استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

استخراج المرام من استقصاء الإفحام13%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 456

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 456 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 227245 / تحميل: 8338
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

الصفحة ٥٢٣

معذور، لا من حيث العقاب ولا من جهة سائر الاثار، بمعنى أن شيئا من آثار الشئ المجهول عقابا أو غيره من الاثار المترتبة على ذلك الشئ في حق العالم لا يرتفع عن الجاهل لاجل جهله.

وقد إستثنى الاصحاب من ذلك القصر والاتمام والجهر والاخفات، فحكموا بمعذورية الجاهل في هذين الموضعين.

وظاهر كلامهم إرادتهم العذر من حيث الحكم الوضعي، وهي الصحة بمعنى سقوط الفعل ثانيا دون المؤاخذة.

وهو الذي يقتضيه دليل المعذورية في الموضعين أيضا.

فحينئذ يقع الاشكال في أنه إذا لم يكن معذورا من حيث الحكم التكليفي كسائر الاحكام المجهولة للمكلف المقصر، فيكون تكليفه بالواقع وهو القصر بالنسبة إلى المسافر باقيا.

وما يأتي به من الاتمام المحكوم بكونه مسقطا، إن لم يكن مأمورا به فكيف يسقط الواجب، وإن كان مأمورا به فكيف يجتمع الامر به مع فرض وجود الامر بالقصر.

ودفع هذا الاشكال، إما بمنع تعلق التكليف فعلا بالواقعي المتروك، وإما بمنع تعلقه بالمأتي به، وإما بمنع التنافي بينهما.

فالاول: إما بدعوى كون القصر مثلا واجبا على المسافر العالم، وكذا الجهر والاخفات.

وإما بمعنى معذوريته فيه، بمعنى كون الجهل بهذه المسألة كالجهل بالموضوع، يعذر صاحبه ويحكم عليه ظاهرا، بخلاف الحكم الواقعي.

وهذا الجاهل وإن لم يتوجه إليه خطاب مشتمل على حكم ظاهري، كما في الجاهل بالموضوع، إلا أن مستغنى عنه بإعتقاده لوجوب هذا الشئ عليه في الواقع.

وإما من جهة القول بعدم تكليف الغافل بالواقع وكونه مؤاخذا على ترك التعلم، فلا يجب عليه القصر، لغفلته عنه.

نعم يعاقب على عدم إزالة الغفلة، كما تقدم إستظهاره من صاحب المدارك و من تبعه.

وإما من جهة تسليم تكليفه بالواقع، إلا أن الخطاب بالواقع ينقطع عند الغفلة لقبح خطاب العاجز.

وان كان العجز بسوء إختياره فهو معاقب حين الغفلة على ترك القصر، لكنه ليس مأمورا به حتى يجتمع مع فرض وجود الامر بالاتمام.

لكن هذا كله خلاف ظاهر المشهور، حيث أن الظاهر منهم كما تقدم بقاء التكليف بالواقع المجهول بالنسبة إلى الجاهل.

ولذا يبطلون صلاة الجاهل بحرمة الغصب، إذ لولا النهي حين الصلاة لم يكن وجه للبطلان.

والثاني: منع تعلق الامر بالمأتي به وإلتزام أن غير الواجب مسقط عن الواجب، فإن قيام ما

١٢١

الصفحة ٥٢٤

اعتقد وجوبه مقام الواجب الواقعي غير ممتنع.

نعم قد يوجب إتيان غير الواجب فوات الواجب فيحرم، بناء على دلالة الامر بالشئ على النهي عن الضد، كما في آخر الوقت، حيث يستلزم فعل التمام فوت القصر.ويرد هذا الوجه أن الظاهر من الادلة كون المأتي به مأمورا به في حقه.

مثل قوله عليه السلام في الجهر والاخفات: (تمت صلاته)، ونحو ذلك.

والموارد التي قام فيها غير الواجب مقام الواجب نمنع عدم وجوب البدل، بل الظاهر في تلك الموارد سقوط الامر الواقعي وثبوت الامر بالبدل، فتأمل.

والثالث: بما ذكره كاشف الغطاء، رحمه الله، من أن التكليف بالاتمام مرتب على معصية الشارع بترك القصر، فقد كلفه بالقصر والاتمام على تقدير معصية في التكليف بالقصر.

وسلك هذا الطريق في مسألة الضد في تصحيح فعل غير الاهم من الواجبين المضيقين، إذا ترك المكلف الامتثال بالاهم.

ويرده: أنا لا نعقل الترتب في المقامين، وإنما يفعل ذلك فيما إذا حدث التكليف الثاني بعد تحقق معصية الاول.

كمن عصى بترك الصلاة مع الطهارة الترابية فكلف لضيق الوقت بالبراء‌ة.

الثالث إن وجوب الفحص إنما هو في إجراء الاصل في الشبهة الحكمية الناشية من عدم النص أو إجمال بعض ألفاظه او تعارض النصوص.

أما إجراء الاصل في الشبهة الموضوعية: فإن كانت الشبهة في التحريم، فلا إشكال ولا خلاف ظاهرا في عدم وجوب الفحص.

ويدل عليه إطلاق الاخبار، مثل قوله عليه السلام: (كل شئ لك حلال حتى تعلم)(١)، وقوله: (حتى يستبين لك غير هذا او تقوم به البينة)(٢)، وقوله: (حتى يجيئك شاهدان يشهدان أن فيه الميتة)(٣)، وغير ذلك، السالم عما يصلح لتقييدها.

وإن كانت الشبهة وجوبية، فمقتضى أدلة البراء‌ة حتى العقل كبعض كلمات العلماء عدم وجوب الفحص أيضا وهو مقتضى حكم العقلاء في بعض الموارد.

مثل قول المولى لعبده: (أكرم العلماء أو المؤمنين)، فإنه لا يجب الفحص في المشكوك حاله في المثالين، إلا أنه قد يترا اى أن بناء

____________________

(١) الكافي (الفروع) ج ٦، ص ٣٣٩.

(٢) الكافي، ج ٥، ص ٣١٣.

(٣) الكافي (الفروع)، ج ٦، ص ٣٣٩: (كل شئ كل حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان عندك أن فيه ميتة).

ص ٢٢٤.

١٢٢

الصفحة ٥٢٥

العقلاء في بعض الموارد على الفحص والاحتياط.

كما إذا أمر المولى بإحضار علماء البلد أو أطبائها أو إضافتهم أو إعطاء كل واحد منهم دينارا.

فإنه قد يدعى أن بناء‌هم على الفحص عن أولئك وعدم الاقتصار على المعلوم إبتداء مع إحتمال وجود غيرهم في البلد.

قال في المعالم، في مقام الاستدلال على وجوب التبين في خبر مجهول الحال بآية التثبت في خبر الفاسق: (إن وجوب التثبت فيها متعلق بنفس الوصف، لا بما تقدم العلم به منه.

ومقتضى ذلك إرادة الفحص والبحث عن حصوله وعدمه.

ألا ترى أن قول القائل: (أعط كل بالغ رشيد من هذه الجماعة مثلا درهما)، يقتضي إرادة السؤال والفحص عمن جمع الوصفين، لا الاقتصار على من سبق العلم بإجتماعهما فيه)(١)، إنتهى.

وأيد ذلك المحقق القمي، رحمه الله، في القوانين ب‍ (أن الواجبات المشروطة بوجود شئ إنما يتوقف وجوبها على وجود الشرط لا على العلم بوجوده.فبالنسبة إلى العلم مطلق لا مشروط.مثل أن من شك في كون ماله بمقدار إستطاعة الحج، لعدم علمه بمقدار المال.

لا يمكنه أن يقول: إني لا أعلم أني مستطيع ولا يجب علي شئ، بل يجب عليه محاسبة ماله ليعلم أنه واجد للاستطاعة أو فاقد لها.

نعم لو شك بعد المحاسبة في أن هذا المال هل يكفيه في الاستطاعة أم لا، فالاصل عدم الوجوب حنيئذ)(١).

ثم ذكر المثال المذكور في المعالم بالتقريب المتقدم عنه(٢).

وأما كلمات الفقهاء فمختلفة في فروع هذه المسألة: فقد أفتى جماعة منهم، كالشيخ والفاضلين وغيرهم، بأنه لو كان له فضة مغشوشة بغيرها وعلم بلوغ الخالص نصابا وشك في مقداره وجب التصفية، ليحصل العلم بالمقدار أو الاحتياط بمقدار ما تيقن معه البراء‌ة.

نعم إستشكل في التحرير في وجوب ذلك، وصرح غير واحد من هؤلاء، مع عدم العلم ببلوغ الخالص النصاب، بأنه لا يجب التصفية، والفرق بين المسألتين مفقود إلا ما ربما يتوهم من أن العلم بالتكليف ثابت مع العلم ببلوغ النصاب، بخلاف ما لم يعلم به.

وفيه: أن العلم بالنصاب لا يوجب الاحتياط مع القدرة المتيقن ودوران الامر بين الاقل والاكثر مع كون الزائد على تقدير وجوبه تكليفا مستقلا.ألا ترى أنه لو علم بالدين وشك في قدره، لم

____________________

(١) معالم الدين، ص ٢٠١.

(٢) القوانين المحكمة، ص ٢٢٤.

١٢٣

الصفحة ٥٢٦

يوجب ذلك الاحتياط والفحص، مع أنه لو كان هذا المقدار يمنع من إجراء البراء‌ة قبل الفحص لمنع منها بعده، إذ العلم الاجمالي لا يجوز معه الرجوع إلى البراء‌ة ولو بعد الفحص.

وقال في التحرير في باب نصاب الغلات: (ولو شك في البلوغ، ولا مكيال هنا ولا ميزان، ولم يوجد، سقط الوجوب دون الاستحباب)(١) إنتهى.وظاهره جريان الاصل مع تعذر الفحص وتحصيل العلم.

وبالجملة فما ذكروه من إيجاب تحصيل العلم بالواقع مع التمكن في بعض افراد الاشتباه في الموضوع مشكل.

وأشكل منه فرقهم بين الموارد، مع ما تقرر عندهم من أصالة نفي الزائد عند دوران الامر بين الاقل والاكثر.

وما ما ذكره صاحب المعالم، رحمه الله، وتبعه عليه المحقق القمي، رحمه الله، من تقريب الاستدلال بآية التثبت على رد خبر مجهول الحال من جهة إقتضاء تعلق الامر بالموضوع الواقعي المقتضي وجوب الفحص عن مصاديقه وعدم الاقتصار على القدر المعلوم(٢) فلا يخفي ما فيه، لان رد خبر مجهول الحال ليس مبنيا على وجوب الفحص عند الشك وإلا لجاز الاخذ به ولم يجب التبين فيه بعد الفحص واليأس عند العلم بحاله، كما لا يجب الاعطاء في المثال المذكور بعد الفحص عن حال المشكوك وعدم العلم بإجتماع الوصفين فيه، بل وجه رده قبل الفحص وبعده أن وجوب التبين شرطي، ومرجعه إلى إشتراط قبول الخبر في نفسه من دون إشتراط التبين فيه بعدالة المخبر.

فإذا شك في عدالته شك في قبول خبره في نفسه، والمرجع في هذا الشك والمتعين فيه عدم قبول، لان عدم العلم بحجية شئ كاف في عدم حجيته.

ثم الذي يمكن أن يقال في وجوب الفحص أنه إذا كان العلم بالموضوع المنوط به التكليف يتوقف كثيرا على الفحص بحيث لو أهمل الفحص لزم الوقوع في مخالفة التكليف كثيرا تعين هنا بحكم العقلاء إعتبار الفحص ثم العمل بالبراء‌ة، كبعض الامثلة المتقدمة.فإن إضافة جميع علماء البلد أو أطبائهم لا يمكن للشخص الجاهل إلا بالفحص.

