استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

استخراج المرام من استقصاء الإفحام13%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 456

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 456 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 227017 / تحميل: 8319
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

يروون ـ وبين إنكار عائشة ، كقول القسطلاني تَبَعاً لابن حجر :

( وعلى هذا ، فيُمكن الجمع بين إثبات ابن عبّاس ونفي عائشة ، بأنْ يُحمل نفيها على رُؤية البصر ، وإثباتُه على رؤية القلب )(١) .

ولا يخفى بطلانه ؛ لأنّ في حديث الترمذي عن عكرمة أنّه اعترض على ابن عبّاس قوله بالمنافاة لقوله تعالى :( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) ، فلو كان ابن عبّاس يُريد بالقلب لأجابه ذلك ، لا بما جاء في الحديث ؛ لأنّ رؤية القلب لا تختصّ بوقتٍ دون وقت .

على أنّ هناك حديثاً صريحاً في إرادته الرؤية بالبصر ، ولأجله استدرك القسطلاني الكلام قائلاً :

( لكنْ روى الطبراني في الأوسط بإسنادِ رجاله رجال الصحيح خلا جهور بن منصور الكوفي ـ وجهور بن منصور قد ذكره ابن حبّان في الثقات ـ عن ابن عبّاس أنّه كان يقول : إنّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى ربّه مرّتين ، مرّةً ببَصَرِه ومرّةً بفؤاده )(٢) .

وذكر أيضاً : ( جَنَح ابن خزيمة في كتاب التوحيد إلى ترجيح الإثبات ، وأطنَب في الاستدلال بما يطول ذكره ، وحمَل ما ورَد عن ابن عبّاس على أنّ الرؤية وقعت مرّتين ، مرّةً بقلبه ومرّةً بعينه )(٣) .

وكذلك محمّد بن يوسف الشامي ، فإنّه ذكر الجمع المزبور في الثالث من التنبيهات ، ثمّ عدل عنه في الخامس منها حيث قال :

ـــــــــــــــــــ

(١) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة ٢ : ٣٩٣ .

(٢) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة ٢ : ٣٩٣ .

(٣) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة ٢ : ٣٩٣

٤١

 ( قال ابن كثير : مَن روى عن ابن عبّاس أنّه رآه ببصره ، فقد أغرب ؛ فإنّه لا يصحّ في ذلك شيء عن الصحابة ، وقول البغوي : وذهب جماعة إلى أنّه رآه بعينه ـ وهو قول أنَس والحسن وعكرمة ـ فيه نظر .

قلت : سبَق البغوي إلى ذلك الإمامُ أبو الحسن الواحدي وقول ابن كثير : إنّه لا يصحّ في ذلك شيءٌ عن الصحابة ، ليس بجيّد ، فقد روى الطبراني بسندٍ صحيح عن ابن عبّاس أنّه كان يقول : نظر محمّدٌ إلى ربّه مرّتين ، مرّةً ببصره ومرّةً بفؤاده )(١) .

وتلخّص : إنّ الجمع المذكور ساقط ، والأحاديث على خلافه .

وممّا يشهد بسقوطه : كلام الزهري ، فإنّه ردّ على عائشة إنكارها على ابن عبّاس ، كما في ( عيون الأثر ) قال :

( وفي تفسير عبد الرزاق : عن معمر ، عن الزهري ، وذكَر إنكار عائشة أنّه رآه فقال الزهري : ليستْ عائشة أعلم عندنا من ابن عبّاس وفي تفسير ابن سلام عن عروة : أنّه كان إذا ذكَر إنكار عائشة يشتدّ ذلك عليه )(٢) .

فلو كان للجمع المذكور أو غيره وجهٌ لما اتّخذ الزهري هذا الموقف .

هذا ، على أنّه لا فرق بين رؤية القلب ورؤية البصر ، إذ ليس المراد من ( رؤية القلب ) هو ( العلم بالله ) ؛ لأنّ هذا يحصل في كلّ وقت ، وليس له وقتٌ مخصوص ، بل المراد هو حصول خلقٍ له في قلبه كما تخلق الرؤية بالعين ، وهذا ما نصّ عليه الشهاب القسطلاني حيث قال :

( ثمّ إنّ المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب ، لا مجرّد حصول العلم ؛ لأنّه كان

ـــــــــــــــــــ

(١) سُبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ٣ : ٦٣ .

(٢) عيون الأثر في المغازي والسير ١ : ٢٥٠ ـ ٢٥١ .

٤٢

عالماً بالله على الدوام ، بل مراد مَن أثبت له أنّه رآه بقلبه أنّ الرؤية التي حصلت له خُلقت له في قلبه كما تُخلق الرؤية بالعين لغيره ، والرؤية لا يُشترط لها شيءٌ مخصوص عقلاً ، ولو جرت العادة بخلقها في العين ) (١) .

ومحمّد بن يوسف الشامي قال :

( قال الحافظ : المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب لا مجرّد حصول العلم ؛ لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عالماً بالله تعالى على الدوام ، بل مراد مَن أثبت له أنّه رآه بقلبه : إنّ الرؤية التي حصلت له خُلقت في قلبه كما تُخلق الرؤية بالعين لغيره .

وزاد صاحب السراج : بخلاف غيره من الأولياء ، فإنّهم إذا أطلقوا الرؤية والمشاهدة لأنفسهم ، فإنّهم إنّما يريدون المعرفة ، فاعلمه فإنّه من الأُمور المهمّة التي يغلط فيها كثير من الناس انتهى .

والرؤية لا يُشترط لها شيءٌ مخصوص عقلاً ، ولو جرت العادة بخلقها في العين قال الواحدي : وعلى القول بأنّه رأى بقلبه جعل الله تعالى بصره في فؤاده ، أو خلق لفؤاده بصراً حتّى رأى ربّه رؤيةً صحيحةً كما يُرى بالعين )(٢) .

والحاصل : إنّه لا يبقى ـ على هذا ـ فرقٌ بين رؤية القلب ورؤية البصر ، وبأيّ وجهٍ تكون دعوى الرؤية بالبصر فريةً عظيمةً ، كذلك دعوى الرؤية بالقلب .

ـــــــــــــــــــ

(١) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة ٢ : ٣٩٣ .

(٢) سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ٣ : ٦٣

٤٣

إنكار عائشة على ابن عبّاس في مسائل أُخرى

هذا ، وقد أنكرت عائشة على ابن عبّاس في مسائل أُخرى أيضاً ، ففي ( الصحيحين ) : ( عن عمرة بنت عبد الرحمن : إنّ زياد بن أبي سفيان كَتب إلى عائشة : إنّ عبد الله بن عبّاس قال : مَن أهدى هدْياً حرم عليه ما يحرم على الحاج ، حتّى ينحر هديه ، وقد بعثت بهدي فاكتبي إليّ بأمرك قالت عمرة : قالت عائشة : ليس كما قال ابن عبّاس... )(١) .

قول ابن عبّاس بوقوع الغلط في القرآن

واشتهر عن ابن عبّاس القول بوقوع الخطأ والغلط في القرآن العظيم ، الذي عليه مدار الإيمان وهو أصل الإسلام...

قال السيوطي ـ بعد ذكر بعض الأحاديث الدالّة على وقوع اللّحن في القرآن :

( ويقرب ممّا تقدّم عن عائشة :

ما أخرجه ابن جرير وسعيد بن منصور في سُننه من طريق سعيد بن جُبير ، عن ابن عبّاس في قوله :( حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا... ) قال : إنّما هي خطأ مِن الكاتب ، حتّى تستأذنوا وتسلّموا .

أخرجه ابن أبي حاتم بلفظ : هو ـ فيما أحسب ـ ممّا أخطأ به الكتّاب .

وما أخرجه ابن الأنباري من طريق عكرمة عن ابن عبّاس أنّه قرأ :( أفَلَم

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ، كتاب الحج ، باب من قلّد القلائد بيده صحيح مسلم ، كتاب الحج ، باب استحباب بعث الهدْي إلى الحرم...

٤٤

يتبيّن الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى النّاس جميعاً ) . فقيل له : إنّها في المصحف : ( أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا.. ) .

قال : أظنّ الكاتب كتبها وهو ناعس .

وما أخرجه سعيد بن منصور ، من طريق سعيد بن جُبير ، عن ابن عبّاس أنّه كان يقول في قوله :( وَقَضَى رَبُّكَ.. ) إنّما هي :ووصّى ربّك ، التزقت الواو بالصاد .

وأخرجه ابن أشته بلفظ : استمدّ الكاتب مداداً كثيراً ، فالتزقت الواو بالصاد .

وأخرج هو مِن طريق الضحاك عن ابن عبّاس أنّه كان يقرأ :ووصّى ربّك ويقول : أمر ربّك ، أنّهما واوان التصقت إحداهما بالصاد .

وأخرج من طريقٍ أُخرى عن الضحّاك أنّه قال : كيف تقوأ هذا الحرف ؟ قال :( وَقَضَى رَبُّكَ.. ) قال : ليس كذلك نقرؤها نحن ولا ابن عبّاس ، إنّما هي :ووصّى ربّك ، كذلك كانت تُقرأ وتُكتب ، فاستمدّ كاتبكم فاحتمل القلم مداداً كثيراً فالتزقت الواو بالصاد ، ثمّ قرأ :( وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ.. ) ، ولو كانت قضاءً من ربّك لم يستطع أحدٌ ردّ قضاء الربّ ، ولكنّه وصيّة أوصى بها العباد .

وما أخرجه سعيد بن منصور وغيره ، من طريق عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عبّاس أنّه كان يقرأ :وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ ضِيَاء ، ويقول : خذوا هذهِ الواو واجعلوها هاهنا( و الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ... ) الآية .

وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق الزبير بن خِرّيت ، عن عكرمة ، عن ابن عبّاس : انزعوا هذهِ الواو فاجعلوها في : الذين يحملون العرش ومن حوله .

