استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٣

استخراج المرام من استقصاء الإفحام0%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 478

استخراج المرام من استقصاء الإفحام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد علي الحسيني الميلاني
تصنيف: الصفحات: 478
المشاهدات: 243707
تحميل: 6837


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 478 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 243707 / تحميل: 6837
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء 3

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وحروف منتزعة مِن معاني أُصول الفقه سمّوها عِللاً ، وجعلوها شعاراً لأنفسهم في الترسّم برسم العِلم ، واتخذوها جُنّة عند لقاء خصومهم ، ونصبوها دريئة للخوض والجدال يتناظرون بها ويتلاطمون عليها وعند التصادر عنها قد حكم للغالب بالحذق والتبريز ، فهو الفقيه المذكور في عصره والرئيس المعظّم في بلده ومصره .

هذا ، وقد دسّ لهم الشيطان حيلة لطيفة وبلغ مِنهم مكيدة بليغة فقال لهم : هذا الذي في أيديكم عِلْمٌ قصير وبضاعة مزجاة لا تفي بمبلغ الحاجة والكفاية ، فاستعينوا عليه بالكلام وصِلُوه بمقطّعات مِنه واستظهروا بأُصول المتكلّمين ، يتّسع لكم مذهب الخوض ومجال النظر ، فصدّق عليم إبليس ظنّه وأطاعه كثير مِنهم واتّبعوه إلاّ فريقاً مِن المؤمِنين ، فيا للرجال والعقول ، أين يُذهب وأنّى يخدعهم الشيطان عن حظّهم وموضع رشدهم ، والله المستعان انتهى كلام الخطّابي )(١) .

وقال شاه وليّ الله الدهلوي في رسالته ( عقد الجِيد في الاجتهاد والتقليد ) أيضاً :

( فما ذهب إليه ابن حزم حيث قال : التقليد حرام ولا يحلّ لأحد أن يأخذ قول أحد غير رسول للهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا برهان ـ ونقل كلاماً طويلاً عنه ثمّ قال ـ : إنّما يتمّ فيمَن له ضربٌ مِن الاجتهاد ولو في مسألة واحدة ، وفيمَن ظهر عليه ظهوراً بيّناً أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمَرَ بكذا ونهى عن هذا وأنّه ليس بمنسوخ ، إمّا بأن يتتبّع الأحاديث وأقوال المخالف والموافق في المسألة فلا يجد لها نَسْخاً ، أو بأن يرى جمّاً غفيراً مِن المتبحّرين

_______________________

(١) الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف : ٦٣ ـ ٦٧ .

٣٢١

في العلم يذهبون إليه ، ويرى المخالف له لا يحتجّ إلاّ بقياس أو استنباط أو نحو ذلك ، فحينئذٍ لا سبب لمخالفة حديث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ نفاق خفيّ أو حمق جليّ .

وهذا هو الذي أشار إليه الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام حيث قال : ومِن عجب العجيب : أنّ الفقهاء المقلِّدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعاً ، وهو مع ذلك يقلّده فيه ويترك مَن شهد الكتاب والسنّة والأقيسة الصحيحة لمذهبهم ، جموداً على تقليد إمامه ، بل يتحيّل لدفع ظاهر الكتاب والسنّة ويتأوّلهما بالتأويلات البعيدة الباطلة ) .

وذكر شاه وليّ الله في ( الإنصاف ) أيضاً ما نصّه :

( وممّن نظم البلقيني في سلك المجتهدين المطلقين المنتسبين ، تلميذه االوليّ أبو زرعة ، فقال : قلت مرّة لشيخنا الإمام البلقيني : ما تقصير بالشيخ تقيّ الدين السبكي عن الاجتهاد وقد استكمل إليه ؟ وكيف يُقلِّد ؟ قال : ولم أذْكُرُه هو ـ أي شيخه البلقيني ـ استحياءاً مِنه ؛ لِما أردت أن أُرتّب على ذلك فسكت فقلت : فما عندي أنّ الامتناع مِن ذلك إلاّ للوظائف التي قُدّرت للفقهاء على المذاهب الأربعة ، وإنّ مَن خرج عن ذلك واجتهد لم ينله شيء مِن ذلك ، وحُرِم ولاية القضاء وامتنع الناس مِن استفتائه ونُسِب إليه البدعة .

فتبسّم ووافقني على ذلك ، انتهى .

قلت : أمّا أنا فلا أعتقد أنّ المانع لهم مِن الاجتهاد ما أشار إليه ، حاشا منصبهم العليّ على ذلك ، وأن يتركوا الاجتهاد مع قدرتهم عليه لغرض القضاء والأسباب ، هذا ما لا يجوز لأحدٍ أن يعتقده فيهم ، وقد تقدّم أنّ الراجح عند الجمهور وجوب الاجتهاد في مثل ذلك .

