استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

استخراج المرام من استقصاء الإفحام13%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 456

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 456 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 227559 / تحميل: 8344
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وإذا كان ابن عبد البر يروي تلك الأخبار ويكره رواية كلام حذيفة في أبي موسى الأشعري ؛ فلابدّ وأنّ كلامه فيه أعظم من تلك الكلمات ، التي رواها بتراجم الصحابة عن بعضهم في البعض الآخر...

هذا كلّه ، وقد اشتهر الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كُتب الفريقين ، في أنّ( بُغضُ عليٍّ نفاق ) ، وعن غير واحدٍ من صحابته :( ما كنّا نعرف المنافقين إلاّ ببغضهم عليّ بن أبي طالب ) وقد رواه ابن عبد البر أيضاً بترجمة الإمامعليه‌السلام وبعد ثبوت انحراف أبي موسى عنه وبغضه له ، لم يبقَ أيّ ريبٍ وشك في كون أبي موسى من المنافقين... ولا تبقى حاجة إلى ذكر الشواهد على ذلك من كتب الحديث والتاريخ .

وإذا كان ابن عبد البر يكره رواية الخبر ، فقد رواه غير واحدٍ من الأعلام ، منهم ابن عساكر في ( تاريخه )(١) بإسناده عن الأعمش عن شقيق قال : ( كنا مع حذيفة جلوساً ، فدخل عبد الله وأبو موسى المسجد ، فقال أحدهما : منافق ثم قال : إنّ أشبه الناس هدياً ودلاًّ وسمتاً برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبد الله ) .

من مشاهد انحراف أبي موسى عن عليّ

ومع ذلك نتعرّض لبعض الأخبار الشاهدة بانحراف الرجل عن أمير المؤمنين ( عليه الصلاة والسلام ) .

قال الحافظ ابن حجر في ( فتح الباري ) .

( قوله : بعث عليّ عمّار بن ياسر وحسن بن عليّ فقدما علينا الكوفة ، ذكر عمر بن شبة والطبري سبب ذلك بسندهما إلى ابن أبي ليلى قال : كان عليّ

ـــــــــــــــــــ

(١) تاريخ دمشق ٣٢ : ٩٣ ترجمة عبد الله بن قيس وهو أبو موسى الأشعري .

٦١

أقرّ أبا موسى على إمرة الكوفة ، فلمّا خرج من المدينة أرسل هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص إليه أنْ أنهض من قبلك من المسلمين ، وكن من أعواني إلى الحق ، فاستشار أبو موسى السائب بن مالك الأشعري فقال : اتّبع ما أمرك به .

قال : إنّي لا أرى ذلك ، وأخذ في تخذيل الناس عن النهوض ، فكتب هاشم إلى عليّ بذلك وبعث بكتابه مع حجل بن خليفة الطائي ، فبعث عليٌّ عمّار بن ياسر والحسن بن عليّ يستفزّان النّاس ، وأمّر قرظة بن كعب على الكوفة )(١) .

وقال ابن قتيبة في ( الإمامة والسياسة ) :

( وذكروا أنّ عليّاً لمّا نزل قريباً من الكوفة ، بعث عمّار بن ياسر ومحمّد ابن أبي بكر إلى أبي موسى الأشعري ، وكان أبو موسى عاملاً لعثمان على الكوفة ، فبعثهما عليٌّ إليه وإلى أهل الكوفة يستفزّهم ، فلمّا قدِما عليه ، قام عمّار بن ياسر ومحمّد بن أبي بكر فدعوا ألنّاس إلى النصرة لعليّ ، فلمّا أمسَوا ، دخل رجال من أهل الكوفة على أبي موسى فقالوا : ما ترى ؟ أنخرج مع هذين الرجلين إلى صاحبهما أم لا ؟ فقال أبو موسى : أمّا سبيل الآخرة ففي أنْ تلزموا بيوتكم ، وأمّا سبيل الدّنيا وسبيل النار ، فالخروج مع مَن أتاكم ، فأطاعوه ، فتبطّأ النّاس على عليّ ، وبلغ عمّاراً ومحمّداً ما أشار به أبو موسى على أولئك الرهط ، فأتياه فأغلظا له في القول ، فقال أبو موسى : والله إنّ بيعة عثمان في عنقي وعنق صاحبكما ، ولئن أرادنا للقتال مالنا إلى قتال أحدٍ من سبيل حتّى نفرغ من قَتَلَة عثمان .

ثمّ خرج أبو موسى وصعد المنبر ثمّ قال : أيّها النّاس ! إنّ أصحاب رسول الله الذين صحبوه في المواطن أعلم بالله وبرسوله ممّن لم يصحبه ، وإنّ لكم حقّاً عَلَيّ أُؤدّيه إليكم ، إنّ هذه الفتنة النائم فيها خيرٌ من اليقظان ، والقاعد

ـــــــــــــــــــ

(١) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ١٣ : ٤٨ .

٦٢

خيرٌ من القائم ، والقائم فيها خيرٌ من الساعي ، والسّاعي خيرٌ من الراكب ، فاغمدوا سيوفكم حتّى تنجلي هذه الفتنة ) (١) .

وأخرج البخاري :

( حدّثنا بدل المُحبَّر قال : حدّثنا شعبة قال : أخبرني عمرو قال : سمعت أبا وائل يقول : دخل أبو موسى وأبو مسعود على عمّار ـ حيث بعثه عليّ إلى أهل الكوفة يستنفرهم ـ فقالا : ما رأيناك أتيتَ أمراً أكره عندنا من إسراعك في هذا الأمر منذ أسلمت فقال عمّار : ما رأيت منكما منذ أسلمتما أمراً أكره عندي من إبطائكم عن هذا الأمر ، وكساهما حلّةً حلّة ، ثمّ راحوا إلى المسجد .

حدّثنا عبدان ، عن أبي حمزة ، عن الأعمش ، عن شقيق بن سلمة : كنت جالساً مع أبي مسعود وأبي موسى وعمّار ، فقال أبو مسعود : ما من أصحابك أحدٌ إلاّ لو شئت لقلت فيه ، غيرك ، وما رأيت منك شيئاً منذ صَحِبْتَ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعيَب عندي من استسراعك في هذا الأمر قال عمّار : يا أبا مسعود ، وما رأيت منك ولا من صاحبك هذا شيئاً ، منذ صحبتما النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعيَب عندي من إبطائكما في هذا الأمر فقال أبو مسعود وكان موسراً ـ : يا غلام ! هات حلّتين ، فأعطى إحداهما أبا موسى والأُخرى عمّاراً وقال : روحا فيه إلى الجمعة )(٢) .

وقال الحاكم :

( أخبَرنا عبد الرحمان بن الحسن القاضي بهَمَدان ، حدّثنا إبراهيم بن الحسين ، حدّثنا آدم بن أبي أيَاس ، حدّثنا شعبة ، عن عمرو بن مرّة ، عن أبي

ـــــــــــــــــــ

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٦٥ ـ ٦٦ .

(٢) صحيح البخاري ٩ : ٧٠ ـ ٧١ كتاب الفتن .

٦٣

وائل قال : دخل أبو موسى الأشعري وأبو مسعود البدري على عمّار وهو يستنفر النّاس ، فقالا له : ما رأينا منك أمراً منذ أسلمت أكره عندنا مِن إسراعك في هذا الأمر فقال عمّار : ما رأيت منكما منذ أسلمتما أمراً أكره عندي من إبطائكما عن هذا الأمر ) (١) .

وأخرج أيضاً :

( عن الشعبي قال : لمّا قتل عثمان وبُويع لعليّرضي‌الله‌عنه ما ، خطب أبو موسى وهو على الكوفة ، فنهى النّاس عن القتال والدخول في الفتنة ، فعزله عليٌّ عن الكوفة من ذي قار ، وبعث إليه عمّار بن ياسر والحسن بن عليّ فعزلاه )(٢) .

وفيما فعل أبو موسى من الوقاحة والتجاسر والافتراء والكذب ، ما لا يخفى ، ولا بأس لتوضيح شناعة موقفه بأنْ نقول :

أوّلاً : ذكر المسعودي ـ وعنه سبط ابن الجوزي ـ أنّه لمّا خذّل أبو موسى الناس ، كتب الإمامعليه‌السلام إليه :

( انعزِل عن هذا الأمر مذموماً مدحوراً ، فإنْ لم تفعل ، فقد أمرت من يقطّعك إرباً إرباً ، يا ابن الحائك ، ما هذا أوّل هناتك ، وإنّ لك لهنات وهنات .

ثمّ بعث عليٌّ الحسن وعمّاراً إلى الكوفة ، فالتقاهما أبو موسى ، فقال له الحسن : لم ثبّطت القوم عنّا ؟ فو الله ما أردنا إلاّ الإصلاح فقال : صدقت ، ولكنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :( ستكون فتنة ، يكون القاعد فيها خيراً من القائم ، والماشي خيراً من الراكب ) فغضب عمّار

ـــــــــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١١٧ .

(٢) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١١٧ .

٦٤

وسبّه ) (١) .

فلقد وصفه الإمامعليه‌السلام بوصف أهل النّار ، قال تعالى :( مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً ) (٢) وقال :( لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً ) (٣) .

وقال :( ...وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً ) (٤) .

قال في ( تفسير الجلالين ) : ( [مذموماً] ملوماً [مدحوراً] مطروداً عن الرحمة )(٥) .

وفي كتاب ( النهاية في غريب الحديث ) : ( في حديث عرفة : ما مِن يوم إبليس فيه أدحر ولا أدحق منه في يوم عرفة ، الدحر: الدفع بعنف على سبيل الإهانة والإذلال ، والدحق : الطّرد والإبعاد )(٦) .