فإذا حصل العلم ببعض، واقتصر على ذلك نافيا لوجوب إضافة من عداه بأصالة البراء‌ة من غير تفحص زائد على ما حصل به المعلومين عد مستحقا للعقاب والملامة عند إنكشاف ترك إضافة من يتمكن من تحصيل العلم به بفحص زائد.ومن هنا يمكن أن يقال في مثال الحج المتقدم: إن العلم بالاستطاعة في أول ازمنة حصولها

____________________

(١) تحرير الاحكام، ص ٦٢.

(٢) معالم الدين، ص ٢٠١.

١٢٤

الصفحة ٥٢٧

يتوقف غالبا على المحاسبة.فلو بنى الامر على تركها ونفي وجوب الحج بأصالة البراء‌ة لزم تأخير الحج عن أول سنة الاستطاعة بالنسبة إلى كثير من الاشخاص، لكن الشأن في صدق هذه الدعوى.

وأما ما استند إليه المحقق المتقدم من أن الواجبات المشروطة يتوقف وجوبها على وجود الشرط لا العلم بوجوده ففيه: أنه مسلم، ولا يجدي، لان الشك في وجود الشرط يوجب الشك في وجوب المشروط وثبوت التكليف والاصل عدمه.

غاية الامر الفرق بين إشتراط التكليف بوجود الشئ وإشتراطه بالعلم به، إذ مع عدم العلم في الصورة الثانية نقطع بإنتفاء التكليف من دون حاجة إلى الاصل وفي الصورة الاولى يشك فيه، فينفى بالاصل.

١٢٥

الصفحة ٥٢٨

وأما الكلام في مقدار الفحص

فملخصه أن حد الفحص هو اليأس عن وجدان الدليل فما بأيدينا من الادلة ويختلف ذلك بإختلاف الاعصار.

فإن في زماننا هذا إذا ظن المجتهد بعدم وجود دليل التكليف في الكتب الاربعة وغيرها من الكتب المعتبرة في الحديث التي يسهل تناولها على نوع أهل العصر، على وجه صار مأيوسا، كفى ذلك منه في إجراء البراء‌ة.

أما عدم وجوب الزائد، فللزوم الحرج وتعطيل إستعلام سائر التكاليف، لان إنتهاء الفحص في واقعة إلى حد يحصل العلم بعدم وجود دليل التكليف يوجب الحرمان من الاطلاع على دليل التكليف في غيرها من الوقائع.

فيجب فيها إما الاحتياط، وهو يؤدي إلى العسر، وإما لزوم التقليد لمن بذل فيها جهده على وجه علم بعدم دليل التكليف فيها.

وجوازه ممنوع، لان هذا المجتهد المتفحص ربما يخطئ ذلك المجتهد في كثير من مقدمات إستنباطه للمسألة.

نعم لو كان جميع مقدماته مما يرتضيها هذا المجتهد وكان التفاوت بينهما أنه أطلع على ما لم يطلع هذا، أمكن أن يكون قوله حجة في حقه.

لكن اللازم حينئذ أن يتفحص في جميع المسائل إلى حيث يحصل الظن بعدم وجود دليل التكليف، ثم الرجوع إلى هذا المجتهد.فإن كان مذهبه مطابقا للبراء‌ة كان مؤيدا لما ظنه من عدم الدليل.وإن كان مذهبه مخالفا للبراء‌ة كان شاهد عدل على وجود دليل التكليف.

فإن لم يحتمل في حقه الاعتماد على الاستنباطات الحدسية أو العقلية من الاخبار، أخذ بقوله في وجود دليل وجعل فتواه كروايته.

ومن هذا القبيل ما حكاه غير واحد، من أن القدماء كانوا يعملون برسالة الشيخ أبي الحسن علي بن بابويه عن إعواز النصوص.

والتقييد بإعواز النصوص مبني على ترجيح النص المنقول بلفظه على الفتوى التي يحتمل الخطأ في النقل بالمعنى.

وإن احتمل في حقه إبتناء فتواه على الحدس والعقل، لم يكن دليل على إعتباره في حقه وتعين العمل بالبراء‌ة.

١٢٦

الصفحة ٥٢٩

تذنيب ذكر الفاضل التوني لاصل البراء‌ة شروطا أخر الاول: أن لا يكون إعمال الاصل موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة أخرى، مثل أن يقال، في أحد الانائين المشتبهين: الاصل عدم وجوب الاجتناب عنه، فإنه يوجب الحكم بوجوب الاجتناب عن الاخر أو عدم بلوغ الملاقي للنجاسة كرا و عدم تقدم الكرية حيث يعلم بحدوثها على ملاقاة النجاسة، فإن إعمال الاصول يوجب الاجتناب عن الاناء الاخر أو الملاقي أو الماء.

أقول: توضيح الكلام في هذا المقام أن إيجاب العمل بالاصل لثبوت حكم آخر إما بإثبات الاصل المعمول به لموضوع أنيط به حكم شرعي، كأن يثبت بالاصل براء‌ة ذمة الشخص الواجد لمقدار الدين مانع عن الاستطاعة، فيدفع بالاصل ويحكم بوجوب الحج بذلك المال.

ومنه المثال الثاني، فإن أصالة عدم بلوغ الماء الملاقي للنجاسة كرا يوجب الحكم بقلته التي أنيط بها الانفعال.

وإما لاستلزام نفي الحكم به حكما يستلزم عقلا أو شرعا أو عادة ولو في هذه القضية الشخصية لثبوت حكم تكليفي في ذلك المورد أو في مورد آخر، كنفي وجوب الاجتناب عن أحد الانائين.

فإن كان إيجابه للحكم على الوجه الاول، كالمثال الثاني، فلا يكون ذلك مانعا عن جريان الاصل، لجريان أدلته من العقل والنقل من غير مانع.ومجرد إيجابه حكما وجوديا آخر لا يكون مانعا عن جريان أدلته.كما لا يخفى على من تتبع الاحكام الشرعية والعرفية.ومرجعه في الحقيقة إلى رفع المانع.

فإذا إنحصر الطهور في ماء مشكوك الاباحه بحيث لو كان محرم الاستعمال لم يجب الصلاة لفقد الطهورين.

فلا مانع من إجراء أصالة الحل وإثبات كونه واجدا للطهور فيجب عليه الصلاة.

١٢٧

الصفحة ٥٣٠

ومثاله العرفي ما إذا قال المولى لعبده: (إذا لم يكن عليك شغل واجب من قبلي فاشتغل بكذا).

فإن العقلاء يوجبون عليه الاشتغال بكذا إذا لم يعلم بوجوب شئ على نفسه من قبل المولى.

وإن كان على الوجه الثاني الراجح إلى وجود العلم الاجمالي بثبوت حكم مردد بين حكمين: فإن أريد بإعمال الاصل في نفي أحدهما إثبات الاخر، ففيه: أن مفاد أدلة أصل البراء‌ة مجرد نفي التكليف دون إثباته وإن كان الاثبات لازما واقعيا لذلك النفي.

فإن الاحكام الظاهرية إنما تثبت بمقدار مدلول أدلتها ولا يتعدى إلى أزيد منه بمجرد ثبوت الملازمة الواقعية بينه وبين ما ثبت، إلا أن يكون الحكم الظاهري الثابت بالاصل موضوعا لذلك الحكم الاخر، كما ذكرنا في مثال براء‌ة الذمة عن الدين والحج، وسيجئ توضيح ذلك في باب تعارض الاستصحابين.

وإن أريد بإعماله في أحدهما مجرد نفيه دون الاثبات، فهو جار، إلا أنه معارض بجريانه في الاخر.

فاللازم إما إجراؤه فيهما، فيلزم طرح ذلك العلم الاجمالي لاجل العمل بالاصل، وإما إهماله فيهما، فهو المطلوب، وإما إعمال أحدهما بالخصوص، فترجيح بلا مرجح.نعم لو لم يكن العلم الاجمالي في المقام مما يضر طرحه لزم العمل بهما.كما تقدم أنه أحد الوجهين فيما إذا دار الامر بين الوجوب والتحريم.

وكيف كان، فسقوط العمل بالاصل في المقام لاجل المعارض، ولا إختصاص لهذا الشرط بأصل البراء‌ة، بل يجري في غيره من الاصول والادلة.

ولعل مقصوده صاحب الوافية ذلك، وقد عبر هو، رحمه الله، [ عن هذا الشرط ] في باب الاستصحاب بعدم المعارض.

وأما أصالة عدم بلوغ الماء الملاقي للنجاسة كرا، فقد عرفت أنه لا مانع من إستلزام جريانها الحكم بنجاسة الملاقي، فإنه نظير أصالة البراء‌ه من الدين المستلزم لوجوب الحج.

وقد فرق بينهما المحقق القمي، رحمه الله، حيث إعترف بأنه لا مانع من إجراء البراء‌ة في الدين وإن إستلزم وجوب الحج، ولم يحكم بنجاسة الماء مع جريان أصالة عدم الكرية، جمعا بينها وبين أصالة طهارة الماء.

ولم يعرف وجه فرق بينهما أصلا.(١)

____________________

(١) القوانين المحكمة، ص ٢٧٢

١٢٨

الصفحة ٥٣١

ثم إن مورد الشك في البلوغ كرا الماء المسبوق بعدم الكرية.وأما المسبوق بالكرية، فالشك في نقصانه من الكرية والاصل هنا بقاؤها.

ولو لم يكن مسبوقا بحال، ففي الرجوع إلى طهارة الماء، للشك في كون ملاقاته مؤثرة في الانفعال، فالشك في رافعيتها للطهارة، أو إلى النجاسة، لان الملاقاة مقتضية للنجاسة والكرية مانعة عنها بمقتضى قوله عليه السلام: (إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ)، ونحوه، مما دل على سببية الكرية، لعدم الانفعال المستلزمة لكونها مانعة عنه، والشك في المانع في حكم العلم بعدمه، وجهان.

وأما أصالة عدم تقدم الكرية على الملاقاة، فهو في نفسه ليس من الحوادث المسبوقة بالعدم حتى يجري فيه الاصل، نعم نفس الكرية حادثة، فإذا شك في تحققها حين الملاقاة حكم بأصالة عدمها.وهذا معنى عدم تقدم الكرية على الملاقاة.

لكن هنا أصالة عدم حدوث الملاقاة حين حدوث الكرية، وهو معنى عدم تقدم الملاقاة على الكرية فيتعارضان.

ولا وجه لما ذكره من الاصل.

وقد يفصل فيها بين ما كان تاريخ واحد من الكرية والملاقاة معلوما، فإنه يحكم بأصالة تأخر المجهول بمعنى عدم ثبوته في زمان يشك في ثبوته فيه فيلحقه حكمه من الطهارة والنجاسة، وقد يجهل التأريجاه بالكلية.

وقضية الاصل في ذلك التقارن، ومرجعه إلى نفي وقوع كل منهما في زمان يحتمل وقوعه فيه، وهو مقتضى ورود النجاسة على ما وكر حال الملاقاة فلا يتنجس به)(١)، إنتهى.

وفيه: أن تقارن ورود النجاسة والكرية موجب لانفعال الماء، لان الكرية مانعة عن الانفعال بما يلاقيه بعد الكرية على ما هو مقتضى قوله عليه السلام: (إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ)، فإن الضمير المنصوب راجع إلى الكر المفروض كريته، فإذا حصلت الكرية حال الملاقاة كان المفروض الملاقاة غير كر، فهو نظير ما إذا حصلت الكرية بنفس الملاقاة فيما إذا تمم الماء النجس كرا بطاهر والحكم فيه النجاسة، إلا أن ظاهر المشهور فيما نحن فيه الحكم بالطهارة.

بل إدعى المرتضى، قدس سره، عليه الاجماع حيث استدل بالاجماع على طهارة كر رأى فيه نجاسة لم يعلم تقدم وقوعها على الكرية على كفاية تتميم النجس كرا في زوال نجاسته.

