استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٣

استخراج المرام من استقصاء الإفحام0%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 478

استخراج المرام من استقصاء الإفحام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد علي الحسيني الميلاني
تصنيف: الصفحات: 478
المشاهدات: 243842
تحميل: 6837


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 478 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 243842 / تحميل: 6837
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء 3

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فيه ، وهو صاحب طريقة الخراسانيّين في الفقه ، عاش تسعين سنة .

قال ناصر العمري : لم يكن في زمانه أفقه مِنه ولا يكون بعده ، كنّا نقول : إنّه مَلَك في صورة آدمي .

قلت : وهو القفّال المتقدّم ذكره مع السلطان محمود الملقّب بيمين الدولة وأمين الملّة ابن ناصر الدين سبكتكين ، وله ذِكر في صلاته على مذهب الشافعي فقهاً والمجزية على مذهب أبي حنيفة القصّة المتقدّم ذكرها في سنة عشرة وأربعمائة .

قالوا : وكان وحيد زمانه فقهاً وحفظاً وورعاً وزهداً ، واشتغل عليه خلْق كثير مِنهم الأئمّة الكبار : القاري حسين والشيخ أبو محمّد الجويني وابنه إمام الحرمين والشيخ أبو عليّ السنجي وغيرهم ، وكلّ واحد مِن هؤلاء صار إماماً يشار إليه ، ولهم التصانيف النافعة ، وأخذ عنهم أئمّة كبار أيضاً )(١) .

وإليك كلمات الشيخ عليّ القاري في الطعن والذم لهذا الفقيه الكبير...

( ثمّ رأيت بعض أصحابنا إنّه أفاد في هذه الحكاية ما أجاد حيث قال : وما أقبح صلاة هذا المصلّي وأشنعها وما أسوء ضرطته وأفظعها ، لقد لبس ثوب الخلاعة وارتدى برداء الشناعة ، وأصمّ بضرطته الأسماع ، وأتى بما تنفر عنه الطباع ، وفَعَل فِعْل السفلة الخفاف ، واستخفّ بالدين غاية الاستخفاف ، فضلّ به عن سواء الصراط ، والتحق بالأراذل والأسقاط بصلاته هذه وختمها بالضراط .

لقد ساعدته أُسْتُه كلّ المساعدة ، وباعدته عن الحياء والدين كلّ المباعدة ؛ أمّا عن الدين فظاهر لأرباب اليقين ، لأنّه تعمّد الحدَث في حال

_______________________

(١) مرآة الجنان وعبرة اليقظان ٣ : ٢٤ حوادث السنة ٤١٧ هـ .

٢٠١

مِناجاته لربّ العالمين ، وأمّا عن الحياء فذلك شيء لا ينكره أحد مِن العقلاء ، فواعجباه ! كيف أقْدَم هذا الذي يُنسب إلى العِلم على هذا الفعل القبيح بحضرة جماعة مِنهم السلطان ، فصيّر نفسه ضحكة لأهل الزمان بأمر الشيطان .

ثمّ مع هذا ظنّ أنّ ضرطته هذه لله نافعة وإنّما هي له عن رتبة العقلاء واضعة ، إذ لو فعل مثل ذلك أحد مِن العوام لقيل إنّه ملحد مستخفّ بالإسلام ، بل مَن ترك الصلاة رأساً أهون في مقام القبائح مِن هذه السيّئة المشتملة على الفضائح ، إذ هي الشناعة العظمى والداهية الدهياء .

وإنّما حمله على ذلك اتّباع الهوى لأجل أغراض الدنيا ، فليته حين مات مات فعله هذا معه ولم يُذكر ، ولم يُكتب في الدفاتر ولم يُسطر ، لكنّه أُثبت في التواريخ واُشتهر ، وتشدّق به مَن لا خَلاق له وافتخر ، فلو عرفوا ما فيه مِن أنّ الشناعة راجعة إليهم لما ذكروا مثل هذا فيما لديهم ، ولكن كما قال سبحانه:( أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ ويَهْدي مَن يَشاء ) فنعوذ بالله مِن شرور أنفسنا ومِن سيّئات أعمالنا ، ونستغفره مِن زللٍ في أقلامنا وخطْلٍ في أقوالنا ) .

