استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٣

استخراج المرام من استقصاء الإفحام0%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 478

استخراج المرام من استقصاء الإفحام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد علي الحسيني الميلاني
تصنيف: الصفحات: 478
المشاهدات: 243795
تحميل: 6837


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 478 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 243795 / تحميل: 6837
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء 3

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الأمر إشارة للإجماع ثم قال :( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ ) إشارة إلى القياس .

فالله تعالى أخبر عن جميع الدلائل ، وجعل جواز التمسّك به مشروطاً بعدم وجدان سائر الدلائل على ما بيّنّا ذلك في كتاب التفسير الكبير ، وهذا يدلّ على أنّ أصحاب الحديث أعلى شأناً مِن أصحاب الرأي .

ويقرب مِنه قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن : بِمَ تحكم ؟ قال : بكتاب الله قال : فإن لم تجد ؟ قال : بسنّة رسول الله قال : فإن لم تجد ؟ قال : أجتهد برأيي فقال : الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله لما يرتضيه رسول الله .

والاستدلال به عين ما تقدّم .

ـ وأمّا الأخبار والأحاديث الكثيرة فناطقة بذلك :

أحدها : ما روي عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مَن قال في ديننا برأيه فاقتلوه .

وثانيها : ما روي أنّ عمر قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله لا ينزع العلم انتزاعاً مِن أهله ولكن ينزعه بقبض العلماء ، فإذا لم يبق عالم اتّخذ الناس رؤساء جهّالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا .

وجه الاستدلال به أنّ الفتوى بغير علم هي الجواب بالرأي .

وثالثها : ما روى عوف بن مالك قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تفترق أُمّتي على بضع وسبعين فرقة ، أعظمها فتنة على أُمّتي قوم يفتون الناس برأيهم .

ورابعها : روى أبو هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : يعمل

٣٠١

هذه الأُمّة برهة بالرأي ، فإذا فعلوا ذلك فقد ضلّوا .

وخامسها : روى جابر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : مَن تكلّم في الدين برأيه فقد اتّهمني .

ـ وأمّا الآثار فكثير مِنها ناطق بذلك :

قال عمر بن الخطّاب : اتّهموا الرأي في الدين ، فإنّ الرأي المأخوذ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما كان صواباً؛ لأنّ الله تعالى كان يريه إيّاه ، ودعُوا ما تُكلّف وظُنّ ، فإنّ الظنّ لا يغني مِن الحقّ شيئاً .

وعنه : إيّاكم ومجالسة أصحاب الرأي فإنّهم أعداء الدين ، قالوا برأيهم فضلّوا وأضلّوا كثيراً .

وقال ابن عبّاس : إيّاكم والرأي ، فإنّ الله تعالى ردّ الرأي على الملائكة إذ قالوا :( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ) قال تعالى :( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) يعني لا اطّلاع لكم على أسرار أفعالي وأحكامي ، فاتركوا الأقيسة .

وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ ) ولم يقل بما رأيت .

وسُئل عن نبيّ فقال : لا أدري ، فقال الرجل : قل فيها برأيك فقال : إنّي أخاف أن أقول برأيي فتزلّ قدم بعد ثبوتها .

وقال ابن مسعود : يذهب خياركم ولا تجدون مِنهم خلفاً ، ثمّ يجيء قوم يفتّشون الأُمور برأيهم فينهدم الإسلام .

وعن عمر بن عبد العزيز ، إنّه كتب إلى النّاس لا رأي لأحد مع سنّة سنّها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وكان الشعبي يقول في أصحاب الرأي : ما قالوا برأيهم فبُل عليه ، وما

٣٠٢

حدّثوك عمّن كان قبلهم مِن أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخذ به .

وروي : أنّ أبا سَلَمة بن عبد الرحمن والحسين البصري التقيا ، فقال أبو سَلَمة : يا حسين ! قيل لي أنّك تحدّث النّاس برأيك، اتّق الله واتّق رأيك .

وعن جعفر الصادق ابن محمّد الباقر أنّه قال : مَن وُكّل إلى نفسه أخذ برأيه .

وقد روي : مَن أخذ برأيه وُكّل إلى نفسه .

وعن الحسن البصري : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنّ المؤمِن مَن أخذ دينه عن الله تعالى ، وإنّ المنافق يصيب رأياً فيأخذ دينه عنه .

وقال ابن المبارك : أخبرنا هشام بن عروة عن أبيه قال : ما زال أمر بني إسرائيل مستقيماً حتّى كثرت فيهم أبناء السبايا ، فوضعوا فيهم الرأي فأهلكوهم .

وقال الليث بن سعد : جئت ابن شهاب يوماً بشيء مِن الرأي ، فقبض وجهه كالكاره ، ثمّ جئته يوماً آخر بأحاديث مِن السنن فتهلّل وجهه وقال : إذا جئتني ائتني بهذا .

وقال الشعبي : إنّما هلكتم لأنّكم تركتم الآثار وأخذتم بالمقاييس .

وقال ابن سيرين : أوّل مَن قاس إبليس ، وما عُبدَتْ الشمس والقمر إلاّ بالمقاييس .

وقال أيضاً : ما حدّثوك مِن أصحاب محمّد فاقبله ، وما حدّثوك عن رأيهم فألقه في الحش .

وكان الثوري يقول : مَن قال برأيه فقل رأيي مثل رأيكم ، إنّما العلم بالآثار .