ورده الفاضلان وغيرهما بأن الحكم بالطهارة هنا لاجل الشك في حدوث سبب النجس، لان الشك مرجعه إلى الشك في كون الملاقاة مؤثرة لوقوعها قبل الكرية أو غير مؤثرة، لكنه يشكل، بناء

____________________

(١) الفصول الغروية، ص ٣٥٤.

١٢٩

الصفحة ٥٣٢

على أن الملاقاة سبب للانفعال والكرية مانعة.

فإذا علم بوقوع السبب في زمان لم يعلم فيه وجود المانع، وجب الحكم بالمسبب، إلا أن الاكتفاء بوجود السبب من دون إحراز عدم المانع ولو بالاصل محل تأمل، فتأمل.

الثاني: أن لا يتضرر بأعمالها مسلم.كما لو فتح قفس طائر فطار، أو حبس شاة فمات ولدها، أو أمسك رجلا فهرب دابته.

فإن إعمال البراء‌ة فيها يوجب تضرر المالك، فيحتمل إندراجه في قاعدة الاتلاف وعموم قوله: (لا ضرر و لا ضرار).

فإن المراد نفي الضرر من غير جبران بحسب الشرع، وإلا فالضرر غير منفي، فلا علم حينئذ ولا ظن بأن الواقعة غير منصوصه، فلا يتحقق شرط التمسك بالاصل من فقدان النص، بل يحصل القطع بتعلق حكم شرعي بالضار، ولكن لا يعلم أنه مجرد التغزير أو الضمان أو هما معا، فينبغي له تحصيل العلم بالبراء‌ة ولو بالصلح(١).

ويرد عليه: أنه إن كان قاعدة نفي الضرر معتبرة في مورد الاصل، كان دليلا، كسائر الادلة الاجتهادية الحاكمة على البراء‌ة، وإلا فلا معنى للتوقف في الواقعة وترك العمل بالبراء‌ة، ومجرد إحتمال إندراج الواقعة في قاعدة الاتلاف أو الضرر لا يوجب رفع اليد عن الاصل.

والمعلوم تعلقه بالضار فيما نحن فيه هو الاثم والتعزير إن كان متعمدا، وإلا فلا يعلم وجوب شئ عليه، فلا وجه لوجوب تحصيل العلم بالبراء‌ة ولو بالصلح.

وبالجملة، فلا يعلم وجه صحيح لما ذكره في خصوص أدلة الضرر، كما لا وجه لما ذكره في تخصيص مجرى الاصل بما إذا لم يكن جزء عبادة، بناء على أن المثبت لاجراء العبادة هو النص، لان النص قد يصير مجملا وقد لا يكون نص في المسألة.

فإن قلنا بجريان أصل عدم العبرة بالعلم بثبوت التكليف المردد بين الاقل والاكثر فلا مانع منه، وإلا فلا مقتضي له، وقد قدمنا ما عندنا في المسألة.

____________________

(١) الوافية، ص، مخطوط.

١٣٠

الصفحة ٥٣٣

[ قاعدة لا ضرر ] وحيث جرى ذكر حديث نفي الضرر والضرار ناسب بسط الكلام في ذلك في الجملة فنقول: قد إدعى فخرالدين في الايضاح، في باب الرهن، تواتر الاخبار على نفي الضرر والضرار.

فلا نتعرض من الاخبار الواردة في ذلك إلا لما هو أصح ما في الباب سندا وأوضحه دلالة.وهي الرواية المتضمنة لقصة سمرة بن جندب مع الانصاري.

وهي ما رواه غير واحد عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: (إن سمرة بن جندب كان له عذق، وكان طريقه إليه في جوف منزل لرجل من الانصار، وكان يجئ إلى عذقه بغير إذن من الانصاري.

فقال الانصاري: يا سمرة ! لا تزال تفجأنا على حال لا نحب أن تفجأنا عليها، وإذا دخلت فاستأذن.

فقال: لا أستأذن في طريقي إلى عذقي.

فشكاه الانصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وآله.

فأتاه، فقال: إن فلانا قد شكاك وزعم أنك تمر عليه وعلى أهله بغير إذنه فاستأذن عليه إذا أردت أن تدخل.

فقال: يا رسول الله ! أستأذن في طريقي إلى عذقي؟ فقال له رسول الله " ص ": خل عنه ولك عذق في مكان كذا.

قال: لا.

قال: فلك إثنان.

فقال: لا أريد.

فجعل " ص " يزيد حتى بلغ عشر أعذق.

فقال " ص ": خل عنه ولك عشر أعذق في مكان كذا، فأبى، فقال: خل عنه ولك بها عذق في الجنة.

فقال: لا أريد.

فقال له روسول الله " ص ": إنك رجل مضار، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن.

قال عليه السلام: ثم أمر بها رسول الله " ص " فقلعت، ثم رمي بها إليه.

وقال له رسول الله " ص " إنطلق

١٣١

الصفحة ٥٣٤

فاغرسها حيث شئت)(١)، الخبر.

وفي رواية أخرى موثقة: (إن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط رجل من الانصار وكان منزل الانصاري بباب البستان وفي آخرها -: قال رسول الله صلى الله عليه وآله للانصاري: إذهب فاقلعها وارم بها إليه، فإنه لا ضرر ولا ضرار)(٢)، الخبر.

وأما معنى اللفظين، فقال في الصحاح: (الضر خلاف النفع.وقد ضره وضاره بمعنى.والاسم الضرر ثم قال: والضرار المضارة)(٣).

وعن النهاية الاثيرية: (في الحديث: (لا ضرر ولا ضرار في الاسلام).الضر ضد النفع.

ضره يضره ضرا وضرار. وأضر به يضره إضرار. فمعنى قوله: لا ضرر: لا يضر الرجل أخاه بنقصه شيئا من حقه. والضرار فعال من الضر، أي لا يجازيه على إضراره بإدخال الضرر عليه. والضرر فعل الواحد، والضرار فعل الاثنين، والضرر إبتداء الفعل، والضرار الجزاء عليه. وقيل: الضرر ما تضر به صاحبك وتنتفع أنت به. والضرار أن تضره بغير أن تنفع. وقيل: هما بمعنى. والتكرار للتأكيد)(٤) إنتهى.

وعن المصباح: (ضره يضره)، من باب قتل: إذا فعل به مكروها، وأضر به. يتعدى بنفسه ثلاثيا وبالباء رباعيا.

والاسم الضرر.

وقد يطلق على نقص في الاعيان.

وضاره مضارة وضرارا بمعنى ضره)(٥)، إنتهى.

وفي القاموس: (الضر ضد النفع، وضاره يضاره ضرارا.

ثم قال: والضرر سوء الحال ثم قال: الضرار الضيق)(٦) إنتهى.

إذا عرفت ما ذكرناه، فاعلم أن المعنى بعد تعذر إرادة الحقيقة عدم تشريع الضرر.

بمعنى أن الشارع لم يشرع حكما يلزم منه ضرر على أحد، تلكيفيا كان أو وضعيا.

فلزوم البيع مع الغبن حكم يلزم منه ضرر على المغبون فينتفي بالخبر.

وكذلك لزوم البيع من غير شفعة للشريك.وكذلك وجوب

____________________

(١) الكافي، ج ٥، ص ٢٩٤.

(٢) تهذيب الاحكام، ج ٧، ص ١٤٦.

(٣) الصحاح، ج ٢، ص ٧١٩.

(٤) النهاية، ج ٣، ص ٨٢.

(٥) المصباح، ج ٢، ص ٤٩٢.

(٦) القاموس، ج ٢، ص ٧٧

١٣٢

الصفحة ٥٣٥

الوضوء على من لا يجد الماء إلا بثمن كثير.وكذلك سلطنة المالك على الدخول إلى عذقه وإباحته له من دون إستيذان من الانصاري.وكذلك حرمة الترافع عند حكام الجور إذا توقف أخذ الحق عليه.ومنه براء‌ة ذمة الضار من تدارك ما أدخله من الضرر.

إذ كما أنه تشريع حكم يحدث معه الضرر منفي بالخبر، كذلك تشريع ما يبقى معه الضرر الحادث، بل يجب أن يكون الحكم المشروع في تلك الواقعة على وجه يتدارك ذلك الضرر كأن لم يحدث.

إلا أنه قد ينافي هذا قوله (لا ضرار)، بناء على أن معنى الضرار المجازاة على الضرر.

وكذا لو كان بمعنى المضارة التي هي من فعل الاثنين، لان فعل البادي منهما ضرر قد نفي بالفقرة الاولى فالضرار المنفي بالفقرة الثانية إنما يحصل بفعل الثاني.

وكأن من فسره بالجزاء على الضرر أخذه من هذا المعنى، لا على أنه معنى مستقل.

ويحتمل أن يراد من النفي النهي عن إضرار النفس أو الغير إبتداء أو مجازاة.

لكن لا بد أن يراد بالنهي زائدا على التحريم الفساد وعدم المضي، للاستدلال به في كثير من رواياته على الحكم الوضعي دون محض التكليف.فالنهي نظير الامر بالوفاء في الشروط والعقود.فكل إضرار بالنفس أو الغير محرم غير ماض على من أضره.وهذا المعنى قريب من الاول، بل راجع إليه.

والاظهر بملاحظة نفس الفقرة ونظائرها وموارد ذكرها في الروايات وفهم العلماء هو المعنى الاول.

ثم إن هذه القاعدة حاكمة على جميع المعلومات الدالة بعمومها على تشريع الحكم الضرري، كأدلة لزوم العقود، وسلطنة الناس على أموالهم، ووجوب الوضوء على واجدإ الماء، وحرمة الترافع إلى حكام الجور، وغير ذلك.

وما يظهر من غير واحد من التعارض بين العمومات المثبتة للتكليف وهذه القاعدة، ثم ترجيح هذه، إما بعمل الاصحاب وإما بالاصول، كالبراء‌ة في مقام التكليف وغيرها في غيره، فهو خلاف ما يقتضيه التدبر في نظائرها، من أدله رفع الحرج، ورفع الخطأ والنسيان، ونفي السهو على كثير السهو، ونفي السبيل على المحسنين، ونفي قدرة العبد على شئ، ونحوها.مع أن وقوعها في مقام الامتنان يكفي في تقديمها على العمومات.

والمراد بالحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا لحال دليل آخر من حيث إثبات حكم لشئ أو نفيه عنه.

فالاول مثل ما دل على الطهارة بالاستصحاب أو بشهادة العدلين، فإنه حاكم على ما دل على أنه لا صلاة إلا بطهور، فإنه يفيد بمدلوله اللفظي على أن ما

١٣٣

الصفحة ٥٣٦

ثبت من الاحكام للطهارة، في مثل لا صلاة إلا بطهور وغيرها، ثابت للمتطهر بالاستصحاب أو بالبينة.

والثاني مثل الامثلة المذكورة.

وأما المتعارضان فليس في أحدهما دلالة لفظية على حال الاخر من حيث العموم خصوص، وإنما يفيد حكما منافيا لحكم الاخر.

وبملاحظة تنافيهما وعدم جواز تحققهما واقعا يحكم بإرادة خلاف الظاهر في أحدهما المعين إن كان الاخر أقوى منه.

فهذا الاخر الاقوى قرينة عقلية على المراد من الاخر.وليس في مدلوله اللفظي تعرض لبيان المراد منه.

ومن هنا ملاحظة الترجيح في القرينة، لان قرينيته بحكم العقل بضميمة المرجح.

أما إذا كان الدليل بمدلوله اللفظي كاشفا عن حال الاخر، فلا يحتاج إلى ملاحظة مرجح له بل هو متعين للقرينة بمدلوله له، وسيأتي لذلك توضيح في تعارض الاستحصابين، إن شاء الله تعالى.

ثم إنه يظهر مما ذكرنا من حكومة الرواية وورودها في مقام الامتنان نظير أدلة نفي الحرج والاكراه أن مصلحة الحكم الضرري المجعول بالادلة العامة لا تصلح أن تكون تداركا للضرر، حتى يقال إن الضرر يتدارك بالمصلحة العائدة إلى المتضرر وإن الضرر المقابل بمنفعة راجحة عليه ليس بمنفي، بل ليس ضررا.

