استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

استخراج المرام من استقصاء الإفحام13%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 456

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 456 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 227276 / تحميل: 8342
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الآية

( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) )

التّفسير

طوق الأسر الثّقيل :

تبيّن الآية الحاضرة مصير البخلاء في يوم القيامة ، أولئك الذين يبذلون غاية الجهد في جمع الثّروة ثمّ يمتنعون عن الإنفاق في سبيل الله ، ولصالح عباده.

والآية هذه وإن لم تتعرض صراحة لذكر الزكاة وغيرها من الحقوق والفرائض المالية ، إلّا أنّ الأحاديث الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، وكذا أقوال المفسرين خصصت هذه الآية وما وعد به فيها من الوعيد بمانعي الزكاة ، ويؤيده التشديد المشهود في الآية ، فإن أمثال هذا التشديد والتغليظ لا يتناسب مع الإنفاق المندوب المستحب.

تقول الآية أوّلا :( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ ) ثمّ تصف مصير هؤلاء في يوم القيامة هكذا :( سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) أي ستكون تلك الأموال التي بخلوا بها طوقا في

٢١

أعناقهم في ذلك اليوم الرهيب.

ومن هذه الجملة يستفاد أن الأموال التي لم يدفع صاحبها الحقوق الواجبة فيها ، ولم ينتفع بها المجتمع ، بل صرفت فقط في سبيل الأهواء الشخصية ، وربّما صرفت في ذلك السبيل بشكل جنوني ، أو كدست دون أي مبرر ولم يستفد منها أحد سيكون مصيرها مصير أعمال الإنسان ، أي أنّها ـ طبقا لقانون تجسم الأعمال البشرية ـ ستتجسم يوم القيامة وتتمثل في شكل عذاب مؤلم يؤذي صاحبها ويخزيه.

إنّ تجسّم مثل هذه الأموال التي تطوق بها أعناق ذويها إشارة إلى الحقيقة التالية، وهي أن كل إنسان يتحمل ثقل مسئوليتها كاملا دون أن يكون هو قد انتفع بها.

إنّ الأموال الوفيرة التي تجمع بشكل جنوني وتكنز ولا تصرف في خدمة المجتمع لا تكون سوى أغلال وسجون لأصحابها ، لأن للاستفادة ـ كما نعلم ـ من الأموال والثروة الشخصية حدودا ، فإذا تجاوزها الإنسان عادت عليه نوعا من الأسر الثقيل ، والوزر الضّار،اللهم إلّا أن يستفيد من آثارها المعنوية وذلك حينما يوظفها في الأعمال الإيجابية الصالحة.

ثمّ إن هذه الأموال لا تشكل طوقا ثقيلا في أعناق أصحابها في الآخرة فحسب ، بل تكون كذلك في هذه الدنيا أيضا ، غاية الأمر أن هذا المعنى يكون أكثر ظهورا في الآخرة،بينما يكون في شيء من الخفاء في هذه الحياة ، فأية حماقة ـ ترى ـ أكبر من أن يتحمل المرء مسئولية جمع الثّروة مضافة إلى مسئولية الحفاظ عليها وحسابها والدّفاع عنها وما يلازم ذلك من مشاق تثقل كاهله ، في حين لا ينتفع بها هو أبدا ، وهل الأموال حينئذ إلّا طوق أسر ثقيل لا غير؟

ففي تفسير العياشي عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنه قال : «الذي يمنع الزكاة يحول الله

٢٢

ماله يوم القيامة شجاعا(1) من نار ثمّ يقال له : ألزمه كما لزمك في الدنيا».

والملفت للنظر التعبير عن المال في هذه الآية( بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) الذي يفهم منه أن المالك الحقيقي لهذه الأموال ومصادرها هو الله سبحانه ، وإن ما أعطاه لأيّ واحد من الناس فإنّما هو من فضله ، ولهذا ينبغي أن لا يبخل ، أن ينفق من تلك الأموال في سبيل صاحبها الحقيقي.

ثمّ إنّ بعض المفسرين يرى أن مفهوم هذه العبارة يعم جميع المواهب الإلهية ومنها العلم، ولكن هذا الاحتمال لا ينطبق مع ظاهر التعبيرات الواردة في الآية.

ثمّ إنّ الآية تشير إلى نقطة أخرى إذ تقول :( وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) يعني أن الأموال سواء أنفقت في سبيل الله أو لم تنفق فإنّها ستفصل في النهاية عن أصحابها،ويرث الله الأرض والسماء وما فيهما ، فالأجدر بهم ـ والحال هذه ـ أن ينتفعوا من آثارها المعنوية ، لا أن يتحملوا وزرها وعناءها ، وحسرتها وتبعتها.

ثمّ تختم الآية بقوله تعالى :( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) أي أنّه عليم بأعمالكم ، يعلم إذا بخلتم ، كما يعلم إذا أنفقتم ما أوتيتموه من المال في السبيل الصالح العام وخدمة المجتمع الإنساني ، ويجازي كلا على عمله بما يليق.

* * *

__________________

(1) الشّجاع العظيم الخلقة من الحيات.

٢٣

الآيتان

( لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) )

سبب النّزول

هذه الآية نزلت ردّا على مقالة اليهود وتوبيخا لهم.

فعن ابن عباس أنّه قال : كتب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتابا إلى يهود «بني قينقاع» دعاهم فيه لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا لله «والمراد منه الإنفاق في سبيل الله وإنما عبر عنه بالإقراض لتحريك المشاعر وإثارتها لدى الناس قدرا أكبر) فدخل رسول النّبي إلى بيت المدارس (حيث يتلقى اليهود دروسا في دينهم) وسلم كتاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى «فنحاص» وهو من كبار أحبار اليهود فلمّا قرأه قال مستهزءا : لو كان ما تقولونه حقا فإن الله إذن لفقير ونحن أغنياء ، ولو كان غنيا لما استقرض منّا (وهو يشير إلى قوله تعالى:( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً

٢٤

حَسَناً ) (1) هذا مضافا إلى أن «محمّدا» يعتقد أنّ الله نهاكم عن أكل الرّبا، وهو يعدكم أن يضاعف لكم إذا أنفقتم أضعافا مضاعفة ، وهو يشير إلى قوله تعالى :( يُرْبِي الصَّدَقاتِ ) (2) .

ولكنّ «فنحاص» أنكر أنّه قال شيئا من هذه في ما بعد فنزلت الآيتان المذكورتان أعلاه(3) .

التّفسير

تقول الآية الأولى( لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ ) .

أي لو أنّ هؤلاء استطاعوا أن يخفوا عن الناس مقالتهم هذه فإن الله قد سمعها ويسمعها حرفا بحرف فلا مجال لإنكارها ، فهو يسمع ويدرك حتى ما عجزت أسماع الناس عن سماعها من الأصوات الخفية جدا أو الأصوات العالية جدا :( لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ ) .

إذن فلا فائدة ولا جدوى في الإنكار ، ثمّ يقول سبحانه :( سَنَكْتُبُ ما قالُوا ) أي أن ما قالوه لم نسمعه فحسب ، بل سنكتبه جميعه.

ومن البديهي أن المراد من الكتابة ليس هو ما تعارف بيننا من الكتابة والتدوين ، بل المراد هو حفظ آثار العمل التي تبقى خالدة في العالم حسب قانون بقاء «الطاقة ـ المادة».

بل وحتى كتابة الملائكة الموكّلين من قبل الله بالبشر لضبط تصرفاتهم ، هو الآخر نوع من حفظ العمل الذي هو مرتبة أعلى من الكتابة المتعارفة.

ثمّ يقول :( وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ ) أي أنّنا لا نكتفي بكتابة مقالاتهم الكافرة

__________________

(1) الحديد ، 11.

(2) البقرة ، 276.

(3) أسباب النزول للواقدي ، ص 99 وتفسير روح البيان في تفسير هذه الآية.

٢٥

الباطلة فحسب ، بل سنكتب موقفهم المشين جدا وهو قتلهم للأنبياء.

يعني أن مجابهة اليهود ، ومناهضتهم للأنبياء ليس بأمر جديد ، فليست هذه هي المرّة الأولى التي تستهزء يهود برسول من الرسل ، فإن لهم في هذا المجال باعا طويلا في التاريخ،وصفحة مليئة بنظائر هذه الجرائم والمخازي ، فإن جماعة بلغت في الدناءة والشراسة والقحة والجرأة أن قتلت جماعة من رسل الله وأنبيائه ، فلا مجال للاستغراب من تفوهها بمثل هذه الكلمات الكافرة.

ويمكن أن يقال في هذا المقام : إن قتل الأنبياء مسألة لم ترتبط باليهود في عصر الرسالة المحمّدية ، فلما ذا حمل وزرها عليهم؟ ولكننا نقول ـ كما أسلفنا أيضا ـ أنّ هذه النسبة إنّما صحّت لأنّهم كانوا راضين بما فعله وارتكبه أسلافهم من اليهود ، ولهذا أشركوا في إثمهم ووزرهم وفي مسئوليتهم عن ذلك العمل الشنيع.