٣٠٣

وذُكر عند عبد الرحمن بن مهدي قوم مِن أهل البدع ، فقال : لا يقبل الله إلاّ ما كان مبنيّاً عل الأثر والسنّة ، ثم قرأ :( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ) .

واعلم : إنّ أقوال الصحابة والتابعين في ذمّ الرأي كثيرة ، ولنكتف بهذا القدر مِن الروايات ، ونحن ننقلها مِن كتاب الانتصار لأصحاب الحديث ، مِن تصانيف الشيخ أبي المظفّر السمعاني .

فإن قيل : هذه الروايات معارضة بروايات أُخر عن الصحابة ، تدلّ على أنّهم كانوا قائلين بالرأي:

قال أبو بكر الصدّيق : أقول في الكلالة برأيي .

وقال ابن مسعود في المفوّضة : أقول فيها برأيي

والجواب : إنّ الصدّيق إنّما قال في الكلالة برأيه ثمّ قال بعده : فإن يك صواباً فمِن الله ، وإن يك خطأ فمنّي ومِن الشيطان ، وهذا يدلّ على أنّه كان كالخائف مِن الرأي .

ونحن نفرّق بين هذه الروايات فنقول : الروايات التي ذكرناها تدلّ على أنّه يجب الحذر عن الرأي ، والتي ذكرتموها تدلّ على أنّه يجوز استعمال الرأي عند الضرورة الشديدة ، بشرط الحذر والاحتراز عن مخالفة النصوص ، وعلى جميع التقديرات ، فإنّه يخرج مِنه أنّ كون الإنسان صاحباً للحديث خير مِن أن يكون صاحب الرأي .

ـ وأمّا الوجوه العقليّة في بيان تقديم النصّ على القياس والرأي ، فكثيرة :

أحدها : إنّ التمسّك بالنصّ محمود عند جميع الطوائف ، وأمّا التمسّك بالقياس فمذموم عند البعض دون البعض ، والشيء الذي يكون محموداً عند

٣٠٤

الكلّ خير مِن الذي أقصى درجاته أن لا يكون مذموماً .

وثانيها : أنّ الحديث أصل والرأي فرع ، والأصل خير مِن الفرع وأيضاً الحديث بمنزلة الماء في الطهارات والرأي بمِنزلة التراب ، فكما كان الماء مقدّماً على التراب في طهوريّة الظواهر ، كان الحديث مقدّماً على الرأي في طهوريّة البواطن ، ومَثلُ مَن قدّم الرأي على الحديث كمَثَل مَن قدّم التراب على الماء .

وثالثها : قال بعض العلماء : الماء نوعان : ما نزل مِن السماء وما نبع مِن الأرض ؛ فالماء النازل مِن السماء يكون في طعم واحد مِن اللذة والطيب ، وعلى لون واحد مِن الصفاء والنقاء ، وجوهر واحد في الطهارة والنظافة ، فكذا العلم النازل مِن السماء يكون طاهراً نقيّاً عن شوائب الشُبُهات وممازجة الكدورات والظلمات .

وأمّا الذي نبع مِن الأرض فإنّه يختلف لونه وطعمه ورائحته وطبعه بحسب اختلاف المعادن ، تارة يكون طيّباً وتارة يكون مُنتناً ، وتارة يكون لطيفاً وأُخرى يكون كثيفاً ، وكذا العلم الذي يظهر مِن القياس والرأي ، تارة يكون فاسداً باطلاً وتارة يكون نافعاً ، لكن كيف كان فإنّ النفع فيه قليل ) .

وكان غرض الرازي مِن كلّ ذلك ذمّ الحنفيّة وتقديم الشافعيّة ؛ لأنّه قد قال مِن قبل :

( إعلم أنّ أتباع الشافعي ملقّبون عند جمهور الخَلَف بأنّهم أصحاب الحديث ، وأتباع أبي حنيفة ملقّبون عند جمهور الخَلَف بأنّهم أصحاب الرأي ؛ وذلك يوجب رجحان مذهب الشافعي .

بيان المقام الأوّل مِن وجوه ، الأوّل : إنّ جميع الفِرَق لو حضروا في

٣٠٥

محفل واحد ، ثمّ قام إنسان وذكر أصحاب الحديث بمدح أو بذمّ ، فإنّه يتسارع إلى فهم كلّ أحد أنّ المراد بذلك الكلام أصحاب الشافعي ، وذلك يدلّ على اتّفاق الكلّ على أنّهم هم المختصّون بهذا اللقب ، وأمّا أصحاب أبي حنيفة فإنّهم المختصّون بأنّهم أصحاب الرأي ، والدليل عليه ماذكرناه بعينه .

ثمّ نقول : إنّهم معترفون بأنّهم هم المخصوصون بهذا اللقب بل يفتخرون به .

وبيان أنّ الأمر كذلك كالمعلوم بالضرورة فلا حاجة فيه إلى الاستدلال ) .

وذكر الرازي في بيان عدم صدق لقب أصحاب الحديث على الحنفيّة :

( أمّا أصحاب أبي حنيفة ، فهم في غاية البعد عن هذا اللقب ؛ لأنّهم لمّا كان مذهبهم أنّ القياس مقدّم على الخبر ، فكيف يليق بهم هذا اللقب ، لقولهم إنّا نقبل المراسيل والمجاهيل ، بل نقول هذا الكلام بالعكس أولى ؛ لأنّ صاحب الشيء هو الذي يكون مشفقاً عليه كثير الاجتهاد في صلاحه ، والمشفق على الأخبار النبويّة هو الراغب في صَوْنها عن الآفات والأخطار ، فإنّ الشافعي إنّما لم يقبل المراسيل والمجاهيل لغاية حرصه على صَوْن الأخبار عن الأكاذيب ، وذلك مِن أدلّ الدلائل على أنّه بهذا اللقب الشريف أولى .