وفيه :

( وأصل اللّعن : الطرد والإبعاد من الله )(٧) .

وقال الفخر الرازي بتفسير الآية :( مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةََ.. ) :

( قال القفّال رحمه الله : هذه الآية داخلة في معنى قوله :( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ... ) ومعناه : أنّ الكمال في الدّنيا قسمان ، فمنهم من يريد

ـــــــــــــــــــ

(١) مروج الذهب ٣ : ١٠٤/ ١٦٣٠ ( بنحوه ) تذكرة خواص الأُمّة : ٧٠ .

(٢) سورة الإسراء ١٧ : ١٨ .

(٣) سورة الإسراء ١٧ : ٢٢ .

(٤) سورة الإسراء ١٧ : ٣٩ .

(٥) تفسير الجلالين ط ذيل تفسير البيضاوي ١ : ٥٨١ .

(٦) النهاية في غريب الحديث والأثر ٢ : ١٠٣ ( دحر ) .

(٧) النهاية في غريب الحديث والأثر ٤ : ٢٥٥

٦٥

بالذي يعمله الدنيا ومنافعها والرياسة فيها ، فهذا يأنف من الانقياد للأنبياء ( عليهم الصلاة والسلام ) ، والدخول في طاعتهم والإجابة لدعوتهم ، إشفاقاً من زوال الرياسة عنه ، فهذا قد جعل طائر نفسه شؤماً ؛ لأنّه في قبضة الله تعالى ، فيُؤتيه الله في الدنيا منها قدَراً لا كما يشاء ذلك الإنسان ، بل كما يشاء الله ، إلاّ أنّ عاقبته جهنّم يُدخله فيها فيصلاها مذموماً ملوماً مدحوراً منفيّاً مطروداً من رحمة الله تعالى .

وفي لفظ هذه الآية فوائد :

الفائدة الأُولى : إنّ العقاب عبارة عن مضرّة مقرونة بالإهانة والذمّ ، بشرط أنْ تكون دائمة وخالية عن شوب المنفعة فقوله :( ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا.. ) إشارة إلى المضرّة العظيمة ، وقوله :( مَذْمُوماً ) إشارة غلى الإهانة والذم ، وقوله :( مَّدْحُوراً ) إشارة إلى البُعد والطرد عن رحمة الله ، وهي تفيد كون تلك المضرّة خالية عن شوب النفع والرحمة ، وتفيد كونها دائمة وخالية عن التبدّل بالراحة والخلاص )(١) .

وقال أبو البركات النسفي بتفسيرها :

( مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء... ) لا ما يشاء( لِمَن نُّرِيدُ ) بدل من له بإعادة الجار ، وهو بدل البعض من الكلّ ، إذ الضمير يرجع إلى من ، أي من كانت العاجل همّه ولم يرد غيرها كالكفرة ، تفضّلنا عليه من منافعها بما نشاء لمن نريد ، فقيّد المعجّل بمشيّته والمعجّل له بإرادته ، وهكذا الحال ، ترى كثيراً من هؤلاء يتمنّون ما يتمنّون ولا يعطون إلاّ بعضاً منه ، وكثيراً منهم يتمنّون ذلك البعض وقد حرموه ، فاجتمع عليهم فقر الدّنيا وفقر الآخرة ، وأمّا

ـــــــــــــــــــ

(١) تفسير الرازي ٢٠ : ١٧٨ .

٦٦

المؤمن التقي ، فقد اختار غنى الآخرة ، فإنّ أُوتي حظّاً من الدنيا فبها ، وإلاّ فربّما كان الفقر خيراً له ( ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ ) في الآخرة ( يَصْلاهَا ) يدخلها ( مَذْمُوماً ) ممقوتاً ( مَّدْحُوراً ) (١) .

وقال البغوي :

( وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ ) خاطب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الآيات ، والمراد منه الأُمّة( فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً ) مطروداً مُبعَداً من كلّ خير )(٢) .

( ثمّ إنّه تعالى ذكر في الآية الأُولى : أنّ الشرك يُوجب أنْ يكون صاحبُه مذموماً مخذولاً ، وذكر في الآية الأخيرة : أنّ الشرك يُوجب أنْ يُلقى صاحبه في جهنّم ملوماً مدحوراً ، فاللّوم والخذلان يحصل في الدنيا ، وإلقاؤه في جهنّم يحصل يوم القيامة .

ويجب علينا أنْ نذكر الفرق بين المذموم والمخذول ، وبين الملوم المدحور فنقول : أمّا الفرق بين المذموم وبين الملوم ، فهو أنّ كونه مذموماً معناه أنْ يُذكر له أنّ الفعل الذي أقدم عليه قبيحٌ ومنكر، فهذا معنى كونه مذموماً ، وإذا ذُكر له ذلك فبعد ذلك يقال له : لمَ فعلت مثل هذا الفعل ؟ وما الذي حملك عليه ؟ وما استفدت من هذا العمل إلاّ إلحاق الضرر بنفسك ، وهذا هو اللّوم ، فثبت أنّ أوّل الأمر هو أنْ يصير مذموماً ، وآخره أنْ يصير

ـــــــــــــــــــ

(١) تفسير النسفي = مدارك التنزيل ١ : ٧٠٩ .

(٢) تفسير البغوي = معالم التنزيل ٣ : ٤٩٧

٦٧

ملوماً ، وأمّا الفرق بين المخذول وبين المدحور ، فهو أنّ المخذول عبارة عن الضعيف ، يُقال : تخاذلت أعضاؤه أي ضَعُفت ، وأمّا المدحور فهو المطرود ، والطرد عبارة عن الاستخفاف والإهانة ، قال تعالى : ( وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً ) ، فكونه مخذولاً عبارة عن ترك إعانته وتفويضه إلى نفسه ، وكونه مدحوراً عبارة عن إهانته والاستخفاف به ) (١) .

وأيضاً : فقد ورد أنّ الإمامعليه‌السلام قال عن أبي موسى :( هو عندي غير مأمون ، وقد هرب منّي ) قال سبط ابن الجوزي في خبَر قضيّة التحيكم :

( ولمّا فعل معاوية ما فعل قال : نبعث حكماً نرتضي به ، وابعثوا أنتم حكماً ترضون به ، فاختار أهل الشام عمرو بن العاص، وأختار أهل العراق أبا موسى الأشعري ، فقال عليّعليه‌السلام :( لا أرضى به ، وهو عندي غير مأمون ، وقد هرب منّي ، وخذّل النّاس عنّي ، ولكنْ هذا ابن عبّاس ) (٢) .

وكما تكلّم الإمامعليه‌السلام في أبي موسى بما تقدّم ونحوه ، كذلك تكلّم في سعد بن أبي وقّاص ، لتخلّفه عنه وتركه نصرته ، قال الحاكم :

( وأمّا ما ذكر من اعتزال سعد بن أبي وقّاص عن القتال ، فحدّثَناه أبو زكريّا يحيى بن محمّد العنبري ، ثنا إبراهيم بن أبي طالب ، ثنا عليّ بن المنذر ، ثنا ابن فُضيل ، ثنا مسلم الملائي ، عن خيثمة بن عبد الرحمان قال : سمِعت سعد بن مالك ، وقال له رجل : إنّ عليّاً يقع فيك إنّك تخلَّفت عنه ، فقال سعد : والله إنّه لرأيٌ رأيته وأخطأ رأيي ، إنّ عليّ بن أبي طالب أُعطي ثلاثاً ، لأنْ أكون أُعطيت إحداهنّ أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها :

ـــــــــــــــــــ

(١) تفسير الرازي ٢٠ : ٢١٤.

(٢) تذكرة خواص الأُمّة : ٩٣.

٦٨

لقد قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم غدير خم بعد حمد الله والثناء عليه : ( هل تعلمون أنّي أولى بالمؤمنين ) ؟ قلنا : نعم قال : ( اللّهمّ من كنت مولاه فعليّ مولاه ، والِ من والاه وعادِ من عاداه ) .

وجيء به يوم خير وهو أرمد ما يُبصر ، فقال :( يا رسول الله ، إنّي أرمد ) ، فتفل في عينيه ودعا له ، فلم يرمد حتّى قُتل ، وفتح عليه خيبر .

وأخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمّه العبّاس وغيره من المسجد ، فقال له العبّاس : تُخرجنا ونحن عصبتك وعمومتك وتُسكن عليّاً ؟ ! فقال :( ما أنا أخرجتكم وأسكنته ، ولكنّ الله أخرجكم وأسكنه ) (١) .

ثانياً : إنّ سبّ عمّار بن ياسر أبا موسى الأشعري دليلٌ آخر على كفر أبي موسى ؛ لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ـ كما في البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة ـ :( سُباب المسلم فسوق ) (٢) ، فلا يجوز سبّ المسلم على الإطلاق ، فكيف بالصّحابي ، فلو كان لأبي موسى حظّ من الإسلام لَما جاز سبّه أصلاً .

ثالثاً : إنّ ترك أبي موسى نصرة الإمامعليه‌السلام وتخذيله الناس عن القتال معه ونصرته ، يُشمله قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ :( اللّهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله ) ، أخرجه الطبراني عن عمرو بن مرّة وزيد بن أرقم وحبشي بن جنادة مرفوعاً بلفظ :( اللهّم مَن كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، اللّهمّ والِ من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر

ـــــــــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ٣: ١١٦ ـ ١١٧ كتاب معرفة الصحابة.