ثمّ إنّ فتاوى أبي حنيفة في أحكام الصّلاة هذه التي حكاها القفّال ، مذكورة في سائر الكُتب أيضاً ، فالسيوطي مثلاً يقول في رسالته ( جزيل المواهب في اختلاف المذاهب) في بيان فضائل مذهب الشافعي :

( ومِنها : كثرة الاحتياط في مذهبه وقلّته في مذهب غيره ، فمِن ذلك الاحتياط في العبادات وأعظمها شأناً الصلاة ، ومَن أدّى صلاته على مذهب الشافعي كان على يقين مِن صحّتها ، ومَن أدّاها على مذهب مخالفه وقع الخلاف في صحّة صلاته مِن وجوه : إجازتهم الوضوء بنبيذ التمر ، وتطهير

٢٠٢

البدن والثوب عن النجاسات بالمايعات ، وأجازوا الصلاة في جلد الكلب المذبوح مِن غير دِباغ ، وأجازوا الوضوء بغير نيّة ولا ترتيب وأسقطوه في مسّ الفرج والملامسة ، وأجازوا الصّلاة على ذَرْق الحَمام ومع قدر الدرهم مِن النجاسات الجامدة ، وتلطّخ ربع الثوب مِن البول ومع كشف بعض العورة ، وأبطلوا تعيين التكبير والقراءة ، وأجازوا القرآن مِنكوساً ، وبالفارسيّة ، وأسقطوا وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود والاعتدال مِن الركوع والقعود بين السجدتين ، والتشهّد والصلاة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الصلاة ، مع الخروج عنها بالحَدَث .

وأبطلنا نحن الصّلاة في هذه الوجوه ، وأوجبنا الإعادة على مَن صلّى خلف واحد مِن هؤلاء ) .

وابن تيمية الذي له الباع الطويل في تكذيب الحقائق وإنكار الثوابت ، قد نصَّ على صحّة ما نُسب إلى أبي حنيفة ، وأنّ هذه الصلاة يُنكرها جمهور أهل السُنّة ، ففي ( مِنهاج السنة ) :

( وأمّا ما ذكره مِن الصلاة التي يُجيزُها أبو حنيفة وفعلها عند بعض الملوك حتّى رجع عن مذهبه ، فليس بحجّة على فساد مذهب أهل السُنّة ؛ لأنّ أهل السُنّة يقولون إنّ الحقّ لا يخرج عنهم ، لا يقولون إنّه لا يخطي أحد مِنهم ، وهذه الصّلاة يُنكرها جمهور أهل السنّة ، كمالك والشافعي وأحمد ، والملك الذي ذكره هو محمود بن سبكتكين ، وإنّما رجع إلى ما ظهر عنده أنّه مِن سُنّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان مِن خيار الملوك وأعدلهم ، وكان مِن أشدّ الناس قياماً على أهل البدع لا سيّما الرافضة )(١) .

_______________________

(١) مِنهاج السُنّة ٣ : ٤٣٠ .

٢٠٣

بين الشافعي وتلامذة أبي حنيفة

ولو أنّ أحداً مِن الحنفيّة جوّز لنفسه الطعن والتشنيع على هؤلاء الأئمّة والتكذيب لهم ، فليس له أن يُقدِم على تكذيب الشافعيّ نفسه ؛ لأنّه أحد أركان الدين عند أهل السنّة كلّهم ، وقد جاء في غير واحدٍ مِن الكُتب طعن الشافعي على أبي حنيفة وأصحابه وفتاواه ، فالسبكي يروي في ( طبقات الشافعية ) عن إمامه الشافعي أنّه قال :

( كَتب مطرف بن مازن إلى هارون الرشيد : إنّ أردت اليمن لا يفسد عليك ولا يخرج مِن يديك ، فأخرج عنه محمّد بن إدريس ـ وذكر أقواماً مِن الطالبيّين ـ قال : فبعث إليَّ حمّاد البربري ، فأُوثِقْتُ بالحديد حتّى قَدِمنا على هارون بالرقّة قال : دخلت على هارون قال : فأُخرجت مِن عنده قال : وقدمتُ ومعي خمسون ديناراً قال : ومحمّد بن الحسن يومئذ بالرقّة قال : فأنفقت تلك الخمسين ديناراً على كُتبهم قال : فوجدت مَثَلهم ومَثَل كتبهم مَثَل رجل كان عندنا يقال له فروخ وكان يحمل الدهن في زقّ له ، فكان إذا قيل له عندك فرستان ؟ قال : نعم فإن قيل عندك زنبق ؟ قال : نعم ، فإذا قيل له : أرني ـ وللزقّ رؤوس كثيرة ـ فيخرج مِن تلك الرؤوس وإنّما هي مِن واحدة ، وكذلك وجدت كتاب أبي حنيفة ، إنّما يقولون كتاب الله وسنّة نبيّهعليه‌السلام ، وإنّما هم مخالفون له )(١) .

قال السبكي :

( قال ـ أي الشافعي ـ : فسمعت ما لاأُحصيه محمّد بن الحسن يقول : إن

_______________________

(١) طبقات الشافعية ٢ : ١٢١ ـ ١٢٢ مع اختلافٍ يسير .

٢٠٤

بايعكم الشافعي ، فما عليكم مِن حجازي كلفة بعده ، فجئت يوماً فجلست إليه وأنا مِن أشدّ النّاس همّاً وغمّاً مِن سخط أمير المؤمِنين ، وزادي قد نفد .

قال : فلمّا أن جلست إليه ، أقبل محمّد بن الحسن يطعن على أهل دار الهجرة .