توضيح الفساد: أن هذه القاعدة تدل على عدم جعل الاحكام الضررية وإختصاص ادلة الاحكام بغير موارد الضرر.

نعم لولا الحكومة ومقام الامتنان كان للتوهم المذكور مجال.

وقد يدفع: بأن العمومات الجاعلة للاحكام إنما تكشف عن المصلحة في نفس الحكم ولو في غير مورد الضرر.

وهذه المصلحة لا يتدارك بها الضرر الموجود في مورده، فإن الامر بالحج والصلاة مثلا يدل على عوض ولو مع عدم الضرر.

ففي مورد الضرر لا علم بوجود ما يقابل الضرر.

وهذا الدفع أشنع من أصل التوهم، لانه إن سلم عموم الامر بصورة الضرر كشف عن وجود مصلحة يتدارك بها الضرر في هذا المورد.

مع أنه يكفي حينئذ في تدارك الضرر الاجر المستفاد من قوله صلى الله عليه وآله: (أفضل الاعمال أحمزها)(١)، وما اشتهر في الالسن وارتكز في العقول من: (أن الاجر على قدر المشقة)، فالتحقيق في دفع التوهم المذكور ما ذكرناه من (الحكومة) و (الورود) في مقام الامتنان.

____________________

(١) نهج البلاغة، الحكم ٢٤٩: (أفضل الاعمال ما أكرهت نفسك عليه).

١٣٤

الصفحة ٥٣٧

ثم إنك قد عرفت بما ذكرنا أنه لا قصور في القاعدة المذكورة من حيث مدركها سندا أو دلالة.

إلا أن الذي يوهن فيها هي كثيرة التخصيصات فيها بحيث يكون الخارج منها أضعاف الباقي.كما لا يخفى على المتتبع.

خصوصا على تفسير الضرر بإدخال المكروه، كما تقدم، بل لوبني عى العمل بعموم هذه القاعدة حصل منه فقه جديد.

ومع ذلك فقد إستقرت سيرة الفريقين على الاستدلال بها في مقابل العمومات المثبتة للاحكام وعدم رفع اليد عنها إلا بمخصص قوي في غاية الاعتبار، بحيث يعلم منهم إنحصار مدرك الحكم في عموم هذه القاعدة.

ولعل هذا كاف في جبر الوهن المذكور وإن كان في كفايته نظر، بناء على أن لزوم تخصيص الاكثر على تقدير العموم قرينة على إرادة معنى لا يلزم منه ذلك.

غاية الامر تردد بين العموم وإرادة ذلك المعنى، وإستدلال العلماء لا يصلح معينا خصوصا لهذا المعنى المرجوح المنافي لمقام الامتنان وضرب القاعدة إلا أن يقال مضافا إلى منع أكثرية الخارج وإن سلمت كثرته -: إن الموارد الكثيرة الخارجة عن العام إنما خرجت بعنوان واحد جامع لها وإن لم نعرفه على وجه التفصيل.

وقد تقرر أن تخصيص الاكثر لا إستهجان فيه إذا كان بعنوان واحد جامع لافراد هي أكثر من الباقي.

كما إذا قيل: (أكرم الناس)، ودل دليل على إعتبار العدالة، خصوصا إذا كان المخصص مما يعلم به المخاطب حال الخطاب.ومن هنا ظهر وجه صحة التمسك بكثير من العمومات مع خروج أكثر أفرادها.

كما في قوله عليه السلام: (المؤمنون عن شروطهم)(١) وقوله تعالى: (أوفوا بالعقود)(٢)، بناء على إرادة العهود، كما في الصحيح.

ثم إنه يشكل الامر من حيث أن ظاهرهم في الضرر المنفي الضرر النوعي لا الشخصي، فحكموا بشرعية الخيار للمغبون نظرا إلى ملاحظة نوع البيع المغبون وإن فرض عدم تضرره في خصوص مقام.

كما إذا لم يوجد راغب في المبيع وكان بقاؤه ضررا على البائع، لكونه في معرض الاباق أو التلف أو الغصب.

وكما إذا لم يترتب على ترك الشفعة ضرر على الشفيع، بل كان له فيه نفع.

وبالجملة، فالضرر عندهم في بعض الاحكام حكمة لا يعتبر إطرادها، وفي بعض المقامات يعتبرون إطرادها، مع أن ظاهر الرواية إعتبار الضرر الشخصي، إلا أن يستظهر منها إنتفاء الحكم

____________________

(١) الكافي (الفروع)، ج ٥، ص ٤٠٤ وسائل الشيعة، ج ٦ ص ٣٢٥.

(٢) المائدة: ١

١٣٥

الصفحة ٥٣٨

رأسا إذا كان موجبا للضرر غالبا وإن لم يوجب دائما، كما قد يدعى نظير ذلك في أدلة نفي الحرج.

ولو قلنا بأن التسلط على ملك الغير بإخراجه عن ملكه قهرا عليه بخيار أو شفعة ضرر أيضا، صار الامر أشكل.

إلا أن يقال: إن الضرر أوجب وقوع العقد على وجه متزلزل يدخل فيه الخيار، فتأمل.

ثم إنه قد يتعارض الضرران بالنسبة إلى شخص واحد أو شخصين، فمع فقد المرجح يرجع إلى الاصول والقواعد الاخر.

كما أنه إذا أكره على الولاية من قبل الجائر المستلزمة للاضرار على الناس، فإنه يرجع إلى قاعدة نفي الحرج، لا إلزام الشخص تحمل الضرر لدفع الضرر عن غيره حرج.وقد ذكرنا توضيح ذلك في مسألة التولي من قبل الجائر من كتاب المكاسب.

ومثله: إذا كان تصرف المالك في ملكه موجبا لتضرر جاره وتركه موجبا لتضرر نفسه، فإنه يرجع إلى عموم: (الناس مسلطون على أموالهم)(١)، ولو عد مطلق حجره عن التصرف في ملكه ضررا، لم يعتبر في ترجيح المالك ضرر زائد على ترك التصرف فيه، فيرجع إلى عموم التسلط.

ويمكن الرجوع إلى قاعدة نفي الحرج، لان منع المالك لدفع الضرر الغير حرج وضيق عليه، إما لحكومته إبتداء على نفي الضرر وإما لتعارضهما والرجوع إلى الاصل.

ولعل هذا أو بعضه منشأ إطلاق جماعة وتصريح آخرين بجواز تصرف المالك في ملكه وإن تضرر الجار: بأن يبني داره مدبغة أو حماما أو بيت القصارة أو الحدادة بل حكي عن الشيخ والحلبي وإبن زهرة دعوى الوفاق عليه.

ولعله أيضا منشأ ما في التذكرة من: (الفرق بين تصرف الانسان في الشارع المباح بإخراج روشن أو جناح وبين تصرفه في ملكه) حيث اعتبر في الاول عدم تضرر الجار بخلاف الثاني، فإن المنع من التصرف في المباح لا يعد ضررا بل فوات إنتفاع.

نعم ناقش في ذلك صاحب الكفاية - مع الاعتراف بأنه المعروف بين الاصحاب بمعارضة عموم التسلط لعموم نفي الضرر، قال في الكفاية: (ويشكل جواز ذلك فيما إذا تضرر الجار تضررا فاحشا.

كما إذا حفر في ملكه بالوعة ففسد بها بئر الغير، أو جعل حانوته في صف العطارين حانوت حداد، أو جعل داره مدبغة أو مطبخة)(٣)، إنتهى.

واعترض عليه تبعا للرياض بما حاصله: (إنه لا معنى للتأمل بعد إطباق

____________________

(١) عوالي اللئالي، ج ٣، ص ٢٠٨.

(٢) تذكرة الفقهاء، ج ٢، ص ١٨٢.

(٣) كفاية الاحكام، ص ٢٤١.

١٣٦

الصفحة ٥٣٩

الاصحاب نقلا وتحصيلا والخبر المعمول عليه بل المتواتر من: (أن الناس مسلطون على أموالهم)، وأخبار الاضرار على ضعف بعضها وعدم تكافؤها لتلك الادلة محمولة على ما إذا لم يكن له غرض إلا الاضرار، بل فيها كخبر سمرة إيماء إلى ذلك.

سلمنا، لكن التعارض بين الخبرين بالعموم من وجه، والترجيح للمشهور للاصل والاجماع)(١)، إنتهى.

ثم فصل المعترض بين أقسام التصرف بأنه إن قصد به الاضرار من دون ان يترتب عليه جلب نفع أو دفع ضرر، فلا ريب في أنه يمنع.

كما دل عليه خبر سمرة بن جندب، حيث قال له النبي صلى الله عليه وآله: (إنك رجل مضار) وإذا ترتب عليه نفع أو دفع ضرر وعلى جاره ضرر يسير، فإنه جائز قطعا.وعليه بنوا جواز رفع الجدار على سطح الجار.وأما إذا كان ضرر الجار كثيرا يتحمل عادة، فإنه جائز على كراهية شديدة.وعليه بنوا كراهة التولي من قبل الجائز لدفع ضرر يصيبه.وأما إذا كان ضرر الجار كثيرا لا يتحمل عادة لنفع يصيبه، فإنه لا يجوز له ذلك.وعليه بنوا حرمة الاحتكار في مثل ذلك.وعليه بنى جماعة كالفاضل في التحرير والشهيد في اللمعة الضمان إذا أجج نارا بقدر حاجته مع ظنه التعدي إلى الغير.

وأما إذا كان ضرره كثيرا وضرر جاره كذلك، فإنه يجوز له دفع ضرره وإن تضرر جاره أو أخوه المسلم.

وعليه بنوا جواز الولاية من قبل الجائر إلى أن قال والحاصل: أن أخبار الاضرار فيما يعد إضرار معتدا به عرفا، والحال أنه لا ضرر بذلك على المضر، لان الضرر لا يزال بالضرر)(٢)، إنتهى.

أقول: الاوفق بالقواعد تقديم المالك، لان حجر المالك عن التصرف في ماله ضرر يعارض ضرر الغير، فيرجع إلى عموم قاعدة السلطنة ونفي الحرج، نعم في الصورة الاولى التي يقصد المالك مجرد الاضرار من غير غرض في التصرف يعتد به لا يعد فواته ضررا.

والظاهر عدم الفرق بين كون ضرر المالك بترك التصرف أشد من ضرر الغير أو أقل، إما لعدم ثبوت الترجيح بقلة الضرر كما سيجئ، وإما لحكومة نفي الحرج على نفي الضرر.

فإن تحمل الغير على الضرر ولو يسيرا، لاجل دفع الضرر عن الغير ولو كثيرا، حرج وضيق.

ولذا إتفقوا على أنه يجوز للمكره الاضرار على الغير بما دون

١٣٧

الصفحة ٥٤٠

القتل، دفع الضرر عن نفسه، ولو كان أقل من ضرر الغير.هذا كله في تعارض ضرر المالك و ضرر الغير.

وأما في غير ذلك فهل يرجع إبتداء إلى القواعد الاخر أو بعد الترجيح بقلة الضرر؟ وجهان بل قولان.

يظهر الترجيح من بعض الكلمات المحكية عن التذكرة وبعض موارد الدروس ورجحه غير واحد من المعاصرين.

ويمكن أن ينزل عليه ما عن المشهور، من أنه لو أدخلت الدابة رأسها في القدر بغير تفريط من أحد المالكين كسر القدر وضمن قيمته صاحب الدابة، معللا بأن الكسر لمصلحته، فيحمل إطلاق كلامهم على الغالب، من أن ما يدخل من الضرر على مالك الدابة، إذا حكم عليه بتلف الدابة وأخذ قيمتها، أكثر مما يدخل على صاحب القدر بتلفه وأخذ قيمته.

وبعبارة أخرى: تلف إحدى العينين وتبدلها بالقيمة أهون من تلف الاخرى.