(٢) جامع الاصول ١٠: ٦٧ و٧٦٠/ ٧٥٣٥ و٨٤٣٧.

٦٩

من نصره ، وأعن من أعانه ) (١) .

وأخرجه الحاكم بإسناده عن جابر بن عبد الله يقول : ( سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم [يقول يوم الحديبيّة] ـ وهو آخذٌ بضبع عليّ بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه ـ وهو يقول :( هذا أميرُ البرَرَة ، [و] قاتل الفجَرَة ، منصورٌ من نصَرَه ، [و] مخذولٌ من خذله ) ثمّ مدّ بها صوته هذا حديثٌ صحيح الإسناد ولم يُخرجاه )(٢) .

رابعاً : لقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّي تاركٌ فيكم الثقلين ، ما إنْ تمسّكتم بهما لنْ تضلّوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ) وهو حديث صادر عنه قطعاً وقد اعترف بذلك كبار أهل السنّة من القدماء والمتأخّرين ، وحتّى الدهلوي صاحب ( التحفة الاثني عشريّة ) ، وأضاف أنّ كلّ عقيدةٍ أو عملٍ مخالف للثقلين فهو باطل ، ومن أنكرهما فهو ضالٌّ خارج من الدين ، وهذه ترجمة كلامه في الباب الرابع من كتابه :

( واعلم أنّه قد ثبت باتّفاق الفريقين ، أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( إنّي تاركٌ فيكم الثقلين ، ما إنْ تمسّكتم بهما لنْ تضلّوا بعدي ، أحدهما أعظم مِن الآخر ، كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ) . وقد أفاد أنّ النبيّ قد دلّنا في معالم الدين وأحكام الشرع على هذين الأمرين العظيمين ، فكلّ مذهبٍ خالفهما في الأمور الشرعيّة سُواء في العقيدة أم العمل فهو باطل ولا اعتبار به ، وكلّ مَن أنكرهما

ـــــــــــــــــــ

(١) المعجم الكبير ٤ : ١٧/ ٣٥١٤ ، و٥ : ١٧١/ ٤٩٨٥ .

(٢) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٢٩ كتاب معرفة الصحابة

٧٠

فهو ضالّ وخارج من الدّين ) (١) .

ولا شكّ أنّ أبا موسى الأشعري قد خالف الثقلين ، فكان من الخارجين عن الدين والداخلين في زمرة الضالّين الهالكين .

خامساً : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( مثَل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوحٍ ، مَن ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق ) ، وهو كذلك من الأحاديث الثابتة الصدور عنه عند الفريقين ، وقد قال الدهلوي في ( التحفة ) ، في مقام الردّ على استدلال أصحابنا بهذا الحديث على الإمامة العامّة والولاية المطلقة ـ لأمير المؤمنينعليه‌السلام ـ ما تعريبه :

( إنّ هذا الحديث لا يدلّ إلاّ على إناطة الفلاح والهداية بحبّهم واتّباعهم ، وأنّ التخلّف عن ذلك مُوجبٌ للهلاك )(٢) .

ومن الواضح : أنّ حال أبي موسى الأشعري ، ليس إلاّ التخلّف عن أهل البيت والمخالفة لهم ، فيكون من الضالّين الهالكين .

سادساً : إنّه لم يكن تخلّف أبي موسى عن أهل البيتعليهم‌السلام ، ومخالفته لهم في ترك النصرة وتخذيل النّاس فقط ، بل تكلّم بكلماتٍ كشَف فيها عن نصبه وعناده لأهل البيت ، بما لا يقبل الحمل والتأويل ، فكان من الهالكين والخاسرين ، وقد اعترف بذلك سائر العلماء من أهل السنّة حتّى المتعصّبون منهم...

سابعاً : لقد عصى أبو موسى أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ومن عصاه فقد عصى رسول الله ، ومن عصى رسول الله فقد عصى الله تعالى... وفي ذلك

ـــــــــــــــــــ

(١) التحفة الاثنا عشريّة ، الباب الرابع : ١٣٠.

(٢) التحفة الاثنا عشريّة ، الباب السابع : ٢١٩.

٧١

أحاديث صحيحة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد أخرج الحاكم بإسناده عن أبي ذر رضي‌الله‌عنه قال : ( قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع عليّاً فقد أطاعني، ومن عصى عليّاً فقد عصاني ) قال الحاكم : هذا حديثٌ صحيح الإسناد ولم يُخرجاه ) (١) .

ثامناً : إنّه قد فارق أبو موسى أمير المؤمنينعليه‌السلام بتركه نصرته والتخلّف عنه ، وقد نصّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أنّ من فارَق عليّاً فقد فارق الله ورسوله :

أخرج الحاكم بإسناده عن أبي ذررضي‌الله‌عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ :( من فارقني فقد فارق الله ، ومن فارقك فقد فارقني ) (٢) .

تاسعاً : إنّ من الواضح أنّ أبا موسى قد آذى بأفعاله وأقواله عليّاً أمير المؤمنين ، وهذا ممّا لا يرتاب فيه مُرتاب ولا يشكّ فيه أحدٌ من أُولي الألباب ، وإيذاء عليّ إيذاء رسول الله ، وإيذاؤه يُوجب الدخول في النّار .

أخرج الحاكم بإسناده عن عمرو بن شاس الأسلمي ، قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في حديث ـ :( يا عمرو ، أما والله لقد آذيتني ) .

فقلت : أعوذ بالله أن أُُوذيك يا رسول الله ! قال :( بلى ، من آذى عليّاً فقد آذاني ) قال الحاكم : ( هذا حديثٌ صحيح الإسناد ولم يُخرجاه )(٣) .

ـــــــــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٢١ كتاب معرفة الصحابة .

(٢) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٤٦ كتاب معرفة الصحابة .

(٣) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٢٢ كتاب معرفة الصحابة .

٧٢

العاشر : لقد خالف أبو موسى رسول الله ، وعصى أوامرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقتال مع أمير المؤمنين ، في حروبه مع الناكثين والقاسطين والمارقين :

أخرج الحاكم بإسناده : أنّ أبا أيّوب الأنصاري قال في زمان عمر بن الخطّاب : ( أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّ بن أبي طالب بقتال الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين )(١) .

وأخرج عنه أنّه قال :( سمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لعليّ بن أبي طالب :( تُقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ، بالطرقات ، والنهروانات ، وبالسعفات ) ، قال أبو أيّوب : قلت : يا رسول الله ، مع من نقاتل هؤلاء الأقوام ؟ قال :( مع عليّ بن أبي طالب )) (٢) .

وأخرج البغوي عن ابن مسعود قال : ( خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتى منزل أُمّ سلمة ، فجاء عليّ ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( يا أُمّ سلمة ، هذا ـ والله ـ قاتل القاسطين ، والناكثين والمارقين من بعدي ) (٣) .

وروى المتّقي حديث ابن مسعود المذكور ، عن الحاكم في الأربعين وابن عساكر(٤) .

وروى عن ابن عساكر عن زيد بن عليّ بن الحسين بن علي ، عن أبيه ، عن جدّه عن عليّ قال :( أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتال الناكثين

ـــــــــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٣٩ كتاب معرفة الصحابة .

(٢) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٤٠ كتاب معرفة الصحابة .

(٣) شرح السنّة ١٦٨/ ٢٠٠٩ كتاب قتال أهل البغي الباب ١ .

(٤) كنزل العمّال ١٣ : ١١٠/ ٣٦٣٦١ .

٧٣

والمارقين والقاسطين ) (١) .

وأوضح ابن طلحة الشافعي معنى الحديث ـ بعد أنْ رواه عن البغوي عن ابن مسعود ـ بقوله :

( ذكر في هذا الحديث فِرَقاً ثلاثة ً، صرّح بأنّ عليّاًعليه‌السلام يُقاتلهم من بعده ، وهُم الناكثون ، والقاسطون والمارقون ، وهذه الصفات التي ذكرها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد سمّاهم بها ، مُشيراً إلى أنّ وجود كلّ صفةٍ منها في الفرقة المختصّة بها علّةٌ لقتالهم مسلّطة عليه ، وهؤلاء الناكثون هُم الناقضون عقد بيعتهم الموجِبة عليهم الطاعة والمتابعة لإمامهم الذي بايعوه حقّاً ، فإذا نقضوا ذلك وصدفوا عن طاعة إمامهم ، وخرجوا عن حكمه ، وأخذوا في قتاله بغياً وعناداً ، كانوا ناكثين باغين ، فتعيَّن قتالهم ، كما اعتمده طائفة فمن تابع عليّاًعليه‌السلام وبايعه ثمّ نقض عهده وخرج عليه ـ وهم أصحاب واقعة الجمل ـ فقاتلهم عليّعليه‌السلام ، فهم الناكثون... )(٢) .

حديث خاصف النعل

هذا ، وقد وردت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحاديثٌ كثيرة ـ غير ما ذُكر ـ في كون عليّعليه‌السلام مأموراً بالقتال مع هؤلاء ، ومصيباً في حروبه...

منها :حديث خاصف النعل ... وقد أخرجه من كبار الأئمّة والحفّاظ :

الحاكم في (المستدرك).

ـــــــــــــــــــ

(١) كنز العمّال ١٣ : ١١٢ ـ ١١٣/ ٣٦٣٦٧ .

(٢) مطالب السؤول : ١٠٤ ـ ١٠٥.

٧٤

والنسائي في ( الخصائص ) .

وابن أبي شيبة في ( المصنّف ) .

وأحمد بن حنبل في ( المسند ) .

وأبو يعلى في ( المسند ) .