فقلت : على مَن تطعن ، على البلد أم على أهله ؟ والله لئن طعنت على أهله ، إنّما تطعن على أبي بكر وعمر والمهاجرين والأنصار ، وإن طعنت على البلدة ، فإنّها بلدتهم التي دعا لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبارك لهم في صاعهم ومُدِّهم ، وحرّمها كما حرّم إبراهيم مكّة لايقصد صيدها ، فعلى أيّهم تطعن ؟

فقال : معاذ الله أن أطعن على أحدٍ مِنهم أو على بلدته ، وإنّما أطعن على حُكْمٍ مِن أحكامه .

فقلت له : وما هو ؟

قال : اليمين مع الشاهد .

فقلت له : ولِمَ طعنت ؟

قال : فإنّه مخالف لكتاب الله .

فقلت له : فكلّ خبر يأتيك مخالفاً لكتاب الله أيسقط ؟

قال : فقال لي : كذا يجب .

فقلت له : ما تقول في الوصيّة للوالدين ؟ فتفكّر ساعة .

فقلت له : أجب ؟

فقال : لا يجوز .

قال : فقلت له : فهذا مخالف لكتاب الله ؟ لِمَ قلت إنّه لا يجوز ؟

٢٠٥

بايعكم الشافعي ، فما عليكم مِن حجازي كلفة بعده ، فجئت يوماً فجلست إليه وأنا مِن أشدّ النّاس همّاً وغمّاً مِن سخط أمير المؤمِنين ، وزادي قد نفد .

قال : فلمّا أن جلست إليه ، أقبل محمّد بن الحسن يطعن على أهل دار الهجرة .

فقلت : على مِن تطعن ، على البلد أم على أهله ؟ والله لئن طعنت على أهله ، إنّما تطعن على أبي بكر وعمر والمهاجرين والأنصار ، وإن طعنت على البلدة ، فإنّها بلدتهم التي دعا لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبارك لهم في صاعهم ومُدِّهم ، وحرّمها كما حرّم إبراهيم مكّة لايقصد صيدها ، فعلى أيّهم تطعن ؟

فقال : معاذ الله أن أطعن على أحدٍ مِنهم أو على بلدته ، وإنّما أطعن على حُكْمٍ مِن أحكامه .

فقلت له : وما هو ؟

قال : اليمين مع الشاهد .

فقلت له : ولِمَ طعنت ؟

قال : فإنّه مخالف لكتاب الله .

فقلت له : فكلّ خبر يأتيك مخالفاً لكتاب الله أيسقط ؟

قال : فقال لي : كذا يجب .

فقلت له : ما تقول في الوصيّة للوالدين ؟ فتفكّر ساعة .

فقلت له : أجب ؟

فقال : لا يجوز .

قال : فقلت له : فهذا مخالف لكتاب الله ؟ لِمَ قلت إنّه لا يجوز ؟

٢٠٦

قال : فقال : لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا وصيّة للوالدين .

قال : فقلت له : أخبرني عن شاهدين حتم مِن الله لا غيره ؟

قال: فماذا تريد مِن ذا ؟

قال : فقلت له : لئن زعمت أنّ الشاهدين حتم مِن الله لا غيره ، كان ينبغي لك أن تقول إذا زنا زان فشهد عليه شاهدان ؛ إن كان محصناً رجمته وإن كان غير محصن جلدته .

قال : فإن قلت لك ليس هو حتم مِن الله ؟

قال : قلت له إذا لم يكن حتماً مِن الله فتنزل كلّ الأحكام مِنازله ، في الزنا أربعاً وفي غيره شاهدين ، وفي غيره رجلاً وامرأتين ، وإنّما أعني في القتل لا يجوز إلاّ شاهدين ، فلما رأيت قتلاً وقتلاً أعني بشهادة الزنا وأعني بشهادة القتل ، فكان هذا قتلاً وهذا قتلاً ، غير أنّ أحكامهما مختلفة ، فكذلك كلّ حكم تنزله حيث أنزله الله مِنها بأربع ، ومِنها بشاهدين ، ومِنها برجل وامرأتين ، ومِنها بشاهد واليمين ، فرأيتك تحكم بدون هذا .

قال : وما أحكم بدون هذا ؟

قال : فقلت له : ما تقول في الرجل والمرأة إذا اختلفا في متاع البيت ؟

فقال : أصحابي يقولون فيه ما كان للرجال فهو للرجال ، وما كان للنساء فهو للنساء .

قال : فقلت : أبكتاب الله هذا أم بسنّة رسول الله ؟

قال : فقلت له : فما تقول في الرجُلَيْن إذا اختلفا في الحائط ؟

فقال : في قول أصحابنا إذا لم يكن لهم بيّنة يُنظر إلى العقد مِن أين هو فأحكم لصاحبه .