وحينئذ فلا يبقى مجال للاعتراض على تعليل الحكم بكونه لمصلحة صاحب الدابة، بما في المسالك من (أنه قد يكون المصلحة لصاحب القدر فقط يكون المصلحة مشتركة بينها).

وكذلك حكمهم بضمان صاحب الدابة إذا دخلت في دار لا تخرج إلا بهدمها، معللا بأنه لمصلحة صاحب الدابة.

فإن الغالب أن تدارك المهدوم أهون من تدراك الدابة.

والله العالم.

قد تمت الكتاب بعون الملك الوهاب وباعانة جناب المستطاب ميرزا محمد هادي سلمه الله طالقاني الاصل وطهراني المسكن بيد أقل الطلاب [..] تحريرا في شهر ذي حجة الحرام سنة ١٢٦٧.

[ وقد كتب المصنف، عليه الرحمة، في الهامش: ](بسم الله الرحمن الرحيم) (قد قوبل بنسخة صححها بيده الجانية العبد الاحقر مرتضى الانصاري) [ وفي أدناه نقش خاتمة الشريف: ] (لا إله إلا الله الملك الحق المبين، عبده مرتضى الانصاري)

١٣٨

الصفحة ٥٤١

المقام الثاني في الاستصحاب وهو، لغة، أخذ الشئ مصاحبا.

ومنه: إستصحاب أجزاء ما لا يؤكل لحمه في الصلاة.

وعند الاصوليين عرف بتعاريف، أسدها وأخضرها: (إبقاء ما كان).

والمراد بالابقاء الحكم بالبقاء.ودخل الوصف في الموضوع مشعر بعليته للحكم.

فعلة الابقاء هو أنه كان، فيخرج إبقاء الحكم لاجل وجود علته او دليله.

وإلى ما ذكرنا يرجع تعريفه في الزبدة ب‍ (أنه إثبات الحكم في الزمان الثاني تعويلا على ثبوته في الزمان الاول)(١).

بل نسبه شارح الدروس إلى القوم، فقال: (إن القوم ذكروا أن الاستصحاب إثبات حكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه)(٢).

وأزيف التعاريف تعريفه ب‍ (أنه كون حكم أو وصف يقيني الحصول في الان السابق مشكوك البقاء في الان اللاحق)(٣).

إذ لا يخفى أن كون حكم أو وصف كذلك هو محقق مورد الاستصحاب ومحله، لا نفسه.

ولذا صرح في المعالم كما عن غاية المأمول ب‍ (أن أستصحاب الحال، محله أن يثبت حكم في وقت ثم يجئ وقت آخر ولا يقوم دليل على إنتفاء ذلك الحكم، فهل يحكم ببقائه على ما كان، وهو الاستصحاب)(٤)، إنتهى.

ويمكن توجيه التعريف المذكور: بأن المحدود هو الاستصحاب المعدود من الادلة.

وليس الدليل إلا ما أفاد العلم أو الظن بالحكم، والمفيد للظن الحكم في الان اللاحق ليس إلا

____________________

(١) زبدة الاصول، ص ٧٢.

(٢) مشارق الشموس في شرح الدروس، ص ٧٦.

(٣) القوانين المحكمة، ص ٢٧٥.

(٤) معالم الدين، ص ٢٣١

١٣٩

الصفحة ٥٤٢

كونه يقيني الحصول في الان السابق مشكوك البقاء في الان ا للاحق، فلا مناص عن تعريف الاستصحاب المعدود من الامارات إلا بما ذكره، قدس سره.

لكن فيه: أن الاستصحاب كما صرح به هو، قدس سره، في أول كتابه -: (إن أخد من العقل كان داخلا في الدليل العقلي، وإن أخذ من الاخبار فيدخل في السنة)(١).

وعلى كل تقدير فلا يستقيم تعريفه بما ذكره، لان دليل العقل هو حكم عقلي يتوصل به إلى حكم شرعي.

وليس هنا إلا حكم العقل ببقاء ما كان على ما كان.

والمأخوذ من السنة ليس إلا وجوب الحكم ببقاء ما كان على ما كان، فكون الشئ معلوما سابقا مشكوكا فيه لا ينطبق على الاستصحاب بأحد الوجهين.

نعم ذكر المختصر: (أن معنى إستصحاب الحال أن الحكم الفلاني قد كان ولم يظن عدمه، وكل ما كان كذلك فهو مظنون البقاء)(٢).

فإن كان الحد هو خصوص الصغرى على التعريف المذكور، وإن جعل خصوص الكبرى إنطبق على تعاريف المشهور.

وكأن صاحب الوافية إستظهر منه كون التعريف مجموع المقدمتين، فوافقه في ذلك، فقال: (إن الاستصحاب هو التمسك بثبوت ما ثبت في وقت أو حال على بقائه فيما بعد ذلك الوقت أو في غير تلك الحال، فيقال: إن الامر الفلاني قد كان ولم يعلم عدمه، وكل ما كان كذلك فهو باق)(٣)، إنتهى.ولا ثمرة مهمة في ذلك.

____________________

(١) القوانين المحكمة، ج ٢ ص ١٣.

(٢) شرح مختصر الاصول، ج ٢، ص ٢٨٤.

(٣) الوافية، ص مخطوط

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

وهذا منقطع ، لم يتّصل ما بين البخاري وصدقة بن خالد ، ولا يصحّ فيهذا الباب شيء أبداً ، وكلّ ما فيه فموضوع ) (١) .

حديث المؤمن لا يزني حين يزني

( ومنها ) ما أخرجه البخاري في كتاب الأشربة قال :

( حدّثنا أحمد بن صالح قال : ثنا ابن وهب قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب قال : سمِعت أبا سلمة عن عبد الرحمان وابن المسيّب يقولان : قال أبو هريرة : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ( المؤمن لا يزني حين يزني ، وهو مؤمن )(٢) .

وهذا الحديث كذَّبه أبو حنيفة ، كما في كتاب( العالم والمتعلّم ) (٣) ، فقد جاء فيه :

( قال المتعلّم : ما قولك في أُناسٍ رَوَوا أنّ المؤمن إذا زنى خُلِع الإيمانُ من رأسه كما يُخلَع القميص ، ثمّ إذا تاب أعاد الله إيمانه ، أتشكّ في قولهم أو تصدّقهم ؟ فإنْ صدّقت قولهم دخلت في قول الخوارج ، وإنْ شككت في قولهم شكَكْت في قول الخوارج ورجعت عن العدل الذي وصفت ، وإنْ كذّبت قولهم الذي قالوا : كذّبت بقول النبيّعليه‌السلام ، فإنّهم رَوَوا عن رجالٍ شتّى حتّى انتهى به إلى رسول اللهعليه‌السلام .

قال العالم : كذَب هؤلاء ، ولا يكون تكذيبي هؤلاء وردّي عليهم تكذيباً للنبيّعليه‌السلام ، إنّما يكون التكذيب لقول النبيّعليه‌السلام أنْ يقول الرجل

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ٧ : ١٩٣ .

(٢) صحيح البخاري ٧ : ١٩٠ .

(٣) هذا الكتاب لأبي حنيفة ، والمقصود من ( العالم ) أبو حنيفة ، ومن ( المتعلّم ) تلميذه : أبو مطيع البلخي وهو راوي الكتاب .

٤٠١

أنا مكذّبٌ للنبيّعليه‌السلام ، وأمّا إذا قال أنا مؤمنٌ بكلّ شيء تكلّم به النبيّعليه‌السلام ، غير أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يتكلّم بالجور ولم يُخالف القرآن ، فهذا مِن التصديق بالنبيّ وبالقرآن وتنزيهٌ له من الخلاف على القرآن ، ولو خالف النبيّعليه‌السلام القرآن وتقوّل على الله ، لم يدعه تبارك وتعالى حتّى يأخذه باليمين ويقطع منه الوتين ، كما قال تعالى في القرآن ، ونبيّ الله لا يُخالف كتاب الله ، ومُخالف كتاب الله لا يكون نبيّ الله .

وهذا الذي رووه خلاف القرآن ، ألا ترى إلى قوله تعالى :( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي... ) (١) ثمّ قال( وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ... ) (٢) ولم يعن به من اليهود ولا من النصارى ، ولكن عنى به من المسلمين .

فردّي على كلّ رجلٍ يحدّث عن النبيّعليه‌السلام بخلاف القرآن ، ليس ردّاً على النبيّ ولا تكذيباً له ، ولكن ردّاً على مَن يحدّث عن النبيّعليه‌السلام بالباطل ، والتهمة دخلت عليه لا على نبيّ الله ، وكلّ شيء تكلّم به النبيّعليه‌السلام سمعنا به أو لم نسمعه ، فعلى الرأس والعين ، قد آمنّا به ونشهد أنّه كما قال النبيّعليه‌السلام ، ونشهد أيضاً على النبيّعليه‌السلام أنّه لم يأمر بشيء نهى الله عنه يُخالف أمر الله تعالى ، ولم يقطع شيئاً وصَلَه الله تعالى ولا وصَف أمراً وصف الله تعالى ذلك الأمر بِخلاف ما وصَفَه النبيّعليه‌السلام ، ونشهد أنّه كان موافقاً لله عزّ وجلّ في جميع الأُمور ، لم يبتدع ولم يتقوّل غير ما قال الله تعالى ، ولا كان من التكلّفين ، ولذلك قال الله تعالى :( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ

ـــــــــــــــــــ

(١) سورة النور ٢٤ : ٢ .

(٢) سورة النساء ٤ : ١٦ .

٤٠٢

فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ) (١) .

حديث شريك في الإسراء

( ومنها ) حديث البخاري عن شريك في إسراء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا لفظه :

( حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله قال : حدّثني سليمان ، عن شريك بن عبد الله ، أنّه قال : سمعت أنَس بن مالك يقول : ليلة أُسريَ برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مِن مسجد الكعبة ، إنّه جاءه ثلاثة نفر ، قبل أنْ يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أوّلهم : أيّهم هو ؟ فقال أوسطهم : هو خيرهم .

فقال آخرهم : خذوا خيرهم ، فكانت تلك الليلة ، فلم يرهم حتّى أتوه ليلة أُخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه ، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم ، فلم يكلّموه حتّى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم ، فتولاّه منهم جبرئيل ، فشقّ جبرئيل ما بين نحره إلى لبّته حتّى فرغ من صدره وجوفه ، فغسله من ماء زمزم بيده حتّى أنقى جوفه ، ثمّ أُتي بطست من ذهب فيه نور من ذهب مَحْشُوٌّا إيماناً وحكمة ، فحشا به صدره ولغاديده ـ يعني عروق حلقه ـ ثم أطبقه ، ثمّ عرج به إلى السماء الدنيا ، فضرب باباً من أبوابها ، فناداه أهل السماء : مَن هذا ؟ فقال جبرئيل : قالوا : ومَن معك ؟ قال : معي محمّد ، قالوا : وقد بعث ؟ قال : نعم ، قالوا : فمرحباً به... )(٢) .

وأخرجه مسلم قال : ( حدّثنا هارون بن سعيد الأيلي ، ثنا ابن وهب ، قال :

ـــــــــــــــــــ

(١) سور النساء ٤ : ٨٠ .

(٢) صحيح البخاري ٩ : ٢٦٥ كتاب التوحيد .

٤٠٣

أخبرني سليمان ـ وهو ابن بلال ـ قال : حدّثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر قال : سمعت أنَس بن مالك ، يحدّثنا عن ليلة أُسري برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مسجد الكعبة : أنّه جاءه ثلاثة نفر قبل أنْ يُوحى إليه ، وهو نائم في المسجد الحرام وساق الحديث بقصّته نحو حديث ثابت البناني ، وقدّم فيه شيئاً وأخّر وزاد ونقص )(١) .

