقدة غالبها في مسلم ، وقد انتصر طائفة لهما ـ يعني للبخاري ومسلم ـ فيها ، وطائفة قَوّت قول المنتقد ، والصحيح التفصيل ، فإنّ فيهما مواضعَ منتقدة بلا ريب مثل حديث : خلَق الله التربة يوم السبت ، وحديث : صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وأكثر )(١) .

وقال كمال الدين أبو الفضل الأدفوي في( الإمتاع في أحكام السماع ) :

( ثمّ أقول : إنّ الأُمّة تلقّت كلّ حديثٍ صحيح وحسن بالقبول وعملت به عند عدم العارض ، وحينئذٍ لا يختصّ بالصحيحين ، وقد تلقّت الأُمّة الكُتب الخمسة أو الستّة بالقبول ، وأطلق عليها جماعة اسم الصحيح ، ورجّح بعضهم بعضها على كتاب مسلم وغيره .

قال أبو سليمان أحمد الخطابي : كتاب السُنن لأبي داود كتابٌ شريف لم يصنّف في الدين كتابٌ مثله ، وقد رُزِق مِن الناس القبول كافّة ، فصار حكَماً بين فِرق العلماء وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم ، وكتاب السُنن أحسن وضعاً وأكثر فقهاً من كتب البخاري ومسلم .

وقال الحافظ أبو الفضل محمّد بن طاهر المقدسي : سمِعت الإمام أبا الفضل عبد الله بن محمّد الأنصاري بهراة يقول ـ وقد جرى بين يديه ذكر أبي عيسى الترمذي وكتابه فقال ـ : كتابه عندي أنفع مِن كتاب البخاري ومسلم .

ـــــــــــــــــــ

(١) منهاج السنّة ٧ : ٢١٥ وانظر ٥ : ١٠١ .

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456