والعجب أنّ أبا حنيفة قَبِل روايات المجاهيل وقَبِل المراسيل ثمّ قال : لا أقبل الحديث الصحيح إذا كان مخالفاً للقياس ، ولا أقبل الحديث الصحيح في الواقعة التي يعمّ بها البلوى ، ولا أقبل الحديث الصحيح الذي يكون راوي الفرع قاطعاً بصحّته وراوي الأصل غير حافظ للرواية عنه .

فليت شعري ـ إذن ـ أكان هذا الخبر أولى أم خبر مجهول لا يعرف حاله ولا صفته ) .

٣٠٦

كلام ابن الجوزي في ذمّ القياس

هذا ، وقد ذكر ابن الجوزي تلبيس إبليس على الفقهاء بالأخذ بالقياس وغيره ، حيث قال في كلامٍ طويل :

( ذكر تلبيسه على الفقهاء : كان الفقهاء في قديم الزمان هم أهل القرآن والحديث ، فما زال الأمر يتناقص حتّى قال المتأخّرون : يكفينا أن نعرف آيات الأحكام مِن القرآن ، وأن نعتمد على الكتب المشهورة في الحديث كسُنن أبي داود ونحوها ، ثمّ أهْوَنوا بهذا الأمر أيضاً وصار أحدهم يحتجّ بآية لا يعرف معناها وبحديث لا يدري أصحيح هو أم لا ، وربّما اعتمد على قياس يعارضه حديث صحيح ولا يعلم ، وإنّما الفقه استخراج مِن الكتاب والسنّة فكيف يستخرج مِن شيء لا يعرف ، ومِن القبيح تعليق حكم على حديث لا يدرى أصحيح هو أم لا ؟

ولقد كانت معرفة هذا تصعب ، ويحتاج الإنسان إلى السفر الطويل والتعب الكثير حتّى يعرف ، فيصنّف الكتب ويقرّر السُنن ويعرف الصحيح مِن السقيم ، ولكن غلب المتأخرين الكسلُ بمرّة عن أن يطالعوا علم الحديث .

حتّى إنّني رأيت بعض الأكابر مِن الفقهاء يقول في تصنيفه عن ألفاظ الصحاح : لا يجوز أن يكون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال هذا ، ورأيته يحتجّ في مسألة فيقول : دليلنا : ما روى بعضهم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال كذا ، ويجعل الجواب عن حديث صحيح قد احتجّ به خصمه أن يقول : هذا الحديث لا يُعرف .

وهذا كلّه خيانة على الإسلام .

٣٠٧

ومِن تلبيس إبليس على الفقهاء : أنّ جلّ اعتمادهم على تحصيل علم الجدل يطلبون بزعمهم تصحيح الدليل على الحكم والاستنباط لدقائق الشرع وعِلَل المذاهب ، ولو صحّت هذه الدعوى منهم لتشاغلوا بجميع المسائل ، وإنّما يتشاغلون بالمسائل الكبار ليتّسع فيها الكلام ، فيقدّم المناظر بذلك عند الناس في خصام النظر فيهم أحدهم بترتيب المجادلة والتفتيش عن المِناقضات طلباً للمفاخرة والمباهلة ، وربّما لم يعرف الحُكم في مسألة صغيرة يعمّ بها البلوى .

ومِن تلبيسه عليهم : إدخالهم في الجدل كلامَ الفلاسفة ، واعتمادهم على تلك الأوضاع .

ومِن ذلك : إيثارهم للقياس على الحديث المستدلّ به في المسألة ؛ ليتّسع لهم المجال في النظر ، وإن استدلّ أحدهم بالحديث هُجن ، ومِن الأدب تقديم الاستدلال بالحديث .

ومِن ذلك : أنّهم جعلوه جلّ اشتغالهم ولم يمزجوه بما يرقّق القلوب مِن قراءة القرآن وسماع الحديث وسيرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ، ومعلوم أنّ القلوب لا تخشع بتكرار إزالة النجاسة والماء المتغيّر ، وهي محتاجة إلى التذكار والمواعظ لتنهض لطلب الآخرة ، ومسائل الخلاف وإن كانت في علوم الشرع إلاّ أنّها لا تنهض بكلّ المطلوب ، ومَن لم يطّلع على أسرار سِيَر السَلَف وحال الذي تمذهب له ، لم يمكنه سلوك طريقهم .

وينبغي أن يعلم أنّ الطبع لصّ ، فإذا ترك مع أهل هذا الزمان سرق مِن طباعهم فصار مثهلم ، وإذا نظر في سِيَر القدماء فزاحمهم وتأدّب بأخلاقهم وقد كان بعض السَلَف يقول : حديث يرقّ له قلبي أحبّ إليّ مِن مائة قضيّة مِن

٣٠٨

قضايا شُريح ، وإنّما قال هذا ، لأنّ رقّة القلب مقصودة ولها أسباب .

ومِن ذلك : أنّهم اقتصروا على علم المناظرة ، وأعرضوا عن حفظ المذهب وباقي علوم الشرع ، فترى الفقيه المفتي يُسأل عن آية أو حديث لا يدري ، وهذا عين التقصير ، فأين الفقه مِن التقصير .