وأمّا تسجيل وكتابة أعمالهم فلم يكن أمرا اعتباطيا غير هادف ، بل كان لأجل أن نعرضها عليهم يوم القيامة ، ونقول لهم : ها هي نتيجة أعمالكم قد تجسدت في صورة عذاب محرق ونقول :( ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ) .

إنّ هذا العذاب الأليم الذي تذوقونه ليس سوى نتيجة أعمالكم ، فأنتم ـ أنفسكم ـ قد ظلمتم أنفسكم( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ) (1) ( وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) .

بل لو أنكم وأمثالكم من المجرمين لم تنالوا جزاء أعمالكم ولم تروها بأمّ أعينكم، ووقفتم في عداد الصالحين لكان ذلك غاية في الظلم ، ولو أنّ الله سبحانه لم يفعل ذلك لكان ظلاما للناس.

__________________

(1) إنّما أضيف أعمال الإنسان إلى يده وإن كانت الذنوب تكتسب بجميع الجوارح لأن أكثر ما يكسبه الإنسان إنما يكسبه بيده ، ولأن العادة قد جرت بإضافة الأعمال التي يقوم بها الإنسان إلى اليد وإن اكتسبها بجارحة أخرى.

٢٦

ولقد نقل عن الإمام عليعليه‌السلام في نهج البلاغة أنّه قال : «وأيم الله ما كان قوم قط في غض نعمة من عيش فزال عنهم إلّا بذنوب اجترحوها لأن الله ليس بظلام للعبيد».

إنّ هذه الآية تعدّ من الآيات التي تفنّد ـ من جهة ـ مقولة الجبريين ، و ـ تعمم ـ من جهة اخرى ـ أصل ـ العدالة وتسحبه على كل الأفعال الإلهية ، فتكون جميعا مطابقة للعدالة.

وتوضيح ذلك : إنّ الآية الحاضرة تصرّح بأنّ كلّ جزاء ـ من ثواب أو عقاب ـ ينال الناس من جانب الله سبحانه فإنّما هو جزاء أعمالهم التي ارتكبوها بمحض إرادتهم واختيارهم( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ) .

وتصرّح من جانب آخر بأن( اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) وإنّ قانونه في الجزاء يدور على محور العدل المطلق ، وهذا هو نفس ما تعتقد به العدلية (وهم القائلون بالعدل الإلهي،وهم الشيعة وطائفة من أهل السنة المسمّون بالمعتزلة).

غير أنّ هناك في الطرف الآخر جماعة من أهل السنة «وهم الذين يسمّون بالأشاعرة» لهم اعتقاد غريب في هذا المجال فهم يقولون : إنّه تعالى هو المالك في خلقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، فلو أدخل الخلائق بأجمعهم الجنّة لم يكن حيفا ، ولو أدخلهم النّار لم يكن جورا فلا يتصوّر منه ظلم ، ولا ينسب إليه جور(1) .

والآية الحاضرة تفند هذا النوع من الآراء والمقالات تفنيدا باتا ومطلقا وتقول بصراحة لا غبش فيها ولا غموض :( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) .

__________________

(1) الملل والنحل للشهرستاني ، طبعة بيروت ، ج 1 ، ص 101 ، تحقيق محمّد سيد كيلاني.

٢٧

على أنّ لفظة «ظلام» صيغة مبالغة ، وتعني من يظلم كثيرا ، ولعل اختيار هذه الصيغة في هذا المكان مع أنّ الله سبحانه لا يظلم حتى إذا كان الظلم صغيرا ، لأجل أنّه إذا أجبر الناس على الكفر والمعصية ، وخلق فيهم دواعي العمل القبيح ودوافعه ، ثمّ عاقبهم على ما فعلوه بإجباره وإكراهه لم يكن بذلك قد ارتكب ظلما صغيرا فحسب ، بل كان «ظلاما».

* * *

٢٨

الآيتان

( الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184) )

سبب النّزول

حضر جماعة من أقطاب اليهود عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا له : يا محمّد إنّ الله عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، فإن زعمت أنّ الله بعثك إلينا فجئنا به نصدقك ، فأنزل الله هاتين الآيتين.

التّفسير

مغالطات اليهود وتعللاتهم :

كانت اليهود تتحجج وتجادل كثيرا بهدف التملص من الانضواء تحت راية الإسلام.

ومن مغالطاتهم ما جاء ذكره في هذه الآية الحاضرة التي تقول :( الَّذِينَ قالُوا

٢٩

إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ) .

قال المفسرون : إن اليهود كانت تزعم أنّه يجب أن يكون للأنبياء خصوص هذه المعجزة ، وهي أن يقربوا قربانا فتنزل النّار من السماء وتأكل قربانهم ، ففي ذلك دلالة على صدق المقرب (أي صاحب القربان).

ولو أن اليهود كانوا صادقين في هذا الطلب ، وكانوا يريدون ـ حقّا ـ مثل هذا الأمر من باب إظهار الإعجاز ، وليس من باب العناد واللجاجة والمغالطة لكان من الممكن إعذارهم ، ولكن تاريخهم الغابر ، وكذا مواقفهم المشينة مع نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تثبت الحقيقة التالية ، وهي أنّهم لم يكونوا أبدا طلاب حقّ وبغاة علم ، بل كانوا يأتون كل يوم بمغالطة واقتراح جديد لمواجهة الجو الضاغط عليهم ، وما كان يخلقه القرآن من وضع محرج لهم بفضل ما كان يقيمه من براهين ساطعة وقوية ، وذلك فرارا من قبول الإسلام ، والانضواء تحت رايته ، وحتى لو أنّهم حصلوا على مقترحاتهم فإنّهم كانوا يمتنعون عن الإيمان ، بدليل أنهم كانوا قد قرءوا في كتبهم كل علائم نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنهم مع ذلك أبوا إلّا رفض الحقّ،وعدم الإذعان له.

يقول القرآن في مقام الردّ عليهم :( قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) ؟ وفي ذلك إشارة إلى زكريا ويحيى وطائفة من الأنبياء الذين قتلوا على أيدي بني إسرائيل.

هذا ويذهب بعض متأخري المفسرين (مثل كاتب تفسير المنار) إلى احتمال آخر حول مسألة القربان خلاصته : إن مقصودهم لم يكن إن على النّبي أن يذبح قربانا وتنزل من السماء نار بطريقة إعجازية وتحرق ذلك القربان ، بل كان مرادهم هو أنّه كان في تعاليم دينهم نوع من هذا القربان الذي يذبح بطريقة خاصّة وفي مراسيم معينة ، ثمّ يحرق بالنّار وهو ما جاء شرحه في الفصل الأوّل من سفر «اللاويين» من التوراة (العهد القديم).

٣٠

إنّهم كانوا يقولون : إنّ الله عهد إلينا أن يبقي مثل هذا التعليم ، ومثل هذا القربان في كل دين سماوي ، وحيث إنّنا لا نجد مثل هذا الأمر في التعاليم الإسلامية لذلك فإننا لا نؤمن لك.

ولكن هذا الاحتمال بعيد عن تفسير الآية جدا لأنّه :

أوّلا : إنّ هذه الجملة قد عطفت في الآية الحاضرة على «البيّنات» ويظهر من ذلك أن مرادهم كان عملا إعجازيا،وهو لا ينطبق مع هذا الاحتمال.

وثانيا : إنّ ذبح حيوان ثمّ حرقه بالنار عمل خرافي ولا يمكن أن يكون من تعاليم الأنبياء وشرائعهم السماوية.

ثمّ يعقب سبحانه على الآية السابقة بقوله :( فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ) .

وفي هذه الآية يسلي الله سبحانه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول : إن كذبتك هذه الجماعة فلا تقلق لذلك ولا تحزن ، فذلك هو دأبهم مع أنبياء سبقوك حيث كذبوهم ، وعارضوا دعوتهم بصلابة وعناد.

ولم يكن هؤلاء الأنبياء غير مزودين بما يبرهن على صدقهم ، بل( جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ ) .

وهنا لا بدّ من الانتباه إلى أن «زبر» وهو جمع (زبور) يعني كتابا أحكمت كتابة مواضيعه ، لأن الزبر أصلا من الكتابة ، لا مطلق الكتابة ، بل الكتابة المتقنة المحكمة.

وأمّا الفرق بين «الزبر» و «الكتاب المنير» مع أنّهما من جنس واحد هو الكتاب،فيمكن أن يكون بسبب أن الاوّل إشارة إلى كتب الأنبياء قبل موسىعليه‌السلام ، والثّاني إشارة إلى التوراة والإنجيل ، لأنّ القرآن الكريم عبر عنهما في سورة المائدة الآية 44، و 46 بالنّور إذ قال :( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ ) ( وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُور ) .