قال النووي بشرحه :

( قوله : وذلك قبل أنْ يُوحى إليه وهو غلطٌ لم يُوافق عليه ، فإنّ الإسراء أقلّ ما قيل فيه أنّه كان بعد مبعثه بخمسة عشر شهراً ، وقال الحربي : كان ليلة سبع وعشرين مِن شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة وقال الزهري : كان ذلك بعد مبعثه بخمس سنين وقال ابن إسحاق : أُسري به وقد فشا الإسلام بمكّة والقبائل .

وأشبه هذه الأقوال قول الزهري وابن إسحاق ، إذ لم يختلفوا أنّ خديجة صلّت معه بعد فرض الصلاة عليه ، ولا خلاف في أنّها توفّيت قبل الهجرة بمدّةٍ قيل بثلاث سنين وقيل بخمس .

ومنها : إنّ العلماء مجمعون على أنّ فرض الصّلاة كان ليلة الإسراء ، فكيف يكون هذا قبل أنْ يُوحى إليه ؟

وأمّا قوله ـ في رواية شريك ـ : وهو نائم ، وفي رواية أُخرى : بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان ، فقد يحتجّ به من يجعلها رؤيا نوم ، ولا حجّة فيه ، إذْ قد يكون ذلك حالة أوّل وصول الملَك إليه ، وليس في الحديث ما يدلّ على كونه نائماً في القصّة كلّها .

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح مسلم ١ : ١٤٨ / ٢٦٢ باب بدء الوحي من كتاب الإيمان .

٤٠٤

هذا كلام القاضي ، وهذا الذي قاله في رواية شريك وأنّ أهل العلم أنكروها ، قد قاله غيره .

وقد ذكر البخاري رواية شريك هذه عن أنَس في كتاب التوحيد من صحيحه ، وأتى بالحديث مطوّلاً .

قال الحافظ عبد الحق في كتابه الجمع بين الصحيحين ـ بعد ذكر هذه الرواية ـ هذا الحديث بهذا اللفظ مِن رواية شريك بن أبي نمر عن أنَس ، وقد زاد فيه زيادةً مجهولةً ، وأتى فيه بألفاظٍ غير معروفة وقد روى حديث الإسراء جماعة من الحفّاظ المتقنين والأئمّة المشهورين ، كابن شهاب وثابت البناني وقتادة ـ يعني عن أنَس ـ فلم يأتِ أحدٌ منهم بما أتى به شريك ، وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث .

قال : والأحاديث التي تقدّمت قبل هذا هي المعوّل عليها هذا كلام الحافظ عبد الحق )(١) .

وقال الكرماني بشرحه :

( قال النووي : جاء في رواية شريك أوهام أنكرها العلماء ، من ملّتها : أنّه قال : ذلك قبل أنْ يوحى إليه ، وهو غلطٌ لم يُوافق عليه وأيضاً : العلماء أجمعوا على أنّ فرض الصلاة كان ليلة الإسراء ، فكيف يكون قبل الوحي ؟

أقول : وقول جبرئيل في جواب بوّاب السماء إذ قال : أبعث ؟ نعم ، صريح في أنّه كان بعده)(٢) .

وقال ابن قيّم الجوزيّة :

( فصلٌ ـ قال الزهري : عرج بروح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى

ـــــــــــــــــــ

(١) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجّاج ، باب بدء الوحي ، المجلّد ١ ج٢ : ٢٠٩ ـ ٢١٠ .

(٢) الكواكب الدراري في شرح البخاري ٢٥ : ٢٠٤ .

٤٠٥

بيت المقدِس وإلى السماء قبل خروجه إلى المدينة بسنةٍ ، وقال ابن عبد البرّ وغيره : كان بين الإسراء والهجرة سنة وشهران انتهى .

وكان الإسراء مرّةً واحدةً وقيل : مرّة يقظة ومرّةً مناماً ، وأربابُ هذا القول كأنّهم أرادوا أنْ يجمعوا بين حديث شريك وقوله ثمّ استيقظت ، وبين سائر الروايات ، ومنهم من قال : بل كان هذا مرّتين ، مرّةً قبل الوحي ، لقوله في حديث شريك : وذلك قبل أنْ يوحى إليه ، ومرّةً بعد الوحي ، كما دلّت عليه سائر الأحاديث ، ومنهم مَن قال : بل ثلاثِ مرّات ، مرّةً قبل الوحي ومرّتين بعده .

وكلّ هذا خبط ، وهذه طريقة ضعفاء الظاهريّة مِن أرباب النقل الذين إذا رأوا في القصّة لفظةً تُخالف سياق بعض الروايات جعلوه مرّةً أُخرى ، فكلّما اختلفت عليهم الروايات عدّدوا الوقائع .

والصواب الذي عليه أئمّة النقل : أنّ الإسراء كان مرّةً واحدةً بمكّة بعد البعثة .

ويا عجباً لهؤلاء الذين زعموا أنّه مراراً كيف ساغ لهم أنْ يظنّوا أنّه في كلّ مرّة تفرض عليه الصلاة خمسين ، ثمّ يتردّد بين ربّه وبين موسى حتّى تصير خمساً ثمّ يقول : أمضيت فريضتي وخفّفت عن عبادي ، ثمّ يعيدها في المرّة الثانية إلى خمسين ، ثمّ يحطّها عشراً عشراً.

وقد غلّط الحفّاظ شريكاً في ألفاظٍ مِن حديث الإسراء ، ومسلم أورد المسند منه ثمّ قال : فقدّم وأخّر وزاد ونقّص ، ولم يورد الحديث فأجاد رحمه الله )(١) .

ـــــــــــــــــــ

(١) زاد المعاد في هدي خير العباد ٣ : ٤١ ـ ٤٢ فصلٌ في المعراج النبويّ .

٤٠٦

صحيح مسلم

وأمّا مسلم بن الحجّاج... فإنّه ـ كما قالوا ـ كان يرتكب الغمز بالرجال الصادقين الثقات عندهم بلا حجّة ، ومِن ذلك ما كان منه في ( إبراهيم بن عبد الله السعدي ) قال الذهبي : ( إبراهيم بن عبد الله السعدي النيسابوري ، صدوقٌ ، له عن يزيد بن هارون ونحوه .

قال أبو عبد الله الحاكم : كان يستخفُّ بمسلم ، فغمزه مسلم بلا حجّة )(١) .

ولا ريب أنّ هذا يضرّ بعدالة مسلم ويمنع مِن الاعتماد عليه وعلى رواياته في كتابه ، ولذا قال ابن الجوزي : ( ومِن تلبيس إبليس على أصحاب الحديث : قدح بعضهم في بعض ، طلباً للتشفّي ، ويخرجون ذلك مخرج الجرح والتعديل الذي استعملت قدماء هذه الأُمّة للذبّ عن الشرع )(٢) .

أبو زرعة الرّازي وصحيح مسلم

هذا ، وقد اشتهر بين الأعلام طعن الإمام أبي زرعة الرّازي وتكلّمه في كتاب مسلم بن الحجّاج ، ففي ترجمة أحمد بن عيسى المصري من( التهذيب ) و( الميزان ) : ( قد قال سعيد البردعي : شهدت أبا زرعة ذُكر عنده صحيح مسلم فقال : هؤلاء قومٌ أرادوا التقدّم قبل أوانه ، فعملوا شيئاً يتسوّقون به )(٣) .

وقال أبو الفضل الأدفوي في( الإمتاع ) : ( وكان أبو زرعة يذمّ وضِع كتاب مسلم ويقول : كيف تسمّيه الصحيح وفيه فلان وفلان ؟ فذكر جماعة ) .

ـــــــــــــــــــ

(١) ميزان الاعتدال ١ : ٤٤ .

(٢) تلبيس إبليس : ١٣٥ .

(٣) ميزان الاعتدال ١ : ١٢٦ .

٤٠٧

الموضوعات في صحيح مسلم

وبعد الوقوف على طرفٍ من أسباب القدح في مسلم بن الحجّاج ، وعلى طعن من مثل أبي زرعة في كتابه عموماً ، فلا بدّ من إيراد بعض أحاديثه الموضوعة والباطلة :

حديث الضحضاح

فمن أحاديثه الموضوعة والمكذوبة : حديثه في أنّ أبا طالب في ضحضاحٍ من النار ، قال : ( حدّثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، ومحمّد بن أبي بكر المقدمي ، ومحمّد بن عبد الملك الأموي قالوا : حدّثنا أبو عوانة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن العبّاس بن عبد المطّلب أنّه قال : يا رسول الله ، هل نفعت أبا طالب بشيءٍ ، فإنّه كان يحوطك ويغضب لك ؟ قال : نعم ، هو في ضحضاحٍ من نار ، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار )(١) .

وهذه الأحاديث التي أخرجها البخاري ومسلم كلّها موضوعةٌ مُفتراة ، قد وُضِعت للطعن في أمير المؤمنينعليه‌السلام والتنقيص في شأنه ، ولأجل رفع شأن أبي بكر بن أبي فحافة...

إنّه ليكفي لتكذيب ما رَوَوه في موت سيّدنا أبي طالب على الكفر : ما

رواه ابن سعد في الطبقات قال : ( حدّثني الواقدي قال : قال عليّ : لمّا توفّي أبو طالب أخبرت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فبكى بكاءً شديداً ، ثمّ قال :

( اذهب فاغسله وكفّنه وواره ، غفر الله له ورحمه ) .

فقال له العبّاس : يا رسول الله ، إنّك ترجو له ؟

فقال :( إي والله إنّي لأرجو له ) .

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح مسلم ١ : ١٣٤ كتاب الإيمان ـ باب شفاعة النبيّ لأبي طالب .

٤٠٨

وجعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستغفر له أيّاماً لا يخرج مِن بيته .

وقال الواقدي : قال ابن عبّاس : عارض رسول الله جنازة عمّه أبي طالب وقال :( وصلتك رحم وجزاك الله خيراً ) (١) .

هذا ، وقد أجمع أهل البيتعليهم‌السلام على إيمان سيّدنا أبي طالب ، وإجماعهم حجّة قطعيّة كما تَقرّر في محلّه ، وقد ذكر علماء السنّة إجماعهم على ذلك ، ففي( روضة الأحباب ) عن ابن الأثير في( جامع الأُصول ) قوله : ( زعم أهل البيت أنّ أبا طالب مات مسلماً ، والله أعلم بصحّته ) .

على أنّ أهل السنّة يدّعون المتابعة لأهل البيت والانقياد لهم ، كما جاء في كتبهم ، بشرح ( حديث الثقلين ) وبذيل حديث( مثل أهل بيتي كسفينة نوح ) ، فإنْ كانوا صادقين في دعواهم تلك ، فلا محالة لا يخالفون أهل البيت في إجماعهم على إيمان أبي طالبعليه‌السلام .

على أنّ أحاديث مسلم في هذا الباب متناقضة متهافتة ، إذ الحديث المذكور يدلّ على أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد شفع له قبل القيامة وأخرجه بالفعل من غمرات العذاب إلى ضحضاحٍ من نارٍ ، وحديث أبي سعيد

صريحٌ في عدم وقوع الشفاعة في حقّه وأنّ عذابه لم يخفّف بل إنّ النبيّ يرجو أنْ تناله شفاعته في يوم القيامة وتنفعه في خروجه مِن الدركات السافلة إلى الضحضاح... فكان بعض تلك الأحاديث صريحاً في وقوع تخفيف العذاب عن أبي طالب بالفعل وبعض صريحاً في عدم حصول التخفيف ، فتهافتا وتناقضا بكلّ وضوح .

ـــــــــــــــــــ

(١) الطبقات الكبرى ١ : ١٢٣ ـ ١٢٤ .

٤٠٩

الحديث الدالّ على تعيين أبي بكر للخلافة !!