قال : فقلت له : أبكتاب الله هذا أم بسنّة رسول الله ؟

٢٠٧

فقلت : ما تقول في رجلين بينهما خصومة فيختلفان ، لمِن تحكم إذا لم يكن لهم بيّنة ؟

قال : أنظر إلى معاقده مِن أيّ وجه هو فأحكم له .

قلت له : بكتاب الله تعالى قلتَ هذا أم بسنّة رسول الله ؟

قال : فقلت له : فما تقول في ولادة المرأة إذا لم يكن يحضرها إلاّ امرأة واحدة وهي القابلة ولم يكن غيرها ؟

قال : فقال : الشهادة جائزة بشهادة القابلة وحدها نقبلها .

قال : فقلت له : قلتَ هذا بكتاب الله أم بسنّة رسول الله ؟

قال : ثمّ قلت له : مِن كانت هذه أحكامه فلا يطعن على غيره .

قال : ثمّ قلت له : أَتَعْجب مِن حكْمٍ حكَمَ به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحكم به أبو بكر وعمر ، وحكم به عليّ بن أبي طالب بالعراق ، وقضى به شريح ؟

ورجل مِن ورائي يكتب ألفاظي وأنا لا أعلم .

قال : فأدخل على هارون وقرأه عليه .

قال فقال لي هرثمة بن أعين : كان متّكياً فاستوى جالساً وقال : اقرءه عليَّ ثانياً .

قال : فأنشأ هارون يقول : صدق الله ورسوله ، صدق الله ورسوله ، صدق الله ورسوله ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تعلّموا مِن قريش ولا تعلّموها ، قدّموا قريشاً ولا تؤخّروها ، ما أنكر أن يكون محمّد بن إدريس أعلم مِن محمّد بن الحسن )(١) .

_______________________

(١) طبقات الشافعية ٢ : ١٢٢ ـ ١٢٤ .

٢٠٨

وقد روى ياقوت الحموي هذه المِناظرة في ( معجم الأدباء ) وجاء في نقله أنْ قال الشافعي لمحمّد :

( وأمّا كتابك الذي ذكرت أنّك وضعته على أهل المدينة ، فكتابك مِن بعد بسم الله الرحمِن الرحيم خطأ إلى آخره ، قلت في شهادة القابلة كذا وكذا وهو خطأ ، وقلت في مسألة الحامل كذا وكذا وهو خطأ ، وقلت في مسألة كذا كذا وكذا وهو خطأ ، فاصفرّ محمّد بن الحسن ولم يُحِر جواباً )(١) .

وأورد الفخر الرازي هذه المِناظرة في ( رسالته ) في ترجيح مذهب الشافعي(٢) .

وحكى شاه وليّ الله طرفاً مِنها في رسالته ( الإنصاف) قال :

( مثاله ما بلغنا أنّه دخل ـ أي الشافعي ـ على محمّد بن الحسن وهو يطعن على أهل المدينة في قضائهم بالشاهد الواحد مع اليمين ويقول : هذا زيادة على كتاب الله .

فقال الشافعي : أثبت عندك إنّه لا تجوز الزيادة على كتاب الله بخبر الواحد ؟

قال : نعم .

قال : فلِمَ قلت إنّ الوصيّة للوارث لا تجوز لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا لا وصيّة لوارث وقد قال الله تعالى:( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ) الآية .

_______________________

(١) معجم الأدباء ٥ : ١٩٥ .

(٢) مِناقب الإمام الشافعي : ٨٨ ـ ٩١ .

٢٠٩

وأورد عليه أشياء مِن هذا القبيل فانقطع كلام محمّد بن الحسن )(١) .

وفي كتاب ( معدن اليواقيت الملتمعة في مِناقب الأئمّة الأربعة ) :

( قال الشافعي : لمّا حُبِستُ في دار العامّة ، ضاق قلبي في الحبس ، وكنت لا أرى أحداً أستأنس به إلاّ محمّد بن الحسن ، وكنت أميل إليه لفقهه ، وآمل أن يشفع لي عند السلطان ، فحضر يوماً وأقبل يذمّ المدينة ويضع مِن أهلها ويعظّم أصحابه ويرفع مِن أقدارهم ، وذكر أنّه وضع على أهل المدينة كتاباً ، وزعم أنّه لو وجد أحداً في الدنيا ينقض مِنه حرفاً أو يردّ عليه مِنه شيئاً ـ تبلّغني إليه الإبل ـ لسرت إليه وناظرته .