٣١

هذا ويحتمل بعض المفسرين أن يكون المراد من «الزّبور» هو تلك الكتب السماوية التي تحتوي على المواعظ والزواجر خاصّة (كما كان عليه الزبور المنسوب إلى داود الذي هو الآن بين الأيدي والذي يحتوي بأسره على المواعظ والزواجر) ولكن «الكتاب المنير» أو الكتاب السماوي فيطلق على ما يحتوي على التشريعات والقوانين والأحكام الفردية والاجتماعية.

* * *

٣٢

الآية

( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185) )

التّفسير

الموت وقانونه العام :

تعقيبا على البحث حول عناد المعارضين وغير المؤمنين تشير هذه الآية إلى قانون «الموت» العام وإلى مصير الناس في يوم القيامة ، ليكون ذلك تسلية للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين، وتحذيرا ـ كذلك ـ للمعارضين العصاة.

فهذه الآية تشير ـ أوّلا ـ إلى قانون عام يشمل جميع الأحياء في هذا الكون وتقول :( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ) .

والناس ، وإن كان أكثرهم يحب أن ينسى مسألة الفناء ويتجاهل الموت ، ولكن هذا الأمر حقيقة واقعة إن حاولنا تناسيها والتغافل عنها ، فهي لا تنسانا ، ولا تتغافل عنّا.

إنّ لهذه الحياة نهاية لا محالة ، ولا بدّ أن يأتي ذلك اليوم الذي يزور فيه الموت كل أحد ، ولا يكون أمامه ـ حينئذ ـ إلّا أن يفارق هذه الحياة.

٣٣

إن المراد من «النفس» في هذه الآية هو مجموعة الجسم والروح ، وإن كانت النفس في القرآن تطلق أحيانا على خصوص «الرّوح» أيضا.

والتعبير بالتذوق إشارة إلى الإحساس الكامل ، لأن المرء قد يرى الطعام بعينيه أو يلمسه بيده ، ولكن كل هذه لا يكون ـ والأحرى لا يحقق الإحساس الكامل بالشيء، نعم إلّا أن يتذوق الطعام بحاسة الذوق فحينئذ يتحقق الإحساس الكامل ، وكأن الموت ـ في نظام الخلقة ـ نوع من الغذاء للإنسان والأحياء.

ثمّ تقول الآية بعد ذلك( وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) أي أنّه ستكون بعد هذه الحياة مرحلة أخرى هي مرحلة الثواب والعقاب ، وبالتالي الجزاء على الأعمال ، فهنا عمل ولا حساب وهناك حساب ولا عمل.

وعبارة «توفون» التي تعني إعطاء الجزاء بالكامل تكشف عن إعطاء الإنسان أجر عمله ـ يوم القيامة ـ وافيا وبدون نقيصة ، ولهذا لا مانع من أن يشهد الإنسان ـ في عالم البرزخ المتوسط بين الدنيا والآخرة ـ بعض نتائج عمله ، وينال قسطا من الثواب أو العقاب،لأن هذا الجزاء البرزخي لا يشكل الجزاء الكامل.

ثمّ قال سبحانه :( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ ) .

وكلمة «زحزح» تعني محاولة الإنسان لإخراج نفسه من تحت تأثير شيء ، وتخليصها من جاذبيته تدريجا.

وأمّا كلمة «فاز» فتعني في أصل اللغة «النجاة» من الهلكة ، ونيل المحبوب والمطلوب.

والجملة بمجموعها تعني أنّ الذين استطاعوا أن يحرروا أنفسهم من جاذبية النّار ودخلوا الجنّة فقد نجوا من الهلكة ، ولقوا ما يحبونه ، وكأن النّار تحاول بكلّ طاقتها أن تجذب الأدميين نحو نفسها حقّا أنّ هناك عوامل عديدة تحاول أن تجذب الإنسان إلى نفسها،وهي على درجة كبيرة من الجاذبية.

أليس للشهوات العابرة ، واللذات الجنسية الغير المشروعة ، والمناصب،

٣٤

والثروات الغير المباحة مثل هذه الجاذبية القوية؟؟

كما أنّه يستفاد من هذا التعبير أن الناس ما لم يسعوا ويجتهدوا لتخليص أنفسهم وتحريرها من جاذبية هذه العوامل المغرية الخداعة فإنّها ستجذبهم نحو نفسها تدريجا، وسيقعون في أسرها في نهاية المطاف.

أمّا إذا حاولوا من خلال تربية أنفسهم وترويضها ، وتمرينها على مقاومة هذه الجواذب والمغريات وكبح جماحها ، وبلغوا بها إلى مرتبة «النفس المطمئنة» كانوا من النّاجين الواقعيين، الذين يشعرون بالأمن والطمأنينة.

ثمّ يقول سبحانه في نهاية هذه الآية :( وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ ) .

وهذه الجملة تكمل البحث السابق وكأنها تقول : إنّ هذه الحياة مجرّد لهو ومتاع تخدع الإنسان من بعيد ، فإذا بلغ إليها الإنسان ونال منها ولمسها عن كثب وجدها ـ على الأغلب ـ فراغا في فراغ وخواء في خواء ، وما متاع الغرور إلّا هذا.

هذا مضافا إلى أن اللذائذ المادية تبدو من بعيد وكأنها خالصة من كل شائبة ، وخالية من كل ما يكدرها ، حتى إذا اقترب إليها الإنسان وجدها ممزوجة بكل ألوان العناء والعذاب، وهذا جانب آخر من خداع الحياة المادية.

كما أنّ الإنسان ينسى ـ في أكثر الأحيان ـ طبيعته الفانية ، ولكنه سرعان ما ينتبه إلى أنّها سريعة الزوال ، قابلة للفناء.

إنّ هذه التعابير قد تكررت في القرآن والأحاديث كثيرا ، والهدف منها جميعا شيء واحد هو أن لا يجعل الإنسان هذه الحياة المادية ولذاتها العابرة الفانية الزّائلة هدفه الأخير،ومقصده الوحيد النّهائي الذي تكون نتيجته الغرق والارتطام في شتى ألوان الجريمة والمعصية، والابتعاد عن الحقيقة وعن التكامل الإنسانى ، وأمّا الانتفاع بالحياة المادية ومواهبها كوسيلة للوصول إلى التكامل الإنساني والمعنوي فليس غير مذموم فقط ، بل هو ضروري وواجب.

* * *

٣٥

الآية

( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) )

سبب النّزول

عند ما هاجر المسلمون من مكّة إلى المدينة وابتعدوا عن دورهم وديارهم ، راحت أيدي المشركين تطال أموالهم وتمتدّ إلى ممتلكاتهم ، وتنالها بالتصرف والسيطرة عليها ، وإيذاء كلّ من وقعت عليه أيديهم والإيقاع فيه بالجهاء والاستهزاء.

وعند ما جاؤوا إلى المدينة ، واجهوا أذى اليهود القاطنين في المدينة ، خاصّة «كعب بن الأشرف» الذي كان شاعرا سليط اللسان ، فقد كان كعب هذا يهجو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ويحرض المشركين عليهم حتى أنّه كان يشبب بنساء المسلمين ويصف محاسنهن ويتغزل بهن.

وقد بلغت وقاحته مبلغا دفعت بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن يأمر بقتله ، فقتل على أيدي المسلمين غيلة.

٣٦

والآية الحاضرة ـ حسب بعض الأحاديث المنقولة عن المفسرين ـ تشير إلى هذه الأمور وتحث المسلمين على مواصلة الصمود والمقاومة.

التّفسير

لا تتبعكم المقاومة :

( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ) أجل إنّ هذه الحياة ـ أساسا ـ ساحة اختبار ودار إمتحان ، فلا بدّ أن يتهيأ الإنسان لمواجهة كل الحوادث والمفاجئات الصعبة العسيرة،وهذا في الحقيقة تنبيه وتحذير لجميع المسلمين بأن لا يظنوا بأن الحوادث العسيرة في حياتهم قد انتهت ، أو أنّهم قد تخلصوا من أذى الأعداء ، وسلاطة لسانهم بمجرد قتلهم لكعب بن الأشرف الشاعر السليط اللسان الذي كان يؤذي المسلمين بلسانه ، وشعره.

ولهذا قال سبحانه :( وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً ) .

إنّ مسألة التعرض الأذى المشركين اللساني وسبهم وشتمهم وهجائهم وإن كانت من إحدى الابتلاءات التي جاء ذكرها في مطلع الآية ، ولكنه ذكر هنا بخصوصه للأهمية الفائقة،لأن مثل هذا قلّما يتحمله الشرفاء من الناس لعظيم أثره في أرواحهم ونفوسهم ، ومن قديم قال الشاعر :

جراحات السنان لها التيام

ولا يلتام ما جرح اللسان

ثمّ أنّه سبحانه عقب على هذا الإنذار والتنبيه بقوله :( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) .

