استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء ٣

استخراج المرام من استقصاء الإفحام0%

استخراج المرام من استقصاء الإفحام مؤلف:
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 478

استخراج المرام من استقصاء الإفحام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد علي الحسيني الميلاني
تصنيف: الصفحات: 478
المشاهدات: 243676
تحميل: 6837


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 478 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 243676 / تحميل: 6837
الحجم الحجم الحجم
استخراج المرام من استقصاء الإفحام

استخراج المرام من استقصاء الإفحام الجزء 3

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

 ( ومِنها : الاستحسان ، وحقيقته أن يرى رجل الشارع يضرب لكلّ حكمة مظنّة مناسبة ، ويراه يعقد التشريع ، فيختلس بعض ما ذكرنا مِن أسرار التشريع ، فيُشرّع للنّاس حسبما عقل مِن المصلحة.

كما أنّ اليهود رأوا أنّ الشارع إنّما أمر بالحدود زجراً عن المعاصي للإصلاح ، ورأوا أنّ الرجم يورث اختلافاً وتقاتلاً بحيث يكون في ذلك أشدّ الفساد ، واستحسنوا تحميم الوجه والجِلْد ، فبيّن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه تحريف ونبذ لحكم الله المنصوص في التوراة بآرائهم )(١) .

وقال الغزالي في ( المنخول ) في كتاب القياس :

( الباب السادس في الاستحسان : قال الشافعيّ : مَن استحسن فقد شرّع .

ولا بدّ أوّلاً مِن بيان حقيقة الاستحسان ، وقد قال قائلون مِن أصحاب أبي حنيفة : الاستحسان مذهب لا دليل عليه ، وهذا كفرٌ مِن قائله وممّن يجوّز التمسّك به ، فلا حاجة فيه إلى دليل .

وقال قائلون : هو معنى خفي مقيس لا عبارة عنه ، وهذا أيضاً هوَس ، فإنّ معاني الشرع إذا لاحت في العقول انطلقت الألسن بالتعبير عنها ، فما لا عبارة عنه لا يُعقل .

والصحيح في ضبط الاستحسان ما ذكره الكرخي ، وقد قسّمه أربعة أقسام :

مِنها : اتّباع الحديث وترك القياس ، كما فعلوا في مسألة القهقهة ونبيذ التمر .

ومِنها : اتّباع قول الصحابي على خلاف القياس ، كما قالوا في تقدير

_______________________

(١) حجّة الله البالغة ١ : ١٢١ .

٣٦١

أُجرة ردّ العبد الآبق بأربعين درهماً ، اتّباعاً لابن عبّاس ، وتقدير ما يحطّ عن قيمة العبد إذا ساوى ديّة الحرّ أو زاد بعشرة، اتّباعاً لابن مسعود .

ومِنها : اتّباع عادات النّاس وما يطّرد به عُرْفهم ، كمصيرهم إلى أنّ المعاطاة صحيحة ؛ لأنّ الأعصار لا تنفك عنه ، ويغلب على الظنّ جريانه في عصر الرسول .

ومِنها : اتّباع معنى خفي هو أخصّ بالمقصود وأمسّ له مِن المعنى الجلي .

فنقول : أمّا اتّباع الخبر تقديماً له على القياس فواجب عندنا ، وأبو حنيفة لم يُفْتِ به في مسألة المصراة والعرايا وخيار المتبايعين ، فلم يستحسنوا اتّباع هذه الأحاديث مع اتّفاق أئمّة الحديث على صحّتها وضعف حديث القهقهة .

وأمّا قول الصحابي إذا خالف القياس ، فهو متّبع عندنا ، وخالف أبو حنيفة في مسألة تغليظ الديّة مع ما نقل فيه مِن الصحابة.

وتقدير ابن عبّاس أُجرة الآبق بأربعين يحتمل أن يكون بحكم مصالحة أو مصلحة اقتضاها نزاع في تلك الحال .

وقول ابن مسعود في قيمة العبد يلتفت إلى قياس الديّة ومراعاتها ، وتقديره في الحطّ ملاحظة لنصاب السرقة فإنّه عظيم في الشرع يظهر التفاوت به فلذلك لم نتّبعه .

وأمّا دعواه بأنّ عمل النّاس متّبع في المعطاة ؛ لأنّ الأعصار فيه تتقارب ، تحكّم ؛ فإنّا نعلم أنّ العقود الفاسدة والربويّات في عصرنا أكثر مِنه في ابتداء الإسلام وصفوته ، وعوام الناس لا مبالاة بإجماعهم حتّى يُتمسّك بعملهم .

وأمّا اتّباع المعنى الخفيّ إذا كان أخصّ ، فهو متّبع ؛ لأنّ الجليّ الذي لا يمسّ المقصود باطل معه إذ هو مقدّم عليه ، ولكن أبا حنيفة لم يُفْتِ بموجبه

٣٦٢

حتّى أتى بالعجائب والآيات وسمّاه استحساناً فقال : يجب الحدّ على مَن شهد عليه أربعة بالزناء في أربع زوايا كلّ واحد يشهد عل زاوية .