قال الشافعي : فرأيت وجوه أولاد المهاجرين والأنصار إنّها تسوّد لما سمعوا مِن ذمّ المدينة وأهلها ، ورأيت أصحاب محمّد بن الحسن وإنّ وجوههم لتشرق ببياض ممّا سمعا مِن مدح أصحابهم قال : فبقيت بين أمرين : بين أن أُجيب عن كلامه وأُبيّض وجوه أولاد المهاجرين والأنصار ويزداد به علَيَّ غضب السلطان ، وبين أن أسكت عن ذلك رجاء أن يكون محمد بن الحسن شفيعاً لي عند السلطان ، فاخترت رضا الله عزّ وجلّ في ذلك الموضع ، فجثوت بين يديه ثمّ قلت :

يا أبا عبد الله ! أراك أصبحت تهجو المدينة وتذمّ أهلها ، فإن كنت أردتها ، فإنّها حرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودار هجرته ، وبها نزل الوحي ، ومِنها خلق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبه طابت ، وبها روضة مِن رياض الجنّة ، وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : المدينة لا يدخلها الدّجال والطاعون ، والمدينة على كلّ ثقب مِن أثقابها مَلَك شاهر سيفه ولئن كنت أردت أهلها ،

_______________________

(١) الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف : ٤١ ـ ٤٢ .

٢١٠

فهم أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصهاره وأنصاره الذين مَهَّدوا الإيمان وحفظوا الوحي وجمعوا السُنن وإن كنت أردت مَن بعدهم فهم أبناؤهم والتابعون بعدهم ، وهم الأخيار مِن هذه الأمّة ولئن كنت أردت مِن القوم رجلاً واحداً وهو مالك بن أنس فما عليك لو سمّيت مَن أردت ، ولم تذكر المدينة كما ذكرت .

فقال : ما أردت إلاّ مالك بن أنس .

قال : فقلت : قد نظرت في كتابك هذا ، فإذا ـ بعد بسم الله الرحمن الرحيم ـ خطأ كلّه .

قال : فما ذاك ؟

قلت له : قلتَ فيه : قال أهل المدينة ولست تخلو في قولك قال أهل المدينة : مِن أن يكون أردت جميع علماء أهل المدينة ، أو تكون أردت بقولك قال أهل المدينة مالك بن أنس وأردت انفراده ؛ فإن كنت أردت بقولك قال أهل المدينة جميع أهل المدينة فقد أخطأت ؛ لأنّ علماء أهل المدينة لم يقفوا على ما حكيت عنهم ، وإن كنت أردت به مالك بن أنس على انفراده وجعلته أهل المدينة ، فقد أخطأت ؛ لأنّ بالمدينة مِن علمائها مَن يرى استتابة مالك فيما خالفه فيه ، فأيّ الأمرين قصدت له فقد أخطأت .

قال : قصدت ذمّ القائلين بالشاهد مع اليمين ؛ لأنّهم قالوا بخلاف كتاب الله عزّ وجلّ .

قال : فقلت له : وأين خالف الكتاب ؟

فقال : قال الله تعالى :( وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ) وقال سبحانه :( ذَوَيْ عَدْلٍ مِنكُمْ ) ، فقالوا : شاهداً واحداً .

٢١١

فقال : فقلت له : أخبرني عن قوله عزّ وجلّ :( وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ) أحتم ، ولا يجوز أقلّ مِن شاهدين أم ذلك ليس بحَتْم ؟

قال : بل هو حتم ، ولا يجوز أقلّ مِن شاهدين .

فقلت : إن كان ما قلت كما قلت ، فقد خالفت أنت وصاحبك الكتاب .

قال : وأين خالفنا الكتاب ؟

فقلت له : ما تقول في شهادة القابلة وحدها على انفرادا على الولادة ؟

فقال : شهادتها وحدها جائزة .

فقلت له : قد أجزت شهادة امرأة واحدة لا شاهد معها ، قد خالفت الكتاب .

وقلت في رجلين تداعيا جداراً ولا بيّنة لهما : إنّ الجدار مَن يليه أنصاف اللبن ومعاقد القمط .

وقلت في متاع البيت يدّعيه الزوجان : ما كان يصلح للرجال فهو للرجل ، وما كان يصلح للنساء فهو للمرأة .

وقلت في الزقوق إذا ادّعاها صاحب الحانوت وساكنه : إن كانت منفصلة غير مستمرّة فهي للساكن ، وإن كانت متّصلة مستمرّة فهي لربّ الحانوت .

فقضيت للمدّعي في هذه الصور بغير بيّنة ولا يمين ، ثمّ أنكرت علينا الشاهد واليمين وهو سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقول عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه ، وقول الحكّام عندنا بالحجاز ، وأنت تقول هذا برأيك وتردّ علينا السُنّة .

قال : وذكرت أشياء ممّا خالفنا وترك السُنن وقلت له : خالفت أنت في كتابك هذا في سبعين موضعاً كتاب الله تعالى على قولك ، ثمّ حكيتها له قولاً

٢١٢

قولاً ، مِنها كذا ومِنها كذا .

قال : فتغيّر وجه محمّد بن الحسن وانقطع ، فتبيّن لأهل المجلس ذلك وأسرّ به أكثر مَن حَضَرَنا مِن أهل الحجاز ، وابيضّت وجوه أولاد المهاجرين والأنصار بما سمعوا في دار الهجرة مِن نصرة الحقّ ، وكان على الدار يومئذ هرثمة ، فكتب الخبر وبعث به إلى هارون .