٣٢٢

كيف ساغ للوليّ نسبتهم إلى ذلك ونسبة البلقيني إلى موافقته على ذلك )(١) .

كلام ابن دحية في ذمّ القياس

وقال ذو النَسَبَين ابن دحية في كتاب ( شرح أسماء النبيّ ) :

( وقد كره الآن جماعة مِن أهل الرأي والمتصرّفة حبس الشَعَر وقالوا : لأنّه علامة للجند ، وكذلك كره جماعة مِنهم التختّم في اليمين لمّا تختّمت الروافض في اليمين .

وهذا ليس بشيء ؛ لأنّه ردّ للسنّة الثابتة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد جاء الوجهان عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهما تختّم في اليمين وفي الشمال ، فقولهم فيه أنّهم تنزّهوا عنه بسبب الروافض ، وفي الشَعَر لئلاّ يتشبّه بالجند، فهذا تغيير للسنّة الثابتة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدون دليل يرجع إليه ، وهو باطل بالإجماع ، ولا يدّعون قياساً، إذ لا أصل لهم في ذلك يختصّ بما نحن فيه ، ولو كان لبطل أيضاً ، فإنّ القياس في مقابل السنّة الثابتة باطل ، وإنّما يرجع إليه عند عدمها ، هل هذا إلاّ محض العناد والتقليد المخالف للسنّة الثابتة والقرآن المجيد ؟!

قال مالك : لا يُحلِّف القاضي المدّعى عليه إلاّ أن يُثْبِت المدّعي مخالطةً بينه وبين المدّعى عليه .

وقال ابن أبي رقد : ولا يمين حتّى تثبت الخلطة وبذلك قضى حكّام المدينة .

_______________________

(١) الإنصاف في بيان سبب الاختلاف : ٧٣ ـ ٧٤ .

٣٢٣

فاعجبوا ـ رحمكم الله ـ لهذا الكلام المخالف لسيّد الأنام ، ثبت باتّفاق في الصحيحين مِن حديث علقمة بن وائل عن أبيه قال : جاء رجل مِن حضرموت ورجل مِن كندة إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال الحضرمي : يا رسول الله ! إنّ هذا قد غلبني على أرض لي كانت لأبي ، فقال الكندي : هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حقّ فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للحضرمي : ألَكَ بيّنة ؟ قال : لا قال : فلَكَ يمينه قال : يا رسول الله ! إنّ الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه وليس يتورّع مِن شيء فقال : ليس لك مِنه إلاّ ذلك ، الحديث بطوله .

وفي حديث منصور عن أبي وائل ، عن عبد الله بن مسعود ، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : شاهداك أو يمينه .

مقتضى هذا الحديث الصحيح يدلّ دلالة ظاهرة أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمع هذه الدعوى ولم يشترط على المدّعي فيها شرطاً ، ولو أنّ مدّعياً في هذا العصر حضر إلى قاضٍ مِن مقلّدي المذاهب ، وأمره على أن لا يدّعي إلاّ هكذا ، لأخرج مِن بين يديه وقيل له حرّر دعواك : أين موضع هذه الأرض ؟ وكم مساحتها طولاً وعرضاً ؟ مع ما يشترطون مِن الشرائط ، أترى الشارعصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسامح في الأحكام أم وكَّلَ الخلق بعده إلى مَن ينقّح شرعه مِن الأنام ؟

وهذه واحدة ينبغي لذوي العقول أن يعلموا مِنها أنّ كلّ أحد يؤثر أن يسمع ما يقول ولا يردّ حوادث الفروع إلى الأُصول .

وأُخرى : إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقل : هل بينكما خلطة أو معاشرة ، أم أنت مِن البادية وهو مِن الحاضرة.

٣٢٤

ولو أنّ بعض المقلِّدين حكم بمذهب مِن مذاهب الماضين لأخرج هذا المدّعي بغير حقّ ، إلاّ أن يثبت الخلطة بين المتداعيين وقال : هذا خبرٌ واحدٌ خرج عن ظاهره لأجل الاستصلاح والاستحسان ، وهما عند الصحابة والتابعين مهجوران .

ولم يمت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى ترك الشريعة بيضاء نقيّة ولم يُبْقِ مِنها لخالف بعده بقيّة ، وأكمل الله الدين ثمّ توفّى محمّداً سيّد المهتدين ، ولكن طال الأُمّة فترك ما ينبغي أن يكون عليه المعتمد .