ومن ذلك : حديثه المتضمّن تعيين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر للخلافة من بعده ، وهو حديث موضوع مفترى قطعاً قال في كتاب المناقب :

((حدّثني عبيد الله بن سعيد، حدّثا يزيد بن هارون، أخبرنا إبراهيم بن سعد، حدّثنا صالح بن كيسان ، عن الزهري ، عن عروة عن عائشة ـ ري الله عنها ـ قالت: قال لي رسول الله في مرضه : أُدعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتّى أكتب كتاباً ، فإنّي أخاف أن يتمنَّ متمنٍّ ويقول القائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر )(١) .

وهذا الحديث أخرجه البخاري أيضاً ، ولفظه في كتاب المرضى :

( لقد هممت أو أردت أنْ أرسل إلى أبي بكر وابنه واعهد أنْ يقول القائلون أو يتمنّى المتمنّون ، ثمّ قلت : يأبى الله ويدفع المؤمنون ، أو يدفع الله ويأبى المؤمنون )(٢) .

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح مسلم ٤ : ١٨٥٧ / ٢٣٨٧ .

(٢) صحيح البخاري ٧ : ٢١٨ .

٤١٠

وهذا الحديث الذي قال النووي بشرحه: ( في هذا الحديث دلالة ظاهرة لفضل أبي بكر الصدّيقرضي‌الله‌عنه ، وإخبار منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما سيقع في المستقبل بعد وفاته ، وأنّ المسلمين يأبون عقد الخلافة لغيره )(١) .

ظاهر الكذب والبطلان ، لاتّفاق القوم أنفسهم على أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينصّ على أبي بكر بالخلافة ، ولو كان مثل هذا الكلام صادراً منه حقّاً لما احتجّوا بالأباطيل الواهيات ، ولما وقعت الاختلافات والنزاعات...

ولقد نصّ النووي ـ بشرح حديث : من كان رسول الله مستخلفاً لو استخلفه ؟ ـ : على أنّ ( فيه دلالة لأهل السنّة أنّ خلافة أبي بكر ليست بنصٍ مِن النبيّ على خلافته صريحاً ، بل أجمعت الصحابة على عقد الخلافة له وتقديمه بفضله ، ولو كان هناك نصّ عليه ، أو على غيره لم يقع المنازعة من الأنصار وغيرهم أوّلاً ، ولذَكر حافظُ النص ما معه ، ولرَجعوا ، ولكنْ تنازعوا أوّلاً ولم يكن هناك نص ، ثمّ اتفقوا على أبي بكر واستقرّ الأمر .

وأمّا ما تدّعيه الشيعة مِن النص على عليّ والوصيّة إليه ، فباطل لا أصل له باتّفاق المسلمين ، والاتفاق على بطلان دعواهم في زمن عليّ ، وأوّل مَن كذّبهم عليّ بقوله : ما عندنا إلاّ ما في هذه الصحيفة )(٢) .

فتراه يستدلّ بما كان في السقيفة ، ولو كان ما أورد مسلم صحيحاً لما احتاج إلى ذلك !!

وعلى الجملة ، فإنّ هذا الحديث لو صحّ لاستدلّ به القوم على إمامة أبي بكر ولم يقولوا بعدم النصّ على خلافته ، ولم يتشبّثوا بالخرافات والأباطيل

ـــــــــــــــــــ

(١) شرح مسلم للنووي ١٥ : ١٥٥ .

(٢) شرح مسلم للنووي ١٥ : ١٥٤ ـ ١٥٥ .

٤١١

الأُخرى ، فإنّه حتّى لو كان وارداً مورد الإخبار عن الغيب ، لكان الاستدلال به دون غيره أولى وأحرى...

وقد نصّ أبو السعادات ابن الأثير أيضاً على عدم النصّ على أبي بكر حيث قال : ( ولا يصدَّق الشيعة بنقل النص على إمامة عليّ ( كرّم الله وجهه ) والبكريّة على إمامة أبي بكررضي‌الله‌عنه ؛ لأنّ هذا وضعه الآحاد أوّلاً وأفشوه ، ثمّ كثر الناقلون في عصره وبعده من الأعصار ، فلذلك لم يحصل التصديق )(١) .

فوا أسفاه على البخاري ومسلم ، إذْ أُشرب في قلوبهما حبّ الشيخين ، فنقلا مثل هذه الأكاذيب والخرافات ، التي نصّ أئمّتهم على كونها من افتراءات البكريّة وأخبارهم الموضوعات .

حديث أنّ عمر أوّل مَن أمر بالأذان

ومن ذلك : ما أخرجه مسلم في كتاب الصّلاة ، باب بدء الأذان :

( حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال : جدّثنا محمّد بن بكر ، ح وحدّثنا محمّد بن رافع قال : حدّثنا عبد الرزّاق قال : أخبرنا ابن جريج ، ح وحدّثني هارون ابن عبد الله ـ واللفظ له ـ قال : حدّثنا حجّاج بن محمّد قال : قال ابن جريج : أخبرني نافع مولى ابن عمر ، عن عبد الله بن عمر أنّه قال : كان المسلمون حين قدِموا المدينة يجتمعون فيتحيّنون الصّلوات ، وليس ينادي بها أحد ، فتكلّموا يوماً في ذلك ، فقال بعضهم : اتّخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى ، وقال بعضهم : قرناً مثل قرن اليهود ، فقال عمر : أو لا تبعثون منادياً

ـــــــــــــــــــ

(١) جامع الأُصول ١ : ١٢١ .

٤١٢

ينادي بالصّلاة قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( يا بلال ، قم فنادِ بالصّلاة ) (١) .

وهذا حديثٌ موضوع ، وضعه مَن يسعى وراء جعل المناقب لعمر بن الخطّاب ، وهو ينافي ما وضعوه في الأذان مِن أنّ تشريعه كان برؤيا رآها رجلٌ مِن الأنصار ، كما في سُنُن أبي داود وغيره .

على أنّ الحقّ ما روي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام مِن أنّ تشريع الأذان كان في ليلة الإسراء ، وقد أذّن جبرئيل في بيت المقدّس ، وما سواه فمن وضع الملحدين .

حديثان متناقضان في موضع صلاة النبيّ الظهر في حجّة الوداع

ومن ذلك : حديثان متناقضان أخرجهما مسلم ، وأخرج البخاري أحدهما ، في موضع صلاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الظهر يوم النحر في حجّة الوداع ، فأخرج عن عائشة وجابر أنّه صلاّها بمكّة ، وأخرج هو والبخاري عن ابن عمر أنّه صلاّها بمنى ، قال القاري في كتابه في( الرجال ) : ( قال ابن حزم في هاتين الروايتين : إحداهما كذب بلا شك ) .

وقد اختلف القوم في تعيين الصِدق مِن الكِذب منهما ، وقد شرح ابن القيّم اختلافهم في المقام حيث قال : ( فصلٌ : ثمّ رجع إلى منى ، واختلف أين صلّى الظهر يومئذ ، ففي الصحيحين عن ابن عمر أنّه أفاض يوم النحر ثمّ رجع فصلّى الظهر بمنى ، وفي صحيح مسلم عن جابر أنّه صلّى الظهر بمكّة ، وكذلك قالت عائشة ، واختلف في ترجيح أحد هذين القولين على الآخر ، فقال أبو

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح مسلم ١ : ٢٨٥ .

٤١٣

محمّد ابن حزم : قول عائشة وجابر أولى ، وتبعه على هذا جماعة ورجّحوا هذا القول بوجوه :

أحدها : إن راويه اثنان ، وهما أولى من الواحدالثاني : أنّ عايشة أخصّ الناس به ، ولها من القرب والاختصاص والمزيّة ما ليس لغيرها .

الثالث : أنّ سياق جابر لحجّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أوّلها إلى آخرها أتمّ سياق ، وقد حفظ القصّة وضبطها حتّى ضبط جزئيّاتها ، حتّى ضبط منها أمراً لا يتعلّق بالمناسك ، وهو نزول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة جمع الطريق ، فقضى حاجته عند الشعب ثمّ توضّأ وضوءاً خفيفاً ، فمَن ضبط هذا القدر فهو يضبط مكان صلاته يوم النحر بطريقٍ أولى .

الرابع : إنّ حجّة الوداع كانت في آذار ، وهي تساوي الليل والنهار ، وقد خرج من مزدلفة قبل طلوع الشمس إلى منى وخطب بها الناس ، ونحر بُدْناً عظيمةَ وقسمها ، وطبخ له مِن لحمها وأكل منه ، ورمى الجمرة وحلق رأسه وتطيّب وخطب ثمّ أفاض ، فطاف وشرب من ماء زمزم ومِن نبيذ السقاية ووقف عليهم وهم يسقون ، وهذه أعمال يبدو في الأظهر أنّها لا تنقضي في مقدار يُمكن معه الرجوع إلى منى بحيث يدرك وقت الظهر في فصل آذار .

الخامس : إنّ هذين الحديثين جاريان مجرى الناقل والمبقي ، فإنّ عادتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت في حجّته صلاته في منزله الذي هو نازل فيه بالمسلمين ، فجرى ابن عمر على العادة ، وضبط جابر وعائشة الأمر الذي هو خارج عن عادته ، فهو أولى بأنْ يكون هو المحفوظ .

٤١٤

ورجحت طائفة أُخرى قول ابن عمر لوجوه :

أحدها : أنّه لو صلّى الظهر بمكّة لم يُصَلِّ أصحابه بمنى وحداناً ولا زرافات ، بل لم يكن لهم بُدٌّ مِن الصلاة خلف إمامٍ يكون نائباً عنه ، ولم ينقل هذا أحدٌ قطّ ، ولم يقل أحدٌ أنّه استناب مَن يُصلّي بهم ، ولولا علمه أنّه يرجع إليهم فيصلّي بهم لقال : إنْ حضرَت الصّلاة ولستُ عندكم فليصلّ بكم فلان ، وحيث لم يقع هذا ولا هذا ، ولا صلّى الصحابة هناك وحداناً قطعاً ، ولا كان مِن عادتهم إذا اجتمعوا أنْ يصلّوا عزين ، علم أنّهم صلّوا معه على عادتهم.

الثاني : إنّه لو صلّى بمكّة ، لكان خلفه بعضُ أهل البلد وهو مقيم ، وكان يأمرهم أنْ يتمّوا صلاتهم ، ولنقل أنّهم قاموا فأتمّوا بعد سلامه صلاتهم ، وحيث لم ينقل هذا ولا هذا بل هو معلوم الانتفاء قطعاً ، عُلِم أنّه لم يُصلّ قطعاً حينئذٍ بمكّة .

وما نقله بعض من لا عِلم له أنّه قال : ( يا أهل مكّة ، أتمّوا صلاتكم فإنّا قوم سفر ) ، فإنّما قاله عام الفتح لا في حجّته .

الثالث : إنّه من المعلوم أنّه لمّا طاف ركَع ركعتيّ الطواف ، ومعلومٌ أنّ كثيراً من المسلمين كانوا خلفه يقتدون به في أفعاله ومناسكه ، فلعلّه لمّا ركَع ركعتيّ الطواف والناس خلفه يقتدون به ، ظنّ الظانّ أنّها صلاة الظهر ، ولا سيّما إذا كان ذلك في وقت الظهر ، وهذا الوهم لا يُمكن دفع احتماله ، بخلاف صلاته بمنى فإنّها لا تحتمل غير الفرض .

الرابع : إنّه لا يحفظ عنه في حجّه أنّه صلّى الفرض بجوفِ مكّة ، بل إنّما كان يصلّي بمنزله بالمسلمين مدّة مقامه ، كان يصلّي بهم أين نزلوا ، لا يصلّي في مكان آخر غير المنزل العام .

الخامس : إنّ حديث ابن عمر متّفق عليه ، وإنّ حديث جابر مِن أفراد مسلم ، فحديث ابن عمر أصحّ منه ، وكذلك هو في إسناده ، فإنّ راويه أحفظ وأشهر وأنفق ، فأين يقع حاتم بن إسماعيل من عبيد الله ؟ وأين يقع جعفر من حفظ نافع ؟

٤١٥

السادس : إنّ حديث عائشة قد اضطربت في وقت طوافه ، فروي عنها على ثلاثة أوجه : أحدها : أنّه طاف نهاراً ، الثاني : أنّه أخّر الطواف إلى الليل ، الثالث : أنّه أفاض مِن آخر يومه فلم يضبط فيه وقت الإفاضة ، ولا مكان الصّلاة ، بخلاف حديث ابن عمر .