قال الشافعي : وتوقّعت البلاء ، فلمّا قُرىء الخبر على هارون الرشيد قال : وما ينكر لرجل مِن بني عبد مناف أن يقطع محمّد بن الحسن .

قال : فبعث إليّ هارون الرشيد بألف دينار ، وبعث إليّ المأمون بخمسمائة دينار وقال : أحبّ أن تجعل انقطاعك إليّ .

قال : فجاءني هرثمة وأخبرني برضا أمير المؤمِنين ، وأقرأ علَيَّ مِنه السلام ووضع المال الذي أمر به هارون بين يديّ ثمّ قال : لولا أنّ الخليفة لايُساوى ؛ لأمرت لك بمثلها وقد أمرت لك بأربعمائة دينار .

قال الشافعي : جزاك الله عنّا خيراً ، لولا أنّي لا أقبل جائزة إلاّ لمَن هو فوقي لقبلت جائزتك .

فردّ الشافعي جائزة هرثمة وقبل جائزة هارون الرشيد ، ثمّ جعل يصرّه صرّة فيُقسّمه في أهل مكّة والقرشيّين الذين بالحضرة، فما انصرف إلى منزله إلاّ بأقلّ مِن مائة ) .

وقال الرازي في تلك الرسالة :

( المسألة السادسة : قال الشافعي : قلت لمحمّد بن الحسن : زعمتم أنّه لا يجوز أن يدعو الرجل في صلاته إلاّ بما في القرآن إمّا مجملاً وإمّا مفصّلاً ، ثمّ رأينا أنّ طلب جميع الخيرات في الدنيا والآخرة والإستعاذة مِن جميع شرور

٢١٣

الدنيا والآخرة مذكورة في لقرآن ، فما معنى قولكم لا يدعو الرجل إلاّ بما في القرآن ؟ ألا ترى أنّ إبراهيمعليه‌السلام قال :( وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ ) وقال :( وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِن الثَّمَرَاتِ مَن آمَنَ مِنهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) فطلب خيرات الدنيا والآخرة ، وقال موسىعليه‌السلام :( رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ ) وقال زكريّاعليه‌السلام :( فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً ) وقال سليمانعليه‌السلام :( هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنبَغِي لأَحَدٍ مِن بَعْدِي ) وقال نوحعليه‌السلام لقومه :( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً ) وقال تعالى :( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِن النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِن الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ) وقال تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ ) الآية .

فقال الشافعي : لو أنّ الرجل قال : اللهمّ هب لي خيلاً أركبها وفاكهة آكلها وامرأة أتزوّج بها ، فكلّ ذلك مذكور في القرآن ، فما معنى قولكم لا يجوز أن يدعو إلاّ بما في القرآن ؟

قال : فسكت محمّد ولم يذكر جواباً .

قلت : والذي يؤكّد هذا الكلام ، أنّهم جوّزوا قراءة الفاتحة بالفارسيّة وقالوا : المقصود هو المعنى وذلك لايختلف فكذا ههناك ، المقصود مِن الدعاء طلب هذه الأشياء ولا يتفاوت ذلك بأن يذكر بالعربية أو بالفارسية وكذا ههنا المقصود مِن ههنا طلب هذه الأشياء ، طلب أعيانها ومنافعها ، وإذا كانت بأسرها مذكورة في قوله تعالى :( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً

٢١٤

وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) فالقول بأنّ طلب هذه الأشياء لا يجوز مع القول بجواز قراءة الفاتحة بالمعنى كالمتناقض .

ثمّ قال الشافعي : وقد دعا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقوم وسمّاهم بأسمائهم ونسبهم إلى قبائلهم ، وهذا كلّه يدلّ على أنّ المحرّم مِن الكلام إنّما هو كلام الناس بعضهم بعضاً في حوائجهم ، فأمّا إذا دعا ربّه وسأله حاجته فهذا لا أعلم أحداً مِن أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اختلف فيه ، وقد صحّ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : وأمّا السجود فاجتهدوا فيه مِن الدعاء ، فإنّه قمن أن يستجاب لكم ولم يخصّ رسول الله دعاءً دون دعاء )(١) .

وفيها أيضاً :

( المسألة الخامسة : روى الربيع أنّه جرت مِناظرة بين الشافعي وبين محمّد بن الحسن في باب الماء ، فقال : زعمت أنّ فارةً إن وقعت في بئر فماتت ، نزح مِنها عشرون دلواً ويطهر البئر ، أرأيت شيئاً قط ينجس كلّه فيخرج بعضه فتذهب النجاسة عن الباقي ؟

فقال : إنّما أخذنا بهذا المذهب لورود الأثر فيه قلنا : ههنا تركتم هذا القياس اليقيني بسبب هذا الأثر ، ثم تركتم النصّ الصريح في مسألة المصراة بسبب قياس ضعيفٍ ! وذلك عجيبٌ جدّاً حيث يُترك القياس اليقيني بسبب أثر ضعيف اتّفق المحدّثون على ضعفه ، ويترك النصّ الصريح الذي أجمع المحدّثون على صحّته بسبب قياس ضعيف .