فالله تعالى يُرشد سلاطين المسلمين أن يتمسّكوا بكتاب ربّ العالمين وبالسنّة الثابتة عن سيّد المرسلين ويعضّوا عليها بالنواجذ ، ولا يمكّنوا أن يأخذ بخلافهما أحد ، هذا ما وجب ذكره مِن النصيحة في الدين ، والحمد لله ربّ العالمين .

فحكم أهل الرأي بخلاف ما حكم به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد قال الله جلّ وعلا :( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن ولا مُؤْمِنةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِن أَمْرِهِمْ ) وذكر البخاري في صحيحه في كتاب الحِيَل ، باب إذا غصب جارية فزعم أنّها ماتت فقضى بقيمة الجارية الميّتة ثمّ وجدها صاحبها فهي له ويرد القيمة ولا تكون القيمة ثمناً :

وقال بعض الناس ـ وهو أبو حنيفة ـ : الجارية للغاصب لأخذه القيمة .

وفي هذا احتيال لمَن اشتهى جارية رجل لا يبيعها فغصبها واعتلّ بأنّها ماتت حتّى يأخذ ربّها قيمتها فيطيب للغاصب جارية غيره ، وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أموالكم عليكم حرام ، ولكلّ غادرٍ لواءٌ يوم القيامة .

حدّثنا أبو نعيم قال : ثنا شيبان ، عن يحيى ، عن أبي سَلَمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تنكح الأيّم حتّى تُستأمر ،

٣٢٥

ولا تنكح البِكْر حتّى تُستأذن قالوا : كيف إذنها ؟ قال : تسكت .

وقال بعض الناس ـ يعني أبا حنيفة ـ إن احتال إنسان بشاهدَي زورٍ على تزويج امرأة ثيّب بأمرها فأثبت القاضي نكاحها إيّاه والزوج يعلم أنّه لم يتزوّجها قط ، فإنّه يسعه هذا النكاح ولا بأس بالمقام له معها .

حدّثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ذكوان عن عائشة قالت : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : البِكْر تُستأذن قلت : إنّ البكر تستحي فقال : إذنها صماتها .

وقال بعض الناس : إن هوى إنسان جارية ثيّبة أو بكراً فاحتال فجاء بشاهدَي زورٍ على أنّه تزوّجها فرضيت الثيّبة فقبِل القاضي شهادة الزور ، والزوج يعلم بطلان ذلك ، حلّ له الوطء .

... ولو تتبّعنا أقوال أهل الرأي والفروع لخرجنا عن غرضنا في هذا المجموع .

فلنرجع إلى حديث مَن أُيِّد بالوحي والتنزيل وعُصم مِن التغيير والتبديل ، فليس لأحد مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قول .

قال عبد الله بن عبّاس صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وابن عمّه : هي سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكتاب الله عزّ وجلّ ، فمَن قال بعد برأيه فلا أدري أمِن حسناته أم سيّئاته .

وقال أبو عمرو الشعبي ـ وقد أدرك مِن أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر مِن خمس مائة ، فيما ذكره أبو بكر ابن أبي خيثمة ـ : ما حدّثوك عن أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخذ به ، وما حدّثوك برأيهم فبل عليه )(١) .

_______________________

(١) المستكفى في شرح أسماء النبيّ المصطفى ـ مخطوط .

٣٢٦

كلام الغزالي في ذمّ القياس

وللغزالي أيضاً كلمات في ذمّ علماء أهل السنّة العاملين بالآراء والتابعين للأهواء ، ففي كتاب العلم مِن ( إحياء العلوم ) :

( الباب الرابع : في سبب إقبال الخَلْق على علم الخلاف ، وتفصيل آفات المناظرة والجدل وشرّ إباحتها :

اعلم أنّ الخلافة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تولاّها الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم ، وكانوا أئمّة وعلماء بالله، فقهاء في أحكامه وكانوا مستقلّين بالفتاوى في الأقضية ، وكانوا لا يستعينون بالفقهاء إلاّ نادراً في وقايع لا يُستغنى فيها عن المشاورة ، فتفرّع العلماء لعلم الآخرة وتجرّدوا لها ، وكانوا يتدافعون الفتاوى وما يتعلّق بأحكام الخَلْق مِن الدنيا ، وأقبلوا على الله تعالى بكنه اجتهادهم كما نُقل مِن سِيَرهم .

فلمّا أفضت الخلافة بعدهم إلى أقوام تولّوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام ، اضطرّوا إلى الاستعانة بالفقهاء وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم لاستفتائهم في مجاري أحكامهم ، وكان قد بقيَ مِن علماء التابعين مَن هو مستمرّ على الطراز الأوّل وملازم صَفْو الدين ومواظب على سمت علماء السَلَف ، فكانوا إذا طُلِبوا هربوا وأعرضوا ، واضطرّ الخلفاء إلى الإلحاح في طلبهم لتولية القضاء والحكومات .