وقال : لعلّه كان ينزحف في زنية واحدة في الزوايا ، وأيّ استحسان في سفك دم مسلم بمثل هذا الخيال ، مع أنّه لو خصّص كلّ واحد شهادته بزمان وتقاربت الأزمِنة واحتمل استدامة الزنا في مثلها لا حدّ ، وذلك أغلب في العُرف مِن شغل زوايا البيت بزناء واحد ، فهذا وأمثاله مِن الاستحسانات باطلة ، وما استند إلى مأخذ ممّا ذكرناه صحيح فهو مقول به )(١) .

_______________________

(١) المنخول للغزالي : ٣٧٤ ـ ٣٧٧ .

٣٦٣

٤ تكفير بعضهم بعضاً

* قد عرفت آنفاً أنّ أكابر الأساطين مِن أهل السنّة يكفّرون أبا حنيفة النعمان ، فقد نقل ذلك الحافظ الخطيب عن الحميدي ـ شيخ البخاري ـ وعن سعيد بن المسيّب وغيرهما...

* وأنّ الشيخ عبد القادر الجيلاني قال بضلال الحنفيّة ، وأنّهم مِن الفِرَق الهالكة في النّار...

* وأنّ الغزالي قال في ( المنخول ) بكفر أبي حنيفة وضلالته...

* وأنّ القاضي العضد والكرماني صرّحا بأنّ القول بالاستحسان مِن الكبائر أو مِن أسباب الكفر ، وأنّ الشافعي قال : مَن استحسن فقد شرّع...

* وأنّ الثوري قال : بأنّ أبا حنيفة قد نقض الإسلام عروةً عروة ، وأنّه لم يولد في الإسلام أشأم مِنه...

* وأنّ قصّة صلاة القفال أيضاً تشتمل على تكفير أبي حنيفة وأتباعه ، فكان حكاية ذلك سبباً لتكفير عليم الله بن عبد الرزاق المكّي الحنفي في كتابه ( السيف المسلول ) الغزاليَّ وإمام الحرمين ، إذ قال في جواب اليافعي : ( وأمّا رابعاً : فلأنّكم حكمتم بمقتضى قولكم هذه الصلاة لا يجوّزها ذو دين : أنّ الإمام لا دين له ، وأنّ ما ذهب إليه باطل وفي هذا إنكار الإجماع وهو كفر ) .

* وقال القاري في كتابه في جواب رسالة إمام الحرمين : ( ثمّ اعلم أنّي كنت أظنّ أنّ الرسالة المصنوعة إنّما تكون على إمام الحرمين موضوعة ، لكنْ

٣٦٤

رأيت في بعض الكتب أنّه ذكرها اليافعي في كتابه ( مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقلّب أحوال الإنسان ) إلاّ أنّ ما حسبوه شراباً كسرابٍ بِقيعةٍ يحسبه الضمآن ماءً ، أو كدواء لا يزيد العليل إلاّ داء ، وقد قال الله عزّ وجل( وَبَدَا لَهُم مِن اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ) وقال عزّ وجلّ :( لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) وقال سبحانه :( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) .

* وكلام القاري في جواب صلاة القفال صريح في تكفير القفال...

* وقال الفخر الرازي في رسالته في ترجيح مذهب الشافعي في ذكر فتاوى الحنفيّة : ( مسألة : يجوز عندهم الخروج مِن الصلاة بالضراط وسائر الأحداث ، والدليل على بطلانه ما ذكرنا مِن أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يفعل ذلك ، فوجب أنْ يجب علينا أنْ لا نفعله ، لقوله تعالى :( فاتَّبِعُوه ) . ثمّ نقول : إنّ أحداً مِن فسّاق المسلمين لا يفعل ذلك ، ولو فعل أحد ذلك لقالوا إنّه ملحد قد استخفّ بالدين والشرع ، بل عندهم أنّ ترك الصلاة أهوَن بكثير مِن الصلاة المشتملة على هذه الفضائح ) .

* وابن قتيبة عدّ أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمّد بن الحسن في المُرجئة(١) ، والمرجئة ـ كما في الأحاديث الكثيرة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ زنادقة ملحدون .

* وقد صرّح الذهبي بكون حمّادٍ مِن المرجئة(٢) .

* وقال يحيى بن معين في محمّد بن الحسن : جهميّ كذّاب ومبطل

_______________________

(١) كتاب المعارف : ٦٢٥ .

(٢) ميزان الاعتدال ٢ : ٣٦٤ ـ ٣٦٥ / ٢٢٥٦ .

٣٦٥

مرتاب(١) .

* وقال أبو المؤيّد الخوارزمي بضلال سفيان الثوري ومحمّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وشريك والحسن بن صالح ، ونسبهم إلى مذهب الخوارج(٢) .

* وذُكِر في كتاب ( الدرّ المختار ) أشعارٌ لابن المبارك في مدح أبي حنيفة مِنها قوله :

( فلعنة ربِّنا أعداد رملٍ

على مَن ردّ قول أبي حنيفة ) (٣)

وهذه اللعنة تتوجّه إلى الشافعي وأتباعه... بل إنّها تشمل محمّد بن الحسن والقاضي أبا يوسف أيضاً ، لأنّهما ردّا على كثيرٍ مِن أقوال أبي حنيفة .

* وكفّر الفضلي ـ وهو مِن الأئمّة المشاهير ـ الشافعيّة ، على ما نقل عنه شمس الدين القهستاني في كتاب ( جامع الرموز ) فقد جاء فيه : ( [ولا] للمسلم نكاح امرأة [كافرة غير كتابية] كالوثنيّة والمجوسيّة والمرتدّة ، كما أشار إليه ، فلا يجوز به الوطي كما بملك اليمين .