وما أخرجه ابن أشتة وابن أبي حاتم من طريق عطا ، عن ابن عبّاس ، في قوله تعالى :( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ.. ) قال : هي خطأٌ من الكاتب ، هو أعظم من أنْ يكون نوره مثل نور المشكاة ، إنّما هي مثل نور المؤمن من المشكاة )(١) .

ـــــــــــــــــــ

(١) الدر المنثور ٥ : ٦٣٤ ، ٦ : ١٩٧ .

٤٥

أُبيّ بن كعب

وأمّا أُبيّ بن كعب ، فقد زاد في القرآن الكريم ، وأدخل فيه ما ليس منه ، كما تقدّم سابقاً كما أنّه نقص منه ، إذ وافق ابن مسعود في إنكار المعوّذتين ، كما جاء في كتاب ( فصول الأحكام ) حيث قال :

إنكاره المعوّذتين

( ومَن زعم أنّ المعوّذتين ليستَا من القرآن ، فقد ذُكر في فتاوى أبي الليث أنّه لا يُكفّر ؛ فإنّه روي عن ابن مسعود و أُبيّ بن كعبرضي‌الله‌عنه ما أنّهما ليسَتَا من القرآن ) .

فأُبيّ على هذا القول أيضاً ، وأبو الليث وإنْ كان قد أفتى بعدم الكُفر ، فقد سبق أنّ جماعة مِن الأكابر يكفّرون المُنكِر ، بل تقدّم عن النووي أنّه إجماع المسلمين...

بل إنّ القوم يرَون بأنّ أدنى المخالفة لمصحف عثمان تستوجب الهتك ، والتفسيق ، والتضليل ، والتعزير ، كما وقع بحقِّ ابن شنبوذ :

قال ياقوت الحموي في( معجم الأُدباء ) بترجمة محمّد بن أحمد بن أيّوب بن الصّلت بن شنبوذ :

( حدّث إسماعيل بن عليّ الخطيبي في كتاب التاريخ قال : واشتهر ببغداد أمر رجلٍ يُعرف بابن شنبوذ ، يُقرئ النّاس ، ويُقرَأُ في المحراب بحروفٍ يُخالف فيها المصحف ، فيما يُروى عن عبد الله بن مسعود وأُبي بن كعب وغيرهما ، ممّا كان يقرأ به قبل المصحف الذي جمعه عثمان ، ويتتبّع الشواذ فيَقرأ بها ويُجادل ، حتّى عظم أمره وفحش وأنكره النّاس ، فوجّه السلطان وقبض عليه في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمئة ، وحُمل إلى دار الوزير محمّد ابن مقلة ، واُحضر القضاة والفقهاء والقرّاء ، وناظره الوزير بحضرته فأقام على ما ذكره عنه ونصره ، واستنزله الوزير عن ذلك فأبى أنْ ينزل عنه أو يرجع عمّا يقرأ به من هذهِ الشواذ المنكرة التي تزيد على المصحف العثماني ، فأنكر ذلك جميع من حضر المجلس وأشاروا بعقوبته ومعاملته بما يضطرّه إلى الرجوع ، فأمر بتجريده وإقامته بين الخبّازين ، وأمر بضربه بالدرّة على قفاه ، فضرب نحو العشرة ضرباً شديداً ، فلم يصبر واستغاث وأذعن بالرجوع والتوبة ، فخلّى عنه ) .

٤٦

( قرأت في كتاب ألّفه القاضي أبو يوسف عبد السَّلام القزويني ، سمّاه :( أفواج القرّاء ) ، قال : كان ابن شنبوذ أحد القرّاء المتنسّكين ، وكان يرجع إلى ورع ، ولكنّه كان يميل إلى الشواذّ ويقرأ بها ، ورُبّما أعلن ببعضها في بعض صلواته التي يجهر فيها بالقراءة ، وسُمع ذلك منه ، وأُنكِر عليه فلم ينته للإنكار .

فقام أبو بكر ابن مجاهد فيه حقّ القيام وأشهر أمره ، رفع حديثه إلى الوزير في ذلك الوقت ، وهو أبو عليّ ابن مقلة ، فأُخذ وضُرب أسواطاً زادت على العشرة ولم تبلغ العشرين ، وحُبس واستتيب فتاب ، وقال : إنّي قد رجعت عمّا كنت أقرأ به ، ولا أُخالف مصحف عثمان ، ولا أقرأ إلاّ بما فيه من القراءة المشهورة .

وكتب عليه بذلك الوزير أبو علي محضراً بما سمع من لفظه ، وأمره أنْ يكتب في آخره بخطّه ، وكان المحضر بخطّ أبي الحسين أحمد بن محمّد بن ميمون ، وكان أبو بكر ابن مجاهد تجرّد في كشفه ومناظرته ، فانتهى أمره إلى أنْ خاف على نفسه من القتل .

وقام أبو أيّوب السمسار في إصلاح أمره ، وسأل الوزير أبا علي أنْ يطلقه وأنْ ينفذه إلى داره مع أعوانه بالليل خيفةً عليه لئلاّ يقتله العامّة ، ففعل ذلك ، ووجّه إلى المدائن سرّاً مدّة شهرين ، ثمّ دخل بيته ببغداد مستخفياً من العامّة )(١) .

مَن كفر بآية من القرآن كفر بكلّه

هذا ، ومقتضى نصوص عبارات القوم وفتاواهم ، وهو كُفر من كَفر بآيةٍ أو بحرفٍ من القرآن الكريم :

قال القاضي عياض في( الشفا ) :

( قال أبو عثمان ابن الحدّاد : جميع من ينتحل التوحيد متّفقون على أنّ الجحد لحرفٍ من التنزيل كُفر وكان أبو العالية إذا قرأ عنده رجلٌ لم يقل له ليس كما قرأت ، ويقول : أمّا أنا فأقرأ كذا ، فبلغ ذلك إبراهيم ، فقال : أراه سمِع أنّه من كفر بحرفٍ منه فقد كفر به كلّه )(٢) .

قال : ( وقال محمّد بن سحنون فيمن قال المعوّذتان ليسَتَا من كتاب الله :

ـــــــــــــــــــ

(١) معجم الأُدباء ١٧ : ١٦٨ ـ ١٧١ / ٥٧ .

(١) الشفا بتعريف حقوق المصطفى ٢ : ٦٤٨ ـ ٦٤٩ .

٤٧

يضرب عنقه إلاّ أنْ يتوب ) (١) .

وقال الشهاب الخفاجي في( نسيم الرياض ) :

( وقال عبد الله بن مسعودرضي‌الله‌عنه ـ فيما رواه عبد الرزّاق عنه ـ مَن كفر بآيةٍ من القرآن فقد كفر به كلّه ؛ لأنّه تكذيب لقائلها عزّ وجلّ وقال أصبغ ابن الفرج ـ بالجيم ـ المصري ـ : من كذّب ـ بالتشديد ـ ببعض القرآن فقد كذّب به كلّه ، ومن كذّبه كلّه فقد كفر به ، ومن كفر به فقد كفر بالله سبحانه )(٢) .

ـــــــــــــــــــ

(١) الشفا بتعريف حقوق المصطفى ٢ : ٦٤٨ .

(٢) نسيم الرياض بشرح الشفا للقاضي عياض ٤ : ٥٥٩ .

٤٨

زيد بن ثـابت

وأمّا زيد بن ثابت.. فقد قدح فيه الصحابي أبو حسن المازني الأنصاري ، بدعوته الأنصار يوم الدار لنصرة عثمان بن عفّان ، فخاطبه أبو حسن بآية من القرآن الكريم مفادها الضلال والإضلال...

وقد ترجم الحافظ ابن حجر أبا حسن المازني قائلاً :

( أبو حسن الأنصاري ثمّ المازني ، جدّ يحيى بن عمارة بن أبي حسن ، مشهور بكنيته ، واسمه تميم بن عمرو ، وقيل : ابن عبد عمرو ، وقيل : ابن عبد قيس بن مخرمة بن الحارث بن ثعلبة بن مازن قال ابن السكن : بدري ، له صحبة ، وساق من طريق حسين بن عبد الله الهاشمي ، ثنا عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي حسن ، عن أبيه ، عن جدّه أبي حسن ـ وكان عقبياً بدرياً ـ : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان جالساً ومعه نفر من أصحابه ، فقام رجلُ ونسي نعليه ، فأخذهما آخر فوضعهما تحته ، فجاء الرجل فقال : نعلي ، فقال القوم : ما رأيناهما فقال الرجل : أنا أخذتهما وكنت ألعب ، فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( فكيف بروعة المؤمن ) قالها ثلاثاً )(١) .

توصيفه بالضلال والإضلال

وأمّا قضيّته مع زيد بن ثابت ، فقد ذكرها الحافظ ابن عبد البر بترجمته إذ قال :

ـــــــــــــــــــ

(١) الإصابة في معرفة الصحابة ٧ : ٤٣/ ٢٧٢ .

٤٩

 ( له صحبة ، يُقال : إنّه ممّن شهد العقبة وبدراً وأبو حسن المازني هو القائل لزيد بن ثابت حين قال يوم الدار: يا معشر الأنصار ، كونوا أنصار الله ـ مرّتين ـ فقال له أبو حسن : لا والله ، لا نطيعك فنكون كما قال الله تعالى : ( ..أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا ) ويُقال : بل قال له ذلك : النعمان الزرقي ) (١) .

فكان زيد ودعوته لنصرة عثمان ـ عند هذا الصحابي ـ مصداقاً للآية المباركة :( إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً *خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً *يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا *وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا *رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً ) (٢) .

هذا ، ولا يخفى أنّ القول بكون القائل هو النعمان الزرقي لا يضرّ باستدلالنا ؛ لأنّه أيضاً من معارف الصحابة ، وقد ترجم له في ( الاستيعاب ) وقال بأنّه : ( كان لسان الأنصار وشاعرهم ) ووصفه بأنّه ( كان سيّداً )(٣) .

توصيفه بالجور في الحكم

وعن عمر بن الخطّاب ـ وهو خليفتهم الثاني ، المُدّعى له العصمة كما نَقل الشيخ عبد العلي الأنصاري في( شرح المثنوي ) عن بعضهم ـ أنّه وصَف

ـــــــــــــــــــ

(١) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ٤ : ١٦٣٢/ ٢٩١٥ .