فرأى أهل تلك الأعصار عِزّ عن العلماء وإقبال الأئمّة والولاة عليهم مع إعراضهم عنهم ، فاشرأبوا لطلب العلم توصّلاً إلى نَيْل العزّ ودَرْك الجاه مِن قِبَل الولاة ، فأكبّوا على علم الفتاوى وعَرَضوا أنفسهم على الولاة وتعرّفوا إليهم ، وطلبوا الولايات والصّلات مِنهم ،

٣٢٧

فمِنهم مَن حُرِم ومِنهم مَن أُنجح ، والمُنجَح لم يخل عن ذُلّ الطلب ومهانة الابتذال فأصبح الفقهاء ـ بعد أن كانوا مطلوبين ـ طالبين ، وبعد أن كانوا أعزّة بالإعراض عن السلاطين ، أذلّة بالإقبال عليهم ، إلاّ مَن وفّقه الله تعالى في كلّ عصر مِن علماء دينه ، وقد كان أكثر الإقبال في تلك الأعصار على علم الفتاوى والأقضية ، لشدّة الحاجة إليها في الولايات والحكومات .

ثمّ ظهر بعدهم مِن الصدور والأُمراء مَن يسمع مقالات النّاس في قواعد العقائد ، ومالت نفسه إلى سماع الحجج فيها ، فعلم رغبته إلى المناظرة والمجادلة في الكلام ، فأكبّ النّاس على علم الكلام وأكثروا فيه التصانيف ، ورتّبوا فيه طرق المجادلات واستخرجوا فنون المناقضات في المقالات ، وزعموا أنّ غرضهم الذبّ عن دين الله تعالى والنضال عن السنّة وقَمْع المبتدعة ، كما زعم مَن قبلهم أنّ غرضهم الاستقلال بفتاوى الدين وتقلّد أحكام المسلمين ، إشفاقاً على خلق الله ونصيحة لهم .

ثمّ ظهر بعد ذلك مِن الصدور مَن لم يستصوب الخوض في الكلام ولا فَتْح باب المناظرة فيه ، لِما كان قد تولّد مِن فتح بابه مِن التعصّبات الفاحشة والخصومات الفاشية المفضية إلى إهراق الدماء وتخرّب البلاد ، ومالت نفسه إلى المناظرة في الفقه وبيان الأَوْلى مِن مذاهب الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما على الخصوص .

فترك الناس الكلام وفنون العلم وأقبلوا على المسائل الخلافيّة بين الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما على الخصوص ، وتساهلوا في الخلاف مع مالك وسفيان وأحمد بن حنبل وغيرهم ، وزعموا أنّ غرضهم استنباط دقائق الشرع وتقرير عِلَل المذهب وتمهيد أُصول الفتاوي ، وأكثروا فيها التصنيفات والاستنباطات ، ورتّبوا فيها أنواع المجادلات والتصنيفات ، وهم

٣٢٨

مستمرّون عليه إلى الآن ، ولسنا ندري ما الذي يُحدث الله تعالى فيما بعدنا مِن الأعصار .

فهذا هو الباعث على الإكباب على الخلافيّات والمناظرات لا غير ، ولو مالت نفوس أرباب الدنيا إلى الخلاف مع إمام آخر مِن الأئمّة ، أو إلى عِلْم آخر مِن العلوم ، لمالوا أيضاً معهم ، ولم يسكتوا عن التعلّل بأنّ ما اشتغلوا به علم الدين ، وزعموا أن لا مطلب لهم سوى التقرّب إلى ربّ العالمين ، والله أعلم )(١) .

٣٢٩

الكلام في حديث معاذ

هذا ، وقد نصّ الأئمّة على بطلان ما رووه عن معاذ بن جبل في الاجتهاد والعمل بالرأي .

قال الذهبي في ( الميزان ) :

( الحارث بن عمرو الثقفي ، ابن أخي المغيرة ، عن رجال ، عن معاذ ، بحديث الاجتهاد ، قال البخاري : لا يصحّ حديثه.

قلت : تفرّد به أبو عون محمّد بن عبيد الله الثقفي عنه ، وما روى عن الحارث غير أبي عون ، فهو مجهول .

وقال الترمذي : ليس إسناده عندي بمتّصل )(٢) .

وفي كتاب ( المغني ) :

( الحارث بن عمرو ، عن رجال ، عن معاذ قال البخاري : لا يصحّ

_______________________

(١) إحياء علوم الدين ١ : ٤١ ـ ٤٢ ، كتاب العلم ، الباب الرابع .

(٢) ميزان الاعتدال ٢ : ١٧٥ / ١٦٣٧ .

٣٣٠

حديثه )(١) .