ومِن ذلك : أنّ المجادلة إنّما وُضعت لتبيين الصواب ، وقد كان مقصود السَلَف المناصحة بإظهار الحق ، وقد كانوا ينتقلون مِن دليل إلى دليل ، وإذا خفيَ على أحدهم شيء نبّهه الآخر ؛ لأنّ المقصود كان إظهار الحقّ ، فصار هؤلاء إذا قاس الفقيه على أصل لفقيه بعلّة يظنّها فقيل له : ما الدليل على أنّ الحكم في الأصل معلّل بهذه العلّة ؟ فقال : هذا الذي يظهر لي ، فإن ظهر لكم ما هو أولى مِن ذلك فاذكروه قال المعترض : لايلزمني ذلك ، ولقد صدق في أنّه لا يلزمه ، ولكن فيما ابتدع مِن الجدل ، بل في باب النصح وإظهار الحقّ يلزمه .

ومِن ذلك : أنّ أحدهم يتبيّن له الصواب مع خصمه ولا يرجع ويضيق صدره كيف ظهر الحقّ مع خصمه ، وربّما اجتهد في ردّه مع علمه أنّه الحقّ ، وهذا مِن أقبح القبيح ؛ لأنّ المِناظرة إنّما وُضعت لبيان الحقّ ، وقد قال الشافعي : ما ناظرتُ أحداً فباليتُ مع مَن كانت الحجّة ؛ إن كانت معه صِرتُ إليه .

ومِن ذلك : إنّ طلبهم الرياسة بالمِناظرة يثير الكامن في النفس مِن حبّ الرياسة ، فإذا رأى أحدهم في كلامه ضعفاً يوجب قَهْرَ خصمه له خرج إلى المكابرة ، وإن رأى خصمه قد استطال عليه بلفظةٍ ظهرت حميّة الكِبر ، فقابل ذلك بالسبّ ، فصارت المجادلة مجالدة .

٣٠٩

ومِن ذلك : ترخّصهم في الغيبة بحجّة الحكاية عن المناظر ، فيقول أحدهم : تكلّمت مع فلان فما قال شيئاً ، ويتكلّم بما يوجب التشفّي مِن غرض خصمه بتلك الحجّة .

ومِن ذلك : أنّ إبليس لبّس عليهم بأنّ الفقه هو وحده علم الشرع ليس ثَمّ غيره ، فإن ذُكِر لهم محدّث قالوا : ذاك لا يفهم شيئاً، وينسون أنّ الحديث هو الأصل ، فإن ذُكر لهم كلام يَلين به القلب قالوا : ذا كلام الوعّاظ .

ومِن ذلك : إقدامهم على الفتوى وما بلغوا مرتبتها ، وربّما أفتوا بالمخالف للمنصوص ، ولو توقّفوا في المشكلات كان أولى ، وفي الحديث مرفوعاً إلى عبد الرحمان بن أبي ليلى قال : أدركت عشرين ومائة مِن أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما مِنهم مَن يحدّث حديثاً إلاّ ودّ أنّ أخاه كفاه الحديث ، ولا يسأل عن فُتيا إلاّ ودَّ أنّ أخاه كفاه الفتيا .

وقد روينا عن إبراهيم النخعي : أنّ رجلاً سأله عن مسألة ، فقال: ما وجدتَ مَن تسأله غيري ؟

وعن مالك بن أنس أنّه قال : ما أفتيتُ حتّى سألت سبعين شيخاً هل يرَون لي أن أُفتي ؟ فقالوا : نعم فقيل له : لو نهوك ؟ قال : لو نهوني انتهيت .

وقال رجل لأحمد بن حنبل : إنّي حلفتُ ولا أدري كيف حلفت ؟ فقال : ليتك إذا دريتَ كيف حلفتَ دريتُ كيف أفتيك .

وإنّما كانت هذه سجيّة السَلَف ، لخشْيتهم الله عزّ وجلّ وخوفهم مِنه ، ومَن نظر في سيرتهم تأدّب .

ومِن تلبيس إبليس على الفقهاء : مخالطتهم للأُمراء والسلاطين ومداهنتهم وتَرْك الإنكار عليهم مع القدرة على ذلك ، وربّما رخّصوا لهم ما لا رخصة فيه

٣١٠

لينالوا مِن دنياهم ، فيقع بذلك الفساد لثلاثة :

الأوّل : الأمير ، فيقول : لولا أنّي على صواب لأنكر علَيّ الفقيه ، وكيف لا أكون مصيباً وهو يأكل مِن مالي .

والثاني : العامّي ، فإنّه يقول : لا بأس بهذا الأمير ولا بماله ولا بأفعاله ، فإنّ فلاناً الفقيه لا يزال عنده .

والثالث : الفقيه ، يفسد دينه بذلك .

وقد لبّس إبليس عليهم في الدخول على السلطان فيقول : إنّما تدخل لتشفع في مسلم ، وينكشف هذا التلبيس بأنّه لو دخل غيره يشفع لَما أعجبه ذلك ، ولربّما قدح في ذلك الشخص لينفرد بالسلطان ، ويلبّس عليه إبليس في أخْذ أموالهم فيقول : لك فيه حقّ ، ومعلوم أنّها إن كانت حراماً لم يحل له مِنها شيء ، وإن كانت مِن شبهة فترْكها أولى ، وإن كانت مِن مباحٍ جاز له الأخذ بمقدار مكانه مِن الدين ، لا على وجه إنفاقه في مقام الرعونة ، وربّما اقتدى العوام بظاهر فِعلِه واستباحوا ما لا يُستباح .