(٢) سورة الأحزاب ٣٣ : ٦٤ ـ ٦٨ .

(٣) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ٤ : ١٥٠١/ ٢٦١٩ .

٥٠

زيد بن ثابت بالجور في الحكم ، في خصومةٍ كانت بينه وبين أُبيّ بن كعب فتحاكما إليه :

( عن الشعبي قال : كان بين عُمر وبين أُبيّ بن كعب خصومة ، فقال عُمر : اجعل بيني وبينك رجلاً ، فجعلا بينهما زيد بن ثابت ، فأتَياه ، فقال عمر : أتيناك لتحكم بيننا ، وفي بيته يُؤتى الحكَم.

فلمّا دخلا عليه وسّع له زيد عن صدر فراشه ، فقال : هاهنا يا أمير المؤمنين ، فقال له عمر : هذا أوّل جور جُرتَ في حكمك ، ولكنْ أجلس مع خصمي ، فجلَسا بين يديه ، فادّعى أُبيّ وأنكر عمر ، فقال زيد لأُبي : اُعف أمير المؤمنين من اليمين ، وما كانت لأسألها لأحدٍ غيره ، فحلَف عمر ، ثمّ أقسم لا يدرك زيدٌ القضاء حتّى يكون عمر ورجلٌ من عرَض المسلمين عنده سواء هق كر )(١) أي رواه سعيد بن منصور في سُننه ، والبيهقي في سُننه ، وابن عساكر في تاريخه .

( عن الشعبي قال : تنازع في جداد نخل أُبيّ بن كعب وعمر بن الخطّاب ، فبكي أُبيّ ثمّ قال : أَفي سلطانك يا عمر ؟ ! فقال عمر : اجعل بيني وبينك رجلاً من المسلمين ، قال أُبيّ : زيد ، قال : رضيت .

فانطلقا حتّى دخلا على زيد ، فلمّا رأى زيدٌ عمر تنحّى عن فراشه ، فقال عمر : في بيته يؤتى الحكَم فعرف زيد أنّهما جاءا ليتحاكما إليه ، فقال لأُبيّ : تقصُّ ، فقصّ ، فقال له عمر : تذكّر لعلّك نسيت شيئاً ، فتذكّر ثمّ قصّ ، حتّى قال : ما أذكر شيئاً فقصّ عمر ، قال زيد : بيِّنَتك يا أُبيّ ، فقال : مالي بيّنة ، قال : فاعف [عن] أمير المؤمنين من اليمين ، فقال عمر : لا تعف أمير المؤمنين

ـــــــــــــــــــ

(١) كنز العمّال ٥ : ٨٠٨/ ١٤٤٤٥ .

٥١

عن اليمين إنْ رأيتها عليه كر ) (١) .

أقول :

لم يشأ الرواة أنْ ينقلوا الواقعة على ما وقعت عليه كاملةً ، وحاولوا التكتّم على بعض جزئيّاتها المهمّة.. لكنّ الباحث المحقّق قد يعثر على طرفٍ من ذلك في سائر الكتب :

قال الراغب في( المحاضرات ) :

( وكان زيد بن ثابت يقضي لعُمَر بالمدينة ، وتقدَّم إليه عمر مع أُبَيّ في جداد تنازعاه ، فخرج إليهما فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، هاهنا هاهنا ثمّ توجّهت اليمين على عمر ، فقال زيد لأُبيّ : اُعف أمير المؤمنين من اليمين .

فقال له عمر : ما زلت جائراً مُنذ اليوم ! السلام عليك يا أمير المؤمنين ، وهاهنا هاهنا ، واعف أمير المؤمنين !! )(٢) .

ففي هذه الرواية : ( فقال عمر: ما زلت جائراً مُنذ اليوم ) ، وهذه الجملة ممّا تكتَّم عليه القوم...

أ حاديث في ذمّ القاضي الجائر

فكان ( زيد بن ثابت ) قاضياً بالمدينة ، وكان ( جائراً ) كما ذكر عمر ، والأحاديث في ذمِّ القاضي الجائر مستفيضة في كُتب المسلمين :

روى الحافظ المنذري في ( الترغيب والترهيب ) عن أبي سعيد الخدريرضي‌الله‌عنه :

ـــــــــــــــــــ

(١) كنز العمّال ٥ : ٨٣٩/ ١٤٥٢٥ .

(٢) المحاضرات للراغب الأصفهاني ١ : ١٩٤ وجِدادُ النَّحْل : صِرامُه ، وقد جَدَّه يَجُدُّه كتاب العين ٦ : ١٠ ( جد ) .

٥٢

 ( قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أحبّ الناس إلى الله يوم القيامة ، وأدناهم منه مجلساً إمامٌ عادل ، وأبغض الناس إلى الله تعالى ، وأبعدهم منه مجلساً إمامٌ جائر رواه الترمذي والطبراني في الأوسط مختصراً ، إلاّ أنّه قال : أشدّ النّاس عذاباً يوم القيامة إمامٌ جائر وقال الترمذي : حديثٌ حسنٌ غريب .

وعن عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( أفضل النّاس عند الله منزلةً يوم القيامة ، إمامٌ عدلٌ رفيق ، وشرّ عباد الله عند الله منزلةً يوم القيامة ، إمامٌ جائرٌ خِرق ) رواه الطبراني في الأوسط ، من رواية ابن لهيعة ، وحديثه حسن في المتابعات .

عن عبد الله بن مسعودرضي‌الله‌عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّ أشدّ أهل النّار عذاباً يوم القيامة ، مَن قَتل نبيّاً أو قتله نبيّ ، وإمامٌ جائر ) رواه الطبراني ، ورواته ثقات ، إلاّ ليث بن أبي سليم ، وفي الصحيح بعضه ، ورواه البزّار بإسنادٍ جيّد إلاّ أنّه قال : وإمام ضلالة .

وعن أبي هريرةرضي‌الله‌عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أربعة يبغضهم الله : البيّاع الحلاّف ، والفتى المختال ، والشيخ الزاني ، والإمامُ الجائر ) . رواه النسائي وابن حبّان في صحيحه ، وهو في مسلم بنحوه إلاّ أنّه قال : وملِكٌ كذّاب وعائلٌ مستكبر .

وروي عن أبي هريرةرضي‌الله‌عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( ثلاثة لا يَقبل الله لهم شهادة أنْ لا إله إلاّ الله ) ، فذكر منهم : الإمامُ الجائر رواه الطبراني في الأوسط .

وعن ابن عمررضي‌الله‌عنه ما عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( السلطان ظلّ الله في الأرض ، يأوي إليه كلُّ ظلوم من عباده ، فإنْ عدَل كان له الأجر ، وكان على الرعيّة الشكر ، وإنْ جار أو حَافَ أو ظلَم كان عليه الوزر ، وعلى الرعيّة الصبر ، وإذا جارت الولاة قحطت السّماء ، وإذا مُنعت الزكاة هلكت المواشي ، وإذا ظَهَرَ الزنا ظهر الفقر والمسكنة ، وإذا أخفرت الذمّة أُديل الكفّار ) ، أو كلمة نحوها .

عن أبي هريرةرضي‌الله‌عنه ، أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( مَن طلَب قضاء المسلمين حتّى يناله ثمّ غلَب عدلُه جورَه ، فله الجنّة [وإنْ غلََب جورُه عدلَه فله النّار] ) . رواه أبو داود .

٥٣

وعن ابن بريدة ، عن أبيهرضي‌الله‌عنه ما : أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( القضاة ثلاثة ، قاضيان في النّار وقاضٍ في الجنّة : رجلٌ قضى بغير الحقّ يعلم بذلك فذلك في النّار ، وقاضٍ لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النّار ، وقاضٍ قضى بالحق فذلك في الجنّة ) . رواه أبو داود ـ وتقدّم لفظه ـ وابن ماجة والترمذي واللفظ له ، وقال : حديثٌ حسن غريب .

وعن ابن أبي أوفىرضي‌الله‌عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّ الله مع القاضي ما لم يجر ، فإذا جار تخلّى عنه ولزِمه الشيطان ) . رواه الترمذي وابن ماجة وابن حبّان في صحيحه ، والحاكم إلاّ أنّه قال : فإذا جار تبرّأ الله منه رووه كلّهم مِن حديث عمران القطّان [وقال الترمذي حديث حسن غريب لا نعرفه إلاّ من حديث عمران القطّان] وقال الحاكم : صحيح الإسناد قال الحافظ : وعمران يأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى )(١) .

ـــــــــــــــــــ

(١) الترغيب والترهيب ٣ : ١٦٧ ـ ١٧٢/ ٧ و٨ و١٠ و١١ و١٣ و١٤ و١٩ و٢٠ و٢١ .

٥٤

إنّه زاد في القرآن ونقص منه

وهذا ممّا ذكر عمر بن الخطّاب مخاطباً به زيد بن ثابت ، وأخرجه القوم في كُتب الحديث :

( عن زيد بن ثابت : إنّ عمر بن الخطّاب استأذن عليه يوماً ، فأذن له ورأسه في يد جاريةٍ له ترجّله ، فنزع رأسه ، فقال له عمر : دعها ترجّلك ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، لو أرسلت إليّ جئتك فقال عمر : ليس هو بوحي حتّى نزيد فيه أو ننقص ، إنّما هو شيءٌ نراه ، فإنْ رأيته ووافقتني تبعته ، وإلاّ لم يكن عليك فيه شيء فأبى زيد ، فخرج عمر مغضباً )(١) .

فصريح هذا الكلام أنّ زيد بن ثابت زادَ في القرآن ونقّص منه ، وقد ذكر القاضي عياض في ( الشفاء ) ما نصّه :

( قد أجمع المسلمون على أنّ القرآن المتلوّ في جميع أقطار الأرض ، المكتوب في المصحف بأيدي المسلمين ، ممّا جمعه الدفّتان ، من أوّل( الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) إلى آخر( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ) : أنّه كلام الله ووحيه المُنزل على نبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ جميع ما فيه حق ، وأنّ من نقص منه حرفاً قاصداً لذلك أو بدّله بحرفٍ آخر مكانه ، أو زاد فيه حرفاً ممّا لم يشتمل عليه المصحف الذي وقع الإجماع عليه ، وأجمع على أنّه ليس من القرآن ، عامداً لكلّ هذا ، إنّه كافر )(٢) .