وفيه إشارة إلى أنّه يصحّ نكاح صابئية ، قوم مِن النصارى يعظّمون الكواكب كتعظيم المسلمين الكعبة ، وإلى أنّه لا يصحّ نكاح كتابيّة ، قوم يعبدونها كعبادة الكافرين الأوثان ، والأوّل قوله والثاني قولهما ، فالخلاف بينهما لفظيّ كما ترى ، وإلى أنّه لا يصحّ نكاح المعتزلة ؛ لأنّها كافرة عندنا ، وإلى أنّه لا يصحّ نكاح الشافعيّة ، لأنّها صارت كافرة بالاستثناء ، على ما رُويَ عن الفضلي ، ومِنهم مَن قال نتزوّج بناتهم ، الكلّ في

_______________________

(١) اُنظر الضعفاء الكبير للعقيلي ٤ : ٥٢ / ١٦٠٦ ، الكامل في ضعفاء الرجال ٦ : ٢١٨٣ .

(٢) جامع مسانيد أبي حنيفة .

(٣) الدرّ المختار ١ : ٦٨ .

٣٦٦

المحيط ولعلّ ترك التعرّض بمثله أَوْلى ، فإنّهم متأوّلون في ذلك كما بُيّن في محلّه ) .

* وقال أبو شكر السَلَمي الحنفي بكفر الأشاعرة ، وأخرجهم مِن أهل السنّة والجماعة عندما قال في ( التمهيد في بيان التوحيد ) : ( قال أهل السنّة والجماعة : إنّ الله تعالى لم يزل خالقاً موصوفاً بهذه الصفة وسائر الصفات مِن صفات الفعل ، وقالت الأشعريّة والكراميّة : ما لم يخلق الخَلْق لم يكن خالقاً ، وهذا كفر ) .

* ونقل شهاب الدين الكازروني في ( رسالة علم الباري ) عن الغزالي أنّه قال : ( الكفر تكذيب الرسول في شيء ممّا جاء به ضرورةً ، فالأشعري يكفّر الحنبلي بإثباته الفوق واليد والاستواء ؛ لأنّه تكذيب( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) والحنبلي الأشعريَّ بنفيها ؛ لأنّه تكذيب صريح للنصوص ) .

* وتكلّم ابن حجر المكّي في ( شرح الشمائل ) في ابن تيميّة وابن القيّم ، وجعلهما مِن الظالمين والجاحدين ، وصرّح بأنّهما يُثبتان الجهة والجسميّة للباري تعالى ، ووصفهما بسوء الاعتقاد وقول الزور والكذب ، وبالضلال والبهتان ثمّ قال في حقّهما : ( قبّحهما الله وقبّح مَن قال بقولهم ) وأيضاً ، فقد نصَّ على أنّ اعتقادهما كفر عند الأكثرين .

* وقول ابن تيميّه بقِدَم العرش ـ وهو كفر محض ـ مذكور في ( شرح العقائد ) للدواني .

* وفي ( تاريخ اليافعي ) أنّه قد نودي في دمشق وغيره أنّ مَن كان على عقيدة ابن تيميّة فدمه وماله حلال(١) .

_______________________

(١) مرآة الجنان ٤ : ١٨٠ .

٣٦٧

* وقال ابن حجر العسقلاني في ( الدرر الكامنة ) إنّهم قالوا في ابن تيميّة : زنديق ، ومنافق(١) .

* وقد تناول ابن حجر المكّي ابنَ تيميّة بالتضليل في سائر مؤلَّفاته ، ففي ( الجوهر المنظَّم في زيارة القبر المعظّم ) :

( فإن قلت : كيف تحكي الإجماع السابق على مشروعيّة الزيارة والسفر إليها وطلبهما ، وابن تيميّة مِن متأخّري الحنابلة مُنكِر لمشروعيّة ذلك كلّه ، كما رواه السبكي في حطّه ، وأطال ـ أعني ابن تيميّة ـ في الاستدلال لذلك بما تمجّه الأسماع وتنفر عنه الطباع ، بل زعم حرمة السفر لها إجماعاً ، وأنّه لا تُقصر فيه الصلاة ، وأنّ جميع الأحاديث الواردة فيها موضوعة ، وتبعه بعض مَن تأخّر عنه مِن أهل مذهبه .

قلت : مَن ابن تيميّة حتّى يُنظر إليه أو يعوّل في شيء مِن أُمور الدين عليه ؟ وهل هو إلاّ كما قال جماعة مِن الأئمّة ـ الذين تعقّبوا كلماته الفاسدة وحججه الكاسدة ، حتّى أظهروا عوار سقطاته وقبائح أوهامه وغلطاته كالعزّ ابن جماعة ـ : عبدٌ أضلّه الله وأغواه وألبسه رداء الخزي وأرداه ، وبوّأه مِن قوّة الافتراء والكذب ما أعقبه الهوان وأوجب له الحرمان ؟!

ولقد تصدّى شيخ الإسلام وعالم الأنام المجمع على جلالته واجتهاده وصلاحه وإمامته التقي السبكي ـ قدّس الله روحه ونورّ ضريحه ـ للردّ عليه في تصنيفٍ مستقل ، أفاد فيه وأجاد فأصاب وأوضح بباهر حججه طريق الثواب ، فشكر الله مسعاه وأفاض عليه شآبيب رحمته ورضاه .