وقد تلبّس إبليس على قوم مِن العلماء ، فيقطعون عن السلطان إقبالاً على التعبّد والدين ، فزيّن لهم غِيبة مَن يدخل على السلطان مِن العلماء ، فيجتمع اثنان : غِيبة الناس ومدح النفس .

وفي الجملة ، الدخول على السلطان خطر عظيم ؛ لأنّ النيّة قد تَحْسُن في أوّل الدخول ، ثمّ تتغيّر بإكرامهم وإنعامهم أو بالطمع فيهم ، ولا يتماسك عن مداهنتهم وترْك الإنكار عليهم ، وقد كان سفيان الثوري يقول : ما أخاف مِن إهانتهم لي ، إنّما أخاف مِن إكرامهم فيميل قلبي إليهم .

وقد كان علماء السَلَف يبعدون عن الأُمراء ، لِما يظهر مِن جورهم ،

٣١١

فيطلبهم الأُمراء لحاجتهم إليهم في الفتاوى والولايات ، فنشأ أقوام قَوِيَت رغبتهم في الدنيا فتعلّموا العلوم التي تصلح للأُمراء وحملوها إليهم لينالوا مِن دنياهم ، ويدلّك على أنّهم قصدوا بالعلوم الأُمراء : أنّ الأُمراء كانوا قديماً يميلون إلى سماع الحُجج في الأُصول ، فأظهر النّاس علم الكلام ، ثمّ مال بعض الأُمراء إلى المِناظرة في الفقه ، فمال الناس إلى الجدل ، ثمّ مال بعض الأُمراء إلى المواعظ ، فمال خلْقٌ كثير مِن المتعلّمين إليها ، ولمّا كان جمهور العوام يميلون إلى القصص كَثُر القصّاص وقلّ الفقهاء.

ومِن تلبيس إبليس على الفقهاء : أنّ أحدهم يأكل مِن وَقْف المدرسة المبنيّة على المتشاغلين بالعلم ، فيمكث فيها سنين فلا يتشاغل ويقنع بما قد عَرف أو ينتهي في العلم ، فلا يبقى له في الوَقْف حظّ ؛ لأنّه إنّما جُعل لمَن يتعلّم ، إلاّ أن يكون ذلك الشخص معيداً أو مدرّساً فإنّ شغله دائم .

ومِن ذلك ما يُحكى عن بعض عوام المتفقّهة مِن الانبساط في المنهيّات ؛ فبعضهم يلبس الحرير ويتختّم بالذهب ويُحال على المكس فيأخذ ، إلى غير ذلك مِن المعاصي .

وسبب انبساط هؤلاء يختلف : فمِنهم مَن يكون فاسد العقيدة في أصل الدين ، فهو يتفقه فيشهر نفسه أو ليأخذ مِن الوَقْف أو ليرؤس أو ليناظر ، ومِنهم مَن عقيدته صحيحة لكن يغلبه الهوى وحبّ الشهوات وليس عنده صارف عن ذلك ؛ لأنّ نفس الجدل والمناظرة تتحرّك إلى الكِبر والعُجب .

وإنّما يتقوّم الإنسان بالرياضة ومطالعة سِيَر السَلَف ، وأكثر القوم في بعد عن هذا ، وليس عندهم إلاّ ما يُعين الطبع على سموحه ، فحينئذ يسرح الهوى بلا رادّ .

ومِنهم مَن يُلبّس عليه إبليس : بأنّك عالم وفقيه ومُفتٍ ، والعلم يدفع عن

٣١٢

أربابه وهيهات ، فإنّ العلم أولى أن يحاجّه ويضاعف عذابه كما ذكرنا في حقّ القرّاء ، وقد قال البصري : إنّما الفقيه مَن يخشى الله عزّ وجلّ .

قال ابن عقيل : رأيت فقيهاً خراسانيّاً عليه حرير وخواتيم ذهب ، فقلت له : ما هذا ؟ فقال : خلع السلطان وكمد الأعداء فقلت : بل هو شماتة الأعداء بك إن كنت مسلماً ؛ لأنّ إبليس عدوّك ، فإذا بلغ مِنك مبلغاً ألبسك ما يُسخط الشرع فقد أشمتّه بنفسك ، وهل خِلَع السلطان إلاّ سائقة لنهي الرحمان يا مسكين ! خَلَع عليك السلطان فانخلعت به مِن الإيمان ، وقد كان ينبغي أن يخلع عنك السلطان لباس الفسق ويلبسك لباس التقوى ، رماكم الله بخزْيِه حيث هوّنتم أمره ، ليتك قلت : هذه رعونات الطبع والهوى ، والآن تمّت محنتك ، لأنّ عذرك دليل على فساد باطنك .

ومِن تلبيسه عليهم : أن يُحسّن لهم ازدراء الوعّاظ ويمنعهم مِن الحضور عندهم ، فيقولون : مَن هؤلاء ؟ هؤلاء قُصّاص ، ومراد الشيطان أن لا يحضروا في موضع يلين فيه القلب ويخشع .