ـــــــــــــــــــ

(١) كنزل العمّال ١١ : ٦٣/ ٣٠٦٣١ .

(٢) الشفا بتعريف حقوق المصطفى ٢ : ٦٤٧

٥٥

ردّه عمر بن الخطّاب في آيةٍ مع قبوله خزيمة في أُخرى

وكما كان عمر لا يعتمد على زيد ويتكلّم فيه ، كذلك زيد لم يعتمد على عمر وردّه لمّا كان يجمع القرآن ، حيث جاء عمر بآيةٍ ليكتبها فلم يقبل منه ، مع أنّه قبل خزيمة بن ثابت في آيةٍ أُخرى وكتبها ، هذا ، وعمر أفضل ـ عندهم ـ من خزيمة مئة مرّة ، ومع أنّهم يقولون بأنّ خبر مثل عمر بن الخطّاب بوحده مفيدٌ لليقين ، كما ذكر عبد العزيز الدهلوي ، وقد ذكر القصّة الحافظ جلال الدين السيوطي حيث قال :

( قد أخرج ابن أشتة في المصاحف عن الليث بن سعد قال : أوّل مَن جمع القرآن أبو بكر ، وكتبه زيد ، وكان الناس يأتون زيد بن ثابت ، فكان له يكتب آيةً بشاهدي عدل ، وإنّ آخِر سورة براءة لم يوجد إلاّ مع خزيمة بن ثابت فقال : اُكتبوها ، فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل شهادته بشهادة رجلين ، فكتب وإنّ عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها ؛ لأنّه كان وحده ).

فكيف قبل شهادة خزيمة ولم يقبل شهادة عمر ؟

وإذا كان خبر عمر مفيداً لليقين ، فالقرآن ناقص .

٥٦

أبو موسى الأشعري

وأمّا أبو موسى الأشعري ، فهذا طرف من حالاته وأخباره المُسقطة له عن الاعتبار والاعتماد .

انحرافه عن أمير المؤمنين

لقد كان أبو موسى الأشعري من المنحرفين عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهذا من الأُمور الثابتة ، وقد ذكر بترجمته من الكتب المعروفة :

قال ابن عبد البرّ:

( ولم يزل على البصرة إلى صدرٍ من خلافة عثمان ، ثمّ لمّا دفع أهلُ الكوفة سعيد بن العاص ولّوا أبا موسى ، وكتبوا إلى عثمان يسألونه أنْ يولّيه ، فأقرّه ، فلم يزل على الكوفة حتّى قُتل عثمان ، ثمّ كان منه بصفّين وفي التحكيم ما كان ، وكان منحرفاً عن عليّ ؛ لأنّه عزله ولم يستعمله ، وغلبه أهل اليمين في إرساله في التحكيم )(١) .

ترجمة ابن عبد البر

وابن عبد البر ، المتوفّى سنة ٤٦٣ ، من أكابر الحفّاظ المعتمدين ، وتراجمه في كتب القدماء والمتأخّرين تُنبئ عن جلالة شأنه وعظَمة قدره بين العلماء المشهورين :

ـــــــــــــــــــ

(١) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ٤ : ١٧٦٣ ـ ١٧٦٤/ ٣١٩٣ .

٥٧

ترجم له ابن خلّكان ووصفه بـ ( إمام عصره في الحديث والأثر وما يتعلّق بهما ) ثمّ أورد عن أبي الوليد الباجي : ( لم يكن بالأندلس مثل أبي عمر ابن عبد البر في الحديث ) ، وأنّه ( أحفظ أهل المغرب ) ، وعن أبي عليّ الغسّاني ( ابن عبد البر شيخنا... برع براعةً فاق فيها مَن تقدّمه من رجال الأندلس ) ثمّ ذكر بعض تواليفه وعن ابن حزم : ( لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله ، فكيف أحسن منه... ) ؟ (١) .

وقال الذهبي بترجمته ما ملخّصه :

( ابن عبد البر ، الإمام العلاّمة  حافظ المغرب ، شيخ الإسلام ، أبو عمر يوسف بن عبد الله ، صاحب التصانيف الفائقة ، طلب العلم وأدرَك الكبار وطال عمره وعلا سنده ، وتكاثر عليه الطلبة ، فكان فقيهاً عابداً مجتهداً .

قال الحميري : أبو عمر فقيهٌ حافظٌ مكثر... وقال أبو علي الغسّاني :

قلت : كان إماماً ديّناً ، ثقة ، متقناً ، علاّمة ، مُتبحّراً ، صاحب سنّةٍ واتّباع ، ممّن بلغ رتبة الأئمّة المجتهدين .

قال أبو القاسم ابن بشكوال : ابن عبد البر إمام عصره وواحد دهره ، يكنّى أبا عمر .

قال أبو علي ابن سكّرة : سمعت أبا الوليد الباجي يقول... )(٢) .

كلام حذيفة بن اليمان في أبي موسى لانحرافه

وذكر ابن عبد البرّ بترجمة أبي موسى في موضع آخر من كتابه :

ـــــــــــــــــــ

(١) وفيات الأعيان ٧ : ٦٦ ـ ٦٧/ ٨٣٧ .

(٢) سيرة أعلام النبلاء ١٨ : ١٥٣/ ٨٥ .

٥٨

 ( ولاّه عمر البصرة في حين عزَل المغيرة عنها [فلم يزل عليها] إلى صدرٍ من خلافة عثمان ، فعزله عثمان عنها وولاّها عبد الله بن عامر بن كريز ، فنزل أبو موسى حينئذٍ الكوفة وسكنها ، فلمّا دفع أهل الكوفة سعيد بن العاص ولّوا أبا موسى ، وكتبوا إلى عثمان يسألونه أنْ يولّيه ، فأقرّه عثمان على الكوفة ، إلى أنْ مات ، وعزَله عليّ رضي الله عنها ، فلم يزل واجداً على عليّ حتّى جاء منه ما قال حذيفة ، فقد رُوي فيه لحذيفة كلام كرهت ذكره ، والله يغفر له ثمّ كان من أمره يوم الحكَمَين ما كان ) (١) .

إذنْ ، فقد كان أبو موسى ( منحرفاً ) عن عليّ... و( لم يزل واجداً ) على الإمامعليه‌السلام ... لكنْ ما هو كلام حذيفة فيه الذي ( كره ) ابن عبد البر ذكره ؟ ! وحذيفة صاحب سرّ رسول الله ، وهو الذي كان يعرف المنافقين من الصّحابة ، لاسيّما الذين أرادوا اغتيال النبيّ في العقبة...

عليّ باب حطّة من خرج منه كان كافراً

وفي الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال :( عليٌّ بابُ حطّة ، من دخل منه كان مؤمناً ، ومن خرج منه كان كافراً ) أخرجه الدارقطني عن ابن عبّاس ، وعنه ابن حجَر المكّي في ( الصواعق ) والسيوطي في ( الجامع الصغير )(٢) .

وكذا أخرجه الديلمي عن ابن عمر(٣) .

ـــــــــــــــــــ

(١) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ٣ : ٩٨٠/ ١٦٣٩ .

(٢) الصواعق المحرقة ٢ : ٣٦٥ ـ ٣٦٦ ، الجامع الصغير ٢ : ١٧٧/ ٥٥٩٢ .

(٣) فردوس الأخبار ٣ : ٩٠/ ٣٩٩٨ .

٥٩

كتم كلام حذيفة في أبي موسى

ثمّ إنّ عبد البر كَرِه أنْ يذكر كلام حذيفة بن اليمان في أبي موسى الأشعري ، تستّراً عليه ، إلاّ أنّ ما صرَّح به مِن كونه ( منحرفاً عن عليّ ) وأنّه ( لم يزل واجداً ) على الإمامعليه‌السلام يكفي للتوصّل إلى كلام حذيفة ، فإنّ الباحث اللبيب والمحقّق الخبير يفهم ـ من تلك القرائن ، وبالنظر إلى كون حذيفة عارفا ًبالمنافقين ، وأنّ كلامه مقبولٌ في التعريف بهم ـ أنّ كلام حذيفة ليس إلاّ الإعلان عن كون أبي موسى من المنافقين... وهذا ما كرِه ابن عبد البر التصريح به مخالفةً منه لقوله تعالى :( وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) .

مع أنّ كتابه ( الاستيعاب ) مشتملٌ على فضائح كثير من الأصحاب ، وتكلّم بعضهم في البعض الآخر ، والإفصاح عن مثالبه :

كروايته خطبة عبد الله بن بديل في ذمّ معاوية وهجوه وتضليله...(١)

وكروايته خطبة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وفيها التصريح بأنّ عائشة ، وطلحة ، والزبير ، هم الذين ألّبوا على عثمان وقتلوه..(٢)

وكروايته أنّ معاوية هو الذي دسّ السمّ إلى الإمام الحسن السبطعليه‌السلام (٣) .

وكروايته قتْل معاوية حِجْر بن عدي...(٤) .

إلى غير ذلك من مخازي الصحابة التي تظهر لمَن تتبّع كتاب ( الاستيعاب ) .

ـــــــــــــــــــ

(١) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ٣ : ٨٧٣/ ١٤٨١ .

(٢) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ـ ترجمة طلحة ـ ٢ : ٧٦٧/ ١٢٨٠ .

(٣) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ١ : ٣٨٩/ ٥٥٥ .

(٤) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ١ : ٣٢٩/ ٤٨٧ .

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

يثوروا في ناحية جانب عسكري ، ما لقيت من هذه الامة من الفرقة و طاعة أئمة الضلالة و الدعاة إلى النار(١) و نقلهما الخوئي أيضا .