ومِن عجائب الوجود ما تجاسر عليه بعض الحنابلة ، فغبر في وجوه

_______________________

(١) الدرر الكامنة ١ : ١٥٥ .

٣٦٨

مخدّراته الحِسان التي لم يطمثهنَّ إنس قبله ولا جانّ ، وأتى بما دلّ على جهله وأظهر به عوار غباوته وعدم فضله ، فليته إذا جهل استحيى مِن ربّه وعساه إذا فرّط وأفرط رجع إلى لبّه ، لكن إذا غلبت الشقاوة واستحكمت الغباوة فعياذاً بك اللّهمّ مِن ذلك ، وضرعة إليك في أن تديم لنا سلوك أعظم المسالك .

هذا ، وما وقع مِن ابن تيميّة ممّا ذكر ـ وإن كان عثرة لا تقال أبداً ، ومصيبة يستمرّ عليه شؤمها دواماً وسرمداً ـ ليس بعجيب ، فإنّه سوّلت له نفسه وهواه وشيطانه أنّه ضرب مع المجتهدين بسهم صائب ، وما درى المحروم أنّه أتى بأقبح المعائب، إذ خالف إجماعهم في مسائل كثيرة ، وتدارك على أئمّتهم ـ سيّما الخلفاء الراشدين ـ باعتراضات سخيفة شهيرة ، وأتى مِن نحو هذه الخرافات بما يمجّه الأسماع وتنفر عنه الطباع .

حتّى تجاوز إلى الجناب الأقدس المنزّه عن كلّ نقص ، والمستحقّ لكلّ كمالٍ أنْفَس ، فنسب إليه العظائم والكبائر ، وخرق سياج عظمته وكبرياء جلالته بما أظهره للعامّة على المنابر ، مِن دعوى الجهة والتجسيم وتضليل مَن لم يعتقد ذلك مِن المتقدّمين والمتأخرين ، حتّى قام عليه علماء عصره ، وألزموا السلطان بقتله أو حبسه وقهره ، فحبسه إلى أن مات وخمدت تلك البدع ، فزالت تلك الظلمات ، ثمّ انتصر له أتباع لم يرفع الله لهم رأساً ، ولم يظهر لهم جاهاً ولا بأساً ، بل( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤوا بِغَضَبٍ مِن اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ) .

* وكفَّر بعض فقهاء اليمن فقهاء زبيد ، كما ذكر اليافعي في ( مرآة الجنان ) :

( وفقهاء جبال اليمن مخالفون لفقهاء تهامتها ، كما ذكر ابن سمرة أنّه وقع

٣٦٩

في زمان صاحب البيان تكفير مِن بعض فقهاء الجبال لفقهاء زبيد ، هذا كلّه لانطوائهم على الجمود ، وعدولهم عن الطريق المحمود )(١) .

* وقال الحنفيّة بكفر البخاري ، كما في كتاب ( فصول الإحكام في أصول الأحكام ) :

( ذكر أبو سهل بن عبد الله ، وهو أبو سهل الكبير ، عن كثير مِن السلف رحمهم الله أنّ مَن قال القرآن مخلوق فهو كافر ، ومَن قال الإيمان مخلوق فهو كافر وحكي أنّه وقعت هذه المسألة بفرغانة ، فأُتي بمحضر مِنها إلى أئمّة بخارا فكتب فيه الشيخ الإمام أبو بكر بن حامد والشيخ الإمام أبو حفص الزاهد والشيخ الإمام أبو بكر الإسماعيلي رحمهم الله : أنّ الإيمان غير مخلوق، ومَن قال بخلقه فهو كافر ، وقد خرج كثير مِن الناس مِن بخارا مِنهم محمّد بن إسماعيل صاحب الجامع بسبب قولهم الإيمان مخلوق ) .

* ومضر وكهمس وأحمد الهجيمي ، كفّرهم القوم ، لِما ذهبوا إليه واعتقدوه مِن العقائد الفاسدة.

* وكذلك مقاتل بن سليمان .

* ونعيم بن حمّاد .

وهو مِن كبار علماء القوم ومِن مشايخ البخاري وأبي داود والترمذي وابن ماجة ، مِن مشاهير المُجسِّمة ، وقد حكى الحافظ ابن الجوزي عنه القول بإثبات الوجه والأعضاء للباري عزّ وجلّ(٢) .

* وابن مِندة أيضاً مِن القائلين بالجهة ، بل لقد ردّ اليافعي شهادة الذهبي

_______________________

(١) مرآة الجنان ٣ : ٢٤٩ ـ ٢٥٠ .

(٢) دفع شُبَه التشبيه : ١٥٢ تحقيق حسن السقّاف .

٣٧٠

ببراءته مِن التجسيم وقال بأنّها شهادة على أمرٍ باطل .