ثمّ قال الشافعي لمحمّد بن الحسن : وزعمت أنّك إذا أدخلت يدك في

_______________________

(١) مناقب الإمام الشافعي : ٢٧٦ ـ ٢٧٨ .

٢١٥

بئر لتتوضّأ بها ، إنّ ماء البئر ينجس كلّه ولا يطهر البئر حتّى ينزح الماء بالكليّة ، وإنْ سقطت فيه نجاسة ميتة ، طَهُرَ بعشرين دلواً أو ثلاثين دلواً ، فهل يعقل أنْ يقال إنّ البئر ينجس بدخول اليد التي لا نجاسة عليها أكثر ممّا ينجس بسبب وقوع النجاسة فيه؟

قلت : والإلزام أظهر فيما إذا فرضنا أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان محدثاً ، فأدخل يده المباركة في البئر أنه ينجس ماء البئر عندهم بالكليّة ، ولا يطهر إلاّ بأن ينزح الماء بالكليّة ، وتمام التقرير معلوم )(١) .

وفيها أيضاً :

( المسألة الثانية عشرة : رُوي أنّ محمّد بن الحسن قال للشافعي يوماً : بلغني أنّك تخالفنا في مسائل الغصب .

قال الشافعي : فقلت له : أصلحك الله ، إنّما هو شيء أتكلّم به في المناظرة .

قال : فناظرني.

قلت : إنّي أُجلّك عن المناظرة .

فقال : لا بدّ مِنه .

ثم قال : ما تقول في رجل غصب ساجةً ، وبنى عليها جداراً وأنفق عليه ألف دينار ، فجاء صاحب الساجة وأقام شاهدين على أنّها ملكه ؟

فقال الشافعي : قلت : أقول لصاحب الساجة ترضى أن نأّخذ قيمتها ؟ فإن رضي وإلاّ قلعت البناء ودفعت ساجته إليه .

قال محمّد بن الحسن : فما تقول في رجل غصب لوحاً مِن خشب

_______________________

(١) مناقب الإمام الشافعي : ٢٧٥ ـ ٢٧٦ .

٢١٦

فأدخله في سفينة ، ووصلت السفينة إلى لجّة البحر ، فأتى صاحب اللّوح بشاهدين عدلين أنّها ملكه ، أكنت تنزع اللّوح مِن السفينة ؟

قلت : لا .

قال : الله أكبر ، تركت قولك .

ثمّ قال : ما تقول في رجل غصب خيطاً مِن إبريسم ، فمُزّق بطنه وخاط بذلك الإبريسم تلك الجراحة ، فجاء صاحب الخيط بشاهدين عدلين أنّ هذا الخيط مغصوب مِنه ، أكنت تنزع الخيط مِن بطنه ؟

قلت : لا .

قال : الله أكبر تركت قولك وقال أصحابه : تركت قولك .

قال الشافعي : فقلت : لا تعجلوا ، أرأيت لو كان اللّوح لوح نفسه ، ثمّ أراد أن ينزع ذلك اللّوح مِن السفينة حال كونها في لجّة البحر ، أيباح له ذلك أم محرّم ؟

قال : بل يحرم .

قلت : أفرأيت لو كان الخيط خيط نفسه ، وأراد أن ينزعه مِن بطنه ويقتل نفسه ، أمباح له ذلك أم محرّم ؟

قال : بل محرّم .

قلت : أرأيت لو جاء مالك الساجة وأراد أن يهدم البناء وينزعها ، أمحرّم له ذلك أم مباح ؟

قال : بل مباح .

قال الشافعي : يرحمك الله ، فكيف تقيس مباحاً على محرّم ؟!

فقال محمّد : فكيف تصنع بصاحب السفينة ؟

٢١٧

فقلت له : آمره أن يُسَيّرها إلى أقرب السواحل ، ثمّ أقول له : انزع اللّوح وادفعه إليه .

فقال محمّد بن الحسن : قد قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :لا ضرر ولا ضرار في الإسلام .

قال الشافعي : ومَن ضرّه ؟ هو الذي ضرّ نفسه .

ثمّ قال الشافعي : ما تقول في رجل مِن الأشراف غصب جارية لرجل مِن الزنج في غاية الرذالة ، ثمّ أولدها عشرة كلّهم قضاة سادات أشراف خطباء ، فأتى صاحب الجارية بشاهدين عدلين على أنّ هذه الجارية التي هي أُمّ هؤلاء الأولاد كانت مملوكة له ، ماذا تعمل ؟

فقال محمّد بن الحسن : أحكم بأنّ أولئك الأولاد مماليك لذلك الرجل .