و رواه عاصم بن حميد في أصله فيما وصل إلينا من الاصول الأربعمائة عن محمد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال : خطب عليعليه‌السلام الناس فقال : انما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع و أحكام تبتدع يخالف فيها كتاب اللَّه يتولى فيها رجال رجالا ، فلو أنّ الباطل أخلص لم يخف على ذي حجى ، و لو أن الحق أخلص لم يكن اختلاف ، و لكن يؤخذ من هذا ضغث و من هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معا ، هنا لك استولى الشيطان على أوليائه و نجا الذين سبقت لهم منه الحسنى(٢) .

و رواه اليعقوبي في ( تاريخه ) و زاد : إنّ خطبتهعليه‌السلام بها كانت بعد رجوعه من صفين و حكم الحكمين(٣) .

قول المصنّف : « و من كلام لهعليه‌السلام » هكذا في ( المصرية )(٤) و الصواب :

« و من خطبة لهعليه‌السلام » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) و كما يشهد له مداركه(٥) .

« إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع » كفتنة الاجتماع في السقيفة طلبا للرئاسة فقال المغيرة بن شعبة لأبي بكر و عمر : وسعوها في قريش تتسع ، أتريدون أن تجمعوا من أهل هذا البيت بيت هاشم خيل حلبة أي : بتصدي علي للأمر بعد محمّد

____________________

( ١ ) روضة الكافي للكليني ٨ : ٥٨ رواية ٢١ .

( ٢ ) بحار الأنوار ٢ : ٣١٥ رواية ٨٣ الباب ٣٤ .

( ٣ ) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٩١ .

( ٤ ) الطبعة المصرية : ١٥٢ .

( ٥ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٤٠ الرواية ٥٠ ، و ابن ميثم ٢ : ١٣٣ ، و النسخة الخطية : ٣٦ .

١٨١

و كلامهعليه‌السلام و ان كان بعد وقوع فتنة الخوارج إلا انّه بيّن بدء فتنهم فلو لم يكن يوم السقيفة لم تحصل فتنة الخوارج ، لأنّها حصلت بسبب قيام معاوية في قبالهعليه‌السلام ، و قيام معاوية مع محاربته للَّه و لرسوله حتى اسر فأظهر إسلاما و أسرّ كفره كان بواسطة قيام عثمان بأمر الخلافة ، و قيام عثمان به مع عدم سابقة له أيام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلا حمايته عن أعداء اللَّه و أعداء رسوله ذويه و بني أبيه كان بتدبير عمر له لما كان كتب في غشوة أبي بكر استخلافه لعمر ، و ان كان أبو بكر بعد إفاقته أمضاه له طوعا أو كرها .

« و أحكام تبتدع » فأوصياء الأنبياء في كلّ عصر كانوا في بيوتهم و من جنسهم ذريّة بعضها من بعض و أنكر الذين في قلوبهم مرض ذلك ، فقال عمر لابن عباس اعتذارا عن صرف الأمر عنهعليه‌السلام : إنّ قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة و النبوّة فتكونوا عليهم جحفا .

« يخالف فيها كتاب اللَّه » أليس تعالى قال( في كتابه و ربّك يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخيرة سبحان اللَّه و تعالى عمّا يشركون ) (١) ( أم لكم كتاب فيه تدرسون ان لكم فيه لما تخيرون ) (٢) .

و قد قضى اللَّه تعالى ولايتهعليه‌السلام في قوله جل و علا إنّما وليّكم اللَّه و رسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون .

( و من يتول اللَّه و رسوله و الذين آمنوا فإنّ حزب اللَّه هم الغالبون ) (٣) .

و قد قضى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولايتهعليه‌السلام بعد تقريرهم بأنّه أولى بهم من أنفسهم ، بأنّه من كان هو أولى به بنفسه فعليّ أولى به من نفسه في المتواتر

____________________

( ١ ) القصص : ٦٨ .

( ٢ ) القلم : ٣٧ ٣٨ .

( ٣ ) المائدة : ٥٥ ٥٦ .

١٨٢

عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، و قد قال تعالى( و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضى اللَّه و رسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم و من يعص اللَّه و رسوله فقد ضل ضلالا مبينا ) (١) .

و أما قول فاروقهم « إنّ قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة و النبوّة » فهل كانت النبوة بأيديهم حتى تكون الخلافة بأيديهم فيكرهوا جمعهما لهم ، و قد أجابه ابن عباس عن قوله بقوله جل و علا( ذلك بأنّهم كرهوا ما أنزل اللَّه فأحبط أعمالهم ) (٢) .

« و يتولى عليها رجال رجالا على غير دين اللَّه » قال أبو بكر يوم السقيفة للناس : إنّما أدعوكم إلى أبي عبيدة أو عمر كلاهما قد رضيت لكم و لهذا الأمر و كلاهما له أهل فقالا له : ما ينبغي لأحد من الناس أن يكون فوقك يا أبا بكر ، أنت صاحب الغار ثاني اثنين و أمرك النبي بالصلاة .

فهل هذا من دين اللَّه أن يجعلوا خلافة رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله نهبة بينهم ، أليس من قواعد أهل العالم أن يكون خليفة كلّ شخص أن يخرج عن عهدة ما خرج ذاك الشخص عنه و حينئذ و كما هو تعالى أعلم حيث يجعل رسالته يكون هو أعلم حيث يجعل خلافة رسوله ، و أين أولئك الأجلاف عن مقامهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

« فلو أنّ الباطل خلص من مزاج الحق » أي : من مزجه به .

« لم يخف » بفتح الفاء من الخفاء .

« على المرتادين » أي : الطالبين و الأصل فيه طلب الكلاء قال ابن قتيبة في ( خلفائه )(٣) بعد ذكر طلب الأنصار كون الأمر لهم لأن بواسطتهم تمكّن

____________________

( ١ ) الأحزاب : ٣٦ .

( ٢ ) محمد : ٩ .

( ٣ ) الخلفاء لابن قتيبة : ٦ ٧ .

١٨٣

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من نشر الاسلام أو كون الأمر بينهم و بين قريش لئلا يبغي بعضهم على بعض قام أبو بكر و قال( : إنّ اللَّه بعث محمدا رسولا إلى خلقه و شهيدا على امته ليعبدوا اللَّه و يوحّدوه ، و هم إذ ذاك يعبدون آلهة شتى يزعمون أنّها شافعة و عليهم بالغة نافعة ، و انما كانت حجارة منحوتة و خشبا منجورة ، فاقرأوا إن شئتم إنّكم و ما تعبدون من دون اللَّه حصب جهنم ) .(١) ( و يعبدون من دون اللَّه ما لا يضرّهم و لا ينفعهم و يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه ) .(٢) .( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللَّه زلفى ) .(٣) فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم ، فخص اللَّه المهاجرين الأولين بتصديقه و الايمان به و المواساة و الصبر معه على الشدّة من قومهم و إذلالهم و تكذيبهم إيّاهم ، و كلّ الناس مخالف عليهم يزرؤهم فلم يستوحشوا من قلّة عددهم و إزراء الناس لهم و اجتماع قومهم عليهم ، فهم أول من عبد اللَّه في الأرض و أول من آمن باللَّه تعالى و رسوله ، و هم أولياؤه و عشيرته و أحقّ الناس بالأمر من بعده ، لا ينازعهم فيه إلاّ ظالم(٤) .

فترى مزج الباطل كونه ولي الأمر بحق أعمال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله و عشيرته ، و لم يكن مصداق ذلك بتمام معنى الكلمة إلاّ أمير المؤمنينعليه‌السلام و أين كان هو و صاحبه يوم نزل( و أنذر عشيرتك الأقربين ) (٥) فجمع النبي بني عبد المطلب و هم أربعون و قال لهم : من يؤازرني حتى يكون خليفتي ؟ فلم يجبه إلاّ أمير المؤمنينعليه‌السلام .

____________________

( ١ ) الأنبياء : ٩٨ .

( ٢ ) يونس : ١٨ .

( ٣ ) الزمر : ٣ .

( ٤ ) تاريخ الخلفاء لابن قتيبة : ٦ ٧ .

( ٥ ) الشعراء : ٢١٤ .

١٨٤

و لم يجبهم الأنصار بذلك لأنّهم لما شاهدوا الأحوال في مرض النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله و منعه من وصيته و مخالفته في تجهيز جيش اسامة و علموا بإرادة قريش تصديهم للسلطان ، و كانوا يعرفون عاقبة ذلك و ما يرد عليهم من الإذلال و المهانة كما كان النبي أيضا أخبرهم قبل بذلك ، و كانوا واترين لقريش المؤلفة الطلقاء الذين كان أبو بكر و عمر مستظهرين بهما و علموا أنهم لا يرضون بتأمير أمير المؤمنينعليه‌السلام أصلا ، أعرضوا عن جوابهم بذلك وجدوا أن يكونوا هم المتصدين أو شركاء .

و لم يحضر أمير المؤمنينعليه‌السلام لاشتغاله بتجهيز النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، و كانوا انتهزوا الفرصة في ذلك بأخذ البيعة من الناس و إتمام الأمر لهم ثم أحضروه للبيعة فقالعليه‌السلام كما في ( خلفاء ابن قتيبة ) لهم : أنا أحقّ بهذا الأمر منكم و أنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار و احججتم عليهم بالقرابة من النبي و تأخذوه منّا أهل البيت غصبا .

حتى أن بشير بن سعد الخزرجي والد النعمان بن بشير الذي كان أوّل من بايع أبا بكر حتى قبل عمر حسدا لابن عمه سعد بن عبادة لئلا ينال الرئاسة ، لما سمع كلامهعليه‌السلام بما مر قال له : لو كان هذا الكلام سمعه الأنصار منك قبل بيعتهم لأبي بكر ما اختلفت عليك فقالعليه‌السلام له : أفكنت أدع رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في بيته لا أدفنه و أخرج انازع الناس بسلطانه و قالت له فاطمة صلوات اللَّه عليها : ما صنع أبو الحسن إلاّ ما كان ينبغي له ، و لقد صنعوا ما اللَّه حسيبهم و طالبهم .