* وصرّح اليافعي بأنّ مذهب المتأخّرين مِن الحنابلة هو القول بالجهة وبالصوت والحروف في كلامه تعالى ، فقد ذكر اليافعي بعد ما أورده عن ابن سمرة أنّ يحيى بن أبي الخير صاحب كتاب البيان ـ وهو شافعيّ المذهب ـ كان ينتصر للحنابلة:

( أمّا ما ذكر مِن كون عقيدته حنبليّة ، فصحيح بالنسبة إلى الحنابلة المتأخرين ، حاشى الإمام أحمد والمتقدّمين مِنهم ، وقد أوضحت ذلك وأشبعت الكلام فيه في كتاب المرهم ، وإليه أشرت بقولي :

وفي حشوٍ مات كسوفان أظلما

هما جهة وأحرف حاشا ابن حنبل

أعني : أنّ ذلك مذهب الحشويّة بعد أن استقرّت البدور لأئمّة كلّ مذهب ، وذكرت أنّ بدور المذاهب الثلاثة أنارت ، وأنّه حصل في بدور مذهب كسوفان مظلمان ، وهما ما ذكرت مِن القول بالجهة والحرف والصوت في كلام الله تعالى .

أمّا ما ذكرت مِن كون الإمام أحمد والمتقدّمين مِن أصحابه براء ممّا ادّعاه المتأخّرون مِنهم ، فممّن نصّ على ذلك بعض الحنابلة وهو الإمام أبو الفرج ابن الجوزي ، حتّى ذكر أنّهم صاروا سُبَّةً على المذهب باعتقادهم الذي يتوهّم غيرهم أنّه مذهب أحمد ، وليس العجب مِن حنابلة الفروع وإنّما العجب مِن شافعيّة الفروع كصاحب البيان المذكور ، ومَن تابعه مِن أهل الجبال )(١) .

أقول : القول بجِسميّة الباري وإثبات الجهة والمكان له ، وإنكار صفاته

_______________________

(١) مرآة الجنان وعبرة اليقظان ٣ : ٢٤٧ .

٣٧١

الأزلية ، موجب للكفر بالإجماع كما في ( التحفة الاثنا عشرية )(١) .

وكما قال الحنابلة بقِدَم الحرف والصوت ، فقد قالوا بقِدَم جِلْد كلام الله أيضاً كما في ( المواقف ) :

( ثمّ قال الحنابلة كلامه تعالى حرف وصوت يقومان بذاته وإنّه قديم ، وقد بالغوا فيه حتّى قال بعضهم جهلاً : الجِلْد والغلاف قديمان )(٢) .

* وابن حبّان ، وهو مِن كبار أئمّة القوم في الفقه والحديث والجرح والتعديل ، قالوا بكفره ، لبعض عقائده(٣) .

* وكذا الحكيم الترمذي ، قال المناوي في ( فيض القدير ) :

( قال السلمي : نفوه مِن ترمذ وشهدوا عليه بالكفر ، بسبب تفضيله الولاية على النبوّة ، وإنّما مراده ولاية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )(٤) .

وفي ( مفتاح كنز الدراية ) :

( قال السلمي : نفوه مِن ترمذ بسبب تأليفه كتاب خَتْم الولاية وكتاب عِلَل الشريعة وقالوا : زعم أنّ للأولياء خاتماً وأنّه يفضّل الولاية على النبوّة ، واحتجّ بقولهعليه‌السلام : يغبطهم النبيّون والشهداء ، وقال : لو لم يكونوا أفضل مِنهم لم يغبطوهم... )(٥) .

وفي ( لسان الميزان ) :

( وممّا أُنكِر عليه أنّه كان يفضّل الولاية على النبوّة ، ويحتجّ بحديث :

_______________________

(١) التحفة الاثنا عشرية : ١٤١ ـ ١٤٢ .

(٢) شرح المواقف في علم الكلام ٣ : ١٢٨ .

(٣) ميزان الاعتدال ٦ : ٩٩ / ٧٣٥٢ ، لسان الميزان ٦ : ٩ / ٧٢٣٣ ترجمة ابن حبّان .

(٤) فيض القدير ـ شرح الجامع الصغير ١ : ١١٦ .

(٥) مفتاح كنز دراية المجموع ـ مخطوط .

٣٧٢

يغبطهم النبيّون ، قال : لو لم يكونوا أفضل لَما غبطوهم )(١) .

* وصاحب ( قوت القلوب ) كفّروه ونقلوا عنه قوله :

( ليس على المخلوقين أضرّ مِن الخالق ) ففي ( ميزان الاعتدال ) :

( محمّد بن عليّ بن عطيّة ، أبو طالب المكّي ، الزاهد الواعظ ، صاحب القوت حدّث عن عليّ بن أحمد المصيصي والمفيد ، وكان مجتهداً في العبادة ، وحدّث عنه عبد العزيز الأزجي وغيره .

قال الخطيب : ذكر في القوت أشياء مُنكَرة في الصفات ، وكان مِن أهل الجبل ونشأ بمكّة ، قال لي أبو طالب العلاّف : إنّ أبا طالب وعظ ببغداد وخلط في كلامه وحفظ عنه أنّه قال : ليس على المخلوقين أضرّ مِن الخالق ، فبدّعوه وهجروه ، فبطل الوعظ ، مات سنة ست وسبعين وثلاثمائة )(٢) .

* وفي القوم جماعة ـ كالسهيلي وابن قتيبة وغيرهما ـ يقولون بوجود السّفاح في نسب نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد قال عدّة مِن الأعلام ـ كالحافظ مغلطاي والقطب الحلبي ومحمد بن يوسف الشامي ـ بأنّ مَن يقول هذا فهو كافر وخارج مِن جماعة المسلمين .