وابن حبّان في ( الصحيح ) .

وأبو نعيم في ( حلية الأولياء ) .

والضياء المقدسي في ( المختارة ) .

والذهبي في ( المعجم المختص ) .

والمُحب الطبري في ( الرياض النضرة ) و( ذخائر العقبى ) .

وابن مندة في ( كتاب الصحابة ) .

وابن الأثير في ( اُسد الغابة ) .

والزرندي في (نظم درر السمطين).

والبغوي في ( شرح السنّة ) .

والسيوطي في ( جمع الجوامع ) .

والمتقي في ( كنز العمّال ) .

ومحمّد بن معتمد خان البدخشاني في ( مفتاح النجا ) .

وابن طلحة الشافعي في ( مطالب السئول ) .

ولنذكر نصوص رواياتهم مع الاختصار :

أخرج الحاكم :( عن أبي سعيد الخدري قال : كنّا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فانقطعت نعله ، فتخلّف عليّ ، يصلحها ، فمشى قليلاً ثمّ قال :( إنّ منكم من يُقاتل على تأويل القرآن ، كما قاتلتُ على تنزيله ) ، فاستشرف لها القوم ـ وفيهم أبو بكر وعمر ـ قال أبو بكر : أنا هو ؟

قال :( لا ) ، قال عمر : أنا هو ؟ قال :( لا ، ولكن خاصف النعل ) ـ يعني عليّاً ـ فأتينا فبشّرناه ، فلم يرفع به رأسه ، كأنّه قد كان سمعه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٧٥

هذا حديثٌ صحيح على شرط الشيخين ، ولم يُخرجاه) (١) .

وترجم ابن الأثير ( عبد الرحمان بن بشير ) فأسند عنه قال :

( كنّا جلوساً عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ قال :( ليضربنّكم رجلٌ على تأويل القرآن ، كما ضربتكم على تنزيله ) ، فقال أبو بكر : أنا هو ؟ قال :( لا ) , قال عمر : أنا هو ؟ قال :( لا ، ولكن خاصف النعل ) ، وكان عليّ يخصف نعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخرجه الثلاثة) (٢) .

وأخرج النسائي بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال :

( كنّا جلوساً ننتظر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فخرج إلينا وقد انقطع شسع نعله ، فرمى بها إلى عليّ فقال :( إنّ منكم مَن يُقاتل على تأويل القرآن ، كما قاتلت على تنزيله ) ، فقال أبو بكر : أنا ؟ فقال :( لا ) ، فقال عمر : أنا ؟ فقال :( لا ، ولكن خاصف النعل )) (٣) .

وفي ( المسند ) : ( عن أبي سعيد الخدري : كنّا جلوساً في المسجد ، فخرج علينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّ في بيت فاطمة ، فانقطع شسع نعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأعطاه عليّاً يصلحها ، ثمّ جاء فقام علينا فقال... )(٤) .

ـــــــــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٢٣ كتاب معرفة الصحابة .

(٢) اُسد الغابة في معرفة الصحابة ٣ : ٣٢٥/ ٣٢٧١ .

(٣) خصائص علي : ٢١٩/ ١٥٦ .

(٤) مسند أحمد بن حنبل ٣ : ٥٠١/ ١١٣٦٤ بنحوه .

٧٦

وأورد العلاّمة الحلّي هذا الحديث في ( نهج البلاغة ) محتجّاً به ، فقال ابن روزبهان عند الجواب : ( قد صحّ هذا الحديث )(١) .

ورواه الذهبي في ( المعجم المختص ) بترجمة ( عبد الله بن محمّد بن أحمد ابن المطري ) بإسنادٍ فيه جماعة من الأعلام الحفّاظ... ( عن أبي سعيد الخدري قال : خرج علينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونحن في المسجد في نحو سبعين من أصحابه ، كأنّ على رؤوسنا الطير فقال :( إنّ رجلاً منكم يُقاتل الناس على تأويل القرآن ، كما قاتلتهم على تنزيله ) ، فقال أبو بكر : أنا ؟ فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( هو خاصف النعل بالحجرة ) ، فخرج علينا عليّ من الحجرة وفي يده نعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلحها أو يخصفها )(٢) .

وهو في ( كنز العمّال ) عن أبي سعيد باللّفظ المذكور : عن ابن أبي شيبة في المصنّف ، وأحمد في المسند ، وأبي يعلى في المسند ، وابن حبّان في الصحيح ، والحاكم في المستدرك ، وأبي نعيم في الحلية ، والضياء في المختارة(٣) .

وكذلك البدخشي ، رواه عن الجماعة والبغوي في شرح السنّة ، عن أبي سعيد الخدري ، وأضاف : ( وأخرج الحافظ أبو علي سعيد بن عثمان ابن السكن البغدادي في صحاحه ، عن الأخضر الأنصاريرضي‌الله‌عنه ، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أنا أُقاتل على تنزيل القرآن ، وعليّ يُقاتل على تأويله ) (٤) .

دلّ هذا الحديث على أنّ قتال أمير المؤمنينعليه‌السلام على تأويل

ـــــــــــــــــــ

(١) اُنظر : دلائل الصدق لنهج الحق ٢ : ٤٢٩ ـ ٤٣٠/١٧ .

(٢) المعجم المختص : ٩١/١٤٣ .

(٣) كنز العمّال ١٣ : ١٠٧ ـ ١٠٨/ ٣٦٣٥١ .

(٤) مفتاح النجا في مناقب آل العبا مخطوط

٧٧

القرآن بعد حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إنّما يُعدّ من المناقب المختصّة به ، ومن خصائصه الجليلة التي قد تمنّاها أبو بكر وعمر وغيرهما من الصحابة... فكيف يجوز لأبي موسى الأشعري أو غيره أنْ يطعن في قتاله عليه‌السلام ، وحروبه التي خاضعها ضدّ الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين ؟ وكيف يجوز لأحدٍ أنْ يسعى في حطّ مرتبة هذه الفضيلة والشرف العظيم الذي بشّر به رسول الله ؟ وكيف يجوز التعبير عن هذا القتال بأنّه كان للدنيا ؟

هذا ، ولا يخفى أنّ صاحب ( التحفة ) قد روى هذا الحديث ، وأورده في باب الإمامة ، مع إسقاط تمنّي أبي بكر وعمر ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهما : لا (١) !

الحادي عشر : لقد خالف أبو موسى الأشعري النصوص الصريحة الواردة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أنّ الحقّ مع عليّ ، وأنّه لا يفارقه أبداً .

وقد أخرج هذه الأحاديث كبار الأئمّة الحفّاظ بأسانيدهم ، وقد ذكر البدخشي طرفاً منها في كتابه ( مفتاح النجا في مناقب آل العبا ) حيث قال :

( الفصل الثامن عشر ـ في قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الحق معه .

أخرج الترمذي عن عليّ كرّم الله وجهه قال :( قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رحم الله عليّاً ، اللّهمّ أدر الحقّ معه حيث دار ) .

وأخرج أبو يعلى والضياء عن أبي سعيدرضي‌الله‌عنه : أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( الحقّ مع ذا ، الحقّ مع ذا ) ؛ يعني عليّا ً.

وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها ، أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( الحق مع عليّ ، يزول معه حيث ما زال ) .

ـــــــــــــــــــ

(١) التحفة الاثني عشرية : ٢١٩، الباب السابع .

٧٨

وفي رواية أُخرى عنها : عليّ مع الحقّ والحقّ معه .

وأخرج الطبراني في الكبير ، عن كعب بن عجرةرضي‌الله‌عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( يكون بين الناس فُرقةٌ واختلاف ، فيكون هذا وأصحابه على الحق ) ؛ يعني عليّاً .

وأخرج أبو نعيم ، عن أبي ليلى الغفاريرضي‌الله‌عنه ، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( سيكون من بعدي فتنة ، فإذا كان ذلك فالزموا عليّ بن أبي طالب ؛ فإنّه الفاروق بين الحقّ والباطل ) .

وأخرج ابن مردويه ، عن عائشة رضي الله عنها: أنّها لمّا عُقر جملها ودخلت داراً بالبصرة ، فقال لها أخوها محمّد : أُنشدك الله ، أتذكرين يوم حدّثتني عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال :( الحقّ لنْ يزال مع عليّ وعليّ مع الحق ، لنْ يختلفا ولنْ يتفرقا ) ؟ قالت : نعم .

وأخرج عن أبي موسى الأشعريرضي‌الله‌عنه قال : أشهد أنّ الحقّ مع عليّ ، ولكن مالت الدنيا بأهلها ، ولقد سمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول له :( يا عليّ ، أنت مع الحق ، والحق بعدي معك ) .

وأخرج عن أُمّ سلمة رضي الله عنها قالت : كان عليّ على الحق ، من اتّبعه اتّبع الحق ، ومن تركه ترك الحق ، عهداً معهوداً قبل يومه هذا .

وأخرج عن شهر بن حوشب قال : كنت عند أُمّ سلمة رضي الله عنها فسلّم رجل ، فقيل : من أنت ؟ قال : أنا أبو ثابت مولى أبي ذر قالت : مرحباً بأبي ثابت اُدخل ، فدخل ، فرحّبت به وقالت : أين طار قلبك حين طارت القلوب مطائرها ؟ قال : مع عليّ بن أبي طالب قالت : وُفّقت ، والذي نفس أُمّسلمة بيده لسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : ( عليٌّ مع القرآن والقرآن مع عليّ ، لنْ يفترقا حتّى يردا على الحوض ) ، ولقد بعثت ابني عمر وابن أخي عبد الله بن أبي أُميّة ، وأمرتهما أنْ يقاتلا مع عليّ من قاتَلَه ، ولولا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرنا أنْ نقرّ في حجالنا وفي بيوتنا ، لخرجت حتّى أقف في صفّ عليّ .