« و لو أنّ الحق خلص من الباطل » هكذا في ( المصرية )(١) ، و الصواب : « من

____________________

( ١ ) الطبعة المصرية المصححة ورد فيها لفظ « لبس الباطل » : ١٥٢ .

١٨٥

لبس الباطل » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية )(١) .

« انقطعت عنه ألسن المعاندين » رووا عن ابن عباس قال : كنت عند عمر فتنفس نفسا ظننت ان أضلاعه قد انفرجت ، فقلت له : ما أخرج هذا النفس منك إلاّ هم شديد قال : أي و اللَّه يابن عباس ، إني افتكرت فلم أدر فيمن أجعل هذا الأمر بعدي ثم قال : لعلّك ترى صاحبك لها أهلا قلت : و ما يمنعه من ذلك مع جهاده و سابقته و قرابته و علمه قال : صدقت و لكنه امرؤ فيه دعابة . .

و عن ( موفقيات الزبير بن بكار ) قال ابن عباس : إنّي لاماشي عمر إذ قال لي : ما أرى صاحبك إلاّ مظلوما فقلت في نفسي : و اللَّه لا يسبقني بها ، فقلت له :

فاردد إليه ظلامته فانتزع يده من يدي و مضى يهمهم ساعة ، ثم وقف فلحقته فقال : يابن عباس ما أظن منعهم إلاّ انّه استصغره قومه فقلت في نفسي : هذه شرّ من الاولى فقلت : و اللَّه ما استصغره اللَّه و رسوله حين أمره أن يأخذ ( براءة ) من صاحبك فأعرض عني و أسرع ، فرجعت .

و عن الكتاب عن ابن عباس قال : خرجت اريد عمر إلى أن قال فقال عمر : إنّ صاحبكم إن ولي هذا الأمر أخشى عجبه بنفسه أن يذهب به فليتني أراكم بعدي فقلت : إنّ صاحبنا من قد علمت إنّه ما غيّر و لا بدّل و لا أسخط النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أيام صحبته له فانقطع عليّ الكلام و قال : و لا في ابنة أبي جهل لما أراد أن يخطبها على فاطمة فقلت : قال اللَّه تعالى .( و لم نجد له عزماً ) (٢) إنّ صاحبنا لم يعزم على سخط النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله و لكن الخواطر التي لا يقدر أحد على دفعها عن نفسه و ربما كانت من الفقيه في دين اللَّه العالم العامل بأمر اللَّه فقال :

____________________

( ١ ) ابن أبي الحديد ٣ : ٢٤٠ رواية ٥٠ ، و ابن ميثم ٢ : ١٣٣ ليس فيه لفظ « لبس » ، أما الخطية فقد ورد فيها لفظ « لبس الباطل » .

( ٢ ) طه : ١١٥ .

١٨٦

يابن عباس من ظن أنّه يرد بحوركم فيغوص فيها معكم حتى يبلغ قعرها فقد ظنّ عجزا(١) .

و عن ابن عباس أيضا قال : دخلت على عمر في أول خلافته فقال : كيف خلفت ابن عمك ؟ فظننته يعني عبد اللَّه بن جعفر فقلت : خلفته يلعب مع أترابه .

قال : إنّما عنيت عظيمكم أهل البيت فقلت : خلّفته يمتح بالغرب على نخيلات من فلان و هو يقرأ القرآن قال : عليك دماء البدن إن كتمتنيها ، هل بقي في نفسه شي‏ء من أمر الخلافة ؟ قلت : نعم قال : أيزعم أنّ النبي نص عليه ؟ قلت : نعم و ازيدك ، سألت أبي عمّا يدّعيه فقال صدق فقال : لقد كان من النبي في أمره ذر و من القول لا يثبت حجّة و لا يقطع عذرا ، و لقد كان يربع في أمره وقتّا ما ، و لقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقا و حيطة على الإسلام ، لا و ربّ هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبدا و لو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها ، فعلم رسول اللَّه أنّي علمت ما في نفسه فأمسك . .

فترى هذا المعاند ينسب تارة إليهعليه‌السلام الدعابة و اخرى صغر السن ، و تارة العجب بنفسه ، و اخرى عدم رضاء قريش به .

« و لكن يؤخذ من هذا » أي : الباطل .

« ضغث » أي : قبضة .

« و من هذا » أي : الحق .

« ضغث » أي : قبضة .

« فيخرجان » هكذا في ( المصرية )(٢) و الصواب : « فيمزجان » كما في ( ابن

____________________

( ١ ) أخبار الموفقيات : ٦١٩ .

( ٢ ) الطبعة المصرية المصححة « فيخرجان » ، و ليس « فيخرجان » راجع : ١٥٢ .

١٨٧

أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية )(١) .

« فهنالك » أي : فعند أخذ ضغث من الباطل و ضغث من الحق و مزجهما .

« يستولي الشيطان على أوليائه » لكونهم طالبي الشبهات و الشهوات .

« و ينجو الذين سبقت لهم من اللَّه الحسنى » و هم طالبوا الحق لا بالتقليد و العصبية قال جل و علا :( الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) . .(٢) .

و قال ابن أبي الحديد : كلامهعليه‌السلام حق ، فإنّ الذين ضلّوا من مقلدة اليهود و النصارى و أرباب المقالات الفاسدة من أهل الملة الاسلامية إنّما ضلّ أكثرهم بتقليد الأسلاف ، و إنّما قلّدهم الاتباع لما شاهدوا من إصلاح ظواهرهم و رفضهم الدنيا و إقبالهم على العبادة و تمسكهم بالدين و أمرهم بالمعروف و نهيهم عن المنكر و صلابتهم في عقائدهم ، فاعتقد الأتباع و القرون التي جاءت بعدهم أنّ هؤلاء يجب اتباعهم و أنّ مخالفهم مبتدع ، و وقع الضلال و الغلط بذلك لأن الباطل استتر و انغمر بما مازجه من الحق الغالب الظاهر المشاهد عيانا و الحكم للظاهر و لولاه لما تروج الباطل و لا كان له قبول أصلا(٣) .

٧ الخطبة ( ٣٨ ) و من خطبة لهعليه‌السلام

 وَ إِنَّمَا سُمِّيَتِ اَلشُّبْهَةُ شُبْهَةً لِأَنَّهَا تُشْبِهُ اَلْحَقَّ فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اَللَّهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا اَلْيَقِينُ وَ دَلِيلُهُمْ سَمْتُ اَلْهُدَى وَ أَمَّا أَعْدَاءُ اَللَّهِ فَدُعَاؤُهُمْ فِيهَا

____________________

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٤٠ ، و ابن ميثم بلفظ « يخرجان » خلاف ما ذكره العلاّمة التستري ، أما النسخة الخطية فيخرجان : ٣٦ .

( ٢ ) العنكبوت : ٦٩ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٤٢ .

١٨٨

اَلضَّلاَلُ وَ دَلِيلُهُمُ اَلْعَمَى فَمَا يَنْجُو مِنَ اَلْمَوْتِ مَنْ خَافَهُ وَ لاَ يُعْطَى اَلْبَقَاءَ مَنْ أَحَبَّهُ أقول : قول المصنّف : « و من خطبة لهعليه‌السلام » الظاهر أن « من » ههنا للتبعيض أي بعض خطبة لهعليه‌السلام غير « من » في قوله « و من خطبة لهعليه‌السلام » في باقي المواضع ، ففي الباقي للتقسيم بمعنى قسم من خطبةعليه‌السلام قلنا ذلك لأنّ قوله « و إنّما سميت الشبة إلى دليلهم العمى » ليس أول كلام ، و قوله بعد « فما ينجو من الموت إلى من أحبه » ليس بمربوط بالمذكور بل بسابقه المحذوف .

« و انما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق » أي : ليس بحق و إنّما هي شبيهة بالحق كقول الخوارج « لا حكم إلا للَّه » ، فإنّ أصله كلمة حق ، فقال تعالى( حكاية عن يوسف عليه‌السلام ) ( لصاحبي سجنه ما تعبدون من دونه إلاّ أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم ما أنزل اللَّه بها من سلطان إن الحكم الا للَّه ) .(١) ( و عن يعقوب عليه‌السلام ) ( لبنيه و ادخلوا من أبواب متفرقة و ما اغنى عنكم من اللَّه من شي‏ء إنّ الحكم إلاّ للَّه ) .(٢) و إرشادا لنبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى جواب المشركين .( ما عندي ما تستعجلون به ان الحكم الا للَّه ) .(٣) .

فإنّ لفظهم ذاك اللفظ مع تبديل حرف نفي بنفي ، إلاّ أنّ المعنى من المعنى بمراحل ، فإنّ المراد من الآيات من سابقها و لاحقها معلوم ، ففي الأوّل أنّ الحكم في العبادة ليس لغير اللَّه ، و في الثاني أنّ القضاء و القدر ليس إلاّ بيده تعالى و في الثالث أنّ الوقت الذي ينزل فيه العذاب ليس تعيينه لغير اللَّه .

____________________

( ١ ) يوسف : ٤٠ .

( ٢ ) يوسف : ٦٧ .

( ٣ ) الأنعام : ٥٧ .

١٨٩

و الخوارج أرادوا بكلامهم أنه لا يجوز أن يحكم غير اللَّه في مقتضى آيات القرآن بأنه هل يجب أن يكون المتصدي لأمر الخلافة عليّا أم يجوز ان يكون معاوية .

فإن قلت : كان ذلك أمرا واضحا ، فقوله تعالى .( هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون ) .(١) و قوله جل و علا( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقاً ) .(٢) يوجبان تعين عليّعليه‌السلام .

قلت : الأمر كذلك ، إلاّ أنّ المبنى أدّى إلى ذلك ، فلازم جواز تصدي الثلاثة كان وجوب تصدي معاوية حيث إنّه كان ولي عثمان و عثمان مدبر عمر و عمر منصوب أبي بكر .