* ومِنهم مَن يقول بكفر مجوّز المتعة ، كما في كتاب ( التمهيد في بيان التوحيد ) :

( وأمّا المتعة ، فكانت مباحة ثمّ نُسخت بآية النكاح ، واجتمعت الأُمّة على نسخها ، ومَن أباح يصير كافر ) .

* والشيخ عليّ القاري قال في ( شرح الشمائل ) بكفر مَن قرأ الشعر

_______________________

(١) لسان الميزان ٦ : ٣٩٣ / ٧٨٨٨ .

(٢) ميزان الاعتدال ٦ : ٢٦٦ ـ ٢٦٧ / ٧٩٨٢ .

٣٧٣

المتضمِّن أنّ هجرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت فراراً ، فقد ذكر بعد نقل قول سلمة بن الأكوع ( مررت على رسول الله منهزماً ) :

( فقال العلماء : قوله ( منهزماً ) حال مِن ابن الأكوع كما صّح الخبر بانهزامه ، ولم يرد أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انهزم، إذ لم يقل أحد مِن الصحابة أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انهزم في موطن مِن المواطن ، ومِن ثمّ أجمع المسلمون على أنّه لا يجوز عليه الانهزام .

فمَن زعم أنّه انهزم في موطن مِن مواطن الحرب ، أُدّب تأديباً عظيماً لائقاً بعُظْم جريمته ، إلاّ أن يقوله على جهة التنقيص ، فإنّه يكفر فيُقتل ، ما لم يتب عل الأصح عندنا ومطلقاً عند مالك وجماعة مِن أصحابنا ، وبالغ بعضهم فنقل فيه الإجماع ، بل لو أطلق ذلك قُتل عندهم ، على ما أشار إليه بعض محقّقيهم ، انتهى .

فما وقع لبعض سلاطين ما وراء النهر ـ وهو عبيد الله خان ـ في بيته المشهور المنسوب إلى الملاّ جامي ، حيث جعل هجرتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مِن مكّة إلى المدينة فراراً ، أقبح مِن ذلك كلّه ، فالحذر الحذر مِن التلفّظ ببيته على وجه الاستحسان ، فإنّه كفر صريح عند العلماء الأعيان العارفين بالمعاني والبيان ) .

وفي ( الشفاء ) عن القاضي أبي عبد الله بن مرابط المالكي :

( مَن قال إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هُزم ، يستتاب ، فإن تاب وإلاّ فيُقتل ؛ لأنّه تنقّص إذ لا يجوز ذلك عليه في خاصّته ، إذ هو على بصيرة مِن أمره ويقين مِن عصمته )(١) .

_______________________

(١) الشفا في بيان حقوق المصطفى ٢ : ٤٨٢ ـ ٤٨٣

٣٧٤

الخاتمة

* حديث الحوض

* ممّا ورد عن أئمّة أهل البيت في الصحابة

* مِن نوادر الأخبار في أمر الخلافة

حديث الحوض

حديث الحوض وضرورة الاعتقاد به

قال العلاّمة الحلّي رحمه الله :

(المطلب الخامس ، فيما رواه الجمهور في حقّ الصحابة .

روى الحميدي ، في الجمع بين الصحيحين ، في مسند سهل بن سعد ، في الحديث الثمِن والعشرين ، مِن المتّفق عليه ، قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :أنا فرطكم على الحوض ، مَن ورد شرب ومَن شرب لم يظمأ أبداً ، ولَيَرِدَنَّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ، ثمّ يُحال بيني وبينهم .

قال أبو حازم : فسمع النعمان بن أبي عياش ـ وأنا أُحدّثهم ـ هذا الحديث فقال : هكذا سمعت سهلاً يقول ؟ قال : فقلت : نعم. قال : أشهد على أبي سعيد الخدري سمعته يزيد :إنّهم مِن أُمّتي ، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقاً سحقاً لِمَن بدّل بعدي ) (١) .

قال :

( وروى الحميدي ، في الجمع بين الصحيحين ، مِن المتّفق عليه ، في الحديث الستّين ، مِن مسند عبد الله بن عبّاس قال : إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :ألا وإنّه سيجاء برجال مِن أُمّتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : يا ربّ أصحابي ، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد

_______________________

(١) نهج الحقّ وكشف الصدق : ٣١٤ .

٣٧٥

الصالح ( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ* إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ) فيقال لي : فإنّهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم ) .

وفي الجمع بين الصحيحين أيضاً ، في الحديث السابع والستّين بعد المأتين مِن المتّفق عليه ، في مسند أبي هريرة ، مِن عدّة طرق ، قال قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :بينا أنا قائم ، إذا زمرة ، حتّى إذا عرفتهم ، خرج رجل بيني وبينهم فقال : هلمّوا ، فقلت : إلى أين ؟ فقال : إلى النار والله قلت : ما شأنهم ؟ قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، فلا أراه يخلص مِنهم إلاّ مثل همل النعم ) .

وقال الشيخ الصدوق رحمه الله :

( اعتقادنا في الحوض :

إنّه حقّ ، وأنّ عرضه ما بين أيلة وصنعاء ، وهو للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ فيه مِن الأباريق عدد نجوم السماء ، وأنّ الساقي عليه أمير المؤمِنين عليّ بن أبي طالب ، يسقي مِنه أوليائه ويذود عنه أعدائه ، مَن شرب مِنه شربة لا يظمأ بعدها أبداً وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ليختلج قوم مِن أصحابي دوني وأنا على الحوض فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأُنادي يا رب أصحابي أصحابي ، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ) .