وبهذا يبيّن القرآن وظيفة المسلمين وواجبهم في أمثال هذه الحوادث الصعبة والظروف العسيرة ، ويدعوهم إلى

الصبر والاستقامة والصمود والتزام التقوى في مثل هذه الحوادث معلنا بأن هذه الأمور من الأمور الواضحة النتائج،

٣٧

ولذلك يتعين على كل عاقل أن يتخذ موقفه منها.

والعزم في اللغة هو «القرار المحكم» وربّما يطلق على مطلق الأمور المحكمة ، وعلى هذا فإن «عزم الأمور» يعني الأعمال البينة الرشد التي يجب على كل إنسان عاقل العزم عليها أو بمعنى كل أمر محكم يطمأن إليه.

واقتران الصبر بالتقوى في هذه الآية لعله إشارة إلى أن بعض الأشخاص قد يصبرون ولكنهم مع ذلك يظهرون الشكوى ، ويبدون التبرم بما لقوا ، ولكن المؤمنين الصادقين هم الذين يمزجون الصبر بالتقوى دائما وأبدا ويتجنبون مثل ذلك السلوك.

* * *

٣٨

الآية

( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) )

التّفسير

بعد ذكر جملة من أعمال أهل الكتاب المشينة ومخالفاتهم تشير الآية الحاضرة إلى واحدة أخرى من تلك الأعمال والمخالفات ، ألا وهو كتمان الحقائق فتقول :( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ ) ، أي اذكروا إذ أخذ الله مثل هذا الميثاق منكم.

والملفت للنظر أن عبارة «لتبيّننه» جاءت مع لام القسم ، ونون التأكيد الثقيلة،وذلك نهاية في التأكيد.

ثمّ أردفها ـ مع ذلك ـ بقوله : «ولا تكتمونه» الذي هو أمر صريح بعدم الكتمان والإخفاء.

ومن كل هذه التعابير يتضح أو يستفاد أن الله سبحانه قد أخذ بوساطة الأنبياء السابقين آكد المواثيق والعهود من أهل الكتاب لإظهار الحقائق ، وبيانها ، ولكنّهم رغم كل ذلك ـ خانوا تلك العهود وتجاهلوا تلك المواثيق ، وأخفوا ما أرادوا

٣٩

إخفائه من حقائق الكتب السماوية ، ولهذا قال سبحانه عنهم( فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ ) أنّها كناية رائعة عن عدم العمل بالواجب وتناسيه ، لأن الإنسان إذا عزم على العمل بشيء وأراد جعله ملاكا له ، فإن يجعله قدامه ، وينظر إليه مرة بعد اخرى ، ولكنه إذا لم يرد العمل به وأراد تناسيه بالمرة أزاحه من وجهه ، وألقاه خلف ظهره.

ثمّ أنّه سبحانه أشار إلى حرص اليهود وجشعهم وحبّهم المفرط للدنيا إذ يقول :( وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ ) .

إن حبّهم الشديد للدنيا الذي بلغ حد العبادة ، وانحطاطهم الفكري آل بهم إلى أن يكتموا الحقائق لقاء مكاسب مادية ، ولكن الآية تقول : أنهم لم يشتروا بذلك ولم يكسبوا إلّا ثمنا قليلا ، وبئس ما يشترون.

ولو أنهم قد حصلوا لقاء كتمان الحقائق ـ هذه الجريمة الكبرى ـ على ثروة عظيمة وطائلة لكان ثمّة مجال لأن يقال : إنّ عظمة المال والثروة قد أعمت أبصارهم وأسماعهم،ولكن الذي يدعو إلى الدهشة والعجب أنّهم باعوا كلّ ذلك لقاء ثمن بخس ومتاع قليل ، (طبعا المقصود هنا هو علماؤهم الدنيئو الهمة).

العلماء والوظيفة الكبرى :

إن الآية الحاضرة وإن كانت قد وردت بحق أهل الكتاب (من اليهود والنصارى) إلّا أنّها في الحقيقة تحذير وإنذار لكل علماء الدين ورجاله بأن عليهم أن يجتهدوا في تبليغ الحقائق وبيان الأحكام الإلهية ، وتوضيحها وإظهارها بجلاء ، وإن ذلك ممّا كتبه الله عليهم،وأخذ منهم ميثاقا مؤكدا وغليظا.

إنّ كلمة «لتبيّننه» وما اشتقت منه في أصل اللغة في هذه الآية تكشف عن أنّ المقصود ليس هو فقط تلاوة آيات الله أو نشر ما احتوت عليه الكتب السماوية من كلمات وعبارات ، بل المقصود هو عرض ما فيها من الحقائق على الناس ،

٤٠

يروون ـ وبين إنكار عائشة ، كقول القسطلاني تَبَعاً لابن حجر :

( وعلى هذا ، فيُمكن الجمع بين إثبات ابن عبّاس ونفي عائشة ، بأنْ يُحمل نفيها على رُؤية البصر ، وإثباتُه على رؤية القلب )(١) .

ولا يخفى بطلانه ؛ لأنّ في حديث الترمذي عن عكرمة أنّه اعترض على ابن عبّاس قوله بالمنافاة لقوله تعالى :( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) ، فلو كان ابن عبّاس يُريد بالقلب لأجابه ذلك ، لا بما جاء في الحديث ؛ لأنّ رؤية القلب لا تختصّ بوقتٍ دون وقت .

على أنّ هناك حديثاً صريحاً في إرادته الرؤية بالبصر ، ولأجله استدرك القسطلاني الكلام قائلاً :

( لكنْ روى الطبراني في الأوسط بإسنادِ رجاله رجال الصحيح خلا جهور بن منصور الكوفي ـ وجهور بن منصور قد ذكره ابن حبّان في الثقات ـ عن ابن عبّاس أنّه كان يقول : إنّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى ربّه مرّتين ، مرّةً ببَصَرِه ومرّةً بفؤاده )(٢) .

وذكر أيضاً : ( جَنَح ابن خزيمة في كتاب التوحيد إلى ترجيح الإثبات ، وأطنَب في الاستدلال بما يطول ذكره ، وحمَل ما ورَد عن ابن عبّاس على أنّ الرؤية وقعت مرّتين ، مرّةً بقلبه ومرّةً بعينه )(٣) .

وكذلك محمّد بن يوسف الشامي ، فإنّه ذكر الجمع المزبور في الثالث من التنبيهات ، ثمّ عدل عنه في الخامس منها حيث قال :

ـــــــــــــــــــ

(١) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة ٢ : ٣٩٣ .

(٢) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة ٢ : ٣٩٣ .

(٣) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة ٢ : ٣٩٣

٤١

 ( قال ابن كثير : مَن روى عن ابن عبّاس أنّه رآه ببصره ، فقد أغرب ؛ فإنّه لا يصحّ في ذلك شيء عن الصحابة ، وقول البغوي : وذهب جماعة إلى أنّه رآه بعينه ـ وهو قول أنَس والحسن وعكرمة ـ فيه نظر .

قلت : سبَق البغوي إلى ذلك الإمامُ أبو الحسن الواحدي وقول ابن كثير : إنّه لا يصحّ في ذلك شيءٌ عن الصحابة ، ليس بجيّد ، فقد روى الطبراني بسندٍ صحيح عن ابن عبّاس أنّه كان يقول : نظر محمّدٌ إلى ربّه مرّتين ، مرّةً ببصره ومرّةً بفؤاده )(١) .

وتلخّص : إنّ الجمع المذكور ساقط ، والأحاديث على خلافه .

وممّا يشهد بسقوطه : كلام الزهري ، فإنّه ردّ على عائشة إنكارها على ابن عبّاس ، كما في ( عيون الأثر ) قال :

( وفي تفسير عبد الرزاق : عن معمر ، عن الزهري ، وذكَر إنكار عائشة أنّه رآه فقال الزهري : ليستْ عائشة أعلم عندنا من ابن عبّاس وفي تفسير ابن سلام عن عروة : أنّه كان إذا ذكَر إنكار عائشة يشتدّ ذلك عليه )(٢) .

فلو كان للجمع المذكور أو غيره وجهٌ لما اتّخذ الزهري هذا الموقف .

هذا ، على أنّه لا فرق بين رؤية القلب ورؤية البصر ، إذ ليس المراد من ( رؤية القلب ) هو ( العلم بالله ) ؛ لأنّ هذا يحصل في كلّ وقت ، وليس له وقتٌ مخصوص ، بل المراد هو حصول خلقٍ له في قلبه كما تخلق الرؤية بالعين ، وهذا ما نصّ عليه الشهاب القسطلاني حيث قال :

( ثمّ إنّ المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب ، لا مجرّد حصول العلم ؛ لأنّه كان

ـــــــــــــــــــ

(١) سُبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ٣ : ٦٣ .

(٢) عيون الأثر في المغازي والسير ١ : ٢٥٠ ـ ٢٥١ .