وفي ( مرقاة الصعود ) للسيوطي في شرح هذا الحديث :

( قال الحافظ جمال الدين المزي : الحارث بن عمرو لا يُعرف إلاّ بهذا الحديث .

قال البخاري : لا يصحّ حديثه ولا يعرف ) .

وفي ( تذهيب التهذيب ) :

( الحارث بن عمرو الثقفي ابن أخي المغيرة بن شعبة ، عن أُناس مِن أهل حمص عن معاذ ، وعنه أبو عون محمّد بن عبيد الله الثقفي : حديث أجتهد رأيي قال البخاري : لا يصحّ )(٢) .

وفي ( الكاشف ) :

( الحارث بن عمرو ابن أخ للمغيرة بن شعبة عن أُناس مِن أهل حمص ، عن معاذ ، وعنه أبو عون محمّد الثقفي في الاجتهاد قال البخاري : لا يصحّ )(٣) .

وفي ( التقريب ) :

( الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة الثقفي ، ويقال ابن عون مجهول مِن السادسة )(٤) .

وهذا نصّ كلام الترمذي :

( باب ما جاء في القاضي كيف يقضي : حدّثنا هناد ، ثنا وكيع ، عن شعبة ،

_______________________

(١) المغني في الضعفاء ١ : ٢٢٥ / ١٢٤٢ .

(٢) تذهيب التهذيب ، تهذيب التهذيب ٢ : ١٣٢ .

(٣) الكاشف عن أسماء رجال الكتب الستّة ١ : ١٥٠ / ٨٧٥ .

(٤) تقريب التهذيب ١ : ١٤٣ .

٣٣١

عن أبي عون ، عن الحارث بن عمرو ، عن رجال مِن أصحاب معاذ ، عن معاذ : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث معاذ إلى اليمن فقال : كيف تقضي ؟ فقال : أقضي بما في كتاب الله قال : فإن لم يكن في كتاب الله ؟ قال : فبسنّة رسول الله قال : إن لم يكن في سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال : أجتهد رأيي قال : الحمد لله الذي وفّق لرسول رسول الله .

حدّثنا محمّد بن بشار ، ثنا محمّد بن جعفر وعبد الرحمان بن مهدي قالا : ثنا شعبة ، عن أبي عون ، عن الحارث بن عمرو ابن أخ للمغيرة بن شعبة ، عن أُناس مِن أهل حمص ، عن معاذ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنحوه .

هذا حديث لا نعرفه إلاّ مِن هذا الوجه ، وليس إسناده عندي بمتّصل ، وأبو عون الثقفي اسمه محمّد بن عبيد الله )(١) .

وقال ابن حزم ـ وهو شيخ الحميدي صاحب الجمع بين الصحيحين ـ في ( المحلّى ) :

( وحديث معاذ الذي فيه : أجتهد برأيي ولا آلو ، لا يصحّ ؛ لأنّه لم يَرْوه إلاّ الحارث بن عمرو ، وهو مجهول الحال لا يُدرى مَن هو ، عن رجال مِن أهل حمص لم يسمّهم ، عن معاذ )(٢) .

بل في ( مرقاة الصعود ) عن الجوزقاني :

( هذا حديث باطل ، رواه جماعة عن شعبة ، وقد تصفّحت عن هذا الحديث في المسانيد الكبار والصغار ، وسألت مَن لقيته مِن أهل العلم بالنقل

_______________________

(١) صحيح الترمذي ٣ : ٦١٦ ـ ٦١٧ / ١٣٢٧ ـ ١٣٢٨ كتاب الأحكام ، باب ما جاء في القاضي كيف يقضي .

(٢) المحلّى في الفقه ١ : ٦٢ .

٣٣٢

عنه ، فلم أجد له طريقاً غير هذا ، والحارث بن عمرو هذا مجهول ، وأصحاب معاذ مِن حمص لا يعرفون ، ومثل هذا الإسناد لا يُعتمد عليه في أصل مِن أُصول الشريعة .

فإن قيل : إنّ الفقهاء قاطبة أوردوه في كتبهم واعتمدوا عليه !

قيل : هذا طريقه ، والخلَف قلّد فيه السَلَف ، فإن أظهروا طريقاً غير هذا ممّا يَثْبت عند أهل النقل رجعنا إلى قولهم ، وهذا ممّا لا يمكنهم البتّة ) .

وإليك كلمة شاه وليّ الله في ( حجّة الله البالغة ) بعد كلامٍ له :

( وإذا تحقّقت هذه المقدّمة ، اتّضح عندك أنّ أكثر المقاييس التي يفتخر بها القوم ، ويتطاولون لأجلها على معشر أهل الحديث ، يعود وبالاً عليهم مِن حيث لا يعلمون )(١) .