وفي تفسير الشيخ عليّ بن إبراهيم القمّي ، في قوله تعالى :( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ... ) :

( قال : نزلت هذه الآية في منصرَف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مِن حجّة الوداع ، وحجّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّة الوداع لتمام عشر حجج مِن مقدمه المدينة ، وكان مِن قوله بمِنى أن حَمَد الله وأثنى عليه ثمّ قال :

أيّها الناس اسمعوا قولي فاعقلوه عنّي ، فإنّي لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا .

ثمّ قال :هل تعلمون أيّ يوم أعظم حرمة ؟

قال الناس : هذا اليوم .

قال :فأيّ شهر ؟

قال الناس : شهرنا هذا .

قال :وأيّ بلد أعظم حرمة ؟

قالوا : بلدنا هذا .

٣٧٦

قال :فإنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربّكم فيسألكم عن أعمالكم ، ألا هل بلّغت أيّها النّاس ؟

قالوا : نعم .

قال :اللهمّ اشهد .

ثمّ قال :ألا وكلّ مأثرةٍ أو بِدَعٍ كانت في الجاهليّة ، أو دم أو مال فهو تحت قدميّ هاتين ، ليس أحد أكرم مِن أحد إلاّ بالتقوى، ألا هل بلّغت ؟

قالوا : نعم .

قال :اللهمّ اشهد .

ثمّ قال :ألا وكلّ ربا في الجاهليّة فهو موضوع ، وأوّل موضوع مِنه ربا للعبّاس بن عبد المطّلب ، ألا وكلّ دم كان في الجاهليّة فهو موضوع وأوّل دم موضوع مِنه دم ربيعة ، ألا هل بلّغت ؟

قالوا : نعم .

ثمّ قال :ألا وإنّ الشيطان قد يئس أن يُعبد بأرضكم هذه ولكنّه راض بما تحتقرون مِن أعمالكم ، ألا وإنّه إذا أُطيع فقد عُبد ، ألا أيّها النّاس ، إنّ المسلم أخو المسلم حقّاً ، ولا يحلّ لامرئ مسلم دم امرئ مسلم وماله إلاّ ما أعطى بطيبة نفس مِنه ، وإنّي أُمرت أن أُقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلاّ الله ، فإذا قالوها فقد عُصموا مِني دماءهم وأموالهم لا بحقّها وحسابهم على الله ، ألا هل بلّغت أيّها الناس ؟

قالوا : نعم .

قال :اللهمّ اشهد .

ثمّ قال :أيّها الناس ، احفضوا قولي لتنتفعوا به بعدي وافهموه تنتعشوا ، ألا لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف على الدنيا ، فإن أنتم فعلتم ذلك ولتفعلنّ ، لتجدوني في كثيبة بين جبرئيل وميكائيل أضرب وجوهكم بالسيف ، ثمّ التفتَ عن يمينه فسكت ساعة ثمّ قال : إن شاء الله أو عليّ بن أبي طالب .

ثمّ قال :ألا وإنّي قد تركت فيكم أمرين إن أخذتم بها لن تضلّوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فإنّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتّى يردا

عليّ الحوض ، ألا فمَن اعتصم بهما فقد نجا ، ومَن خالفهما فقد هلك ، ألا هل بلّغت ؟

قالوا : نعم .

٣٧٧

قال :اللهمّ اشهد .

ثمّ قال :ألا ، والله سيَرِد على الحوض مِنكم رجال فيُدَعَّوْن عنّي ، فأقول ربّ أصحابي ، فيقال : يا محمّد إنّهم قد أحدثوا بعدك وغيّروا سنّتك ، فأقول : سحقاً سحقاً... ) (١) .

الكلام في فقه الحديث

ويقع البحث في معنى الحديث ، والمراد مِن ( الارتداد ) ، ومَن هم ( المرتدّون ) ؟

إنّ للارتداد معنيين ، عامّ وخاصّ ، أمّا العام فهو المعنى اللّغوي ، أي الإعراض عن الشيء والرجوع عنه ، وهو يشمل جميع أنواع الارتداد ، سواء كان الارتداد عن الإسلام أو الارتداد عن الإيمان أو الارتداد عن الأخلاق الحسنة والعادات الجميلة وأمثال ذلك .

وأمّا الارتداد الخاص ، فهو الارتداد الشرعي ، أي : الرجوع عن الإسلام واختيار الكفر ، الموجب لجريان أحكام الكفّار في دار الدنيا على الشخص .

وحَمْلُ حديث الحوض ـ لكونه مقيّداً بقوله ( على أعقابهم ) ـ على الارتداد الشرعي غير جائز ، فهو محمول ـ لا محالة ـ على المعنى العام ، الشامل للارتداد الشّرعي وغيره ، فهو بهذا المعنى يجتمع مع الإسلام الظاهري

_______________________

(١) تفسير القمّي ١ : ١٧٢ .

٣٧٨

ولا منافاة بينهما .

ولمّا كان الواقع مِن أكثر الصّحابة هو الارتداد الشرعي ، والارتداد عمّا كانا عليه على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أمكن حمل حديث الحوض على كِلا المعنيَيْن .