فقال الشافعي : فقلت : أنشدك الله ، أيّ هذين أعظم ضرراً ، أن تقلع الساجة وتردّها إلى مالكها ، أو تحكم بردّ الجارية إلى مولاها وتحكم برقّ هؤلاء الأولاد ؟

فانقطع محمّد بن الحسن )(١) .

وفيها أيضاً :

( المسألة الثالثة عشرة : قال محمّد بن الحسن للشافعي في مسألة العارية : أنتم لا تعرفون معنى حديث صفوان ، وذلك لأنّ العارية هناك إنّما صارت مضمونة ؛ لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : عارية مضمونة .

قال الشافعي : فقلت : مَن استعار الساعة عارية وبشرط أن يضمنها ، هل يضمن ؟

قال محمّد : لا .

_______________________

(١) مناقب الإمام الشافعي : ٢٨٤ ـ ٢٨٦ .

٢١٨

قال الشافعي : فقلت : إنّما أنت تسخر مِن هؤلاء الذين عندك وفي رواية أخرى : ما تقول في الشيء الذي لا يكون مضموناً لو ضمنه هل يصير مضموناً عليه قال محمد : لا قال الشافعي : فقلت له : إنّما تخدع هؤلاء ! والحاصل أنّ ما لا يكون مضموناً في الأصل لا يصير مضموناً بشرط الضمان ، كالوديعة وغيرها مِن الأمانات )(١) .

وفيها أيضاً :

( وحكى الشافعي عن أبي يوسف أنّه قال لأرمينّ الليلة أهل المدينة بقاصمة الظهر في اليمين والشاهد ، فقال رجل : وماذا تقول ؟

قال أبو يوسف : أتمسّك بقوله تعالى : ( وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ) .

فقال الرجل : لو سألوك عن الشاهدين اللذين أمر الله تعلى بقبول شهادتهما ؟

فقال أبو يوسف : هما عدلان مسلمان .

قال الشافعي : فقلت : لو قالوا لكم فأجزت شهادة أهل الذمّة في الحقوق وقد قال الله تعالى :( مِن رِّجَالِكُمْ ) وقال :( مِمَّن تَرْضَوْنَ مِن الشُّهَدَاء ) ؟

قال : فتفكّر ساعة ثمّ قال : هم في الحماقة أشدّ مِن أن يهتدوا إلى ذلك .

فقلت : أنت إنّما تحتجّ على ضعفاء الناس )(٢) .

أقول :

فهذه موارد مِن ردود الشافعي على فتاوى أبي حنيفة ، ونماذج مِن

_______________________

(١) مناقب الإمام الشافعي : ٢٨٦ ـ ٢٨٧ .

(٢) مناقب الإمام الشافعي : ٢٩٣ .

٢١٩

مناظراته مع تلامذته... ومَن أراد التوسّع في هذا الباب فليرجع إلى ( كتاب الردّ على محمّد بن الحسن ) مِن مصنّفات الشافعي ، كما ذكروه له بتراجمه كما في ( معجم الأدباء ) وغيره .

الغزالي وأبو حنيفة

ومِن الأعلام الذين ردّوا وشنّعوا على أبي حنيفة في فقهه وفتاواه هو : أبو حامد الغزالي ، الذي يكفي في الوقوف على مقامه ومعرفة شأنه ومنزلته عند القوم : مباهاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به ، فيما رواه الدميري في ( حياة الحيوان ) بالسند الصحيح عن الشيخ الإمام العارف بالله أبي الحسن الشاذلي أنّه قال : ( رأيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام وقد باهى موسى وعيسى : في أُمّتكما حبر هكذا ـ وأشار إلى الغزالي ـ .

وقال الشيخ الإمام العارف بالله الأستاذ ركن الشريعة والحقيقة أبو العبّاس المرسي ـ وقد ذكر الغزالي فشهد له بالصدّيقيّة العظمى ـ : وحسبك مَن باهى النبيّ به موسى وعيسى ، وشهد له الصدّيقون بالصدّيقيّة العظمى )(١) .

فمِن ذلك قوله في ( المنخول ) في كتاب الفتوى :

( الفصل الرابع : في التنصيص على مشاهير المجتهدين مِن الصحابة والتابعين وغيرهم ، ولا خفاء بأمر الخلفاء الراشدين، إذ لا يصلح للإمامة إلاّ مُفْت ، وكذا كلّ مَن أفتى في زمنهم ، كالعبادلة وزيد بن ثابت ، ومعاوية قلّده الشافعي في مسألة ، وأصحاب الشورى قيل إنّهم كانوا مفتين ؛ لأنّ عمر جعل الأمر فيما بينهم ، فدلّ على صلاح كلّ واحد له .

_______________________

(١) حياة الحيوان للدميري ١ : ٣٧٠ .

٢٢٠