٧٩

وأخرج عن عليّ كرّم الله وجهه قال :( قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا علي ، إنّ الحق ّمعك ، والحقّ على لسانك ، وفي قلبك وبين عينيك ) .

وأخرج عن عبيد الله بن عبد الله الكندي قال : حجّ معاوية ، فأتى المدينة وأصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متوافرون ، فجلس في حلقةٍ بين عبد الله ابن عبّاس وعبد الله بن عمر ، فضرب بيده على فخذ ابن عبّاس ثمّ قال :

أما كنتُ أحقّ وأولى بالأمر من ابن عمّك ؟

قال ابن عبّاس : وبم ؟

قال : لأنّي ابن عمّ الخليفة المقتول ظلماً .

قال : هذا ـ يعني ابن عمر ـ أولى بالأمر منك ؛ لأنّ أبا هذا قتل قبل ابن عمّك .

قال : فانصاع عن ابن عبّاس وأقبل على سعد ، قال :

وأنت يا سعد ، الذي لم تعرف حقّنا من باطل غيرنا فتكون معنا أو علينا ؟

قال سعد : إنّي لمّا رأيت الظلمة قد غشيت الأرض ، قلت لبعيري هخ ، فأنخته حتّى إذا أسفرت مضيت .

قال : والله لقد قرأت المصحف يوماً بين الدفّتين ما وجدت فيه هخ .

فقال : أمّا إذا أبيت ، فإنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقوللعلي : ( أنت مع الحق والحق معك ) .

قال : لتجيئنّي بمن معك أو لأفعلنّ ؟

قال : أُمّ سلمة .

قال : فقام وقاموا معه ، حتّى دخل على أُمّ سلمة .

قال : فبدأ معاوية فتكلّم فقال : يا أُمّ المؤمنين ، إنّ الكذّابة قد كثُرت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعده ، فلا يزال قائلٌ : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما لم يقُل ، وإنّ سعداً روى حديثاً زعم أنّك سمعته معه .

قالت : ما هو ؟

قال : زعم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليّ :( أنت مع الحق والحق معك ) .

قالت : صدق ، في بيتي قاله .

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

الفصل الرابع

نقد وتمحيص

قد ذكرنا أهمّ ما ورد في كتب أهل السنّة ممّا هو نصّ أو ظاهر في نقص القرآن وتحريفه ثمّ عقبناه بما قاله أكابرهم في توجيهه وتأويله أو ردّه وتزييفه

لقد استمعنا القول من هؤلاء وهؤلاء فأيّهما الأحسن حتى نتّبعه؟

1 - في الآثار في خطأ القرآن

إنّ هذه الآثار تفيد أنّ اؤلئك الأصحاب نسبوا «اللحن» و «الخطأ» و «الغلط» إلى القرآن وهذه جرأة على الله تعالى، وإثبات نقص له ولكتابه، وفي ذلك خروج عن الإسلام بلا كلام.

أمّا ما كان من هذه الآثار في الصحاح فأصحابها والقائلون بصحّة جميع أحاديثها ملزمون بها، فإمّا الإلتزام بما دلّت عليه، وإمّا التأويل اللائق والحمل على بعض الوجوه المحتملة.

٢٤١

وكذا الكلام بالنسبة إلى ما روي من هذا القبيل بأسانيد صحاح عندهم في خارج الصحاح.

دليل الرادّين لهذه الآثار

وأمّا الّذين ردّوا هذه الأحاديث وهم كثيرون جدّاً، فقد اختلفت كلماتهم في كيفية الردّ، لأنّ منهم من يضعّف الرواية أو يستبعدها تنزيهاً للصحابي عن التفوّه بمثل الكلام، حتى أنّ بعضهم قال: «ومن روى عن ابن عبّاس فهو طاعن في الإسلام، ملحد في الدين، وابن عبّاس بريء من هذا القول»(1) . ومنهم من يقول: «هذا القول فيه نظر» أو: «لا يخفى ركاكة هذا القول» ونحو ذلك وظاهر هؤلاء تصحيح الحديث اعتماداً على رجاله، ثمّ الردّ على الصحابة أنفسهم.

وعلى كل حال فإنّ هذه الفئة من العلماء متّفقة على أنّ هذه الأحاديث لا يجوز تصديقها قال الزمخشري بتفسير:( أفلم ييئس الّذين آمنوا ... ) (2) : «ومعنى أفلم ييئس: أفلم يعلم ويدلّ عليه: أنّ علياً وابن عبّاس وجماعة من الصحابة والتابعين قرؤوا: أفلم يتبيّن، وهو تفسير أفلم ييئس. وقيل: إنّما كتبه الكاتب وهو ناعس مستوي السينات.

وهذا ونحوه ممّا لا يصدّق في كتاب الله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وكيف يخفى مثل هذا حتى يبقى ثابتاً بين

__________________

(1) البحر المحيط 6: 445.

(2) سورة الرعد: 31.

٢٤٢

دفّتي الإمام، وكان متقلّباً في أيدي أولئك الأعلام المحتاطين في دين الله، المهيمنين عليه، لا يغفلون عن جلائله ودقائقه، خصوصاً عن القانون الذي إليه المرجع، والقاعدة التي عليها البناء؟!! وهذه - والله - فرية ما فيها مرية»(1) .

فهذا موقف القائلين ببطلان هذه الآثار.

أمّا الفئة الاولى الدائر أمرهم بين الالتزام بمداليل الآثار وبين التأويل المقبول لدى الأنظار، فقد اختار جمع منهم طريق التأويل:

طريق التأويل لها

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: «الطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل، بل الروايات صحيحة والتأويل محتمل»(2) وقال أيضاً في الآية:( أفلم ييأس ) :

«وروى الطبري وعبد بن حميد - بإسناده صحيح كلّهم من رجال البخاري - عن ابن عبّاس: أنّه كان يقرؤها: أفلم يتبيّن: ويقول: كتبها الكاتب وهو ناعس. ومن طريق ابن جريح، قال: زعم ابن كثير وغيره أنّها القراءة الاولى: وهذه القراءة جاءت عن علي وابن عبّاس وعكرمة وابن أبي مليكة وعلي بن بديمة وشهر بن حوشب وعلي بن الحسين وابنه زيد وحفيده جعفر بن محمد، في آخرين قرؤوا كلّهم: أفلم يتبيّن.

وأمّا ما أسنده الطبري عن ابن عبّاس فقد اشتدّ إنكار جماعة ممّن لا علم له بالرجال صحّته، وبالغ الزمخشري في ذلك كعادته - إلى أن

__________________

(1) الكشّاف 2: 531.

(2) فتح الباري وعنه في الإتقان 1: 270.

٢٤٣

قال: - وهي والله فرية مافيها مرية، وتبعه جماعة بعده والله المستعان، وقد جاء عن بن عبّاس نحو ذلك في قوله تعالى:( وقضى ربّك ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه ) قال: (ووصّى) التزقت الواو في الصاد. أخرجه سعيد بن منصور بإسناد جيّد عنه.

وهذه الإشياء - وإن كان غيرها المعتمد - لكن تكذيب المنقول بعد صحّته ليس من دأب أهل التحصيل، فلينظر في تأويله بما يليق به»(1) .

وظاهر كلمات ابن حجر في الموردين هو العجز عن الإتيان بتأويل،يساعده اللفظ ويرضاه «أهل التحصيل»

نعم ذكر في قوله تعالى:( يا أيّها الّذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم ... ) (2) : «أخرج سعيد بن منصور والطبري والبيهقي في الشعب بسند صحيح: أنّ ابن عبّاس كان يقرأ: (حتى تستأذنوا) ويقول: أخطأ الكاتب، وكان يقرأ على قراءة اُبيّ بن كعب، ومن طريق مغيرة بن مقسم، عن إبراهيم النخعي، قال: في مصحف ابن مسعود (حتى تستأذنوا). وأخرج سعيد بن منصور من طريق مغيرة، عن إبراهيم: في مصحف عبدالله: (حتى تسلّموا على أهلها وتستأذنوا). وأخرجه إسماعيل بن إسحاق في أحكام القرآن عن ابن عبّاس واستشكله. وكذا طعن في صحّته جماعة ممّن بعده.

وأجيب: بأنّ ابن عبّاس بناها على قراءته التي تلقّاها عن ابيّ بن كعب. وأمّا اتّفاق الناس على قراءتها بالسين فلموافقة خطّ المصحف

__________________

(1) فتح الباري 8: 301.

(2) سورة النور: 27.

٢٤٤

الذي وقع الاتّفاق على عدم الخروج عمّا يوافقه. وكان قراءة ابيّ من الأحرف التي تركت القراءة بها - كما تقدّم تقريره في فضائل القرآن -. وقال البيهقي: يحتمل أن يكون ذلك كان في القراءة الاول ثمّ نسخت تلاوته. يعني: ولم يطّلع ابن عبّاس على ذلك»(1) .

مناقشة هذا التأويل

أقول: وفي هذا الجواب نظر من وجوه:

أولاً: إنّ هذا الجواب - إن تمّ - فهو توجيه لقراءة ابن عبّاس، لا لقوله في كتابة المصحف: «أخطأ الكاتب».