فمتى أُطلق عنوان الارتداد على أهل السقيفة وشاركهم غيرهم مِن المرتدّين ممّن لم يصل إلى حدّ الكفر ، فالمراد الرجوع عن أصل الدين وواقعه ، الذي يجتمع مع الإسلام الظاهري ، ومتى أُطلق عليهم أو على مَن يماثلهم فقط ، احتمل إرادة المعنى الخاص واحتمل إرادة المعنى العام .

وإرادة الارتداد الشرعي مِن لفظ ( المرتدّين ) في ( حديث الحوض ) لا تستلزم كونه نصّاً في هذا المعنى ؛ لأنّ جعل هذا اللّفظ نصّاً في كفر أصحاب هذا الحديث أمر ، وتطبيقه عليهم أمر آخر ، ولا ملازمة بين الأمرين .

وبما ذكرنا ظهر : عدم جواز حمل الارتداد في حديث الحوض على خصوص الارتداد الشرعي ـ فلا يدخل في المراد مِنه مَن لم يصل إلى هذا الحدّ ـ وجواز حمله على المعنى العام الشامل للمعنى الخاص ، فيكون لفظ ( الارتداد ) في الحديث المذكور نظير لفظ ( الدابّة ) مثلاً ، فإنّه موضوع في الأصل لـ ( ما يدبّ على الأرض ) والمنقول في العرف إلى ( ما له ظهر يُركب مِن الحيوانات ) فكان مستعملاً في كِلا المعنيَيْن .

لكنْ لم يجز حمله في بعض الموارد إلاّ على المعنى العام وإن كان المعنى الخاص داخلاً فيه ، كما في قولهم : ( الدابّة ما يدبّ على الأرض ) فإنّه لا يصحّ أن يراد مِنه خصوص ( ما يركب مِن الحيوانات ) بل المراد هو المعنى العام ، وإنْ كان شاملاً للمعنى الخاص ويثبت له مِن الحكم ما ثبت للعام .

ولفظ ( الارتداد ) في حديث الحوض كذلك ، فإنّه وإن لم يجز حمله على المعنى الخاص ، وتجب إرادة المعنى العام مِنه ، لكنّ المعنى الخاص داخل في المعنى العام .

وإذا تبيّن معنى ( الارتداد ) المراد في حديث الحوض ، تبيّن مَن ( المرتدّون ) فيه...

فإنّ المراد مِنهم كلّ الذين رجعوا عن الإسلام وأنكروا الشهادتين أو إحداهما ، وكلّ الذين نقضوا ما عاهدوا عليه الله ورسوله وإن كانوا يشهدون الشهادتين بألسنتهم .

٣٧٩

نقد تمحّلات القوم في معنى الحديث .

* فلا وجه لأن يُحمل الحديث على خصوص الذين ارتدّوا عن الإسلام وأنكروا رسالة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما في كلام بعضهم كابن روزبهان ، حيث قال :

( ما روي مِن الجمع بين الصحيحين : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقال له : لا تدري ما أحدثا بعدك فاتّفق العلماء أنّ هذا في أهل الردّة الذين ارتدّوا بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومَن كانوا أصحابه في حياته ثمّ ارتدّوا بعده ويدلّ عليه الأحاديث والأخبار التي سنذكر بعد هذا .

ولا شكّ أنّ هذا لم يرِد في شأن جميع أصحاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإجماع ؛ لأنّ فيهم مَن لم يتغيّر ولم يبدّل بعده بلا خلاف ، فهو مِن أهل النجاة بلا نزاع .

فإنْ أُريد به مَن بدّل بعض التبديل ولم يبلغ الارتداد ، فليس في الأصحاب إلاّ مَن بدّل بعض التبديل ، فيرجع الوعيد إلى الأكثر ، فلزم أن لا يهتدي بمحمّدٍصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ نفر معدود في كلّ عصرٍ مِن الأعصار ، وهذا ينافي ما ذكره رسول الله مِن كثرة أُمّته يوم القيامة ، وإنّه يباهي بهم الأمم ، كما ورد في صحاح الأحاديث .

وإنْ أُريد به التبديل إلى حدّ الكفر فهو عين المدّعى .

فلزم مِن هذه المقدّمات أنّ هذا الحديث وأمثاله في هذا الباب واردة في شأن أهل الردّة كما قاله العلماء )(١) .

فكما أنّ أحداً مِن علماء الإماميّة لا يقول بأنّ المراد مِن حديث الحوض خصوص أهل السقيفة وأتباعهم ، كذلك لا يجوز حمل الحديث وتنزيله على خصوص المرتدّين عن الإسلام كمُسَيْلَمة وأصحابه ، بل الحديث عامّ ينطبق على هؤلاء وهؤلاء ، وأنّ جميعهم يستحقّون النار مخلَّدون في الجحيم والعذاب الأليم .

* هذا ، وربّما قال بعض أهل السنّة بأنّ في بعض ألفاظ الحديث أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ( فأقول : أُصيحابي أُصيحابي ، فيقال : إنّهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم ، فأقول كما قال العبد الصالح عيسى :( كُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ـ إلى قوله ـالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ) .

_______________________

(١) إبطال نهج الحقّ ط ضمن : دلائل الصدق ٣ : ٤٠٠ ـ ٤٠١ .

٣٨٠