٤٢

عالماً بالله على الدوام ، بل مراد مَن أثبت له أنّه رآه بقلبه أنّ الرؤية التي حصلت له خُلقت له في قلبه كما تُخلق الرؤية بالعين لغيره ، والرؤية لا يُشترط لها شيءٌ مخصوص عقلاً ، ولو جرت العادة بخلقها في العين ) (١) .

ومحمّد بن يوسف الشامي قال :

( قال الحافظ : المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب لا مجرّد حصول العلم ؛ لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عالماً بالله تعالى على الدوام ، بل مراد مَن أثبت له أنّه رآه بقلبه : إنّ الرؤية التي حصلت له خُلقت في قلبه كما تُخلق الرؤية بالعين لغيره .

وزاد صاحب السراج : بخلاف غيره من الأولياء ، فإنّهم إذا أطلقوا الرؤية والمشاهدة لأنفسهم ، فإنّهم إنّما يريدون المعرفة ، فاعلمه فإنّه من الأُمور المهمّة التي يغلط فيها كثير من الناس انتهى .

والرؤية لا يُشترط لها شيءٌ مخصوص عقلاً ، ولو جرت العادة بخلقها في العين قال الواحدي : وعلى القول بأنّه رأى بقلبه جعل الله تعالى بصره في فؤاده ، أو خلق لفؤاده بصراً حتّى رأى ربّه رؤيةً صحيحةً كما يُرى بالعين )(٢) .

والحاصل : إنّه لا يبقى ـ على هذا ـ فرقٌ بين رؤية القلب ورؤية البصر ، وبأيّ وجهٍ تكون دعوى الرؤية بالبصر فريةً عظيمةً ، كذلك دعوى الرؤية بالقلب .

ـــــــــــــــــــ

(١) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة ٢ : ٣٩٣ .

(٢) سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ٣ : ٦٣

٤٣

إنكار عائشة على ابن عبّاس في مسائل أُخرى

هذا ، وقد أنكرت عائشة على ابن عبّاس في مسائل أُخرى أيضاً ، ففي ( الصحيحين ) : ( عن عمرة بنت عبد الرحمن : إنّ زياد بن أبي سفيان كَتب إلى عائشة : إنّ عبد الله بن عبّاس قال : مَن أهدى هدْياً حرم عليه ما يحرم على الحاج ، حتّى ينحر هديه ، وقد بعثت بهدي فاكتبي إليّ بأمرك قالت عمرة : قالت عائشة : ليس كما قال ابن عبّاس... )(١) .

قول ابن عبّاس بوقوع الغلط في القرآن

واشتهر عن ابن عبّاس القول بوقوع الخطأ والغلط في القرآن العظيم ، الذي عليه مدار الإيمان وهو أصل الإسلام...

قال السيوطي ـ بعد ذكر بعض الأحاديث الدالّة على وقوع اللّحن في القرآن :

( ويقرب ممّا تقدّم عن عائشة :

ما أخرجه ابن جرير وسعيد بن منصور في سُننه من طريق سعيد بن جُبير ، عن ابن عبّاس في قوله :( حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا... ) قال : إنّما هي خطأ مِن الكاتب ، حتّى تستأذنوا وتسلّموا .

أخرجه ابن أبي حاتم بلفظ : هو ـ فيما أحسب ـ ممّا أخطأ به الكتّاب .

وما أخرجه ابن الأنباري من طريق عكرمة عن ابن عبّاس أنّه قرأ :( أفَلَم

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ، كتاب الحج ، باب من قلّد القلائد بيده صحيح مسلم ، كتاب الحج ، باب استحباب بعث الهدْي إلى الحرم...

٤٤

يتبيّن الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى النّاس جميعاً ) . فقيل له : إنّها في المصحف : ( أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا.. ) .

قال : أظنّ الكاتب كتبها وهو ناعس .

وما أخرجه سعيد بن منصور ، من طريق سعيد بن جُبير ، عن ابن عبّاس أنّه كان يقول في قوله :( وَقَضَى رَبُّكَ.. ) إنّما هي :ووصّى ربّك ، التزقت الواو بالصاد .

وأخرجه ابن أشته بلفظ : استمدّ الكاتب مداداً كثيراً ، فالتزقت الواو بالصاد .

وأخرج هو مِن طريق الضحاك عن ابن عبّاس أنّه كان يقرأ :ووصّى ربّك ويقول : أمر ربّك ، أنّهما واوان التصقت إحداهما بالصاد .

وأخرج من طريقٍ أُخرى عن الضحّاك أنّه قال : كيف تقوأ هذا الحرف ؟ قال :( وَقَضَى رَبُّكَ.. ) قال : ليس كذلك نقرؤها نحن ولا ابن عبّاس ، إنّما هي :ووصّى ربّك ، كذلك كانت تُقرأ وتُكتب ، فاستمدّ كاتبكم فاحتمل القلم مداداً كثيراً فالتزقت الواو بالصاد ، ثمّ قرأ :( وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ.. ) ، ولو كانت قضاءً من ربّك لم يستطع أحدٌ ردّ قضاء الربّ ، ولكنّه وصيّة أوصى بها العباد .

وما أخرجه سعيد بن منصور وغيره ، من طريق عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عبّاس أنّه كان يقرأ :وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ ضِيَاء ، ويقول : خذوا هذهِ الواو واجعلوها هاهنا( و الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ... ) الآية .

وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق الزبير بن خِرّيت ، عن عكرمة ، عن ابن عبّاس : انزعوا هذهِ الواو فاجعلوها في : الذين يحملون العرش ومن حوله .

وما أخرجه ابن أشتة وابن أبي حاتم من طريق عطا ، عن ابن عبّاس ، في قوله تعالى :( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ.. ) قال : هي خطأٌ من الكاتب ، هو أعظم من أنْ يكون نوره مثل نور المشكاة ، إنّما هي مثل نور المؤمن من المشكاة )(١) .

ـــــــــــــــــــ

(١) الدر المنثور ٥ : ٦٣٤ ، ٦ : ١٩٧ .

٤٥

أُبيّ بن كعب

وأمّا أُبيّ بن كعب ، فقد زاد في القرآن الكريم ، وأدخل فيه ما ليس منه ، كما تقدّم سابقاً كما أنّه نقص منه ، إذ وافق ابن مسعود في إنكار المعوّذتين ، كما جاء في كتاب ( فصول الأحكام ) حيث قال :

إنكاره المعوّذتين

( ومَن زعم أنّ المعوّذتين ليستَا من القرآن ، فقد ذُكر في فتاوى أبي الليث أنّه لا يُكفّر ؛ فإنّه روي عن ابن مسعود و أُبيّ بن كعبرضي‌الله‌عنه ما أنّهما ليسَتَا من القرآن ) .

فأُبيّ على هذا القول أيضاً ، وأبو الليث وإنْ كان قد أفتى بعدم الكُفر ، فقد سبق أنّ جماعة مِن الأكابر يكفّرون المُنكِر ، بل تقدّم عن النووي أنّه إجماع المسلمين...

بل إنّ القوم يرَون بأنّ أدنى المخالفة لمصحف عثمان تستوجب الهتك ، والتفسيق ، والتضليل ، والتعزير ، كما وقع بحقِّ ابن شنبوذ :

قال ياقوت الحموي في( معجم الأُدباء ) بترجمة محمّد بن أحمد بن أيّوب بن الصّلت بن شنبوذ :

( حدّث إسماعيل بن عليّ الخطيبي في كتاب التاريخ قال : واشتهر ببغداد أمر رجلٍ يُعرف بابن شنبوذ ، يُقرئ النّاس ، ويُقرَأُ في المحراب بحروفٍ يُخالف فيها المصحف ، فيما يُروى عن عبد الله بن مسعود وأُبي بن كعب وغيرهما ، ممّا كان يقرأ به قبل المصحف الذي جمعه عثمان ، ويتتبّع الشواذ فيَقرأ بها ويُجادل ، حتّى عظم أمره وفحش وأنكره النّاس ، فوجّه السلطان وقبض عليه في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمئة ، وحُمل إلى دار الوزير محمّد ابن مقلة ، واُحضر القضاة والفقهاء والقرّاء ، وناظره الوزير بحضرته فأقام على ما ذكره عنه ونصره ، واستنزله الوزير عن ذلك فأبى أنْ ينزل عنه أو يرجع عمّا يقرأ به من هذهِ الشواذ المنكرة التي تزيد على المصحف العثماني ، فأنكر ذلك جميع من حضر المجلس وأشاروا بعقوبته ومعاملته بما يضطرّه إلى الرجوع ، فأمر بتجريده وإقامته بين الخبّازين ، وأمر بضربه بالدرّة على قفاه ، فضرب نحو العشرة ضرباً شديداً ، فلم يصبر واستغاث وأذعن بالرجوع والتوبة ، فخلّى عنه ) .