وثانياً: كون هذه القراءة «من الأحرف التي تركت القراءة بها» يبتني على ما رووه من أنّه «نزل القرآن على سبعة أحرف» هذا المبنى الذي اختلفوا في معناه وتطبيقه اختلافاً شديداً، وذكروا له وجوهاً كثيرة جداً لا يرجع شيء منها الى محصّل(2) .

__________________

(1) فتح الباري: 11: 6.

(2) يمكن الاطلاّع على ما ذكروه بمراجعة مقدّمات التفاسير، وكتب علوم القرآن، وفتح الباري في شرح البخاري 9: 22 - 30 وغيرها. وقد وقع القوم بالتزامهم بصحّة أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف في مأزق كبير جدّاً، وكان عليهم الالتزام بلوازمه الفاسدة التي منها القول بتحريف القرآن وضياع حروف نزّل عليها من السماء ولو أردنا الدخول في هذا البحث لطال بنا المقام، وقد تقدّم بعض ما يتعلّق به فيما سبق، ويكفي أن نقول بأنّ المرويّ صحيحاً عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام : «إنّ القرآن واحد نزل من عند واحد، ولكنّ الاختلاف يجيء من قبل الرواة» وفي آخر: «كذبوا أعداء الله، ولكنّه نزل على حرف واحد من عند الواحد» [ الكافي 2: 461 باب النوادر | حديث 12 و 13 ].

٢٤٥

وثالثاً: ما احتمله البيهقي يبتني على القول بنسخ التلاوة، وسيأتي البحث عنه مفصّلاً.

ورابعاً: قول ابن حجر: «يعني: ولم يطّلع ابن عبّاس» غريب جدّاً، إذ كيف يخفى على مثل ابن عبّاس نسخ تلاوة شيء من القرآن وهو حبر هذه الأمّة وإمام الأئمة في علوم القرآن؟!.

هذا النسبة إلى ما رووه عن ابن عبّاس ونصّوا على صحّته، ثمّ عجزوا عن تأويله «التأويل اللائق».

تأويل «اللحن» و «الخطأ» وجوابه

وأجابوا عمّا رووه عن عثمان بجوابين، ذكر هما السيوطي - بعد أن قال: «هذا الآثار مشكلة جدّاً» - وقد نقلنا عبارته سابقاً.

وقال الشهاب الخفاجي - بعد كلام الكشّاف: «ولا يلتفت ...» -: «وقيل عليه: لا كلام في نقل النظم تواتراً، فلا يجوز اللحن فيه أصلاً، وهل يمكن أن يقع في الخطّ لحن بأن يكتب «المقيمون» بصورة «المقيمين» بناءً على عدم تواتر صورة الكتابة؟ وما روي عن عثمان وعائشة أنّهما قالا: إنّ في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها - على تقدير صحّة الرواية - يحمل على اللحن في الخطّ. لكنّ الحقّ: ردّ هذه الرواية وإليه أشار - أي الكشّاف - بقوله: إنّ السابقين

(قال): أقول: هذا إشارة إلى ما نقله الشاطبي في الرائية وبيّنه شرّاحه وعلماء الرسم العثماني بسند متّصل إلى عثمان أنّه لمّا فرغ من المصحف قال السخاوي: وهو ضعيف والإسناد فيه اضطراب وانقطاع وتأوّل قوم (اللحن) في كلامه على تقدير صحّته عنه بأنّ المراد الرمز والإيماء.

٢٤٦

(قال): تنبيه: قد نخلنا القول وتتبّعنا كلامهم ما بين معسول ومغسول فآل ذلك إلى أنّ قول عثمان فيه مذهبا، أحدهما: أنّ المراد باللحن ما خالف الظاهر، وهو موافق له حقيقة ليشمل الوجوه تقديراً واحتمالاً. وهذا ما ذهب إليه الداني وتابعه كثيرون. والرواية فيه صحيحة.

والثاني: ما ذهب إليه ابن الأنباري من أنّ (اللحن) على ظاهره، وأنّ الرواية غير صحيحة»(1) .

أقول: وكأن المتأوّلين التفتوا إلى كون تأويلاتهم مزيّفة، فالتجؤوا إلى القول بأنّ تلك الآثار «محرّفة» فقد جاء في الإتقان عن ابن أشتة: أنّه روى الحديث بإسناده عن عثمان وليس فيه لفظ «اللحن» بل إنّه لمّا نظر في المصحف قال: «أحسنتم وأجملتم، أرى شيئاً سنقيمه بألسنتنا». قال: «فهذا الأثر لا إشكال فيه وبه يتّضح معنى ما تقدّم ولعلّ من روى تلك الآثار السابقة عنه حرّفها ولم يتقن اللفظ الذي صدر عن عثمان، فلزم ما لزم من الإشكال. فهذا أقوى ما يجاب عن ذلك».

قال السيوطي بعد إيراد الأجوبة عن حديث عثمان: «وبعد، فهذه الأجوبة لا يصحّ منها شيء من حديث عائشة. أمّا الجواب بالتضعيف فلأنّ إسناده صحيح كما ترى ...»(2) .

أقول: هذه عمدة ما ورد في هذا الباب ممّا التزموا بصحّته، وقد عرفت أن لا تأويل صحيح له عندهم، فهم متورّطون في أمر خطره عظيم،

__________________

(1) عناية القاضي 3: 201.

(2) الإتقان 2: 320 - 326.

٢٤٧

إمّا الطعن في القرآن، وإمّا الطعن في هؤلاء الصحابة الأعيان!!!

ولا ريب في أنّ نسبة «الخطأ» إلى «الصحابة» أولى منه إلى «القرآن» وسيأتي - في الفصل الخامس - بعض التحقيق في حال الصحابة علماً وعدالة، هذا أولاً.

وثانياً: إنّ القول بعدم جواز تكذيب المنقول بعد صحّته - كما هو مذهب الحافظ ابن حجر العسقلاني - غير صحيح، إذ الحديث إذا خالف الكتاب أو السنّة القطعية أو الضروري من الدين أو الجمع عليه بين المسلمين يطرح وإن كان في الكتب المسمّاة بالصحاح كما سيأتي - في الفصل الخامس - ذكر نماذج من ذلك

ترجمة عكرمة مولى ابن عباس

أقول: والذي يهوّن الخطب في هذا المقام: أنّ كثيراً من هذه الآثار في سندها «عكرمة مولى ابن عبّاس» وخاصّة الحديث عن عثمان: «إنّ المصاحف لمّا نسخت عرضت عليه فوجد فيها حروفاً من اللحن فقال: اتركوها ...» والحديث عن ابن عبّاس في الآية:( أفلم ييئس ... ) حيث قال: «أظنّ الكتاب كتبها وهو ناعس».

«وعكرمة» من أظهر مصاديق «الزنادقة» و «أعداء الإسلام» الّذين نسب إليهم اختلاق مثل هذه الآثار، في كلام جماعة من العلماء الكبار، كالحكيم الترمذي، وأبي حيّان الأندلسي، وصاحب «المنار» ...

1 - طعنه في الدين:

لقد كان هذا الرجل طاعناً في الإسلام، مستهتراً بالدين

٢٤٨

والمسلمين، من أعلام الضلالة ودعاة السوء:

فقد نقلوا عن قوله: إنّما أنزل الله متشابه القرآن ليضلّ به.

وأنّه قال في وقت الموسم: وددت أنّي اليوم بالموسم وبيدي حربة فأعترض بها من شهد الموسم يميناً وشمالاً.

وأنّه وقف على باب مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: ما فيه إلاّ كافر.

وأنّه قدم البصرة فأتاه أيّوب وسليمان التميمي ويونس، فبينما هو يحدّثهم سمع صوت غناء، فقال عكرمة: اسكتوا فنستمع. ثم قال: قاتله الله، لقد أجاد.

وعن أبي بكر بن أبي خيثمة: رأيت في كتاب علي بن المديني: سمعت يحيى ابن سعيد يقول: حدّثوني - والله - عن أيّوب أنّه ذكر: أنّ عكرمة لا يحسن الصلاة: قال أيّوب، أو كان يصلّي؟!

وعن سماك، قال: رأيت في يد عكرمة خاتماً من الذهب.

وعن رشدين بن كريب: رأيت عكرمة قد أقيم قائماً في لعب النرد.

2 - إنّه كان يرى رأي الخوارج:

وإنّما أخذ أهل إفريقية رأي الصفرية - وهم من غلاة الخوارج - من عكرمة وذكروا أنه نحل ذلك الرأي إلى ابن عبّاس.

وعن يحيى بن معين: إنّما لم يذكر مالك بن أنس عكرمة، لأنّ عكرمة كان ينتحل رأي الصفرية.

وقال الذهبي: قد تكلّم الناس في عكرمة، لأنّه كان يرى رأي الخوارج.

٢٤٩

ثمّ إنّه نسب تارة إلى «الإباضية» واخرى إلى «الصفرية» وثالثة إلى «نجدة الحروري» وكأنّه كان كلّما جاء فرقة جعل نفسه منهم طمعاً في دنياهم قالوا: وقد طلبه والي المدينة فتغيّب عند داود بن الحصين حتى مات عنده.

3 - إنّه كان كذّاباً:

كذب على ابن عبّاس، وقد أوثقه علي بن عبدالله بن العبّاس على باب كنيف الدار فقيل له: أتفعلون هذا بمولاكم؟ قال: إنّ هذا يكذب على أبي.

وعن سعيد بن المسيّب أنّه قال لمولاه: يا برد، إيّاك أن تكذب عليّ كما يكذب عكرمة على ابن عبّاس.

وعن القاسم: إنّ عكرمة كذّاب، يحدّث غدوة ويخالفة عشيّة.