إنكار الإمام الصادق على أبي حنيفة برواية ابن شبرمة

وروى كمال الدين الدميري ، إنكار الإمام أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام على أبي حنيفة العمل بالقياس ، قال :

( قال ابن شبرمة : دخلت أنا وأبو حنيفة على جعفر بن محمّد الصادقرضي‌الله‌عنه .

فقلت : هذا رجل فيه مِن أهل العراق .

فقال :لعلّه الذي يقيس الدين برأيه ، أهو نعمان بن ثابت ، ولم أعرف

_______________________

(١) حجّة الله البالغة ١ : ١٣١ .

٣٣٣

اسمه إلاّ ذلك اليوم ؟

فقال له أبو حنيفة : نعم أنا ذاك ، أصلحك الله .

فقال له جعفر :اتّق الله ولا تقس الدين برأيك ، فإنّ أوّل مَن قاس برأيه إبليس ، إذ قال أنا خيرٌ مِنه خلقتني مِن نار وخلقته مِن طين ، فأخطأ بقياسه وضلّ .

ثمّ قال له :أتُحْسن أن تقيس رأسك مِن جسدك ؟

قال : لا .

قال جعفررضي‌الله‌عنه :فأخبرني لِما جعل الله الملوحة في العينين والمرارة في الأُذنين والماء في المِنخرين والعذوبة في الشفتين ؟ لأيّ شيء جعل الله ذلك ؟

قال : لا أدري .

قال جعفررضي‌الله‌عنه :إنّ الله خلق العينين فجعلهما شحمتين ، وخلق الملوحة فيهما مَنّاً مِنه على ابن آدم ، ولولا ذلك لذابتا فذهبتا ، وجعل المرارة في الأُذنين منّاً مِنه عليه ، ولولا ذلك لهجمت الدوابّ فأكلت دماغه ، وجعل الماء في المِنخرين ليصعد مِنه النَفَس وينزل ويجد مِنه الرائحة الطيّبة مِن الرائحة الرديّة ، وجعل العذوبة في الشفتين ليجد ابن آدم لذّة المطعم والمشرب .

ثمّ قال لأبي حنيفة :أخبرني عن كلمة أوّلها شرك وآخرها إيمان ما هي ؟

قال : لا أدري .

قال جعفررضي‌الله‌عنه :كلمة لا إله إلاّ الله ، فلو قال : لا إله ثمّ سكت كان شركاً .

٣٣٤

ثمّ قال :ويحك ! أيّما أعظم عند الله إثماً : قَتْل النَفْس التي حرّم الله عزّ وجلّ بغير حقّ أو الزنا ؟

قال : بل قتل النفس .

فقال جعفررضي‌الله‌عنه :إنّ الله تعالى قَبِل في قتل النفس شهادة شاهدين ولم يقبل في الزنا إلاّ أربعة ، فأنّى يقوم لك القياس .

ثمّ قال :أيّما أعظم عند الله : الصوم أو الصلاة ؟

قال : الصلاة .

قال :فما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟

اتّق الله يا عبد الله ولا تقس الدين برأيك ، فإنّا نقف غداً ومَن خالفنا بين يدي الله فنقول : قال الله تعالى وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتقول أنت وأصحابك ، سمعنا ورأينا ، فيفعل الله تعالى بنا وبكم ما شاء ) (١) .

ترجمة ابن شبرمة

هذا ، ولا بأس بالتعرّض لترجمة ابن شبرمة بإيجاز :

قال النووي في ( تهذيب الأسماء واللغات ) :

( عبد الله بن شبرمة ، التابعي ، مذكور في المهذّب في أوّل نكاح المشرك هو :

أبو شبرمة ، عبد الله بن شبرمة بن الطفيل بن حسان المنذر بن ضرار بن عمرو بن مالك بن زيد بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك بن بكر بن سعد ابن ضبة الضبي ، الكوفي التابعي ، فقيه أهل الكوفة ، روى عن الشعبي

_______________________

(١) حياة الحيوان ٢ : ٤ .

٣٣٥

وابن سيرين وآخرين .

روى عنه : السفيانان وشعبة ووهيب وغيرهم .

اتّفقوا على توثيقه والثناء عليه بالجلالة ، وكان قاضياً لأبي جعفر المنصور على سواد الكوفة .

وقال الثوري : مُفتينا ابن أبي ليلى وابن شبرمة وقال : وكان ابن شبرمة عفيفاً عاقلاً فقيهاً يشبه النسّاك ، ثقة في الحديث ، شاعراً حَسَن الخُلُق ، جواداً .

توفّي سنة أربع وأربعين ومائة )(١) .