٤٦

( قرأت في كتاب ألّفه القاضي أبو يوسف عبد السَّلام القزويني ، سمّاه :( أفواج القرّاء ) ، قال : كان ابن شنبوذ أحد القرّاء المتنسّكين ، وكان يرجع إلى ورع ، ولكنّه كان يميل إلى الشواذّ ويقرأ بها ، ورُبّما أعلن ببعضها في بعض صلواته التي يجهر فيها بالقراءة ، وسُمع ذلك منه ، وأُنكِر عليه فلم ينته للإنكار .

فقام أبو بكر ابن مجاهد فيه حقّ القيام وأشهر أمره ، رفع حديثه إلى الوزير في ذلك الوقت ، وهو أبو عليّ ابن مقلة ، فأُخذ وضُرب أسواطاً زادت على العشرة ولم تبلغ العشرين ، وحُبس واستتيب فتاب ، وقال : إنّي قد رجعت عمّا كنت أقرأ به ، ولا أُخالف مصحف عثمان ، ولا أقرأ إلاّ بما فيه من القراءة المشهورة .

وكتب عليه بذلك الوزير أبو علي محضراً بما سمع من لفظه ، وأمره أنْ يكتب في آخره بخطّه ، وكان المحضر بخطّ أبي الحسين أحمد بن محمّد بن ميمون ، وكان أبو بكر ابن مجاهد تجرّد في كشفه ومناظرته ، فانتهى أمره إلى أنْ خاف على نفسه من القتل .

وقام أبو أيّوب السمسار في إصلاح أمره ، وسأل الوزير أبا علي أنْ يطلقه وأنْ ينفذه إلى داره مع أعوانه بالليل خيفةً عليه لئلاّ يقتله العامّة ، ففعل ذلك ، ووجّه إلى المدائن سرّاً مدّة شهرين ، ثمّ دخل بيته ببغداد مستخفياً من العامّة )(١) .

مَن كفر بآية من القرآن كفر بكلّه

هذا ، ومقتضى نصوص عبارات القوم وفتاواهم ، وهو كُفر من كَفر بآيةٍ أو بحرفٍ من القرآن الكريم :

قال القاضي عياض في( الشفا ) :

( قال أبو عثمان ابن الحدّاد : جميع من ينتحل التوحيد متّفقون على أنّ الجحد لحرفٍ من التنزيل كُفر وكان أبو العالية إذا قرأ عنده رجلٌ لم يقل له ليس كما قرأت ، ويقول : أمّا أنا فأقرأ كذا ، فبلغ ذلك إبراهيم ، فقال : أراه سمِع أنّه من كفر بحرفٍ منه فقد كفر به كلّه )(٢) .

قال : ( وقال محمّد بن سحنون فيمن قال المعوّذتان ليسَتَا من كتاب الله :

ـــــــــــــــــــ

(١) معجم الأُدباء ١٧ : ١٦٨ ـ ١٧١ / ٥٧ .

(١) الشفا بتعريف حقوق المصطفى ٢ : ٦٤٨ ـ ٦٤٩ .

٤٧

يضرب عنقه إلاّ أنْ يتوب ) (١) .

وقال الشهاب الخفاجي في( نسيم الرياض ) :

( وقال عبد الله بن مسعودرضي‌الله‌عنه ـ فيما رواه عبد الرزّاق عنه ـ مَن كفر بآيةٍ من القرآن فقد كفر به كلّه ؛ لأنّه تكذيب لقائلها عزّ وجلّ وقال أصبغ ابن الفرج ـ بالجيم ـ المصري ـ : من كذّب ـ بالتشديد ـ ببعض القرآن فقد كذّب به كلّه ، ومن كذّبه كلّه فقد كفر به ، ومن كفر به فقد كفر بالله سبحانه )(٢) .

ـــــــــــــــــــ

(١) الشفا بتعريف حقوق المصطفى ٢ : ٦٤٨ .

(٢) نسيم الرياض بشرح الشفا للقاضي عياض ٤ : ٥٥٩ .

٤٨

زيد بن ثـابت

وأمّا زيد بن ثابت.. فقد قدح فيه الصحابي أبو حسن المازني الأنصاري ، بدعوته الأنصار يوم الدار لنصرة عثمان بن عفّان ، فخاطبه أبو حسن بآية من القرآن الكريم مفادها الضلال والإضلال...

وقد ترجم الحافظ ابن حجر أبا حسن المازني قائلاً :

( أبو حسن الأنصاري ثمّ المازني ، جدّ يحيى بن عمارة بن أبي حسن ، مشهور بكنيته ، واسمه تميم بن عمرو ، وقيل : ابن عبد عمرو ، وقيل : ابن عبد قيس بن مخرمة بن الحارث بن ثعلبة بن مازن قال ابن السكن : بدري ، له صحبة ، وساق من طريق حسين بن عبد الله الهاشمي ، ثنا عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي حسن ، عن أبيه ، عن جدّه أبي حسن ـ وكان عقبياً بدرياً ـ : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان جالساً ومعه نفر من أصحابه ، فقام رجلُ ونسي نعليه ، فأخذهما آخر فوضعهما تحته ، فجاء الرجل فقال : نعلي ، فقال القوم : ما رأيناهما فقال الرجل : أنا أخذتهما وكنت ألعب ، فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( فكيف بروعة المؤمن ) قالها ثلاثاً )(١) .

توصيفه بالضلال والإضلال

وأمّا قضيّته مع زيد بن ثابت ، فقد ذكرها الحافظ ابن عبد البر بترجمته إذ قال :

ـــــــــــــــــــ

(١) الإصابة في معرفة الصحابة ٧ : ٤٣/ ٢٧٢ .

٤٩

 ( له صحبة ، يُقال : إنّه ممّن شهد العقبة وبدراً وأبو حسن المازني هو القائل لزيد بن ثابت حين قال يوم الدار: يا معشر الأنصار ، كونوا أنصار الله ـ مرّتين ـ فقال له أبو حسن : لا والله ، لا نطيعك فنكون كما قال الله تعالى : ( ..أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا ) ويُقال : بل قال له ذلك : النعمان الزرقي ) (١) .

فكان زيد ودعوته لنصرة عثمان ـ عند هذا الصحابي ـ مصداقاً للآية المباركة :( إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً *خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً *يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا *وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا *رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً ) (٢) .

هذا ، ولا يخفى أنّ القول بكون القائل هو النعمان الزرقي لا يضرّ باستدلالنا ؛ لأنّه أيضاً من معارف الصحابة ، وقد ترجم له في ( الاستيعاب ) وقال بأنّه : ( كان لسان الأنصار وشاعرهم ) ووصفه بأنّه ( كان سيّداً )(٣) .

توصيفه بالجور في الحكم

وعن عمر بن الخطّاب ـ وهو خليفتهم الثاني ، المُدّعى له العصمة كما نَقل الشيخ عبد العلي الأنصاري في( شرح المثنوي ) عن بعضهم ـ أنّه وصَف

ـــــــــــــــــــ

(١) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ٤ : ١٦٣٢/ ٢٩١٥ .

(٢) سورة الأحزاب ٣٣ : ٦٤ ـ ٦٨ .

(٣) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ٤ : ١٥٠١/ ٢٦١٩ .

٥٠

زيد بن ثابت بالجور في الحكم ، في خصومةٍ كانت بينه وبين أُبيّ بن كعب فتحاكما إليه :

( عن الشعبي قال : كان بين عُمر وبين أُبيّ بن كعب خصومة ، فقال عُمر : اجعل بيني وبينك رجلاً ، فجعلا بينهما زيد بن ثابت ، فأتَياه ، فقال عمر : أتيناك لتحكم بيننا ، وفي بيته يُؤتى الحكَم.

فلمّا دخلا عليه وسّع له زيد عن صدر فراشه ، فقال : هاهنا يا أمير المؤمنين ، فقال له عمر : هذا أوّل جور جُرتَ في حكمك ، ولكنْ أجلس مع خصمي ، فجلَسا بين يديه ، فادّعى أُبيّ وأنكر عمر ، فقال زيد لأُبي : اُعف أمير المؤمنين من اليمين ، وما كانت لأسألها لأحدٍ غيره ، فحلَف عمر ، ثمّ أقسم لا يدرك زيدٌ القضاء حتّى يكون عمر ورجلٌ من عرَض المسلمين عنده سواء هق كر )(١) أي رواه سعيد بن منصور في سُننه ، والبيهقي في سُننه ، وابن عساكر في تاريخه .

( عن الشعبي قال : تنازع في جداد نخل أُبيّ بن كعب وعمر بن الخطّاب ، فبكي أُبيّ ثمّ قال : أَفي سلطانك يا عمر ؟ ! فقال عمر : اجعل بيني وبينك رجلاً من المسلمين ، قال أُبيّ : زيد ، قال : رضيت .