هذا ، و في ( ملل الشهرستاني ) : اعلم أنّ أوّل شبهة وقعت في الخليقة شبهة إبليس ، و مصدرها استبداده بالرأي في مقابلة النص إلى أن قال في بيان أوّل شبهة وقعت في الملة الاسلامية و إن خفي علينا ذلك في الامم السالفة لتمادي الزمان فلم يخف أنّ شبهات الملة الاسلامية نشأت كلها من شبهات منافقي زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ لم يرضوا بحكمه فيما يأمر و ينهى و شرعوا فيما لا مسرح للفكر فيه و لا مسرى ، و سألوا عما منعوا من الخوض فيه و السؤال عنه ، و جادلوا بالباطل فيما لا يجوز الجدال فيه اعتبر حديث ذي الخويصرة التميمي إذ قال : اعدل يا محمّد فإنّك لم تعدل حتى قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : إن لم أعدل فمن يعدل .

إلى أن قال : و أما الاختلافات الواقعة في حال مرض النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله و بعد وفاته بين الصحابة فهي اختلافات اجتهادية كما قيل إلى أن قال فأول تنازع

____________________

( ١ ) الزمر : ٩ .

( ٢ ) السجدة : ١٨ .

١٩٠

في مرضهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيها رواه محمّد بن إسماعيل البخاري بأسناده عن عبد اللَّه بن العباس قال : لما اشتد بالنبي مرضه الذي مات فيه قال : إيتوني بدواة و قرطاس أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي فقال عمر : إنّ رسول اللَّه قد غلبه الوجع حسبنا كتاب اللَّه و كثر اللغط فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع .

قال ابن عباس : الرزية كل الرزية ما حال بيننا و بين كتاب رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إلى أن قال : الخلاف الثاني في مرضه قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : جهزوا جيش اسامة لعن اللَّه من تخلف عنها فقال قوم : يجب علينا امتثال أمره و اسامة قد برز من المدينة ، و قال قوم قد اشتد مرض النبي فلا تسع قلوبنا مفارقته و الحال هذه فنصبر حتى نبصر أي شي‏ء يكون من أمره(١) .

قال الشهرستاني : و إنّما أوردت هذين التنازعين لأنّ المخالفين ربما عدوا ذلك من المخالفات المؤثرة في أمر الدين ، و هو كذلك و إن كان الغرض كله اقامة مراسم الشرع في حال تزلزل القلوب(٢) .

قلت : هل كان الأول و الثاني و صاحبهما أبو عبيدة أحرق قلبا على الدين من أمير المؤمنينعليه‌السلام و نعم ما قيل بالفارسية :

ز مادر مهربان‏تر دايه خاتون

هب ذلك ، هل كانوا أحوط على الدين من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ و هل كانوا أعرف من اللَّه تعالى ؟ و هل كان قوله تعالى : .( اللَّه أعلم حيث يجعل رسالته ) .(٣) غير صحيح و جزافا .

( و لعمر اللَّه لم يكن غرضهم إلاّ أمر دنياهم و استحكام أمر رياستهم

____________________

( ١ ) الملل للشهرستاني : ٢٣ .

( ٢ ) الملل للشهرستاني : ٢٩ .

( ٣ ) الأنعام : ١٢٤ .

١٩١

 و إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنّما نحن مصلحون ألا إنّهم هم المفسدون و لكن لا يشعرون ) (١) .

و أجابت سيدة نساء العالمين ادعاءهم بأنهم فعلوا ما فعلوا لئلا تكون فتنة : زعموا خوف الفتنة .( ألا في الفتنة سقطوا و إنّ جهنم لمحيطة بالكافرين ) (٢) .

ثم إنّ الشهرستاني لم يستقص جميع شبهاتهم و اعتراضاتهم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، و منها اعتراضهم في تأمير زيد بن اسامة مولاه عليهم أولا ، ثم تأمير ابنه اسامة عليهم ثانيا ، ففي ( طبقات كاتب الواقدي ) : لما كان يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفر سنة ( ١١ ) أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتهيؤ لغزو الروم ، فلما كان من الغد دعا اسامة بن زيد فقال : سر إلى موضع مقتل أبيك فلما كان يوم الأربعاء بدى‏ء بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فحم و صدع ، فلما أصبح يوم الخميس عقد لاسامة بيده لواء فخرج معقودا بلوائه فدفعه إلى بريدة بن الخصيب و عسكر بالجرف ، فلم يبق من وجوه المهاجرين الأولين و الأنصار الا انتدب في تلك فيهم أبو بكر الصديق و عمر بن الخطاب و أبو عبيدة بن الجراح و سعد بن أبي وقاص و سعيد بن زيد ، فتكلم قوم و قالوا : استعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين فغضب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله غضبا شديدا فخرج و قد عصب على رأسه عصابة و عليه قطيفة ، فصعد المنبر فحمد اللَّه و أثنى عليه ثم قال : أما بعد أيها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري اسامة ، و لئن طعنتم في إمارتي اسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله ، و ايم اللَّه إن كان للإمارة

____________________

( ١ ) البقرة : ١١ ١٢ .

( ٢ ) التوبة : ٤٩ .

١٩٢

خليقا و إنّ بنه من بعد لخليق للإمارة(١) .

« فأما أولياء اللَّه فضياؤهم فيها اليقن » بحيث إنّ الشبهة باطل شبيه بالحق تكون كالظلمة ، فأولياء اللَّه لهم ضياء من اليقين يبصرون به الحق و الباطل و يميزون بينهما فيأخذون بالحق و يتركون الباطل .

« و دليلهم سمت الهدى » في ( صفين نصر ) : قال أبو نوح : كنت في خيل عليّعليه‌السلام و هو واقف بين جماعة من همدان و حمير و غيرهم من أفنان قحطان إذا أنا برجل من أهل الشام يقول : من دل على الحميري ؟ فقلنا : من تريد ؟ قال :

الكلاعي أبا نوح قلت : قد وجدته فمن أنت ؟ قال : أنا ذو الكلاع سر إلي فقلت :

معاذ اللَّه أن أسير إليك إلاّ في كتيبة قال : فسر فلك ذمة اللَّه و ذمة رسوله و ذمة ذي الكلاع حتى ترع إلى خيلك فإنّما اريد أن اسألكم عن أمر تمارينا فيه في حديث حدثناه عمرو بن العاص في إمارة عمر قال أبو نوح : و ما هو ؟ قال : ذو الكلاع حدّثنا أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « يلتقي أهل الشام و أهل الحق و في إحدى الكتيبتين الحق و إمام الهدى و معه عمار بن ياسر » قال أبو نوح : و اللَّه إنّه لفينا .

قال : أجاد هو في قتالنا ؟ قال أبو نوح : نعم و رب الكعبة لهو أشدّ على قتالكم مني ، و لوددت أنكم خلق واحد فذبحته و بدأت بك قبلهم و أنت ابن عمي إلى أن قال فسار أبو نوح معه حتى أتى عمرو بن العاص و هو عند معاوية و حوله الناس ، فقال ذو الكلاع لعمرو بن العاص : هل لك في رجل ناصح لبيب شفيق يخبرك عن عمار لا يكذبك قال : من هو ؟ قال : ابن عمي هذا و هو من أهل الكوفة فقال عمرو : إنّي لأرى عليك سيماء أبي تراب قال أبو نوح : علي سيماء محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله و أصحابه و عليك سيماء أبي جهل و سيماء فرعون .(٢) .

____________________

( ١ ) الطبقات الكبرى لابن سعد ٢ : ١٣٦ طبع ليدن .

( ٢ ) وقعة صفين لنصر بن مزاحم : ٣٣٢ .

١٩٣

« و أما أعداء اللَّه فدعاؤهم فيها الضلال و دليلهم العمى » في ( صفين نصر بن مزاحم ) : قال عمرو بن العاص لعمار بن ياسر : علام تقاتلنا ، أو لسنا نعبد إلها واحدا ، و نصلّي قبلتكم و ندعو دعوتكم و نقرأ كتابكم و نؤمن برسولكم ؟ قال عمار : الحمد للَّه الذي أخرجها من فيك ، إنّها القبلة و الدين و عبادة الرحمن و الكتاب ، لي و لأصحابي دونك و دون أصحابك ساخبرك على ما قاتلتك و أصحابك أمرني النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أن اقاتل الناكثين و قد فعلت ، و أمرني أن اقاتل القاسطين و أنتم هم ، و أما المارقين فما أدري ادركهم أم لا ، ألم تعلم أيّها الأبتر ألست تعلم أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليّعليه‌السلام « من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم و ال من والاه و عاد من عاداه » و أنا مولى اللَّه و رسوله و علي بعده و ليس لك مولى .

قال له عمرو : و لم تشتمني و لست أشتمك قال عمار : بم تشتمني أتستطيع أن تقول إنّي عصيت اللَّه و رسوله يوما قال : إنّ فيك لمسبات غير ذلك فقال : ان الكريم من أكرمه اللَّه ، كنت وضيعا فرفعني و مملوكا فأعتقني و ضعيفا فقواني و فقيرا فأغناني قال عمرو : فما ترى في قتل عثمان ؟ قال : فتح لكم باب كل سوء قال عمرو : فعليّ قتله قال عمار : بل اللَّه رب علي قتله و علي معه قال عمرو : أكنت فيمن قتله ؟ قال : كنت مع من قتله و أنا اليوم اقاتل معهم قال عمرو : فلم قتلتموه ؟ قال عمار : أراد أن يغيّر ديننا فقتلناه قال عمرو : ألا تسمعون قد اعترف بقتل عثمان قال عمار : و قد قال قبلك فرعون لقومه « ألا تسمعون »(١) .

و روى ( صفين نصر أيضا ) عن السدي عن يعقوب بن الأوسط قال :

احتج رجلان بصفين في سلب عمار و في قتله ، فأتيا عبد اللَّه بن عمرو بن العاص فقال لهما : و يحكما اخرجا عني فإنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال « مالهم و لعمار

____________________

( ١ ) وقعة صفين لنصر بن مزاحم : ٣٤٢ .