وقال الذهبي في ( الكاشف ) :

( عبد الله بن شبرمة الضبي ، قاضي الكوفة وفقيهها ، عن أنس بن مالك وأبي الطفيل وأبي وائل .

وعنه : عبد الله بن المبارك وعبد الوارث التنوري وطائفة .

وثّقه أحمد وأبو حاتم ، توفي ١٤٤ )(٢) .

وفي حاشية الكاشف : ( قال أبو معمر بن عبد الوارث : ما رأيت أحداً أسرع جواباً مِن ابن شبرمة ، ما كان الرجل يتمّ المسألة حتّى يرميه بالجواب قال الثوري : جالس ابن سيرين بواسط ، استشهد به البخاري في الصحيح ، ويروي عنه في الأدب ) .

وقال اليافعي في وفيات سنة ١٤٤ :

( وفيها توفّي فقيه الكوفة : أبو شبرمة عبد الله بن شبرمة الضبي القاضي ، روى عن أنس والتابعين ، وكان عفيفاً عارفاً عاقلاً ، يشبه النسّاك ، شاعراً

_______________________

(١) تهذيب الأسماء واللغات ١ : ٢٧١ / ٣٠٧ .

(٢) الكاشف عن أسماء رجال الكتب الستّة ٢ : ٩١ / ٢٧٩٧ .

٣٣٦

جواداً )(١) .

وقال ابن حجر :

( عبد الله بن شُبْرُمة ـ بضمّ المعجمة وسكون الموحّدة وضمّ الراء ـ ابن الطفيل بن حسان الضبي ، أبو شبرمة الكوفي القاضي ، ثقة ، فقيه ، مِن الخامسة ، مات سنة أربع وأربعين )(٢) .

هذا ، ولا يتوهّم أنّ الدميري يخدش في صحّة الخبر ، بل إنّ محاولته للجواب بزعمه عن أسئلة الإمام مثبتة له ولبلادة أبي حنيفة ، فيقول الدميري :

( والجواب في أنّ الزناء لا يقبل فيه الأربعة طلباً للستر ، وفي الحائض لا تقضي الصّلاة دفعاً للمشقّة ؛ لأنّ الصّلاة تتكرّر في اليوم واللّيلة خمس مرّات ، بخلاف الصوم فإنّه في السنة مرّة ، والله أعلم )(٣) .

فمقصود الدميري ـ كالرازي في رسالة ( مناقب الشافعي ) ـ ليس إلاّ إظهار عجز أبي حنيفة عن الجواب ، ويشهد بذلك ما حكاه عن ابن خلكان تأييداً لرواية ابن شبرمة قبلها في هذا الباب حيث قال :

( وذكر ابن خلكان في ترجمة جعفر الصادق أنّه سأل أبا حنيفة : ما تقول في مُحْرِم كسر رباعية ظبي ؟

فقال : يا ابن بنت رسول الله ! لا أعلم ما فيه .

فقال : إنّ الظبي لا يكون رباعياً وهي ثني أبداً .

كذا حكاه كشاجم في كتاب المصائد والمطارد .

_______________________

(١) مرآة الجنان ١ : ٢٣٣ ، وفيات السنة ١٤٤ .

(٢) تقريب التهذيب ١ : ٤٢٢ / ٣٧٢ .

(٣) حياة الحيوان ٢ : ٤ .

٣٣٧

وقال الجوهري في مادة سنن في قول الشاعر في وصف الإبل :

فجاءت كسن الظبي لم أر مثلها

سناء فتيل أو حلوبة جائع

أي هي ثنيات ؛ لأنّ الثني هو الذي يلقي ثنية ، والظبي لا رباعيّة له فهو ثني أبداً .

وقال ابن شبرمة... )(١) .

وهذا أصل ألفاظ ابن خلكان :

( وحكى كشاجم في كتاب المصائد والمطارد : أنّ جعفر المذكور سأل أبا حنيفة فقال : ما تقول في مُحْرِم كسر رباعية ظبي؟

فقال : يا ابن رسول الله ! ما أعلم فيه .

فقال له : أنت تتداهى ولا تعلم أنّ الظبي لا يكون له رباعية ، وهي ثني أبداً )(٢) .

ورواه اليافعي أيضاً :

( وذكر بعض المؤرخين أنّه ـ يعني جعفر الصادقعليه‌السلام ـ سأل أبا حنيفة فقال : ما تقول في مُحْرِم كسر رباعيّة ظبي ؟

فقال: يا ابن رسول الله ! ما أعلم ما فيه ؟

فقال له : أنت تتداهى ولا تعلم أنّ الظبي لا يكون له رباعية وهو ثني أبداً ؛ يعني مِن الدهاء : قوّة الفهم وجَوْدة النظر )(٣) .