والقصّاص لايُذَمَّون مِن حيث هذا الاسم ؛ لأنّ الله تعالى قال :( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ) وقال :( فَاقْصُصِ الْقَصَصَ ) وإنّما ذُمّ القُصّاص ؛ لأنّ الغالب مِنهم الاقتناع مِنهم بذِكْر القصص دون ذِكْر العلم المفيد ، ثمّ غالبهم يخلط فيما يورده ، وربّما اعتمد على ما أكثره محال ، فأمّا إذا كان القصص صدقاً ويوجب وعظاً فهو ممدوح ، وقد كان أحمد بن حنبل يقول : ما أحوج الناس إلى قاصّ صدوق )(١) .

فهذه حالات علماء القوم وفقهائهم ، العاملين بالرأي والقياس وغيرهم .

_______________________

 (١) تلبيس إبليس : ١٣٧ ـ ١٤٢ .

٣١٣

كلام ابن عربي في ذمّ القياس

وتكلّم غوثهم الأعظم ابن عربي في الأخذ بالرأي والعمل بالقياس ، حيث قال في ( الفتوحات ) :

( قال الله تعالى لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ ) ولم يقل : بما رأيت ، بل عتبه سبحانه وتعالى لمّا حرّم على نفسه باليمين في قضيّة عائشة وحفصة ، فقال تعالى :( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ) فكان هذا ممّا أرته نفسه ، فهذا يدلّك أنّ قوله تعالى :( بِمَا أَرَاكَ اللّهُ ) أنّه ما يوحي به إليه لا ما يراه في رأيه ، فلو كان الدين بالرأي لكان رأي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولى مِن رأي كلّ ذي رأي ، فإذا كان هذا حال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أرته نفسه ، فكيف رأي مَن ليس بمعصوم ومِن الخطأ أقرب إليه مِن الإصابة ؟ .

فدلّ أنّ الاجتهاد الذي ذكره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما هو في طلب الدليل على تعيين الحكم في المسألة الواقعة لا في تشريع حكم في النازلة ، فإنّ ذلك شرع لم يأذن به الله .

ولقد أخبرني القاضي عبد الوهّاب الأزدي الإسكندري بمكّة سنة تسع وتسعين وخمسمائة قال : رأيت رجلاً مِن الصالحين بعد موته في المنام فسألته : ما رأيت ؟ فذكر أشياء مِنها قال : ولقد أُريت كتباً موضوعة وكتباً مرفوعة ، فسألت : ما هذه الكتب المرفوعة ؟ فقيل لي : هذه كتب الحديث فقلت : وما هذه الكتب الموضوعة ؟ فقيل لي : هذه كتب الرأي ، حتّى يُسأل عنها أصحابها ، فرأيت الأمر فيه شدّة .

اعلم ـ وفّقك الله ـ إنّ الشريعة هي المحجّة البيضاء ، محجّة السعداء

٣١٤

وطريق السعادة ، مَن مشى عليها نجا ومَن تركها هلك ، فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا نزل عليه قوله تعالى :( وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً ) خطّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأرض خطّاً وخطّ خطوطاً عن جانبَي الخطّ يميناً وشمالاً ثم وضع إصبعه على الخطّ وقال تالياً :( وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ ) وأشار إلى تلك الخطوط التي خطّها عن يمين الخطّ ويساره( فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ) وأشار إلى الخطّ المستقيم .

ولقد أخبرني بمدينة سلا ـ مدينة بالمغرب على شاطئ البحر المحيط يقال لها منقطع التراب وليس وراءها أرض ـ رجل مِن الصالحين الأكابر مِن عامّة النّاس قال : رأيت في النوم محجّة بيضاء مستوية عليها نور سهلة ، ورأيت عن يمين تلك المحجّة وشمالها خنادق وشعاباً وأودية كلّها شوك ، لا تنسلك لضيقها وتوعّر مسالكها وكثرة شوكها والظلمة التي فيها ، ورأيت جميع الناس يخبطون فيها عشوا ويتركون المحجّة البيضاء السهلة ، وعلى المحجّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونَفَر قليل معه يسير وهو ينظر إلى مَن خلفه ، وإذا في الجماعة ـ متأخّر عنها لكنّه عليها ـ الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن قرقور المحدّث ـ كان سيّداً فاضلاً في الحديث ، اجتمعتُ بابنه ـ فكان يفهم عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه يقول له : ناد في النّاس بالرجوع إلى الطريق ، فكان ابن قرقور يرفع صوته ويقول في ندائه ولا مِن داع ولا مِن مستدع : هلمّوا إلى الطريق هلمّوا قال : فلا يجيبه أحد ولا يرجع إلى الطريق أحد .

واعلم : إنّه لمّا غلبت الأهواء على النفوس وطلبت العلماء المراتب عند الملوك ، تركوا المحجّة البيضاء ، وجنحوا إلى التأويلات البعيدة ليُمَشّوا أغراض الملوك فيما لهم فيه هوى نفس ، ليستندوا في ذلك إلى أمْرٍ شرعي ، مع كون

٣١٥

الفقيه ربّما لا يعتقد ذلك ويفتي به ، وقد رأينا مِنهم جماعة على هذا مِن قضاتهم وفقهائهم .