فانطلقا حتّى دخلا على زيد ، فلمّا رأى زيدٌ عمر تنحّى عن فراشه ، فقال عمر : في بيته يؤتى الحكَم فعرف زيد أنّهما جاءا ليتحاكما إليه ، فقال لأُبيّ : تقصُّ ، فقصّ ، فقال له عمر : تذكّر لعلّك نسيت شيئاً ، فتذكّر ثمّ قصّ ، حتّى قال : ما أذكر شيئاً فقصّ عمر ، قال زيد : بيِّنَتك يا أُبيّ ، فقال : مالي بيّنة ، قال : فاعف [عن] أمير المؤمنين من اليمين ، فقال عمر : لا تعف أمير المؤمنين

ـــــــــــــــــــ

(١) كنز العمّال ٥ : ٨٠٨/ ١٤٤٤٥ .

٥١

عن اليمين إنْ رأيتها عليه كر ) (١) .

أقول :

لم يشأ الرواة أنْ ينقلوا الواقعة على ما وقعت عليه كاملةً ، وحاولوا التكتّم على بعض جزئيّاتها المهمّة.. لكنّ الباحث المحقّق قد يعثر على طرفٍ من ذلك في سائر الكتب :

قال الراغب في( المحاضرات ) :

( وكان زيد بن ثابت يقضي لعُمَر بالمدينة ، وتقدَّم إليه عمر مع أُبَيّ في جداد تنازعاه ، فخرج إليهما فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، هاهنا هاهنا ثمّ توجّهت اليمين على عمر ، فقال زيد لأُبيّ : اُعف أمير المؤمنين من اليمين .

فقال له عمر : ما زلت جائراً مُنذ اليوم ! السلام عليك يا أمير المؤمنين ، وهاهنا هاهنا ، واعف أمير المؤمنين !! )(٢) .

ففي هذه الرواية : ( فقال عمر: ما زلت جائراً مُنذ اليوم ) ، وهذه الجملة ممّا تكتَّم عليه القوم...

أ حاديث في ذمّ القاضي الجائر

فكان ( زيد بن ثابت ) قاضياً بالمدينة ، وكان ( جائراً ) كما ذكر عمر ، والأحاديث في ذمِّ القاضي الجائر مستفيضة في كُتب المسلمين :

روى الحافظ المنذري في ( الترغيب والترهيب ) عن أبي سعيد الخدريرضي‌الله‌عنه :

ـــــــــــــــــــ

(١) كنز العمّال ٥ : ٨٣٩/ ١٤٥٢٥ .

(٢) المحاضرات للراغب الأصفهاني ١ : ١٩٤ وجِدادُ النَّحْل : صِرامُه ، وقد جَدَّه يَجُدُّه كتاب العين ٦ : ١٠ ( جد ) .

٥٢

 ( قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أحبّ الناس إلى الله يوم القيامة ، وأدناهم منه مجلساً إمامٌ عادل ، وأبغض الناس إلى الله تعالى ، وأبعدهم منه مجلساً إمامٌ جائر رواه الترمذي والطبراني في الأوسط مختصراً ، إلاّ أنّه قال : أشدّ النّاس عذاباً يوم القيامة إمامٌ جائر وقال الترمذي : حديثٌ حسنٌ غريب .

وعن عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( أفضل النّاس عند الله منزلةً يوم القيامة ، إمامٌ عدلٌ رفيق ، وشرّ عباد الله عند الله منزلةً يوم القيامة ، إمامٌ جائرٌ خِرق ) رواه الطبراني في الأوسط ، من رواية ابن لهيعة ، وحديثه حسن في المتابعات .

عن عبد الله بن مسعودرضي‌الله‌عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّ أشدّ أهل النّار عذاباً يوم القيامة ، مَن قَتل نبيّاً أو قتله نبيّ ، وإمامٌ جائر ) رواه الطبراني ، ورواته ثقات ، إلاّ ليث بن أبي سليم ، وفي الصحيح بعضه ، ورواه البزّار بإسنادٍ جيّد إلاّ أنّه قال : وإمام ضلالة .

وعن أبي هريرةرضي‌الله‌عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أربعة يبغضهم الله : البيّاع الحلاّف ، والفتى المختال ، والشيخ الزاني ، والإمامُ الجائر ) . رواه النسائي وابن حبّان في صحيحه ، وهو في مسلم بنحوه إلاّ أنّه قال : وملِكٌ كذّاب وعائلٌ مستكبر .

وروي عن أبي هريرةرضي‌الله‌عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( ثلاثة لا يَقبل الله لهم شهادة أنْ لا إله إلاّ الله ) ، فذكر منهم : الإمامُ الجائر رواه الطبراني في الأوسط .

وعن ابن عمررضي‌الله‌عنه ما عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( السلطان ظلّ الله في الأرض ، يأوي إليه كلُّ ظلوم من عباده ، فإنْ عدَل كان له الأجر ، وكان على الرعيّة الشكر ، وإنْ جار أو حَافَ أو ظلَم كان عليه الوزر ، وعلى الرعيّة الصبر ، وإذا جارت الولاة قحطت السّماء ، وإذا مُنعت الزكاة هلكت المواشي ، وإذا ظَهَرَ الزنا ظهر الفقر والمسكنة ، وإذا أخفرت الذمّة أُديل الكفّار ) ، أو كلمة نحوها .

عن أبي هريرةرضي‌الله‌عنه ، أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( مَن طلَب قضاء المسلمين حتّى يناله ثمّ غلَب عدلُه جورَه ، فله الجنّة [وإنْ غلََب جورُه عدلَه فله النّار] ) . رواه أبو داود .

٥٣

وعن ابن بريدة ، عن أبيهرضي‌الله‌عنه ما : أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( القضاة ثلاثة ، قاضيان في النّار وقاضٍ في الجنّة : رجلٌ قضى بغير الحقّ يعلم بذلك فذلك في النّار ، وقاضٍ لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النّار ، وقاضٍ قضى بالحق فذلك في الجنّة ) . رواه أبو داود ـ وتقدّم لفظه ـ وابن ماجة والترمذي واللفظ له ، وقال : حديثٌ حسن غريب .

وعن ابن أبي أوفىرضي‌الله‌عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّ الله مع القاضي ما لم يجر ، فإذا جار تخلّى عنه ولزِمه الشيطان ) . رواه الترمذي وابن ماجة وابن حبّان في صحيحه ، والحاكم إلاّ أنّه قال : فإذا جار تبرّأ الله منه رووه كلّهم مِن حديث عمران القطّان [وقال الترمذي حديث حسن غريب لا نعرفه إلاّ من حديث عمران القطّان] وقال الحاكم : صحيح الإسناد قال الحافظ : وعمران يأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى )(١) .

ـــــــــــــــــــ

(١) الترغيب والترهيب ٣ : ١٦٧ ـ ١٧٢/ ٧ و٨ و١٠ و١١ و١٣ و١٤ و١٩ و٢٠ و٢١ .

٥٤

إنّه زاد في القرآن ونقص منه

وهذا ممّا ذكر عمر بن الخطّاب مخاطباً به زيد بن ثابت ، وأخرجه القوم في كُتب الحديث :

( عن زيد بن ثابت : إنّ عمر بن الخطّاب استأذن عليه يوماً ، فأذن له ورأسه في يد جاريةٍ له ترجّله ، فنزع رأسه ، فقال له عمر : دعها ترجّلك ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، لو أرسلت إليّ جئتك فقال عمر : ليس هو بوحي حتّى نزيد فيه أو ننقص ، إنّما هو شيءٌ نراه ، فإنْ رأيته ووافقتني تبعته ، وإلاّ لم يكن عليك فيه شيء فأبى زيد ، فخرج عمر مغضباً )(١) .

فصريح هذا الكلام أنّ زيد بن ثابت زادَ في القرآن ونقّص منه ، وقد ذكر القاضي عياض في ( الشفاء ) ما نصّه :

( قد أجمع المسلمون على أنّ القرآن المتلوّ في جميع أقطار الأرض ، المكتوب في المصحف بأيدي المسلمين ، ممّا جمعه الدفّتان ، من أوّل( الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) إلى آخر( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ) : أنّه كلام الله ووحيه المُنزل على نبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ جميع ما فيه حق ، وأنّ من نقص منه حرفاً قاصداً لذلك أو بدّله بحرفٍ آخر مكانه ، أو زاد فيه حرفاً ممّا لم يشتمل عليه المصحف الذي وقع الإجماع عليه ، وأجمع على أنّه ليس من القرآن ، عامداً لكلّ هذا ، إنّه كافر )(٢) .

ـــــــــــــــــــ

(١) كنزل العمّال ١١ : ٦٣/ ٣٠٦٣١ .