وقال ابن عمر لنافع: إتّق الله - ويحك يا نافع - لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عبّاس.

وعن ابن سيرين ويحيى بن معين ومالك بن أنس: كذّاب.

وعن ابن ذويب: رأيت عكرمة مولى ابن عبّاس وكان غير ثقة.

وقال طاوس: لو أنّ عبد ابن عبّاس إتّقى الله وأمسك عن بعض حديثه لشدّت إليه المطايا.

وقد اشتهر تكذيب الناس إيّاه وطعنهم فيه حتى أنه كان يقول: «هؤلاء يكذّبون من خلفي، أفلا يكذّبوني في وجهي»(1) .

__________________

(1) حاول ابن حجر العسقلاني [ مقدّمة فتح الباري: 427 ] توجيه الكلام، ولكن لا ينفعه ذلك، فحال عكرمة تشبه حال أبي هريرة الذي قال للناس:

٢٥٠

4 - عكوفه على أبواب الامراء للدنيا:

قال موسى بن يسار: رأيت عكرمة جائياً من سمرقند وهو على حمار تحته جوالقان - أو خرجان - حرير أجازه بذلك عامل سمرقند ومعه غلام. قال: وسمعت عكرمة بسمرقند وقيل له: ما جاء بك إلى هذه البلاد؟ قال: الحاجة.

وقال عبد المؤمن بن خالد الحنفي: قدم علينا عكرمة خراسان فقلت له: ما أقدمك إلى بلادنا؟ قال: قدمت آخذ من دنانير ولاتكم ودراهمهم.

وقال عبدالعزيز بن أبي رواد: قلت لعكرمة: تركت الحرمين وجئت إلى خراسان! قال: أسعى على بناتي.

وقال أبو نعيم: قدم على الوالي بأصبهان فأجازه بثلاثة آلاف درهم.

وقال عمران بن حدير: رأيت عكرمة وعمامته منخرقة فقلت: ألا اعطيك عمامتي؟ فقال: إنّا لا نقبل إلاّ من الامراء.

أبو طالب: سمعت أحمد بن حنبل يقول: كان عكرمة من أعلم الناس ولكنّه كان يرى رأي الصفرية ولم يدع موضعاً إلاّ خرج إليه، خراسان والشام واليمن ومصر وإفريقية، كان يأتي الامراء فيطلب جوائزهم، وأتى الجند إلى طاووس فأعطاه ناقة.

ومن الطبيعي أن يستجيب هكذا رجل لرغبات الولاة والامراء

__________________

أتزعمون أنّي أكذب على الله ورسوله وأحرق نفسي بالنار ...؟!

٢٥١

فيضع كل ما تقتضيه السياسة ويدعم الحكومات الجائرة

5 - ترك الناس جنازته:

ومن الطبيعي أيضاً سقوط هكذا إنسان في المجتمع الإسلامي، فلا تبقى قيمة لا له ولا لأحاديثه حتى إذا مات فلا تشيّع جنازته ولا يصلّى عليه كما ذكر المؤرّخون في ترجمة عكرمة وأضافوا أنّه قد اتّفق موت عكرمة وكثير عزّة الشاعر الشيعي في يوم واحد فشهد الناس جنازة كثير وتركوا جنازة عكرمة. قيل: فما حلمه أحد واكتروا له أربعة رجال من السودان.

6 - قدح الأكابر فيه وتكذيبه:

ولهذه الأور وغيرها كذّب عكرمة كبار الأئمّة الأعلام - الّذين طالما اكتفى علماء الجرح والتعديل بطعن واحدٍ منهم - منهم: ابن عمر، ومجاهد، وعطاء، وابن سيرين، ومالك بن أنس، والشافعي - حيث حكى كلام مالك وقرّره - وسعيد بن المسيّب، والقاسم، ويحيى بن سعيد.

وحرّم مالك الرواية عنه، وأعرض عنه مسلم، وقال مسلم محمد بن سعد: ليس يحتجّ بحديثه، وقال غيره: غير ثقة(1) .

__________________

(1) المصادر المنقول ترجمة عنها عكرمة هي: تهذيب الكمال، تهذيب التهذيب 7: 273 - 263، طبقات ابن سعد 5: 287، وفيات الأعيان 1: 319 ميزان الاعتدال 3: 93، المغني في الضعفاء 2: 84، سير أعلام النبلاء 5: 9، الضعفاء الكبير 3: 373.

٢٥٢

ومع هذا كلّه فإنّ البخاري يروي عنه!! ولكن لا عجب إذ «كلّ يعمل على شاكلته» بل العجب من ابن حجر، حيث ينبري للدفاع عن «عكرمة البربري» والمقصود هو الدفاع عن «صحيح البخاري» فكيف يدافع عمّن تجرّأ على الله، واستهزأ بشعائره، واستخفّ بأحكامه، وطعن في القرآن، واستحلّ دماء المسلمين ...؟ وكيف يدافع عمّن كذّبه الأئمة الثقات حتى ضربوا بكذبه المثل لاشتهاره بهذه الصفة؟ وكيف يدافع عمّن امتنع الناس من حمل جنازته والصلاة عليها؟!

خلاصة البحث

ويتلخّص البحث في هذه الناحية في النقاط التالية:

1 - إنّ الآثار المشتملة على وقوع «الخطأ» في القرآن الكريم باطلة وإن كانت مخرّجة في الصحاح وفي غيرها بأسانيد صحيحة وفاقاً لمن قال بهذا من أعلام المحقّقين من أهل السنّة كما عرفت ووجود الأحاديث الباطلة في الصحاح الستّة أم ثابت، وعدد الاحاديث من هذا القبيل فيها ليس بقليل كما ستعرف.

2 - إنّ التأويلات التي ذكرت من قبل القائلين بصحّة هذه الآثار لا تحلّ المشكلة كما عرفت، ولذا اضطرّ بعضهم إلى القول بأنّها محرّمة، والتزم بالإشكال بعض آخر، ومنه قول ابن قتيبة: «ليست تخلو من أن تكون على مذهب من مذاهب أهل الإعراب أو تكون غلطاً من الكاتب كما ذكرت عائشة، فإن كانت على مذاهب النحو والنحويّين فليس ها هنا لحن والحمدالله، وإن كانت على خطأ في الكتاب فليس

٢٥٣

 على الله ولا على رسوله جنابة الكاتب في الخطّ»(1) .

3 - إنّ مصادرة كتاب «الفرقان» - إن كانت لأجل إثبات «اللحن» في الكتاب - لا تحلّ المشكلة بشكل من الأشكال، فإنّ صاحب هذا الكتاب ينقل الآثار المتضمّنة لهذا المعنى عن الكتب المعتبرة والتي اخرجت فيها تلك الآثار بأسانيد صحيحة على شرط الشيخين، ثمّ يؤكّدها بقوله: «ليس ما قدّمناه من لحن الكتاب في المصحف بضائرة أو بمشكّك في حفظ الله تعالى له، بل إنّ ما قاله ابن عبّاس وعائشة وغيرهما من فضلاء الصحابة وأجلاًء التابعين أدعى لحفظه وعدم تغييره وتبديله. وممّا لا شكّ فيه أنّ كتّاب المصحف من البشر يجوز عليهم ما يجوز على سائرهم من السهو والغفلة والنسيان. والعصمة لله وحده

ومثل لحن الكتّاب كلحن المطابع ...»(2) .

وعلى هذا الأساس يدعو هذا المؤلف إلى تغيير الرسم العثماني وجعل الألفاظ كما ينطق بها اللسان وتسمعها الآذان، بل ينقل عن العزّ ابن عبد السلام أنّه قال بعدم جواز كتابه المصحف بالرسم الأول(3) .

أقول: إنّ مسألة الرسم والخطّ هي أيضاً من المشاكل المترتّبة على القول بصحّة هذه الآثار عن الصحابة والالتزام بصدورها عنهم - فإن لم تكن مترتّبة عليه فلا أقلّ من أن يكون القول بصحّة تلك الآثار سنداً ومتناً مؤيّداً لمن يدعو إلى تغيير الرسم والكتابة - ونحن هنا لا نتعرّض لهذه المسألة، بل نقول بأنّ استدلال مؤلف كتاب «الفرقان» أو استشهاده

__________________

(1) مشكل القرآن: 40.

(2) الفرقان: 41 - 46.

(3) الفرقان: 58.

٢٥٤

بهذه الآثار تامّ، وأنّه لا يلام على إيراده تلك الآثار في كتابه، بل اللوم على من يرويها ويصحّح أسانيدها ويخرجها في كتابه وأنّ طريق الجواب هو ردّها وإبطالها على ما ذكرناه بالتفصيل ...

2 - في أحاديث جمع القرآن

لقد وعد الله سبحانه نبيّه بحفظ القرآن وبيانه، وضمن له عدم ضياعه ونسيانه.

وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّما نزل من القرآن شيء أمر بكتابته ويقول في مفرقات الآيات: ضعوا هذا في سورة كذا(1) .

وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله يعرضه على جبرئيل في شهر رمضان في كل عام مرّة، وعرضه عليه عام وفاته مرّتين(2) .

وحفظه في حياته جماعة من أصحابه، وكل قطعة كان يحفظها جماعة كبيرة أقلّهم بالغون حدّ التواتر هذا هو الحقّ والأمر الواقع

وقد أوردنا أحاديث القوم في قضية جمع القرآن ووجدناها متناقضة وعقّبناها بذكر ما قيل أو يمكن أن يقال في معناها ووجه الجمع فيما بينها فهل ترتفع المشكلة بهذا الاسلوب؟

إعراض القوم عن علي في جمع القرآن

لابدّ قبل الورود في البحث من أن نقول:

لقد كان أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أعلم الناس بكتاب الله

__________________

(1) مسند أحمد 1: 57، الترمذي 11: 225، أبو داود 1: 290، المستدرك 2: 230.