السابع : إنّ حديث ابن عمر أصحّ منه بلا نزاع ، فإنّ حديث عائشة مِن رواية محمّد بن إسحاق ، عن عبد الرحمان بن القاسم ، عن أبيه عنها ، وابن إسحاق مختلف في الاحتجاج به ، ولم يصرّح بالسماع بل عنعنه ، فكيف يقدم على قول عبيد الله حدّثني نافع عن ابن عمر ؟

الثامن : إنّ حديث عائشة ليس بالبيّن إنّه صلّى الظهر بمكّة ، فإنّ لفظه هكذا : أفاض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في آخر يوم صلّى الظهر ثمّ رجع إلى منى ، فمكث فيها ليالي أيّام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس ، كلّ جمرة بسبعِ حَصَيَات ، فأين دلالة هذا الحديث الصريحة على أنّه صلّى الظهر يومئذٍ بمكّة ؟ وأين هذا في صريح الدلالة إلى قول ابن عمر أفاض يوم النحر ثمّ صلّى الظهر بمنى راجعاً ؟ وأين حديث اتّفق أصحاب الصحيح على إخراجه إلى حديث اختلف في الاحتجاج به ؟ والله أعلم )(١) .

حديثٌ في أوّل ما نزل من القرآن

ومن ذلك : ما أخرجه في أنّ أوّل ما نزل من القرآن :( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) ، وقد صرّح النووي بأنّه ضعيفٌ ، بل باطل... قال ولي الدين أبو زرعة أحمد بن زين الدين عبد الرحيم العراقي في شرح حديث بدء الوحي من ( شرح الأحكام الصغرى ) : ( فيه دلالةٌ واضحة على أنّ أوّل ما نزل من القرآن :( اقْرَأْ ) .

ـــــــــــــــــــ

(١) زاد المعاد ٢ : ٢٨٠ كيفيّة حجّة الوداع .

٤١٦

وقد صحّ ذلك عن عائشة ، ورُوي عن أبي موسى الأشعري وعبيد بن عمير ، قال النووي : وهو الصواب الذي عليه الجماهير مِن السلف والخلف وفيه قولان آخران : أحدهما إنّ أوّل ما نزل :( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله وأبي سلمة بن عبد الرحمان ، قال النووي : وهو ضعيفٌ بل باطل...) .

حديثٌ في فضائل أبي سفيان

ومِن ذلك : ما أخرجه في فضائل أبي سفيان وهذه عبارته :

( حدّثنا عبّاس بن عبد العظيم العنبري وأحمد بن جعفر المعقري قالا : حدّثنا النضر ـ وهو ابن محمّد اليمامي ـ قال : حدّثنا عكرمة ، حدّثنا أبو زميل ، حدّثني ابن عبّاس قال : كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يُقاعدونه ، فقال لنبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا نبي الله ، ثلاث أعطنيهنّ ، قال :نعم ، قال : عندي أحسن العرب وأجمله أُمّ حبيبة بنت أبي سفيان أُزوّجكها قال :نعم ، قال : معاوية تجعله كاتباً بين يدك ، قال :نعم ، قال : وتؤمّرني حتّى أُقاتل الكفّار كما كنت أُقاتل المسلمين .

قال :نعم . قال أبو زميل : ولولا أنّه طلب ذلك من النبيّ ما أعطاه ذلك ؛ لأنّه لم يكن يُسأل شيئاً إلاّ قال : نعم )(١) .

قال في( زاد المعاد ) :

( وأمّا حديث عكرمة بن عمّار: عن أبي زميل ، عن ابن عبّاس : إنّ أبا سفيان قال للنبيّ...

فهذا الحديث غلطٌ ظاهر لا خفاء به .

قال أبو محمّد ابن حزم : وهو موضوع بلا شك ، كذّبه عكرمة بن عمّار .

قال ابن الجوزي ـ في هذا الحديث ـ : هو وهمٌ مِن بعض الرواة ، لا شكّ فيه ولا تردّد .

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح مسلم ٤ : ١٩٤٥ / ٢٥٠١ .

٤١٧

وقد اتّهموا به عكرمة بن عمّار ؛ لأنّ أهل التواريخ أجمعوا على أنّ أُمّ حبيبة كانت تحت عبيد الله بن جحش ، ولدت له ، وهاجر بها وهما مسلمان إلى أرض الحبشة ، ثمّ تنصّر وثبتت أُمّ حبيبة على إسلامها ، فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى النجاشي يخطبها عليه ، فزوّجه إيّاها وأصدقها عن رسول الله صداقاً ، وذلك في سنة سبع من الهجرة ، وجاء أبو سفيان في زمن الهدنة ودخل عليها فثنت فراش رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى لا يجلس عليه .

ولا خلاف أنّ أبا سفيان ومعاوية أسلما في فتح مكّة سنة ثمان .

وأيضاً : في هذا الحديث : إنّه قال له : وتؤمّرني حتّى أُقاتل الكفّار كما كنت أُقاتل المسلمين فقال : نعم .

ولا يعرف أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمّر أبا سفيان البتّة )(١) .

من كلمات الأئمّة في الكتابين

وعلى الجملة ، فإنّ الأحاديث الموضوعة والباطلة في كتاب مسلم كثيرة مثل كتاب البخاري ، وقد أوردنا طرفاً منها ونكتفي بها .

ومن هنا ، فقد قال الملاّ عليّ القاري في كتاب( الرجال ) ما نصّه :

( وقد وقع منه ـ أيّ من مسلم ـ أشياء لا تقوى عند المعارضة ، فقد وضع الحافظ الرشيد العطّار كتاباً على الأحاديث المقطوعة ، وبيّنها الشيخ محيي الدين النووي في أوّل شرح مسلم .

وما يقوله الناس : إنّ مَن روى له الشيخان فقد جاز القنطرة ، هذا أيضاً مِن التجاهل والتساهل .

فقد روى مسلم في كتابه عن الليث عن أبي مسلم وغيره من الضعفاء .

فيقولون إنّما روى عنهم في كتابه للاعتبار والشواهد والمتابعات .

وهذا لا يقوى ؛ لأنّ الحفّاظ قالوا : الاعتبار أُمور يتعرّفون بها حال الحديث وكتاب مسلم التزم فيه الصحّة ، فكيف يتعرّف حال الحديث فالذي فيه بطريق ضعيفة .

ـــــــــــــــــــ

(١) زاد المعاد في هدي خير العباد ١ : ١١٠ .

٤١٨

وقال الحافظ : أبو الزبير محمّد بن مسلم المكّي يدلّس في حديث جابر ، فما يصفه بالعنعنة لا يقبل ، وقد ذكر ابن حزم وعبد الحقّ عن الليث بن سعد أنّه قال لأبي الزبير : علّم لي على أحاديث سمعتها من جابر حتّى أسمعها منك ، فعلَّم لي على أحاديث أظنّ أنّها سبعة عشر حديثاً فسمعتها منه قال الحافظ : فما كان من طريق الليث عن أبي الزبير عن جابر فصحيح .

وفي مسلم عن طريق الليث من أبي الزبير عن جابر بالعنعنة أحاديث .

وقد روى أيضاً ، في كتابه عن جابر وابن عمر في حجّة الوداع ، أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توجّه إلى مكّة يوم النحر ، فطاف طواف الإفاضة ثمّ رجع فصلّى الظهر بمنى ، فيوجّهون ويقولون : أعادها لبيان الجواز ، وغير ذلك من التأويلات ، ولهذا قال ابن حزم في هاتين الروايتين أحدهما كذِب بلا شكّ .

وروى مسلم أيضاً حديث الإسراء فيه : وذلك قبل أنْ يُوحى إليه ، وقد تكلّم الحفّاظ في هذه اللّفظة وبيّنوا ضعفها .

وقد روى مسلم أيضاً : خلق الله التربة يوم السبت واتّفق الناس على أنّ السبت لم يقع فيه خلق ، وأنّ ابتداء الخلْق يوم الأحد .

وقد روى مسلم عن أبي سفيان أنّه قال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا أسلم : يا رسول الله ، أعطني ثلاثاً : تزوّج ابنتي أُمّ حبيبة ، وابني معاوية أجعله كاتباً ، وأمّرني أنْ أُقاتل الكفّار كما قاتلت المسلمين ، فأعطاه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما سأله .

والحديث معروف مشهور ، وفي هذا مِن الوهم ما لا يُحصى ، فأُمّ حبيبة تزوّجها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي بالحبشة ، وأصدقها النجاشي أربعمِئة دينار وحضر وخطب وأطعم ، والقصّة مشهورة ، وأبو سفيان وابنه معاوية إنّما أسلما عام الفتح وبين الهجرة إلى الحبشة والفتح عدّة سنين ، والجمهور على أنّها تزوّجها سنة ستّ ، وقيل سبْع ، وأسلم أبو سفيان عام الفتح سنة ثمان منٍ الهجرة ، وأمّا إمارة أبي سفيان فقد قال الحفّاظ أنّه لا يعرفونها .

٤١٩

فيجيبون بأجوبة غير طائلة ، فيقولون في إنكاح ابنته : إعتقد أنّ نكاحها بغير إذنه لا يجوز وهو حديث عهد بالكفر ، فأراد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجديد النكاح ، ويذكرون عن الزبير بن بكّار عن الزبير بن بكّار بأسانيدٍ ضعيفة أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمّره في بعض الغزوات ، وهذا لا يعرفه الأثبات .

وقد قال الحافظ : إنّ مسلماً لمّا وضَعَ كتابه الصحيح عرضه على أبي زرعة ، فأنكر عليه وتَغَيّظ وقال : سمَّيْتَه الصحيح وجعلته سُلَّماً لأهل البِدَع وغيرهم ) .

وقال ابن تيميّة :

( والمواضع المنتقدة غالبها في مسلم ، وقد انتصر طائفة لهما ـ يعني للبخاري ومسلم ـ فيها ، وطائفة قَوّت قول المنتقد ، والصحيح التفصيل ، فإنّ فيهما مواضعَ منتقدة بلا ريب مثل حديث : خلَق الله التربة يوم السبت ، وحديث : صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وأكثر )(١) .

وقال كمال الدين أبو الفضل الأدفوي في( الإمتاع في أحكام السماع ) :

( ثمّ أقول : إنّ الأُمّة تلقّت كلّ حديثٍ صحيح وحسن بالقبول وعملت به عند عدم العارض ، وحينئذٍ لا يختصّ بالصحيحين ، وقد تلقّت الأُمّة الكُتب الخمسة أو الستّة بالقبول ، وأطلق عليها جماعة اسم الصحيح ، ورجّح بعضهم بعضها على كتاب مسلم وغيره .

قال أبو سليمان أحمد الخطابي : كتاب السُنن لأبي داود كتابٌ شريف لم يصنّف في الدين كتابٌ مثله ، وقد رُزِق مِن الناس القبول كافّة ، فصار حكَماً بين فِرق العلماء وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم ، وكتاب السُنن أحسن وضعاً وأكثر فقهاً من كتب البخاري ومسلم .

وقال الحافظ أبو الفضل محمّد بن طاهر المقدسي : سمِعت الإمام أبا الفضل عبد الله بن محمّد الأنصاري بهراة يقول ـ وقد جرى بين يديه ذكر أبي عيسى الترمذي وكتابه فقال ـ : كتابه عندي أنفع مِن كتاب البخاري ومسلم .

ـــــــــــــــــــ

(١) منهاج السنّة ٧ : ٢١٥ وانظر ٥ : ١٠١ .

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456