(٢) الشفا بتعريف حقوق المصطفى ٢ : ٦٤٧

٥٥

ردّه عمر بن الخطّاب في آيةٍ مع قبوله خزيمة في أُخرى

وكما كان عمر لا يعتمد على زيد ويتكلّم فيه ، كذلك زيد لم يعتمد على عمر وردّه لمّا كان يجمع القرآن ، حيث جاء عمر بآيةٍ ليكتبها فلم يقبل منه ، مع أنّه قبل خزيمة بن ثابت في آيةٍ أُخرى وكتبها ، هذا ، وعمر أفضل ـ عندهم ـ من خزيمة مئة مرّة ، ومع أنّهم يقولون بأنّ خبر مثل عمر بن الخطّاب بوحده مفيدٌ لليقين ، كما ذكر عبد العزيز الدهلوي ، وقد ذكر القصّة الحافظ جلال الدين السيوطي حيث قال :

( قد أخرج ابن أشتة في المصاحف عن الليث بن سعد قال : أوّل مَن جمع القرآن أبو بكر ، وكتبه زيد ، وكان الناس يأتون زيد بن ثابت ، فكان له يكتب آيةً بشاهدي عدل ، وإنّ آخِر سورة براءة لم يوجد إلاّ مع خزيمة بن ثابت فقال : اُكتبوها ، فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل شهادته بشهادة رجلين ، فكتب وإنّ عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها ؛ لأنّه كان وحده ).

فكيف قبل شهادة خزيمة ولم يقبل شهادة عمر ؟

وإذا كان خبر عمر مفيداً لليقين ، فالقرآن ناقص .

٥٦

أبو موسى الأشعري

وأمّا أبو موسى الأشعري ، فهذا طرف من حالاته وأخباره المُسقطة له عن الاعتبار والاعتماد .

انحرافه عن أمير المؤمنين

لقد كان أبو موسى الأشعري من المنحرفين عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهذا من الأُمور الثابتة ، وقد ذكر بترجمته من الكتب المعروفة :

قال ابن عبد البرّ:

( ولم يزل على البصرة إلى صدرٍ من خلافة عثمان ، ثمّ لمّا دفع أهلُ الكوفة سعيد بن العاص ولّوا أبا موسى ، وكتبوا إلى عثمان يسألونه أنْ يولّيه ، فأقرّه ، فلم يزل على الكوفة حتّى قُتل عثمان ، ثمّ كان منه بصفّين وفي التحكيم ما كان ، وكان منحرفاً عن عليّ ؛ لأنّه عزله ولم يستعمله ، وغلبه أهل اليمين في إرساله في التحكيم )(١) .

ترجمة ابن عبد البر

وابن عبد البر ، المتوفّى سنة ٤٦٣ ، من أكابر الحفّاظ المعتمدين ، وتراجمه في كتب القدماء والمتأخّرين تُنبئ عن جلالة شأنه وعظَمة قدره بين العلماء المشهورين :

ـــــــــــــــــــ

(١) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ٤ : ١٧٦٣ ـ ١٧٦٤/ ٣١٩٣ .

٥٧

ترجم له ابن خلّكان ووصفه بـ ( إمام عصره في الحديث والأثر وما يتعلّق بهما ) ثمّ أورد عن أبي الوليد الباجي : ( لم يكن بالأندلس مثل أبي عمر ابن عبد البر في الحديث ) ، وأنّه ( أحفظ أهل المغرب ) ، وعن أبي عليّ الغسّاني ( ابن عبد البر شيخنا... برع براعةً فاق فيها مَن تقدّمه من رجال الأندلس ) ثمّ ذكر بعض تواليفه وعن ابن حزم : ( لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله ، فكيف أحسن منه... ) ؟ (١) .

وقال الذهبي بترجمته ما ملخّصه :

( ابن عبد البر ، الإمام العلاّمة  حافظ المغرب ، شيخ الإسلام ، أبو عمر يوسف بن عبد الله ، صاحب التصانيف الفائقة ، طلب العلم وأدرَك الكبار وطال عمره وعلا سنده ، وتكاثر عليه الطلبة ، فكان فقيهاً عابداً مجتهداً .

قال الحميري : أبو عمر فقيهٌ حافظٌ مكثر... وقال أبو علي الغسّاني :

قلت : كان إماماً ديّناً ، ثقة ، متقناً ، علاّمة ، مُتبحّراً ، صاحب سنّةٍ واتّباع ، ممّن بلغ رتبة الأئمّة المجتهدين .

قال أبو القاسم ابن بشكوال : ابن عبد البر إمام عصره وواحد دهره ، يكنّى أبا عمر .

قال أبو علي ابن سكّرة : سمعت أبا الوليد الباجي يقول... )(٢) .

كلام حذيفة بن اليمان في أبي موسى لانحرافه

وذكر ابن عبد البرّ بترجمة أبي موسى في موضع آخر من كتابه :

ـــــــــــــــــــ

(١) وفيات الأعيان ٧ : ٦٦ ـ ٦٧/ ٨٣٧ .

(٢) سيرة أعلام النبلاء ١٨ : ١٥٣/ ٨٥ .

٥٨

 ( ولاّه عمر البصرة في حين عزَل المغيرة عنها [فلم يزل عليها] إلى صدرٍ من خلافة عثمان ، فعزله عثمان عنها وولاّها عبد الله بن عامر بن كريز ، فنزل أبو موسى حينئذٍ الكوفة وسكنها ، فلمّا دفع أهل الكوفة سعيد بن العاص ولّوا أبا موسى ، وكتبوا إلى عثمان يسألونه أنْ يولّيه ، فأقرّه عثمان على الكوفة ، إلى أنْ مات ، وعزَله عليّ رضي الله عنها ، فلم يزل واجداً على عليّ حتّى جاء منه ما قال حذيفة ، فقد رُوي فيه لحذيفة كلام كرهت ذكره ، والله يغفر له ثمّ كان من أمره يوم الحكَمَين ما كان ) (١) .

إذنْ ، فقد كان أبو موسى ( منحرفاً ) عن عليّ... و( لم يزل واجداً ) على الإمامعليه‌السلام ... لكنْ ما هو كلام حذيفة فيه الذي ( كره ) ابن عبد البر ذكره ؟ ! وحذيفة صاحب سرّ رسول الله ، وهو الذي كان يعرف المنافقين من الصّحابة ، لاسيّما الذين أرادوا اغتيال النبيّ في العقبة...

عليّ باب حطّة من خرج منه كان كافراً

وفي الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال :( عليٌّ بابُ حطّة ، من دخل منه كان مؤمناً ، ومن خرج منه كان كافراً ) أخرجه الدارقطني عن ابن عبّاس ، وعنه ابن حجَر المكّي في ( الصواعق ) والسيوطي في ( الجامع الصغير )(٢) .

وكذا أخرجه الديلمي عن ابن عمر(٣) .

ـــــــــــــــــــ

(١) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ٣ : ٩٨٠/ ١٦٣٩ .

(٢) الصواعق المحرقة ٢ : ٣٦٥ ـ ٣٦٦ ، الجامع الصغير ٢ : ١٧٧/ ٥٥٩٢ .

(٣) فردوس الأخبار ٣ : ٩٠/ ٣٩٩٨ .

٥٩

كتم كلام حذيفة في أبي موسى

ثمّ إنّ عبد البر كَرِه أنْ يذكر كلام حذيفة بن اليمان في أبي موسى الأشعري ، تستّراً عليه ، إلاّ أنّ ما صرَّح به مِن كونه ( منحرفاً عن عليّ ) وأنّه ( لم يزل واجداً ) على الإمامعليه‌السلام يكفي للتوصّل إلى كلام حذيفة ، فإنّ الباحث اللبيب والمحقّق الخبير يفهم ـ من تلك القرائن ، وبالنظر إلى كون حذيفة عارفا ًبالمنافقين ، وأنّ كلامه مقبولٌ في التعريف بهم ـ أنّ كلام حذيفة ليس إلاّ الإعلان عن كون أبي موسى من المنافقين... وهذا ما كرِه ابن عبد البر التصريح به مخالفةً منه لقوله تعالى :( وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) .

مع أنّ كتابه ( الاستيعاب ) مشتملٌ على فضائح كثير من الأصحاب ، وتكلّم بعضهم في البعض الآخر ، والإفصاح عن مثالبه :

كروايته خطبة عبد الله بن بديل في ذمّ معاوية وهجوه وتضليله...(١)

وكروايته خطبة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وفيها التصريح بأنّ عائشة ، وطلحة ، والزبير ، هم الذين ألّبوا على عثمان وقتلوه..(٢)

وكروايته أنّ معاوية هو الذي دسّ السمّ إلى الإمام الحسن السبطعليه‌السلام (٣) .

وكروايته قتْل معاوية حِجْر بن عدي...(٤) .

إلى غير ذلك من مخازي الصحابة التي تظهر لمَن تتبّع كتاب ( الاستيعاب ) .

ـــــــــــــــــــ

(١) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ٣ : ٨٧٣/ ١٤٨١ .

(٢) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ـ ترجمة طلحة ـ ٢ : ٧٦٧/ ١٢٨٠ .

(٣) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ١ : ٣٨٩/ ٥٥٥ .

(٤) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ١ : ٣٢٩/ ٤٨٧ .

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456