(2) صحيح البخاري 1: 101 وغيره.

٢٥٥

- عزّ وجلّ - عند المخالف والمؤالف، وهو القائل: «والله ما نزلت آية إلاّ وقد علمت فيما نزلت وأين نزلت»(1) والقائل: «سلوني عن كتاب الله، فإنّه ليس آية إلاّ وقد عرفت أبليل نزلت أن بنهار، في سهل أو جبل»(2) .

وهو الذي قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّه:

«علي أعلم الناس بالكتاب والسنّة»(3) .

وقال: «علي مع القرآن والقرآن مع علي»(4) .

وناهيك بحديث: «أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها»(5) .

وعليعليه‌السلام استاذ ابن عبّاس في التفسير، وقد ذكر القوم أنّ «أعلم الناس بالتفسير أهل مكّة لأنّهم أصحاب ابن عبّاس»(6) .

فلماذا لم يعدّه أنس بن مالك - ولا غيره - من حفّاظ القرآن، ومن الّذين أم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بتعلّمه منهم والرجوع إليهم فيه، فيما رواه البخاري في صحيحه؟!

ثمّ إنّهعليه‌السلام رتّب القرآن الكريم ودوّنه بعيد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من القراطيس التي كان مكتوباً عليها،

__________________

(1) حلية الأولياء 1: 67، أنساب الأشراف 1: 99.

(2) أنساب الأشراف 1: 99، الاستيعاب 3: 1107.

(3) المعيار والموازنة: 102.

(4) المستدرك 3: 124، الصواعق: 76 و 77، كفاية الطاب: 254.

(5) من الأحاديث المتواترة بين المسلمين. بحثنا عنه سنداً ودلالةً في الجزء العاشر وتالييه من أجزاء كتابنا (نفحات الازهار في خلاصة عبقات الأنوار).

(6) الإتقان 2: 385.

٢٥٦

فكان له مصحف تامّ مرتّب يختصّ به كما لعدّة من الصحابة في الأيام اللاحقة، وهذا من الامور المسلّمة تاريخياً عند جميع المسلمين(1) ومن جلائل فضائل سيّدنا أمير المؤمنين فلما ذا لم يستفيدوا منه؟!

ولعلّ إعراض القوم عن مصحف علي هو السبب في قدح ابن حجر العسقلاني(2) ومن تبعه كالآلوسي(3) في الخبر الحاكي له مع أنّ هذا الأمر من الامور الثابتة الضرورية المستغنية عن أيّ خبر مسند لكنّ هؤلاء يحاولون توجيه ما فعله القوم أو تركوه كلّما وجدوا إلى ذلك سبيلاً ..!!

ثمّ إنّه لماذا لم يدعوا الإمامعليه‌السلام ولم يشركوه في جمع القرآن؟! فإنّا لا نجد ذكراً له فيمن عهد إليهم أمر جمع القرآن في شيء من أخبار القضية، لا في عهد أبي بكر ولا في عهد عثمان فلماذا؟! ألا، إنّ هذه امور توجب الحيرة وتستوقف الفكر!!

حصرهم الجامعين على عهد النبوة في عدد!!

وبعد فإنّ التحقيق - كما عليه أهله من عامّة المسلمين - أنّ القرآن قد كتب كلّه في عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعده، وجمع في الصدور والسطور معاً من قبل جماعة من أصحابهصلى‌الله‌عليه‌وآله غير أنّ الجامعين له - أي: الحافظين في

__________________

(1) انظر: فتح الباري 9: 9، الاستيعاب - ترجمة أبي بكر -، الصواعق: 78، الإتقان 1: 99، حلية الأولياء 1: 67، التسهيل لعلوم التنزيل 1: 4 المصنّف لابن أبي شيب 1: 545، طبقات ابن سعد 2: 338.

(2) فتح الباري 9: 9.

(3) روح المعاني 1: 21.

٢٥٧

صدورهم - أكثر ممّن كتبه، كما أنّ من كتبه بتمامه فكان ذا مصحف يختصّ به أقلّ ممّن كان عنده سور من القرآن كتبها واحتفظ بها لنفسه فهل كان الجامعون له بتمامه أربعة كما عن أنس بن مالك(1) وعبدالله بن عمرو(2) أو خمسة كما عن محمد بن كعب القرظي(3) أو ستّه كما عن الشعبي(4) أو تسعة كما عن النديم(5) ؟!

إنّ الجامعين للقرآن أكثر من هذه الأعداد وأمّا حديث الحصر في الأربعة وأنّ كلّهم من الأنصار - كما عن أنس بن مالك - فنحن نستنكره تبعاً لجماعة من الأئمّة كما ذكر الحافظ السيوطي ولا نتكلّف تأويله ولا ننظر في سنده ..

كلمة حول أنس بن مالك

بل الكلام في أنس بن مالك نفسه لأنّا قد وجدناه رجلاً كاذباً كاتماً للحقّ، آبياً عن الشهادة به، في قضية مناشدة أمير المؤمنين بحديث الغدير فإنّ أنس بن مالك كان في الناس الّذين نشدهم أمير المؤمنينعليه‌السلام وطلب منهم الشهادة بما سمعوا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم غدير خم فقام القوم فشهدوا إلاّ ثلاثة منهم لم يقوموا فدعا عليهم فأصابتهم دعوته، منهم أنس بن مالك إذا قال له الإمام: «يا أنس، ما يمنعك أن تقوم فتشهد ولقد حضرتها؟

__________________

(1) صحيح البخاري 6: 102.

(2) صحيح البخاري 6: 102، صحيح مسلم 7: 149.

(3) الإتقان 1: 72، منتخب كنز العمّال 2: 47.

(4) الإتقان 1: 72، البرهان 1: 241.

(5) الفهرست: 30.

٢٥٨

فقال: يا أمير المؤمنين كبرت ونسيت، فقال: اللّهم إن كان كاذباً فارمه بيضاء لا تواريها العمامة، فكان عليه البرص»(1) .

ووجدناه كاذباً في قضية حديث الطائر فإنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا اتي إليه طائر مشوي ليأكل منه وقال: «اللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك وإليّ يأكل معي من هذا الطائر» كان يترقّب دخول عليعليه‌السلام عليه، وكان أنس كلّما جاء علي ليدخل ردّه قائلاً: «إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على حاجة» حتى كانت المرة الأخيرة، فرفع علي يده فوكز في صدر أنس ثمّ دخل فلما نظر إليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قام قائماً فضمّه إليه وقال: ما أبطأ بك يا علي؟! قال: يا رسول الله، قد جئت ثلاثاً كل ذلك يردّني أنس، قال أنس: فرأيت الغضب في وجه رسول الله وقال: يا أنس، ما حملك على ردّه؟! قلت: يا رسول الله سمعتك تدعو، فأحببت أن تكون الدعوة في الأنصار، قال: «لست بأوّل رجل أحبّ قومه، أبي الله يا أنس إلاّ أن يكون ابن أبي طالب»(2) .

إنّه يكذب غير مرّة، ويمنع أحبّ الناس إلى الله ورسوله من الدخول، ويتسبّب في تأخير استجابة دعوة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و كما يحصر حفّاظ القرآن في أربعة من الأنصار حبّاً لهم ..!!.

إنّ الباعث له على ما فعل في قصّة الطائر ليس «حبّ الأنصار»

____________

(1) انظر: نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار | قسم حديث الغدير، والغدير 1: - 191: 195.

(2) حديث الطير من الأحاديث المتواترة، تجده في جلّ كتب الحديث والفضائل، وله طرق كثيرة جدّاً حتى أفرده بعضهم بالتأليف وكلّها تشتمل على صنيع أنس بن مالك وهذا الحديث أيضاً من الأحاديث المبحوث عنها بالتفصيل في كتابنا (نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار) في الجزئين: 13 - 14.

٢٥٩

بل «بغض الأمير» هذه الحقيقة التي كشف عنها بكتمان الشهادة بحديث «الغدير» ...

رفض أحاديث جمع القرآن على عهدي أبي بكر وعمر

وعلى كلّ حال، فإن القرآن كان مجموعاً على عهد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّ الجامعين له - حفظاً وكتابة - على عهده كثيرون

وإذا كان القرآن مكتوباً على عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وكان الأصحاب يؤلّفونه بأمره - كما يقول زيد بن ثابت -(1) فلا وزن لما رووه عن زيد أنّه قال: قبض رسول الله ولم يكن القرآن جمع في شيء»(2) لأنّ «التأليف» هو «الجمع» قال ابن حجر: «تأليف القرآن: أي جمع آيات السورة الواحدة أو جمع السور مرتّبة في المصحف»(3) .

وعلى هذا الأساس، يجب رفض ما رووه من الأحاديث في أنّ «أوّل من جمع القرآن أبوبكر» أو «عمر» أو غيرهما من الأصحاب بأمرهما لأنّ الجمع في المصحف قد حصل قبل أبي بكر فلا وجه لقبول هذه الأحاديث - حتى لو كانت صحيحة سنداً - كي نلتجئ إلى حمل «فكان [ عمر ] أوّل من جمعه في المصحف»(1) مثلاً على أنّ المراد:

__________________

(1) المستدرك 2: 662.

(2) الإتقان 1: 202.

(3) فتح الباري 9: 8.

(4) الإتقان 1: 204.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456