١٩٤

يدعوهم إلى الجنة و يدعونه إلى النار قاتله و سالبه في النار » قال السدي :

فبلغني أنّ معاوية قال : إنّما قتله من أخرجه يخدع بذلك طغام أهل الشام(١) .

« فما ينجو من الموت من خافه » في ( الكافي )(٢) : عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ ملكا كان له عند اللَّه منزلة عظيمة ، فتعتب عليه فأهبطه إلى الأرض فأتى إدريسعليه‌السلام فقال له : ان لك من اللَّه منزلة فاشفع لي عنده فصلى ثلاث ليالي لا يفتر و صام أيامها لا يفطر ، ثم طلب إلى اللَّه تعالى في السحر في الملك فقال له الملك : قد اعطيت سؤلك و قد اطلق لي جناح و أنا احب أن اكافيك فاطلب مني حاجة فقال :

تريني ملك الموت لعلي آنس به فإنّه ليس يهنئني مع ذكره شي‏ء فبسط جناحه ثم قال : اركب فصعد به يطلب ملك الموت في السماء الدنيا فقيل له :

أصعد فاستقبله بين السماء الرابعة و الخامسة ، فقال الملك لملك الموت : مالي أراك قاطبا ؟ قال : العجب أنّي تحت ظل العرش حيث امرت أن أقبض روح آدمي بين السماء الرابعة و الخامسة فسمع إدريس صوته فامتعض فخرّ من جناح الملك فقبض روحه مكانه ، قال عزّ و جلّ( و رفعناه مكاناً علياً ) (٣) .

« و لا يعطي البقاء من أحبه » في ( الكافي ) عن الصادقعليه‌السلام : جاء جبرئيل إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : عش ما شئت فإنّك ميت ، و احبب من شئت فإنّك مفارقه ، و اعمل ما شئت فإنّك لاقيه(٤) .

____________________

( ١ ) وقعة صفين لنصر بن مزاحم : ٣٤٢ .

( ٢ ) الكافي ٣ : ٢٥٧ ح ٢٦ .

( ٣ ) مريم : ٥٧ .

( ٤ ) الكافي للكليني ٣ : ٢٥٥ الرواية ١٧ ، و أيضا من لا يحضره الفقيه ١ : ٤٧١ الرواية ١٣٦٠ .

١٩٥

الفصل الرابع و الخمسون في العقل

١٩٦

١ الحكمة ( ٢٣٥ ) وَ قِيلَ لَهُ صِفْ لَنَا اَلْعَاقِلَ

 فَقَالَ ع هُوَ اَلَّذِي يَضَعُ اَلشَّيْ‏ءَ مَوَاضِعَهُ فَقِيلَ فَصِفْ لَنَا اَلْجَاهِلَ فَقَالَ قَدْ فَعَلْتُ قال الرضي : يعني ان الجاهل هو الذي لا يضع الشي‏ء مواضعه ، فكان ترك صفته صفة له إذ كان بخلاف وصف العاقل « و قيل لهعليه‌السلام صف لنا العاقل » في ( مطالب السؤول ) قالعليه‌السلام : « العقل عقلان : عقل الطبع و عقل التجربة ، و كلاهما يؤدّي إلى المنفعة ، و الموثوق به صاحب العقل و الدين ، و من فاته العقل و المروة فرأس ماله المعصية ، و صديق كلّ امرى‏ء عقله و عدوّه جهله ، و ليس العاقل من يعرف الخير من الشر و لكن العاقل من يعرف خير الشرّين ، و مجالسة العقلاء تزيد في الشرف ، و العقل الكامل قاهر للطبع السوء و على العاقل أن يحصي على نفسه مساوئها

١٩٧

في الدين و الرأي و الأخلاق و الأدب ، فيجمع ذلك في صدره أو في كتاب و يعمل على إزالتها .

( و فيه ) : و قالعليه‌السلام : « الإنسان عقل و صورة ، فمن أخطأه العقل و لزمته الصورة لم يكن كاملا و كان بمنزلة من لا روح له ، و من طلب العقل المتعارف فليعرف صورة الاصول و الفضول ، فإن كثيرا من الناس يطلبون الفضول و يضيعون الأصول ، فمن أحرز الأصل اكتفى به عن الفضل(١) .

و في ( تحف العقول ) : قال راهب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : أخبرني عن العقل ما هو ؟

و كيف هو ؟ و ما يتشعب منه ؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « العقل عقال من الجهل ، و النفس مثل أخبث الدّوابّ ، فإن لم تعقل حارث (( حرنت ظ )) ، و إنّ اللَّه تعالى خلق العقل فقال له : أقبل ، فأقبل ، و قال له : أدبر ، فأدبر ، فقال تعالى : و عزّتي و جلالي ما خلقت خلقا أعظم منك و لا أطوع منك ، بك ابدى‏ء و بك اعيد ، لك الثواب و عليك العقاب ، فتشعب من العقل الحلم ، و من الحلم العلم ، و من العلم الرشد ، و من الرشد العفاف ، و من العفاف الصيانة ، و من الصيانة الحياء ، و من الحياء الرزانة ، و من الرزانة المداومة على الخير ، و من المداومة على الخير كراهيّة الشرّ ، و من كراهية الشرّ طاعة الناصح ، فهذه عشرة أصناف من أنواع الخير ، و لكلّ واحد من هذه العشرة الأصناف عشرة أنواع . »(٢) .

« فقالعليه‌السلام : هو الذي يضع الشي‏ء مواضعه » في ( شعراء ابن قتيبة ) : رأى دريد بن الصمة الخنساء تهنأ الابل فقال :

ما ان رأيت و لا سمعت به

كاليوم هانى‏ء أنيق جرب

____________________

( ١ ) مطالب السؤول في مناقب آل الرسول صلّى اللَّه عليه و آله : ٤٩ ، و نقله عنه المجلسي في البحار ٧٨ : ٦ ٧ .

( ٢ ) تحف العقول : ١٢ ١٣ .

١٩٨

متبذّلا تبدو محاسنه

يضع الهناء مواضع النّقب(١)

« فقيل : فصف لنا الجاهل فقالعليه‌السلام : قد فعلت » قيل لرجل : ما السّخاء ؟ قال :

جهد مقل قيل له : فما البخل ؟ قال : افّ و حوّل وجهه فقيل له : أجب فقال :

أجبت .

و في ( كنايات الجرجاني ) : تقول العرب في الكناية عن الجاهل : « لا يدري أيّ طرفيه أطول »(٢) .

« يعني أنّ الجاهل هو الذي لا يضع الشي‏ء مواضعه » قالوا : صعد ثابت بن قطنة منبر سجستان فأرتج عليه ، فلما نزل قال :

فان لم أكن فيهم خطيبا فإنّني

بسيفي إذا جدّ الوغى لخطيب

فقيل له : لو كنتها فوق المنبر لكنت أخطب الناس(٣) .

٢ الحكمة ( ٤٥٠ ) و قالعليه‌السلام :

مَا مَزَحَ اِمْرُؤٌ مَزْحَةً إِلاَّ مَجَّ مِنْ عَقْلِهِ مَجَّةً أقول : قال ابن أبي الحديد قيل : إنّما سمّي المزاح مزاحا لأنّه ازيح عن الحق(٤) .

قلت : لا ريب في أن « مزاح » فعال من مزح ، لا مفعل من زاح(٥) حتى يحتمل ما قال ، إلاّ أنّ الأصل في كلامه خبر روي عن فاروقهم .

____________________

( ١ ) الشعر و الشعراء لابن قتيبة : ١٢٢ ، كذا ورد في ديوان دريد بن الصمّة : ٣٤ .

( ٢ ) الكنايات للجرجاني : ١١٣ .

( ٣ ) عيون الأخبار لإبن قتيبة ٢ : ٢٧٥ و فيه : « فإلاّ أكن بدلا من : « فإن لم أكن » .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ٢٠ : ١٠٠ .

( ٥ ) يطبع هذا الهامش من ورقة الهوامش المرقمة ( ٢ ) و رقم الهامش فيها ( ٤ ) .

١٩٩

و قولهعليه‌السلام « إلاّ مجّ من عقله مجّة » استعارة من مجّ الشراب من فيه : إذا رمى به قال بعضهم : المزاج يجلب الشرّ صغيره و الحرب كبيره ، و لو كان المزاح فحلا لم ينتج إلاّ شرّا .

و في ( أخبار حكماء القفطي ) : عبث ابن حمدون النديم بابن ماسويه بحضرة المتوكّل ، فقال له ابن ماسويه : لو كان ما فيك من الجهل عقلا ثم قسّم على مئة خنفساء لكانت كلّ واحدة منهن أعقل من ارسطو طاليس .

إنّما السالم من ألجم فاه بلجام

ربما استفتحت بالمزح مغاليق الحمام

قد صار في الناس جدا ما مزحت به

كم مازح صار بين الناس مذموما(١)

٣ الحكمة ( ٤٠ ) و قالعليه‌السلام :

لِسَانُ اَلْعَاقِلِ وَرَاءَ قَلْبِهِ وَ قَلْبُ اَلْأَحْمَقِ وَرَاءَ لِسَانِهِ قال الرضي : و هذا من المعاني العجيبة الشّريفة ، و المراد به أنّ العاقل لا يطلق لسانه إلاّ بعد مشاورة الرّويّة و مؤامرة الفكرة ، و الأحمق تسبق حذفات لسانه و فلتت كلامه مراجعة فكره و مماخضة رأيه ، فكأنّ لسان العاقل تابع لقلبه ، و كأنّ قلب الاحمق تابع للسانه و قد روى عنهعليه‌السلام هذا المعنى بلفظ آخر ، و هو قوله :

____________________

( ١ ) أخبار العلماء و الحكماء للقفطي : ٢٤٩ ، و ابن ماسويه هو يوحنا كان نصرانيا سريانيا ، ولاّه الرشيد ترجمة الكتب الطبعة القديمة التي وحدها بأنقرا و عمّورية ، كان فاضلا متدما عند الملوك ، خدم المأمون و المغتصم و الواتق و المتوكل ( أخبار العلماء و الحكماء : القفطي في ترجمة يومنا ما سوية : ٢٤٨ .

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456