_______________________

(١) حياة الحيوان ٢ : ٤ .

(٢) وفيات الأعيان ١ : ٣٢٨ / ١٣١ .

(٣) مرآة الجنان ١ : ٣٢٨ .

٣٣٨

تحريم أهل البيت العمل بالقياس

وكما عُلِم مِن الكلمات السابقة إنكار الإمام الصادقعليه‌السلام وتحريمه القياس في الشريعة ، فقد صرّح غير واحدٍ مِنهم باشتهار هذا المعنى عن أهل البيت كلّهمعليهم‌السلام ، وممّن نصّ على ذلك : العبري الفرغاني بشرح قول القاضي البيضاوي : ( نَقَلَ الإماميّة إنكاره ـ أي القياس ـ عن العترة قلنا : معارض بنقل الزيديّة ) فإنّه قال :

( والحقّ أنّه قد اشتهر مِن أهل البيت كالباقر والصادق وغيرهما مِن الأئمّة ـ رضوان الله عليهم ـ إنكار القياس ، كما اشتهر مِن أبي حنيفة والشافعي ومالك القول بوجوب العمل به )(١) .

وأمّا عمل الحنفيّة بالقياس وبُعدهم عن الحديث ، فمشهور جدّاً ولا ينكره أحد أبداً :

قال الفخر الرازي في ( رسالته ) في ترجيح مذهب الشافعي : ( وأمّا أصحاب الرأي ، فإنّ أمرهم في باب الخبر والقياس عجيب ، فتارة يرجّحون القياس على الخبر وتارة بالعكس ؛ أمّا الأوّل ، فهو أنّ مذهبنا أنّ التصرية سبب مُثْبِت للردّ وعندهم ليس كذلك ، ودليلنا : ما أُخرج في الصحيحين عن أبي هريرة أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا تُصرّوا الإبل والغنم ، فمَن ابتاعها فهو يُخَيّر النظرين بعد أن يحلبها ثلاثاً ، إن رضيَها أمسكها وإن سخطها ردّها ، وردّ معها صاعاً مِن تمر .

واعلم : أنّ الخصوم لمّا لم يجدوا لهذا الخبر تأويلاً البتّة ، بسبب أنّه

_______________________

(١) شرح المِنهاج في الأصول للعبري الفرغاني ـ مخطوط ، وانظر شرح شمس الدين الأصفهاني ٢ : ٦٥٤ ـ ٦٥٥ .

٣٣٩

مفسّر في محلّ الخلاف ، اضطرّوا إلى أن يطعنوا في أبي هريرة وقالوا : إنّه كان متساهلاً في الرواية وما كان فقيهاً ، والقياس على خلاف هذا الخبر ؛ لأنّه يقتضي تقدير خيار العيب بالثلث ، ويقتضي تقويم اللّبن بصاع مِن تمر مِن غير زيادة ولا نقصان ، ويقتضي إثبات عِوَض في مقابلة لبن حادث بعد العقد ، وهذه الأحكام مخالفة للأصول ، فوجب ردّ ذلك الخبر لأجل القياس .

هذا كلامهم في ترجيح القياس على الخبر ، أمّا كلامهم في ترجيح الخبر على القياس الجليّ فهو مِن وجوه :

أحدها : إنّ انتقاض الطهارة بسبب القهقهة في الصلاة أمر يأباه القياس الظاهر ، ثمّ إنّهم أثبتوا ذلك بسبب خبر ضعيف ما قبله أحد مِن علماء الحديث .

وثانيها : وهو أعجب مِن الأوّل ، إنّهم يقدّمون عمل الصحابة على القياس الجليّ ، بل على الدليل المستفاد مِن نصّ القرآن .

أمّا الأوّل : فلأنّه إذا وقعت عصفورة في بئر وتفسّخت قالوا ينزح مِنها عشرة أدل ويصير الباقي طاهراً ، وصريح العقل يشهد بدفع هذا الحكم ؛ لأنّ ماء البئر شيء متشابه الأجزاء ، فكيف يعقل أن يكون نزح بعض ذلك الماء سبباً لصيرورة الباقي طاهراً ، فعند هذا قالوا إنّما حكَمْنا بذلك لأنّه نُقل هذا المذهب عن بعض الصحابة .

وأمّا الثاني : فإنّ البائنة في مرض الموت ، صريح كتاب الله يقتضي أنّها ليست زوجة له ؛ لأنّها لو كانت زوجة لكان إذا ماتت يجب أن يرث عنها لقوله تعالى :( وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ ) الآية ، وبالإجماع الزوج لا يرث مِنها ، فثبت أنّها ليست زوجة له ، وإذا ثبت هذا وجب أن لا ترث هي مِنه ؛ لأنّ الربع

٣٤٠