ولقد أخبرني الملك الظاهر غازي ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ، وقد وقع بيني وبينه في مثل هذا كلام ، فنادى بمملوك وقال : جئني بالحرمدان فقلت له : ما شأن الحرمدان ؟ قال: أنت تُنكر على ما يجري في بلدي ومملكتي مِن المنكرات والظلم ، وأنا ـ والله ـ أعتقد مثل ما تعتقد أنت فيه مِن أنّ ذلك كلّه مُنكَر ، ولكن والله ـ يا سيّدي ـ ما مِنه منكَر إلاّ بفتوى فقيه ، وخطّ يده عندي بجواز ذلك ، فعليهم لعنة الله ، ولقد أفتاني فقيه هو فلان ـ وعَيَّن لي أفضل فقيه عنده في بلده في الدين والتقشّف ـ بأنّه لا يجب علَيّ صوم شهر رمضان هذا بعينه ، بل الواجب علَيّ شهر في السنة ، والاختيار لي فيه أيّ شهر شئت مِن شهور السنة قال السلطان : فلعنتُه في باطني ولم أُظهر له ذلك وهو فلان وسمّاه لي ، رحم الله جميعهم .

فلتعلم : أنّ الشيطان قد مكّنه الله مِن حضرة الخيال وجعل له سلطاناً فيها ، فإذا رأى الفقيه يميل إلى هوى يعرف أنّه يُردي عند الله زيّن له سوء عمله بتأويل غريب يمهّد له فيه وجهاً يحسّنه في نظره ويقول له : إنّ الصدر الأوّل قد دانوا الله بالرأي ، وقاس العلماء في الأحكام واستنبطوا العلل للأشياء وطردوها ، وحكموا في المسكوت عنه بما حكموها به في المنصوص عليه للعلّة الجامعة بينهما ، والعلّة مِن استنباطه .

فإذا مهّد له هذا السبيل جنح إلى نيل هواه وشهوته بوجه شرعيّ في زعمه ، فلا يزال هكذا فِعْلُه في كلّ ما له أو لسلطانه فيه هوى نفس ، ويردّ الأحاديث النبويّة ويقول : لو أنّ هذا الحديث يكون صحيحاً ، وإن كان صحيحاً يقول : لو لم يكن له خبر آخر يعارضه وهو

٣١٦

ناسخ له لقال به الشافعي ، إن كان هذا الفقيه شافعياً ، أو لقال به أبو حنيفة إن كان هذا الرجل حنفيّاً ، وهكذا قول أتباع هؤلاء الأئمّة كلّهم ، ويرَون أنّ الحديث والأخذ به مضلّة ، وأنّ الواجب تقليد هؤلاء الأئمّة وأمثالهم فيما حكموا وإن عارضت أقوالهم الأخبار النبويّة ، فالأَوْلى الرجوع إلى أقاويلهم وترك الأخذ بالأخبار والكتاب والسنة .

فإذا قلتَ لهم : قد روينا عن الشافعي ـرضي‌الله‌عنه ـ أنّه قال : إذا أتاكم الحديث يعارض قولي فاضربوا بقولي الحائط وخذوا بالحديث فإنّ مذهبي الحديث ، وقد روينا عن أبي حنيفة أنّه قال لأصحابه : حرام على كلّ مَن أفتى بكلامي ما لم يعرف دليلي ، وما روينا شيئاً مِن هذا عن أبي حنيفة إلاّ مِن طريق الحنفيّين ، ولا عن الشافعي إلاّ مِن طريق الشافعيّة ، وكذلك المالكيّة والحنابلة ، فإذا جادلتهم في مجال الكلام هربوا وسكتوا .

وقد جرى لنا هذا معهم هذا مراراً بالمغرب وبالمشرق ، فما مِنهم أحد على مذهب مَن يزعم أنّه على مذهبه .

فقد انتسخت الشريعة بالأهواء وإن كانت الأخبار موجودة مُسطرة في الكتب الصحاح ، وكتب التواريخ بالتجريح والتعديل موجودة ، والأسانيد محفوظة مصونة مِن التغيير والتبديل ، ولكن إذا تُرك العمل بها واشتغل الناس بالرأي ودانوا أنفسهم بفتاوى المتقدّمين مع معارضة الأخبار الصحاح لها ، فلا فرق بين عدمها ووجودها إذا لم يبق لها حُكْمٌ عندهم ، وأيّ نسخ أعظم مِن هذا.

وإذا قلتَ لأحدهم في ذلك شيئاً يقول لك : هذا هو المذهب ، وهو ـ والله ـ كاذب ، فإنّ صاحب المذهب قال له إذا عارض الخبر كلامي فخذ بالحديث واترك كلامي في الحش ، فإنّ مذهبي الحديث ، فلو أنصف لكان على مذهب

٣١٧

الشافعي مِن ترْك كلام الشافعي للحديث المعارض ، فالله يأخذ بيد الجميع )(١) .

كلام وليّ الله الدهلوي في ذمّ القياس

وقال شاه وليّ الله الدهلوي في ( الإنصاف ) :

( ولا ينبغي أن يُردّ حديثاً أو أثراً تطابق عليه كلام القوم ، لقاعدة استخرجها هو أو أصحابه ، كردّ حديث المصراة وكإسقاط سهم ذوي القربى ، فإنّ رعاية الحديث أوجب مِن رعاية تلك القاعدة المخرجة ، وإلى هذا المعنى أشار الشافعي حيث قال :

مهما قلتُ مِن قول أو أصّلتُ مِن أصل فبلغكم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلاف ما قلت ، فالقول ما قالهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ومِن شواهد ما نحن فيه ما صدّر به الإمام أبو سليمان الخطّابي كتابه ( معالم السُنن ) ، حيث قال : رأيت أهل العلم في زماننا قد حصلوا حزبين وانقسموا إلى فرقتين : أصحاب حديث وأثر ، وأهل فقه ونظر ، وكلّ واحدة مِنهما لا تتميّز عن أُختها في الحاجة ولا تستغني عنها في دَرْك ما تنحوه مِن البُغية والإرادة ؛ لأنّ الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل ، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع ، وكلّ بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار ، وكلّ أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخراب .

ووجدت هذين الفريقين ـ على ما بينهم مِن التداني في المحلّين والتقارب في المنزلتين ، وعموم الحاجة مِن بعضهم إلى بعض ، وشمول الفاقة اللاّزمة لكلّ مِنهم إلى صاحبه ـ إخواناً متهاجرين ، وعلى سبيل الحقّ بلزوم

_______________________

(١) الفتوحات المكية ٥ : ١٠٠ ـ ١٠٢ .

٣١٨

التناصر والتعاون غير متظاهرين .

فأمّا هذه الطبقة الذين هم أهل الحديث والأثر ، فإنّ الأكثرين إنّما وكدهم الروايات وجمع الطرق وطلب الغريب والشاذّ مِن الحديث الذي أكثره موضوع أو مقلوب ؛ لا يراعون المتون ولا يتفهّمون المعاني ولا يستنبطون سرّها ولا يستخرجون ركازها وفقهها ، وربّما عابوا الفقهاء وتناولوهم بالطعن وادّعوا عليهم مخالفة السُنن ، ولا يعلمون أنّهم عن مبلغ ما أُوتوه مِن العلم قاصرون وبسوء القول فيهم آثمون .

وأمّا الطبقة الأُخرى وهم أهل الفقه والنظر ، فإنّ أكثرهم لا يُعرّجون مِن الحديث إلاّ على أقلّه ، ولا يكادون يميّزون صحيحه مِن سقيمه ، ولا يعرفون جيّده مِن رديّه ، ولا يعبئون بما بلغهم مِنه أن يحتجّوا به على خصومهم ، إذا وافق مذاهبهم التي ينتحلونها ووافق آرائهم التي يعتقدونها ، وقد اصطلحوا على مواضعة بينهم في قبول الخبر الضعيف والحديث المنقطع إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم وتعاورته الألسن فيما بينهم ، مِن غير ثَبْتٍ فيه أو يقينِ علمٍ به ، فكان ذلك ضلّةً مِن الرأي وغبنا فيه .

وهؤلاء ـ وفّقنا الله وإيّاهم ـ لو حُكيَ لهم عن واحدٍ مِن رؤساء مذاهبهم وزعماء نِحَلِهم قول يقوله باجتهاده مِن قِبَل نفسه ، طلبوا فيه الثقة واستبرؤا له العهدة .

فتجد أصحاب مالك لا يعتمدون مِن مذهبه إلاّ ما كان مِن رواية ابن القاسم وأشهب وضربائهما مِن تلاد أي قدماء أصحابه ، فإذا جاءت رواية عبد الله بن عبد الحَكَم وأضرابه لم يكن عندهم طائلاً.

وترى أصحاب أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يقبلون مِن الرواية عنه إلاّ

٣١٩

ما حكاه أبو يوسف ومحمّد بن الحسن والعليّة مِن أصحابه والأجلّة مِن تلامذته ، فإن جاءهم عن الحسن بن زياد اللؤلؤي وذويه رواية قول بخلافه ، لم يقبلوه ولم يعتمدوه .

وكذلك نجد أصحاب الشافعي ، إنّما يعوّلون في مذهبه على رواية المزني والربيع بن سليمان المرادي ، فإذا جاءت رواية حرملة والجيزي وأمثالهما ، لم يلتفتوا إليها ولم يعتدّوا بها في أقاويله .

وعلى هذا عادة كلّ فرقة مِن العلماء في أحكام مذاهب أئمّتهم وأُستاذتهم .

فإذا كان هذا دأبهم وكانوا لا يقنعون في أمر هذه الفروع ورواياتها عن هؤلاء الشيوخ إلاّ بالوثيقة والتثّبت ، فكيف يجوز لهم أن يتساهلوا في الأمر الأهم والخَطْب الأعظم ، وأن يتواكلوا في الرواية والنقل عن إمام الأئمّة ورسول ربّ العزّة الواجب حكمه، اللازمة طاعته ، الذي يجب علينا التسليم لحكمه والانقياد لأمره ، مِن حيث لا نجد في أنفسنا حرجاً ممّا قضاه ولا في صدورنا غلاًّ مِن شيءٍ أبرمه وأمضاه ؟!

أرأيتم إذا كان الرجل يتساهل في أمر نفسه ويسامح غرمائه في حقّه ، فيأخذ مِنهم الزَيْف ويغضي لهم عن العيب ، هل يجوز له أن يفعل ذلك في حقّ غيره إذا كان نائباً عنه ، كوليّ الضعيف ووصيّ اليتيم ووكيل الغائب ؟

وهل يكون ذلك مِنه إذا فعله إلاّ خيانة للعهد وإخفاراً للذمّة ؟

فهذا هو ذاك إمّا عيان حسّ وإمّا عيان مثل .

ولكن أقواماً عساهم استوعروا طريق الحقّ واستطالوا المدّة في درك الخطّ وأحبّوا عُجالة النَيْل ، فاختصروا طريق العلم واقتصروا على نُتَف

٣٢٠